الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محنته وفتنته مع معذبيه:
قال الكثيرون ممن كتبوا في سيرة الصحابة رضي الله عنهم: ان المشركين عذبوا من أسلم وأظهر إسلامه شديد العذاب ليرتدوا عن دينهم ويكفروا بالله الواحد الأحد وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يطلبون منهم النطق بكلمة الشرك ليكفوا عن تعذيبهم، وإلا استمر تعذيبهم ما داموا على الإسلام، فمن أولئك المعذبين من أبى أن يعطيهم شيئا مما طلبوه كبلال رضي الله عنه كما تقدم - عند بيان موقفه الصلب وعقيدته في الله وفي رسوله وفى الإسلام ومنهم من أعطاهم ذلك - ظاهرا - ليخففوا عنه العذاب، وثبت على عقيدة التوحيد والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في باطن نفسه، كعمار بن ياسر، فقد ذكر جل المفسرين للقرآن الكريم أن هذه الآية وهي قوله تعالى:((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)) (1) نزلت في عمار ابن ياسر ومن عذب من المستضعفين، حين عذبهم المشركون، وشددوا عليهم في العذاب، وقالوا له - عمار - لا نكف عن عذابك حتى تكفر بمحمد فوافقهم على ما طلبوه منه - مكرها - وجاء معتذرا إلى
(1) سورة النحل الآية 106.
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وشكا له ما أصابه من ذلك العذاب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(كيف تجد قلبك)؟ قال مطمئنا بالإيمان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(إن عادوا فعد، وجاء في بعض الروايات عند البيهقي وغيره أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم تحت الضغط عليه بل وذكر آلهتهم بخير وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما تركت حتى سببتك، وذكرت آلهتهم بخير، فقال له: (كيف تجد قلبك؟) قال مطمئنا بالإيمان فقال له: (إن عادوا فعد) وفي هذا أنزل الله تعالى قوله ((إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)). ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له - ظاهرا لا باطنا - أن يقبل ويفعل ما طلب منه فعله إبقاء على حياته، كما فعل عمار بن ياسر وله أن يمتنع عن إجابتهم لما طلب منه كما فعل بلال رضي الله عنه، فإنه أبى أن يعطي شيئا للمشركين، وهم يعذبونه ويفعلون به الأفاعيل، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في ساعة اشتداد الحر، ويأمرونه بقول كلمة فيها ما يرضيهم، فيأبى عليهم هذا، ويقول لهم: أحد أحد، بل ويقول لهم: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم لقلتها لكم زيادة في غيظكم وغضبكم.
وبناء على ما سلف بيانه من موقف عمار بن ياسر مع معذبيه، قال المفسرون لكتاب الله: أن الآية السابقة: ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)) إن هذه الآية تشمل نوعين ممن كفر بالله وأشرك معه غيره، أو جحده بتاتا.
النوع الأول: من كفر وجحد وجود الله، أو وحدانيته وهو في كفره مختار وكفر عن رضى منه، وانشرح صدره له، فهذا حكمه في الإسلام أنه كافر، قولا ونية وقصدا، وعملا، لانشراح صدره بالكفر، فهو ممن غضب الله عليه، لقوله تعالى ((فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)) وذلك لأنه استحب الحياة الدنيا على الآخرة، وآثرها عليها وأولاها كل عنايته واهتمامه في حياته، ولم يستجب لدعوة الله له إلى التوحيد، فإن كان كفره عن وراثة من أهله، فإنه يدخل في عامة الكفار، وحكمهم بين في الإسلام، وأما من كفر بالله - مختارا - بعد الإيمان به والإقرار له بالألوهية والتوحيد، وهو ما أشارت إليه الآية وصرحت به فإنه يعتبر فيه الارتداد عن الإيمان إلى الكفر، فإنه يسمى مرتدا - راجعا وعائدا من الإيمان إلى الكفر - وحكمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه:(من بدل دينه فاقتلوه) أخرجه أئمة الحديث، كالبخاري وأحمد وأصحاب السنن، عن ابن عباس رضي الله عنه، فهو قد انتقل من صف المؤمنين بالله، إلى صف الكافرين الجاحدين له، وهذا منه تلاعب واستهزاء بدين الله، فكانت تلك عاقبته وعقوبته، فهو قد ارتد عن دينه
مختارا، لهذا جازاه الله وعاتبه على ذلك بالعذاب العظيم، في الدنيا والآخرة.
أما النوع الثاني: وهو من أظهر خلاف ما أبطن كما فعل عمار بن ياسر مع معذبيه، فأظهر لهم خلاف ما أبطن، وقال ما قال اتقاء لشرهم وتعذيبهم له، وذلك ليخففوا عنه العذاب، فهذا لا حرج عليه في سلوكه مع معذبيه أعداء الله هذا المسلك، إذا أظهر لهم أنه موافقهم على ما طلبوه منه - ظاهرا فقط - فقد طلبوا منه الكفر بالله وبالدين وبالرسول صلى الله عليه وسلم، ليكفوا عن تعذيبه، فأجابهم إلى ما طلبوه منه واتبع رأيهم في الظاهر، فهذا لا شيء عليه كما تقدم ولا يخاف عذاب الله على كفره به - ظاهرا - لأنه اتقى به فقط عذاب معذبيه، والله جل جلاله قال:((إلا أن تتقوا منهم تقاة)) سورة آل عمران، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). رواه ابن ماجه من أبي ذر رضي الله عنه، وفي رواية أخرى عند ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وفي كلا سند الحديتين للعلماء مقال.
ولبيان كل ما تقدم يظهر هذا في قوله تعال: ((ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم
عذاب عظيم)) فانشراح الصدر في الآية كناية عن القبول الاختياري والرضى بالأمر الذي مالت إليه النفس ورضيت به واختارته عقيدة وعملا، فمن وسع صدره وقلبه وعقله لقبول الكفر بالله والردة بعد الإيمان، من غير أن تنازعه نفسه في هذا الرضى والقبول، فهذا كان مختارا من غير اضطرار، فانشرح صدره ورضي قلبه بقبول الكفر والجحود، غير مكره عليه ولا كاره له، فهذا ملعون ومغضوب عليه من الله، الإله الواحد لجميع المخلوقات فهذا ظلم وقع من ظالم لذا وجبت معاقبته، وهذا العذاب العظيم جزاء كفره وجحوده، وهو عذاب جهنم الذي أعده الله لمن كفر به وجحده.
فالذي نطق بكلمة الكفر مكرها عليها بالتهديد بالقتل كعمار بن ياسر رضي الله عنه، كان الإكراه في حقه عذرا مقبولا، فإن نطقه بها يطبق عليه قوله تعالى:((إلا أن تتقوا منهم تقاة)) سورة آل عمران، ذلك أن العلماء قالوا: أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فإنه لا إثم عليه إن كفر بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان راض به، ولا تبين منه زوجته - أي تطلق عليه - ولا يحكم عليه بالردة والكفر بعد الإيمان، ذلك أنه يدخل في باب ((التقية)) المرخص فيها شرعا، لتكون ملجأ للنجاة من ظلم الظالمين.