الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَاّ} (الانفطار: 6-9) لا
تغتر بربك فليس الغرور من لوازم الكرم ، واشكر له نعمة التعديل والتسوية، فإن
الكفران يزيل النعم ، فبهذه النعمة جعلك خليفة في الأرض ، واستعمرك فيها إلى يوم
العرض ، وسخر العوالم العلوية والسفلية ، وذلل لك القوى الطبيعية ، وهداك
النجدين ، وبين لك السنتين ، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وأنزل عليك
الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه ، وسعادتك أو شقاوتك
محصورة فيه ، فأما الذين يقومون بحقوق الاستعمار بحسب السنن الطبيعية؛
فأولئك أصحاب السعادة والخلافة في دنياهم ، وإذا ضموا إليها تزكية الأرواح باتباع
السنن الدينية تمت لهم السعادة في أخراهم ، وأما الذين يجهلون سنة الله في هذه
الأكوان ، ويقصرون بما اقتضته الحكمة الإلهية من العمران؛ فأولئك هم الذين لا
يرون في دنياهم من السعادة فتيلاً ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
وأضل سبيلاً.
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الحياة
الأبدية ، ويمتعكم بالسعادة الدنيوية والأخروية ، {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) ولو شكرتم لظلت هذه النعم في مزيد {وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)
فلولا كفر النعم لما حلت بنا هذه النقم ، ففاتنا ونحن كثير ، ما كان لنا ونحن
قليل ، حلت بنا الرزايا والمصائب ، وتخطفنا الناس من كل جانب {ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) منح الله آباءنا الأولين ما وعد به عباده المؤمنين ، وما
كان ذلك محاباة وجزافًا ، وحرمنا نحن من تلك السيادة وحيل بيننا وبين هاتيك
السعادة ، وما كان ذلك بخلاً أو إخلافًا ، ولكنه أعطى كلاًّ ما طلبه بلسان حاله ،
واكتسبه بجليل أعماله ، كلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء
ربك محظورًا ، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر
تفضيلاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ} (الأنفال: 29) بالرجوع إلى سنته
الكونية والدينية والشكر على نعمه النفسية والآفاقية {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: 29) يزيح عنكم الشبهات ، ونورًا تهتدون به في هذه الظلمات ،
{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الأنفال: 29) التي تقاسون بلاءها ، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: 29) ذنوبكم التي تساورون عناءها {وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الأنفال: 29) هداكم بالدين القيم إلى النجاح في الحال ، والفلاح في
المآل ، فمن نجح به فأولئك هم المفلحون ، ومن فاته الربح به فأولئك هم
الخاسرون ، وقد مضت سنة الأولين بأن الناس تبع لرؤسائهم في الدنيا
والدين ، فما غوينا إلا بغوايتهم ، ولا نهتدي إلا بهدايتهم ، فإذا انقطع من الحكام
الرجاء ، فهو لم ينقطع من العلماء {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .
إن أولى الناس بتعليق الآمال بالعلماء من دون الحكام والأمراء ، هي الأمة
التي ما ترك دينها رابطة إلا وحلَّها ، وحل بعد ذلك محلها ، حتى أحاط بجميع
المصالح البشرية ، وأوضح محجة الشؤون الروحية والجسدية ، فكل ما أصابته من
السعادة كان يفيض عليها من سماء الدين ، وكل ما أصابها من الشقاء إنما هو
بالانحراف عن صراط الدين ، فلا جرم تكون حياتها بحياة الدين ، وموتها بموت
علماء الدين ، ويصح أن تضيف ما هي فيه من البلاء كله أو بعضه إلى تقصيرهم،
وتنسب ما بقي لها من آثار النعماء إلى ما كان من تشميرهم ، ألم تروا أن ما دخل
عليها من المدنية العصرية بأيدي الأمراء المنسلخين عن المعارف الدينية كان عليها
وبالاً وما زادها إلا خزيًا ونكالاً، بخلاف مدنيتها الزاهية في أيام دولها الماضية ،
وكان وعدًا مفعولاً.
فيا أيتها الامة الإسلامية التي اغتر بعضها بدعاة الوطنية ، فعلقوا آمالهم
بالوساوس الأجنبية ، فانقلبوا بالبعد عن دينهم خاسرين ، واغتر آخرون ببعض
أصحاب العمائم ظانين أن كل ذي عمامة عالم ، فأوهموهم أن طلب السيادة والثروة
منبع المآثم ، وأن المدنية كيفما كانت فهي عدوة للدين ، اعلمي أنه قد أخطأ أولئك
كما أخطأ هؤلاء ، وأوقعوا المسلمين في اختلاف الآراء ، بل ألقوا بينهم العداوة
والبغضاء ، فكانوا في ذلك من الظالمين ، وخلاصة القول وزبدته ، وصفوته
وحقيقته ، أنه لا يرجى لهذه الأمة النجاح والسير في منهاج الفلاح ، إلا بدعاة
ومرشدين يمثلون لها سعادة الدنيا في مرآة الدين ، ويبينون لها كيف جمع القرآن
بين مصالح الدارين ، حيث جعل الناس على قسمين {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 200-202) وهذا ما قام يدعو إليه المنار في سنتيه
الماضيتين وهو ما يصيح به الآن على رأس السنة الثالثة ، وقد انتشرت بفضل الله
تعاليمه فأُشربتْها قلوب ولهجت بها ألسنة وكَتَبَ بمواضيعه الكُتَّاب ، وخطب
الخطباء فمن مخطئ ومصيب ومنتقد ومجيب ، وهكذا يكون الأمر في أوله
وستتجلى الحقيقة للناس إن شاء الله عن قريب ، والعاقبة للمتقين.
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا
تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .
_________
الكاتب: العروة الوثقى
التعصب
{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .
لفظ شغل مناطق الناس خصوصًا في البلاد المشرقية تلوكه الألسن ، وترمي
به الأفواه في المحافل والمجامع حتى صار تُكأة للمتكلمين يلجأ إليه العيي في تهتهته
والذملقاني في تفيهقه.
أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير فقلما تكون عبارة إلا وهو فاتحتها أو حشوها أو
خاتمتها ويعدون مسماه علة لكل بلاء ومنبعًا لكل عناء ، ويزعمونه حجابًا كثيفًا وسدًّا
منيعًا بين المتصفين به وبين الفوز والنجاح ، ويجعلونه عنوانًا على النقص وعلمًا
للرذائل.
والمتسربلون بسرابيل الإفرنج الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط ،
لا يميزون بين حق وباطل هم أحرص الناس على التشدق بهذا البَدع الجديد فتراهم
في بيان مفاسد التعصب يهزون الرءوس ويعبثون باللحى ويبرمون السبال ، وإذا
رموا به شخصًا للحط من شأنه أردفوه للتوضيح بلفظ إفرنجي (فناتيك) فإن عهدوا
بشخص نوعًا من المخالفة لمشربهم؛ عَدُّوه متعصبًا وهمزوا به وغمزوا ولمزوا ،
وإذا رأوه عبسوا وبسروا وشمخوا بأنوفهم كبرًا وولوه دبرًا ، ونادوا عليه بالويل
والثبور.
ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ؟ وماذا اتصل بعقولهم من معناه حتى
خالوه مبدأ لكل شناعة ومصدرًا لكل نقيصة؟ وهل لهم وقوف على شيء من
حقيقته؟
التعصب: قيام بالعصبية، من المصادر النِّسبية نسبة إلى العصبية ، وهي قوم
الرجل الذين يعززون قوته ويدفعون عنه الضيم والعداء ، فالتعصب وصف للنفس
الإنسانية تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها ، والذود عن حقه ووجوه الاتصال
تابعة لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها.
هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب وأقام بناء الأمم ، وهو عقد الربط
في كل أمة بل هو المزاج الصحيح، يوحد المتفرق منها تحت اسم واحد وينشئها
بتقدير الله خلقًا واحدًا كبدن تألف من أجزاء وعناصر، تدبره روح واحدة فتكون
كشخص يمتاز في أطواره وشؤونه وسعادته وشقائه عن سائر الأشخاص.
وهذه الوحدة هي مبعث المباراة بين أمة وأمة وقبيل وقبيل ومباهاة كل من
الأمتين المتغالبتين بما يتوفر لها من أسباب الرفاهة وهناء العيش وما تجمعه قواها
من وسائل العزة والمنعة وسمو المقام ونفاذ الكلمة ، والتنافس بين الأمم كالتنافس
بين الأشخاص أعظم باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة
بقدر ما تسعه الطاقة.
التعصب روح كليّ مهبطه هيئة الأمة وصورتها ، وسائر أرواح الأفراد
حواسه ومشاعره، فإذا ألمَّ بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه؛ انفعل الروح
الكلي وجاشت طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحمية العامة ومسعر النعرة الجنسية.
هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات فيما
يعود على الأمة بضرر أو يأول بها إلى سوء عاقبة ، وإن استقامة الطبع ورسوخ
الفضيلة في أمة تكون على حسب درجة التعصب فيها والالتحام بين آحادها، ويكون
كل منهم بمنزلة عضو سليم من بدن حي لا يجد الرأس بارتفاعه غنى عن القدم ،
ولا يرى القدمان في تطرفهما انحطاطًا في رتبة الوجود، وإنما كل يؤدي وظائفه
لحفظ البدن وبقائه.
كلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة بضعف التعصب فيهم؛ استرخت
الأعصاب وَرَثَّت الأطناب ورقَّت الأوتار وتداعى بناء الأمة إلى الانحلال كما
يتداعى بناء البنية البدنية إلى الفناء بعد هذا الروح الكلي ، وتبطل هيئة الأمة وإن
بقيت آحادها فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة إما أن تتصل بأبدان أخرى بحكم
ضرورة الكون ، وإما أن تبقى في قبضة الموت إلى أن ينفخ فيها روح النشأة
الآخرة ، سنة الله في خلقه إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل ، وغفل
بعضهم عن بعض ، وأعقب الغفلة تقطع في الروابط ، وتبعه تقاطع وتدابر فيتسع
للأجانب والعناصر الغريبة مجال التداخل فيهم ولن تقوم لهم قائمة من بعد حتى
يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب في نشأة ثانية.
نعم إن التعصب وصف كسائر الأوصاف له حد اعتدال وطرفا إفراط
وتفريط ، واعتداله هو الكمال الذي بينا مزاياه ، والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا
لرزاياه ، والإفراط فيه مذمة تبعث على الجور والاعتداء ، فالمفرط في تعصبه
يدافع عن الملتحم به بحق وبغير حق ، ويرى عصبته متفردة باستحقاق الكرامة ،
وينظر إلى الأجنبي عنه كما ينظر إلى الهمل ، لا يعترف له بحق ولا يرعى له ذمة ،
فيخرج بذلك عن جادة العدل ، فتنقلب منفعة التعصب إلى مضرة ، ويذهب بهاء الأمة
بل يتقوض مجدها ، فإن العدل قوام الاجتماع الإنساني ، وبه حياة الأمم وكل قوة لا
تخضع للعدل فمصيرها إلى الزوال ، وهذا الحد من الإفراط في التعصب هو
الممقوت على لسان صاحب الشرع صلي الله عليه وسلم في قوله: (ليس منا من
دعا إلى عصبية) الحديث.
التعصب كما يطلق ويراد به النعرة على الجنس ، ومرجعها رابطة
النسب والاجتماع في منبت واحد ، كذلك توسع أهل العرف فيه فأطلقوه على قيام
الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضًا ، والمتنطعون من مقلدة الإفرنج
يخصون هذا النوع منه بالمقت ، ويرمونه بالتعس ، ولا نخال مذهبهم هذا مذهب
العقل ، فإن لحمة يصير بها المتفرقون إلى وحدة تندفع عنها قوة لدفع الغائلات
وكسب الكمالات، لا يختلف شأنها إذا كان مرجعها الدين أو النسب ، وقد كان من
تقدير العزيز العليم وجود الرابطتين في أقوام مختلفة من البشر ، وعن كل منها
صدرت في العالم آثار جليلة يفتخر بها الكون الإنساني ، وليس يوجد عند العقل
أدنى فرق بين مدافعة القريب عن قريبه ومعاونته على حاجات معيشته ، وبين ما
يصدر عن ذلك من المتلاحمين بصلة المعتقد ورابطة المشرب.
فتعصب المشتركين في الدين المتوافقين في أصول العقائد بعضهم لبعض إذا
وقف عند الاعتدال ولم يدفع إلى جور في المعاملة ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم
أو نقض لذمته؛ فهو فضيلة من أجَلِّ الفضائل الإنسانية وأوفرها نفعًا وأجزلها فائدة،
بل هو أقدس رابطة وأعلاها، إذا استحكمت صعدت بذوي المكنة فيها إلى أوج
السيادة وذروة المجد خصوصًا إن كانوا من قبيل قَوِيَ فيهم سلطان الدين ، واشتدت
سطوته على الأهواء الجنسية حتى أشرف بها على الزوال كما في أهل الديانة
الإسلامية على ما أشرنا إليه في العدد الثاني من جريدتنا [1] .
ولا يؤخذ علينا في القول بأنه من أقدس الروابط ، فإنه كما يطمس رسوم
الاختلاف بين أشخاص وآحاد متعددة ، ويصل ما بينهم في المقاصد ،
والعزائم والأعمال ، كذلك يمحو أثر المنابذة والمنافرة بين القبائل والعشائر بل
الأجناس المتخالفة في المنابت واللغات والعادات ، بل المتباعدة في الصور
والأشكال ، ويحوِّل أهواءها المتضاربة إلى قصد واحد وهو تأصيل المجد وتأييد
الشرف وتخليد الذكر تحت الاسم الجامع لهم.
هذا الأثر الجليل عهد لقوة التعصب الديني ، وشهد عليه التاريخ بعدما أرشد
إليه العقل الصحيح ، وما كانت رابطة الجنس لتقوى على شيء منه.
ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني ، وزعموا أن
حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم ، وتضافرهم لدفع ما يلم بدينهم من
غاشية الوهن والضعف هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية ، ويحجبهم
عن نور العلم والمعرفة ، ويرمي بهم في ظلمات الجهل ، ويحملهم على الجور
والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم ، ومن رأي أولئك المتفتقين أن لا سبيل
لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية ومحو أثرها ،
وتخليص العقول من سلطة العقائد ، وكثيرًا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي ،
ويخوضون في نسبة مذامِّ التعصب إليهم.
كذب الخراصون ، إن الدين أول معلم وأرشد أستاذ وأهدى قائد للأنفس إلى
اكتساب العلوم والتوسع في المعارف ، وأرحم مؤدب ، وأبصر مروض يطبع الأرواح
على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة ، ويقيمها على جادة العدل ، وينبه فيها حاسة
الشفقة والرحمة، خصوصًا دين الإسلام فهو الذي رفع أمة كانت من أعرق الأمم في
التوحش والقسوة والخشونة ، وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة والمدنية في أقرب
مدة وهي الأمة العربية.
قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على
التعصب الجنسي فيفضي إلى ظلم وجور ، بل ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين لإبادة
مخالفيهم ومحو وجودهم ، كما قامت الأمم الغربية واندفعت على بلاد الشرق لمحض
الفتك والإبادة لا للفتح ، ولا للدعوة إلى الدين في الحرب الهائلة المعروفة بحرب
الصليب ، وكما فعل الأسبانيوليون بمسلمي الأندلس ، وكما وقع قبل هذا وذاك في
بداية ما حصلت الشوكة للدين المسيحي أن صاحب السلطان من المسيحيين جمع
اليهود في القدس وأحرقهم، إلا أن هذا العارض لمخالفته لأصول الدين قلما تمتد له
مدة ، ثم يرجع أرباب الدين إلى أصوله القائمة على قواعد السلم والرحمة والعدل.
أما أهل الدين الإسلامي فمنهم طوائف شطَّت في تعصبها في الأجيال الماضية
إلا أنه لم يصل بهم الإفراط إلى حد يقصدون فيه الإبادة وإخلاء الأرض من
مخالفيهم في دينهم وما عُهد ذلك في تاريخ المسلمين بعد ما تجاوزوا حدود جزيرة
العرب، ولنا الدليل الأقوم على ما نقول وهو وجود الملل المختلفة في ديارهم إلى الآن
حافظة لعقائدها وعوائدها من يوم تسلطوا عليها وهم في عنفوان القوة وهي في وهن
الضعف.
