الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فرنسا والإسلام
عجبًا للدم الذي تحرك لكلام المسيو هانوتو كيف لم يتبيغ لكلام القومندان
نابليون ني ، وعجبًا للقلوب التي جرحها ذلك كيف لم يذبحها هذا ، بل عجبًا للنفوس
التي اضطربت للأول كيف لم يزلزل الثاني وجودها زلزالاً؟ إلا إن قومنا لا يزلون
أغرارًا يغترون بالظواهر وينخدعون للمظاهر ، ويخلبون بالأوهام ويعيشون
بالأحلام ، يصيحون من السب ويسكتون على الضرب ، ويتململون من الكلام ولا
يتألمون من الكِلام (بالكسر: الجراح) حاشا نفرًا من أهل الفهوم المشرفين على
حقائق العلوم ، والاستثناء- كما قالوا- معيار العموم.
صاح الصائحون وناح النائحون وكتب الكاتبون وخطب الخاطبون ، وما ذلك
إلا لما رواه هانوتو عن الغالين في التعصب الديني من قومه من وجوب نسف الكعبة ،
ونقل قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى متحف اللوفر في باريس لتنحلَّ رابطة جامعة
الإسلام ويقع أهله في اليأس التام ، ونحو هذا الهذيان الذي يقوله طفل فلا يلتفت له
سائر الصبيان اللهم إلا ما كتبه ذلك الإمام من روائع الحِكم وحقائق الأحكام.
كتب (نابليون ني) في الإسلام والمسلمين ما كتب فعلم المسلمين من هم ، وما
هو الإسلام لو كانوا ممن يعلم أو يتعلم ، وأنى لمن يجهل تاريخ الإٍسلام أن يعرف
تأثيره في الأنام؟ وكيف يهرب من هذا الجهل من يقول علماؤهم: إن هذا العلم
يضعف العقل؟ يبحث نابليون ني عن مكان تتوجه إليه وجوه المسلمين وتتولاه
قلوبهم ، وترمي إليه أبصارهم وتمتد نحوه أعناقهم ليجعلوه قبلة آمالهم ، وكعبة
لإقبالهم ، ومعهدًا لاجتماعهم ، ومعقدًا لارتباطهم- لآمالهم بفرنسا وإقبالهم عليها ،
واجتماعهم في دائرتها وارتباطهم بحبل سيادتها.
علم (نابليون ني) أنه لا يوجد في الدنيا بلد من البلاد تتعلق به قلوبهم وتتوجه
إليه نفوسهم إلا مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأنى لفرنسا أن تقبض على زمام
السلطة الإسلامية فيهما؟ ذلك ما لا مطمع فيه ، وقد أشار الكاتب بأن تُجعل باريس
بديلاً من مكة ، وأن تلفت إليها أنظار العالم الإسلامي بتأليف جمعية فيها من كبار
علماء الإسلام من جميع الأقطار ، وأن يكون للجمعية جريدة إسلامية باللغات
المشهورة بينهم ، فهو يرى أن هذه الجمعية التي يقاد أفرادها إلى أوربا بسلاسل
الذهب والفضة كافية لتحويل قلوب الأمة الإسلامية إلى فرنسا، وصرح بأن اجتماع
المسلمين على دولة أجنبية أقرب من اجتماع بعضهم على بعض لما بينهم من تفرق
المذاهب وتعدد المشارب.
فهل يفقه المسلمون بعد سماع هذا الكلام معنى الجامعة الإسلامية وكيف تكون
وبماذا تكون؟ هل يفطنون للسر الغريب في فريضة الحج ، ويتنبهون إلى أنه لم
يوجد دين من الأديان ، ولا حكيم من الحكماء قدر أن يضع وضعًا يجذب به أرواح
الشعوب من جميع أقطار الأرض إلى مكان واحد، فتطير بأجسامهم إليه لتقوية
الجامعة الملية بينهم ، وهو ما وضعه دين الإسلام دين المدنية الكبرى والاجتماع ،
هل يتدبرون سوء مغبة اختلاف المذاهب في الملة التي يتبرأ كتابها ونبيها من
المتفرقين في الدين ويسعون في شعب الصدع ورتق الفتق؟ هل يتفكرون بعده في
معنى اجتماع العلماء وما له من النفع العميم؟ وما في اختلافهم من البلاء العظيم؟
هل يعقلون بعده فوائد الجرائد الدينية الإسلامية وآثارها.
