المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌11 ذو القعدة - 1317ه - مجلة المنار - جـ ٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (3)

- ‌غرة ذو القعدة - 1317ه

- ‌فاتحة السنة الثالثة

- ‌التعصب

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌دار علوم في مكة المكرمة

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌منثورات

- ‌11 ذو القعدة - 1317ه

- ‌الجنسية والديانة الإسلامية

- ‌مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح

- ‌كلمة للمؤرخين

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌21 ذو القعدة - 1317ه

- ‌الكتب العربية والإصلاح

- ‌نجاح التعليم في الأزهر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌غرة ذو الحجة - 1317ه

- ‌إعادة مجد الإسلام

- ‌التعليم في الأزهر الشريف

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌استماحة وتهنئة

- ‌21 ذو الحجة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مدرسة زعزوع بك للبنين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة المحرم - 1318ه

- ‌الوحدة العربية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تأسيس فرعي سمالوط ومعصرة سمالوطلجمعية شمس الإسلام

- ‌سيرة المرحوم عثمان باشا الغازي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌11 محرم - 1318ه

- ‌الدنيا والآخرة(2)

- ‌فرنسا والإسلام

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌21 محرم - 1318ه

- ‌الترك والعرب

- ‌الدين والدنيا والآخرة(3)

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة صفر - 1318ه

- ‌الترك والعرب

- ‌التعليم النافع

- ‌السنوسي وأتباعه

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثانى

- ‌11 صفر - 1318ه

- ‌الحركة الإسلامية الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم المفيد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار والآراء

- ‌21 صفر - 1318ه

- ‌أوروبا والإصلاح الإسلامي

- ‌نصيحة أمير أفغانستان إلى ولده وولى عهده

- ‌هانوتو والإسلام

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌غرة ربيع الأول - 1318ه

- ‌القضاء والقدر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ختام درس المنطق للأستاذ الأكبر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌11 ربيع الأول - 1318ه

- ‌الاحتفال الأولبامتحان مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 ربيع الأول - 1318ه

- ‌المشروع الحميديُّ الأعظم

- ‌مدرسة جمعية شمس الإسلام في الفيوم

- ‌القديم في الحديث والأول في الآخر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌السؤال والجوابعن حل طعام أهل الكتاب

- ‌غرة ربيع الثاني - 1318ه

- ‌هانوتو والإصلاح الإسلامي

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المشروع الحميدي الأعظم

- ‌11 ربيع الثاني - 1318ه

- ‌محبة الله ورسولهفي إعانة السكة الحديدية الحجازية

- ‌الشعر العربي

- ‌قصيدة الجزائر

- ‌الاحتفال الثاني عشربمدرسة ديروط الخيرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 ربيع الثاني - 1318ه

- ‌الشعر العربي

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادىالأولى - 1318ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ملاحظة على مقالة الشعر العربي

- ‌أُفْكُوهَة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌11 جمادى الأولى - 1318ه

- ‌ميزان الإيمان وسلم الأمم

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 جمادى الأولى - 1318ه

- ‌الدعوة حياة الأديان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مكتوب من بعض بلغاء مصرلسماحة أبي الهدى

- ‌ البدع والخرافات

- ‌1 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌الدعوة وطريقها وآدابها

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قسم الأحاديث الموضوعة والمنكرة(1)

- ‌التبرك وشفاء الأمراض

- ‌الموالد والمواسم

- ‌التهتك في مصر وتلافيه

- ‌11 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌الرجال أم المال

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قسم الأحاديث الموضوعة(2)

- ‌ الموالد والمواسم

- ‌21 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌أسباب وضع الحديث واختلافه(1)

- ‌البدع والخرافات

- ‌غرة رجب - 1318ه

- ‌العلم والجهل

- ‌الشوقيات

- ‌البدع والخرافات

- ‌11 رجب - 1318ه

- ‌الحكومة الاستبدادية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌البدع والخرافات

- ‌21 رجب - 1318ه

- ‌الحكومة الاستبداديةتتمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌فخر نساء العرب

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌البدع والخرافات

- ‌مقاومة التهتك والدجل والبدع

- ‌غرة شعبان - 1318ه

- ‌الإسلام وأهله

- ‌نموذج من كتاب أسرار البلاغة

- ‌الشعر العصري

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌مسيح الهند

- ‌الإفراط والتفريط

- ‌16 شعبان - 1318ه

- ‌الطاعون والفأر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في مدارس الحكومة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌ الموالد والمواسم

- ‌الأحاديث الموضوعة

- ‌رد مسيح الهند على الطاعنين

- ‌غرة رمضان - 1318ه

- ‌مسألة زيد وزينب

- ‌حكمة الصيام

- ‌القسم الأدبي

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1318ه

- ‌عقوبة الإعدام

- ‌محاورة الماء والنار في توليد البخار

- ‌إلى الله المشتكى

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الجامع الأزهر

- ‌عيد جلوس الخديوي المعظم

- ‌الأحاديث الموضوعة

- ‌غرة شوال - 1318ه

- ‌كتب المغازي وأحاديث القصاصين [

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌وعظ رمضان والمسجد الحسيني

- ‌16 شوال - 1318ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المرأة الجديدة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌خاتمة سنة المنار الثالثة

الفصل: ‌11 ذو القعدة - 1317ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فاتحة السنة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام

على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَاّ} (الانفطار: 6-9) لا

تغتر بربك فليس الغرور من لوازم الكرم ، واشكر له نعمة التعديل والتسوية، فإن

الكفران يزيل النعم ، فبهذه النعمة جعلك خليفة في الأرض ، واستعمرك فيها إلى يوم

العرض ، وسخر العوالم العلوية والسفلية ، وذلل لك القوى الطبيعية ، وهداك

النجدين ، وبين لك السنتين ، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وأنزل عليك

الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ

وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .

يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه ، وسعادتك أو شقاوتك

محصورة فيه ، فأما الذين يقومون بحقوق الاستعمار بحسب السنن الطبيعية؛

فأولئك أصحاب السعادة والخلافة في دنياهم ، وإذا ضموا إليها تزكية الأرواح باتباع

السنن الدينية تمت لهم السعادة في أخراهم ، وأما الذين يجهلون سنة الله في هذه

الأكوان ، ويقصرون بما اقتضته الحكمة الإلهية من العمران؛ فأولئك هم الذين لا

يرون في دنياهم من السعادة فتيلاً ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى

وأضل سبيلاً.

يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الحياة

الأبدية ، ويمتعكم بالسعادة الدنيوية والأخروية ، {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ

فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) ولو شكرتم لظلت هذه النعم في مزيد {وَإِذْ

تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)

فلولا كفر النعم لما حلت بنا هذه النقم ، ففاتنا ونحن كثير ، ما كان لنا ونحن

قليل ، حلت بنا الرزايا والمصائب ، وتخطفنا الناس من كل جانب {ذَلِكَ بِأَنَّ

اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ

عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) منح الله آباءنا الأولين ما وعد به عباده المؤمنين ، وما

كان ذلك محاباة وجزافًا ، وحرمنا نحن من تلك السيادة وحيل بيننا وبين هاتيك

السعادة ، وما كان ذلك بخلاً أو إخلافًا ، ولكنه أعطى كلاًّ ما طلبه بلسان حاله ،

واكتسبه بجليل أعماله ، كلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء

ربك محظورًا ، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر

تفضيلاً.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ} (الأنفال: 29) بالرجوع إلى سنته

الكونية والدينية والشكر على نعمه النفسية والآفاقية {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: 29) يزيح عنكم الشبهات ، ونورًا تهتدون به في هذه الظلمات ،

{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الأنفال: 29) التي تقاسون بلاءها ، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: 29) ذنوبكم التي تساورون عناءها {وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الأنفال: 29) هداكم بالدين القيم إلى النجاح في الحال ، والفلاح في

المآل ، فمن نجح به فأولئك هم المفلحون ، ومن فاته الربح به فأولئك هم

الخاسرون ، وقد مضت سنة الأولين بأن الناس تبع لرؤسائهم في الدنيا

والدين ، فما غوينا إلا بغوايتهم ، ولا نهتدي إلا بهدايتهم ، فإذا انقطع من الحكام

الرجاء ، فهو لم ينقطع من العلماء {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ

قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .

إن أولى الناس بتعليق الآمال بالعلماء من دون الحكام والأمراء ، هي الأمة

التي ما ترك دينها رابطة إلا وحلَّها ، وحل بعد ذلك محلها ، حتى أحاط بجميع

المصالح البشرية ، وأوضح محجة الشؤون الروحية والجسدية ، فكل ما أصابته من

السعادة كان يفيض عليها من سماء الدين ، وكل ما أصابها من الشقاء إنما هو

بالانحراف عن صراط الدين ، فلا جرم تكون حياتها بحياة الدين ، وموتها بموت

علماء الدين ، ويصح أن تضيف ما هي فيه من البلاء كله أو بعضه إلى تقصيرهم،

وتنسب ما بقي لها من آثار النعماء إلى ما كان من تشميرهم ، ألم تروا أن ما دخل

عليها من المدنية العصرية بأيدي الأمراء المنسلخين عن المعارف الدينية كان عليها

وبالاً وما زادها إلا خزيًا ونكالاً، بخلاف مدنيتها الزاهية في أيام دولها الماضية ،

وكان وعدًا مفعولاً.

فيا أيتها الامة الإسلامية التي اغتر بعضها بدعاة الوطنية ، فعلقوا آمالهم

بالوساوس الأجنبية ، فانقلبوا بالبعد عن دينهم خاسرين ، واغتر آخرون ببعض

أصحاب العمائم ظانين أن كل ذي عمامة عالم ، فأوهموهم أن طلب السيادة والثروة

منبع المآثم ، وأن المدنية كيفما كانت فهي عدوة للدين ، اعلمي أنه قد أخطأ أولئك

كما أخطأ هؤلاء ، وأوقعوا المسلمين في اختلاف الآراء ، بل ألقوا بينهم العداوة

والبغضاء ، فكانوا في ذلك من الظالمين ، وخلاصة القول وزبدته ، وصفوته

وحقيقته ، أنه لا يرجى لهذه الأمة النجاح والسير في منهاج الفلاح ، إلا بدعاة

ومرشدين يمثلون لها سعادة الدنيا في مرآة الدين ، ويبينون لها كيف جمع القرآن

بين مصالح الدارين ، حيث جعل الناس على قسمين {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا

آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا

حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ

سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 200-202) وهذا ما قام يدعو إليه المنار في سنتيه

الماضيتين وهو ما يصيح به الآن على رأس السنة الثالثة ، وقد انتشرت بفضل الله

تعاليمه فأُشربتْها قلوب ولهجت بها ألسنة وكَتَبَ بمواضيعه الكُتَّاب ، وخطب

الخطباء فمن مخطئ ومصيب ومنتقد ومجيب ، وهكذا يكون الأمر في أوله

وستتجلى الحقيقة للناس إن شاء الله عن قريب ، والعاقبة للمتقين.

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ

أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا

تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .

_________

ص: 1

الكاتب: العروة الوثقى

‌التعصب

{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .

لفظ شغل مناطق الناس خصوصًا في البلاد المشرقية تلوكه الألسن ، وترمي

به الأفواه في المحافل والمجامع حتى صار تُكأة للمتكلمين يلجأ إليه العيي في تهتهته

والذملقاني في تفيهقه.

أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير فقلما تكون عبارة إلا وهو فاتحتها أو حشوها أو

خاتمتها ويعدون مسماه علة لكل بلاء ومنبعًا لكل عناء ، ويزعمونه حجابًا كثيفًا وسدًّا

منيعًا بين المتصفين به وبين الفوز والنجاح ، ويجعلونه عنوانًا على النقص وعلمًا

للرذائل.

والمتسربلون بسرابيل الإفرنج الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط ،

لا يميزون بين حق وباطل هم أحرص الناس على التشدق بهذا البَدع الجديد فتراهم

في بيان مفاسد التعصب يهزون الرءوس ويعبثون باللحى ويبرمون السبال ، وإذا

رموا به شخصًا للحط من شأنه أردفوه للتوضيح بلفظ إفرنجي (فناتيك) فإن عهدوا

بشخص نوعًا من المخالفة لمشربهم؛ عَدُّوه متعصبًا وهمزوا به وغمزوا ولمزوا ،

وإذا رأوه عبسوا وبسروا وشمخوا بأنوفهم كبرًا وولوه دبرًا ، ونادوا عليه بالويل

والثبور.

ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ؟ وماذا اتصل بعقولهم من معناه حتى

خالوه مبدأ لكل شناعة ومصدرًا لكل نقيصة؟ وهل لهم وقوف على شيء من

حقيقته؟

التعصب: قيام بالعصبية، من المصادر النِّسبية نسبة إلى العصبية ، وهي قوم

الرجل الذين يعززون قوته ويدفعون عنه الضيم والعداء ، فالتعصب وصف للنفس

الإنسانية تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها ، والذود عن حقه ووجوه الاتصال

تابعة لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها.

هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب وأقام بناء الأمم ، وهو عقد الربط

في كل أمة بل هو المزاج الصحيح، يوحد المتفرق منها تحت اسم واحد وينشئها

بتقدير الله خلقًا واحدًا كبدن تألف من أجزاء وعناصر، تدبره روح واحدة فتكون

كشخص يمتاز في أطواره وشؤونه وسعادته وشقائه عن سائر الأشخاص.

وهذه الوحدة هي مبعث المباراة بين أمة وأمة وقبيل وقبيل ومباهاة كل من

الأمتين المتغالبتين بما يتوفر لها من أسباب الرفاهة وهناء العيش وما تجمعه قواها

من وسائل العزة والمنعة وسمو المقام ونفاذ الكلمة ، والتنافس بين الأمم كالتنافس

بين الأشخاص أعظم باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة

بقدر ما تسعه الطاقة.

التعصب روح كليّ مهبطه هيئة الأمة وصورتها ، وسائر أرواح الأفراد

حواسه ومشاعره، فإذا ألمَّ بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه؛ انفعل الروح

الكلي وجاشت طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحمية العامة ومسعر النعرة الجنسية.

هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات فيما

يعود على الأمة بضرر أو يأول بها إلى سوء عاقبة ، وإن استقامة الطبع ورسوخ

الفضيلة في أمة تكون على حسب درجة التعصب فيها والالتحام بين آحادها، ويكون

كل منهم بمنزلة عضو سليم من بدن حي لا يجد الرأس بارتفاعه غنى عن القدم ،

ولا يرى القدمان في تطرفهما انحطاطًا في رتبة الوجود، وإنما كل يؤدي وظائفه

لحفظ البدن وبقائه.

كلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة بضعف التعصب فيهم؛ استرخت

الأعصاب وَرَثَّت الأطناب ورقَّت الأوتار وتداعى بناء الأمة إلى الانحلال كما

يتداعى بناء البنية البدنية إلى الفناء بعد هذا الروح الكلي ، وتبطل هيئة الأمة وإن

بقيت آحادها فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة إما أن تتصل بأبدان أخرى بحكم

ضرورة الكون ، وإما أن تبقى في قبضة الموت إلى أن ينفخ فيها روح النشأة

الآخرة ، سنة الله في خلقه إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل ، وغفل

بعضهم عن بعض ، وأعقب الغفلة تقطع في الروابط ، وتبعه تقاطع وتدابر فيتسع

للأجانب والعناصر الغريبة مجال التداخل فيهم ولن تقوم لهم قائمة من بعد حتى

يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب في نشأة ثانية.

نعم إن التعصب وصف كسائر الأوصاف له حد اعتدال وطرفا إفراط

وتفريط ، واعتداله هو الكمال الذي بينا مزاياه ، والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا

لرزاياه ، والإفراط فيه مذمة تبعث على الجور والاعتداء ، فالمفرط في تعصبه

يدافع عن الملتحم به بحق وبغير حق ، ويرى عصبته متفردة باستحقاق الكرامة ،

وينظر إلى الأجنبي عنه كما ينظر إلى الهمل ، لا يعترف له بحق ولا يرعى له ذمة ،

فيخرج بذلك عن جادة العدل ، فتنقلب منفعة التعصب إلى مضرة ، ويذهب بهاء الأمة

بل يتقوض مجدها ، فإن العدل قوام الاجتماع الإنساني ، وبه حياة الأمم وكل قوة لا

تخضع للعدل فمصيرها إلى الزوال ، وهذا الحد من الإفراط في التعصب هو

الممقوت على لسان صاحب الشرع صلي الله عليه وسلم في قوله: (ليس منا من

دعا إلى عصبية) الحديث.

التعصب كما يطلق ويراد به النعرة على الجنس ، ومرجعها رابطة

النسب والاجتماع في منبت واحد ، كذلك توسع أهل العرف فيه فأطلقوه على قيام

الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضًا ، والمتنطعون من مقلدة الإفرنج

يخصون هذا النوع منه بالمقت ، ويرمونه بالتعس ، ولا نخال مذهبهم هذا مذهب

العقل ، فإن لحمة يصير بها المتفرقون إلى وحدة تندفع عنها قوة لدفع الغائلات

وكسب الكمالات، لا يختلف شأنها إذا كان مرجعها الدين أو النسب ، وقد كان من

تقدير العزيز العليم وجود الرابطتين في أقوام مختلفة من البشر ، وعن كل منها

صدرت في العالم آثار جليلة يفتخر بها الكون الإنساني ، وليس يوجد عند العقل

أدنى فرق بين مدافعة القريب عن قريبه ومعاونته على حاجات معيشته ، وبين ما

يصدر عن ذلك من المتلاحمين بصلة المعتقد ورابطة المشرب.

فتعصب المشتركين في الدين المتوافقين في أصول العقائد بعضهم لبعض إذا

وقف عند الاعتدال ولم يدفع إلى جور في المعاملة ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم

أو نقض لذمته؛ فهو فضيلة من أجَلِّ الفضائل الإنسانية وأوفرها نفعًا وأجزلها فائدة،

بل هو أقدس رابطة وأعلاها، إذا استحكمت صعدت بذوي المكنة فيها إلى أوج

السيادة وذروة المجد خصوصًا إن كانوا من قبيل قَوِيَ فيهم سلطان الدين ، واشتدت

سطوته على الأهواء الجنسية حتى أشرف بها على الزوال كما في أهل الديانة

الإسلامية على ما أشرنا إليه في العدد الثاني من جريدتنا [1] .

ولا يؤخذ علينا في القول بأنه من أقدس الروابط ، فإنه كما يطمس رسوم

الاختلاف بين أشخاص وآحاد متعددة ، ويصل ما بينهم في المقاصد ،

والعزائم والأعمال ، كذلك يمحو أثر المنابذة والمنافرة بين القبائل والعشائر بل

الأجناس المتخالفة في المنابت واللغات والعادات ، بل المتباعدة في الصور

والأشكال ، ويحوِّل أهواءها المتضاربة إلى قصد واحد وهو تأصيل المجد وتأييد

الشرف وتخليد الذكر تحت الاسم الجامع لهم.

هذا الأثر الجليل عهد لقوة التعصب الديني ، وشهد عليه التاريخ بعدما أرشد

إليه العقل الصحيح ، وما كانت رابطة الجنس لتقوى على شيء منه.

ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني ، وزعموا أن

حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم ، وتضافرهم لدفع ما يلم بدينهم من

غاشية الوهن والضعف هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية ، ويحجبهم

عن نور العلم والمعرفة ، ويرمي بهم في ظلمات الجهل ، ويحملهم على الجور

والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم ، ومن رأي أولئك المتفتقين أن لا سبيل

لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية ومحو أثرها ،

وتخليص العقول من سلطة العقائد ، وكثيرًا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي ،

ويخوضون في نسبة مذامِّ التعصب إليهم.

