الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَاّ} (الانفطار: 6-9) لا
تغتر بربك فليس الغرور من لوازم الكرم ، واشكر له نعمة التعديل والتسوية، فإن
الكفران يزيل النعم ، فبهذه النعمة جعلك خليفة في الأرض ، واستعمرك فيها إلى يوم
العرض ، وسخر العوالم العلوية والسفلية ، وذلل لك القوى الطبيعية ، وهداك
النجدين ، وبين لك السنتين ، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وأنزل عليك
الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه ، وسعادتك أو شقاوتك
محصورة فيه ، فأما الذين يقومون بحقوق الاستعمار بحسب السنن الطبيعية؛
فأولئك أصحاب السعادة والخلافة في دنياهم ، وإذا ضموا إليها تزكية الأرواح باتباع
السنن الدينية تمت لهم السعادة في أخراهم ، وأما الذين يجهلون سنة الله في هذه
الأكوان ، ويقصرون بما اقتضته الحكمة الإلهية من العمران؛ فأولئك هم الذين لا
يرون في دنياهم من السعادة فتيلاً ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
وأضل سبيلاً.
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الحياة
الأبدية ، ويمتعكم بالسعادة الدنيوية والأخروية ، {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) ولو شكرتم لظلت هذه النعم في مزيد {وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)
فلولا كفر النعم لما حلت بنا هذه النقم ، ففاتنا ونحن كثير ، ما كان لنا ونحن
قليل ، حلت بنا الرزايا والمصائب ، وتخطفنا الناس من كل جانب {ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) منح الله آباءنا الأولين ما وعد به عباده المؤمنين ، وما
كان ذلك محاباة وجزافًا ، وحرمنا نحن من تلك السيادة وحيل بيننا وبين هاتيك
السعادة ، وما كان ذلك بخلاً أو إخلافًا ، ولكنه أعطى كلاًّ ما طلبه بلسان حاله ،
واكتسبه بجليل أعماله ، كلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء
ربك محظورًا ، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر
تفضيلاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ} (الأنفال: 29) بالرجوع إلى سنته
الكونية والدينية والشكر على نعمه النفسية والآفاقية {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: 29) يزيح عنكم الشبهات ، ونورًا تهتدون به في هذه الظلمات ،
{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الأنفال: 29) التي تقاسون بلاءها ، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: 29) ذنوبكم التي تساورون عناءها {وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الأنفال: 29) هداكم بالدين القيم إلى النجاح في الحال ، والفلاح في
المآل ، فمن نجح به فأولئك هم المفلحون ، ومن فاته الربح به فأولئك هم
الخاسرون ، وقد مضت سنة الأولين بأن الناس تبع لرؤسائهم في الدنيا
والدين ، فما غوينا إلا بغوايتهم ، ولا نهتدي إلا بهدايتهم ، فإذا انقطع من الحكام
الرجاء ، فهو لم ينقطع من العلماء {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .
إن أولى الناس بتعليق الآمال بالعلماء من دون الحكام والأمراء ، هي الأمة
التي ما ترك دينها رابطة إلا وحلَّها ، وحل بعد ذلك محلها ، حتى أحاط بجميع
المصالح البشرية ، وأوضح محجة الشؤون الروحية والجسدية ، فكل ما أصابته من
السعادة كان يفيض عليها من سماء الدين ، وكل ما أصابها من الشقاء إنما هو
بالانحراف عن صراط الدين ، فلا جرم تكون حياتها بحياة الدين ، وموتها بموت
علماء الدين ، ويصح أن تضيف ما هي فيه من البلاء كله أو بعضه إلى تقصيرهم،
وتنسب ما بقي لها من آثار النعماء إلى ما كان من تشميرهم ، ألم تروا أن ما دخل
عليها من المدنية العصرية بأيدي الأمراء المنسلخين عن المعارف الدينية كان عليها
وبالاً وما زادها إلا خزيًا ونكالاً، بخلاف مدنيتها الزاهية في أيام دولها الماضية ،
وكان وعدًا مفعولاً.
فيا أيتها الامة الإسلامية التي اغتر بعضها بدعاة الوطنية ، فعلقوا آمالهم
بالوساوس الأجنبية ، فانقلبوا بالبعد عن دينهم خاسرين ، واغتر آخرون ببعض
أصحاب العمائم ظانين أن كل ذي عمامة عالم ، فأوهموهم أن طلب السيادة والثروة
منبع المآثم ، وأن المدنية كيفما كانت فهي عدوة للدين ، اعلمي أنه قد أخطأ أولئك
كما أخطأ هؤلاء ، وأوقعوا المسلمين في اختلاف الآراء ، بل ألقوا بينهم العداوة
والبغضاء ، فكانوا في ذلك من الظالمين ، وخلاصة القول وزبدته ، وصفوته
وحقيقته ، أنه لا يرجى لهذه الأمة النجاح والسير في منهاج الفلاح ، إلا بدعاة
ومرشدين يمثلون لها سعادة الدنيا في مرآة الدين ، ويبينون لها كيف جمع القرآن
بين مصالح الدارين ، حيث جعل الناس على قسمين {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 200-202) وهذا ما قام يدعو إليه المنار في سنتيه
الماضيتين وهو ما يصيح به الآن على رأس السنة الثالثة ، وقد انتشرت بفضل الله
تعاليمه فأُشربتْها قلوب ولهجت بها ألسنة وكَتَبَ بمواضيعه الكُتَّاب ، وخطب
الخطباء فمن مخطئ ومصيب ومنتقد ومجيب ، وهكذا يكون الأمر في أوله
وستتجلى الحقيقة للناس إن شاء الله عن قريب ، والعاقبة للمتقين.
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا
تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .
_________