قد بيَّنا كل هذا ودعونا إليه في مقالات الإصلاح الإسلامي التي نشرناها في
المجلد الأول من المنار- دعونا إلى تأليف جمعية إسلامية يكون لها شُعب في كل
قطر إسلامي وتكون عظمى شعبها في مكة المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع
أقطار الأرض ويتآخون في مواقفها ومعاهدها المقدسة ويكون أهم اجتماعات هذه
الشعبة في موسم الحج الشريف حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشُّعب التي في
سائر الأقطار يأتون الحج فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام ما يستقر عليه الرأي
من التعاليم السرية والجهرية، وقلنا هناك: وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية
الكبرى في مكة المكرمة على وجودها في دار الخلافة.
وثَم مرجحات أخرى من أهمها البعد عن دسائس الأجانب ووساوسهم والأمن
من وقوفهم على ما ينبغي عدم وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله، ومنها أن
لشرف المكان ولحالة قاصده الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص والتنزه عن الهوى
والغرض فضلاً عن الغش والخيانة.
وينبغي أن يكون للجمعية الكبرى جريدة دينية علمية تطبع في مكة أيضًا وأية
شعبة استطاعت إنشاء جريدة تنشئها.
وارتأينا أن يكون من أعضاء الجمعية العاملين العلماء والخطباء ليتسنى
للجمعية إفاضة تعالميها على قلوب جميع المسلمين ، وبينا أعمال الجمعية ونتائجها،
ومنها الجمع والتأليف بين أهل المذاهب لا سيما الفرقتين العظيمتين أهل السنة
والشيعة.
بماذا قابل المسلمون هذا الاقتراح؟ السواد الأعظم لا إحساس لهم ولا شعور،
وأما المتصدرون للكتابة وإرشاد المسلمين في الجرائد فقد مسخوه مسخًا واستدبروا
به المقصد، فأنشأوا يكتبون مقالات يحثون فيها على عقد (مؤتمر إسلامي)
في القسطنطينية، ولا ينتظر من التائه في مفاوز الخيال إلا طلب الفوز من المحال
ولقد كان من حجتنا على هؤلاء أننا نعترف لهم بإصابة رأيهم إذا وجدت جريدة من
جرائد الأستانة العلية توافقهم في الدعوة إليه فإن تلك الجرائد يشبه أن تكون كلها
رسمية؛ لأنها لا تكتب الا ما يمليه عليها أولو الأمر
…
ثم علمنا أنه يوجد من يسعى
بما اقترحناه عملاً لا قولاًً- وما كان غرضنا من القول إلا تنبيه الأفكار إليه- ولكن
المسلمين أمسوا أعداء أنفسهم يبلغون من نكايتها ما لا يبلغه الأجانب منهم ، أو كما
قلت في مكتوب أرسلته منذ سنين لأحد عظماء المسلمين: (إن الممالك الإسلامية
أمست كالمريض الأحمق يأبى الدواء ويعافه من حيث أنه دواء) ولولا رجال
فضلاء منبثون في بعض الأنحاء لانقطع بنا - والعياذ بالله - حبل الرجاء.
قال هذا الضابط: إن الوحدة الاسلامية النظرية (كذا) قد تمزقت بالفتوحات
المتوالية ، وانشقت إلى أقسام دينية لا حدود لها، ولا نظام لحكوماتها ، وقال قبل
هذا: إن الإسلام أصابه الشلل من سوء إدارة مديريه ومديري شئونه ، وكرر القول
بأن دوام فتوحات أوربا المسيحية قد آلمت المسلمين فطفق يتقرب بعضهم من بعض
وأحسوا بالحاجة إلى الاجتماع ، وحث أمته أن تكون الجامعة الإسلامية على يديها
وبيديها.