كذب الخراصون ، إن الدين أول معلم وأرشد أستاذ وأهدى قائد للأنفس إلى

اكتساب العلوم والتوسع في المعارف ، وأرحم مؤدب ، وأبصر مروض يطبع الأرواح

على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة ، ويقيمها على جادة العدل ، وينبه فيها حاسة

الشفقة والرحمة، خصوصًا دين الإسلام فهو الذي رفع أمة كانت من أعرق الأمم في

التوحش والقسوة والخشونة ، وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة والمدنية في أقرب

مدة وهي الأمة العربية.

قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على

التعصب الجنسي فيفضي إلى ظلم وجور ، بل ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين لإبادة

مخالفيهم ومحو وجودهم ، كما قامت الأمم الغربية واندفعت على بلاد الشرق لمحض

الفتك والإبادة لا للفتح ، ولا للدعوة إلى الدين في الحرب الهائلة المعروفة بحرب

الصليب ، وكما فعل الأسبانيوليون بمسلمي الأندلس ، وكما وقع قبل هذا وذاك في

بداية ما حصلت الشوكة للدين المسيحي أن صاحب السلطان من المسيحيين جمع

اليهود في القدس وأحرقهم، إلا أن هذا العارض لمخالفته لأصول الدين قلما تمتد له

مدة ، ثم يرجع أرباب الدين إلى أصوله القائمة على قواعد السلم والرحمة والعدل.

أما أهل الدين الإسلامي فمنهم طوائف شطَّت في تعصبها في الأجيال الماضية

إلا أنه لم يصل بهم الإفراط إلى حد يقصدون فيه الإبادة وإخلاء الأرض من

مخالفيهم في دينهم وما عُهد ذلك في تاريخ المسلمين بعد ما تجاوزوا حدود جزيرة

العرب، ولنا الدليل الأقوم على ما نقول وهو وجود الملل المختلفة في ديارهم إلى الآن

حافظة لعقائدها وعوائدها من يوم تسلطوا عليها وهم في عنفوان القوة وهي في وهن

الضعف.

نعم كان للمسلمين ولع بتوسيع الممالك وامتداد الفتوحات ، وكانت لهم شدة

على من يعارضهم في سلطانهم إلا أنهم كانوا مع ذلك يحفظون حرمة الأديان ،

ويرعون حق الذمة ، ويعرفون لمن خضع لهم من الملل المختلفة حقه ، ويدفعون

عنه غائلة العدوان ومن العقائد الراسخة في نفوسهم (أن من رضي بذمتنا فله ما لنا

وعليه ما علينا) ولم يعدلوا في معاملتهم لغيرهم عن أمر الله في قوله: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ

وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) اللهم إلا ما لا تخلو عنه الطباع البشرية ، ومن نشأة

المسلمين إلى اليوم لم يدفعوا أحدًا من مخالفيهم عن التقدم إلى ما يستحقه من

علو الرتبة وارتفاع المكانة ، ولقد سما في دول المسلمين على اختلافها إلى

المراتب العالية كثير من أرباب الأديان المختلفة ، وكان ذلك في شبيبتها وكمال

قوتها ، ولم يزل الأمر على ما كان، وفي الظن أن الأمم الغربية لم تبلغ هذه

الدرجة من العدل إلى اليوم (فسحقًا لقوم يظنون أن المسلمين بتعصبهم يمنعون

مخالفيهم من حقوقهم) لم يسلك المسلمون من عهد قوتهم مسلك الإلزام بدينهم

والإجبار على قبوله مع شدة بأسهم في بدايات دولهم وتغلغلهم في افتتاح الأقطار ،

واندفاع هممهم للبسطة في المُلك والسلطة، وإنما كانت لهم دعوة يبلغونها فإن قُبلت

وإلا استبدلوا بها رسمًا ماليًّا يقوم مقام الخراج عند غيرهم مع رعاية شروط عادلة تُعلم

من كتب الفقه الإسلامي.

هذا على خلاف متنصرة الرومانيين واليونانيين أيام شوكتهم الأولى ، فإنهم ما

كانوا يطأون أرضًا إلا ويلزمون أهلها بخلع أديانهم والتطوق بدين أولئك

المُسلطين ، وهو الدين المسيحي، كما فعلوا في مصر وسوريا بل وفي البلاد

الإفرنجية نفسها.

هذا فصل من الكلام ساق إليه البيان ، وفيه تبصرة لمن يتبصر ، وتذكرة لمن

يتذكر ، ثم أعود بك إلى سابق الحديث فيما كنا بصدده: هل لعاقل لم يُصَب برزيئة

في عقله أن يعد الاعتدال من التعصب الديني نقيصة؟ وهل يوجد فرق بينه

وبين التعصب الجنسي إلا بما يكون به التعصب الديني أقدس وأطهر وأعم فائدة؟

لا نخال عاقلاً يرتاب في صحة ما قررناه، فما لأولئك القوم يهذون بما لا يدرون؟

أي أصل من أصول العقل يستندون إليه في المفاخرة والمباهاة بالتعصب الجنسي

فقط واعتقاده فضيلة من أشرف الفضائل ويعبرون عنه بمحبة الوطن [2] وأي قاعدة

من قواعد العمران البشري يعتمدون عليها في التهاون بالتعصب الديني المعتدل

وحسبانه نقيصة يجب الترفع عنها؟

نعم إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما هي الرابطة

الدينية ، وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية ولأولئك الإفرنج مطامع

في ديار المسلمين وأوطانهم فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة بين أرباب

الديانة الإسلامية ، وزينوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة ، وفصم حبالها لينقُضوا بذلك

بناء الملة الإسلامية ويمزقوها شيعًا وأحزابًا، فإنهم علموا كما علمنا وعلم

العقلاء أجمعون أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، وتسنى

للمفسدين نجاح في بعض الأقطار الإسلامية ، وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلاً

وتقليدًا فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعد ما فقدوها ، ولم يستبدلوا بها

رابطة الجنس (الوطنية) التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقًا منهم وسفاهة ،

فمثلهم كمثل من هدم بيته قبل أن يهيئ لنفسه مسكنًا سواه؛ فاضطر للإقامة بالعراء

معرَّضًا لفواعل الجو وما تصول به على حياته.

