المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (3)

- ‌غرة ذو القعدة - 1317ه

- ‌فاتحة السنة الثالثة

- ‌التعصب

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌دار علوم في مكة المكرمة

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌منثورات

- ‌11 ذو القعدة - 1317ه

- ‌الجنسية والديانة الإسلامية

- ‌مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح

- ‌كلمة للمؤرخين

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌21 ذو القعدة - 1317ه

- ‌الكتب العربية والإصلاح

- ‌نجاح التعليم في الأزهر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌غرة ذو الحجة - 1317ه

- ‌إعادة مجد الإسلام

- ‌التعليم في الأزهر الشريف

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌استماحة وتهنئة

- ‌21 ذو الحجة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مدرسة زعزوع بك للبنين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة المحرم - 1318ه

- ‌الوحدة العربية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تأسيس فرعي سمالوط ومعصرة سمالوطلجمعية شمس الإسلام

- ‌سيرة المرحوم عثمان باشا الغازي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌11 محرم - 1318ه

- ‌الدنيا والآخرة(2)

- ‌فرنسا والإسلام

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌21 محرم - 1318ه

- ‌الترك والعرب

- ‌الدين والدنيا والآخرة(3)

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة صفر - 1318ه

- ‌الترك والعرب

- ‌التعليم النافع

- ‌السنوسي وأتباعه

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثانى

- ‌11 صفر - 1318ه

- ‌الحركة الإسلامية الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم المفيد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار والآراء

- ‌21 صفر - 1318ه

- ‌أوروبا والإصلاح الإسلامي

- ‌نصيحة أمير أفغانستان إلى ولده وولى عهده

- ‌هانوتو والإسلام

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌غرة ربيع الأول - 1318ه

- ‌القضاء والقدر

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ختام درس المنطق للأستاذ الأكبر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌11 ربيع الأول - 1318ه

- ‌الاحتفال الأولبامتحان مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 ربيع الأول - 1318ه

- ‌المشروع الحميديُّ الأعظم

- ‌مدرسة جمعية شمس الإسلام في الفيوم

- ‌القديم في الحديث والأول في الآخر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌السؤال والجوابعن حل طعام أهل الكتاب

- ‌غرة ربيع الثاني - 1318ه

- ‌هانوتو والإصلاح الإسلامي

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المشروع الحميدي الأعظم

- ‌11 ربيع الثاني - 1318ه

- ‌محبة الله ورسولهفي إعانة السكة الحديدية الحجازية

- ‌الشعر العربي

- ‌قصيدة الجزائر

- ‌الاحتفال الثاني عشربمدرسة ديروط الخيرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 ربيع الثاني - 1318ه

- ‌الشعر العربي

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادىالأولى - 1318ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ملاحظة على مقالة الشعر العربي

- ‌أُفْكُوهَة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌11 جمادى الأولى - 1318ه

- ‌ميزان الإيمان وسلم الأمم

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌21 جمادى الأولى - 1318ه

- ‌الدعوة حياة الأديان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مكتوب من بعض بلغاء مصرلسماحة أبي الهدى

- ‌ البدع والخرافات

- ‌1 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌الدعوة وطريقها وآدابها

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قسم الأحاديث الموضوعة والمنكرة(1)

- ‌التبرك وشفاء الأمراض

- ‌الموالد والمواسم

- ‌التهتك في مصر وتلافيه

- ‌11 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌الرجال أم المال

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌قسم الأحاديث الموضوعة(2)

- ‌ الموالد والمواسم

- ‌21 جمادى الآخرة - 1318ه

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌أسباب وضع الحديث واختلافه(1)

- ‌البدع والخرافات

- ‌غرة رجب - 1318ه

- ‌العلم والجهل

- ‌الشوقيات

- ‌البدع والخرافات

- ‌11 رجب - 1318ه

- ‌الحكومة الاستبدادية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌البدع والخرافات

- ‌21 رجب - 1318ه

- ‌الحكومة الاستبداديةتتمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌فخر نساء العرب

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌البدع والخرافات

- ‌مقاومة التهتك والدجل والبدع

- ‌غرة شعبان - 1318ه

- ‌الإسلام وأهله

- ‌نموذج من كتاب أسرار البلاغة

- ‌الشعر العصري

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌مسيح الهند

- ‌الإفراط والتفريط

- ‌16 شعبان - 1318ه

- ‌الطاعون والفأر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في مدارس الحكومة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌ الموالد والمواسم

- ‌الأحاديث الموضوعة

- ‌رد مسيح الهند على الطاعنين

- ‌غرة رمضان - 1318ه

- ‌مسألة زيد وزينب

- ‌حكمة الصيام

- ‌القسم الأدبي

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1318ه

- ‌عقوبة الإعدام

- ‌محاورة الماء والنار في توليد البخار

- ‌إلى الله المشتكى

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الجامع الأزهر

- ‌عيد جلوس الخديوي المعظم

- ‌الأحاديث الموضوعة

- ‌غرة شوال - 1318ه

- ‌كتب المغازي وأحاديث القصاصين [

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌وعظ رمضان والمسجد الحسيني

- ‌16 شوال - 1318ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المرأة الجديدة

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌خاتمة سنة المنار الثالثة

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدنيا والآخرة

(2)

بينَّا في المقالة الأول أن الإنسان مادي روحاني ، وأن عوارض المادة تغلب

عليه أولاً فتكون عنايته مصروفة لتحصيل اللذات الجسدية والمنافع المادية التي

تجعله سعيدًا في حياته الدنيا ، ثم يظهر فيه الميل إلى اللذات الروحية والمعارف

العقلية فتكون فيه ضعيفة تحتاج إلى تقويتها بالإرشاد السماوي وهو الدين.

ونقول الآن: إن العمل لتحصيل المنافع المادية له طرف نقص وطرف كمال

فالأول أن يعمل الإنسان لنفسه فقط ولا يبالي في سبيل لذته بسائر الناس أضرهم

عمله أم نفعهم ، والثاني أن يعمل لنفسه ولغيره ، ولهذا الكمال درجات أدناه أن

يعمل لمنفعة أهله وعشيرته ، وأوسطها أن يعمل لمنفعة وطنه وأمته ، وأعلاها أن

يكون مرمى طرفه منفعة أبناء جنسه والناس أجمعين ، والمنافع الروحية العقلية

تنقسم أيضًا إلى هذه الأقسام والدرجات.

ما خلق الله الإنسان ليعنته ، وما كلفه بأن يقلب طبيعته ، خلق آدم وخلق

زوجه له ليسكن إليها ، وأمرهما بأن يتمتعا باللذات الجسدية ، ونهاهما عن الأكل

من شجرة واحدة؛ ليتعلما بذلك كف النفس عن الشهوات ، فإن من لا يستطيع كف

نفسه عن شيء مما يشتهيه تورده موارد الهلكة وتقذف به في هاوية الشقاء.

قص الله علينا قصة أبينا آدم لنسترشد بها ، ثم قال مخاطبًا لنا ممتنًّا علينا

بالمنافع الدنيوية: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ

التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: 26) فالأول ما

لا بد منه ، والثاني للزينة ، والثالث للتوقي من الحرب ، فاستوفى أقسام اللباس كلها

ثم حذرنا من الفتنة التي نزعت عن أبوينا لباسهما وأظهرت سوآتهما ، وأخبرنا

أنه أمر بالقسط والاعتدال في الأمور كلها ، ثم أمرنا بالعبادة الروحية ، فقال: {قُلْ

أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الأعراف: 29) الآية ، ثم بين أن الزينة لا تنافي العبادة بل تجامعها وتلازمها ،

وأن العبادة لا تؤدي إلى ترك اللذات الحسية المعتدلة ، بل تستعقبها وتنتهي إليها

فتكون ثمرة للدين في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا

زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ

حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ

الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31-

32) ولولا أنه قال: خالصة يوم القيامة؛ لفهم أن غير المؤمن لا حظ له في لذات

الدنيا ، وقد كررنا التنبيه على هذا في المنار ليعقله الذين سجلوا على المسلمين

الحرمان من الطيبات لأنهم مؤمنون مسلمون ، ولما كان الإفراط في اللذة والإسراف

في الزينة يؤديان إلى الفواحش والمآثم والبغي والتعدي أخبرنا أنه لا ينهانا من حيث

الدنيا إلا عن هذه الأشياء ، كما أنه لا ينهانا من حيث الدين إلا عن الشرك ، وأن

نقول على الله ما لا نعلم ، ومنه أن نزيد في دين الله تعالى عبادة أو تحريمًا أو

تحليلاً فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ

بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا

تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .

هذه الآيات خطاب عام من الله جل ثناؤه لبني آدم أجمعين، فهي أصل الأديان

كلها ، ولذلك عقبها بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي

فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا

عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف: 35-36) ثم فصل

الوعيد والوعد ووصف العقوبة والمثوبة ، وأقام الدليل والبرهان ، واستلفت العقل

واستصرخ الوجدان ، وأنشأ بعد هذا كله يقص على هذه الأمة أخبار الأمم مع

المرسلين وما أخبرنا أن رسولاً منهم كلف قومه بأن يكونوا روحانيين خلصًا

يعرضون عن عمارة الدنيا ، ويجعلون عملهم كله للآخرة ، بل كانوا يمنون عليهم

بالتمكن في الأرض والخلافة والاستعمار فيها وسعة الرزق وكثرة العدد وبسطة

المُلك والعزة والقوة ، وينهونهم عن الشرك والمفاسد التي تزيل هذه النعم ، اقرأ إن

شئت قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ

نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69)

وقوله عنه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً

وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52) إلى قوله: {فَإِن تَوَلَّوْا

فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ

رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (هود: 57) وقوله تعالى في قصة صالح عليه

السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ

أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61)، وقوله تعالى حكاية عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ

وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ

اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف: 74) وقوله - تعالى - في

قصة موسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ

لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) وقوله -

تعالى -: {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي

بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ

يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف: 137) .

ومن يقرأ التوراة لا يكاد يرى فيها ذكرًا للآخرة لا ترغيبًا في جنتها ولا

ترهيبًا من نارها ، وإنما يرى تكفير الذنوب فيها بتقديم القرابين من الذبائح

والمحرقات وغيرها فهي عقوبة بتفويت شيء من الدنيا عليهم ، ويرى العبادات

معللة بالشكر على الخلاص من نقمة أو الإتحاف بنعمة ، ففي الباب 23 من سفر

الخروج ما نصه: (14 ثلاث مرات تعيِّد لي في السنة 15 تحفظ عيد الفطير تأكل

فطيرًا سبعة أيام كما أمرتك في وقت شهر أبيب؛ لأنه فيه خرجت من مصر ولا

يظهروا أمامي فارغين 16 وعيد الحصاد أبكار غلاتك التي تزرع في الحقل ، وعيد

الجمع في نهاية السنة عندما تجمع غلاتك من الحقل 17 ثلاث مرات في السنة

يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب اهـ) هكذا ، وعيد التوراة البلاء في الدنيا

بإذهاب الرزق والسلطة والإجلاء من الأرض ، ووعدها التمكن في الأرض وسعة

الرزق فيها ، قال في الباب الرابع من سفر التثنية: (40 واحفظ فرائضه التي أنا

أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك من بعدك) .

وقال - تعالى - حاكيًا عن الأمم بالإجمال بعد ما قص أخبارهم مع المرسلين:

] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى [1] آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [2 {

وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96) .

يدلنا كل هذا على صحة ما جاء به الإسلام من أن الله - تعالى - جعل الدين

لمصلحة الناس لا لإعناتهم والخروج بهم عن طبيعة بشريتهم، وعلى تحقيق ما

ذهب إليه أستاذنا في (رسالة التوحيد) من أن سنة الله في الإنسان منفردًا

كسنته فيه مجتمعًا ، طفولية فتمييز تدريجي فرشد وعقل وقد أعطاه الله تعالى في كل

طور ما يليق بحاله من تعاليم الدين ، ولما استعد النوع الإنساني لفهم حقيقة الإنسان

وللقيام بما تطالبه به الإنسانية من حيث جسديته وروحانيته معًا أرسل الله في إثر

أولئك المرسلين السيد المسيح عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى مقابل ما هم فيه

أو نقيضه ، يدعوهم لأن يتركوا الدنيا بالمرة ويكونوا روحانيين خلصًا؛ لتكون دعوته

تمهيدًا للدعوة المعتدلة الممكنة التي تكون من بعده ، وهذه هي الطريقة المثلى في

الإرشاد: يُدعى الواقف عند أحد طرفي الإفراط أو التفريط إلى الطرف الآخر

ليكون مبلغ جهده في الإجابة الوصول إلى الوسط.

