الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة ختامية - فيها عبرة وذكرى لكل عبد منيب:
بأمثال هؤلاء المؤمنين المستضعفين الصابرين على البلاء والعذاب ظهر الحق وزهق الباطل وانتصر العدل على الجور والطغيان، واندحر الظلم والباطل والفساد، فاستنارت البصائر المظلمة، وأشرقت على عالم الإنسان شمس اليقين، وفي هذا السعادة كل السعادة، والطمأنينة كل الطمأنينة، فبعثت أرواح بني آدم بعثا جديدا، فحلت في أجسامها بعد أن سكنتها أرواح مردة شياطين الوثنية، وطهرت من خبث الطوية.
وبمثل هؤلاء الأخيار الطيبين أمكن رفع لواء التوحيد عاليا وخفاقا، وجد السير به سيرا حثيثا ومتواصلا أشواطا تتبعها أشواط، إلى أن أشرقت شمس المسيرة الإسلامية على أحياء الأحرار، ومحبي معاشرة الأحرار الأخيار فأنارتها بنور اليقين بعد ظلام دامس في أيام الشرك ولياليه، تلك التي امتدت عبر أزمان غابرة، قطعتها الإنسانية في جهالة جهلاء، فلما حان موعد الحياة الحقيقية الصالحة بالإنسان، قال الله الخالق المدبر الحكيم لرسوله محمد العظيم: ((إنا أرسلناك
بالحق بشيرا ونذيرا)) (1) وقال له: ((لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون)) (2) وقال له: ((ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون)) (3). وقال له: ((لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون)) (4).
فبمثل هذه النفوس الخيرة التي كونها وصانها الإسلام، والتي مر بنا شيء يسير من مواقفها الصلبة، في صف الحق واليقين، ضد الباطل والفساد، تحول اتجاه الإنسانية، وبمثلهم تطهرت الأرض من رجس الوثنية، وأقدار الباطل والضلال، لا بأولئك المتكبرين والمذبذبين الخوارين ضعاف الإيمان، أصحاب الوجوه المتلونة كـ - الحرباء - التي تعطي للشمس لونا وللظل لونا آخر غير لون الشمس.
أولئك المذبذبون الذين مرجت نفوسهم، وضعفت عقائدهم، فتراهم واقفين تارة إلى جانب الحق ساعة ظهوره وقوته، وتارة أخرى تنقلهم الريح - إذا هبت - إلى جانب الباطل، حين يقوى - مؤقتا - فيكونون لسانه وسمعه وبصره، إذا لزم الأمر ولاحت المصلحة الذاتية من بعيد، فطائفة من البشر مثل هؤلاء، لا تحسب لا في
(1) سورة البقرة، آية 119.
(2)
سورة يس، آية 6.
(3)
سورة القصص، آية 46.
(4)
سورة السجدة، آية 3.
العير ولا في النفير، فوجودهم وعدهم سواء، فلا يوثق بهم ولا يعتمد عليهم، أما أصل العقيدة وما تتطلبه من الوقوف إلى جانبها إذا حاربها خصومها، وما يقتضيه ذلك الموقف فهذا شيء آخر بحسب الظروف والملابسات، فهم مع الحق في زمن ظهوره، ومع الباطل في ساعة عتوه وجبروته، والفضل يرجع - دائما لأهل الصدق والوفاء، فهم أنصار الدين المتمسكون بعقيدتهم الإسلامية.
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كان لا يميل إلى الجبابرة والطغاة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون بل كان يحب الفقراء ويميل إليهم، فهم في الغالب يصبرون على ما ينالهم، ولا يخافون على أموالهم أن تضيع أو تنقص، ولا على مناصبهم أن تنزع منهم، بل كان يجالسهم ويعطف عليهم، وقد ضرب المثل الأعلى في هذا وكان يقول (اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين).