هذا أسلوب من السياسة الأوربية أجادت الدول اختباره ، وجنت ثماره فأخذت

به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم ، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد

العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية ، ولم تُعدم صيدًا من الأمراء

والمنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة ، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من

بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن يميلوا

مع هذه الأهواء الباطلة ، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع بقائهم

على عقائدهم وثباتهم في إيمانهم يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني ، ويلهجون

في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة ، ولا يعلم أولئك

المسلمون أنهم بهذا يشُقون عصاهم ويفسدون شأنهم ، ويخربون بيوتهم بأيديهم

وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة ودفعها إلى

أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء.

والله ما عجَبُنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين

من الأمم الإفرنجية الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين [3] ،

ولا يخجلون من تبشيع التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة.

الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب ، وأحرصهم على القيام

بدواعيه ، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين

والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم ، وإذا عَدَت عادية مما لا يخلو عنه

الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق

سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية

وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة وحدثت حادثة، مهمة فأجمعوا الأمر وخذوا

الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية ،

وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات

وترقب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون

ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين ، وإن

كان في أقصى قاصية من الأرض ، ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.

أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغُمر وجه البسيطة من دماء

المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس ، بل

يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده ، ويذهلون عما

أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والمرحمة الطبيعية كأنما يعدون

الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية ، وليس من نوع الإنسان

الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره ، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين منهم بل

الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم

الديني ، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم ، وليتهم يقفون عند الحق ولكن كثيرًا

ما تجاوزوه.

أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب ، يبلغ الرجل منهم

أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه ، ثم لا نجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها

نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة من روحه (انظر إلى

كتب غلادستون وخطبه السابقة) .

فيا أيتها الأمة المرحومة هذه حياتكم فاحفظوها ، ودماؤكم فلا تريقوها ، وأرواحكم

فلا ترهقوها ، وسعادتكم فلا تبيعوها بثمن دون الموت.

هذه هي روابطكم الدينية لا تغرنكم الوساوس ولا تستهوينكم الترهات ، ولا

تدهشنكم زخارف الباطل ، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم ، واعتصموا بحبال

الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي ، والفارسي

بالهندي ، والمصري بالمغربي ، وقامت لهم مقام الرابطة النَّسبية حتى إن الرجل

منهم ليألم لما يصيب أخاه من عاديات الدهر وإن تناءت دياره وتقاصت أقطاره.

هذه صلة من أمتن الصلات ساقها الله إليكم ، وفيها عزتكم ومنعتكم وسلطانكم

وسيادتكم، فلا توهنوها ، ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل ، فالعدل

أساس الكون وبه قوامه ، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم ، وعليكم أن تتقوا

الله وتلزموا أوامره في حفظ الذمم ومعرفة الحقوق لأربابها ، وحسن المعاملة

وأحكام الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب

الأديان المختلفة ، فإن مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم كما لا تقوم مصالحهم إلا

بمصالحكم ، وعليكم أن لا تجعلوا عصبية الدين وسيلة للعدوان ، وذريعة لانتهاك

الحقوق ، فإن دينكم ينهاكم عن ذلك ويوعدكم عليه بأشد العقاب. هذا ولا تجعلوا

عصبيتكم قاصرة على مجرد ميل بعضكم لبعض ، بل تضافروا بها على مباراة الأمم

في القوة والمنعة والشوكة والسلطان ، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة والفضائل

والكمالات الإنسانية. اجعلوا عصبيتكم سبيلاً لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم ، وأخذ كل

منكم بيد أخيه ليرفعه من هوة النقص إلي حضيض الكمال ، وتعاونوا على البر

والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.

...

...

...

...

(العروة الوثقى)

يقول منشئ هذه المجلة:

(إن الوطنية العمياء التي يلغط بها بعض الناس في مصر هي أضر على

الرابطة الإسلامية من ذم التعصب الديني؛ لأنها ضُرتها وخصيمتها ، ولذلك ترى

أصحابها يمقتون غير المصري ممن يقيم في مصر ، وإن قام لهم بأشرف الخدم

وهي خدمة الدين ، ولا يستحي كتابهم حيث يسجلون في جرائدهم مثل قولهم:

إن هؤلاء غرباء ، وجاءوا بلادنا ليتعيشوا ويتريشوا، وما أشبه هذه السخافات

فوا إسلاماه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .

_________

(1)

يشير إلى مقالة نفيسة عنوانها (الجنسية والديانة الإسلامية) وسننشرها في عدد آخر.

(2)

تأمل كيف صرح بأن الذين يحاولون منع التعصب الديني يريدون أن يستبدلوا به التعصب الوطني.

(3)

ذكر هنا من مثال ذلك أن الإنكليز سعوا بنشر جريدة وانشاء مدرسة لبث هذه الأباطيل، حذفناه اختصارًا، وأما في مصر فمن محمل لواء الوطنية يدعي بعض الإنكليز.

ص: 4

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(21)

من هيلانة إلى أراسم في 2 يولية سنة - 185

أترى أن الكمال لا يخلو من نقص والحسن لا يعرى من قبح؟ إني -

والحق أقول - أراني مدفوعة إلى اعتقاد ذلك ببواعث كافية.

فما عاينته من أحوال الإنكليز وأخلاقهم ينطبق انطباقًا تامًّا في بعض المواضع

على ما سمعته عنهم من السير جون سنت أندروز ، ولكن تصفحي هذه الأخلاق

وترديد فكري فيها قد اضطرني إلى الأخذ بالحزم في امتداحها ، وترك المجازفة في

إطرائها.

لأكثر الامهات اللاتي ألاقيهن في بيت السيدة وارنجتون أولاد عديدون، فما

أعجب ما يرى في جميعهم من مقدار تحققهم بما لمخالطيهم من الأوهام وسرعة

انطباع معتقداتهم الباطلة في نفوسهم، فتراهم على قلة علمهم بالأمور يفرقون بين

مطلق رجل والسري المهذب من الرجال ، ومطلق امرأة والسيدة الكريمة من النساء

فرقًا تامًّا ، ويميزون من ولدوا لخدمتهم ممن يجب لهم عليهم الإجلال والتعظيم لأول

نظرة إليهم غير مترددين في ذلك ولا مرتابين ، ويحافظون على شرف الاقتداء بعظماء

الناس في سيرهم لا لأن ذلك مطلوب لذاته ، بل لعدم الإخلال بما تواضع عليه

أولئك العظماء من الآداب. وإني لعلى يقين من أنك لو اطلعت على هذا العالم

الناشئ لوجدت فيه شيئًا من التصلف ، فلشد ما يُرى فيهم من العجرفة ، وما يُبدونه

أمام الأجانب من ظواهر الأبهة الصبيانية.