وعنده أنه لا يمكن أن توجد بنفسها، وأنها إذا وجدت فإنها تنحل بعد ثلاثة
أشهر من وجودها ، ثم صرح بأنه لا ينقص الحركة نحو الجامعة الإسلامية إلا
شيء واحد إذا وجد تكون به قوة الإسلام وغلبته؛ ألا وهو اختيار مكان غير تابع
لدولة من الدول كي يتم به الائتمار بين الفرق الاسلامية المختلفة، فإن عدم وجود هذا
المكان هو السبب في عدم استقرار الفرق الدينية الإسلامية في مكان ثابت، فلكل
منها آثار تتفاوت في الشدة أو الضعف، في بغداد ومصر والأستانة وفارس والهند
وأفريقية ، قال: ولو اهتدى رؤساء تلك الفرق إلى وجود بقعة على سطح الأرض
تكون للإسلام بمثابة رومية أو الفاتيكان للمسيحيين فلا ينقضي زمن يسير حتى
ينعقد فيها مجتمع إسلامي يخضع لإرادته العالم الإسلامي بأسره ، وعقب هذا
بالتنبيه على عموم دعوة الإسلام، يشير إلى أن هذا المجتمع لابد أن يصل مده إلى
أطراف العالم الإنساني.
ونقول نحن: أين رومية والفاتيكان من مكة؟ رومية لا يحج إليها النصارى ،
ولا يؤمن لحبرها الأعظم جميع فرقهم، ولا يوجد مسلم يؤمن بنبوة محمد صلى الله
عليه وسلم إلا ويستقبل في صلاته مكة ويحج إليها عند الاستطاعة، لا فرق بين
سني وشيعي ووهابى وخارجي
…
ولكن أمراء المسلمين وسلاطينهم هم الذين جنوا
على الإسلام وأهله ما لم يجنه الأعداء ، فجعلوا البلاد المقدسة دون سائر البلاد
فأخذهم الله بذنوبهم ، وفرق كلمتهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
ذكر هذا الضابط الباسل بل الضابط العاقل أن من الأمور السياسية التي
يجهلها الأوربيون كون الحكومة الشرعية في الإسلام مبنية على قواعد الدين
والمبادئ الديموقراطية ، وأن أعظم مصيبة ألمت بالمسلمين هي اتخاذهم
الديموقراطية أساسًا لحكومتهم ، وعدم حرصهم على البناء الذي شادوه فوقها ، ثم
ذكر أن هذا الأساس هو الذي يبنى عليه هيكل الوفاق بين فرنسا التي حكومتها
ديموقراطية لا علاقة لها بالدين ، وبين الإسلام الذي تسوسه الديموقراطية الدينية.
لقد صدق الرجل فيما حكاه عن أساس الحكومة الإسلامية ويتذكر قراء المنار
أننا ذكرنا غير مرة أن الإسلام هو الذي وضع أصول الحكومة الديموقراطية
المعتدلة ، ولكن العالم الإنسانى لم يكن استعد لها كمال الاستعداد ، ولذلك لم يتعد
العمل بها زمن الراشدين حتى جعلت السلطة المطلقة للأفراد، ومُني الزعماء
بالاستبداد، فكان ما كان من الفساد والإفساد ، وأما اعتماد المسلمين على فرنسا في
تكوين جامعتهم على الوجه الذي ارتآه فهو المرام الذي لا يدرك واللبانة التي لا
تقضى ، وكأني به وقد نسي أساس الديموقراطية الذي عمل الخلفاء والملوك
والمسلمون في نقضه من القرن الأول إلى الآن فما استطاعوا له نقضًا، وبقي
المسلمون على ضعف الدين فيهم لا ينقادون ظاهرًا وباطنًا إلا لشريعتهم السماوية ،
وخضوعهم الظاهر للحكام القانونيين منهم ومن غيرهم لا يطابق باطنهم ، ولولا
العجز ما خضعوا ورضخوا، وهذا العجز لا يدوم لأن طبيعة العمران قاضية بأنه
سيزول قريبًا بزوال سببه ، وهو الجهل العام بالشئون الاجتماعية الذي تقطعت بمداه
روابطهم الملية ، وقد علم الكاتب هذا ونبه عليه غير مرة.
هذه الجامعة لا تستطيع دولة أوربية تكوينها إلا إذا دخلت في دين الإسلام ،
وقد كتبنا في المنار من قبل أن الدولة الأوربية التي تدخل في الإسلام يمكنها أن
تضم إليها العالم الإسلامي كله ، وأن تمتلك به الدنيا بأسرها.
نعم يمكن لفرنسا أن تعيش مع المسلمين بسلام ، وأن توسع دائرة استعمارها
لبلادهم إذا هي عاملتهم بالحسنى ، ولم تمس استقلالهم الديني بوجه ما ، ويمكن
أيضًا للمسلمين أن يستفيدوا من انصراف عناية دولة كفرنسا إلى الاستفادة من قوة
الإسلام.
