الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
3 -
أصحاب الأخدود في القرآن
بلاؤهم وصبرهم وهم يطرحون في النار:
ــ
الأخدود هو الشق الكبير المستطيل في الأرض أو هو الحفرة في الأرض مثل الخندق، ويجمع على أخاديد.
وأصحاب الأخدود الذين خددوها وقعدوا قريبا منها وأمروا أعوانهم بإلقاء المؤمنين بالله في النار التي أوقدوها لهم، فإن العلماء ذكروا أنهم كانوا بـ (نجران) - البلد المعروف في اليمن مما يلي مكة - فهم من النصارى المؤمنين الموحدين لله، أما زمانهم فإنهم كانوا في الفترة التي سبقت مبعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قص الله علينا قصتهم في القرآن حيث قال في سورة البروج (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) الخ، وتنتهي قصتهم عند قوله تعالى:(فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).
فأصحاب الأخدود كما ذكر القرآن جماعتان كلاهما تعنيه القصة، جماعة كافرة ظالمة حاكمة في بلدها وهي المعذبة للمؤمنين، وجماعة مؤمنة بربها موحدة له لا تقبل الشرك ولا ترضى به، وهي الجماعة المعذبة من طرف الحكام الظالمين، فهذه الجماعة المؤمنة، آمنت بالله الخالق وحده، لا إله غيره، وعقدت العزم على الاستمرار في التمسك بدينها وعلى الإقرار بأنه إله واحد لا شريك له، ولا إله غيره في الوجود يستحق العبادة والطاعة، وهذا هو الحق والصواب والواقع، فهي قد تمسكت بالحق وما تدعو إليه الفطرة السليمة.
أما الجماعة الأخرى فهي الجماعة الكافرة المنكرة لربها وخالقها، رئيسها ملك ظالم تعينه حاشية مثله في الظلم والكفر والجحود لخالق كل شيء، إذ هو من نوع الملوك الذين ادعوا الألوهية، مثل سابقيه المغرورين (النمروذ وفرعون) فعقيدتا الجماعتين مختلفة متناقضة من أجل هذا التباين بينهما حاولت الجماعة الجاحدة لربها صد المؤمنين عن عقيدتهم التي التزموا بها وأعطوا العهد على الإيمان بها، والوفاء لها وتحمل كل ما يعترضهم من عقبات وألم في سبيلها.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كلمة قتل الواردة في القرآن معناها طرد أي لعن وأبعد عن رحمة الله هؤلاء القوم، وهم أصحاب الأخدود الكافرون الجبارون الذين يحاولون أن يجبروا عباد الله المؤمنين
على الشرك بالله، بجعل ملكهم إلها يطاع ويعبد من دون الله الخلاق العليم، ولما لم يستجب لهم المؤمنون الموحدون شقوا أخدودا وأخاديد ليلقوا فيها المؤمنين بالله وحده، بعد أن ملؤوها حطبا وأوقدوا فيه النار، لذلك الغرض الذي يدل على الحقد والبغضاء لكل من آمن بالله ربه هذه هي أعمالهم المزرية بكرامة الإنسان المهذب فشقوا الأخاديد وحفروا الحفر الطويلة وجمعوا فيها الحطب الكثير وأوقدوا فيها النار وألقوا فيها المؤمنين بالله وحده.
فعلوا هذا بالجماعة المؤمنة بالله ولا ذنب لها إلا أنها قالت ربي الله فآمنت بالله وحد، وعقدت العزم على الإقرار به، بأنه إله واحد، لا شريك له في ملكه، ولا إله في الوجود غيره يستحق العبادة والطاعة.