أليست حقيقة الأمر أن هؤلاء الإنكليز أنفسهم على ما لهم من الحرية الواسعة،

وما فيهم من كمال استحقاقها هم في غاية الخشية والخضوع لرأي الكافة؟ أليس

شأنهم في هذا شأن باسكال [1] الذي يسمي ذلك الرأي ملك الدنيا.

على أنني لا أدري أي تأثير له فيها يستحق به هذه التسمية ، ولكني أخال أنه

له في إنكلترا من السلطان والسيطرة ما ليس مثله لفكتوريا ، فإن جيراننا ينشأون

من صغرهم عبيدًا مختارين لبعض مواضعات قومية ، فيوجبون على أنفسهم تعظيم

ما عظمه جمهور المهذبين من قومهم بدون بحث فيه ولا نظر ، فكل منهم في

سيرته وآرائه تبع لغيره معتمد على ما لهذا الغير من الاعتبار وعلو الكلمة ، وتراهم

في منتدياتهم قليلي الكلام ، بل إن محادثاتهم لا تخرج عن حدود المواضيع التي

قدسها استقرار العادة. فلهم جمل من المعاني والأفكار كأنها تحجرت في أخلاقهم

وعوائدهم ، فأجمعوا على عدم المناظرة والجدال فيها.

إني إلى الآن لم أعرف الإنكليز معرفة تكفي لإدراك سر هذه المباينات ، وإنما

الذي أراه في كبارهم أنهم قد جمعوا بين غاية الاستقلال في أفعالهم وغاية التقليد في

آرائهم ، وأما صغارهم فإنهم كذلك أحرار في حركاتهم وفي معظم ما تتوجه إليه

عزائمهم من أعمالهم ، لكنهم يحجرون على أنفسهم أن تتعلق هذه العزائم من

الأعمال بما يخالف تقاليد أهليهم وآثار سلفهم وعوائد الصالحين من مخالطتهم ،

وربما كانت الحكمة في كل ذلك أن القوم قد رأوا طباعهم تجري بهم في بحر لجي

من الحرية جري السفن مدت شرعها فاضطرهم ذلك إلى طلب مرساة يوقفون بها

جريها فالتمسوها في ضبط الأخلاق البيتية وفي العوائد القومية والأصول الملية

اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

باسكال - ويسمي بليز باسكال - هو كاتب ومهندس فرنساوي شهير ولد في كليرمونت فيراند سنة 1623 ومات سنة 1662 ميلادية وله مؤلفات شهيرة منها (أفكار باسكال) .

ص: 15

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌دار علوم في مكة المكرمة

شكونا غير مرة في المنار من إهمال المعارف والفنون في البلدين المكرمين:

مكة والمدينة مهبط الوحي ومشرق أنوار العلم والحكمة تنبيهًا للدولة العلية

والحضرة السلطانية إلى تدارك ذلك ، وقد ذكرت جريدة الرياض (التي سيأتي

تقريظها) المدرسة الصولتية التي تأسست في مكة المكرمة من نحو ربع قرن ، وأنه

انحط شأنها الآن بسببين، أحدهما: موت النواب محمود علي خان صاحب رئيس

جهتاري من مضاف بلند شهر (رحمه الله تعالى) فإن ذلك الأمير الفاضل كان ركن

هذه المدرسة وعمادها ومبالغًا في إرفادها وإمدادها ، وثانيهما: انتشار الطاعون في

بلاد الهند الذي حال بين مسلمي الهند وبين بلد الله الأمين ، وقد كان للمدرسة في

كل عام وفد عظيم من أغنيائهم ، وحاصل القول: إن المدرسة قد حيل بينها، وبين

موارد ثروتها ، قال صاحب الرياض وأعضاء الشورى (أي في الهند) والمهتمون

بالمدرسة الصولتية يبتغون إقامة (دار علوم) في مكة المكرمة تجمع بين علوم

الدين وعلوم الدنيا حتى الحرف والصنائع ثم قال: (وكفى لمسلمي الهند فخرًا

يباهون به أن ينعقد بتوجههم دار العلوم في أم القرى ، وأنا أردت أن أدور في جميع

أقطار الهند وبلادها وأمصارها لأحشد لها نقودًا، وأرصن بها بناء دار العلوم

لتعليمات الفنون الدنيوية والعلوم الدينية ، وقد جعلني الجناب المولوي محمد سعيد

منتظم المدرسة الصولتية في بلد الله الأمين وكيلاً من قبله في بلاد الهند) ثم

ذكرنا أنه جعل جريدته داعية إلى هذا ، وأنه يعطي لكل من يدفع له شيئًا من النقود

وصولاً (قسيمة) مختومًا بختم المولوي محمد سعيد ، ويتكفل هو بإيصال النقود

إليه.

(اقتراح المنار)

نشكر لإخواننا مسلمي الهند الساعين بهذا العمل المبرور غيرتهم الدينية ،

ونعترف لهم بفضل السبق إليه ، ولكن نحب أن يشاركهم فيه سائر إخوانهم

المسلمين في جميع أقطار الأرض ، ونقترح على مسلمي كل قطر أن يؤلفوا لجنة

للاكتتاب وجمع المال لهذا العمل الشريف يرأسه في كل مصر أحد أهل الفضل

والوجاهة ، وأن يحث عليه الخطباءُ وأصحابُ الجرائد عمومًا ، وأن تكون اللجنة

العليا في مكة المكرمة نفسها ، وأن يكون بينها وبين سائر اللجان اتصال بالمكاتبة ،

وأن تعهد كل لجنة من لجان الآفاق إلى بعض الفضلاء الذين يقصدون الحج

بحضور اللجنة العليا واكتناه شؤونها ، وإذا اتفق السيد الشريف أمير مكة مع دولة

واليها على الإيعاز إلى خطباء الحرم الشريف وخطباء عرفة بحث الحجاج على

التبرع لهذا العمل المبرور فلا تسل عما يظهر من المكارم الإسلامية في تلك البقاع

القدسية ، وقد كنا اقترحنا في المجلد الأول من (المنار) إنشاء جمعية إسلامية

كبرى في مكة المكرمة يكون لها شُعب في جميع بلاد الإسلام ، وبينَّا هنالك أعمالها

ومزاياها ، وأشرنا إلى الصعوبة التي أمامها ، ولكن هذا العمل (إنشاء دار علوم)

لا صعوبة أمامه بل هو متيسر جدًّا إن شاء الله تعالى ، وسيكون فاتحة خير لجمع

كلمة المسلمين بفضل الله تعالى ، وبه يظهر المسلم الغيور ممن لا حظَّ له من الغيرة

على الإسلام إلا كثرة اللغط والكلام ، وسنعود إلى الموضوع ، ونرجو من المؤيد

الأغر ، ثم من سائر الجرائد المصرية حث إخواننا المصريين على أن يسبقوا سائر

المسلمين إلى الانضمام إلى إخوانهم الهنديين ، والله لا يضيع أجر المحسنين ،

وأقسم بالله العظيم رب البيت الحرام ومميزه على سائر البلاد بظهور نور الإسلام،

على جميع المقربين من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين أن يبلغوه

خبر هذه المدرسة بالصفة الحقيقية التي ترضيه لكي تفيض عليها مكارمه الهامية ،

وتحوطها رعايته السامية ، وعسى أن يهتم من يسمع له الكلام ، من على ذلك المقام

كسماحة السيد أبي الهدى أفندي بأن يكون الواسطة بين المسلمين وخليفتهم في

أمنيتهم هذه ، فيكون له عند الجميع شأن عظيم ، وعند الله أجر كريم.

