الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ» . أطرافه 2492، 2504، 2527 - تحفة 12211
2527 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا أَوْ شَقِيصًا فِى مَمْلُوكٍ، فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِى مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلَاّ قُوِّمَ عَلَيْهِ، فَاسْتُسْعِىَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» . تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ قَتَادَةَ. اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ. أطرافه 2492، 2504، 2526 - تحفة 12211
قال مولانا شيخُ الهند: إن هذه الترجمة دليلٌ على أن البخاريَّ وافق الإِمامَ الأعظم، وضع لفظ:«على نحو الكتابة» ؛ وهذا هو دعامةُ مذهب الحنفية، لأنهم اختلفوا في صِفة العبد حال الاستسعاء، فقال إمامُنا: إنه في حُكْم المكاتب؛ فركَّب المصنِّف هذه الترجمة من جملةِ الحديث، وتَفَقَّه الإِمام، والمسألةُ وإنْ مَرَّتِ من قَبْل، لكنَّ الظاهر أنه لم يُرِد التقويةَ إلا ههنا، فوضع لفظ «على نحو الكتابة» مع جملةِ الحديث، وهذا اللفظ قاله الإِمام أبو حنيفة، وإبراهيم النَّخَعي، فيتبادر منه أنه اختار مَذْهَبَنا أيضًا؛ فالعجب أن البخاريَّ وافق الإِمام في تلك المسألة، وخالفه صاحِباه.
6 - باب الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فِى الْعَتَاقَةِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، وَلَا عَتَاقَةَ إِلَاّ لِوَجْهِ اللَّهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَلَا نِيَّةَ لِلنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ.
2528 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِى عَنْ أُمَّتِى مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ» . طرفاه 5269، 6664 - تحفة 12896
الخطأ أن يَسْبق على لسانه شيءٌ مِن غير قَصْدٍ منه، نحو أراد أن يقول: سبحان الله، فجرى على لسانه: أَنْت حُرٌّ؛ وصورة النِّسيان نحو إنْ قال: والله لا أُطلِّقُ امرأتي، ثُم نسي أنه حلف به، فقال: امرأتي طالقِ، كذا ذكره في «البحر» ؛ وإلا فتصويرُ النِّسيان مُشْكِل ههنا. ثُم إنَّك قد عَلِمت فيما مرَّ مرارًا؛ أَنَّ الجهل، والنِّسيان، والخطأ عُذْرُ في فِقْه الأئمة في كثيرٍ من المسائل؛ واعتبره البخاريُّ أَزْيَدَ منهم، ولم يعتبِرْها الحنفيةُ إلا أقَلَّ قليل، ولو وَسَّع فيها الحنفيةُ أيضًا لكان أحسنَ، وهو الذي يُستفاد مِن نسق الشَّرْع، فإِنَّ سَطحه أَوْسع، وفِقْه الحنفيةِ أَضْيق، نعم ما وَسَّع به الإِمام البخاريُّ ليس بجيد أيضًا.
قوله: (ولا عَتَاقَة إلا لِوَجْه الله) لعلّه تعريضٌ إلى الحنفية، فإِنَّهم قالوا: إن قال: أَنت حُرُّ للشيطان، عَتَقَ عَبْدُه، قلت: إن أراد به أن العَبدَ لا يَعْتِق إلا أن يعتقه لوَجه الله، فليس بصحيحٍ، وإنْ أراد أنه أعتقه لغير الله، فإِنَّه لم يفعل فِعْل الإِسلام، فنحن لا نُنْكره أيضًا، بل نقول: إنه إن نوى بذلك العبادة، كَفَر أيضًا، فأَيُّ وِزْر يريدُ فوقه؟ ولم يُحْسن الشيخُ محي الدين النووي في
نَقْل مذهب الحنيفة، حيث يتبادر منه أَن الحنفية لا يبالون به، وَيَروْنه كعامَّة صِيغ العِتْق، مع أنك علمت أنه كُفْرٌ عندنا، أما تَمَسُّكُه بقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات» ، ولا نية للناسي، والمُخْطىء، فينبغي أن لا تُعتبر تصرفاتُه، فهو كما ترى. وقد مرَّ عليه البحثُ معنا مبسوطًا: إن الحديثَ لم يَردِ في صِحَّة الاعمال، وفسادِها أَصْلا، وإنما ورد في بركة الأعمال، ونمائها؛ فكونُ النية شَرْطًا للصِّحة خارجٌ عن مفهوم الحديث، وإذن التمسك به غيرُ تامّ.