نعم كان للمسلمين ولع بتوسيع الممالك وامتداد الفتوحات ، وكانت لهم شدة
على من يعارضهم في سلطانهم إلا أنهم كانوا مع ذلك يحفظون حرمة الأديان ،
ويرعون حق الذمة ، ويعرفون لمن خضع لهم من الملل المختلفة حقه ، ويدفعون
عنه غائلة العدوان ومن العقائد الراسخة في نفوسهم (أن من رضي بذمتنا فله ما لنا
وعليه ما علينا) ولم يعدلوا في معاملتهم لغيرهم عن أمر الله في قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) اللهم إلا ما لا تخلو عنه الطباع البشرية ، ومن نشأة
المسلمين إلى اليوم لم يدفعوا أحدًا من مخالفيهم عن التقدم إلى ما يستحقه من
علو الرتبة وارتفاع المكانة ، ولقد سما في دول المسلمين على اختلافها إلى
المراتب العالية كثير من أرباب الأديان المختلفة ، وكان ذلك في شبيبتها وكمال
قوتها ، ولم يزل الأمر على ما كان، وفي الظن أن الأمم الغربية لم تبلغ هذه
الدرجة من العدل إلى اليوم (فسحقًا لقوم يظنون أن المسلمين بتعصبهم يمنعون
مخالفيهم من حقوقهم) لم يسلك المسلمون من عهد قوتهم مسلك الإلزام بدينهم
والإجبار على قبوله مع شدة بأسهم في بدايات دولهم وتغلغلهم في افتتاح الأقطار ،
واندفاع هممهم للبسطة في المُلك والسلطة، وإنما كانت لهم دعوة يبلغونها فإن قُبلت
وإلا استبدلوا بها رسمًا ماليًّا يقوم مقام الخراج عند غيرهم مع رعاية شروط عادلة تُعلم
من كتب الفقه الإسلامي.
هذا على خلاف متنصرة الرومانيين واليونانيين أيام شوكتهم الأولى ، فإنهم ما
كانوا يطأون أرضًا إلا ويلزمون أهلها بخلع أديانهم والتطوق بدين أولئك
المُسلطين ، وهو الدين المسيحي، كما فعلوا في مصر وسوريا بل وفي البلاد
الإفرنجية نفسها.
هذا فصل من الكلام ساق إليه البيان ، وفيه تبصرة لمن يتبصر ، وتذكرة لمن
يتذكر ، ثم أعود بك إلى سابق الحديث فيما كنا بصدده: هل لعاقل لم يُصَب برزيئة
في عقله أن يعد الاعتدال من التعصب الديني نقيصة؟ وهل يوجد فرق بينه
وبين التعصب الجنسي إلا بما يكون به التعصب الديني أقدس وأطهر وأعم فائدة؟
لا نخال عاقلاً يرتاب في صحة ما قررناه، فما لأولئك القوم يهذون بما لا يدرون؟
أي أصل من أصول العقل يستندون إليه في المفاخرة والمباهاة بالتعصب الجنسي
فقط واعتقاده فضيلة من أشرف الفضائل ويعبرون عنه بمحبة الوطن [2] وأي قاعدة
من قواعد العمران البشري يعتمدون عليها في التهاون بالتعصب الديني المعتدل
وحسبانه نقيصة يجب الترفع عنها؟
نعم إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما هي الرابطة
الدينية ، وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية ولأولئك الإفرنج مطامع
في ديار المسلمين وأوطانهم فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة بين أرباب
الديانة الإسلامية ، وزينوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة ، وفصم حبالها لينقُضوا بذلك
بناء الملة الإسلامية ويمزقوها شيعًا وأحزابًا، فإنهم علموا كما علمنا وعلم
العقلاء أجمعون أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، وتسنى
للمفسدين نجاح في بعض الأقطار الإسلامية ، وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلاً
وتقليدًا فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعد ما فقدوها ، ولم يستبدلوا بها
رابطة الجنس (الوطنية) التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقًا منهم وسفاهة ،
فمثلهم كمثل من هدم بيته قبل أن يهيئ لنفسه مسكنًا سواه؛ فاضطر للإقامة بالعراء
معرَّضًا لفواعل الجو وما تصول به على حياته.
هذا أسلوب من السياسة الأوربية أجادت الدول اختباره ، وجنت ثماره فأخذت
به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم ، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد
العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية ، ولم تُعدم صيدًا من الأمراء
والمنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة ، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من
بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن يميلوا
مع هذه الأهواء الباطلة ، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع بقائهم
على عقائدهم وثباتهم في إيمانهم يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني ، ويلهجون
في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة ، ولا يعلم أولئك
المسلمون أنهم بهذا يشُقون عصاهم ويفسدون شأنهم ، ويخربون بيوتهم بأيديهم
وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة ودفعها إلى
أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء.
والله ما عجَبُنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين
من الأمم الإفرنجية الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين [3] ،
ولا يخجلون من تبشيع التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة.
الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب ، وأحرصهم على القيام
بدواعيه ، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين
والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم ، وإذا عَدَت عادية مما لا يخلو عنه
الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق
سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية
وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة وحدثت حادثة، مهمة فأجمعوا الأمر وخذوا
الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية ،
وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات
وترقب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون
ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين ، وإن
كان في أقصى قاصية من الأرض ، ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.
أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغُمر وجه البسيطة من دماء
المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس ، بل
يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده ، ويذهلون عما
أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والمرحمة الطبيعية كأنما يعدون
الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية ، وليس من نوع الإنسان
الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره ، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين منهم بل
الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم
الديني ، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم ، وليتهم يقفون عند الحق ولكن كثيرًا
ما تجاوزوه.
أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب ، يبلغ الرجل منهم
أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه ، ثم لا نجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها
نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة من روحه (انظر إلى
كتب غلادستون وخطبه السابقة) .
فيا أيتها الأمة المرحومة هذه حياتكم فاحفظوها ، ودماؤكم فلا تريقوها ، وأرواحكم
فلا ترهقوها ، وسعادتكم فلا تبيعوها بثمن دون الموت.
هذه هي روابطكم الدينية لا تغرنكم الوساوس ولا تستهوينكم الترهات ، ولا
تدهشنكم زخارف الباطل ، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم ، واعتصموا بحبال
الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي ، والفارسي
بالهندي ، والمصري بالمغربي ، وقامت لهم مقام الرابطة النَّسبية حتى إن الرجل
منهم ليألم لما يصيب أخاه من عاديات الدهر وإن تناءت دياره وتقاصت أقطاره.
هذه صلة من أمتن الصلات ساقها الله إليكم ، وفيها عزتكم ومنعتكم وسلطانكم
وسيادتكم، فلا توهنوها ، ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل ، فالعدل
أساس الكون وبه قوامه ، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم ، وعليكم أن تتقوا
الله وتلزموا أوامره في حفظ الذمم ومعرفة الحقوق لأربابها ، وحسن المعاملة
وأحكام الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب
الأديان المختلفة ، فإن مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم كما لا تقوم مصالحهم إلا
بمصالحكم ، وعليكم أن لا تجعلوا عصبية الدين وسيلة للعدوان ، وذريعة لانتهاك
الحقوق ، فإن دينكم ينهاكم عن ذلك ويوعدكم عليه بأشد العقاب. هذا ولا تجعلوا
عصبيتكم قاصرة على مجرد ميل بعضكم لبعض ، بل تضافروا بها على مباراة الأمم
في القوة والمنعة والشوكة والسلطان ، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة والفضائل
والكمالات الإنسانية. اجعلوا عصبيتكم سبيلاً لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم ، وأخذ كل
منكم بيد أخيه ليرفعه من هوة النقص إلي حضيض الكمال ، وتعاونوا على البر
والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(العروة الوثقى)
يقول منشئ هذه المجلة:
(إن الوطنية العمياء التي يلغط بها بعض الناس في مصر هي أضر على
الرابطة الإسلامية من ذم التعصب الديني؛ لأنها ضُرتها وخصيمتها ، ولذلك ترى
أصحابها يمقتون غير المصري ممن يقيم في مصر ، وإن قام لهم بأشرف الخدم
وهي خدمة الدين ، ولا يستحي كتابهم حيث يسجلون في جرائدهم مثل قولهم:
إن هؤلاء غرباء ، وجاءوا بلادنا ليتعيشوا ويتريشوا، وما أشبه هذه السخافات
فوا إسلاماه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
_________
(1)
يشير إلى مقالة نفيسة عنوانها (الجنسية والديانة الإسلامية) وسننشرها في عدد آخر.
(2)
تأمل كيف صرح بأن الذين يحاولون منع التعصب الديني يريدون أن يستبدلوا به التعصب الوطني.
(3)
ذكر هنا من مثال ذلك أن الإنكليز سعوا بنشر جريدة وانشاء مدرسة لبث هذه الأباطيل، حذفناه اختصارًا، وأما في مصر فمن محمل لواء الوطنية يدعي بعض الإنكليز.
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(21)
من هيلانة إلى أراسم في 2 يولية سنة - 185
أترى أن الكمال لا يخلو من نقص والحسن لا يعرى من قبح؟ إني -
والحق أقول - أراني مدفوعة إلى اعتقاد ذلك ببواعث كافية.
فما عاينته من أحوال الإنكليز وأخلاقهم ينطبق انطباقًا تامًّا في بعض المواضع
على ما سمعته عنهم من السير جون سنت أندروز ، ولكن تصفحي هذه الأخلاق
وترديد فكري فيها قد اضطرني إلى الأخذ بالحزم في امتداحها ، وترك المجازفة في
إطرائها.
لأكثر الامهات اللاتي ألاقيهن في بيت السيدة وارنجتون أولاد عديدون، فما
أعجب ما يرى في جميعهم من مقدار تحققهم بما لمخالطيهم من الأوهام وسرعة
انطباع معتقداتهم الباطلة في نفوسهم، فتراهم على قلة علمهم بالأمور يفرقون بين
مطلق رجل والسري المهذب من الرجال ، ومطلق امرأة والسيدة الكريمة من النساء
فرقًا تامًّا ، ويميزون من ولدوا لخدمتهم ممن يجب لهم عليهم الإجلال والتعظيم لأول
نظرة إليهم غير مترددين في ذلك ولا مرتابين ، ويحافظون على شرف الاقتداء بعظماء
الناس في سيرهم لا لأن ذلك مطلوب لذاته ، بل لعدم الإخلال بما تواضع عليه
أولئك العظماء من الآداب. وإني لعلى يقين من أنك لو اطلعت على هذا العالم
الناشئ لوجدت فيه شيئًا من التصلف ، فلشد ما يُرى فيهم من العجرفة ، وما يُبدونه
أمام الأجانب من ظواهر الأبهة الصبيانية.
أليست حقيقة الأمر أن هؤلاء الإنكليز أنفسهم على ما لهم من الحرية الواسعة،
وما فيهم من كمال استحقاقها هم في غاية الخشية والخضوع لرأي الكافة؟ أليس
شأنهم في هذا شأن باسكال [1] الذي يسمي ذلك الرأي ملك الدنيا.
على أنني لا أدري أي تأثير له فيها يستحق به هذه التسمية ، ولكني أخال أنه
له في إنكلترا من السلطان والسيطرة ما ليس مثله لفكتوريا ، فإن جيراننا ينشأون
من صغرهم عبيدًا مختارين لبعض مواضعات قومية ، فيوجبون على أنفسهم تعظيم
ما عظمه جمهور المهذبين من قومهم بدون بحث فيه ولا نظر ، فكل منهم في
سيرته وآرائه تبع لغيره معتمد على ما لهذا الغير من الاعتبار وعلو الكلمة ، وتراهم
في منتدياتهم قليلي الكلام ، بل إن محادثاتهم لا تخرج عن حدود المواضيع التي
قدسها استقرار العادة. فلهم جمل من المعاني والأفكار كأنها تحجرت في أخلاقهم
وعوائدهم ، فأجمعوا على عدم المناظرة والجدال فيها.
إني إلى الآن لم أعرف الإنكليز معرفة تكفي لإدراك سر هذه المباينات ، وإنما
الذي أراه في كبارهم أنهم قد جمعوا بين غاية الاستقلال في أفعالهم وغاية التقليد في
آرائهم ، وأما صغارهم فإنهم كذلك أحرار في حركاتهم وفي معظم ما تتوجه إليه
عزائمهم من أعمالهم ، لكنهم يحجرون على أنفسهم أن تتعلق هذه العزائم من
الأعمال بما يخالف تقاليد أهليهم وآثار سلفهم وعوائد الصالحين من مخالطتهم ،
وربما كانت الحكمة في كل ذلك أن القوم قد رأوا طباعهم تجري بهم في بحر لجي
من الحرية جري السفن مدت شرعها فاضطرهم ذلك إلى طلب مرساة يوقفون بها
جريها فالتمسوها في ضبط الأخلاق البيتية وفي العوائد القومية والأصول الملية
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
باسكال - ويسمي بليز باسكال - هو كاتب ومهندس فرنساوي شهير ولد في كليرمونت فيراند سنة 1623 ومات سنة 1662 ميلادية وله مؤلفات شهيرة منها (أفكار باسكال) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
دار علوم في مكة المكرمة
شكونا غير مرة في المنار من إهمال المعارف والفنون في البلدين المكرمين:
مكة والمدينة مهبط الوحي ومشرق أنوار العلم والحكمة تنبيهًا للدولة العلية
والحضرة السلطانية إلى تدارك ذلك ، وقد ذكرت جريدة الرياض (التي سيأتي
تقريظها) المدرسة الصولتية التي تأسست في مكة المكرمة من نحو ربع قرن ، وأنه
انحط شأنها الآن بسببين، أحدهما: موت النواب محمود علي خان صاحب رئيس
جهتاري من مضاف بلند شهر (رحمه الله تعالى) فإن ذلك الأمير الفاضل كان ركن
هذه المدرسة وعمادها ومبالغًا في إرفادها وإمدادها ، وثانيهما: انتشار الطاعون في
بلاد الهند الذي حال بين مسلمي الهند وبين بلد الله الأمين ، وقد كان للمدرسة في
كل عام وفد عظيم من أغنيائهم ، وحاصل القول: إن المدرسة قد حيل بينها، وبين
موارد ثروتها ، قال صاحب الرياض وأعضاء الشورى (أي في الهند) والمهتمون
بالمدرسة الصولتية يبتغون إقامة (دار علوم) في مكة المكرمة تجمع بين علوم
الدين وعلوم الدنيا حتى الحرف والصنائع ثم قال: (وكفى لمسلمي الهند فخرًا
يباهون به أن ينعقد بتوجههم دار العلوم في أم القرى ، وأنا أردت أن أدور في جميع
أقطار الهند وبلادها وأمصارها لأحشد لها نقودًا، وأرصن بها بناء دار العلوم
لتعليمات الفنون الدنيوية والعلوم الدينية ، وقد جعلني الجناب المولوي محمد سعيد
منتظم المدرسة الصولتية في بلد الله الأمين وكيلاً من قبله في بلاد الهند) ثم
ذكرنا أنه جعل جريدته داعية إلى هذا ، وأنه يعطي لكل من يدفع له شيئًا من النقود
وصولاً (قسيمة) مختومًا بختم المولوي محمد سعيد ، ويتكفل هو بإيصال النقود
إليه.
