الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد عبده
كتب المغازي وأحاديث القصاصين [
1]
لفضيلة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية
سألني سائل عن الرأي في ما يوجد بأيدي الناس من كتب الغزوات الإسلامية
وأخبار الفتوح الأولى ، وعما حشيت به تلك الكتب من أقوال وأعمال تنسب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وإلى كبار أصحابه رضي الله عنهم ، وهل يصح
الاعتماد على شيء منها ، ثم خص في السؤال كتاب الشيخ الواقدي الموضوع في
فتوح الشام وذكر لي أن بعضًا من معربدة هذه الأيام المعتدين على مقام التصنيف قد
جعلوا هذا الكتاب عمدة نقلهم ومثابة يرجعون إليها في روايتهم؛ ليتخذوا منه حجة
على ما يروّجونه من تشويه سيرة المسلمين الأولين وليسلكوا منه سبيلاً إلى إذاعة
المثالب ونشر المعايب.
وأن بعضًا آخر من ضعفة العقول من المسلمين ظنوا هذا الكتاب من أنفس ما
ذخر الأولون للآخرين وأنه جدير أن يحرز في خزائن الكتب السياسية وحقيق أن
ينقل من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات فأجبت السائل بجواب أحببت لو ينشر
على ظن أن تكون فيه ذكرى لمن يتذكر.
لم يرزأ الإسلام بأعظم مما ابتدعه المنتسبون إليه. وما أحدثه الغلاة من
المفتريات عليه. فذلك مما جلب الفساد على عقول المسلمين. وأساء ظنون غيرهم
فيما بني عليه الدين. وقد فشت للكذب فاشية على الدين المحمدي في قرونه الأولى
حتى عرف ذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم ، بل عهد الكذب على النبي
صلى الله عليه وسلم في حياته حتى خطب في الناس قائلاً:
(أيها الناس قد كثرت عليَّ الكذابة ألا من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من
النار) أو كما قال.
إلا أن عموم البلوَى بالأكاذيب حق على الناس بلاؤه في دولة الأمويين ، فكثر
الناقلون وقل الصادقون ، وامتنع كثير من أجلة الصحابة عن الحديث إلا لمن يثقون
بحفظه خوفًا من التحريف فيما يؤخذ عنهم ، حتى سئل عبد الله بن عباس رضي
الله عنه لِمَ لا تحدث؟ فقال: لكثرة المحدثين ، وروى عنه الإمام مسلم في مقدمة
صحيحه أنه قال: (ما رأيت أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث) ، ثم
اتسع شر الافتراء وتفاقم خطب الاختلاق وامتد بامتداد الزمان إلى أن نهض أئمة
الدين من المحدثين والعلماء العاملين ووضعوا للحديث أصولاً ، وشرطوا في صحة
الرواية شروطًا ، وبينوا درجات الرواة وأوصافهم ومن يوثق به ومن لا يوثق به
منهم ، وصار ذلك فنًّا من أهم الفنون سموه فن الإسناد وأتبعوه بفن آخر سموه فن
مصطلح الحديث فامتاز بذلك الصحيح من الفاسد ، وامتاز الحق من الباطل وعرفت
الكتب الموثوق بها من غيرها ، وثبت علم ذلك عند كل ذي إلمام بالديانة الإسلامية.
وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه كان قد كتب كتابه الموطأ حاويًا
أربعة عشر ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع حديث (قد كثرت
عليَّ الكذابة فطابقوا بين كلامي والقرآن فإن وافقه وإلا فاطرحوه) عاد إلى تحرير
كتابه فلم يثبت له من الأربعة عشر ألفًا أكثر من ألف. ومن راجع مقدمة الإمام
مسلم علم ما لحقه من التعب والعناء في تصنيف صحيحه ، واطلع على ما أدخله
الدخلاء في الدين وليس منه في شيء.