2528 -
قوله: (إنَّ الله تجاوَزَ [لي] عن أمتي ما وسْوَسَت به صدُورُها ما لم تَعْمل أو تتكلّم) وقد مرَّ عليه الطحاوي في «مُشْكلة» على نظيره، واختار فيه النَّصْبَ، ولم يجعل النفس فاعِلا، فيكون ههنا أيضًا النصب؛ وترجمته:"جوابنى سينون مين وسوسه دالين"
(1)
.
واعلم أنه قد سَبَق إلى بَعْض الأَذهان أَنَّ العَزْم
(2)
على المعصية أيضًا عَفْوٌ، كسائر مراتب الوَسْاوس، نظرًا إلى ظاهر هذا الحديث، لأنه وَرَد في صَدْره ذِكْرُ الوَسْاوس، ثُمَّ بلغ إلى عَمْل
(1)
في "المعتصر": وذُكر من طُرُق، وأنفسَها بالنصب على معنى حدثتها به من غير اختيارها إياه، ولا اجتلابها له منها؛ ومما يَدُلُّ عليه أيضًا ما رُوي أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، إنَّ أحدنا يُحدِّث نفسه بالشيء، لأن يكون حممة، أحبّ إليه مِن أن يتكلم به، فقال:"الحمد لله الذي لم يقدره مِنْكم إلَّا على الوسوسةِ، قالوا: وإنْ كان قد قيل فيه: إنَّ أحدَنا يُحدِّثُ نَفْسه، أو إنا نحدِّثُ أنْفُسنا". كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم هو المعتمد عليه، وإليه قصدنا، وهو ما ذكره عنه ابن مسعود:"ذلك صَرِيحُ الإِيمان"، وفي الحديث دليل على صِحَّة النصب، وهو قوله:"تجاوز اللهُ". والتجاوُز لا يكونُ إلَّا عمَّا لو لم يتجاوز عنه. لَعُوقِبوا عليه؛ وذلك مما يُعْقل أنه لا يكون مِن الخواطر المَعْفُوِّ عنها، بل إنَّه من الأشياء المجتلبة بالهم بها؛ فالوجه أنه على ما يهُم به العبد من المعاصي ليعمَلها، فتجاوز الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ذلك، فلم يؤاخذهم به، ولم يعاقبهم عليه؛ ومن ذلك ما رُوي مرفوعًا: قال الله عز وجل: "إذا همّ عبدي بحسنة" الحديث، فانتفى ما قال أهْلُ اللغة:"أَنْفُسُها" بالرفع، اهـ مختصرًا.
(2)
قال الشيخ بدر الدين العَيْني: والذي عليه الجُمهور انَّ مَن نوى المعصيةَ، وأصرّ عليها يكون آثِما، وإن لم يعملها، ولم يتكلم بها، قلت: التحقيق فيه أنَّ مَن عزم على المعصية بِقَلْبه، وَوطَّن نفسه عليها، أَثِم في اعتقاده وعَزْمه، ولهذا جاء بلفظ: الحِرْص فيه -أي في حديث التقاتل؛ أنه كان حريصًا على قتل صاحبه-، ويحمل ما وقع مِن نحو قوله عليه الصلاة والسلام:"إن الله تجاوز لأُمتي"
…
الخ. وفي الحديث الآخر: "إذا همّ عبدي بسيئةٍ، فلا تكتبوها عليه، إنَّ ذلك فيما إذا لم يُوطِّن نَفْسَه عليها، وإنما مرَّ ذلك بِفِكْره من غيرِ استقرار، ويسمى هذا هَمًّا، وإنْ عزم تُكتب سيئة، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، انتهى مختصرًا، بتغيير. قلت: وأوضح منه ما قال صاحب "المدارك": لا تدخل الوساوس، وحديث النفس فيما يخفيه الإِنسان، لأن ذلك مما ليس في وُسعه الخُلُو منه، لكن ما اعتقده، وعزم عليه.