(اقتراح المنار)
نشكر لإخواننا مسلمي الهند الساعين بهذا العمل المبرور غيرتهم الدينية ،
ونعترف لهم بفضل السبق إليه ، ولكن نحب أن يشاركهم فيه سائر إخوانهم
المسلمين في جميع أقطار الأرض ، ونقترح على مسلمي كل قطر أن يؤلفوا لجنة
للاكتتاب وجمع المال لهذا العمل الشريف يرأسه في كل مصر أحد أهل الفضل
والوجاهة ، وأن يحث عليه الخطباءُ وأصحابُ الجرائد عمومًا ، وأن تكون اللجنة
العليا في مكة المكرمة نفسها ، وأن يكون بينها وبين سائر اللجان اتصال بالمكاتبة ،
وأن تعهد كل لجنة من لجان الآفاق إلى بعض الفضلاء الذين يقصدون الحج
بحضور اللجنة العليا واكتناه شؤونها ، وإذا اتفق السيد الشريف أمير مكة مع دولة
واليها على الإيعاز إلى خطباء الحرم الشريف وخطباء عرفة بحث الحجاج على
التبرع لهذا العمل المبرور فلا تسل عما يظهر من المكارم الإسلامية في تلك البقاع
القدسية ، وقد كنا اقترحنا في المجلد الأول من (المنار) إنشاء جمعية إسلامية
كبرى في مكة المكرمة يكون لها شُعب في جميع بلاد الإسلام ، وبينَّا هنالك أعمالها
ومزاياها ، وأشرنا إلى الصعوبة التي أمامها ، ولكن هذا العمل (إنشاء دار علوم)
لا صعوبة أمامه بل هو متيسر جدًّا إن شاء الله تعالى ، وسيكون فاتحة خير لجمع
كلمة المسلمين بفضل الله تعالى ، وبه يظهر المسلم الغيور ممن لا حظَّ له من الغيرة
على الإسلام إلا كثرة اللغط والكلام ، وسنعود إلى الموضوع ، ونرجو من المؤيد
الأغر ، ثم من سائر الجرائد المصرية حث إخواننا المصريين على أن يسبقوا سائر
المسلمين إلى الانضمام إلى إخوانهم الهنديين ، والله لا يضيع أجر المحسنين ،
وأقسم بالله العظيم رب البيت الحرام ومميزه على سائر البلاد بظهور نور الإسلام،
على جميع المقربين من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين أن يبلغوه
خبر هذه المدرسة بالصفة الحقيقية التي ترضيه لكي تفيض عليها مكارمه الهامية ،
وتحوطها رعايته السامية ، وعسى أن يهتم من يسمع له الكلام ، من على ذلك المقام
كسماحة السيد أبي الهدى أفندي بأن يكون الواسطة بين المسلمين وخليفتهم في
أمنيتهم هذه ، فيكون له عند الجميع شأن عظيم ، وعند الله أجر كريم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
نفتتح باب الآثار الأدبية بقصيدة من غرر القصائد العصرية مزينة بمديح
مولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد خان أيد الله
دولته ، وأنفذ شوكته ، نظم عقدها صديقنا الفاضل الشيخ محيي الدين أفندي الخياط
البيروتي ، وهي:
إليك فما تغني القنا والقنابل
…
إذا لم يقم بالأمر كاف وكافل
وليس الظبي إلا مخاريق لاعب
…
إذا سلها كف عن العدل عادل
وليست قلاع الجو تدعى معاقلاً
…
إذا لم يدر أمر المعاقل عاقل
وما صولجان الملك يدفع أكرة
…
إذا لعبت بالصولجان الأسافل
وما يصنع البحار فوق سفينة
…
إذا عُطِّلت بالسير منها المراجل
وما تصنع الأجناد والجهل قائد
…
وما تنفع القُوَّاد والجند خاذل
دع البذخ ما هذي القصور مشيدة
…
لتبني فخارًا والمشيد جاهل
كذلك ما تبني الجبال شواهقًا
…
تناطح هام الأفق وهي مجاهل
إذا العلم لم تعهده منك معاهد
…
غدت بلقعًا وهي الربوع الأواهل
وما العلم إلا الدين مع عمل به
…
وما الدين والأعمال إلا الفضائل
وما الشعب والسلطان إلا وشائج
…
وما الناس والأوطان إلا الفعائل
أتتك أمير المؤمنين ووجهها
…
ووجهك وضاح عليه دلائل
تمد يمينًا ذات يمن ومعصم
…
له الكون كف والأنام أنامل
قرونًا ثلاثًا جاوزت بعد عشرة
…
وتبقى إلى أن يسحل الكون ساحل
وتحيا وفي الإسلام حي وميت
…
وليس بقايا السيف إلا الثواكل
تقطعها الأجيال وهي قواطع
…
وترشقها الأقتال وهي قواتل
توالت عليها الحادثات وكفها
…
طليق وما للقيد إلا السلاسل
تحملتها كهلاً، بلى كنتَ شيخها
…
وما ونيت يا كهل منك الكواهل
خليفة رب الكون تلك خلافة
…
إذا أيمت لم يبق في الكون عاهل
رعيت رعاك الله أي رعية
…
تقاتل بالأرواح فهي الجحافل
وما ينفع الجيش العرمرم في الوغا
…
إذا لم يكن مستقتلاً من يقاتل
تبوأتَ عرش الملك والجهل طالع
…
بأفق الرزايا والخطوب نوازل
على حين ما إن الخلافة أعوزت
…
زعيمًا فلم تقبل سواك القبائل
وأم العلا رامت خطيبًا لبكرها
…
وليس لبيت المجد غيرك آهل
يقولون: ما ساس الأمورَ كغيره
…
فقلت: وكم قد قال في الناس قائل
وما راكب البحر العباب تحوطه
…
عواد كمن يؤويه بالبر ساحل
وكم من طليق للسياسة يدّعي
…
فلما تولى شكلته المشاكل
يظنون تحرير الجرائد دولة
…
وما هي إلا القول للبيع نازل
ظنون وتخريص وأوهام زاجر
…
يشوبهم بالطبع حق وباطل
يديرون أمر الكون والكون دائر
…
على سنن للناس فيها شواغل
نعم إن منهم نافعًا لبلاده
…
ولكن وايم الله هن قلائل
فلا يتعدى أول العقد آخر
…
ولا يتخطى مركز العقد واصل
فدعهم بلج القول تفديك أمة
…
بك اتصلت روحًا فلم يبق فاصل
تعدك ظل الله إذ أنت عندها
…
خليفته والسر في تلك حاصل
لقد سُستَها بالعلم والحلم والندى
…
وهذي المزايا كلها والفضائل
مليك البرايا دأبك الجد لا تقف
…
فأنت لنا عضو عن الجسم عامل
كذاك دهاقين العلا ورجاله
…
وليس امرأ إلا الهمام الحلاحل
عداك الردى لو كنت في غير شرقنا
…
لما نُصبت إلا إليك الهياكل
ولو أن أهل الشرق مثلك لم نجد
…
سوى الجد بل ما كان في الشرق خامل
لقد شدت للتعليم أي مدارس
…
بها علمتنا كيف تنشأ المعامل
ولكننا اعتدنا الخمول وشرقنا
…
أناخت عليه بالخمول كلاكل
نؤمل أن يبقى لذي الأمر عالة
…
يعول علينا الدهر والكل عائل
فلا المال يرضينا ولا العلم نبتغي
…
ولا للعلا نسعى وهذا التسافل
ونعتقد الحكام هيكل قدرة
…
له البدر صيد والنجوم حبائل
إذا موسر أو عالم نبغا بنا
…
يعرقل مسعاه سريٌّ وسافل
ولستُ أزكي النفس بل أنا واحد
…
بل كلنا المسئول والله سائل
ودونكها ليس التبرج شأنها
…
ولم تتبذل قط والغير باذل
لقد صغتُها والشعر يشهد أنني
…
هجرت قوافيه فهن قوافل
وما تبتغي مني البلاغة إن أكن
…
بليغًا بعصر فيه باقل قائل
دعونى وشأني والتظاهر لا أرى
…
فليس يعاب البدر والبدر آفل
(المنار)
لم نتصرف بشيء من أبيات القصيدة ولا من ألفاظها المفردة؛ لأنها
جاءت مذيلة من حضرة ناظمها الفاضل بالتصحيح؛ وممضاة بإمضائه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(فلسفة البلاغة)
وضع العلامة عبد القاهر الجرجاني فنون البلاغة وكتب فيها ما يتنافس فيه
المتنافسون ، ثم جاء مَن بعده فكتب دون ما كتب عبد القاهر ، ولم تزل البلاغة
تسفل وتتضاءل على تمادي السنين والأجيال حتى آلت إلى الاضمحلال وآذنت
بالزوال ، ولم يبق عند المشتغلين بتلك الفنون إلا بعض المحاورات اللفظية في
أساليب كتب المؤلفين الذين تبعد أساليبهم عن ذوق اللغة الصحيح ، وقد تنبه
الناس في هذا العصر إلى إحياء فنون اللغة العربية وتحصيل ملكة البلاغة فيها
ورأى صديقنا العالم الفاضل المعلم جبر ضومط أستاذ اللغة العربية بالمدرسة الكلية
السورية الأميركانية في بيروت أن حالة العصر تقتضي وجود تآليف في البلاغة
بأسلوب جديد فألف أولاً كتاب (الخواطر الحسان) وقد أهدانا من أشهُر كتابًا آخر
سماه (فلسفة البلاغة) تصفحنا بعض صفحاته ، فألفيناه على قاعدة جعلها قطب
دائرة البلاغة وأصاب ، وهي (الاقتصاد في انتباه السامع) وقد كنا أرجأنا تقريظه إلى
أن تتسنى لنا مطالعته بتمامه ، وإلى الآن لم يسمح لنا الوقت بذلك ، فنوهنا به مؤقتًا
لنعطيه بعض حقه ، ونرشد الطلاب إلى الاستفادة منه.
(الزراعة المصرية)
يؤلف أخونا الفاضل المهذب أحمد أفندي جرانة العالم البارع في فن
الزراعة سلسلة رسائل في الزراعة المصرية ، وقد طبعت الرسالة الأولى
منها في مطبعة الهلال ، وهي في (زراعة قصب السكر) تكلم فيها كلامًا وافيًا
ابتدأه بتاريخ القصب ، ثم تكلم عن القصب المصري خاصة وعن
الأرض التي تصلح لزراعته ، وعن حالة الجو بالنسبة له ، وعن المياه والتقاوي
ومعالجة الأرض ، وكيفية الزراعة ، وعن المحصول والنفقات والأمراض التي
تصيبه ، وغير ذلك من الفوائد العلمية والعملية ، فعسى أن يُقبل المصريون على
اقتناء هذه الرسالة والاستفادة منها ، فإن القصب من أهم غلات هذه البلاد.
(الرياض)
جريدة علمية أدبية شهرية مؤقتًا ذات ثماني صفحات كبيرة تصدر في مدينة
لكهنوء من بلاد الهند باللغتين العربية والأوردية ، صاحب امتيازها الفاضل الهمام
الحاج رياض الدين أحمد ، وقد تصفحنا العدد الأول منها فألفيناه مشتملاً على فوائد،
منها أنه ضبط خمس كلمات مما يخطئ أكثر الناس في ضبطها ، وقد فتح لهذا بابًا في
الجريدة لأجل متابعة العمل ، والكلمات الخمس هي:(آصَف) كاتب سليمان عليه
السلام بفتح الصاد (ابن جنِّي) العالم المشهور بضم الجيم معرَّب كني (الأُبَّهة) بضم
الهمزة وفتح الباء المشددة ، (الأجنة) جمع جنين الأجن ، وهذه وما قبلها لا يخطئ
فيهما أحد عندنا (الأجوبة) في جمع الجواب غلط ، قال ابن الجوزي في تقويم
اللسان: (الجواب لا يجمع) هذا ما جاء في الرياض ، ونزيد نحن في الكلمة الأخيرة
أن سيبوبه سبق ابن الجوزي فقال: الجواب لا يجمع، وقولهم: جوابات كُتُبي مولد ،
وأجوبة كتبي مولد ، إنما يقال: جواب كتبي ، أي إن كان الجواب متعددًا؛ لأن المفرد
المضاف يعم ، ولكن المصباح ذكر الجمعين وسكت عليهما ، فهل كان ذهولاً عن كلام
سيبوبه أم ثبت عنده الجمع؟ ومنها - بل عظمى فوائدها - الحث على إنشاء دار
علوم في مكة المكرمة (انظر باب التربية والتعليم) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
منثورات
(انتشار دين الإسلام)
جاء في جريدة الحاضرة الغراء ما نصه:
بعث الفاضل محمد أفندي عبد الحق القاطن في مقاطعة قولينسلاند من أعمال
القارة الأسترالية برقيم حَرِيٍّ بالذكر أوضح فيه أن الدين الإسلامي آخذ بالانتشار في
جزائر فيكتوريا وجنوبي بلاد الغال وقولينسلاند والفيشي انتشارًا مهمًّا ، وأن المسلمين
قُطَّان هذه الجزائر يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل الحصول على الكتب الدينية
الإسلامية ، وأنهم قد ألفوا جمعيات عديدة في البلاد بغية نشر الدين، وفقهم الله.
وجاء في رسالة من نيش إلى جريدة إقدام العثمانية أن عشرة آلاف من سكان
نيش من عواصم الصرب ، وثلاث بلدان أخرى بعملها قد اهتدوا جميعًا إلى الدين
الإسلامي ، وعزموا على ترك الأوطان فرارًا من ظلم الحكومة الصربية ، والالتجاء
إلى الممالك العثمانية.
إن الجامع الذي عزم المسلمون على تأسيسه في (لندرة) عاصمة البلاد
الإنكليزية قد قُدِّرت نفقاته بعشرة آلاف ليرة، وسيكون في أحسن موقع من البلدة
على أجمل طرز غربي.
(مأثرة تذكر لفضيلة شيخ الجامع الأزهر)
كتب مولانا شيخ الجامع الأزهر إلى سعادة محافظ مصر بأن يمنع الرجال
والنساء الذين يتلون القرآن في الطرق والشوارع ، حتى بقرب الحانات والمزابل
لما في هذا من الإهانة للدين.
***
انتقلت جمعية شمس الإسلام من مركزها الذي كانت فيه ويجتمع مجلس إدارتها
الآن في بيت أحد أعضائه ، وسيصير أخذ محل مناسب لها في هذا الأسبوع ، وعند
ذلك تخبر به جميع الأعضاء وجميع اللجان الفرعية إن شاء الله تعالى ، وسنشرح
أسباب الإرجاف بها.
لم نتمكن من جمع فهرست المجلد الثاني وطبعه لنقدمه مع هذا الجزء؛ لكثرة
الشواغل التي أحدثها تعدي المفسدين علي الجمعية ، وقد انتهت المشكلة على خير ،
ولله الحمد ، ونرجو أن نتمكن من تقديم الفهرست مع الجزء الآتي.
***
نهنئ جريدة الأصمعي وجريدة المناظر الغراوين اللتين تصدران في بلاد
البرازيل بإكمال السنة الأولى ، والدخول في السنة الثانية مع الجد والاجتهاد في
خدمة أبناء وطنهم السوري في تلك البلاد ، ونتمنى لهم زيادة النجاح والفلاح.
_________
الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى
الجنسية والديانة الإسلامية
من مقالات العروة الوثقى
خير ما كتبه علماء الإسلام في حكمة الدين الإسلامي
إن استقراء حال الأفراد من كل أمة ، واستطلاع أهوائها يثبت لجلي
النظر ودقيقه وجود تعصب للجنس ونعرة عليه عند الأغلب منهم ، وإن
المتعصب لجنسه منهم لَيَتيه بمفاخر بنيه ويغضب لما يمسهم حتى يُقْتل دون دفعه
بدون تنبه منه لطلب السبب ، ولا بحث في علة هذه الوجدانيات الطبيعية ، إلا أنه
يبعد ظنهم ما نراه في حال طفل ولد في أمة من الأمم ، ثم نقل قبل التمييز إلى
أرض أمة أخرى وربي فيها إلى أن عقل ولم يذكر له مولده، فإنا لا نرى في طبعه
ميلاً إليه بل يكون خالي الذهن من قِبَله ويكون مع سائر الأقطار سواء ، بل ربما
كان آلف لمرباه وأميل إليه ، والطبيعي لا يتغير ، ولهذا لا نذهب إلى أنه طبيعي ،
ولكن قد يكون من الملكات العارضة على الأنفس ترسمها على ألواحها
الضرورات، فإن الإنسان في أي أرض له حاجات جمة، وفي أفراده ميل إلى
الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية ذكية ، وسعة المطمع إذا
صحبها اقتدار يطبعها على العدوان، فلهذا صار بعض الناس عرضة لاعتداء بعض
آخر ، فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقابًا طوالاً إلى الاعتصاب بلحمة النسب
على درجات متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس فتوزعوا أممًا كالهندي
والإنكليزي والروسي والتركماني ونحو ذلك؛ ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده
المتلاحمة قادرًا على صيانة منافعه وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الآخر ، ثم
تجاوزوا في ذلك حد الضرورة كما هي عادة الإنسان في أطواره ، فذهبوا إلى حد
أن يأنف كل قبيل من سلطة الآخر عليه علمًا بأنه لابد أن يكون جائرًا إذا حكم ،
ولئن عدل فإن في قبول حكمه ذُلاًّ تحس به النفس وينفعل له القلب ، فلو زالت
الضرورة لهذا النوع من العصبية؛ تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في
الحدوث بلا ريب، وتبطل الضرورة بالاعتقاد على حاكم تتصاغر لديه القوى ،
وتتضاءل لعظمته القدر ، وتخضع لسلطته النفوس بالطبع ، وتكون بالنسبة إليه
متساوية الأقدام ، وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض ، ثم يكون القائم من
قبله بتنفيذ أحكامه مساهمًا للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم الحاكمين
فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى ، وأيقنت بمشاركة القيم على أحكامه
لعامتهم في التطامن لما أمر به؛ اطمأنت في حفظ الحق ودفع الشر إلى صاحب هذه
السلطة المقدسة ، واستغنت عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها فمحي أثرها من
النفوس ، والحكم لله العلي الكبير.
هذا هو السر في إعراض المسلمين على اختلاف أقطارهم عن اعتبار
الجنسيات ، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبيتهم
الإسلامية ، فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه
ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة وهي علاقة المعتقَد [1] لأن الدين
الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق ، وملاحظة أحوال
النفوس من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى ، بل
هي كما كانت كافلة لهذا جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد ، وبيان
الحقوق كليها وجزئيها وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة
الحدود ، وتعيين شروطها حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد
الناس خضوعًا لها ، ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية أو
ثروة مالية ، وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها
ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتهم المقدسة الإلهية
التي لا تميز بين جنس وجنس واجتماع آراء الأمة ، وليس للوازع أدنى امتياز
عنهم إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع عنها.
وكل فخار تكسبه الأنساب ، وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع
أثرًا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض ، بل كل رابطة سوى
رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتة على لسان الشارع ، والمعتمِد عليها مذموم ،
والمتعصب لها ملوم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية ،
وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية) والأحاديث
النبوية والآيات المنزلة متضافرة على هذا ، ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من
يفوق الكافة في التقوى (اتباع الشريعة){إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ومن ثم قام بأمر المسلمين في كثير من الأزمان على اختلاف
الأجيال من لا شرف له في جنسه ، ولا امتياز له في قبيله ، ولا ورث الملك عن
آبائه ، ولا طلبه بشيء من حسبه ونسبه ، وما رفعه إلى منصة الحكم إلا خضوعه
للشرع وعنايته بالمحافظة عليه.
وإن بسطة ملك الوازعين في المسلمين كان يسديها إليهم على حسب امتثالهم
للأحكام الإلهية ، واهتدائهم بهديها ، وتجردهم عن الاعتلاء الشخصي ، وكلما أراد
الوازع أن يختص نفسه بما يفوق به غيره في أبهة ورفاهة معيشة ، وأن يستأثر
على المحكومين بحظ زائد رجعت الأجناس إلى تعصبها ووقع الاختلاف
وانقبضت سلطة ذلك الوازع.
هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا
يعتدُّون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس ، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين ،
لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي ، والفارسي يقبل سيادة العربي ،
والهندي يذعن لرئاسة الأفغاني ، ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وإن
المسلم في تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها وانتقالها من
قبيل إلى قبيل ما دام صاحب الحكم حافظًا لشأن الشريعة ذاهبًا مذاهبها ، نعم إذا نبا في
سيره عنها وجار في حكمه عما نصت عليه ، وطلب الأثرة بما ليس له من حقه؛
انصدعت منه القلوب وتخلت عن محبته الأنفس ، وأصبح وإن كان وطنيًّا فيهم أشنع
حالاً من الأجنبي عنهم.
إن المسلمين اختصوا من بين سائر أرباب الأديان بالتأثر والأسف عندما
يسمعون بانفصال بقعة إسلامية عن حكم إسلامي بدون التفات إلى جنسها وقبيلها ،
ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية ، وثابر
على رعايتها ، وَأخَذَ الدهماء بحدودها ، وضرب بسهمه مع المحكومين في
الخضوع لها ، وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة - لأمكنه أن يحوز
بسطة في الملك ، وعظمة في السلطان ، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في
الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين ، ولا يتجشم في ذلك أتعابًا ، ولا يحتاج إلى بذل
النفقات ولا تكثير الجيوش ، ولا مظاهرة الدول العظيمة ولا مداخلة أعوان التمدن
وأنصار الحرية
…
ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين ،
والرجوع إلى الأصول الأولى من الديانة الإسلامية القويمة ، ومن سيره هذه تنبعث
القوة وتتجدد لوازم المنعة. أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم
تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط ، ولكنه مع ذلك أتى بما فيه مصلحة
العباد في دنياهم ، وما يكسبهم السعادة في الدنيا والتنعيم في الآخرة ، وهو المعبر عنه
في الاصطلاح الشرعي بسعادة الدارين ، وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس
المتباينة والأمم المختلفة.
ابيضت عين الدهر ، وامتقع لون الزمان حتى أصاب أن بعضًا من المسلمين
على حكم الندرة يعز عليهم الصبر ، ويضيق منهم الصدر لجور حكامهم وخروجهم
في معاملتهم عن أصول العدالة الشرعية ، فيلجأون للدخول تحت سلطة أجنبية، على
أن الندم يأخذ بأرواحهم عند أول خطوة يخطونها في هذا الطريق ، فمثلهم مثل من
يريد الفتك بنفسه حتى إذا أحس بالألم رجع واسترجع ، وإن بعض ما يطرأ على
الممالك الإسلامية من الانقسام والتفرق إنما يكون منشؤه قصور الوازعين
وحيَدَانهم عن الأصول القويمة التي بُنيت عليها الديانة الإسلامية ، وانحرافهم عن
مناهج أسلافهم الأقدمين ، فإن منابذة الأصول الثابتة ، والنكوب عن المناهج
المألوفة أشد ما يكون ضررهما بالسلطة العليا ، فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى
قواعد شرعهم ، وساروا سيرة الأولين السابقين لم يمض قليل من الزمان إلا وقد
آتاهم الله بسطة في الملك ، وألحقهم في العزة بالراشدين من أئمة الدين ، وفقنا الله
للسداد وهدانا طريق الرشاد.
(المنار)
لقد وقعت مقالة التعصب التي نشرناها في الجزء الماضي أحسن
موقع وأجله في نفوس قارئيها من فضلاء المصريين ، ولا ريب أن سيكون لهذه ما
كان لتلك ، فإن الكل من ينبوع واحد وهو علم أستاذنا الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية محرر جريدة العروة الوثقى ، ومن هاتين المقالتين يعرف القراء
السر والحكمة فيما اشتهر عن الأستاذ من تخطئة اللاغطين بالوطنية في مصر ،
والإعراض عنهم لجهلهم بما ينفع الأمة ويضرها ، ولكن زعماء الوطنية يوهمون
الناس بأن كل من يسفه أحلامهم فهو ميال إلى مسالمة المحتلين أو مصانعتهم ،
وقد أساء أغرار المصريين الظن بكثير من الفضلاء لوساوسهم ، ثم انجلت الحقيقة
لأكثرهم ، وستنجلى للآخرين إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
ولكن قد بلينا في هذا الزمان بقوم لم يتربوا تربية إسلامية فاندفعوا بالوساوس الأوروبية إلى قطع العلاقة العامة الاعتقادية ، وتعليم الناس التعصب لوطنهم فقط ، ولا وجود لهم إلا في مصر ، ويسمون أنفسهم الوطنيين ، ونحمد الله أن عددهم قليل وإلا لألقوا العداوة والبغضاء بين مسلمي مصر وسائر المسلمين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح
وصَّى الله - تعالى - جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ولكن رجال الدين من كل أمة فرقوا دينهم ،
وكانوا شيعًا ومذاهب يضلل بعضها بعضًا ، فكان هذا التفريق مسقطًا للدين من نظر
الحكماء والفلاسفة ، فقام رجال الدين يناصبون أهل العلم العقلي والحكمة العداء ،
حتى كانت الأمم قبل الإسلام تعتقد أن الدين والعقل ضدان لا يجتمعان ، وخصمان
لا يتفقان ، وسرت هذه الوساوس من تلك الأمم لبعض المسلمين ، وصارت تقوى
بينهم كلما ضعف العلم والدين، ولما تنبه أهالي أوربا بعد الحروب الصليبية إلى أن
ضعفهم في العلوم والمعارف وما يتبعها من الصنائع وأسباب العمران كله أو جله
من سوء سيرة رجال الدين فيهم شنوا عليهم الغارة الشعواء ، وظهر فيهم حزب
الإصلاح الذي استتبع من الحروب ما أوجب ذلك الانقلاب العظيم في أوربا ، وعنه
نشأت مدنيتها العظمى التي نشاهد من آثارها ما يحير الأفكار ، ويكاد سنا ضوئه
يذهب بالأبصار.
ولما رأى رجال الدين من بعد أن مقاومة العلم ومقاومة المدنية يعودان
عليهم وعلى الدين بالوبال ، ويؤذنان سلطتهم بالزوال؛ ساروا مع العلم والمدنية ،
وكانوا من أكبر أنصارهما ، وجمعوا بين علوم الدين والدنيا ، ثم فاضت العلوم
الغربية على الشرق ، وانتشرت فيه بواسطة دعاة الدين المسيحي من الأوربيين ،
فكان هذا سببًا لعناية الإكليروس الشرقي بالعلوم العصرية اقتداءً بالإكليروس الغربي
لا سيما الكاثوليك الذين كانوا من قبل أعدى أعداء العلم والعقل ، ولم يبق لهم ذنب في
نظر العارفين بأحوال الوقت وما تقتضيه من أمتهم الذين يلقبون بالمتنورين إلا
أمران: أحدهما صرف أموال الأوقاف العظيمة على معاهد العبادة كالديور ورجال
الكهنوت الذين لا عمل لهم ينفع الأمة؛ لأنهم انقطعوا للتحنث والتعبد ، وثانيهما
تفريق كل فرقة بين التابعين لها وبين سائر الفرق ، وتضليل بعضهم بعضًا مع أنهم
أبناء دين واحد ، بل وتكفير بعضهم بعضًا للخلاف في مسائل هي أشبه
بالفرعية منها بالأصلية الأساسية ، وقد شن هؤلاء المتنورون بسبب هذه الأمور
الغارة الشعواء على رجال الدين ، وطلبوا منهم أن ينفقوا أموال الأوقاف على
معاهد التربية والتعليم ، وأكثروا من الكتابة في هذا الموضوع في الجرائد
السورية والأميركية والمصرية لا سيما جريدة (الرائد المصري) و (السيار)
و (المناظر) وكم كتبوا وخطبوا ونظموا القصائد في حث رجال الدين على
التأليف بين الطوائف ، وإطفاء نيران التحمس والغلو في التعصب.
ومن هؤلاء من جعل كلامه عامًّا للمختلفين في الأديان لأن البلاد لا تعمر إلا
باتفاقهم على عمارتها ، ومنهم من جعل كلامه لأهل الدين النصراني المختلفين في
المذاهب فقط ، وقد رأينا في جرائد أميركا السورية الأخيرة خبر نهضة عظيمة في
هذا الأمر تستحق التدوين والذكر ، وإننا ننشر هنا أهم واقعة حدثت لهم فيها وهو ما
كان في احتفال (جمعية الشبان المارونيين) ليعتبر به الجاهلون بالتاريخ
والأحوال الحاضرة الذين يتوهمون ويقولون ، بل ويكتبون في جرائدهم أن سائر
أهل الأديان يقدسون رجال الدين ولا ينتقدون عليهم بشيء، يعني أننا قد خرجنا
بالمنار عن آداب أهل الأديان كلها لطلبنا من علمائنا إصلاح التعليم والجمع بين
علوم الدنيا والآخرة كما هو مقتضى الإسلام ، والسعي في جمع كلمة المسلمين التي
فرقها اختلاف المذاهب لا سيما أهل السنة والشيعة. ثم قام دعاة الوطنية يفرقونها
أيضا باختلاف الأجناس والبلاد ، ومع أننا نتكلم في المنار بكل أدب واحترام ، ونعتقد
أن تعليق آمال الأمة بعلمائها وإقناعها بأن سعادتها في أيديهم هو التعظيم الأكبر لهم ،
وأننا - ولله الحمد - لم نذكر أحدًا من علمائنا الكرام بسوء ، وقد جرينا على آداب
السنة السَّنية في الانتقاد على من كتب في مصنف له أن الاقتصاد في المعيشة وتربية
الأولاد وتدبير المنزل ليست من الأمور الواجبة على النساء ، وذلك أننا لم نصرح
باسم القائل ، ولا باسم كتابه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذكر
الإنكار حتى على المنبر من غير تصريح باسم فاعله وذلك بمثل: ما بال قوم يفعلون
كذا ، فليحاسب أنفسهم الذين يخوضون في الإنكار على المعروف عن غيره بصيرة
ليعلموا هل يعملون لمرضاة قوم وإسخاط آخرين ، أم ابتغاء مرضاة الله واتقاء
سخطه؟ والله ولي المتقين ، وهاكم الآن أيها القراء الكرام بعض ما جاء في جريدة
الأيام التي تصدر في نيويورك:
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة للمؤرخين
ثورة السوريين على الإكليروس
احتفال جمعية الشبان المارونيين
نكتب هذه السطور لتكون من بعدنا مستندًا للكتاب والمؤرخين حتى إذا
قدر الله أن تنهض هذه الأمة السورية التعيسة من وهدة التأخر والخمول إلى ذروة
التقدم والفخر يعلم الناس أساس تلك النهضة وأسبابها.
نكتب هذه السطور بمداد الفخر والإعجاب لتكون أكبر دليل على أن
السوريين لا تزال في صدورهم روح الأنفة والحماسة وحب التقدم والنشاط.
بل نكتب هذه السطور لنفتخر بأن كلام (الأيام) وغيرها من الجرائد
العربية الحرة في هذه البلاد قد أثمر - والحمد لله - الثمرة الصالحة التي كاد أن يقطع
الأمل من الحصول عليها في الحين القريب.
فالسوريون منذ ليلة الجمعة الواقعة في (9 شهر شباط سنة 1900) قد
خطوا الخطوة الأولى في سبيل التقدم والحرية.
وهي الليلة التي احتفلت فيها جمعية الشبان المارونيين بمرور سنة
كاملة على تأسيسها.
فإن هذه الحفلة كانت بعلم من الله تعالى واسطة لإظهار ما تُكِنُّه قلوب
السوريين من الكُره والنفور من أعمال الآباء الروحيين التي كانت ولا تزال منذ
القديم عثرة في سبيل تقدم السوريين واتحاد قلوبهم ، بل هي التي كانت سبب
المخاصمات والعداوات الطوائفية التي اشتهر أمرها بين النزالة السورية في
العامين الأخيرين وكانت نتيجتها تعطيل المتاجر وخراب البيوت وتدنيس
الشرف السوري في بلاد الحرية والعدل.
نعم إن السوريين قد شعروا الآن بأن تلك القلانس هي التي كانت منبع الشر
والفساد فيما بينهم ، وأنها الباعث الوحيد على تأخرهم وشقائهم وتنافر قلوبهم وتعاسة
أحوالهم ، فقاموا الآن قومة واحدة يرومون تحطيمها كما فعل الفرنسيون من قبلهم
في ثورتهم المشهورة على الإكليروس ، وهي التي ينبئنا التاريخ أنها كانت حجر
الزاوية لذاك الطود الشامخ، نعني به تقدم الأمة الفرنسوية وتمدنها الذي نراه الآن
ساطعًا كالشمس في فلك هذا العالم.
جهاد وأي جهاد قام به السوريون في أواخر الأسبوع الماضي! فقد اشترك فيه
الماروني والأرثوذكسي والكاثوليكي واليهودي وكل سوري غيور على شرفه ومتنور
بنور العلم الصحيح البعيد عن الخرافات والأباطيل.
فمن سمع قبل الآن أم قرأ في تاريخ السوريين وماضي أحوالهم أن هذه الأمة
التي يصفها الكُتاب الأجانب بالطاعة العمياء لرؤساء الأديان والتي كانت في الحقيقة
منبع التعصبات الدينية في سابق الأزمان - دافعت ولو مرة واحدة عن حقوقها المداسة
بأرجل الإكليروس منذ الألوف من الأجيال؟
إن هذا لم نسمعه منذ قديم الزمان ولكننا قد سمعناه الآن، فقد ضجت
النزالة السورية بالأمس بخبر ما توقع مساء الجمعة الماضي لحضرة الأب المحترم
الخوري يوسف يزبك ساعة انتصب على المرسح خطيبًا من غير أن يدعوه
أحد من الناس ، وشرع يندد بالأدباء والمصلحين ، ويدعو الناس إلى التعصب
والطاعة العمياء ويقول لهم: (إن من لم يخضع لسلطتنا فليسقط ومن لا
يرضى بأعمالنا وأفعالنا فليشق نفسه غيظًا وليمت كمدًا وحسرة) .
بمثل هذا الكلام تفوه هذا الأب المحترم ، بل هو قد فعل أكثر من ذلك ، ففاه
بكلمات لا يليق برجال الله الأتقياء أن يفوهوا بها بمثل هذه المحافل الأدبية؛ إذ قال
في جملة مطاعنه على بعض الخطباء الذي تقدمه في منبر الخطابة ، وخطب في
وجوب التساهل الديني: (إنه كالسعدان يتمعص، ويتقعص، ويتملص ، ويوصي
الناس بالخلاعة وعدم التسليم لإرادة مرشديهم الخوارنة الأطهار) .
وتفصيل الخبر
إن جمعية الشبان المارونيين أقامت مساء نهار الجمعة الفائت الواقع في 9
الحاضر احتفالاً شائقًا بمناسبة مرور سنة كاملة على إنشائها ، ودعت ما يقرب من
ستمائة شخص من السوريين ، وبعض الأمر كان لسماع الخطب في المكان الذي
أعدته لهذه الغاية - وهو أرلنثن هول - فخطب في الجمع أدباء كثيرون ودارت
المباحثة على محور الوطنية.
ثم اعتلى منبر الخطابة بعد ذلك جناب الشاب الذكي الفؤاد الأديب أمين أفندي
ريحاني ففاه بخطاب لم يُسمع له نظير من خطيب سوري حتى الآن وعنوانه:
(التساهل الديني) نبه فيه الشعب السوري إلى وجوب التساهل الديني، ومنع
التعصب ليسهل على السوريين بعد ذلك الاتحاد الذي هو سلم السعادة والمدنية، وقد
أورد البراهين والأدلة على أن تأخر الشرقيين بالعلم والثروة والنفوذ ناتج عن انقيادهم
الأعمى إلى رؤساء الأديان، وتسليمهم لهم زمام أمورهم الجزئية والكلية، وكان
ملخص كلامه بهذا الموضوع: (إن الديانات غشاء على أبصار العامة من الشعب
وخرافات في نظر العلماء وتجارة في أيدي الإكليروس ، وآلة نافعة في يد الحكومة) .