لم يخف على أهل النظر في التاريخ أن الدين الإسلامي غشى أبصار العالم
بلامع القوَّة. وعلا رءوس الأمم بسلطان السطوة. وفاض في الناس فيضان السيول
المنحدرة. ولاحت لهم فيه رغبات. وتمثلت لهم منه مرهبات. وقامت لأولي
الألباب عليه آيات بينات. فكان الداخلون في الدين على هذه الأقسام قوم اعتقدوا به
إذعانًا لحجته واستضاءة بنوره وأولئك الصادقون وقوم من ملل مختلفة انتحلوا لقبه
واتسموا بسمته إما لرغبة في مغانمه أو لرهبة من سطوات أهله أو لتعزز بالانتساب
إليه فتدثروا بدثاره لكنهم لم يستشعروا بشعاره. لبسوا الإسلام على ظواهر أحوالهم
إلا أنه لم يمس أعشار قلوبهم ، فهم كانوا على أديانهم في بواطنهم ويضارعون
المسلمين في ظواهرهم وقد قال الله في قوم من أشباههم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل
لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14) .
فمن هؤلاء من كان يبالغ في الرياء حتى يظن الناس أنه من الأتقياء فإذا
أحس من قوم ثقة بقوله أخذ يروي لهم أحاديث دينه القديم مسندًا لها إلى النبي صلى
الله عليه وسلم أو بعض أصحابه ولهذا ترى جميع الإسرائيليات وما حوته شروح
التوراة قد نقل إلى الكتب الإسلامية على أنه أحاديث نبوية إلا أن أئمة الدين عرفوا
ذلك فنصوا على عدم صحتها ونهوا عن النظر فيها. ومنهم من تعمد وضع
الأحاديث التي لو رسخت معانيها في العقول أفسدت الأخلاق وحملت على التهاون
بالأعمال الشرعية وفترت الهمم عن الانتصار للحق كالأحاديث الدالة على انقضاء
عمر الإسلام (والعياذ بالله) أو المطمعة في عفو الله مع الانحراف عن شرعه أو
الحاملة على التسليم للقدر بترك العمل فيما يصلح الدين والدنيا ، وكل ذلك يضعه
الواضعون قصدًا لإفساد المسلمين وتحويلهم عن أصول دينهم ليختل نظمهم ويضعف
حولهم.
ومن الكاذبين قوم ظنوا أن التزيد في الأخبار والإكثار من القول يرفع من
شأن الدين فهذروا بما شاءوا يبتغون بذلك الأجر والثواب ولن ينالهم إلا الوزر
والعقاب وهم الذين قال فيهم ابن عباس: ما رأيت أهل الخير في شيء أكذب منهم
في الحديث ويريد بأهل الخير أولئك الذين يطيلون سبالهم ، ويوسعون سربالهم
ويطأطئون رءوسهم ويخفتون من أصواتهم ويغدون ويروحون إلى المساجد بأشباحهم
وهم أبعد الناس عنها بأرواحهم. يحركون بالذكر شفاههم ويلحقون بها في الحركة
سبحهم ولكنهم - كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -: منقادون لحملة
الحق لا بصيرة لهم في إحنائه ينقدح الشك في قلوبهم لأول عارض من شبهه جعلوا
الدين من أقفال البصيرة ومغاليق العقل ، فهم أغرار مرحومون يسيئون ويحسبون
أنهم يحسنون. فهؤلاء قد يخيل لهم الظل عدلاً والغدر فضلاً فيرون أن نسبة ما
يظنون إلى أصحاب النبي مما يزيد في فضلهم ويعلي من النفوس منزلتهم ، فيصح
فيهم ما قيل: (عدوّ عاقل خير من محب جاهل) ومن هؤلاء وضاع كتب المغازي
والفتوح وما شاكلها.
أما الشيخ الواقدي فكان من علماء الدولة العباسية ولاه المأمون القضاء في
عسكر المهدي وكان تولَّى القضاء في شرقي بغداد. قال ابن خلكان: وضعفوه في
الحديث وتكلموا فيه اهـ ، أي: عدوه ضعيف الرواية ليس من أهل الثقة ولهذا
نص الإمام الرملي من علماء الشافعية على أنه لا يؤخذ بروايته في المغازي فإن
كان هذا الكتاب المطبوع الموجود في أيدي الناس من تصنيفه فهذه منزلته من
الضعف عند علماء المسلمين على أني لو حكمت بأنه مكذوب عليه مخترع النسبة
إليه لم أكن مخطئًا.