_________

ص: 17

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌آثار علمية أدبية

نفتتح باب الآثار الأدبية بقصيدة من غرر القصائد العصرية مزينة بمديح

مولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد خان أيد الله

دولته ، وأنفذ شوكته ، نظم عقدها صديقنا الفاضل الشيخ محيي الدين أفندي الخياط

البيروتي ، وهي:

إليك فما تغني القنا والقنابل

إذا لم يقم بالأمر كاف وكافل

وليس الظبي إلا مخاريق لاعب

إذا سلها كف عن العدل عادل

وليست قلاع الجو تدعى معاقلاً

إذا لم يدر أمر المعاقل عاقل

وما صولجان الملك يدفع أكرة

إذا لعبت بالصولجان الأسافل

وما يصنع البحار فوق سفينة

إذا عُطِّلت بالسير منها المراجل

وما تصنع الأجناد والجهل قائد

وما تنفع القُوَّاد والجند خاذل

دع البذخ ما هذي القصور مشيدة

لتبني فخارًا والمشيد جاهل

كذلك ما تبني الجبال شواهقًا

تناطح هام الأفق وهي مجاهل

إذا العلم لم تعهده منك معاهد

غدت بلقعًا وهي الربوع الأواهل

وما العلم إلا الدين مع عمل به

وما الدين والأعمال إلا الفضائل

وما الشعب والسلطان إلا وشائج

وما الناس والأوطان إلا الفعائل

أتتك أمير المؤمنين ووجهها

ووجهك وضاح عليه دلائل

تمد يمينًا ذات يمن ومعصم

له الكون كف والأنام أنامل

قرونًا ثلاثًا جاوزت بعد عشرة

وتبقى إلى أن يسحل الكون ساحل

وتحيا وفي الإسلام حي وميت

وليس بقايا السيف إلا الثواكل

تقطعها الأجيال وهي قواطع

وترشقها الأقتال وهي قواتل

توالت عليها الحادثات وكفها

طليق وما للقيد إلا السلاسل

تحملتها كهلاً، بلى كنتَ شيخها

وما ونيت يا كهل منك الكواهل

خليفة رب الكون تلك خلافة

إذا أيمت لم يبق في الكون عاهل

رعيت رعاك الله أي رعية

تقاتل بالأرواح فهي الجحافل

وما ينفع الجيش العرمرم في الوغا

إذا لم يكن مستقتلاً من يقاتل

تبوأتَ عرش الملك والجهل طالع

بأفق الرزايا والخطوب نوازل

على حين ما إن الخلافة أعوزت

زعيمًا فلم تقبل سواك القبائل

وأم العلا رامت خطيبًا لبكرها

وليس لبيت المجد غيرك آهل

يقولون: ما ساس الأمورَ كغيره

فقلت: وكم قد قال في الناس قائل

وما راكب البحر العباب تحوطه

عواد كمن يؤويه بالبر ساحل

وكم من طليق للسياسة يدّعي

فلما تولى شكلته المشاكل

يظنون تحرير الجرائد دولة

وما هي إلا القول للبيع نازل

ظنون وتخريص وأوهام زاجر

يشوبهم بالطبع حق وباطل

يديرون أمر الكون والكون دائر

على سنن للناس فيها شواغل

نعم إن منهم نافعًا لبلاده

ولكن وايم الله هن قلائل

فلا يتعدى أول العقد آخر

ولا يتخطى مركز العقد واصل

فدعهم بلج القول تفديك أمة

بك اتصلت روحًا فلم يبق فاصل

تعدك ظل الله إذ أنت عندها

خليفته والسر في تلك حاصل

لقد سُستَها بالعلم والحلم والندى

وهذي المزايا كلها والفضائل

مليك البرايا دأبك الجد لا تقف

فأنت لنا عضو عن الجسم عامل

كذاك دهاقين العلا ورجاله

وليس امرأ إلا الهمام الحلاحل

عداك الردى لو كنت في غير شرقنا

لما نُصبت إلا إليك الهياكل

ولو أن أهل الشرق مثلك لم نجد

سوى الجد بل ما كان في الشرق خامل

لقد شدت للتعليم أي مدارس

بها علمتنا كيف تنشأ المعامل

ولكننا اعتدنا الخمول وشرقنا

أناخت عليه بالخمول كلاكل

نؤمل أن يبقى لذي الأمر عالة

يعول علينا الدهر والكل عائل

فلا المال يرضينا ولا العلم نبتغي

ولا للعلا نسعى وهذا التسافل

ونعتقد الحكام هيكل قدرة

له البدر صيد والنجوم حبائل

إذا موسر أو عالم نبغا بنا

يعرقل مسعاه سريٌّ وسافل

ولستُ أزكي النفس بل أنا واحد

بل كلنا المسئول والله سائل

ودونكها ليس التبرج شأنها

ولم تتبذل قط والغير باذل

لقد صغتُها والشعر يشهد أنني

هجرت قوافيه فهن قوافل

وما تبتغي مني البلاغة إن أكن

بليغًا بعصر فيه باقل قائل

دعونى وشأني والتظاهر لا أرى

فليس يعاب البدر والبدر آفل

(المنار)

لم نتصرف بشيء من أبيات القصيدة ولا من ألفاظها المفردة؛ لأنها

جاءت مذيلة من حضرة ناظمها الفاضل بالتصحيح؛ وممضاة بإمضائه.