وكان يلقي هذه الدرر بمهارة كلية في فن الخطابة وبصوت جهوري وإشارات
لطيفة حتى أهاج في صدور القوم كامن الأحقاد على مستهضمي حقوقهم ، فكان لا
ينطق بكلمة إلا ويعقبها صدى الاستحسان وتصفيق الأيدي ، ولكن ما سمعه الجمهور
من خطابه أساء (بالطبع) رجال الإكليروس الذين كانوا في صدر تلك الحفلة ،
وكأنهم خشوا أن تكسد تجارتهم وتسقط هيبتهم في أعين الشعب بعد أن تتنور الأذهان
فقام أحدهم وهو الخوري يوسف يزبك ، وادعى أنه سيخطب في موضوع الثناء
على القنصل الإفرنسي الذي كان نائبه حاضرًا في تلك الليلة ، فتخلص من ذلك
الثناء إلى الطعن بشخصيات ريحاني أفندي بكلام تأبى سماعه آذان الأدباء معترضًا
على ما قاله من وجوب التساهل الديني والاتحاد الوطني ، وكان كلما قال عبارة من
هذا النوع ينتظر من الحضور أن يصفقوا له تصفيق الاستحسان، ويقولوا له:
(سبحانك) ولكنه رأى في هذه المرة غير ما كان يعهده بأبناء سورية ، فإنهم قابلوا
كلامه بصفير الاستهزاء ، وطلب وجهاؤهم وأدباؤهم من هيئة الجمعية إسقاط المتكلم
عن منبر الخطابة خوفًا من هيجان الشعب ، ولما تمادى الأب المشار إليه في جرح
الحاسات الوطنية وإثارة روح التعصب؛ علت ضجة الشعب من كل جانب ، وما كاد
الأب ينهي عبارته: (من لا يخضع لسلطتنا فليسقط) حتى نادى الحضور بصوت
واحد: فلتسقط أنت وكل من كان على شاكلتك ، وهجم بعض الشبان على المرسح
يريدون إسقاط الكاهن بالقوة ، وحاول كثيرون من الأدباء الخروج من الحفلة
إظهارًا لاستيائهم من عمل الأب المشار إليه ، فمنعهم أعضاء الجمعية وطيبوا
خاطرهم.
ولما رأى جناب الأديب شكري أفندي رحيم مدير الجمعية أن لا سبيل لتسكين
الخواطر إلا بإسقاط الأب عن كرسي الخطابة ومنعه من إكمال خطابه - طلب من
الأب تخفيف لهجته أو التوقف عن الكلام فرفض الأب إجابة الطلب ، فالتزم إذ ذاك
لتوقيفه بالقوة عملاً بنظام الجمعية ، وهكذا تم ، فسُر جميع الحضور من عمله ،
وأثنوا على الجمعية التي بذلت كل ما في وسعها لتسكين الخواطر وإرضاء
الجمهور، وهو عمل ندونه لها بمداد الشكر والثناء.
ولم يزل الشعب متأثرًا من عمل الأب المشار إليه حتى نهاية الحفلة فقام إذ
ذاك جناب الشاب الوطني الأديب الأمير يوسف أبي اللمع وألقى في الحضور خطابًا
مهيجًا صادق به على كلام الخطيب الأول أمين أفندي ريحاني ، وكانت لهجته
شديدة فقام بعض دعاة التعصب ، وأحدثوا جلبة وضجة بين الحضور ، وطلب
بعضهم منع الخطيب عن الكلام ، ولكن الرأي العام كان متحيزًا له ، فقام النزاع بين
الأحزاب ، ولكنها والحمد لله لم تكن أحزاب طوائفية لأن الطوائف كانت متحدة يدًا
واحدة ، بل كانت أحزاب آراء وأميال فاز فيها التمدن والعلم على الخمول والجهل ،
وأثنى الحضور على الخطيبين اللذين تكلما في وجوب التساهل الديني ، وحملوهما
على الأكف ، وقد اقتصر النزاع على الكلام ، ولم يحدث تلاكم وخصام ، وانتهت
الحفلة باعتذار عمدة الجمعية عما حدث من غير قصد ولا علم منها ، وهكذا
انصرف الجمع ، وهم لا يعلمون إذا كانوا في يقظة أم في منام لأن المظاهرات التي
ظهرت في تلك الليلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السوريين منذ قديم الزمن حتى
الآن.
هذه حاسات الشعب شرحناها كما هي ، وهذه تفاصيل الحفلة ذكرناها من وجه
إخباري ، ونحن كما يعلم الجميع نُجِلُّ الأديان ونحترمها ، ونكرم الكهنة الأفاضل
الذين يسيرون بموجب التقوى والفضيلة ، ويسوءنا أن نرى تصرفات البعض منهم
قد أوجبت حنق الشعب وهيجانه.
ويا حبذا لو اقتدى البعض من كهنتنا بكهنة الأمريكان الذين إذا اعترضوا على
مبدأ ما أظهروا اعتراضاتهم بالكلام الحسي متجنبين الأوصاف الغير لائقة
(كالسعدان والأمعط والأشمط) لاسيما وهم في أعين الشعب قدوة الأدب وعنوان
الفضيلة اهـ بحروفه.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(22)
من هيلانة إلى أراسم في 6 يوليه سنة - 185
كأني أيها الحبيب بساعة الوضع قد اقتربت ، وإني وإن كنت لا أزال في
كفاية من جودة الصحة لكن ما أشد خوفي من هول تلك الساعة وما تأتي به
من الشدائد والمحن التي كان شهودك فيها وحده كافلاً بتخفيف آلامها عني.
رباه كيف لا تكون بقربي أيها العزيز أراسم؟ وأخص وقت تكون فيه المرأة
كالعشقة (شجرة اللبلاب) لزامًا لمن تحبه وتعلقًا به إنما هو أمس، ذلك اليوم
المعروف بالعناء والخطر.
في الليلة الماضية رأيت رؤيا تحيرت في تأويلها ، رأيتني أزور قبر
والدتي لابسة الحداد! فعظمت دهشتي لما رأيته هناك من شجر الورد والآس
وغيرهما من الأزهار لأني لم أكن أوصيت بغرسها ، ولما رأيت أن يدًا
مجهولة قد عنيت بآخر منزل لمن كنت أحبها فزينتْه بهذه الأزهار هاجت
أشجاني وانهطلت عَبراتي وأحسست بالبكاء في نومي وقلت في نفسي: ليت
شعري مَن هذا الذي عرف كيف يتحبب إليَّ ويسترضيني عنه ، ثم تبينت من
جملة وقائع متتابعة مبهمة أنك أنت الذي غرستها فغرقت في شبه لُجة من
الفناء في حبك ، وما عسى أن أصف لك مما خطر في ذهني إذ ذاك؟ فقد تمثلت
لي جميع الأحوال التي تلاقينا فيها لأول مرة ، وما انعقد بيننا من روابط الحب
الأولي تمثلاً ليس كالذي يحصل عند ذكر المرء حوادث ماضية، بل كما
يحصل في الحلم، حيث تتشكل فيه الأشياء الحية وغير الحية بأشكالها الحقيقية،
فما قولك في هذه الرؤيا؟ ! أما أنا فلو كنت من الموسوِسات لاعتقدت
أن فيها إنذارًا ببعض المصائب.
أبشرك أيها الحبيب بأن أول مكتوب يأتيك مني بعد هذا سأكتبه إليك
وأنا أم ، وإني كلما افتكرت في ذلك تعروني هزة الفرح ونشوة الطرب ،
فالآن أودعك وأقبلك بكل ما في نفسي من قوى الحب والشوق اهـ.
شذرات مقتطفة من جريدة أراسم
(23)
تحرر في 6 يوليه سنة - 185
دخلت فراشة في مخدعي من السجن من حيث لا أعلم ، ومكثت ربع
ساعة تحاول الخروج من الشباك يدعوها إلي ذلك ما وراءه من الضياء
والفضاء والحياة بما تسمعه من الأصوات في جو السماء ، ولكنه على ضيقه
كان محكم الإقفال فانقضت عليه بنت الهواء أولاً على جهل منها بحقيقة
زجاجه اللطيف حاسبة أنه لا وجود أمامها ، ثم أخذت تصادمه وتلتصق به
وتقاومه ، وكلما ردتها صلابته خائبة أعادت عليه الكرة.
هكذا يكون شأن الإنسان مع العقبات المعنوية التي تعترضه في طريق
حياته لا يحسب لها حسابًا لأنها لا تكاد تكون شيئًا يذكر، فهي كسُمك لوح من
الزجاج مثلاً، لكن هذا الشيء الذي لا يذكر كوهم أو عقيدة أو معنى غير
صحيح أو مغالطة؛ كافٍ في إعاقة عقله عن التحليق بجناحيه في سماء
الحرية فلا يجدي معه اشتداد العقل في اقتحام عقبة ، كما لم يُجدِ تلك
الحشرة اصطدامها بالزجاج وإيهاء جناحيها.
فلما رأيتها قد عجزت عن الخروج فتحت لها الشباك ، وقلت لها: امضي
أيتها المسكينة في سبيلك ، وطيري بجناحيك كما كنت في خالص الهواء
وحرارة الشمس فهذا يكفيك من مسجون في حجرته اهـ.
(24)
تحرر في 8 يوليه سنة - 185
كثيرًا ما شاهدت ساحل البحر بين حركتي المد والجزر ، وأبصرت على
سطح رماله المبللة الرطبة آثار كثير من الأقدام ومن العجلات ونعال الخيل
ورسومًا غريبة في بابها نقشتها على صفحاتها أيدي الأطفال ، وأسماء كتبت
بأطراف العصي وغير ذلك من الآثار الكثيرة المتنوعة ، فلما مدَّ البحر محاها
جميعًا فلم يبق منها شيء يدل على سبق وجودها ، كذلك شأن العدل والزمن
فإن لهما كالبحر مدًّا وجزرًا ، فاعملوا ما شئتم من تأليف الكتب وتحرير
الصحف وإقامة الأبنية ووضع القوانين ، وارسموا مقاصدكم على الرمال، كل
ذلك يغمره مد العدل في يوم ، بل في ساعة واحدة، فالبحر يقول في مده: إني
أعود إلي ما تركت من مكاني ، والشعب يقول في مده: إني أسترد ما اغتصب
من حقوقي اهـ.
(25)
تحرر في 9 يوليه سنة - 185
كان فيما سلف من القرون رجل من الفاتحين دمر الممالك ودوخ الأقيال،
ثم مات بعد أن تم له النصر في كثير من وقائعه وغزواته فوضعه رجال دولته
على سرير فخيم محفوف بأكمل مظاهر الأبهة والجلال مع أنه بالموت قد خلع
من ملكه ، وأنزل من عرش سلطانه ، فاتفق أن تهافتت على أنفه ذبابة فلم
تستطع يداه ذودها عنه على ما كان منهما من إدارة شئون الممالك وقمع
نخوة الجبابرة ، يا عجبًا للوصول إلي الغاية التي وصل إليها ذلك الرجل يوطأ
العدل والحرية بالمناسم وتهضم حقوق الأمم! اهـ.
(26)
تحرر في 10 يوليه سنة - 185
أرادت دجاجة أن تغطي بجناحيها أفراخًا تفقص عنها البيض وكبرت
فقلن لها: لسنا في حاجة إلي عنايتك فإنك تزهقين أنفسنا بثقلك ، فكان جوابها
على ذلك أن قالت لهن: مه فإنكن لا تدرين في ذلك شيئًا ، أما عدم احتياجكن
إلي فهذا ممكن ، وأما أنا فلا أستغني عنكن: أولاً لأنه يلذ لي أن ألقي ثقلي
على شيء فإن هذا يكثر من أهميتي ، وثانيًا لأني آكل ما أعد لكُنَّ من الحب.
أليست هذه الحكاية تمثل الحكومة مع الشعوب التي بلغت من درجات
التقدم ما يكفيها في الاستقلال بحكم نفسها اهـ.
(27)
تحرر في 12 يوليه سنة -185
كانت ليلتي هذه هائلة فظيعة ، فإني كنت في بعض ساعاتها أرى من
خواطري ما كان يمثل أمامي كما تمثل الأشباح فهل أنا صائر إلي الجنون؟
لقد رأيتها.. هي بنفسها لا في حلم ، بل في يقظة لكنها أخفى من النوم
بألف مرة.
رأيت هيلانة نائمة على سريرها ، وكنت ألاحظ نَفسَها المختنق ، وأجس
نبضها الذي دلني على أنها محمومة. واعجبًا أخالني سمعت صوتًا.
ويلاه إنها تئن وتتألم وأنا بعيد عنها.
إنما يدرك ثقل وطأة السجن ويحس بضيقه في مثل هذه الساعات التي
تغلب على الإنسان فيها حيرته وتزهق نفسه ، ولقد كنت أريد أن أكون قدوة
لزوجتي في الثبات والصبر فهذه أول مرة غلبني فيها السجن على عزمي فانثنى
رأسي ، وانجرح فؤادي مما ألاقيه من نقم القانون البشري.
لو كان حقًّا ما يقال من أن في قدرة الأموات أن يزوروا من كانوا
يحبونهم في هذه الحياة الدنيا ، لوددت أن أموت في هذه الساعة حتى أراها
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(التبر المسبوك في نصيحة الملوك)
كتاب وجيز وضعه الإمام أبو حامد الغزالي للملك العادل السلطان محمد ابن ملك
شاه، كتبه باللغة الفارسية ونقله إلى العربية بعض تلامذته وهو مشتمل على الحكم
البالغة والنصائح الرائعة والحكايات التي تشتمل على العظة وتدعو إلى الاعتبار ،
ولكنه على فضل واضعه وتحقيقه لا يخلو مما يُنتقَد على كتب الوعظ وهو كثير ،
منه: الغلو في التزهيد ، والنهي عن العناية بعمارة الدنيا ككلامه في (بيان العينين
اللتين هما مشرب شجرة الإيمان) ويعني بهما معرفة الدنيا ، ولِمَ وجد الإنسان فيها ،
ومعرفة النفس الأخير على أن الكتاب لا يخلو عما يخالف ذلك من الحث على عمارة
البلاد ، وبيان أن الدين لا يقوم إلا بعمارة الدنيا كقوله:
واعلم أن أولئك الملوك القدماء كانت همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم
بعدهم ، روي أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفى وأشكر ، وكانوا يعلمون
أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه، وهو قولهم: إن الدين
بالملك ، والملك بالجند ، والجند بالمال ، والمال بعمارة البلاد ، وعمارة البلاد بالعدل
في العباد. فما كانوا يوافقون أحدًا على الجور والظلم ، ولا يرضون لحشمهم بالخرق
والغشم ، علمًا منهم أن الرعية لا تثبت على الجور ، وأن الأماكن تخرب إذا استولى
عليها الظالمون ، ويتفرق أهل الولايات ، ويهربون في ولايات غيرها ، ويقع النقص
في الملك ويقل في البلاد الدخل ، وتخلو الخزائن من الأموال ، ويتكدر عيش الرعايا
لأنهم لا يحبون جائرًا ، ولا يزال دعاؤهم عليه متواترًا ، فلا يتمتع بمملكته ، وتسرع
إليه دواعي هلكته اهـ.
ومن أحسن ما جاء فيه خبر قال الامام الغزالي: إنه يستفيد منه القارئ
والسامع وهو: سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لأي
شيء لا تنفع الموعظة هؤلاء الخلق؟ ، فقال: الخبر معروف - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما أوصى عند وفاته أشار بأصابعه الثلاث ، وقال: (لا
تسألوني عن حال أولئك) فقال قوم من الصحابة: أشار إلى ثلاثة أشهر ،
وقال قوم: إلى ثلاث سنين ، وقال قوم: إلى ثلاثين سنة ، وقال قوم: ثلاثمائة
سنة ، يعني إذا مضت ثلاثمائة سنة فلا تسألوني عن حال أولئك الرجال ، فإذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألوني عن حال أولئك فكيف ينفع الوعظ
فيهم؟
وسئل عن هذا السؤال ، فقال: كان الناس في ذلك الوقت نيامًا ، وكان
العلماء أيقاظًا ، واليوم العلماء نيام ، والخلق موتى ، فأي نفع لكلام النائم مع
الميت (قال الغزالي) : أما زماننا هذا فهو الذي هلك فيه الخلائق جميعهم وقد
خبثت أعمال الناس ونياتهم اهـ.
(المنار)
وجه الفائدة في الكلام أن المسلمين قد انحرفوا عن صراط دينهم بعد النبي
صلى الله عليه وسلم بزمن قليل - انحرف العامة أولاً وبعدهم العلماء - وليس
في الكلام دليل على أنهم لا يعودون إلى الاستقامة على ذلك الصراط المستقيم،
فقد ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ترك فينا الثقلين إن تمسكنا بهما
لن نضل أبدًا ، وهما كتاب الله تعالى وسنته عليه الصلاة والسلام فما علينا إلا
الاستمساك بهما وترك الأهواء والبدع التي روج سوقها فينا قال فلان وفعل
علان.
(الدليل الصادق على وجود الخالق ، وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري
الخوارق)
كتاب مطول في العقائد لمؤلفه العالم الفاضل الشيخ عبد العزيز بن عبد
الرحمن جاب الله ، وقد أتم الجزء الأول منه تأليفًا ، وطبع في مطبعة الآداب
والمؤيد، وهو يدخل في نحو 400 صفحة جمع فيها صاحبه كثيرًا من مباحث
المتقدمين والمتأخرين ، وسار كغيره من المتأخرين علي طريقة السنوسي في
تقسيم الصفات ، وأورد الأبحاث التي أوردها الذين كتبوا على عقائد السنوسي
الشروح والحواشي ، ولم تسمح لنا الفرص بمطالعته لننتقده ونوفيه حقه من
التقريظ ، وغاية ما نقول فيه: إنه جمع من الفوائد والنقول ما لا يكاد يوجد في
غيره فنحث أهل العلم على الاطلاع عليه.