أما الطغاة والجبابرة الذين يأنسون من أنفسهم نوعا - ما - من القوة، فإنهم يترفعون - جهلا وغرورا - عن إخوانهم الضعفاء، فكم وكم من نصيحة قدمها، وكم من توجيه وجههم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقائد المسلمين فلم يعبأوا به، فأصابهم ما يصيب المعرضين عن نصائح الرسل الكرام، ففكر قليلا - أيها المسلم - في قوله عليه الصلاة والسلام، فيما أخرجه
البخاري عنه صلى الله عليه وسلم حين قال: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)، والضعفاء إذا دعوا الله لينصر المسلمين استجاب لهم - إذا أخلصوا - وإذا استرزقوه رزقهم، ولا كذلك المتكبرون والمتجبرون فإنهم لا يتواضعون لله، ولهم أعمال تخالف وصايا الشرائع السماوية، وهذا شأن الكثير منهم، وقليل فيهم الصلاح والتقوى.
والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وجهه ربه هذا التوجيه، وأدبه هذا التأديب البعيد عن تأديب الخلق ليكون مثالا صالحا للأخذ عنه والاقتداء به، وخسر حياته من لم يأخذ حظه من أخلاقه وسجاياه الحميدة ومع هذا التوجيه والتأديب فقد حاول جبابرة قريش أن يخرجوه من صف المساكين ساعة من الزمن ليخلو بهم وحدهم دون مشاركة الضعفاء لهم، غير أن الله عصمه وحفظه مما أرادوه منه، وأمره بمجالسة الفقراء، ومن أراد من الأغنياء أن يجالس الرسول مع الفقراء فله ما أراد بلا تخصيص ولا امتياز، إذ ليس في الإسلام تفضيل طبقة من الناس على طبقة أخرى إلا بتقوى الله كما قال:((إن أكرمكم عند الله أتقاكم))، فشريعة الإسلام شريعة العدالة والمساواة، وبهذا تمتاز عن غيرها من الشرائع.
جاء في سنن ابن ماجه عن خباب بن الأرت في سبب نزول قوله تعالى: ((ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين))، سورة الأنعام الآية 52 قال: جاء بعض كفار قريش (منهم الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة ابن حصن الفزاري، قبل أن يسلما) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدون الجلوس معه، فلما رأوه جالسا مع الفقراء الضعفاء، أمثال خباب بن الأرث وبلال، وعمار بن ياسر، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، الخ نفروا منهم، ولم يرغبوا في الجلوس إليه في مجلس واحد مع هؤلاء الضعفاء، واحتقروهم لضعفهم وفقرهم، فأتوه واختلوا به وقالوا له: نحن نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأاعبد، فإذا جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن في غنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك كتابا، قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية، فزل جبريل من قبل رب العالمين، على رسوله الأمين، بهذه الآية ((ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من جسابهم من شيء زما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين)) فكف وترك ما عزم على كتبه إجابة لرغبة عظماء قريش، يا لها من تربية ربانية لرسوله الحبيب إليه، فنسبه ربه إلى الظلم إن هو أبعد الفقراء عن مجالسته لحظة من الزمن ليتفرغ فيها
الى عظماء المشركين المتجبرين، الذين يأنفون من مجالسة الفقراء، ثم أشار إلى ما رغب فيه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن (قبل أن يسلما) فقال الله بعد تلك الآية:((وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين)) ثم قال تعالى في هذا السياق التربوي الإسلامي ((وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة))، سورة الأنعام الآيتان 53 - .54 وبعد هذه التربية الربانية لرسوله الكريم الحريص على نشر الإسلام قال خباب بن الأرت: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فلما أنزل الله عليه الآية 28 من سورة الكهف وهي قوله تعالى ((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا (أي لا تجالس الأشراف الكفرة) ثم قال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا - عيينة والأقرع - واتبع هواه وكان أمره فرطا)) أي هلاكا، قال خباب فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم.
هذه حياته صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل الهجرة، أما بعدها فقد تحول الحال وتبدلت العلاقات، وأسلم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وصار
الأشراف والفقراء والأغنياء طبقة واحدة، بفضل الروح الإسلامية التي بثت فيهم الحب لبعضهم والأخوة فيما بينهم، وسارت في نفوسهم تقضي على كل فوارق الجاهلية.