_________

ص: 19

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(فلسفة البلاغة)

وضع العلامة عبد القاهر الجرجاني فنون البلاغة وكتب فيها ما يتنافس فيه

المتنافسون ، ثم جاء مَن بعده فكتب دون ما كتب عبد القاهر ، ولم تزل البلاغة

تسفل وتتضاءل على تمادي السنين والأجيال حتى آلت إلى الاضمحلال وآذنت

بالزوال ، ولم يبق عند المشتغلين بتلك الفنون إلا بعض المحاورات اللفظية في

أساليب كتب المؤلفين الذين تبعد أساليبهم عن ذوق اللغة الصحيح ، وقد تنبه

الناس في هذا العصر إلى إحياء فنون اللغة العربية وتحصيل ملكة البلاغة فيها

ورأى صديقنا العالم الفاضل المعلم جبر ضومط أستاذ اللغة العربية بالمدرسة الكلية

السورية الأميركانية في بيروت أن حالة العصر تقتضي وجود تآليف في البلاغة

بأسلوب جديد فألف أولاً كتاب (الخواطر الحسان) وقد أهدانا من أشهُر كتابًا آخر

سماه (فلسفة البلاغة) تصفحنا بعض صفحاته ، فألفيناه على قاعدة جعلها قطب

دائرة البلاغة وأصاب ، وهي (الاقتصاد في انتباه السامع) وقد كنا أرجأنا تقريظه إلى

أن تتسنى لنا مطالعته بتمامه ، وإلى الآن لم يسمح لنا الوقت بذلك ، فنوهنا به مؤقتًا

لنعطيه بعض حقه ، ونرشد الطلاب إلى الاستفادة منه.

(الزراعة المصرية)

يؤلف أخونا الفاضل المهذب أحمد أفندي جرانة العالم البارع في فن

الزراعة سلسلة رسائل في الزراعة المصرية ، وقد طبعت الرسالة الأولى

منها في مطبعة الهلال ، وهي في (زراعة قصب السكر) تكلم فيها كلامًا وافيًا

ابتدأه بتاريخ القصب ، ثم تكلم عن القصب المصري خاصة وعن

الأرض التي تصلح لزراعته ، وعن حالة الجو بالنسبة له ، وعن المياه والتقاوي

ومعالجة الأرض ، وكيفية الزراعة ، وعن المحصول والنفقات والأمراض التي

تصيبه ، وغير ذلك من الفوائد العلمية والعملية ، فعسى أن يُقبل المصريون على

اقتناء هذه الرسالة والاستفادة منها ، فإن القصب من أهم غلات هذه البلاد.

(الرياض)

جريدة علمية أدبية شهرية مؤقتًا ذات ثماني صفحات كبيرة تصدر في مدينة

لكهنوء من بلاد الهند باللغتين العربية والأوردية ، صاحب امتيازها الفاضل الهمام

الحاج رياض الدين أحمد ، وقد تصفحنا العدد الأول منها فألفيناه مشتملاً على فوائد،

منها أنه ضبط خمس كلمات مما يخطئ أكثر الناس في ضبطها ، وقد فتح لهذا بابًا في

الجريدة لأجل متابعة العمل ، والكلمات الخمس هي:(آصَف) كاتب سليمان عليه

السلام بفتح الصاد (ابن جنِّي) العالم المشهور بضم الجيم معرَّب كني (الأُبَّهة) بضم

الهمزة وفتح الباء المشددة ، (الأجنة) جمع جنين الأجن ، وهذه وما قبلها لا يخطئ

فيهما أحد عندنا (الأجوبة) في جمع الجواب غلط ، قال ابن الجوزي في تقويم

اللسان: (الجواب لا يجمع) هذا ما جاء في الرياض ، ونزيد نحن في الكلمة الأخيرة

أن سيبوبه سبق ابن الجوزي فقال: الجواب لا يجمع، وقولهم: جوابات كُتُبي مولد ،

وأجوبة كتبي مولد ، إنما يقال: جواب كتبي ، أي إن كان الجواب متعددًا؛ لأن المفرد

المضاف يعم ، ولكن المصباح ذكر الجمعين وسكت عليهما ، فهل كان ذهولاً عن كلام

سيبوبه أم ثبت عنده الجمع؟ ومنها - بل عظمى فوائدها - الحث على إنشاء دار

علوم في مكة المكرمة (انظر باب التربية والتعليم) .

_________

ص: 22

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منثورات

(انتشار دين الإسلام)

جاء في جريدة الحاضرة الغراء ما نصه:

بعث الفاضل محمد أفندي عبد الحق القاطن في مقاطعة قولينسلاند من أعمال

القارة الأسترالية برقيم حَرِيٍّ بالذكر أوضح فيه أن الدين الإسلامي آخذ بالانتشار في

جزائر فيكتوريا وجنوبي بلاد الغال وقولينسلاند والفيشي انتشارًا مهمًّا ، وأن المسلمين

قُطَّان هذه الجزائر يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل الحصول على الكتب الدينية

الإسلامية ، وأنهم قد ألفوا جمعيات عديدة في البلاد بغية نشر الدين، وفقهم الله.

وجاء في رسالة من نيش إلى جريدة إقدام العثمانية أن عشرة آلاف من سكان

نيش من عواصم الصرب ، وثلاث بلدان أخرى بعملها قد اهتدوا جميعًا إلى الدين

الإسلامي ، وعزموا على ترك الأوطان فرارًا من ظلم الحكومة الصربية ، والالتجاء

إلى الممالك العثمانية.

إن الجامع الذي عزم المسلمون على تأسيسه في (لندرة) عاصمة البلاد

الإنكليزية قد قُدِّرت نفقاته بعشرة آلاف ليرة، وسيكون في أحسن موقع من البلدة

على أجمل طرز غربي.

(مأثرة تذكر لفضيلة شيخ الجامع الأزهر)

كتب مولانا شيخ الجامع الأزهر إلى سعادة محافظ مصر بأن يمنع الرجال

والنساء الذين يتلون القرآن في الطرق والشوارع ، حتى بقرب الحانات والمزابل

لما في هذا من الإهانة للدين.

***

انتقلت جمعية شمس الإسلام من مركزها الذي كانت فيه ويجتمع مجلس إدارتها

الآن في بيت أحد أعضائه ، وسيصير أخذ محل مناسب لها في هذا الأسبوع ، وعند

ذلك تخبر به جميع الأعضاء وجميع اللجان الفرعية إن شاء الله تعالى ، وسنشرح

أسباب الإرجاف بها.

لم نتمكن من جمع فهرست المجلد الثاني وطبعه لنقدمه مع هذا الجزء؛ لكثرة

الشواغل التي أحدثها تعدي المفسدين علي الجمعية ، وقد انتهت المشكلة على خير ،

ولله الحمد ، ونرجو أن نتمكن من تقديم الفهرست مع الجزء الآتي.

***

نهنئ جريدة الأصمعي وجريدة المناظر الغراوين اللتين تصدران في بلاد

البرازيل بإكمال السنة الأولى ، والدخول في السنة الثانية مع الجد والاجتهاد في

خدمة أبناء وطنهم السوري في تلك البلاد ، ونتمنى لهم زيادة النجاح والفلاح.

_________

ص: 24