المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرجال أم المال - مجلة المنار - جـ ٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (3)

- ‌غرة ذو القعدة - 1317ه

- ‌فاتحة السنة الثالثة

- ‌التعصب

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌دار علوم في مكة المكرمة

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌منثورات

- ‌11 ذو القعدة - 1317ه

- ‌الجنسية والديانة الإسلامية

- ‌مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح

- ‌كلمة للمؤرخين

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌21 ذو القعدة - 1317ه

- ‌الكتب العربية والإصلاح

- ‌نجاح التعليم في الأزهر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌غرة ذو الحجة - 1317ه

- ‌إعادة مجد الإسلام

- ‌التعليم في الأزهر الشريف

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌استماحة وتهنئة

- ‌21 ذو الحجة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مدرسة زعزوع بك للبنين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة المحرم - 1318ه

- ‌الوحدة العربية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تأسيس فرعي سمالوط ومعصرة سمالوطلجمعية شمس الإسلام

- ‌سيرة المرحوم عثمان باشا الغازي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌11 محرم - 1318ه

- ‌الدنيا والآخرة(2)

- ‌فرنسا والإسلام

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌21 محرم - 1318ه

- ‌الترك والعرب

- ‌الدين والدنيا والآخرة(3)

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة صفر - 1318ه

- ‌الترك والعرب

- ‌التعليم النافع

- ‌السنوسي وأتباعه

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثانى

- ‌11 صفر - 1318ه

- ‌الحركة الإسلامية الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم المفيد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار والآراء

- ‌21 صفر - 1318ه

- ‌أوروبا والإصلاح الإسلامي

- ‌نصيحة أمير أفغانستان إلى ولده وولى عهده

- ‌هانوتو والإسلام

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌غرة ربيع الأول - 1318ه

- ‌القضاء والقدر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ختام درس المنطق للأستاذ الأكبر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌11 ربيع الأول - 1318ه

- ‌الاحتفال الأولبامتحان مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 ربيع الأول - 1318ه

- ‌المشروع الحميديُّ الأعظم

- ‌مدرسة جمعية شمس الإسلام في الفيوم

- ‌القديم في الحديث والأول في الآخر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌السؤال والجوابعن حل طعام أهل الكتاب

- ‌غرة ربيع الثاني - 1318ه

- ‌هانوتو والإصلاح الإسلامي

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المشروع الحميدي الأعظم

- ‌11 ربيع الثاني - 1318ه

- ‌محبة الله ورسولهفي إعانة السكة الحديدية الحجازية

- ‌الشعر العربي

- ‌قصيدة الجزائر

- ‌الاحتفال الثاني عشربمدرسة ديروط الخيرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 ربيع الثاني - 1318ه

- ‌الشعر العربي

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادىالأولى - 1318ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ملاحظة على مقالة الشعر العربي

- ‌أُفْكُوهَة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌11 جمادى الأولى - 1318ه

- ‌ميزان الإيمان وسلم الأمم

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 جمادى الأولى - 1318ه

- ‌الدعوة حياة الأديان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مكتوب من بعض بلغاء مصرلسماحة أبي الهدى

- ‌ البدع والخرافات

- ‌1 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌الدعوة وطريقها وآدابها

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قسم الأحاديث الموضوعة والمنكرة(1)

- ‌التبرك وشفاء الأمراض

- ‌الموالد والمواسم

- ‌التهتك في مصر وتلافيه

- ‌11 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌الرجال أم المال

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قسم الأحاديث الموضوعة(2)

- ‌ الموالد والمواسم

- ‌21 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌أسباب وضع الحديث واختلافه(1)

- ‌البدع والخرافات

- ‌غرة رجب - 1318ه

- ‌العلم والجهل

- ‌الشوقيات

- ‌البدع والخرافات

- ‌11 رجب - 1318ه

- ‌الحكومة الاستبدادية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌البدع والخرافات

- ‌21 رجب - 1318ه

- ‌الحكومة الاستبداديةتتمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌فخر نساء العرب

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌البدع والخرافات

- ‌مقاومة التهتك والدجل والبدع

- ‌غرة شعبان - 1318ه

- ‌الإسلام وأهله

- ‌نموذج من كتاب أسرار البلاغة

- ‌الشعر العصري

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌مسيح الهند

- ‌الإفراط والتفريط

- ‌16 شعبان - 1318ه

- ‌الطاعون والفأر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في مدارس الحكومة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌ الموالد والمواسم

- ‌الأحاديث الموضوعة

- ‌رد مسيح الهند على الطاعنين

- ‌غرة رمضان - 1318ه

- ‌مسألة زيد وزينب

- ‌حكمة الصيام

- ‌القسم الأدبي

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1318ه

- ‌عقوبة الإعدام

- ‌محاورة الماء والنار في توليد البخار

- ‌إلى الله المشتكى

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الجامع الأزهر

- ‌عيد جلوس الخديوي المعظم

- ‌الأحاديث الموضوعة

- ‌غرة شوال - 1318ه

- ‌كتب المغازي وأحاديث القصاصين [

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌وعظ رمضان والمسجد الحسيني

- ‌16 شوال - 1318ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المرأة الجديدة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌خاتمة سنة المنار الثالثة

الفصل: ‌الرجال أم المال

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الرجال أم المال

الخلاف في أن الإصلاح يتوقف أولاً على الرجال الكاملين أو على

المال. أماني طلاب المال للأصلح. وصف ثلاثة نفر من المصلحين. أماني

بعض الأغنياء البخلاء في الإصلاح. شبهة وجوابها. تضييع ما ترك السلف.

الأزهر. مدرسة خليل أغا. الحسينية. المصلحون ما كانوا أغنياء. لوثر. بوكر

واشنطون. السيد جمال الدين. السيد أحمد خان. وعد مؤكد ومؤجل.

قلنا في مقالة سابقة: إننا إذا ارتقينا في الأسباب التي تحتاجها الأمة لصلاحها

وفلاحها ننتهي إلى السبب الأخير الذي يجب أن يكون أولاً حتى إذا كان يكون به

كل مراد وتوجد به كل رغيبة وتحقق به كل أمنية، وهو الرجال الذين لهم علم

صحيح بمصلحة الأمة الحقيقية ، ومعارج ترقيتها الصورية والمعنوية ، وعزيمة

ماضية وإرادة قوية. تبعث على القيام بالأعمال الاجتماعية ، والثبات في سبيل

المصلحة الملية. لا يصدهم عن ذلك صد ، ولا يقفون من سيوف القواطع عند حد.

كتبنا هذا الرأي وعرضناه على من نذاكرهم ونباحثهم مشافهة في مسائل

الإصلاح الذي تحتاجه الأمة فوافقنا فيه بعضهم ، وارتأى آخرون أن السبب الأول

الذي يجب أن يكون قبل كل شيء وبوجوده يوجد كل شيء هو المال ، وهذا هو

الذي يلهج به الأكثرون من المتكلمين في الإصلاح ، والذين توجهوا للعمل بزعمهم

ولكنهم لم يعملوا لأن أيديهم لا تصل إلى المال الكافي للقيام بالعمل الذي يتخيلونه ،

ويشبه أن يكون هذا في الغالب من الأعذار التي يعذر بها الكسالى أنفسهم والتعلات

التي يتعلل بها المغرورون الذين يصور لهم الوهم أنهم من أئمة المصلحين ، ولكن

حيل بينهم وبين ما يشتهون ، ولو ساعدهم الناس بالأموال ، ودانت لهم المصاعب

والأهوال؛ لنهضوا بالأمة نهضة الأسد الرئبال ، وعملوا من غرائب الإصلاح ما لا

يخطر على بال. تلك أمانيهم وأحلامهم. ووساوسهم وأوهامهم. وكل من تراه في

بطالة وكسل ، أو حيرة وغمة لا يهتدي معهما للعمل؛ فاعلم أنه ليس من الرجال ،

ولا تعلق به أملاً من الآمال ، وإن أغدقت عليه سحب الأموال.

نعم إن صاحب العرفان والإرادة عندما تتوجه نفسه للإفادة؛ يرى أن جلائل

الأعمال إنما يستعان عليها بالمال. ولكنه لا يطمع نفسه بالمحال. ولا يطلب بسببه

ما لا ينال. وإنما يرد أقرب الموارد ، ويسلك أمثل الطرق. ويدخل البيت من بابه

ويضع الأمر في نصابه. ولقد رأيت مصلحًا حقيقيًّا طلب مبالغ كبيرة من المال

رأى أن الإصلاح يتوقف عليها فأصابها ، ولكنه لو وجد بضعة رجال على مذهبه

لأمكنه أن يعمل بهم من الإصلاح أضعاف ما عجزت عنه تلك الألوف من الجنيهات.

