المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يأس كفار قريش من صده عن تبليغ دعوته: - في سبيل العقيدة الإسلامية

[عبد اللطيف سلطاني]

فهرس الكتاب

- ‌الإفتتاح

- ‌الإهداء

- ‌توجيه وإرشاد:

- ‌تمهيد:

- ‌تقديم:العقيدة

- ‌أي السبل أنفع لنشر العلم

- ‌فصل:الاشتغال بالتأليف واغتنام العمر

- ‌الإنسان وحقوقه في هذه الحياة

- ‌العقيدة الصحيحة قوة للقلب وقوت له والمعذبون من أجلها:

- ‌ 1 -سيدنا إبراهيم خليل الرحمن:

- ‌لماذا لقب إبراهيم بالخليل

- ‌خليل الرحمن يبحث عن المعبود بالحق:

- ‌خليل الرحمن يلقى في النار من أجل عقيدته:

- ‌محاجته لقومه المشركين:

- ‌ 2 -الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحلف الصحيفة:

- ‌اشتداد أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم وقبيلة ثقيف في الطائف:

- ‌يأس كفار قريش من صده عن تبليغ دعوته:

- ‌ 3 -أصحاب الأخدود في القرآن

- ‌ 4 -بلال بن رباح

- ‌من أنواع التعذيب له:

- ‌ملاحظة على هذه الرواية:

- ‌من هم أول من أظهروا الإسلام

- ‌بلال أول مؤذن في الإسلام:

- ‌بلال حامل العنزة:

- ‌بلال لا ينكر أصله:

- ‌ومن فضائله رضي الله عنه:

- ‌ 5 -عمار بن ياسر وأسرته

- ‌دار الأرقم:

- ‌محنته وفتنته مع معذبيه:

- ‌بعض ما كان المشركون يعذبون به المؤمنين:

- ‌ 6 -سمية

- ‌بعض فضائل عمار بن ياسر ووفاته:

- ‌ 7 -صهيب بن سنان الرومي:

- ‌إسلامه:

- ‌صهيب يشتري هجرته ونفسه بكل ما يكسبه:

- ‌بعض الأحاديث التي رويت عنه:

- ‌نشاطه وخدمته للإسلام وسط المجموعة الإسلامية:

- ‌كلمة حول عبد الله بن جدعان:

- ‌ 8 -خباب بن الأرت

- ‌وقفة استعراض وتقييم:

- ‌تعذيب المشركين لخباب:

- ‌رواة الحديث عنه:

- ‌ 9 -سلمان الفارسي

- ‌سلمان الفارسي يبحث عن حقيقة العقيدة والدين الصحيح:

- ‌سلمان يكاتب عن حريته:

- ‌من هو المكاتب وما هي الكتابة

- ‌ونلاحظ هنا:

- ‌روايته للحديث

- ‌أخوة الإسلام:

- ‌زهده في الدنيا:

- ‌رواة الحديث عنه:

- ‌ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه:

- ‌وفاته:

- ‌كلمة ختامية - فيها عبرة وذكرى لكل عبد منيب:

الفصل: ‌يأس كفار قريش من صده عن تبليغ دعوته:

يحسبون للإسلام والرسول حسابهما وتبدل ميزان القوة فرجحت كفة الإسلام، وخفت كفة الشرك والأوثان - وأوهنهم ذلك النصر المبين - وعندما خفت كفة الشرك والمشركين، وحق لميزان الكفر والضلال أن يخف، خف آذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار المسلمون بعد هذين الحدثين الهامين يعلنون إسلامهم جهارا وأمام المشركين، بعد أن كانوا يخفون شعائر دينهم حذرا من عدوان قريش عليهم، وذلك مثل الصلاة وتلاوة القرآن وغيرهما من التجمعات لفائدة الدعوة والتبليغ، فصار كل هذا، يقع أمام المشركين، فيزيدهم هذا غيظا وتحرقا وحنقا على الإسلام والمسلمين، وعجزا عن محاربته، والتعرض لأنصاره، وهذا من عوامل القوة، إذ الناس لا يلتفتون للحق إلا إذا كانت معه قوة تعزز جانبه، وإلا تكن له قوة فلا يخضع له أحد، إلا إذا كان من أهل الفكر والإدراك.