والحاصل أن عَزْم الكُفْر كُفْرٌ، وخَطرة الذُّنوب من غيرِ عزم مَعفوة، وعَزم الذُّنوب إذا نَدِم عليه ورجع عنه، واستغفر منه، مغفورٌ. فأما إذا هِمَّ بسيئةٍ، وهو ثابت على ذلك، إلا أنه مُنع عنه بمانع ليس باختياره، فإِنَّه لا يُعاقب على ذلك عقوبةَ فعله، أي بالعَزم على الزِّنا لا يُعاقب عقوبةَ الزِّنا؛ وهل يُعاقب عقوبةِ عَزم الزِّنا؟ قيل: لا، لقولِه عليه الصلاة والسلام:"إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل، أو تتكلم به، والجمهور على أنَّ الحديثَ في الخطرة دون العَزم، وأن المؤاخذةَ في العَزم ثابتةٌ، وإليه مال الشيخُ أبو منصور، وشمس الأئمةِ الحلواني؛ والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] الآية وعن عائشةَ: ما همَّ العبدُ بالمعصيةِ مِن غيرِ عمل يعاقب على ذلك مما يلحقه من الهِمِّ والحزن في الدنيا، اهـ. من أواخر سورة "البقرة".
الجوارح بالطفرة، وتَرَك العَزْم من البَيْن، فتردد فيه النظر؛ أنَّه داخِلٌ تحت حُكْم الغاية، أو المُغَيَّا؟ فذهب بَعْضُهم إلى أنه عَفْوٌ، وتَوهَّم أنه داخِلُ في حُكْم المُغَيا؛ وهذا باطل قطعًا، كيف وإنه إذا لم يُذكر له حُكْمٌ في الحديث نصًا، فما الدليلُ على أنه داخِلٌ تحت حُكْم المَغيَّا؟ لِمَ لا يجوز أن يكون داخِلا في حُكْم الغاية، ويكون المعنى ما لم يَعْمل أو يتكلَّم أو يَعْزِم.
وإنما يَحْدُث الإِشكالُ في مِثْل هذه المواضع، لأن الحديث قد لا يكون حاويًا على جميع الشقوق، فيأتي واحدٌ منهم، وتعتريه به عجلةٌ، فيزعمه حاويًا على جمعيها، ثم يستنبط منه حُكْمًا للشِّقَّ المسكوتِ عنه أيضًا حسب زَعْمه، فيقع في مناقضةٍ من التواتر من فِعْله. وهذا ظُلْمٌ وتعسُّف، فإِنَّ مَنْشأه ليس إلا ظِنُّه الفاسد، أو العجلةُ التي أخذته؛ كما رأيت في الحديث المذكور، أنه لم يتعرَّض إلى العَزْم، وإنما بيّن حُكم سائر الوساوس، فكبُر على بَعْضِهم أن لا يكون له في الحديث حُكْم، فجعله حاويًا على جميع الشُّقوق، ثُم أخذ منه حُكْم العَزِم أيضًا، لكونه من متناوَلاتِ الحديثِ على ظَنِّه، فحكم عليه بكونِه عَفْوًا، مع أن المعروف عند الشَّرْع خِلافُه، وجماهير العلماء قد ذهبوا إلى المؤاخذةِ عليه أيضًا.
ثم المشهور في شَرْح الحديث؛ أنَّ الوَساوسَ لا تخلو إمَّا أن تقع فيما يكون مِن جنس الأقوال، أو الأفعال؛ فإِنْ كانت من النَّحْو الأَوَّل، فإِنَّها لا تُؤخذُ بها حتى تتكلَّم؛ وإن كانت من الثاني فأيضًا كذلك، إلا إذا عَمِل بها؛ وحينئذٍ لا تُكْتب لكُلِّ نوع منهما إلا معصيةٌ واحدةٌ.