وذلك لأن الواقدي كان من أهل المائة الثانية بعد الهجرة ، وكان من العلم
بحيث يعرفه مثل المأمون بن هارون الرشيد ، ويواصله ويكاتبه ، وصاحب هذه
المنزلة في تلك القرون إذا نطق في العربية فإنما ينطق بلغتها ، وقد كانت اللغة لتلك
الأجيال على المعهود فيها من متانة التأليف وجزالة اللفظ وبداوة التعبير ، والناظر
في كتاب الواقدي ينكشف له بأول النظر أن عبارته من صناعات المتأخرين في
أساليبها وما ينقل فيها من كلام الصحابة مثل خالد بن الوليد ، وأبي عبيدة وغيرهم
رضي الله عنهم لا ينطبق على مذاهبهم في النطق ، بل كلما دقق المطالع في أحناء
قوله يجد أسلوبه من أساليب القصاصين في الديار المصرية من أبناء المائة الثامنة
والتاسعة ، ولا يرى عليه لهجة المدنيين ولا العراقيين ، والرجل كان مدنيَّ المنبت
عراقيَّ المقام ، ولولا خوف التطويل لأتيت بكثير من عباراته وبينت وجه المخالفة
بينها وبين مناهج أبناء القرون الأولى في التعبير على أن ذلك لا يحتاج إلى البيان
عند العارفين بأطوار اللغة العربية.
فهذا الكتاب لا تصح الثقة به ، إما لأنه مكذوب النسبة على الواقدي وهو
الأظهر ، وإما لضعف الواقدي نفسه في رواية المغازي كما صرَّح به العلماء فلا
تقوم به حجة للمتحذلقين ، ولا يصلح ذخرًا للسياسيين ، ومثل هذا الكتاب كتب
كثيرة كقصص الأنبياء المنسوب لأبي منصور الثعالبي ، وكثير من الكتب المتعلقة
بأحوال الآخرة أو بدء العالم أو بعض حقائق المخلوقات المنسوبة إلى الشيخ
السيوطي وقصص روايات تنسب إلى كعب الأحبار أو الأصمعي ومن شاكلهما ممن
عرفوا بالرواية ، فأولع الناس بالنسبة إليهم من غير تفريق بين صحيح وباطل ،
فجميع ذلك مما لا اعتداد به عند العلماء ولا ثقة بما يندرج فيه ، والعمدة في النقل
التاريخي كتب الحديث كصحيح البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح ويتلوها كتب
المحققين من المؤرخين كابن الأثير ، والمسعودي ، وابن خلدون وأبي الفداء
وأمثالهم ، وعلى أي حال فلا يستغني مُطالِع التاريخ عن قوة حاكمة يميز بها بين ما
ينطبق على الواقع وما ينبو عنه. هذا ما أردنا اليوم إجماله فإن دعا إلى التفصيل
داع عدنا إليه والله الموفق للصواب.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
م. ع
_________
(1)
نشرت هذه المقالة في جريدة ثمرات الفنون الغراء منذ 15 سنة عندما كان الأستاذ في بيروت وأعادت نشرها في العدد 1313 الصادر في 9 من رمضاننا هذا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أأحسن الشعر أكذبه أم أصدقه
نموذج آخر من أسرار البلاغة
قال عبد القاهر بعد كلام: وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة أن يجعلوا
اجتماع الشيئين في وصف علة الحكم يريدونه وإن لم يكن في المعقول ومقتضيات
العقول ، ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحح كون ما جعله أصلاً وعلة كما ادعاه فيما يبرم
أو ينقض من قضية ، وأن يأتي على ما صيره قاعدة وأساسًا بينة عقلية ، بل تسليم
مقدمته التي اعتمدها بينة كتسليمنا أن عائب الشيب لم ينكر منه إلا لونه ، وتناسينا
سائر المعاني التي لها كُرِهَ ومن أجلها عِيبَ. وكذلك قول البحتري:
كلفتمونا حدود منطقكم
…
في الشعر يكفي عن صدقه كذبه
أراد: كلفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا
فيه بالقول المحقق، حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به،
ويلجئ إلى موجبه، ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد، وإياه عمد، إذ يبعد أن يريد