وأعرف رجلاً آخر محبًّا للإصلاح أعوزه المال فطلبه من طريقه الطبيعي ،

ولما يصب الحظ الذي يمكنه مما يريد ولنا الرجاء أن سيصيبه. ويكون منه

للإصلاح نصيبه. ومن المصلحين من يعمل بمال قليل يستدره بعمله ، وإذا استعان

فإنما يستعين بمال أبيه ومرشده ومربيه على أن أنفع الأعمال لا ضرورة فيه

للمال ، وهو ما يعرفه أهله.

ومن الناس من يملك الألوف من الدنانير ويقول: آه لو كان لي في السنة

عشرون ألف جنيه أو خمسون ألف جنيه لفعلت وفعلت ، ومنهم من يملك عشرات

الألوف ويزعم أنها لا تقع موقعًا من كفايته ولو بلغت مئات الألوف لأحيا البلاد.

وأسعد العباد. فهؤلاء هم الذين يقولون ما لا يفعلون. ويقطعون أعمارهم بالتمني

وربما كانوا لا يشعرون. ومن لا يعمل بالنزر اليسير؛ لا يعمل بالجم الكثير. على

أن المال لدى هؤلاء كثير ولكنهم يبخلون {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) .

ما استغنت أمة بعد فقر إلا وكان غناها بالرجال فإذا كان المال هو الذي ينتج

الرجال الذين ينقذون الأمة من شقائها وبلائها ، وينتاشونها من محنها وفتنها ،

ويرفعونها من ضعتها وسقوطها فمن أين يأتي المال ومن الذي يجيء به؟ وإذا قيل:

إن الأمة مهما ضعفت وتأخرت عن غيرها فلا بد أن يبقى عند أفراد منها بقية مما

ترك سلفها من الثروة إن كان لها سلف مجيد أو مما يكسبه بعض أهل الهمة والنشاط

الذين لا يخلو شعب منهم؛ فلتنفق هذه البقية على تربية الرجال الأكفاء الذين

يقدرون على القيام بالإصلاح العام وبذلك يكون المال هو الذين يُوجِدُ الرجالَ. نقول

في الجواب: إن الأمة في مثل هذا الطور تكون ثروتها في سفهائها - جهالها

ومسرفيها - الذين لا يسمحون بالمال لا للشهوات البهيمية واللذات الحسية. ولا

تذكر الأمراء الظالمين والحكام الجائرين الذين يعلمون أن الإصلاح يقضي على

فسادهم. ويطهر الأرض من بغيهم واستبدادهم فلا يقيمونه بل يقاومونه. ولا

يُعضِّدونه ولكن يَعْضِدونه (يقطعونه) ، فإذا أردت الاستعانة على الإصلاح بأموال

أولئك الاغنياء السفهاء الأشحاء فكيف يتسنى لك أن تنفخ روح حب الأمة في قلوبهم ،

وتجعل الإيثار مكان الأثرة من نفوسهم؟ اللهم إن كان يوجد في الأمة من له هذا

السلطان على النفوس وهذا التأثير في الوجدان فأولئك من الرجال الذين يجب

أن يكون وجودهم قبل وجود الأموال.

وأما المال الذي هو بقية مما ترك السلف الصالح فهو أداة ، ولا بد للأداة من

عامل ، والعمال من الرجال الكملة الذين قلنا: إن الإصلاح لا يوجد إلا بهم - هذه

أوقافهم على المدارس والأعمال النافعة تؤكل إسرافًا وبدارًا. والأمة تزداد جهلاً

وخسارًا وتبارًا ودمارًا. ولا تجد لهم من أهل تلك المدارس مصلحين ولا أنصارًا.