‌يأس كفار قريش من صده عن تبليغ دعوته:

حاولت قريش - كما مر - بكل ما تملكه من وسائل الترهيب والضغوط على أن تصد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهته التي وجهه ربه إليها فلم تستطع، وباءت بالفشل والخسارة، ولما لم تحصل على شيء منه، حولت الطريق إلى ما ترى فيه أملا ونفعا لشركها وأوثانها، فاتخذت سبيل الترغيب بدل الترهيب، وشرعت تلوح له بما تشتهيه النفس الدنيئة لا الشريفة

ص: 97

فإن النفس الشريفة، لا تترك مبدأها التي عرفت به وتتخلى عنه إلى شيء يعطل أو يمحو مبدأها ذاك، فقد ذكر كتاب السيرة النبوية أن مشركي قريش توجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن لم ينجحوا في صده بالقوة، إلى وسيلة الترغيب والتلويح بما تشتهيه النفس الضعيفة التي لم تستكمل إيمانها بعد.

فقد لوحت له بالمال والملك والسيادة وغيرها حسبما جاء في مصادر السيرة النبوية الشريفة، إلا أن صاحب العقيدة الصحيحة الذي يؤمن بعقيدته وحقها في الظهور والدوام والبقام والسيادة، لا يتساهل فيها أو يقبل بالتخلي عنها أو أخذ الرشوة عنها فعقيدته لا تباع ولا تشترى بل ولا تقع فيها المساومة أبدا وبأي صفة كان ذلك، فقد ذكر ابنا هشام وكثير وغيرهما من أصحاب السيرة النبوية ما عرضه مشركو قريش على محمد صلى الله عليه وسلم من المرغبات في مقابل التخلي عن دعوته، فرفض كل ذلك وتمسك بعقيدته في إباء وعزة وكرامة حتى لا يقال أن محمدا تنازل عن دعوته لفائدة أو لأخرى، وبهذا مهد الرسول صلى الله عليه وسلم لدعاة أمته الطريق كي يجدوها ممهدة فيسيروا عليها إذ ما عليهم بعد مواقفه إلا أن يسلكوها مطمئنين ثابثين موقنين بالنجاح إذا أخلصوا في أعمالهم، غير خوارين ولا مذبذبين، اتباعا لسنة رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم

ص: 98

ذكر ابن كثير في سيرته عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا حليما في قومه - قال ذات يوم وهو جالس في نادى قريش ورسول الله صل الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد، يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا؟؟ وذلك حين أسلم ((حمزة)) ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه وكلمه.

فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة - الشرف - في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت يه جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم وديتهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل بعضها.

قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا الوليد قل اسمع، قال أبو الوليد عتبة بن ربيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي

ص: 99

يأتيك ((رئيا)) - جنا - تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبدلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.

حتى إذا فرغ عتبة من عرضه ذاك قال له النبي صلى الله عليه وسلم، أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم قال اسمع مني قال أفعل (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) الآيات 1، 2، 3، 4، 5 من سورة فصلت فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما سمع عتبة القراءة أنصت لها وألقى يديه خلقه أو خلف ظهره معتمدا عليهما ليسمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجدها، ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال سمعت، قال فأنت وذاك، ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلسوا إليه قالوا، ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على

ص: 100

العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سحرك محمد والله يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.