ولكن من الذي يستفيد؟ وماذا يستفيد؟ وكيف يستفيد؟ أترك الكلام في هذا
لأجل أن تشتغل به الأفكار ، وربما نعود إليه في فرصة أخرى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية وأدبية
(سؤال وجواب عن آيتين من الكتاب)
رفع سؤال إلى مولانا حجة الإسلام وقدوة الأنام الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية يطلب صاحبه فيه بيان الجمع بين قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: 78) ، وقوله -
تعالى - عقيبها: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ
وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء: 79) فإن بينهما في بادي
الرأي تنافيًا يتنزه عنه كلام الله تعالى ، فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله:
(كان بعض القوم بطِرًا جاهلاً إذا أصابه خير ونعمة يقول: إن الله تعالى قد
أكرمه بما أعطاه من ذلك ، وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه
به لعلو منزلته لديه ، وإذا وصل إليه شر وهو المراد من السيئة يزعم أن منبع هذا
الشر هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات
والشرور ، فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة
يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما؛
فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله تعالى على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي
يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي فيه ، وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه
مصدرها الأول ومنبعها الحقيقى كذلك، وأن شؤمه هو الذي رماهم بها.
وهذا هو معنى (من عند الله) أو (من عندك) أي: من لدنه ومن
خزائن عطائه ، ومن لدنك ومن رزاياك التي ترمي بها الناس.
فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)
أي إن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم
إنما هو الله وحده ، وليس ليُمن ولا لشؤم مدخل في ذلك.
هذا فيما يتعلق بمن بيده الخير والشر والنعم والنقم، وأما ما يتعلق بسنة الله
في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك، فالأمر على خلاف
ما يزعمون كذلك ، فإن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في
توفير أسباب سعادتنا ، والبعد عن مساقط الشقاء ، فإذا نحن استعملنا تلك المواهب
فيما وهبت لأجله ، وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير وذلك
إنما يكون بجودة الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه ، وفهم شرائع الله حق الفهم
والتزام ما حدده فيها؛ فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة ، ويجنبنا الشقاء
والتعاسة ، وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله تعالى ،
فما أصابك من حسنة فمن الله؛ لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها
الحسنات ، بل واستعمالك لتك القوى إنما هو من الله.
وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا ، وفرطنا في النظر في شئوننا ، وأهملنا
العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه ، وغفلنا عن فهمه فاتبعنا الهوى
في أفعالنا ، وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا ، كان ما أصابنا من ذلك صادرًا عن سوء
اختيارنا ، وإن كان الله تعالى هو الذي يسوقه إلينا جزاءً على ما فرطنا ، ولا يجوز
لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه.
وحاصل الكلام في المقامين أنه إذا نظرنا إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع
ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ولا يجوز أن يقال: إن سواه يقدر
على ذلك ، ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلامًا ، لأن نسبة الخير إلى الله
ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل ، فإن الذي
يأتي بالخير ويقدر عليه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه ، فالتفريق ضرب من
الخبل في العقل.
وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا
سعداء ، ولا يكونوا أشقياء فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من
فضل الله لأنه أحسن استعمال الآلات التي منَّ الله عليه بها فعليه أن يحمد الله
ويشكره على ما آتاه ، ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا
نفسه ، فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب ، وليس بسائغ له
أن ينسب شيئًا من ذلك للنبي ولا لغيره فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ،
ولم يقهره على إتيان ما كان سببًا في الانتقام منه.
فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك (يا محمد) على ما ينالون من
خير فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله
وفي التزامها سعادتهم ، ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على
أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله فعند ذلك يعلمون أن الله قد
انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته ، لأن
الكل من عنده ، وإنما ينعم على من أحسن الاختيار ، ويسلب نعمته عمن أساءه.
وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم ، وأن عصيانه من
مجالب النقم ، وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه وصرف ما وهب من الوسائل فيما
وهب لأجله.
ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب، فإنك لو كنت فقيرًا أعطاك
والدك مثلاً رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد
في الإنفاق ، وصرت بذلك غنيًّا فإنه يحق لك أن تقول: إن غناك إنما كان من ذلك
الذي أعطاك رأس المال وأعدك به للغنى.
أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه واطلع على ذلك
منك فاسترد ما بقي منه ، وحرمك نعمة التمتع به؛ فلا ريب أن يقال: إن سبب
ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد
وهو والدك ، غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد ،
وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يجب لأن تحويل الوسائل عن
الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها
وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه.
وهناك للآية معنى أدق يشعر به ذو وجدان أرق مما يجده الغافلون من سائر
الخلق ، وهو أن ما وجدتَ من فرح ومسرة وما تمتعتَ به من لذة حسية أو عقلية
فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك وما خلقت إلا لتكون سعيدًا بما وهبك،
أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك ، ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما
سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار ، وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار
ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك.
ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة ، وأخذته كما هو وعلى ما
هو عليه؛ لكانت المصائب لديك بمنزلة التوابل الحريفة [1] يضيفها طاهيك [2] على
ما يهيئ لك من طعام لتزيده حسن طعم ، وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة ،
واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده ، والتعرض
لنعمه ، والتحول عن مصاب نقمه فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة
التأديب ومتاع التعليم والتهذيب، وهو متاع تجتني فائدته ولا تلتزم طريقته ، فكما
يسُر طالب الأدب أن يحتمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه
يسره كذلك أن يرتقي فوق ذلك المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعًا بما حصل
بالغًا ما أمل ، وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي.
***
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الحاضرة ، وأهدانا مؤلفه الكاتب
الفاضل محمد أفندي مسعود نسخة منه فإذا هو فلك مشحون بالفوائد العلمية علوية
وسفلية ، أو سماوية وأرضية وكونية ونفسية ، وفي القسم الجغرافي منه بيان أطوال
وعروض السودان وكلام عن بلاد الترنسفال وأورانج والكاب كما أن في القسم
التاريخي ملخص تاريخ الحرب في السودان وفي الترنسفال ، وفي القسم
الزراعي فوائد لا يستغني عنها مصري ، وفي القسم الطبي وقسم تدبير المنزل
فوائد لا يكاد يستغني عنها أحد ، وفيه قسم لغوى فسر فيه كثير من الألفاظ الغريبة
بترتيب المعاجم ، وفيه جداول ليضبط حامل التقويم في البياض منها أمورًا ينبغي
ضبطها كالكتب التي باعها واشتراها وأعارها واستعارها وكالأسماء والعناوين التي
يهمه حفظها ، وكالديون التي له وعليه ، وكالمشاهدات الغريبة التي تعرض له ،
وكأيام المرض والعلاج وما يتعلق بذلك لمن يعنيه ضبط ذلك لهم ، وكالكسب الذي
يدخل عليه من السندات والأسهم ، وكتاريخ أهل المنزل في عامة أطوارهم كالولادة
ودخول المدرسة والحج وغير ذلك ، وليت المؤلف جعل هذه الجداول في باب واحد
ليسهل الكشف عليها ومراجعتها.
وفيه تعريف بأحوال التلغراف والبريد وسكك الحديد وأجور السفر فيها
ومواقيته ، فينبغي أن لا يخلو جيب قارئ من هذا التقويم فإنه خير رفيق في السفر ،
وألطف صديق في الإقامة.
***
(جمعية النهضة الأدبية)
يسرنا أن هذه الجمعية التي أنشأها عمال المطابع قد نجحت ، وما كان أجدر
أرباب المطابع والصحافة بمثلها ، وقد احتفلت في أول ليلة من السنة الهجرية
احتفالاً عامًّا حضره الجم الغفير من الفضلاء والخطباء ، وألقيت فيه الخطب
المفيدة ، ووفقت الجمعية لإنشاء نشرة أدبية تاريخية صناعية فكاهية تصدر في
الشهر مرتين وسمتها باسم الجمعية (النهضة الأدبية) وصدر العدد الأول منها
في أول السنة فنرجو للجمعية وجريدتها التوفيق والنجاح.
***
(الصبا)
جريدة سياسية علمية أدبية فكاهية أسبوعية تصدر في الزقازيق مديرها الوجيه
المحترم أحمد أفندي عبد الله حسين ، وقيمة الاشتراك فيها 20 قرشًا في
القطر المصري و 30 في خارجه فعسى أن تصادف توفيقًا ونجاحًا.
_________
(1)
هي ما يتبل به الطعام كالفلفل والخردل واحدها تابل.
(2)
الطاهي: الطباخ.