(سبيل الهدى)
مجلة علمية لصاحبها الأديب اللوذعي أحمد سعيد أفندي البغدادي، ويسرنا
أن المجلات الأدبية قد كثرت ، ووجد منها ما يناسب كل طبقة من الناس،
ونرجو أن تحول أفكارهم عن كثرة الاشتغال بالسياسة التي لا تفيدهم، ونرجو
لهذه المجلة بخصوصها الإقبال لا سيما عند تلامذة المدارس لأن صاحبها على
معرفة تامة بأذواقهم ومشاربهم ، وإننا نقرظها الآن وليس في يدنا عدد منها
لننبه على أهم مباحثه وهي تطلب من حضرة صاحبها في مصر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(روسيا وإنكلترا)
بذلت دولة الروسيا جهدها في الاستفادة من فرصة الحرب الحاضرة فعقدت
قرضًا مع دولة إيران لتنفي منه هذه دين إنكلترا فيبطل نفوذها في تلك البلاد،
وساقت جيشًا إلى حدود أفغانستان تمهيدًا للزحف على الهند أكبر أمانيها الاستعمارية
بمقتضى وصية بطرس الأكبر ، وقد نشرت مجلة (بلاك دويت) تقريرًا لأربعة
من الضباط الروسيين انتدبهم ناظر حربية روسيا لاكتشاف حدود الهند وتحصينها
بينوا فيه أن الاستيلاء على الهند سهل على روسيا ، وذكروا أنهم ذهبوا أولاً إلي
مشهد من بلاد فارس ثم إلى أسخاباد ثم إلى كوشك ومنها إلى هرات مفتاح البلاد
الهندية، ثم رجعوا إلي كوشك ومنها ركبوا في نهر الأكسوس (سيحون) إلى
كيليف وهناك اكتشفوا الحدود الروسية، ثم ذهبوا إلي بلخ، ثم إلى كابل عاصمة
أفغانستان من جهة ماجاشريف وباميان وقد شكَوا من وعورة هذا الطريق ورداءته ،
وذكروا أن الأمير عبد الرحمن تقبلهم بقبول حسن وتلقى مكتوب القيصر له بكل
سرور ، وساعدهم على استعراف ما أرادوه من مراكز الإنكليز ونقطهم الحربية
الجديدة ، وقابلوا عنده بعض رؤساء القبائل الأفغانية ، واستفادوا منهم فوائد لا تقدر
بثمن ، وأقاموا في كابل ثلاثة أسابيع ، ثم سافروا إلى حدود الشترال لاستعراف
عادات القوم وأحوالهم بعد أن عرفوا الشئون الحربية ، وقد استطلعوا حدود
البلوخستان الإنكليزية والنجود والأراضي التي بين الهند الإنكليزية والإيالات
المستقلة الأهلية في جهة شترال وكشمير ولاداك ، وصرحوا بخطأ الذين كانوا
يعدون أفغانستان داخلة في دائرة النفوذ البريطاني ، وصرحوا بأنه ضعيف في
أفغانستان ، ومعدوم في الولايات التابعة لها ، وأنه حل محله في هرات وبلخ
وكوندوز الميل إلى روسيا ،وصرحوا بأن حدود الهند الإنكليزية تدل على قلة
تبصرهم بالعواقب؛ لأنهم اعتمدوا على الحصون الطبيعية، ولم يستعدوا للطوارئ
اقتصادًا أو بخلاً وغرورًا ، ونتيجة اكتشاف هؤلاء الضباط أن الخط الذي بين
بشاور وكوتا المواجه لأقرب طريق من أواسط آسيا غير كفؤ للمقاومة ولا يمكن
عبوره بقوة مهاجِمة ما دام الإنكليز متحصنين وراءه (كذا) أن بقية الحدود
الإنكليزية يمكن تجاوزها بقوات ضعيفة، يمكن القرب من أي نقطة من الحدود
بسهولة إذا كانت القوة عظيمة على شرط أن تبقى الأعمال مكتومة لئلا تستعد
حكومة الهند استعدادًا جيدًا اهـ.
***
(أخبار الحرب الحاضرة)
مضى على هذه الحرب خمسة أشهر ، والإنكليز فيها على انكسار متواصل
وخذلان مستمر ، وقد نقل إلينا البرق أخيرًا أن قائد جيش أورانج الجنرال كرونجي
قد سلم للقائد الإنكليزي العام المارشال روبرتس؛ لأنه وجد أن جيشه لا يبلغ ربع
جيش الإنكليز هنالك، وأكثر ما قيل فيه: إنه يبلغ نحو 4000 صاروا أسرى
للإنكليز وعند البوير ممن أسروه من الإنكليز أكثر منهم ، ونقول ها هنا: إن جميع
جرائد أوربا أظهرت الشماتة بالإنكليز تبعًا لأممها ودولها إلا الجرائد العثمانية ، بل
إن من هذه الجرائد ما كان كلامها في الحرب إفراطًا في المدافعة عنهم كجريدة
بيروت الغراء ، وإننا نقول الحق وإن كان مرًّا في مذاق المصريين الذين يئنُّون من
وطأة ضغط الإنكليز أن من مصلحة الدولة العلية أن تنتصر دولة إنكلترا بعد
انكسارها لأن خذلانها المستمر يحدث انقلابًا في أوربا ، واختلالاً في الموازنة بين
الدول يكون فيه الرجحان لدولة روسيا عدوة الدولة الطبيعية التي لا يرضيها إلا
محو اسمها من لوح الوجود (حماها الله تعالى ووقاها) وقد هنأ مولانا السلطان
الأعظم جلالة الملكة بهذا الانتصار الأخير ، ويظهر أن الكَرَّة رُدت للإنكليز على
البوير لأن جيشهم بلغ مائتي ألف مقاتل إلا أن يحول دون ذلك امتداد الثورة في
مستعمرة الكاب، فقد ورد في برقيات يوم الخميس الماضي أن بلاد قضائين أعلن
أصحابها الانضمام إلى الأورانج ، والذين أظهروا الثورة فعلاً منها 3000 رجل.
عندما أراد الجنرال بوللر الزحف لإنقاذ لاديسمث من الحصار نشر في جيشه
كتابًا يحثه فيه على الثبات ، قال فيه: (فليثق كل واحد منكم بالنجاح وليعتقد
بالفوز) وقد فسرت جريدة الأهرام كلمته هذه بقولها: (أشار عليهم بكيفية اعتبار
البوير مسلمين بهذه العبارة) ونقول: كبرت كلمة هي قائلتها ، وأكبر منها أن
المسلمين قرأوها من مدة طويلة ، ولم نر أحدًا استكبرها أو استنكرها ، نعم إن
المسلمين صاروا مهضومي الحقوق في الأرض ، وتأخروا عن سلفهم في كل شيء
من حيث تقدمت الأمم الأخرى على أسلافها في كل شيء إلا أن المسلمين لا
يزالون أشجع الأمم وأثبتها وأشدها بأسًا ، وأصعبها مراسًا ، وإلى الآن ما غلبوا من
قلة أو جبن ، ولكن الجهل والبعد عن آداب الدين جعلا بأسهم بينهم شديدًا ، وقد آن لهم
أن يعتبروا بما يقال فيهم ، ويجتهدوا في تبرئة أنفسهم منه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع ما قبله)
من المدارس العليا التي تشهد اليوم في تركيا لما لجلالة السلطان من الميل إلى
تعليم الفنون الأدبية ميلاً صادرًا عن علم بفائدتها ، ولما يبذله من العناية البالغة في
توسيع نطاق المعارف لموظفي حكومته - مدرسة العلوم السياسية التي ستضارع
نظيرتها في باريس.
المدارس التابعة لغير نظارة المعارف هي:
أولاً: ما يتبع منها لنظارة التجارة والأشغال والزراعة وهذا بيانه:
أ - المدرسة التجارية الحميدية المؤسسة في سنة 1882 بعناية جلالة السلطان
عبد الحميد الذي أفاض على مملكته أنفع العلوم وأكفلها بتقدم الصناعة
والتجارة.
ب - مدرستا الصنائع والحِرَف ، وتسميان بالمكتبين الصناعيين، إحداهما
للذكور، والأخرى للإناث ، وهذه قد رتبت ترتيبًا جديدًا في سنة 1883 ويصح أن تعد
نموذجًا في بابها ، وفيها يتعلم البنات القراءة والكتابة وشغل الإبرة وتباع الأشياء التي
يصنعنها ليكون ثمنها لهن فيوضع ما يحصل منها في شبه مصرف توفير حتى يوزع
على متخرجاتها على حسب استحقاقهن.
ت - مدارس الحرف التي تقرر في سنة 1884 إنشاء واحدة منها بكل ولاية
وتأسيسها الآن جار على التوالي.
ثانيًا: ما يتبع منها نظارة المالية وهو:
أ - مدرسة المعادن والغابات التي كانت قبل حكم جلالة السلطان عبد الحميد
مدرستين منفصلتين إحداهما للمعادن والأخرى للغابات، فضُمتا في حكمه
وجُعلتا مدرسة واحدة.
ب - مدرسة التلغراف التي بفضل رعاية جلالة السلطان صارت إلى ما
هي عليه الآن من الأهمية.
قبل الكلام على مدارس الطوائف الغير الإسلامية يجب علينا أن نخصص
بعض أسطر للمدارس الدينية الإسلامية ، فنقول:
تنقسم العلوم التي تلقى في هذه المدارس إلى عشرة فروع وهي: النحو
والصرف والمنطق والفلسفة واللغة والبيان والإنشاء والمعاني والهندسة والهيئة ،
وبعد أن يقضي فيها الطلبة عشر أو اثنتي عشرة سنة يكون لهم الخيار بين أن
يعينوا قضاة أو مفتين أو أئمة ، ومن أراد منهم التبحر في علم الشريعة وجب
عليه أن يمكث بعض سنين أخرى لدراسة مذاهب الفقه وتفسير القرآن والحديث ،
ويوجد غير هذه المدارس مدرسة الأيتام التابعة مثلها لمشيخة الإسلام المسماة
بمدرسة موجبات الشريعة ، ومدرستا الأئمة والمؤذنين في استامبول وإسكودار
المؤسسة جميعها بفضل عناية جلالة السلطان في سنة 1883 ، في القسطنطينية
عدد عظيم من دور الكتب العمومية يزيد عن أربعين، وهي في الجملة مؤسسة في
المساجد وتابعة لها وتفتح للعامة في كل أيام الأسبوع ما عدا يومي الثلاثاء والجمعة،
وزيادة على هذه المكتبات العامة يوجد في العاصمة ما يزيد عن ألف مكتبة خاصة
ناتجة مما يوقف على المساجد.
مدارس الطوائف غير الإسلامية في المملكة العثمانية تدخل في قسم معاهد
التعليم العام التي يسميها القانون المدارس الحرة فإنه متى صرحت الحكومة بإنشاء
مدرسة منها وفتحها كانت إدارتها مستقلة استقلالاً تامًّا فلا يكون للحكومة إلا حق
النظر فيما إذا كان التعليم فيها لا يحتوي على شيء مغاير لأوضاع المملكة أو
للإدارة ، وفيما إذا كان معلموها حائزين للشهادات التي تعطيها نظارة المعارف أو
المجلس العلمي في الولاية التي تكون فيها المدرسة أو الرؤساء الروحانيون للطائفة
التي بها المدرسة ، فما خلا هذين الأمرين اللازم مراعاتهما حفظًا لحقوق الحكومة
تكون مدارس الطوائف الغير الإسلامية حرة بعيدة عن تداخل الحكومة ، ولا شك في
أن هذا مثال حسن للتساهل والتسامح من الحكومة العثمانية لغيرها من الأمم ، ولا
يسع أحدًا إلا أن يعترف بعلو مكانة أخلاق هذه الحكومة.
أهم مدارس الطوائف الغير الإسلامية هي:
مدارس الروم الأرثوذكس من حيث عددها ودرجة العلوم فيها وانتفاع الطلاب
منها ، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، وهي: المدارس الخورنية والمدارس الأهلية
والمدارس العالية المركزية ، فالقسم الأول الذي يؤسسه الخوريون ، وينفقون عليه
يشمل المدارس الابتدائية المشتركة بين البنات والبنين ، والمدارس اليونانية
ومدارس البنات وهي تقابل مدارس الصبيان والمدارس الابتدائية والمدارس شبه
الرشدية ، والقسم الثاني وهو المقابل للمدارس الابتدائية العالية هو المدارس المعدة
للتعليم الثانوي التي يؤسسها بعض الأفراد ، والقسم الثالث يمكن تشبيهه بمدارس
الحكومة العالية ، ومن هذا القسم تمتاز مدرسة الفنار الكبرى الأهلية ومدرسة
حلقي التجارية الدينية ، ومكتبة المدرسة الكبرى الأهلية تحتوى على زهاء
عشرين ألف مجلد.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكتب العربية والإصلاح
لا تسعد الأمة إلا بالأعمال النافعة التي يقوم بها أفرادها ولا يعمل أحد عملاً
إلا إذا كان يعتقد أن فيه منفعة ومصلحة ، فأعمال الناس إذن تابعة لعلومهم ومعارفهم ،
والناس متفاوتون في العلم بالمصالح والمنافع؛ لأن القارئين يكونون أعلم بها من
الأميين ، بل هم الذين يفيضون عليهم المعارف ، ويلقنونهم إياها بطرق مختلفة
أعمها المذاكرة والعمل بها ، وكل ما وراء البديهيات من المعارف يستفيده الناس
من الكتب ، فنتيجة هذه المقدمات كلها أن الأمة لا يصلح حالها إلا إذا كانت الكتب
المتداولة بين أفرادها في التعليم والمطالعة مشتملة على ما فيه صلاحها وطرق
منافعها على الوجه الصحيح من حيث الأخلاق والآداب ، ومن حيث الأعمال.
وهل الكتب التي في أيدي أمتنا لهذا العهد وعليها مدار معارف الأكثرين منهم هي
كذلك؟ كلا ثم كلا ، بل هي بخلاف ذلك: كتب التعليم صعبة لا ترشد إلى العمل،
وكتب المطالعة ملأى بالمجون والخرافات والأوهام التي تفسد العقول والآداب بل
والدين أيضًا.
ألف آباؤنا الأولون كُتبًا نافعة في جميع العلوم والفنون أيام كانت أسواق العلم
في أمتنا نافقة وبضاعة المعارف فيها رائجة ، ثم لما كسدت تلك الأسواق وعمت
الجهالة والبطالة؛ مالت النفوس إلى اللهو الباطل والهذيان وطلب المنافع والمصالح
من غير طرقها الطبيعية لِما لابس النفوس من الكسل، وظهرت فيها كتب الخلاعة
والمجون وكتب الأوهام والخرافات وكتب الروحانيات والطلسمات وراجت بضاعتها
ونفقت أسواقها؛ لأن الناس يميلون في كل عصر إلى ما يناسب حالتهم ، وصارت
الكتب النافعة تخفى عن العيون وتختزل من الأيدي، حتى لم يبق منها بين الأيدي
بل في البلاد العربية التي أُلفتْ فيها إلا أقل القليل ، وهي الآن محشورة في مكاتب
باريس ولندن وبرلين وغيرهم من عواصم أوربا وفي القسطنطينية جملة صالحة
منها لم تقدر أيدي أوربا على انتزاعها كما انتزعت الكتب النافعة من مصر
وسوريا ، ولولا تنظيم الكتبخانة الخديوية أخيرًا على النسق الجديد لما بقي فيها
شيء من مهمات الكتب ، ولا نعرف حال الكتب الإسلامية في الهند وبلاد فارس
على وجه يعتمد. على أنه لا يخلو مصر من الأمصار الإسلامية التي سبقت لها
الحضارة والعلم من بقايا من تلك الكتب غفلت عنها عين الزمان ، ولم تصل
إليها أيدي الحوادث التي أودت بأخواتها ، ونحمد الله أن وفق منا من ألفوا شركة
في مصر لإحياء كل ما يعرفونه من تلك الكتب بالطبع ليعم نفعها ، لكن جميع
هذه الكتب النافعة التي أشرنا إليها إنما ألفت للمشتغلين بالعلم في الأغلب ، فالذين
ينتفعون منها هم العلماء ، وإن من علماء عصرنا من يهاب قراءة كتب الأئمة
المتقدمين لا سيما ما لم يكتب عليه الشروح والحواشي وهو الأكثر، فإحياء هذه
الكتب ونشرها على ما فيه من الفائدة العظيمة لا يغنينا عن نوعين من الكتب نحن في
أشد الحاجة إليهما إذا أردنا العمل للنهوض والخروج من الحضيض الضيق الذي
نحن فيه:
النوع الأول: كتب سهلة مختصرة في اللغة والدين والأخلاق والآداب
والتاريخ وسائر الفنون المتداولة في هذا العصر لأجل تعليم النشء الجديد، يراعي
مؤلفوها فيها أعمار التلامذة وأفكارهم وسائر ما يرشد إليه فن التعليم ، وأساليبه
الحديثة التي ثبتت فوائدها بالتجربة والاختبار ، ولقد بعثت الحاجة أو الضرورة
بعض أساتذة المدارس الأميرية وشبه الأميرية في مصر والمدارس الأجنبية في
سوريا إلى تأليف كتب ورسائل في فنون اللغة العربية ، وبعض العلوم والفنون
الأخرى التي تعلم في هذه المدارس ، ولكن لما يوجد منها ما يفي بالمراد ، بل إن ما
نحن أحوج إليه هو الذي لم يكد يوجد منه عندنا شيء يعتد به ككتب العقائد
والأخلاق والعبادات ومبادئ علم الاجتماع وآداب اللغة العربية ، ألا ترى كيف
تلقفت المدارس كتاب (الدروس الحكمية) عندما ظهر ، وما ذلك إلا لأن مؤلفه ما
كتبه إلا عند ما رأى شدة حاجة المدرسة العثمانية إلى مثله أيام كان ناظرها ، وما
تحتاجه إحدى المدارس تحتاجه سائرها لأن المطلوب واحد للجميع ، وقد طلب مني
بعض أفاضل أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية أن أكتب رسائل في الدين على
الوجه المطلوب لأجل دراستها في مدارس الجمعية ، ومن يشاء من سائر المدارس
الإسلامية ، وسألبي الطلب إن شاء الله تعالى عن قريب.