من أجل هذه العقيدة الصحيحة الموافقة للواقع حاول المشركون صدهم عن عقيدتهم هذه التي أعطوا العهد لله على الإيمان بها والثبات عليها والوفاء لها، وتحملها وتحمل كل ما ينالهم في سبيلها ومن أجلها، والعقلاء يعرفون أن العذاب له أسباب معقولة، مثل ارتكاب المجرمين للجرائم التي تفسد المجتمع، وتشيع فيه الفساد وسوء الأخلاق وغير هذا، ولماذا فعل أصحاب الأخدود - وهم موقدو النار - بهؤلاء المؤمنين الضعفاء هذا الفعل الشنيع؟ ما هو ذنبهم؟ ما فعلوا حتى يستحقوا كل هذا العذاب؟ وما الداعي لهذه المعاملة القاسية؟
وهذا العذاب الشديد؟ هل ارتكبوا جرما وذنبا استوجب لهم هذا الجزاء الشديد والعذاب الأليم، والواقع يقول لا هذا ولا ذاك وقع منهم، إنما العتو الإنساني، والغرور بالنفس، وحب الاستعلاء على خلق الله هو الذي ساقهم إلى هذا، إنما ذنبهم الوحيد - في نظرهم - إن كان الإيمان بالله ذنبا - هو الإيمان بالله وحده، الذي لا شريك له في ألوهيته، ولا نظير له في ربوبيته فهو الخالق وحده، والرب القادر على كل شيء، فلا طاعة ولا عبادة إلا له وحده، الذي لا شريك له فهو القوي العزيز الحميد الذي لا يضام من التجأ إليه وتمسك بحبله المتين، ولا يهان من احتمى بحماه المنيع، وما وقع لهؤلاء المؤمنين من العذاب والتحريق بالنار لأجل عقيدتهم التوحيدية، كان امتحانا لهم ودليلا على قوة عقيدتهم وصبرهم على ما يصيبهم من أجلها، وهذا يزيدهم رفعة في الدنيا وعزا وكرامة في الآخرة، حيث أنهم ضربوا المثل الأعلى في الصبر على ما لحقهم من الجبارين الطغاة، ويبقى موقفهم الثابت يدل على عقيدتهم موقف يدل على قوة إيمانهم بخالقهم، كما تبقى حادثتهم هذه تتلى في المحافل عبر التاريخ الطويل والمجتمعات الأممية، ليكون ما نالهم من أجل عقيدتهم درسا عظيما يلقنونه لكل الأجيال القادمة ليستفيدوا منه قوة العقيدة وفائدة التمسك بها، فلولا هذا الموقف الوحيد في التضحية لما طرقت أسماعنا هذه الوقائع والأحداث، التي ترشد إلى الطريق المستقيم لكل من
أراد سلوكه ممن يأتي من الأجيال المقبلة فقد هلكت بعدهم أجيال وقرون طويلة نسيهم فيها الناس، ولم يذكروهم، أما هم - أصحاب الأخدود - فإن حادثتهم سجلها القرآن، فبقيت محفوظة فيه وفي العقول والصدور، فكانت سراجا منيرا في طريق العقيد ة الحقة وهذا ذكر حسن لهم، وشرف وأي شرف هو؟
أما جزاؤهم من ربهم الذي ثبتوا على الإيمان به ولم يجحدوه وينكروه كما فعل غيرهم، فالمنازل العالية والدرجات الرفيعة والحياة الكريمة في دار العزة والكرامة، التي لا يزول نعيمها ولا تنقضي الحياة فيها أبد الآبدين، والويل والعذاب والغضب من رب الأرباب لأولئك المعذبين والطغاة الظالمين، كل هذا لهم جزاء ظلمهم وتعذيبهم لعباد الله على اعترافهم بالحق الواجب على كل مخلوق، وقد فاز به المؤمنون، فهنيئا لهم.
ترى من يكون هؤلاء الكافرون الجبارون قساة القلوب أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين بالنار على إيمانهم بالله؟ ومن هم أولئك المؤمنون المحرقون بالنار؟ هذه مأساة رقت لها قلوب وتحجرت لها أفئدة، خلاف وقع بين المفسرين لكلام الله وأولى الرأي من علماء الإسلام في شأنهم، لأنهم هم الذين يهمهم أمر العقيدة والدين أكثر من غيرهم من البشر.
فالمفسرون لكلام الله لم يتفقوا على قول واحد يقف عنده من يريد أن يحصر الواقعة في جهة معينة بتحديد
زمانها ومكانها، والقرآن ذكرها بلا تحديد للمكان ولا توقيت للزمان، وما ذكره القرآن هو حق وواقع لا ريب فيه، فمن لم يصدق بما جاء في القرآن من أخبار وأحكام فهو جاحد له كافر بأحكامه منكر لأخباره.