هذا الأزهر العظيم الذي تنفق عليه عشرات الألوف من الجنيهات هل تجد

للأمة رجاء فيمن تربوا فيه واقتصروا على تعليمه بأن يكون نهوضها وإصلاح

شأنها على أيديهم؟ أم هل سمعت أهله يومًا يذكرون الأمة وتقدمها وتأخرها في

درس من دروسهم أو مجلس من مجالسهم؟ أظنك إذا ذكرت واحدًا منهم وقلت: إنه

محل الرجال فإنما تذكر من لا ينطبق عليه الوصفان المذكوران آنفًا ، وهذه

(مدرسة خليل أغا) يبلغ ريع أوقافها زهاء عشرة آلاف جنيه ولا يجني المسلمون

من ثمرتها أكثر مما يجنون من سائر المدارس الأهلية التي أنشأها في هذا العصر

بعض الشبان لتكون معاشًا لهم يأكلون من ثمرات ريعها ولا يهمهم أتربي وتعلم من

يدخلها أم لا؟ . ولا تنس المدرسة الحسينية التي خصصت أوقافها الواسعة بخمسين

متعلمًا ، وأجري عليهم وعلى أساتذتهم من الأرزاق ما يمكنهم من تحصيل جميع

العلوم والفنون إلى أن يكونوا من أعظم المعلمين والمرشدين. فلو كانت هذه

المدارس تدار بأيدي رجال ممن وصفنا لك؛ لكانت منبع الحياة الطيبة التي يرجوها

الباحثون في حال الأمة الاجتماعية وما يجب لها من الإصلاح.

بعيشك راجع تاريخ الإصلاح في الأمم والشعوب؛ هل تجد مبدأه الرجال

الفقراء أم أصحاب الغنى والثراء؟ هل كان (لوثر) غنيًّا؟ وهل نشر مذهبه

بالمال؟ وهل استرد (بوكر واشنطون) ساعته التي رهنها لأجل استئجاره من يعلم

تلامذة مدرسته شيًّ الآجُرّ حيث احتاج إلى ذلك القسم الصناعي منها؟ وهل أدى

المائة ريال التي اقترضها واشترى بها الأرض التي بنى مدرسته فيها فكانت ينبوع

حياة السود؟

وانظر هل كان السيد جمال الدين الأفغاني الذي نفخ روحًا إصلاحيًّا في مصر

فسرى في جسم الأمة سريانًا لا يزال ينمو ويزداد ، وكل ما نحن فيه من البحث

والسعي فهو أثر من آثاره ، وقبس من ناره. وانظر هل كان السيد أحمد خان

مؤسس كلية عليكده (في الهند) من الموسرين أم كان من المعوزين؟ فقد سبق

الكلام على غير (لوثر) من هؤلاء المصلحين ولنتحفن القراء بسيرة غيرهم ولو

بعد حين إذا مد الله في الأجل ، وهو الموفق لخير العمل.

_________

ص: 505

الكاتب: محمد رشيد رضا

أمالي دينية

(15)

(تابع القضاء والقدر)

م (43) حقيقة العقيدة

ثبت بالبرهان أن قدرة الله - تعالى - متصرفة في الممكنات عن إرادة

واختيار وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة ووجوه النظام.

وأنه خالق كل شيء {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} (هود: 123) ، ومن الممكنات

التي اقتضتها الحكمة والنظام وجود مخلوق ذي قدرة وإرادة وعلم يعمل بقدرته ما

تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه وهو الإنسان ،

وهذا عند البعض هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله

وبدائع أسراره فيها ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه ، ولا

يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آنًا بعد آن ولا يعلم مبلغه من ذلك إلا

الله تعالى ، والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم

السلام ، ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك

حاشاه حاشاه. قال البيضاوي في بيان أن كل نبي خليفة: استخلفهم في عمارة

الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به - تعالى - إلى

من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك

لم يستنبئ مَلَكًا كما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} (الأنعام: 9) اهـ،

وكذلك إذا قلنا: إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية فعلم من كل من القولين أن

في الإنسان معنى ليس في غيره ، فإذا كانت خلقة الملك لا تساعد على إرشاد الناس؛

لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكل واحد التلقي منه فكذلك لا تساعد خلقته وليس

من وظيفتها إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع بها.

ولو كان إيجاد مخلوق على ما ذكرنا في خلق الإنسان غير ممكن لَمَا وجد ،

ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلا من ينكر الحس والوجدان ، وهما أصل كل برهان ،

ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيء ما.

إذن معنا قضيتان قطعيتا الثبوت: إحداهما كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة

يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف وهي بديهية ، والثانية هي أن الله هو

الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وهي نظرية ، ويتولد من هاتين القضيتين

القطعيتين مسألتان نظريتان.