فقضية التمييز بين الناس بحسب مراتبهم أو طبقات الأشراف والأراذل قضية قديمة بقدم الإنسان، لكن الإسلام أبطل التعامل على حسب تلك الفوارق المجحفة، التي جعلها الإنسان لنفسه وليعلو بها على أخيه وأثبت - الإسلام - أن الفرق بينهما يكون بما لا إجحاف فيه، فهو يرى أن عمل الإنسان هو الذي يرفعه أو يضعه وإلى هذا يشير القرآن حيث قال:((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين)) وقال: ((وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)) إن الإسلام ينظر إلى النفوس والأعمال لا إلى الذوات والأنساب، فإن أشراف الناس هم أشراف النفوس والهمم، ولو كانوا فقراء، وأن أراذل الناس وأنزلهم قيمة هم أراذل النفوس والهمم، ولو كانوا أغنياء بنسبهم وأموالهم، ولم يخل زمان ولا مكان منهما، فالأشراف لا يظلمون الناس لشرفهم، فهم سراة القوم وأعيانهم، لهذا كانوا يختارون للحكم بين الناس وللمناصب العالية، فالأمة التي تختار من بين أفرادها النخبة الصالحة من أبنائها للسياسة والرئاسة تسعد وتنال ما تتمنى من الحياة العزيزة الكريمة وكذلك الحكومة المختارة من بين أفراد الأمة الذين جمعوا بين النفس الشريفة والخلق الكريم، فإنها تشرف
وطنها وتعلي رأسه بين الأوطان، والعكس بالعكس أما أراذل النفوس فإنهم يبعدون عن الحكم والسياسة والرئاسة، لما في نفوسهم من النقص والخسة والرذيلة، وهذا مجرب صحيح كما يقول أهل الطب، وقديما قال الشاعر العربي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وقال آخر:
إذا كان الغراب دليل قوم
…
يمر بهم على جيف الكلاب
وللمناصب والولايات في الشريعة الإسلامية موازين ومقاييس، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته العاملة بشرع الله أن ترعاها وتطبقها إذا أرادت الخير والمنفعة للدين والوطن، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:(من استعمل رجلا من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين). أخرجه الإمام أحمد والحاكم، وقال عليه الصلاة والسلام: م (من ولي أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) واختلف في معنى الصرف والعدل، فقيل الصرف التطوع، والعدل الفرض، وقيل الصرف التوبة، والعدل الفدية، وقيل غير هذا، وعلى كل حال فهو تهديد لمن لا يعدل في ولايته أو توليته لموظفي مصالح المسلمين، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام
(إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكر، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه). أخرجه أبو داود والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها، ولما أهمل هذا الاعتبار الإسلامي في اختيار الموظفين للمناصب ساء الحال، وتدهورت الأوضاع و ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسب أيدي الناس)).
نعود إلى موضوعنا السابق في حق أولئك الضعفاء من الصحابة، وهم: صهيب، وخباب، وبلال، وعمار، وسلمان وفضائلهم، كثيرة، وغيرهم من الصحابة أيضا، وقد عاتب الله نبيه فيهم في آيات من القرآن كقوله:((وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)) إلى قوله تعالى: ((والله أعلم بالظالمين)) الآيات من 51 إلى 58 من سورة الأنعام، وقد سبق بعضها.
وذكر ابن عبد البر في كتابه ((الاستيعاب) في ترجمة صهيب قال: إن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب، وبلال، وغيرهم من ضعفاء الصحابة - وكانوا قعودا - فقالوا ما أخذت السيوف من عنق عدو الله - كان هذا قبل أن يسلم - مأخذها، فقال لهم أبو بكر أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالذي قالوا، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ والذي نفسي بيده لئن كنت أغضبتهم؛ لقد أغضبت ربك). فرجع إليهم أبو بكر فقال لهم: يا إخوتي لعلي أغضبتكم؟ فقالوا له: يا أبا بكر يغفر الله لك.