بالكذب إعطاء الممدوح حظًّا من الفضل والسؤدد ليس له، ويبلغه بالصفة حظًّا من
التعظيم يجاوز به من الإكثار محله؛ لأن هذا الكذب لا يبين بالحجج المنطقية،
والقوانين العقلية، وإنما يكذب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما
وصف به، والكشف عن قدره وخسته، ورقته أو ضعته، ومعرفة محله ومرتبته،
وكذلك قول من قال: (خير الشعر أكذبه) فهذا مراده لأن الشعر لا يكتسب من
حيث هو شعر فضلاً ونقصًا وانحطاطًا وارتفاعًا بل يَنْحَل الوضيع من الرفعة ما هو
منه عار، أو يصف الشريف بنقص وعارٍ، فكم جواد بخله الشعر ، وبخيل سخَّاه ،
وشجاع وسمه بالجبن ، وجبان ساوَى به الليث ، وذي ضعة أوطأه قمة العيُّوق [1] ،
وغبي قضَى له بالفهم، وطائش ادعى له طبيعة الحكم، ثم لم يعتبر ذلك في الشعر
نفسه حيث تنتقد دنانيره وتنشر ديابيجه، ويفتق مسكه فيضوع أريجه.
وأما من قال في معارضة هذا القول: (خير الشعر أصدقه) كما قال:
وإن أحسن بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دل على حكمة يقبلها العقل، وأدب يجب به
الفضل، وموعظة تروّض جماح الهوى، وتبعث على التقوى، وتبين موضع القبح
والحسن في الانفعال، وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال، وقد ينحى بها
نحو الصدق في مدح الرجال، كما قيل: كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه.
والأول أولى لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر.
فمن قال: خيره أصدقه كان ترك الإغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق
والتصحيح، واعتماد ما يجري من العقل على أصل صحيح أحبَّ إليه، وآثر عنده
إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر، ومن قال:
أكذبه؛ ذهب إلى أن الصنعة إنما يمد باعها، وينشر شعاعها، ويتّسع ميدانها،
وتتفرع أفنانها، حيث يعتمد الاتساع والتخييل، ويدّعى الحقيقة فيما أصله التقريب
والتمثيل، وحيث يقصد التلطف والتأويل، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق
في المدح والذم والوصف والبث والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض ،
وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد، ويبدي في اختراع الصور ويعيد،
ويصادف مضطربًا كيف شاء واسعًا، ومددًا من المعاني متتابعًا ويكون كالمغترف
من غدير لا ينقطع والمستخرج من معدن لا ينتهي.
وأما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المدانى قيده، والذي لا تتسع كيف شاء
يده وأيده، ثم هو في الأكثر يورد على السامعين معاني معروفة وصورًا مشهورة،
ويتصرف في أصول هي وإن كانت شريفة فإنها كالجواهر تُحفظ أعدادها، ولا
يُرجى ازديادها، وكالأعيان الجامدة التي لا تنمى ولا تزيد، ولا تربح ولا تفيد،
وكالحسناء العقيم، والشجرة الرائعة لا تمتع بجنًى كريم.
هذا ونحوه يمكن أن يتعلق به في نصرة التخييل وتفضيله ، والعقل بعد على
تفضيل القبيل الأول وتقديمه، وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقل ناصره،
والتحقيق شاهده، فهو العزيز جانبه، المنيع مناكبه، وقد قيل: الباطل مخصوم
وإن قضي له ، والحق مُفْلِجٌ وإن قضي عليه [2] هذا ومن سلم أن المعاني المعرقة
في الصدق، المستخرجة من معدن الحق، في حكم الجامد الذي لا ينمى،
والمحصور الذي لا يزيد، وإن أردت أن تعرف بطلان هذه الدعوى فانظر إلى قول
أبي فراس:
وكنا كالسهام إذا أصابت
…
مراميها فراميها أصابا
ألست تراه عقليًّا عريقًا في نسبه، معترفا بقوة سببه ، وهو على ذلك من
فوائد أبي فراس التي هو أبو عذرها، والسابق إلى إثارة سرها [3] .
