الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
محاورة الماء والنار في توليد البخار
لأحد الفضلاء
وضع الماء البرود في المرجل ، والتهب العشب تحته واشتعل وهو يستجير
من النار ، ولا مستجيب لمن استجار ، ويستغيث ، ولا مغيث ، قد تطاير من الغيظ
شراره ، وأحاطت بالدهماء ناره ، وسرى الحرور ، في جسم التأمور [1] ، ولم يقو
حجاب المرجل الكثيف ، على رد ذلك الساري اللطيف ، كأنما تحالفا على تصعيد
الأباب [2] لسبب من الأسباب ، وبينما تتساءل جواهر الماء ، عما حل بها من
اللأواء ، إذ خف الجزء الملامس لأسفل الإناء ، وصعد مسرعًا كأن له حاجة في
السماء ، فأمسك به سائر السلسال ، ومنعه من الرقي في الحال ، وخلع عنه ثوب
سُعاره [3] ، وبرَّد حر ناره ، وما لبث الحزء الذي حل محله ، أن صار مثله ، وكلما
نزل شيء من الأباب إلى القرار ، صب عليه الجَوْب سوط عذاب فلجأ إلى
الفرار [4] فكثر الهيج والاضطراب ، والأنين والانتحاب ، وفكر كل في ساعة الفراق
ولمّا تقع ، فبكى وتوجع ، كأن ابن المعتز عناه بقوله:
وإذا فكر في البين بكى
…
ويحه يبكي لما لم يقع
فقال الماء بلسان أزيزه للعشب ، قولاً يفهمه ذو اللب ، أيها الولد العاق لوالده
لم كويتني بنيرانك؟ ولولاي ما ذقت لذة الوجود فكيف قابلت إحساني بكفرانك ، أما
أنا السبب في نموك ونضرتك ، وبي اكتسبت حلل جمالك وبهجتك ، فتبًّا لك على
هذا الجزاء ، وبُعدًا لك يا عديم الوفاء ، فأجابه العشب بلسان لهبه ، وهو يتميز من
غضبه ، أيها الجاني على نفسه بنفسه ، والباحث على حتفه بظلفه ، والأحمق الذي
لم يعر المستقبل نظره ، ولم يجل فيه فكره ، لا تنطق ببنت شفه ، واعلم أنك من
الهلاك على شفا. نعم كنت أنت السبب في وجودي ولكن لشقائي وتعذيبي. فكيف
تفخر علي وما تراني فيه هو منتهى نصيبي ، فأنا الآن أنتقم منك بما قدمت يداك ،
وأوقعك فيما أوقعتني فيه والدنيا شراك ، ثم ما لبث الماء أن فار وغلى ، وطلب
الصعود إلى العلى ، فأخذت جواهره تودع بعضها ، وتتطاير بخارًا ساكبة دمعها ،
تبكي على أيام قضتها في الراحة والطمأنينة ، حيث لا نزاع ولا ضغينة ، وقد فسح
الهواء لمرورها طريقًا ، بعد أن ضيق عليه بضغطه تضييقًا. فذهب في وسط بارد
خلعت فيه ثوب حرارتها. ورجعت إلى قديم حالتها ، وانقلب السخين سلاسلا [5] ،
وعاد المسيط [6] هلاهلا [7] اهـ.
_________
(1)
التأمور: الوعاء ، وأراد بالحرور مطلق الحرارة ، وهو في الأصل حر الشمس والحر الدائم والنار والريح الحارة.
(2)
الأباب بالفتح الماء.
(3)
السعار (كغراب) الحرّ وكأنه بهذا الاعتبار أطلق على الماء الحار لفظ السلسال وهو الماء البارد أو العذب السائغ.
(4)
الجوب: الكانون والموقد.
(5)
السلاسل بضم المهملة الأولى وكسر الثانية السلسال وتقدم تفسيره آنفًا.
(6)
المسيط: الماء الكدر يبقى في الحوض.
(7)
بوزن (سلاسل) الماء الكثير الصافي.