وبالجملة ففضائل الصحابة كثيرة، فلهم فضل السبق إلى إجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبذلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الله، وفي محاربة الباطل الذي تجسم في الشرك والإلحاد، في حين أعرض عنه وعنها ذوو القوة والبطش من صناديد قريش وأعيانها، وهذه حقيقة قديمة، فالضعفاء هم أنصار الرسل والدين في كل زمان ومكان، والقرآن ذكر لنا ما قاله قوم نوح - مثلا - لنوح عليه السلام، فقد أرادوا أن يعيبوا عليه دعوته وينقصوا من قيمتها - في نظرهم - ويحتقروها بقياسهم قيمتها بقيمة أتباعها والمؤمنين بها والمعتنقين لها، حين قالوا له:(وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي)) أما المدركون للحقائق التاريخية والمتتبعون لما جرى من الأحداث في الزمن الماضي، فإنهم عرفوا أن بعض الضعفاء هم أنصار الحق - دائما - كما عرفوا صدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، بأتباعه، من مثال ((ورقة)) بن نوفل وهرقل ملك الروم، والنجاشي ملك الحبشة وغيرهم، فقد ذكر التاريخ أن ((هرقل) اغتنم فرصة وجود ركب تجاري في الشام من العرب، فيهم أبو سفيان بن حرب، جاؤوا للتجارة، فبعث إليهم واستدعاهم إليه، وسألهم عن
الرسول الجديد الذي ظهر فيهم، ذلك حيث سأل هرقل كبير قريش أبا سفيان بن حرب عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليدرك من خلال هذا حقيقة هذا الرسول وهل هو صادق في دعواه أو هو كاذب، فأجابه أبو سفيان - وهو يدس في جوابه انتقاصا - في زعمه - في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فقال هرقل لأبي سفيان: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعناؤهم؟ فقال بل ضعفاؤهم، ففهم هرقل الحقيقة من جوابه فقال لأبي سفيان: هم أتباع الرسل، فظهرت الحقيقة من فيه من غير أن يشعر، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته من ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء والفقراء، ولم يتبعه من الأشراف إلا القليل، مثل أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، فهذه حقيقة تاريخية قديمة بقدم الزمان والرسالات، لا تتغير، وهذا مبني على أن ذوي العقائد الصحيحة المبنية على الإيمان الصحيح تلفيهم لا يترفعون عن الحق حيث يعرفون أنه حق، ويذعنون إليه بدون مكابرة ولا عناد، لأن نفوسهم مستعدة إلى تصديقه واتباعه والعمل به، وبما جاء به والانقياد إلى ما يأمرهم به، وبهم انتصر الحق على الباطل في كل زمان ومكان، ويصعب عليهم التحول عما آمنوا به، وما سبق من مواقف ضعفاء الصحابة شاهد على هذا، فهم بالرغم من العذاب الشديد والأهوال المضنية ومحاولات كفار قريش لهم على تركهم عقيدتهم ودينهم،
كل ذلك لم يزحزحهم عنها، وبهم انتشر الإسلام وعم نوره الآفاق، فكل الوسائل التي اتخذها كفار قريش ضدهم رجعوا بها خاسرين، فلم يغرهم مال، ولم يصدهم عن دينهم وعقيدتهم تهديد، ولم تشرئب أعناقهم إلى بريق المناصب والوظائف، ولا إلى غرض آخر من الأغراض، ولا إلى أي حظ من حظوظ النفس الرخيصة، بل همهم الوحيد نشر الدين وحماية العقيدة عن أعدائها الكثيرين، رحمهم الله ورضي عنهم ورزقنا القدوة بهم، لنكون مؤمنين حقا كما يجب علينا أن نكون.