والقرآن لم يحدد في أخباره وقصصه ووقائعه في الكثير منها الزمان والمكان، وهي كثيرة، لأن القرآن كتاب أحكام ومواعظ وعبر وتربية، يربي النفوس على الحق والصدق، ويعظها ويخوفها بذكر أخبار السابقين من الأمم الماضية، المؤمنة منها والكافرة، حتى لا يقع للأمم المتأخرة في الزمان ما وقع للأمم السابقة، وهذا ما يهم المؤمن في حياته الدينية، وعلماء التفسير لا يجرؤون على القول في القرآن بمحض الرأي الخالص، من غير أن يكون مدعما بحجة ودليل جاء من طريق الوحي والرسالة، ولم يكن علماء التفسير عندنا كعلماء اليهود الذين مسخوا التوراة بأقوالهم وآرائهم الشخصية من غير اعتماد على وحي إلهي، فسلبوا عنها قداسة الكتب السماوية وتركوها لا تخرج عن إطار الكتب الوضعية البشرية، فوجب على المسلمين لهذا الاعتبار الإيمان والتصديق بكل ما جاء في القرآن، خصوصا وأن الله جل جلاله تولى بنفسه حفظ كلامه من التحريف والتغيير لا بالزيادة ولا بالنقصان، فهذا هو عين الحق والصواب، وهو ما يجب على المؤمنين الإيمان به فهو كما جاء من عند الله نحن نقرؤه اليوم بعد تلك القرون الأربعة عشر
الماضية من زمان نزوله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو القول الحق، والعقيدة الصحيحة.
فالقرآن لم يكن كتاب تاريخ حتى يخبرنا بزمان ما حدث ولا هو كتاب جغرافية حتى يحدد لنا مكان ما حدث بالضبط، وهذا هو سر القرآن والخلاف في تحديد الزمان والمكان للوقائع الواردة في القرآن لا يترتب عليه حكم يخشى توقيفه أو تضييعه، فذلك هو الوعظ البليغ للناس والتعريف الزاجر للنفوس الجامعة، حتى لا يكفر الناس بالله خالقهم ومد بر أمورهم، وحتى لا يقع لهم ما وقع لمن سبقهم من الأمم.
وقد تعددت آراء المفسرين للقرآن، واختلفت أقوالهم في أصحاب هذه القصة من هم؟ فمن قائل أنهم من أهل فارس، حين أراد ملكهم تحليل الزواج بالمحارم، فيتزوج الرجل ابنته، أو أخته أو خالته أو عمته - مثلا - فلم يقبل له هذا علماؤهم ورجال الدين فيهم، فعمد إلى حفر أخدود وألقى فيه من أنكر عليه هذا الرأي ولم يرض به لأنه مخالف للشرائع السماوية وللفطرة الإنسانية السليمة (ونقل هذا القول عن علي رضي الله عنه فعصى الملك العلماء ونفذ ما أراده، وبقي في الفرس هذا العمل جاريا إلى أن من الله عليهم بالإسلام الذي يحرم الزواج بالمحارم، فأبطلوه بينهم، والحمد لله على نعمة الإسلام الطاهرة المطهرة للمجتمعات.
ومن قائل أنه وقع هذا في اليمن، وفي ((صنعاء)) عاصمة البلاد، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم - وكانوا قوة - ففعل المشركون بالمؤمنين ما قصه علينا القرآن.
ويميل البعض من رواة التاريخ إلى القول بأن القصة وقعت في بلاد اليمن، وكانت اليمن تحت حكم ملك يهودي يدعى ((ذو نواس)) وكان ظالما وطاغية، حاول بفعلته هذه فرض اليهودية على النصارى - نصارى نجران - وإرغامهم على ترك النصرانية التي اعتنقوها، لأنها دين جديد مالت نفوسهم إليها، وهناك قول بأنهم من الحبشة، وأيا ما كان مكانها وزمانها فالقصة ذات عبرة بليغة، وموعظة عظيمة، يستفيد منها المؤمنون الصادقون المتمسكون بعقيدتهم مهما كانت العقبات أو العقوبات التي تصيبهم وتعترضهم في سبيل التمسك بعقيدتهم.