وقد كان خَطَر ببالي شَرْحٌ آخر، فَعَرَضْتُه على مولانا شيخ الهند، وهو أنَّ ما كان من قبيل الوساوس إذا بلغ إلى حَدِّ العمل فَعَمِل به، ثُم تكلَّم، فإِنَّه اقترف مَعْصِيتين: معصيةً للعمل؛ ومعصيةً أُخْرى للتكلُّم بها، وهذه مغايرةٌ للأُولى، وذلك لأن الله تعالى قد أَمَرَه بِسِتْرها، فإِنَّ الله تعالى لا يُحِبُّ الجَهْر بالسواء، إلا مَنْ ظلم، فلما افْتَات عليه، وجَهِر بها، استحق أَن تُكْتب له معصيتان، وحينئذٍ مرادُ الحديث أَنَّ الوَساوِس مَعْفوُّ عنها، إلا إذا عَمِل بها، فإِنها تُكتب له معصية، فإِنَّ تكلَّم بها تُكْتب له معصية أُخرى، لكونها أَحْرَى بالتستُّر. فهذا تَجَاسُرٌ منه، ووقاحةٌ بَيِّنةٌ، فما أليقَ بأن تُكتب له معصيتان: معصيةٌ للعمل، ومعصيةٌ للتكلُّم؛ وعلى هذا التقرير تتعلق معصيتان على ارتكاب أَمْرٍ واحد، الأُولى لاقترافِه سيئةً، ومعصيةٌ أخرى للتكلم. ولعلك عَلِمت الآن الفَرْق بين الشَّرْحين، وأن الحديث ساكتٌ عن حُكْم العَزْم، لا أنه مَعْفُوُّ عنه، كما زعم.
هذا ما سمعت في العزم الذي هو من مبادىء أفعال الجوارح؛ وأما العَزْم الذي لا يتعلَّق بأفعال الجوارح، بل هي من معاصي القلب، كالعَزم على الأخلاق الفاسدة نحو: الحِقْد، والكِبْر، فتؤاخذ عليها أيضًا، إلا أنها ليست مذكورةً في هذا السياق، ولم يتعرَّض إليها الحديث أَصْلا؛ وإنما الحديثُ في الوَساوس التي تَقعُ مبادىءَ لأفعال الجوارِح، كالزِّنا، والسَّرقة، فإِنَّهما من أفعال الجوارح قطعًا؛ وهذه الوساوس من مبادئها، ألا ترى أنَّ الإِنسانَ إذا تمنى فاحشةً تتحدَّثُ بها نفسه أولا، وقد تَخْطُر بباله، وأُخْرى تَهْجِس في نفسه هَجْسًا، وقد
يَعْزِم عليها، ثُم إن غلبت عليه الشِّقْوة، وسبق القَدَر، فَقَد يَقْتَرِفها أيضًا، والعياذ بالله، فهذه الوَساوسُ هي التي وَرَدَ فيها الحديثُ، أما العَزْم على معاصي القَلْب نحو الأحقاد والضغائن، والشُّكوك في أَصْل الدِّين، فهذه الأفعالُ كلُّها ليست من الجوارح، بل أفعالُ القلب، فلم يَردِ فيها الحديثُ رأسًا؛ نعم، ومِن الأشياءِ ما تكون من أفعال الجوارح أولا، ثُم تصيرُ آخِرًا من أفعال القلب، كالانتقام لمظلمة. فإِنَّ الإِنسانَ يجتهد فيه مهما أمكن، فإِذا عَجَزَ عنه القلب حِقْدًا، فهي أيضًا داخلة في الأفعال القَلْبية آخِرًا. ومن ههنا عَلِمت السَّرَّ في عدم تَعَرُّض الحديث لهذا النحو من العَزْم، وهو أن الحديث إنما ورد في مبادىء أفعالِ الجوارح فقط، أما العَزْمُ على الأفعال القَلْبية، كالأخلاقِ الفاسدة، فليست من مبادىء أفعال الجوارح، كما علمت، بمعنى أنها لا تقع في مبادئها، فإِنَّها تقتصر على الباطن فقط؛ بخلاف النحو الأول، فإِنها تَنْبعث من الباطن، وتتقوَّى شيئًا فشيئًا حتى تُسخِّر الظاهِرَ أيضًا، فيتابعها تارة، ويركب تلك المعصية.