إلى هنا أقف عن السير في خط هذه الفصول التي حررتها لتكون لنا ولإخواننا - وبالأخص - ولشبابنا ذلك الشباب الناهض الواعي لواجباته الدينية والوطنية مثالا صالحا للسير على نهجه القويم لا لذلك الشباب المذبذب الذي لم يعرف في سلوكه واجباته فراح يتحول من مبدأ إلى مبدأ، كالكورة بين أرجل اللاعبين بها أقدمها للشباب الصالح لحمل المسؤولية ولتكون له مثالا يصلح للسير على هداه، فتنبههم إلى مواقف ثابتة صلبة، وقفها سلفهم في وجه المشركين والظالمين والطغاة، فلم يلينوا فيها ولم يهنوا في مقاومة الشرك ولم يضعفوا فأعلنوها كلمة صريحة مدوية، إنهم أتباع الحق وأنصار التوحيد، وإن كانوا تألموا في أبشارهم من عذاب المشركين وهمجيتهم، فإنهم لم يتألموا في ضمائرهم ونفوسهم وقد قال لهم خالقهم: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان
الله عليما حكيما). الآية 104 من سورة النساء، تلك الضمائر والنفوس التي سقاها الخالق العليم من ينبوع الإيمان الصافي من كل الأكدار، فأحياها بعد ما أماتها قحط الشرك والضلال، فنقلها من عالم الموتى وأصناف الجمادات، إلى عالم الكائنات الحية والمفكرة في مصيرها المنتظر، فنزل غيث الإيمان عليها فطهرها من أوساخ وأقذار طال بها الأمد عليها، وهي تعلو أجسام البشرية، فنسيت، بها هذه البشرية المصدر الحقيقي لوجودها وحياتها ودوامها، وتشبثت بخيوط الأوهام التي هي أو هي من نسيج العنكبوت، لا تغنيها عن حبل الله المتين شيئا، فذلك الذي لاح لها من قبل سراب خادع، وأمل ضائع، غير الكثيرين ممن لم يعتصموا بحبل الله المتين، إذ لابد للإنسان من البحث عن الحقيقة ليتبعها، تلك الحقيقة التي فيها نجاة الإنسان المفكر، مخافة أن يتعثر في سلوكه للدروب الجبلية الصعبة وكثيرة التعاريج المملوءة بالأشواك التي تعطل السائر فيها عن بلوغ المرام، فإن تلك الدروب كثيرا ما أضلت سالكيها وألقت بهم في الهاوية وما أدراك ما الهاوية، فقد أدرك الله بالإيمان والهداية إليه نفوسا سبق في علمه أنها مهيأة للإيمان به وبوجوده، وبأنه المصدر الوحيد لكل موجود، تجلت فيه عظمة الخالق وقدرته وإرادته فصدقت به إلها واحدا لا شريك له، فهو رب كل شيء، سبحانه ما أبدع صنعه، وما أجل وأعظم قدرته وما أوسع علمه، وحلمه وعفوه، لم يعجل بعقاب
الجاحدين له والمنكرين لربوبيته، فأرسل رسله لخلقه لينبهوهم إلى أنه: لا إله إلا هو، فمن صدق به فله الرضا والجزاء الأوفى، ومن أنكر وكفر فعليه الغضب والعقاب والبوار، وسوء المنقلب والمصير، فكان منقلبه إلى نار السعير، ((ولا يظلم ربك أحدا)) وأنزل على خاتم رسله وأمره بأن يقول لعباده:((وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) وقال: ((ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه وم عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ)). سورة الأنعام، الآيات 102 - 103 - 104.
وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه فيك، تباركت وتعاليت).
ومما ورد في دعائه عليه الصلاة والسلام قوله (اللهم إني أعوذ بك من خليل ماكر، عيناه ترياني، وقلبه يرعاني، إن رآى حسنة دفنها، وإن رآى سيئة أذاعها).
اللهم عفوك نرجو ورحمتك نبتغي، فلا تخيب رجاءنا فيك، ومبتغانا إليك، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، اللهم ارحم آباءنا ومن سبقنا
بالإيمان، وارحم جميع المؤمنين والمؤمنات، وتب على العصاة من هذه الأمة، اللهم واهد برحمتك وعفوك الضالين، وصل اللهم وسلم وبارك على روح سيدنا محمد رسولنا وإمامنا من أنقذتنا به من نار الجحيم - إن شام الله - اللهم واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك يا رب العالمين، وسلام على المرسلين، ورضاك عن أنصارهم إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من تحريره ضحوة يوم الأحد ثاني أولى الجمادين، من عام واحد وأربعمائة وألف من هجرة خير المهاجرين، وأفضل الخلق أجمعين، الموافق للثامن من شهر مارس - آذار - سنة إحدى وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.