وقد روى أصحاب الحديث قصتهم هذه بروايات متعددة، وأخرجوها بطرق مختلفة، ترجع إلى زمانها ومكانها وأهلها، فتكتفي هنا بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وبسنده عن صهيب الرومي رضي الله عنه كما أخرجها أيضا الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وغيرهم.
قال الإمام مسلم في صحيحه حدثنا هداب بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: (كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان في طريقه - إذا سلك - راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرة بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك، إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقل: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى وأنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويدوي الناس، من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه لفم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك
ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟؟، فقال: إني لا أشقى أحدا، إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمئشار - المنشار - فوضع المئشار في مفرق رأس فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته - أعلاه - فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه - دحرجوه - فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل - اضطرب وتحرك حركة قوية - فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور- سفينة صغيرة - فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت - انقلبت - بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي - جعبة تجعل فيها السهام - ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس
في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في في موضع السهم فمات، فقال الناس:.آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي - رضيع - لها فتقاعست - تأخرت ولم تتقدم - أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه فاصبري فإنك على الحق) من صحيح الإمام مسلم، ج 18.
انتهت القصة، وهي كما جاءت في صحيح الإمام مسلم، فالمحرقون في النار هم من مؤمني نصارى نجران فهم مؤمنون موحدون اضطهدهم وعذبهم ملك اليمن، المسمى ((ذو نواس)) اليهودي الحميري، كما جاء مصرحا به في بعض روايات قصص التاريخ القديم.
وقالوا، إن هذا الملك عمل ما استطاع عمله لتكون اليهودية دينا يشمل كل أرجاء اليمن، وأمر بتحكيم التوراة في كل نازلة أمرا لابد منه، وبهذا يضمن لدينه الانتشار، ولكتابه الدوام والبقاء والاستمرار في الحياة، ومن أجل هذه الأمنية يجب أن يزول من طريق ذلك الدين كل دين آخر قد ينافسه ويقاسمه
الحكم والسيطرة، فلا عقيدة إلا عقيدة اليهودية، وهذا رأيه، ومن أجل تنفيذ رأيه هذا ارتكب ذلك الجرم الفظيع.
رأينا أن قصة أصحاب ((الأخداود)) هذه تألفت من عنصرين وطائفتين، عنصر الأساس الذي وضعت عليه، وهو الملك والساحر، في جهة، والراهب والغلام في جهة أخرى، وعنصر آخر فيه الشعب المؤمن الموحد المتدين الذي لم يرض بترك دينه وعقيدته استجابة لتهديد الملك وأعوانه وأنصاره، أما الطائفتان فطائفة كافرة جاحدة لربها وخالقها، وطائفة مؤمنة بالله ربها وخالقها، غير أن هذه الطائفة المؤمنة ضعيفة ضعفا ماديا، والطائفة الأخرى قوية بقوة الملك وجنده وأعوانه الظلمة، إذ هي كافرة مشركة بالله، وهي قوية بيدها الأمر والنهي والحكم، فهي بقوتها تسلطت على الطائفة الضعيفة، ففتنتها في دينها بشتى أنواع الفتن لتردها عنه وعن عقيدتها التوحيدية في الله، ولكنها وجدتها صلبة قوية فيها، فلم تستجب لها، ولم ترهبها عندما أرادت منها خلاف عقيدتها، فاصطدمت فيها بصخرة العقيدة الصلبة القوية، وفشلت في محاولاتها تلك، كما فشلت محاولات مشركي قريش مع الضعفاء من أصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، هذا هو عمل العقيدة إذا تجردت من الدواعي الخارجة عنها، فكلهم صبر على ما قام به الطغاة الظالمون نحوهم، حتى نصرهم الله على أعدائهم، وهذه هي عاقبة الثبات على
عقيدة الحق تتجدد في كل أوان وحين، وهكذا يتحقق وعد الله الذي وعد به أولياءه وأنصار دينه كما قال (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) وصدق الله في وعده.