ونلاحظ من هذا أن لسماع القرآن - كلام الله - تأثيرا عجيبا في نفوس سامعيه ولو كانوا كفارا لا يؤمنون به وقد لمسنا هذا في الخبر السابق الذكر، وفي نفس عتبة ابن ربيعة وهو المشرك الجاهل، وقد ألجأه ما سمعه منه إلى أن يقول فيه ما قال وهذا من تذوقه لبلاغته وفصاحته وبعده عن كلام البشر وهو سر إعجازه، ومثل عتبة ابن ربيعة في هذا الاعتراف ببلاغة القرآن مثله مثل ذلكم المشرك العنيد، القوي بماله وجاهه ((الوليد بن المغيرة)) عدو الله ورسله، حيث اجتمع مع طائفة من كفار قريش - وكان هو رئيس الجلسة - للنظر والتشاور في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي موقف يقفونه تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموسم الحج قد قرب منهم، وما يقولونه للناس في أمر الرسول (ص)، وفي دعوته إلى الله وإلى الإسلام ولابد من صد الناس عنه وعن دعوته، وذلك لصرفهم عنه حتى لا يتأثروا بدعوته ولا بالقرآن عند سماعه، وحتى لا يدخلوا في الإسلام، وأدلى كل واحد عن المجتمعين برأيه وبما بدا له، والقوم يسمعون، وبعد ذلك يتفقون على قول واحد ورأي واحد

ص: 101

يخرجون به من الاجتماع، وكون هو القول والرأي الذي يقال للحجاج، وبه يعودون إلى أهلهم وذويهم وشعوبهم فقائل قال نقول لهم إنه كاهن فرد عليه رئيس الجلسة ((الوليد بن المغيرة)) بقوله ما هو بكاهن، فقد سمعنا كلام الكهان فما هذا من ذاك، وقال أحدهم نقول إنه مجنون فرد عليه رئيس الجلسة بقوله ما هو بمجنون، قالوا نقول إنه شاعر، قال الرئيس لقد سمعنا الشعر وعرفناه، فما هذا بالشعر، وما هو بشاعر، قالوا نقول إنه ساحر فقال لهم عرفنا السحر وتأثيره، فما هو بساحر، ولما أعياهم البحث عن كلمة يقولونها للعرب في موسم الحج حتى لا يستجيبوا لدعوته، ولا يسمعوا منه القرآن خوفا من تأثيره في نفوسهم ولما لم يهتدوا إلى رأي يقع عليه الإجماع ويتفرقون عليه رجعوا إلى رئيس الجلسة وقالوا له - مستطلعين رأيه - فقال له القوم الذين هم معه في الجلسة فما تقول أنت يا عبد شمس؟ قال والله إن لقوله لحلاوة، ثم قال لهم، وما أنتم بقائلين فيه من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل!!! وأن أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بهذا الرأي والقول، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حتى قدموا في موسم الحج ليبلغوهم كلمة الجماعة، فلا يمر بهم أحد إلا حذروه منه وذكروا له أمره.

ص: 102

وهذا سبيل من سبل الدعاية، ولكن هل كان لها صدى في أوساط الحجاج؟ لا شيء من هذا وقع (وخسر هنالك المبطلون) وننظر الآن ما هو رد الفعل عن هذا الكذب والبهتان، من هذا الساعي في الأرض بالفساد والإلحاد، فقد أنزل الله فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، عقابا له من كذبه وافترائه على كلام الله، حيث أنزله لهداية البشر، كما أنزل فيه الأحكام والمواعظ والأخبار التي تفيد الإنسان في حياته كلها، وفي جميع الأطوار التي يمر بها هذا الإنسان الذي سيشقى إذا هو لم يعمل بالقرآن وبما جاء فيه، فقد جاء في حق هذا العدو لله وللرسول وللإسلام كما ذكره المفسرون، قوله تعالى:(ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا) إلى قوله تعالى: (ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر). سورة المدثر.

هذا هو تأثير القرآن في النفوس، وقصة تسلل البعض من كفار قريش - ليلا - منفردين إلى الاستماع لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم معروفة، فقد ذكر محمد بن مسلم بن هشام الزهري قال: حدثت أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس ابن شريق خرج ثلاثتهم ليلا ليستمعوا إلى القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل واحد منهم لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون إلى

ص: 103

الفجر، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق وتلاوموا، وقال بعضهم لبعض لا تعودوا، ولكنهم يعودون ليلا من غير أن يشعر الواحد منهم بصاحبه، وداوموا على هذا ثلاث ليال متتاليات، وذلك لتأثير القرآن في نفوسهم، فهم يخرجون ليلا خفية وبدون أن يعرف الواحد منهم ما يخفيه صاحبه، حتى لا يراهم عامة الناس والعبيد بالخصوص، وتعاهدوا في آخر الأمر فيما بينهم على الكتمان، حتى لا يفلت زمام الأمور من أيديهم وتضيع منهم القيادة نتيجة أعمالهم التي لم تكن مطابقة لأقوالهم ومواقفهم، فإن من يسمع القرآن يدخل قلبه، فيسلم من أجل تأثير القرآن في النفوس إذا سمعته سماعا خاليا من التعنت.