والحاصل أنَّ الحديث ورد في الوَساوِس التي تكون مبادىءَ لأفعالِ الجوارح، وسكت عن حُكم العَزْم عليها؛ وأما حُكْم سائر العزْم، ممَّا لا تعلُّق لها بتلك الأفعالِ، فهي خارجةٌ عن سياق الحديث.
ثم نُلقي عليك شيئًا لتفصيل المسألة، وهو أن مَرائِبَ القَصْد خَمْسٌ، ضَبَطَها بعضُهم في هَذين البيتين:
*مراتِب القَصْد خَمْسٌ: هاجسٌ ذكروا
…
فخاطِرُ، فحديث النَّفس، فاستمعا
*يليه هَمٌّ، فَعَزْمٌ، كلُّها رفعت
…
سوى الأخير، ففيه الأَخْذُ قد وقعا
فالخاطِر اسمٌ لما يَخُطُر ببالك، ولا يكون له استقرارٌ في الباطن؛ فان استقرَّ شيئًا يقال له: الهاجِس، وإن استقرَّ ولم يخرج، ولكن لم يترجح أحدُ جانبي الفِعْل، أو الترك عندك، يقال له: حديثُ النَّفس، فإِنَّ ترجَّح، وتَرَدَّدت فيه النَّفْسُ، فَهُمٌّ؛ وإن أَجْمَعَتْ عليه، فعزمٌ. ثُم إنَّ الثلاثةَ الأُوَل عَفْوٌ في طَرَفي الطاعة والمعصية، فلا ثوابَ عليها، ولا عقاب، أما الهُّم فهو عَفْوٌ في جانب المعصية، ومُعتبرٌ في جهة الطاعة.
بقِي العَزْم، فإِنَّه مُعتبر في الجهتين؛ ومَنْ ظنَّ أَنه عَفْوٌ لهذا الحديث فقد غَلِط. لا أقولُ: إنَّ العَزْم على المعصيةِ، كالعمل بها يعينه، بل هو دونه؛ فثوابُ العَزْم على الطَّاعة أَدْونُ من ثواب العمل بالطاعة، وكذا عِقاب العَزْم على المعصية، أَخفُّ من العمل بالمعصية. ثُم العَزْم إنْ بلغ إلى حَدِّ العمل حتى عُمِل بموجَبِه، فإِنْ كان على الطاعة تُكْتب له عَشْرُ حسنات، وإن كان على المعصيةِ لا تُكْتب له إلا سيئةٌ، وإنْ لم يبلغ إلى حَدِّ العمل، فإِنْ كان على الطاعة تُكْتب له طاعةٌ واحدةٌ، وإن كان على المعصيةِ تُكتب له معصيةُ العَزْم لا غير، فإِنْ كَفَّ عنها خَوْفًا من رَبِّه تُمحى عنه مَعْصيةُ العَزْم، وتُكْتب حسنةٌ مكانها، كما يُعلم مما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: قال الله تعالى: {إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنةً فأنا أَكْتُبها له حسنةً ما لم يعمل فإِذا عَمِلها فأنا أَكْتُبِها بِعَشْرةِ أمثالها إلى أن قال في السيئة وإنْ تركها فاكتبوها له حسنةً إنما تركها مِن جَرَّائي"
اهـ، أي من أجْلي، والمرادُ من التَّرْك تَرْكُه
(1)
باختياره.