وبالتأمل والتدقيق في أمر تينك الطائفتين المذكورتين يتبين لنا ما يلي:
أ - ملك جبار قاهر للضعفاء، غشوم في تصرفاته وتسيره لأمر الرعية، ادعى الألوهية، يحيط به أعوان ظلمة أعانوه على ظلمه، يرهبونه فيستجيبون له في كل ما يأمرهم به، فهم مسخرون بين يديه، يعملون له ما يشاؤه ويريده بكل طاعة وانقياد، لا من يعارضه منهم فيما يطلبه ويبتغيه، ولا من يكفه ويحول بينه وبين الفتك بالضعفاء من عباد الله الذين ليس لهم ناصر إلا هو.
ب - وطائفة من رعيته أبت أن تقر له بدعواه ((الألوهية)) الباطلة، فآمنت بالله وحده ربها ورب العالمين، فأفردته بالطاعة والعبادة والعقيدة الصحيحة، وكانت عقيدتها في ربها ثابتة راسخة رسوخ الجبال، وليس من السهل الميسور تحويلها عنها إلى غيرها، وخصوصا إذا كانت هذه العقيدة التي حاول هذا الطاغية صرفهم إليها عقيدة باطلة، لا يستسيغها العقل البشري النير بنور الإيمان السليم من كل أوساخ الشهوات والأطماع، فصاحب هذه العقيدة لا يستجيب إلا لنداء
الحق ودعاء الخير والفضيلة والضمير الحي، فهي قد قبلت عذاب الدنيا ورضيت به في سبيل عقيدتها لتلقى ربها يوم القيامة طاهرة من رجس الشرك والمعاصي ظاهرة فوق المشركين.
فتعرضت هذه الجماعة المؤمنة إلى أقسى أنواع التعذيب، إذ هو امتحان بالغ القساوة والشدة، فإنه لا أقسى ولا أشد من العذاب بالنار، إذ لا يعذب بها إلا الخلاق العليم من جحده وكفر به، وهو - وحده لا غير - ولي النعم، ومنزل النقم، له السلطة الكاملة على عباده كلهم، وإذا عصاه بعض عباده وكفر به عاقبهم بما يشاء لأن الخلق كلهم خلقه، فهو مولاهم ومالكهم، يتصرف فيهم بما تتطلبه حكمته، ويقتضيه تدميره وسلطانه، وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا يعذب - أو لا يحرق - بالنار إلا رب النار) أو كما قال، وكان في تلك الجماعة المؤمنة الموحدة أم مع طفلها الرضيع، وراهب - عابك - يعلم الناس الدين والتوحيد وطاعة الله، ورجال آخرون تمكنت عقيدة التوحيد من قلوبهم، فصعب عليهم تركها والتخلي عنها، أو انتزاعها منهم، فرضوا بالموت تحريقا بالنار في سبيلها، وكان فيهم غلام، يا له من غلام أراده الملك أن يكون ساحر القصر الملكي، غير أنه ترك ما انتدبه الملك إليه وأعرض عنه وتردد على مقر الراهب وتعلم منه الدين، فكان - الغلام - بما أخذه عن الراهب داعية إلى الله وإلى توحيده، فنفعه الله بعلمه، فنفعه في نفسه وبث به
التوحيد في أمته، فأنقذ به خلقا كثيرين من عذاب الله، وهذه خطة من تعلموا العلم لله، فنفعوا أنفسهم ونفعوا غيرهم، فأقبل على علم الدين وأعرض عن تعلم السحر - والسحر حرام في كل شريعة سماوية - فساقه الله إلى ذلك الراهب، حيث تعلم منه الحق، وترك السحر والساحر - ولا يفلح الساحر حيث آتى - وأعرض عن الساحر وكذبه وتعليمه له فنون السحر والشعوذة والغطرسة، وكان في تلك الجماعة غير هؤلاء المؤمنين المذكورين، من المؤمنين الموحدين لله ولسلطانه ممن شاهدوا قتل - بطل هذه القصة - وهو الغلام المؤمن الموحد حين رماه الملك بالسهم الذي أخرجه من كنانة الغلام المؤمن، وذكر الله عند رميه كما دله الغلام على هذا، فانقلب الجمع الغفير الحاضر لهذه الواقعة إلى مؤمنين صادقين بما شاهدوه وعاينوه، والجمع كثير العدد، فشاهد هذه العملية الإجرامية التي فعلها هذا الطاغية بجماعة آمنت بالله الواحد الأحد وتلك حيلة تنبه إليها الغلام المؤمن، وخفيت على الملك البليد، وهذا ما أراده الغلام المؤمن وقصده، وفي هذا الدعوة إلى دين التوحيد، بواسطة أعمال الملك الظالم، فكانت بتضحية هذا الغلام بروحه في سبيل الدعوة إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأشخاص المغرورين، كما في جمع الناس في صعيد واحد لمشاهدة عجز الإنسان المغرور، وقدرة الله الواحد القهار دعوة أيضا إلى عقيدة التوحيد، وهي كما قلت حيلة لم يفطن إليها الملك الجبار
فخسر بها هذه المعركة التي دارت ها الإيمان والكفر وبين التوحيد والشرك، فعادت على الملك بالوبال والخسران في الدنيا، وما سيلقاه يوم القيامة من شديد العذاب والهوان أعظم، مما لا طاقة له بتحمله - فهو لا يطاق - فيعامل الله الخالق العظيم هؤلاء الجبارين الطواغي في الدنيا الضعفاء في الآخرة، يعاملهم بأقصى ما عاملوا به عباده المؤمنين - جزاء وفاقا - كما قال هنا في نهاية هذه القصة؟ (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).
