الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان مشبَّهًا بالجنة والنار، ولكنه يُطْلَقُ عليه الجنة والنار. وهذا ما قلتُ: إن الضميرَ في قوله تعالَى يَرْجِعُ إلى المسيحِ عليه الصلاة السلام نفسه، فإن شَبَهَ المسيح لا يُقَالُ له إلَاّ المسيح عليه الصلاة والسلام، وقد قرَّرناه مبسوطًا فيما مرَّ.
قوله: (فالتي يَقُولُ: إنَّهَا الجَنَّةُ هِيَ الناَّرُ)، يحتملُ أن يكونَ معناه: من يَدْخُلُ جنته يكون مآله إلى النار، ويحتملُ: أنه من يَدْخُلُ فيها يَحْتَرِقُ ويَمُوتُ.
5 - باب
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129)} [الصافات: 123 - 129]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُذْكَرُ بِخَيرٍ. {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)} [الصافات: 130 - 132].
يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِليَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ.
قوله: (قال ابن عبَّاس: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ): "نيك نام" تفسيرٌ لقوله: ({وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)})
…
[الصافات: 129 - 130] إلخ، ويُذْكَرُ عن ابن مسعود، وابن عباس: إن إلياسَ هو إدريسُ.
واعلم أن ههنا مقامين: الأوَّلُ: في الترتيب بين إدريس، ونوح عليهما السلام. فقيل: إن إدريسَ عليه الصلاة والسلام نبيٌّ متأخِّرٌ عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ لا يَجِبُ كونه من أجداد النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقيل: إنه متقدِّمٌ عليه. ولمَّا كان نوحُ عليه الصلاة والسلام من أجداد النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان إدريسُ عليه الصلاة والسلام المتقدِّم عنه من أجداده صلى الله عليه وسلم بالأَوْلَى. والمصنِّفُ أخَّر ذكرَه عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام بناءً على كونه بعده، وحينئذٍ لا يَلْزَمُ أن يكونَ من أجداده صلى الله عليه وسلم ولكن يُشْكِلُ عليه ما في نسخة الباريِّ لابن عساكر. «وهو جدُّ أبي نوحٍ، أو جدّ نوحٍ» ، فإنها تَدُلُّ على كون إدلايسَ عليه الصلاة والسلام متقدِّمًا على نوحٍ عليه الصلاة والسلام، لكونه من أجداده. ووضْعُهُ في التراجم بعد نوحٍ عليه الصلاة والسلام، يَدُلُّ على كونه متأخِّرًا عنه، فلا يكونُ من أجداده.
قلتُ: لو ثَبَتَتْ نسخة ابن عساكر من جهة المصنِّف. وَجَبَ أن تكونَ تجرمةُ إدريس عليه السلام متقدِّمةً على نوح عليه الصلاة والسلام، لكونه من أجداده على هذه النسخة.
إلَاّ أن يُقَالَ: إن المصنِّفَ اتَّبَعَ ف يترتيب التراجم القول المشهور عند الناس من تقدُّم نوحٍ عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر رجحانه إلى تقدُّم إدريس عليه الصلاة والسلام، وأشار إليه بقوله:«وهو جَدُّ نوحٍ عليه الصلاة والسلام» . وهكذا فَعَلَ في «المغازي» أيضًا.
والمقام الثاني: أن إدريسَ، وإلياسَ عليهما الصلاة والسلام، هل هما نبيَّان، أو
اسمان لنبيَ واحدٍ، كما يَدُلُّ عليه قول ابن مسعود، وابن عبَّاس؟ والجمهور على أنهما نبيَّان، فإن إدريسَ عليه الصلاة والسلام نبيٌّ قبل نوحٍ عليه الصلاة والسلام، وبعد شيث عليه الصلاة والسلام. وأمَّا إلياسُ عليه الصلاة والسلام، فهو نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، بعد موسى عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ وَجَبَ تأويل قول ابن مسعود، وابن عباس: إن إلياسَ هو إدريسُ عليهما الصلاة والسلام. فقيل: إن ابن عباس فسَّر قراءةً أخرى فيه، وهي {سلام على إدراسين} وكان قوله: هكذا إن إدراس هو إدريس، فسُومِحَ فيه. وقيل: إن إلياسَ هو إدريسُ، مكان إدراس.
وقيل: إن لهذين اسمان متبادلان، يُطْلَقُ أحدهما على الآخر، فيقال لإِدريسَ: إلياس أيضًا عليهما الصلاة والسلام، وبالعكس، على أن اسمَ أحدهما لقبٌ للآخر، فإِدريسُ عَلَمٌ له، ولقبُه إلياسُ عليهما الصلاة والسلام، وكذا العكس، فهما مشهوران بِعَلَمَيْهِمَا، وأَطْلَقَ ابن عباس باعتبار اللقب.
وقال الشيخُ الأكبرُ: إن إدريس وإلياس نبيٌّ واحدٌ عليه الصلاة والسلام. وقال في «الفصوص» : إن إدريسَ عليه الصلاة والسلام كان نبيًّا حين رُفِعَ، ثُمَّ إذا نَزَلَ، وقد جَعَلَه اللَّهُ رسولًا، سُمِّي بإِلياسين، فهو نبيٌّ واحدٌ في النشأتين، كعيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا يَدُلُّ على أنه ذَهَبَ إلى وَحْدَتِهِمَا. وناقضه في مواضعَ عديدةٍ، حين ذَكَرَ الذين اشتهرت حياتُهم، وذكرهم أربعة، إدريس، وإلياس، وعيسى، والخَضِر عليهم الصلاة والسلام، فَدَلَّ على تغايُرِهِمَا عنده. وتأوَّله بحر العلوم أنهما اثنان، باعتبار العُهْدَةِ، لكونه نبيًّا قبل الرفع، ورسولًا بعد النزول، وأمَّا باعتبار الشخص، فواحدٌ.
ثم إن الشيخَ الأكبرَ تمسَّك بقوله: «مرحبًا بالنبيِّ الصالح، والأخ الصالح» ، في ليلة المعراج، على عدم كونه من أجداد النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإلَاّ لَقَالَ: بالابن الصالح.
قلتُ: وهو غيرُ تامَ، فإنه لم يُخَاطِبْهُ بالابنيَّة أحدٌ منهم غير آدم، وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، تنبيهًا وتعظيمًا لأمره، أمَّا آدمُ عليه الصلاة والسلام، فقد كان أبا البشر، فما له إلَاّ أن يَدْعُوَه بالابن. وأمَّا إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام، فإنه أراد إشاعةَ هذه النسبة من قبله، وفي الحديث:«إني دعوة أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام»
…
إلخ. وأمَّا غيرُهُما، فاكتفوا في المخاطبة بالأخوَّة العامة، «فإن الأنبياءَ عليهم السلام إِخْوَة لِعَلَاّتٍ، إلى آخر الحديث، وكلُّهم بنو آدم، فصَحَّت الأخوَّة بلا ريب.
والذي تبيَّن لي أنهما نبيَّان قطعًا، ومن ظَنَّ أنهما واحدٌ، فقد نَظَرَ إلى شهرة رفع إدريس عليه الصلاة والسلام في أهل الإِسلام، وشهرة رفع إلياس عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل، فركَّب من مجموع ذلك الاتحاد، وإلَاّ فهما نبيَّان.