وحاصلُه أنه إذا مَنَعَتْهُ عن ارتكاب السيئةِ عظمةُ رَبِّه، وخشيتُه، تُمْحى عنه معصيةُ العَزْم، وتُكتب له حسنةٌ أُخرى، ويُعد ذلك توبةً، وأما إذا تركها لموانعَ سماويةٍ، فلم يُذْكر أَمْرُه في الحديث، ويُستفادُ مما عند مسْلم أنه لا تُمحى عنه سيئةُ العَزْم، وتبقى مكتوبةً عليه، كما كانت؛ فإِنَّ الوَعْد إنَّما هو على تقدير تَرْكه من أجل عظمة الربِّ؛ أما تَرْكِه لعجزه، فلا يُوجِب أجرًا، ولا مغفرة، فيبقى عليه إثْمُ العَزْم على المعصيةِ. ثُم لا يخفي عَليْك أنَّ المرادَ بحديث النَّفْس - في حديث مُسْلم - هو مَرْتبة الهَمِّ، لما علمت أَنَّ مرَتبةَ حديث النفس غيرُ معتبرة في جانبي الطاعة والمعصية، وإطلاق إحدى المراتب على الأخرى معروفٌ، والتوسُّع في اللغة معلومٌ، والله تعالى أعلم.
2529 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىِّ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . أطرافه 1، 54، 3898، 5070، 6689، 6953 - تحفة 10612 - 191/ 3
2529 -
قوله: (فَمَنْ كانت هِجْرَتُه إلى الله وَرَسُولِه)
…
الخ، قد سبق الكلامُ في مزايا الحديث في اوَّل الكتاب، وقد نبهت هناك أني لا أدري ما السرُّ في حَذْف المصنِّف هذه القطعةَ من الحديث.
واعلم أن في إسنادِه عَلْقمةَ بن وقَّاص، كما ترى، وقد سها فيه الشيخُ علاء الدين، حيث قال: إنَّه عَلْقمةُ ابنُ قَيْس؛ وهذا كما وقع السَّهو من الحفاظ في قَصَّه رَجْم اليهوديِّ، أنها في السنة التاسعة، والصواب أنها في الرابعة، كما عند القَسْطلاني، وكذا الصحابيُّ فيها عبدُ الله بن أبي أوْفَى، وجعله عبد الله بن عباس، وهذا أيضًا ليس بصحيح، ويقضي العجب من مِثْل الحافظ أنه كيف رَكِبَ الأغلاطَ التي في فَنِّ الحديث، مع كونه أَحْفَظَ أهلِ عَصْره في الحديث والرِّجال، والرَّجُل إذا أتى بالأغْلاط في فَنِّه عيِّر عليه، أما إذا لم تكن من فنِّه فلا عارَ عليه؛ كما في «تدريب الراوي» في حقِّ أبي بكر بن أبي شَيْبة، وعثمان بن أبي شَيْبة، أنهما لم تكن لهما مزاولة كثيرةُ بالقرآن، فقرأ (عثمان) مرةً في المجلس سورة الفيل فتلفظ بحرف الاستهام؛ وحرف الجَحْد، كالمُقطعات، هكذا: ألف، لام ميم ترَ كيف، فَقِيل له، فأجابه: إني لا أقرأ قراءةً عاصم وهكذا ابنُ شاهين، فإِنَّه لم يكن يَعْلَم الفِقْه أصلا.
(1)
قال الخَطابي: مَحَلُّ كتابةِ الحسنات على التَرْك، أن يكون التارِكُ قد قدَرَ على الفعل، ثُم تركه، لأن الإِنسان لا يُسمَّى تارِكًا إلا مع القدرةِ، ويدخل فيه مَنْ حال بينه وبين حِرْصه على الفِعْل مانِعٌ، كأن يمشي إلى امرأةِ ليزني بها مثلًا، فيجد البابَ مُغْلقًا، ويتعسَّر فَتْحُه، ومَنْ تمكَّن من الزِّنا مثلًا، فلم ينتشر، أو طرقه ما يخاف من أذاه عاجلًا، اهـ.