ومثل هذا ما سعى فيه المشركون عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين طلبوا منه أن لا يرفع صوته بقراءة القرآن في صلاة الليل، كي لا يقع القرآن في قلوبهم فيسرعوا إلى الإسلام بتأثير سماعهم لقراءة القرآن وكان أبو بكر رقيق القلب سريع التأثر والبكاء عند تلاوته للقرآن، ومشركو قريش لا يحبون سماع القرآن خوفا عن التأثر به والتأثير عليهم لهذا عملوا - بقوة - على منع المسلمين من رفع أصواتهم بالقرآن لذلك وفى هذه القصة ظهر ما قاوموا به القرآن حتى لا يتطرق إلى أسماع أبنائهم ونسائهم وعبيدهم، والقصة مذكورة في كتب السيرة، وهي من

ص: 104

نوع الحرب التي حاربوا بها الدعوة الإسلامية خوفا من انتشارها بينهم.

هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من آمن بالله والرسول والإسلام، وجد من المشركين هذا بالرغم من قوة قبيلته ((تيم)) في وسط المشركين، ومن أجلها لم ينله كثير العذاب الذي نال إخوانه المؤمنين، ولما ضيقوا عليه الخناق من أجل إسلامه حاول الخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة كما فعل ضعفاء الصحابة، وفي يوم من أيام تلك المحن التي أصابت المؤمنين خرج إلى الفضاء الواسع أين يجد حرية الدين والعبادة، وقصته مع ابن الدغنة (1) تبين ما أصابه.

فقد ذكر من كتب في السيرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لحقه من الأذى ما ألجأه إلى الهجرة فرارا بدينه وعقيدته، فخرج مرة من مكة مهاجرا إلى الحبشة، كما هاجر إليها ضعفاء الصحابة من قبل، فلقيه رجل من أهل مكة، له مكانة واعتبار في وسط القوم المشركين يقال له ((ابن الدغنة)) فقال له أين تريد يا أبا بكر؟ فقال له أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال له ابن الدغنة، مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على

(1) الدغنة بضم الدال والغين وفتح النون المشددة وككلمة وفيما غيرهما والأول أشهر.

ص: 105

نوائب الحق، إرجع في جواري، فأنا لك جار، واعبد ربك في بلدك، فرجع أبو بكر إلى مكة في جوار ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية بين قريش وأعلمهم بأنه جار لأبي بكر، وأبو بكر هو الآن في جواري، يريد بهذا الإعلام أنه في حمايته، فلا يعتدي عليه أحد، والجوار عند العرب معناه أن المجير - ولا يكون إلا رجلا قويا مهابا عزيز الجانب، وبذلك لا يستطيع أحد أن يمس من أجاره بسوء، خوفا من قوة المجير - يحمي المجار من كل أذى قد يصيبه.

ولما أجار ابن الدغنة أبا بكر قال له المشركون: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، وليصل فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، ورضيت قريش بجوار ابن الدغنة لأبي بكر، فهي قد تعهدت بأن تكف أذاها عن أبي بكر لأنه في جوار ابن الدغنة، وابن الدغنة.