ولما عجز الملك - بقوته - على قتل الغلام المؤمن بالله، سواء حين أرسله مع أعوانه لإلقائه من رأس الجبل وأعلاه، أو مع أصحاب ((القرقور)) الخ، قال الغلام للملك، إنك لا تقتلني إلا بما أشير به عليك فقال له الملك: وما ذاك؟ فقال له خذ سهما من كنانتي الخ، ما مر، واجمع الناس في مكان واحد، وهنا جاءت الحيلة التي أرادها الغلام واللعبة الرابحة وهي إظهار قدرة الله لمن لم يؤمن بها، وتأثير عقيدة التوحيد في النفوس المؤمنة، أمام الجمهور العظيم لتؤثر فيهم فيؤمنوا، وذلك هو المراد، ففعل الملك بما أشار به عليه الغلام فأخذ السهم من الكنانة ووضعه في كبد القوس وقال باسم الله رب الغلام ورمى به الغلام فلما فعل ما قاله الغلام أصاب هدفه ونفذ السهم إلى صدغ الغلام فقتله، والناس في ذلك الجمع
الكبير يشاهدون هذه العملية، وهكذا ضحك الغلام على الملك، وأظهر للناس أن الملك ليس ربا بل هناك رب آخر غيره، وهو واحد وهو للناس أجمعين، وهو الفاعل المختار، ومنه تكون الموت والحياة، وقد رآى المشاهدون لهذه العملية تأثير الدعوة إلى الله في نفوس المؤمنين، كما تحقق المشاهدون - بالمعاينة - أن الملك ليس بإله، وأن هناك إلها آخر غيره، وهو رب العالمين كلهم، ملوكهم وعامتهم، فما وسع الحاضرين والمشاهدين لتلك العملية إلا الرضوخ والإيمان بالله وحده والكفر بالملك، وهذا ما أراده الغلام بالملك، فانقلب الموقف لصالح الغلام وعقيدة التوحيد، وخسر الشرك والملك وكل المؤيدين له.
هكذا تكون التضحية في سبيل العقيدة والدعوة إليها، وهكذا يكون الجود والبذل بالأنفس والأرواح في سبيل الدين والعقيدة، وهذا هو الجهاد في الإسلام، وهو كما قال الشاعر الحكيم حين قال:
الجود بالمال جود فيه مكرمة
…
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقال الله تعالى: ((إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق)).
هكذا أتبع الله ما ذكره في هذه القصة من أعمال الفئة الباغية، وما سلطته على الفئة الموحدة، أتبعه بنوع الجزاء الذي سيناله الظالمون، حيث اعتدوا على
عباده المؤمنين به، فهو يعاملهم بنوع ما عذبوا به عباده المؤمنين، فكما أحرقوهم بالنار فسينتقم للضعفاء المؤمنين من أولئك بالنار، ولكن أين عذاب نار جهنم من عذاب نار الدنيا؟ وما نار الدنيا إلا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، كما جاء في الحديث الصحيح فهناك فرق كبير - جدا - بين النارين فنار الدنيا - مع ضعفها - تصيب من سلطت عليه لحظة قصيرة، ثم تريح من كان فيها، أما بالموت وإما بالخروج منها والبعد عنها وعن حرها، أما نار جهنم فإنها دائمة وباقية وأبدية، لا تنطفئ ولا تطفأ ولا تخمد أبدا، كما قال الله فيها ((إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما)). سورة النساء الآية 56 ومثل هذه الآية وكم لها في القرآن من مثيلاتها - قوله تعالى ((والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور)) سورة فاطر الآية 36.