م (44) الأولى

ما الفرق بين علم الله - تعالى - وإرادته وقدرته وبين علم الإنسان وإرادته

وقدرته؟ والجواب من وجوه: أحدها أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له

لذاته ، وصفات الإنسان حادثة بحدوثه ، وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته.

ثانيها: أن علم الله تعالى محيط بكل شيء {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا

يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) ، وأما الإنسان فما أوتي من

العلم إلا قليلاً ، وإرادة الله - تعالى - لا تتغير ولا تقبل الفسخ؛ لأنها عن علم تام

بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردده في العلم بالشيء، وتفسخ لظهور الخطأ في

العلم الذي بنيت عليه ، وتتجدد لتجدد علم لم يكن له من قبل وقدرة الله تعالى

متصرفة في كل ممكن فيفعل كل ما يعلم أن فيه الحكمة ، وقدرة الإنسان لا تصرف لها، ولا كسب إلا في أقل القليل من الممكنات فكم من أمر يعلم أن فيه مصلحة ومنفعة

له وهو لا يقدر على القيام به ، ثالثها أن صفات الإنسان عرضة للضعف

والزوال وصفات الله تعالى أبدية كما أنها أزلية وبالجملة إن المشاركة بين صفات

الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم لا في الجنس كما زعم بعضهم فبطل زعم

من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته

يقتضي أن يكون شريكًا لله - تعالى - {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .

م (45) المسألة الثانية

وهي عضلة العقد ، ومحط المنتقد. أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى

أو إرادته (قولان) في الأزل بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه

الممكنة ، والقدر: وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل ، ومن

الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية فإذا كان قد سبق

القضاء المبرم بأن زيدًا يعيش كافرًا ويموت كافرًا فما معنى مطالبته بالإيمان وهو

ليس في طاقته ولا يمكن في الواقع ، ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة

مجبور على الكفر في صورة مختار له كما قال بعضهم؟ وقد نظم هذا السؤال

يهودي فقال:

أيا علماء الدين ذمي دينكم

تحير دلوه بأوضح حجة

إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم

ولم يرضه مني فما وجه حيلتي

قَضَاني يهوديًّا وقال: ارض بالقضا

فها أنا راض بالذي فيه شقوتي

والجواب عن هذا أن تعلق العلم أو الإرادة بأن فلانًا يفعل كذا لا ينافي أنه

يفعله باختيار إلا إذا تعلق العلم بأنه يفعله مضطرًّا كحركة المرتعش مثلاً ، ولكن

أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية أى بإرادة فاعليها لا

رغمًا عنهم ، وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثًا ولا لغوًا. وثم وجه آخر

في الجواب وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلاً يفعل كذا يستلزم أن يكون

ذلك الفاعل مجبورًا على فعله؛ لكان الواجب تعالى وتقدس مجبورًا على أفعاله كلها

لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك ، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لابد من وقوعه.

فتبين بهذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم ولم يُسمَّ باسمهم قد غفلوا عن معنى الاختيار.

واشتبهت عليهم الأنظار. فكابروا الحس والوجدان. ودابروا الدليل والبرهان.

وعطلوا الشرائع والأديان. وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره.

ولا فقهوا سر نهيه وأمره. حيث جرأوا الجهلاء على التنصل من تبعة الذنوب

والأوزار. وادعاء البراءة لأنفسهم والإنحاء باللوم على القضاء والمقدار. وذلك

تنزيه لأنفسهم من دون الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل ذلك إغراء للإنسان

بالانغماس في الفسوق والعصيان. فياعجبًا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من

الإغراء. وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء. أليس من شأن من لم يفسد الجبر

فطرته ويظلم الجهل بصيرته أن يكون أعظم مهذب لنفسه. ومؤدب لعقله وحسه

اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن. ويظهر ويبطن. وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟

بلى إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وأما الذين

ضلوا السبيل. واتبعوا فاسد التأويل فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك

بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا

حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ

فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148)

فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل وجعل احتجاجهم من أسباب وقوع البأس

والبلاء بهم ، وقوله عز من قائل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ

كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قلبه والله عليم

حكيم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 510