النوع الثاني: كتب سهلة العبارة صحيحة المعاني لأجل قراءة العوام
ومطالعتهم ، والكتب التي تتوجه إليها رغبات الناس ليست نوعًا واحدًا ، وإنما هي
أنواع شتى منها القصص ، وهذه على ضربين ، الضرب الأول: القصص الدينية
كقصة المولد النبوي الشريف ، وقصص الأنبياء ، وقصة المعراج ، وقصة فتوح
اليمن وقصة تودد الجارية وغير ذلك ، وفي المنتشر بين الأيدي من هذه القصص
من الكذب على الله ورسوله وسائر أنبيائه ودينه العجب العجاب.
الضرب الثاني: القصص الوضعية كقصة عنترة العبسي وألف ليلة وليلة ،
ويسمون ما أُلف في هذا العصر من هذه القصص بالروايات ، ومنها ما له أصل
زيد عليه ، ومنها ما لا أصل له ، وأكثر المتداول منها مشتمل على العشق والغرام
بحيث يُنتقَد ، ويُخشى تأثيره في إفساد الآداب والأخلاق ، والعصري يمتاز على
القديم بالنزاهة والخلو من ألفاظ الفحش والمجون ، ولكنه مع ذلك قليل الجدوى لخلوه
غالبًا من الأفكار الصحيحة والإرشادات القويمة ، ومنها كتب المناقب وحكايات
الصالحين ، وفيها من الخرافات والأكاذيب ما يزلزل ركن التوحيد ويفسد الفكر
والعقل ، ومنها كتب الأوراد والأدعية ، وفيها من الشرور وأسباب الغرور ما نبهنا
عليه في العدد 40 من المجلد الأول ، وناهيك بدعاء عكاشة ، والدعاء الذي طبعه في
العام الماضي عبد اللطيف القباج ، وأمثالهما كثير ، ومنها كتب الروحانيات
والطلاسم والتنجيم والعزائم ، وفي هذه الكتب من المفاسد في الدين والدنيا ما لا سعة
في هذه المقالة لشرحه ، ولكننا نشير إلى أهمه إجمالاً ، فمن ذلك: تعليق الآمال
بحصول المنافع وقضاء الحوائج بغير أسبابها الطبيعية التي علقها الله تعالى بها ، ومنه
طبع النفوس بطابع الخوف والجزع من مس الجن وملابسة الشياطين والعفاريت ،
وهذا الوهم يؤثر في النفوس ، حتى إنه يولد فيها أمراضًا عصبية قد تؤدي بها إلى
الجنون ، ويحملها على بذل المال للعرافين والدجالين الذين يدَّعون إخراج الجن من
المصروعين ونحوهم ، ومنه تعويد العقل على التصديق بما لا دليل عليه ، بل وبما
يقوم البرهان على بطلانه أو استحالته ، وأي جناية على العقل الذي هو مشرق نور
الايمان وقائد الإنسان إلى جميع مصالحه أشد من هذه الجناية؟ ومنه رغبة المعتقدين
بهذه الخرافات عن معالجة الأطباء القانونيين لهم في أمراضهم لا سيما العصبية ،
والتجائهم إلى أصحاب الروحانيات والطلسمات ، وإن تعجب فمن مثارات العجب أن
طلاب العلم في الأزهر الشريف هم أشد الناس تهافتًا على هذا النوع من الكتب ، ومن
كان في ريب من هذا فليسأل الكتبخانة الخديوية؛ فإنها تنبئه بالخبر اليقين ، هذا وهم
يقرءون في كتب الفقه تشديد الفقهاء في ذلك حتى إن منهم من رمى الآخذين بها
بالسحر أو الكفر (انظر فتوى ابن حجر في باب الآثار العلمية) .
والذي أقترحه في الكتب السهلة التي تؤلف للعامة أن تكون نزيهة لا مجون
فيها ، وأن تكون مشتملة على التحذير من الخرافات والأمور المضرة بدلاً من
إقرارها والإغراء بها ، وأن لا يكون فيها كذب على رجال الدين ، لا سيما الشارع
صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون خالية مما يخالف عقائد الدين وآدابه وأحكامه ،
هذا ركن عظيم من أركان الإصلاح ، وهو مطلوب من رجال العلوم وحملة الأقلام
لا من رجال السياسة والأحكام ، فعسى أن تتوجه نفوسهم لإقامته خدمة لهذه الأمة
المرحومة والله ولي المحسنين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أمالي دينية
(الدرس التاسع)
(29)
الوحدانية وأقسامها
جعل المتأخرون مبحث الوحدانية ثلاث مسائل، إحداها: وحدانية الذات بمعنى
أن الواجب واحد لا يتعدد ويسمون هذا نفي الكم المنفصل ، وأن ذاته لا تركيب
فيها كما أنها ليست جوهرًا فردًا يدخل في بناء الأجسام ، ويدعون هذا نفي الكم
المنفصل ، والثانية: وحدانية الصفات بمعنى أن صفاته لا تعدد فيها ، فليس له
علمان وإرادتان وقدرتان ، بل علم واحد محيط بكل المعلومات ، وإرادة واحدة نافذة
في جميع الأشياء ، وقدرة واحدة لا يتعاصى عليها شيء من الممكنات ، وهكذا سائر
صفات الكمال ، ويسمون هذا نفي الكم المتصل ، وأنه ليس لغيره تعالى صفة تشبه
صفاته تعالى ، بل ليست الموافقة بين صفات الخلق وصفات الخالق إلا بالتسمية
فقط ، ويسمون هذا نفي الكم المنفصل ، والثالثة: وحدانية الأفعال، ولا يُتصور فيها
إلا الكم المنفصل ، ومعناها أنه لا فعل إلا لله - تعالى - وحده ، هذا ما جرى
عليه المؤلفون في التوحيد من عهد السنوسي إلى الآن ولم يكن المتقدمون يُدخلون
هذه المسائل كلها في مبحث الوحدانية؛ لأن الوحدة بمعنى نفي التركيب ، وكون
صفات الله تعالى لا تشبه صفات أحد من خلقه يدخلان في مبحث التنزيه (راجع عدد
19 و23 من الدرس السادس) وأما تصور تعدد الصفات من جنس واحد ، فقد جاء
من التعمق في فلسفة الأفكار ، فاحتاجوا إلى نفيه ، ولا يوجد أمة من الأمم تعتقد هذا
الاعتقاد ، وليس عليه شُبه ظاهرة يُلتفت إليها ، وأما الاعتقاد بأن الله تعالى خالق
كل شيء ، وإليه يستند وجود كل ممكن ، فهو يدخل في مبحث وجوب الوجود
(راجع الدرس الخامس) نعم إن مسألة أعمال العباد وكسبهم لها تعلق بهذا
المبحث ، وسنفرد لها درسًا مخصوصًا ، فبقي أن الوحدانية إذا أُطلقت تنصرف
إلى مفهوم كلمة (لا إله إلا الله) أي نفي الألوهية عن غير الله - تعالى - والمتبادر
من معنى الألوهية المعبودية ، ومن معنى الإله المعبود ، فالوحدانية إذن هي
وحدانية العبادة التي شرحناها في الدرس الثامن ، ولما كان المعبود بحق هو
خالق الكون ومدبره؛ وجب أن يبرهن في مبحث الوحدانية على كون هذا الخالق
واحدًا لا ند له ولا شريك وهو ما عقدنا له هذا الدرس.
(30)
البرهان:
قام البرهان على وجود الواجب كما بيناه في الدرس الخامس ، وهو يصدق
بواجب واحد ، ولا تقوم حجة على وجود واجب آخر ، بل على عدمه وانتفائه ،
وبيانه من وجوه:
(الأول) : لو جاز التعدد للزم المحال لأنه لا عدد وراء الواحد تقتضيه
ذات الواجب ، فكل عدد يفرض لا بد أن يكون له مرجح يرجحه على سائر الأعداد
المتساوية في نظر العقل بالنسبة لما يجوز عليه التعدد ، فإن وجد المرجح لزم أن
يكون الواجب المسبوق به حادثًا؛ لأنه ليس من ذاته ، والواجب قديم كما سبق
برهانه ، فلا يكون ما فرض واجبًا واجب وهو تناقض محال ، وإن لم يوجد
المرجح؛ لزم ترجيح العدد الذي فرض انتهاء الواجب إليه على غيره بدون مرجح
وهو محال فثبت نقيضه وهو أن الواجب واحد لا يتعدد.
(الثاني) : أن واجب الوجود ما عرف بالحس ، وإنما عرف بالعقل الذي
نظر في هذه الكائنات الممكنة فوجدها بديعة النظام متقنة الصنع سننها مطردة
ونواميسها ثابتة محكمة ، فعلم أنها صادرة عن ذات واحدة واجبة ذات علم وإرادة
وقوة ، ولو كان صدروها عن ذوات واجبة متعددة للزم أن يكون لكل ذات علم
وإرادة وقدرة مغايرات لما للذات الأخرى ، وما كان صادرًا عن قُدر وإرادات وعلوم
متعددة لا يجري على نظام واحد ، بل يختلف باختلاف مصادره ، وهذه الكائنات لا
خلل فيها ولا اختلاف؛ فوجب أن تكون صادرة عن ذات واحدة لا عن ذوات
متعددة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) .
(الثالث) : يمكن الاستدلال على وحدة الصانع من كل ذرة في الكون كما
يستدل بمجموع الكائنات على ما في الوجه الثاني ، ولهذا قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد
وبيانه بالإيجاز أن كل ذرة من الذرات التي تألفت منها مادة الكون (كالجوهر
الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ) إذا فرضنا تعلق أكثر من إرادة بإيجادها فلا يخلو
إما أن تنفذ واحدة من تلك الإرادات فقط ، وإما أن تنفذ جميعها ، فإن نفذت جميعها
لزم اجتماع أكثر من مؤثر على أثر واحد بسيط وهو محال ، وإن نفذت إرادة واحدة
فقط ووجدت تلك الذرة بقدرة صاحبها وحده كان صاحب الإرادة النافذة والقدرة
المؤثرة هو الواجب الذي يستند اليه الإيجاد ، وماعداه من الواجبين المفروض
وجودهم باطل لا حقيقة له (ألا كل شئ ما خلا الله باطل) هذا إذا فرضنا أن
الواجبين اتفقوا على إيجاد الذرة ، وإذا فرضنا أنهم اختلفوا بأن أراد أحدهم إيجادها
وغيره عدم إيجادها ، فحينئذ إما أن تنفذ الإرادتان معًا؛ فيلزم التناقض المحال وهو
أن الذرة وجدت ولم توجد ، وإما أن تنفذ إرادة واحدة فقط فيكون صاحبها هو
الواجب الذي تصدر عنه الممكنات ، وفرض وجود واجب آخر معه باطل لا حقيقة
له لأننا لا نعرف للواجب معنى إلا الذات التي لها الوجود من نفسها ، وعنها تصدر
سائر الوجودات الممكنة بقدرة وإرادة وعلم.
ويمكن ايراد البرهان بكيفية أخرى ، وهي إذا فرضنا وجود واجبين لكل منهما
علم تام وإرادة نافذة وقدرة كاملة ، وأرادا إيجاد شيء فلا يجوز أن تنفذ الإرادتان
لئلا يكون للشيء الواحد وجودان متغايران لكل واحد منهما مصدر مغاير للمصدر
الآخر ، وهو محال ، ولا يجوز أن تنفذ إحدى الإراتين إذ لا مرجح يرجحها على
الأخرى؛ لأن الفرض أنهما متساويان فيلزم من تعدد الواجب أن لا يوجد ممكن ما ،
لكن وجود الممكنات ثابت بالمشاهدة ، فتعين أن تكون صادرة عن واجب لا إله
غيره ولا رب سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نجاح التعليم في الأزهر
الشريف
يسرنا ما نراه عامًا بعد عام من نجاح الإصلاح الجديد الذي أدخل
في الأزهر الشريف ، وهذا النجاح لم يظهر إلا في المشتغلين من طلاب العلم
بالعلوم الجديدة التي أضيفت على علوم الأزهر كالحساب والجغرافيا ، فقد تبين
بالإحصاء الدقيق في امتحان المكافأة لهذه السنة أن الذين امتُحنوا في علم التفسير من
المشتغلين بالعلوم الجديدة 41 طالبًا نجح منهم ثلاثون ، ستة منهم نالوا المكافأة،
وأربعة وعشرون نقلوا إلى درجة أعلى ، أو سنة أخرى في التعليم ، وسقط أحد
عشر أي نحو الربع ، والذين امتحنوا في هذا العلم من غير المشتغلين بالفنون
الجديدة 22 طالبًا سقط نصفهم ، ونال المكافأة واحد فقط ، ونقل العشرة الباقون ،
وإن الذين امتحنوا في علم الفقه والميراث من المشتغلين بالفنون الجديدة 357 طالبًا
نجح منهم 198 أخذ المكافأة منهم 59 ونقل 139 وسقط 159 والذين امتحنوا فيه
من غير المشتغلين بالفنون الجديدة 177 نجح منهم 71 منهم 15 أخذوا المكافأة
و56 نقلوا وسقط 106 ، والذين امتحنوا في الحديث والمصطلح من المشتغلين بالفنون
الجديدة 25 نجح منهم 11 أخذ المكافأة منهم 5 ونقل 6 وسقط 14 ، ومن غير
المشتغلين بها 21 نجح منهم 8 أخذ المكافأة واحد ، ونقل 7 ، وسقط 13 ، والذين
امتحنوا في النحو والصرف والوضع والاشتقاق من المشتغلين بالعلوم الجديدة 310
نجح منهم 168 أخذ المكافأة منهم 21 ، ونقل 147 ، وسقط 142 ، ومن غير
المشتغلين بها 155 نجح منهم 64 أخذ المكافأة منهم 8 ، ونقل 56 ، وسقط 91 ،
والذين امتحنوا في علوم البلاغة الثلاثة من المشتغلين بالعلوم الجديدة 93 نجح منهم
68 طالبًا أخذ المكافأة منهم 19 ونقل 49 وسقط 25 ، ومن المشتغلين بها 83 نجح
منهم 50 أخذ المكافأة منهم 14 ونقل 36 وسقط 33 ، والذين امتحنوا في علم
التوحيد من المشتغلين بالعلوم الجديدة 157 نجح منهم 63 أخذ المكافأة منهم 15 ونقل
48 وسقط 94 ، ومن غير المشتغلين بها 98 نجح منهم 22 أخذ المكافأة منهم اثنان
فقط ونقل 20 وسقط 76 ، والذين امتحنوا في المنطق وآداب البحث من
المشتغلين بالعلوم الجديدة 131 نجح منهم 83 أخذ المكافأة منهم 19 أو نقل 64
وسقط 48 ومن غير المشتغلين بها 62 نجح منهم 34 أخذ المكافأة منهم 3 فقط
ونقل 31 وسقط 28.
فتبين من ذلك أن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة هم الناجحون في العلوم
الدينية ووسائلها من علوم اللغة والمنطق ، والنسبة بينهم وبين من لم يشتغل بها
بعيدة جدًا ، وإنهم لثقتهم بنجاحهم وتحصيلهم أكثر إقدامًا على الامتحان فإن الذين
امتحنوا منهم أكثر عددًا من الذين امتحنوا من غيرهم كما هو ظاهر في الإحصاء.
ولا غرو فإن علم الحساب والهندسة مما يقوي العقل والإدراك ويقوم الذهن؛ لأنه
عمل فكري محض ، ومسائله وبراهينه كلها يقينية، متى برع فيها الذهن سهلت
عليه البراعة في غيرها ، وعلم الجغرافيا يعطي صاحبه معرفة بالعالم الذي يعيش
فيه فيستنير عقله ، وتنشط نفسه في طلب التقدم والترقي ، وسيكون المشتغلون بهذه
العلوم هم المدرسين والمؤلفين والقضاة والمفتين ، وإذا ضموا إليها سائر العلوم
العصرية التي عليها مدار العمران؛ فإننا نرجو أن يكون منهم أئمة يفتخر بهم العالم
الإسلامي ، ويرجع إليه مجده بهديهم ، فإن أكابر أئمة العلماء السالفين كانوا واقفين
أتم الوقوف على العلوم الحكمية والرياضية التي كانت في عصرهم لا سيما الإمام
الغزالي والإمام الرازي وأضرابهم مع أن تلك العلوم لم تكن في عصرهم مدار
العمران ومن أسباب القوة والعزة والثروة كما هي الآن ، ومن المشاهد أن الذين
لهم معرفة ما بهذه العلوم من علماء هذا العصر هم أكثر تقدمًا ونجاحًا من غيرهم
فعسى أن يتدبر ما نقول نجباء الطلاب وما يتذكر إلا أولو الألباب.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(28)
من الدكتور وارنجتون إلي الدكتور أراسم في 12 يوليه سنة - 185.