واعلم أن الاستعارة لا تدخل في قبيل التخييل؛ لأن المستعير لا يقصد إلى
إثبات معنى اللفظة المستعارة ، وإنما يعمد إلى إثبات شبه هناك فلا يكون مخبره
على خلاف خبره. وكيف يعرض الشك في أن لا مدخل للاستعارة في هذا الفن
وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفى كقوله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم: 4) ثم لا شبهة في أن ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهرًا ، وإنما
المراد إثبات شبهه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن)
ليس على إثبات المرآة من حيث الجسم الصقيل، لكن من حيث الشبه المعقول،
وهو كونها سببًا للعلم بما لولاها لم يعلم لأن ذلك أعلم طريقه الرؤية ، ولا سبيل إلى
أن يرى الإنسان وجهه إلا بالمرآة وما جرى مجراها من الأجسام الصقيلة ، فقد جمع
بين المؤمن والمرآة في صفة معقولة وهي أن المؤمن ينصح أخاه ويريه الحسن من
القبيح كما تُرِي المرآة الناظر فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه. وكذا قوله
صلى الله عليه وسلم: (إياكم وخضراء الدمن) معلوم أن ليس القصد إثبات معنى
ظاهر اللفظين ، ولكن الشبه الحاصل من مجموعها وذلك حسن الظاهر مع خبث
الأصل.
وإذا كان هذا كذلك بان منه أيضًا أن لك مع لزوم الصدق والثبوت على
محض الحق الميدان الفسيح والمجال الواسع ، وأن ليس الأمر على ما ظنه ناصر
الإغراق والتخييل الخارج على أن يكون الخبر على خلاف المخبر من أنه إنما
يتسع المقال ويفتن وتكثر موارد الصنعة ويغزر ينبوعها، وتكثر أغصانها وتتشعب
فروعها، إذا بسط من عنان الدعوى فادعى ما لا يصح دعواه، وأثبت ما ينفيه
العقل ويأباه.
وجملة الحديث الذي أريده بالتخييل ههنا ما يثبت فيه الشاعر فيه أمرًا هو
غير ثابت أصلاً ، ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها ، ويقول قولاً يخدع فيه
نفسه ويريها ما لا ترى. أما الاستعارة فإن سبيلها سبيل الكلام المحذوف في أنك إذا
رجعت إلى أصله وجدت قائله وهو يثبت أمرًا عقليًّا صحيحًا ، ويدعي دعوى لها
شبح في العقل. وستمر بك ضروب من التخييل هي أظهر أمرًا في البعد عن
الحقيقة تكشف وجهًا في أنه خداع للعقل وضرب من التزويق فتزداد استبانة
الغرض بهذا الفصل ، وأزيدك حينئذ إن شاء الله كلامًا في الفرق بين ما يدخل في
حيز قولهم: خير الشعر أكذبه. وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في اتساع وتجوز
فاعرفه. وكيف دار الأمر فإنهم لم يقولوا: خير الشعر أكذبه وهم يريدون كلامًا
غفلاً ساذجًا يكذب فيه صاحبه ويفرط ، نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة
ويقول للبائس المسكين: إنك أمير العراقين، ولكن ما فيه صنعة يتعمل لها
وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة للصواب. وأعود إلى ما كنت فيه من
الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي اهـ النموذج المراد.
_________
(1)
العيوق: نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها ، وقمة الشيء أعلاه.
(2)
المفلج (اسم فاعل) الفائز الظافر يقال فلج (كنصر وضرب) ، وأفلج لازم ويتعدى بعلى فيقال فلج وأفلج على خصمه أي استظهر وانتصر.
(3)
يقال: (هو أبو عذر هذا الكلام) أى هو أول من اقتضبه واخترعه ويقال: (ما أنت بذي عذر هذا الكلام) أي لست بأول من اقتضبه والعذر هنا بالضم مخفف من العذرة وهي البكارة بحذف التاء لجريه مثلاً.