جاء في الباب 19 من إنجيل متى ما نصه: (23 فقال يسوع لتلاميذه:

الحق أقول لكم: إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات 24 وأقول لكم أيضًا:

إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله 25 فلما

سمع تلاميذه بهتوا جدًّا قائلين: إذن من يستطيع أن يخلص 26 فنظر إليهم يسوع

وقال لهم: هذا عند الناس غير مستطاع ، ولكن عند الله كل شيء مستطاع)

وهذه المسألة مذكورة في غير إنجيل متى أيضًا ، وفي معناها كلمات أخرى في

الأناحيل ، أنذر الأغنياء بسوء العاقبة وأمر بالخضوع لكل سلطة ومغفرة كل ذنب

لكل أحد ومحبة الأعداء ، وذكر أن اللذات الجسدية لا تكون لأهل الحق إلا في

الملكوت حيث تكون اللذات الروحية، كقوله: (طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم

تشبعون) وقوله: (الحق أقول لكم: إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك

اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت الله) اهـ مرقس وغيره.

وفي الباب الخامس من أعمال الرسل أنهم كانوا يكلفون المؤمن أن يبيع كل ما

ملكه ويأتي بجميع ثمنه للرسل ، وقد أمسك رجل اسمه حنانيا بعض ثمن حقل له

وأعطى الباقي للرسل فوبخه بطرس وسماه مختلسًا ، فمات حنانيا من كلامه.

بهذا وبما تقدمه استعد النوع الإنساني لفهم الحقيقة الإنسانية ، والقيام بحقيها

الروحي والجسدي على صراط مستقيم فمنحه الله دين الإسلام فهي تبيان لكل شيء،

وجعله آخر الأديان ، فجاء بالحق وصدق المرسلين ، وجمع بين أنواع هداهم

وإرشادهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:

90) وقد خاطب القرآن أهل هذا الدين بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ

دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً

وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) ولم يختلف أحد من أئمة

هذا الدين في أن غايته سعادة الدنيا كما في هذه الآية ، وسعادة الآخرة كما في

الآيات الكثيرة ، وأن الإعراض عنه مجلبة للشقاء في الدارين قال عز وجل:

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) فضيق المعيشة في الدنيا من آثار الإعراض عن كتاب الله ودينه

وهو دليل على الشقاء في الآخرة بالنسبة لمجموع الأمة أيضًا.

فعلم مما شرحناه أن القرآن ما أخبرنا بأنه يستخلفنا بديننا في جميع أقطار

الأرض نتصرف فيها كما تتصرف الملوك (قاله البيضاوي في تفسير الآية) وأنه

سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه ، وما أمرنا بأن نطلب منه

حسنة الدنيا والآخرة - إلا وقد جعل ثمرة دينه كلا الامرين ، وما جاء في القرآن من

ذم الدنيا فهو لتأديب المسرفين وكبح جماح المفرطين ، ولكن من المسلمين من

انصرف إلى الغلو في التزهيد عملاً بنصف الدين الروحي ، ومنهم من انصرف إلى

النصف الآخر وسنبين غلط الفريقين {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً

وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ

الحِسَابِ} (البقرة: 201-202) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المراد بأهل القرى الأمم الذين بُعث فيهم الأنبياء، والقرى: المدن ، ولم يبعث الأنبياء في أهل البادية لأنهم أبعد عن مبادئ الاجتماع المعبر عنه بالمدنية، والأديان إنما تدعو للاجتماع ، وأهل المدن أقرب إليه لما عندهم من مبادئه.

(2)

أي لوسعنا عليهم الخير ويسَّرناه من كل جانب، وقيل المراد المطر والنبات اهـ بيضاوي.

ص: 145