هذا اسمه ربيعة ابن فريع، نسب لأمه الدغنة. هذه أم المؤمنين السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها تصف لنا هذا الجوار، قالت، لما أنفذت قريش جوار ابن الدغنة قالوا له مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، وليصل فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره، ففعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه هذا مدة، ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن،

ص: 106

فتقصف - ازدحم - عليه نساء المشركين وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، وذكروا له ما فعل أبو بكر حيث لم يلتزم بما جاء في جوار ابن الدغنة له، فقال ابن الدغنة له يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى جواري وذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في عقد رجل عقدت له (وخفر الجوار معناه نقض العهد وإبطاله من جانب واحد وهو الغدر في الذمة والحماية والجوار) فلما سمع أبو بكر من ابن الدغنة هذا ترك له جواره وحمايته والتجأ إلى الله يستجير به ويحتمي به ويلوذ بحماه، فقال له أبو بكر إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة.

إن ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول من الصحابة شيء كبير لا يثبت له إلا أقوياء الإيمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتر عن الدعوة إلى الله وتبليغ هذا الدين إلى من أرسل إليهم من لدن رب العالمين، وهو في عراك دائم ومستمر مع مشركي قريش، وبلا هوادة، ففي ذات يوم كان في عراك معهم وإذا بالصراخ يعلو بينهم، وعن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: أتى الصراخ آل أبي بكر فقيل له: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا

ص: 107

- وله غدائر (1) - فدخل المسجد وهو يقول (ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) فلهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبى بكر، قالت أسماء رضي الله عنها فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول (تباركت يا ذا الجلال والإكرام).

هذا نزر يسير مما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه من القوم المشركين ولا ننس أن الله حماهما من بطش مشركي قريش - كما تقدم - بحماية العم والقبيلة - تيم - ومع هذا فقد ذاقا من العذاب ما قرى عزمهما فلم يضعفا ولم يهنا كل هذا ليكون درسا عمليا للدعاة إلى الإسلام فلا يضعفوا أمام التهجمات على الإسلام والعقيدة من الجاهلين لهما، وقد عرفنا مبلغ تخوف المشركين على نسائهم وأبنائهم من سماع آيات القرآن تتلى وهم يسمعون، خشية أن يصل نوره إلى قلوب النساء والأبناء والعبيد.

ويذكرني موقف كفار قريش في العهد الجاهلي بموقف آو وقوف البعض من المشرفين (أو المسرفين) على تقديم برامج الإذاعة الجزائرية الصباحية، فإذا حان وقت إذاعة القرآن الكريم - على قلة وقت الحصة - بعد إذاعة موجز الأنباء في الساعة السادسة صباحا - طبعا - فإن المكلف يضع الصحن أو الشريط المسجل

(1) الغدائر جمع غديرة المظفور من شعر الرأس، وهي الذوائب.

ص: 108

عليه نصيب من القرآن فإذا شرع القارئ في التلاوة توجهت إليه القلوب والأفكار تتبع تلاوته وتتأمل بخشوع فيما تسمع وفجأة - وفي بعض الأيام يوقف المشرف على الإذاعة تلاوة القرآن، ويقول - من عنده - صدق الله العظيم، والمدة التي يسمح بها لإذاعة القرآن ربما لا تتجاوز الربع ساعة وأحيانا لا تصل العشر دقائق يفعل هذا ليفسح المجال للغناء السمج بعد الحديث الديني لوزارة الشؤون الدينية، فهل هذا المشرف أو المسرف من بقية، وهل هذا التصرف من ابتكاراته، أو هو مأمور به وما عليه إلا التنقيذ لا غير؟؟؟ أمر عجيب والله، ذلك ما يؤلم المؤمنين الذين يحبون الاستماع إلى القرآن كلام ربهم، وعلى كل حال وكيفما كان الأمر، فإنها - حقيقة - خيبة أو صدمة يتلقاها المؤمنون في الصباح الباكر من أيد لا يشعر حاملوها بتأثير كلام الله في نفوس سامعيه.

فعسى أن ينفعنا الله بما نسمع من كلام الله، أما كلام غيره من البشر فإن له بعض الآدمين وأشباههم تهفو قلوبهم وأسماعهم إليه وتهواه.

واعلموا أيها الناس ..... أنكم في شعب مسلم

أكثريته تؤمن بالقرآن وتحب سماعه، فلا تحرموها من سماعه، ولله في خلقه شؤون.

ص: 109