أما أولئك الضعفاء المؤمنون بالله المحرقون بالنار فى الدنيا فإن الله سيعوضهم عما أصابهم من الظالمين بسكنى الجنان والمنازل الكريمة الدائمة جزاء صبرهم على تعذيبهم في ذات الله، ومن أجل إيمانهم به قال بعد ذكره لعذاب الظالمين الطاغين، ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار
ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد)) وفي أول القصة جاءت كلمة (قتل أصحاب الأخدود) والمعنى بكلمة ((أصحاب)) هو الملك ومن معه من أعوانه الظلمة، ويكفي فيهم كلمة ((قتل)) فمعناها لعن وطرد وأبعد - كما قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما فهي دليل على غضب الله ومقته لهؤلاء الظلمة، وإبعادهم عن ساحة الرحمة الإلهية الواسعة، لأنهم لا يستحقونها بما ارتكبوه من فظيع الإجرام، مع عباد الله، وشناعة هذه الفعلة القبيحة التي تشعر بقساوة قلوبهم وانعدام الشفقة منها وأنهم تجاوزوا الحدود فيما أتوا به، فاستوجبوا لذلك أن تحل بهم نقمة الله ولعنته وغضبه، فجلسوا بعيدا - كما فعل النمرود مع إبراهيم - عن الأخدود يراقبون وينظرون أعمال أعوانهم وهم يعرضون المؤمنين على النار، فمن ارتد منهم عن دينه وكفر بالله - استجابة لهم - رضوا عنه وأحلوا سبيله وتركوه ومن رفض ما أرادوه واستمسك بعقيدته ودينه رموه في النار وأقحموه فيها، كما أخبر الله تعالى الرحمن الرحيم عنهم ((إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد)).
وفي النهاية أعلمنا الله القوي العزيز - كي نثبت على ديننا وعقيدتنا - بأن الصراع والنزاع موجود من قديم الزمان، وهو قائم بين التوحيد والشرك، وبين الكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكافرين على أنواع وأشكال وأساليب مختلفة، ولا يزال مستمرا بأنواعه وأشكاله إلى يومنا هذا، بل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ذلك امتحان يمتحن الله به عباده، ليظهروا للناس على حقيقتهم، وينكشف ما في ضمائرهم وسرائرهم فيعرفوا بما هو مستور في باطنهم، حتى لا يصدق الناس بالأقوال وحدها مجردة من الأعمال، وكم علم الناس وتعلموا من هذا الامتحان حقائق كانت مجهولة لديهم، وبالامتحان بان كل مخبوء وانكشف كل مستور، وذلك ما أراده الله العالم بما في السرائر، وبمن هو أهل للإيمان الكامل الذي يثبت عليه ولو يلقى في النار، ومن اتخذ الإيمان (دثارا لا شعارا) غير أن الله عود أهل التوحيد والإيمان النصر على خصومهم أعداء الله وأعدائهم، فتكون العاقبة لهم في كل موقف وقفوه تجاه أعدائهم، ذلك ما وقع في كل موقف وحال مضى، والعقوبة على أعدائهم مهما امتد الزمن وطال كما قال (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) سورة آل عمران الآية 126، وصدق الله العظيم.
فرئيس أصحاب الأخدود الملك ((الحميري)) ذو نواس اليهودي قد أحرق في الأخدود كل من تتصر من أهل نجران لأن أهل نجران - باليمن - دانوا بالنصرانية، قبل ظهور الإسلام، وهكذا شأن الظالمين مع المؤمنين، وقد قدم منهم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا اختيارا منهم، بلا تحريق ولا تعذيب، لسماحة صدر الإسلام، وقد بعث إليهم الرسول من علمهم من الصحابة، وقصتهم مذكورة في الوفود.