أبشرك أيها السيد العزيز بغلام جميل ولد لك في الساعة الثالثة من صباح هذا
اليوم بعد ما قاسته والدته من طول العناء وشديد الألم ، ولقد كنت عشية أمس مشفقًا
من أن يحل بها مكروه لبعض علامات بدت عليها ، ولكن قد أعانتنا قوة طبيعتها ،
وسلامة خلقها على النجاة من الخطر ، وأصبحت صحتها من الجودة على ما كنا
نرجوه لها ، أما الغلام فجل ما يبتغيه أن يعيش ليخلد به ذكرك ، ويعلو بنباهته قدرك
ويعظم فخرك.
وهذه فرصة قد انتهزتها لمكاشفتك بما في قلبي لك من المنزلة الرفيعة ،
وما في نفسي من جواذب الميل إليك ورجائك في أن لا تضن بي على أي خدمة
يلزم لك أداؤها ، وأن لا تكتم عني حاجة يعوزك قضاؤها ، فإن قبلت هذا
الرجاء استوجبت خالص شكري لأنك بذلك تكون قد برهنت لي على أنك لم تنس
صديقك القديم ، نحن معشر الإنكليز متهمون عندكم بأن فينا شيئًا من الانقباض عن
الناس والاحتراس في معاملتهم ، ولكن ربما كنا خيرًا مما اشتهر عنا ، وعلى كل
حال فإن لنا قلوبًا تعطف على البائسين وتكرم المنكوبين.
…
...
…
صديقك المخلص.
…
(29)
من هيلانة إلي أراسم في 2 أغسطس سنة- 185
لابد لي أن أقص عليك تاريخي فيما يسميه الإنكليز اعتكاف النُّفَساء، ملتزمة
في ذلك طريق الايجاز فأقول:
استأجرت ممرضة كما هي العادة هنا ، وهي امرأة واسعة الخبرة في أمور
التمريض والولادة ، أراك تقضي منها العجب لو سمعتها تتكلم في الطب والجراحة
والقيام على الأطفال وغير ذلك مما يدل على كثرة درايتها فيما يلزم لمهنتها ،
والظاهر أنه يوجد من هؤلاء القوابل في إنكلترا قبيلة بتمامها ، ووظيفتهن في حق
الوالدات هي أن يرشدن من يكن منهن حديثات عهد بالولادة إلي ما يعود عليهن
وعلى أولادهن بالنفع ، وينفذن ما يصفه الطبيب من طرق التداوي ، وعندهن
بحسب ما يُسمع منهن عدة من المركبات الدوائية لمداواة بعض طوارئ العلل لا
يتخلف عنها الشفاء ، أما قصصهن في هذا الموضوع ، فإنها لا نفاد لها ، وإني لو
اعتقدت صدق كلامهن في جميع الأطفال الذين يدعين أنهم نجَوا على أيديهن من
الموت لبطل عجبي من كون إنجلترا قد وجدت من أبنائها العدد الكافي لعمارة
إستراليا وزيلاندا الجديدة ، وسائر مستعمراتها.
أما التي تقوم علي منهن ، فهي - فوق ما تقدم من الصفات - امرأة بارعة
ذات فضل يظهر أن صفة الأمومة العامة قد صارت غريزة من غرائزها ، وهي
قصيرة هيفاء تلوح عليها سمات الاستقامة وكرم النفس، شهدت في ماضيها كما يقال
أيامًا فإنها كانت زوجة لرجل كان ملاحظًا للأعمال في أحد مناجم كورنواي وقتل
بسبب اندكاك هذا المنجم فترملت من بعده ، وقد رزقت هي أيضًا عدة أولاد فارقوها
من عهد بعيد ، وتشتتوا في البر والبحر ابتغاء الرزق، اثنان منهم ملاحان صالحان
يصلانها حينًا بعد حين بصندوق من الشاي وقطعة نقد من الذهب ، وقد عرض عليها
أن تكون ممرضة في مستشفي كبير فلم تقبل على ما في إبائها من المباينة لمصلحتها ،
وقالت: إني أفضل أن أتلقى الوافدين إلى الدنيا ، وأرجو لهم حياة طويلة فيها على
توديع من يفارقها فراقًا أبديًّا.
كان الدكتور وارنجتون قد أوصى قبل سفره بأن يؤذَن بدنو ساعة الولادة، فلما
حان الوقت أُرسل إليه مكتوب فلم يلبث أن جاء من لوندرة على إثره قبل أن
يضربني الطلق وتنزل بي شدائد المخاض وأهواله ، ومما يُحمد في خصال
الإنكليز أنهم إذا أسدوا إلى غيرهم معروفًا لا يمنون عليه ، بل لا يظهرون له
قصدهم بذلك خدمته ، أو إسداء المعروف إليه ، وذلك إما أن يكون منهم رقة طبع
وكمال أدب أو كبرًا وترفعًا عن خدمة سواهم، يدلك على ما أقول أني لما شكرت هذا
الدكتور على مجيئه وتركه مرضاه في لوندرة كان جوابه لي أن قال: رويدك فإني
ما جئت من أجلك ، وإنما جئت لزيارة زوجتي وأولادي ، فهذا الجواب يعتبر
في رأينا معشر الفرنساويات دليلاً على قلة الظرف ، ويعده كثير من الباريسيات
إهانة وتحقيرًا ، أما أنا فلم أنظر إلا إلى قصد قائله ، فهو جليل ، فإنه على يقيني
بأن الغرض من مجيئه هو غير ما يقول قد أراد أن يقنعني بأن وجوده عندي إنما
كان اتفاقًا لا تعملاً فلا يد ولا منة له علي ، أو أنه كان شيء من ذلك فلا ينبغي أن
يتمدح به أو أن يذكر.
ثم إنه لم يقف في تفضله علي عند حد مساعدتي بعلمه وحذقه في فن التوليد
على النجاة من الهلاك الذي كنت مشفقة من الوقوع فيه ، بل إنه قد تكرم أيضًا بأن
محضني النصح شأن الصديق مع صديقته فيما يجب للمولود من ضروب العناية
فقال: (إني أخاطب الآن غَرة لا خبرة عندها فلا تدهش لما سألقيه عليها من
أفكاري ، فإن أقل مزية لها أن أساسها التجربة والاختبار ، قد نبه كثير من وصفائي
أفكار الناس في جميع البلدان إلى كثرة عدد الوفيات المريعة في الأطفال الحديثي
العهد بالولادة ، ويمكن إرجاع هذه البلوى إلي جملة أسباب، كفاقة الوالدين وفساد
أخلاقهما وعدم كفاية أقواتهما ، ولكني أعتقد أن أخص سبب يجب أن ينسب إليه
ذلك هو جهل الأمهات بما تجب عليهن رعايته في شأن أولادهن، فإن الاساءة في
بعض طرق العناية بالمواليد كاتخاذها في غير وقتها ، أو الخطأ في تدبيرها لا تقل
عن إهمال شأنهم شؤمًا وسوء مغبة ، وإني لست أقصد بهذا أنه يجب على الأمهات
أن يجرين على ما تقتضيه الفطرة جري عماية وغفلة ، فإنهن إن يفعلن ذلك يعصين
الله (سبحانه) بتخليهن عن العقل الذي لم يهبه لهن إلا لمراقبة سير الفطرة في
مناهجها وإقامتها عليها إذا حادت عنها ، وإنما أعني بذلك أن الاوهام والعادات
والمعارف الكاذبة هي أعدى أعداء المواليد فتجب محاربتها ومحو آثارها ، وينبغي
أن تعتقدي أننا لسنا أسوا من غيرنا حالاً في تربية مواليدنا؛ لأن شعبنا يزداد زيادة
ظاهرة حتى إنه قد ضاقت عن سكناه أرجاء بلادنا وها نحن أولاء نرسله أفواجًا إلي
الأقطار السحيقة ليتوطنها ويستعمرها، ومن هذا تعلمين أن ازدياد الأجناس لا يكون
على نسبة عدد الأطفال المولودين ، بل على نسبة عدد من يتخطاهم الموت منهم ،
وعندي أن هذه النتيجة الحسنة الداعية إلي الاغتباط في بلادنا ترجع إلي ثلاثة أمور
وهي: استعداد الدم الإنكليزي السكسوني للحياة ، وانطباع نسائنا على حب بيوتهن
والعناية بها وما لذوي العقول المستضيئة بنور العرفان من علمائنا من التأثير في
نفوس العامة فإن كثيرًا من نطس الأطباء الطائري الصيت عندنا لم يأنفوا أن يقوموا
ببث الأفكار الصحيحة والآراء السديدة في فن القيام على المواليد بين
أفراد الشعب) .
ولم يكد الدكتور يفرغ من كلامه حتى باشر العمل بنفسه ورتب ما رآه غير
مرتب في غرفة نومي، من ذلك أنه وجد مهد (أميل) قد وضع خطأ تجاه الشباك
فغير وضعه وقال لي: (إني رأيت أطفالاً أصبحوا عميًا أو حولاً بسبب تعريضهم
بعد ولادتهم بأيام لضوء شديد) هذا وإني سأتحفك بنصائح أخرى وعيتها عن هذا
الرجل الفاضل لما رأيته فيها من كمال الحكمة والسداد ، ولم أُخِل بشيء منها ،
وإني لا أرتاب في أنه قد تكلف من المشقة والتعب من أجلي ما لم يتكلفه لغيري من
النساء اللاتي يُدعى لتوليدهن ، وعاملني كما يعامل الرجل زوجة صديقه ، على أن
الناس قد أكدوا لي أن الأطباء المولدين هنا لا يرون أن عملهم قد تم بمجرد انتهاء
الولادة ، بل يرشدون الوالدة بعد ذلك إلي جميع ما يلزمها في تربية وليدها اهـ.
(30)
من هيلانه إلي أراسم في 3 أغسطس سنة - 185
كلما رددت النظر إلى (أميل) رأيت مثالك محققًا فيه ولا بد لي أيها
العزيز أراسم أن أحكي لك بهذه المناسبة حكاية طبق ذكرها الآفاق في البلد الذي
أسكنه، ذلك أن قسيسًا بروتستنتيًّا قاطنًا في جنوب إنكلترا وجد اتفاقًا في كورنواي
يومًا من الأيام فطلب أن يزور قصرًا عتيقًا جدًّا في ضيعة هناك كانت لأسلافه في
غابر الأزمان ، ولذلك كان كثير الاهتمام برؤية أماكنها ، فلما حل بها ملأه العجب ،
وأخذ منه الاندهاش كل مأخذ إذ رأى في الرواق المعلقة فيه صور أهل هذا البيت
السالفين صورة كأنها تمثله بذاته مرسومًا على قماش قديم لابسًا عُدة الحرب كما كانت
سُنة الناس في القرون الوسطى لا بملابسه السوداء التي يلبسها اليوم ، وبينما هو يتأمل
في هذه الصورة وفيما يليها من الصور إذ وقع بصره على صورة أخرى زادته ارتياعًا
ودهشةً فتقهقر خطوتين إلي الوراء وهي صورة تمثل ابنه البكر ، وهو في الثالثة
عشرة من عمره ، وكان معه في هذا الرواق، فماذا تفتكر في هذه الصورة الوراثية؟
أما أنا فإني أكاد أفزع عند ما أفتكر في أن رجلاً من الأحياء يعرف نفسه وابنه في
شخصين مجهولين من أهله ماتا من عدة قرون.
فليت شعري هل نحن راجعون إلي الدنيا بعد الفناء كما روى لنا التاريخ ذلك
عمن يؤمنون بالرجعة والتناسخ؟ اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم)
أنقل فيه فتوى للعلامة ابن حجر الهيتمي ليعتبر بها مجاورو الأزهر وغيرهم
وهي:
(وسئل نفع الله به: هل من السحر ما يفعله أهل الحِلق الذين في الطرقات ،
ولهم فيها أشياء غريبة كقطع رأس الإنسان وإعادتها وندائهم له بعد قطعها ،
وقبل إعادتها فيجيبهم ، وجعل نحو دارهم في التراب ، وغير ذلك مما هو مشهور
عنهم ، وكذا كتابة المحبة والقبول وإخراج الجان ونحو ذلك؟ فأجاب بقوله: هؤلاء
في معنى السحرة إن لم يكونوا سحرة، فلا يجوز لهم هذه الأفعال ، ولا يجوز لأحد
أن يقف عليهم لأن في ذلك إغراء لهم على الاستمرار في هذه المعاصي والقبائح
الشنيعة ، وإفسادهم قطعي وفسادهم حقيقى ، فيجب على كل من قدر منعهم من
ذلك ، ومنع الناس من الوقوف عليهم ، وإذا كان كثير من أئمتنا أفتوا بحرمة المرور
بالزينة على أن أكثر أهلها مكرَهون على التزيين بخصوص الحرير ، ورأوا أن
التفرج عليها فيه إغراء على فعلها ، وللحكام على الأمر بها ، فما ظنك بالفرجة
على هؤلاء الكذبة المارقين والجهلة المفسدين ، وفي الموَّازية من كتب المالكية:
الذي يقطع يد الرجل أو يدخل السكين في جوف نفسه ، إن كان سحرًا قتل، وإلا
عوقب ، وسئل ابن أبي زيد من أئمتهم عن نحو ما في السؤال ، فقال: إن لم يكن
في أفعالهم تلك كفر فلا شيء عليهم ، وتعقبه المرزباني فقال: هذا خلاف ما اختاره
شيخنا الإمام أنهم سحرة ، وأن الوقوف عليهم لا يجوز ، وهو يشبه ظاهر الرواية
لابن عبد البر، روى ابن نافع في المبسوطة في امرأة أقرت أنها عقدت زوجها عن
نفسها أو غيرها أنها تنكل ولا تقتل ، قال: ولو سحر نفسه لم يقتل، بذلك قال شيخنا
الإمام ، والأظهر أن فعل المرأة سحر ، وإن كان فعل ينشأ عنه حادث في أمر منفصل
عن محل الفعل فإنه سحر ، وعن ابن أبي زيد: من يعرف الجن وعنده كتب فيها
جلب الجن وأمراؤهم فيصرع المصروع ، ويأمر بزجر مردة الجن عن الصرعة ،
ويحل من عقد عن امرأة ، ويكتب كتاب عطف الرجل على المرأة ، ويزعم أنه يقتل
الجن - أفي هذا بأس إذا كان لا يؤذي أحدًا وينهى بريًّا أن لا يتعلمه (كذا) قلت:
هذا نحو مما أنكره شيخنا من عقد المرأة زوجها ، والصواب أن التقرب إلى
الروحانيات ، وخدمة ملوك الجان من السحر ، وهو الذي أضل الحاكم العبيدي لعنه الله
حتى ادعى الألوهية ، ولعبت به الشياطين حتى طلب المحال ، وهو مجبول على
النقص وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة.
وعن ابن أبي زيد أيضًا: لا يجور الجُعل على إخراج الجان من الإنسان لأنه
لا يعرف حقيقته ولا يوقف عليه ، ولا ينبغي لأهل الورع فعله ولا لغيرهم، وكذا
الجُعل على حل المربوط والمسحور ، وسئل أيضًا عمن يكتب كتاب عطف لامرأة
أعرض عنها زوجها ليُقبل عليها وتكتفي شره ، فأجاب: أما ما بين الزوجين فأرجو
أن يكون حقيقيًّا بكتب القرآن وغيره مما لا يستنكر ولا يشترط في جُعله ، قلت:
وهذا خلاف ما تقدم له، إلا أن هذا بالرقى الظاهرة الحُسن كرقي أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه سيد الحي الملدوغ بالفاتحة. انتهى.
ومذهبنا أن كل عزيمة مقروءة أو مكتوبة إن كان فيها اسم لا يعرف معناه فهي
محرمة القراءة والكتابة سواء في ذلك المصروع وغيره ، وإن كانت العزيمة أو
الرقيا مشتملة على أسماء الله تعالى وآياته والإقسام به وبأنبيائه وملائكته، جازت
قراءتها على المصروع وغيره وكتابتها كذلك ، وما عدا ذلك من التبخيرات
والتدخينات ونحوهما مما اعتاده السحرة الفجرة الحرام الصرف ، بل الكبيرة ، بل
الكفر بتفصيله المشهور عندنا ، ومطلقًا عند مالك وغيره ، وسئل ابن أبي زيد
المالكي عن أجر أن يكتب فيها (كذا) نحو اسم الله الذي أضاء به كل ظلمة ،
وكسر به كل قوة ، وجعله على النار فأوقدت ، وعلى الجنة فتزينت ، فأقام به
عرشه وكرسيه ، وبه يبعث خلقه ، وما أشبه ذلك مع قرآن تقدمه فهل بهذا بأس؟
فقال: لم يأت هذا في الأحاديث الصحاح ، وغير هذا من القرآن والسنة الثابتة عن
النبي صلي الله عليه وسلم أحب الينا أن يدعى به ، وذكر في أثناء كلامه أن ذلك لا
يجوز إلا ببعد من التأويل. انتهى.
وممن صرح بتحريم الرقيا بالاسم الأعجمي الذي لا يعرف معناه (أي كأسماء
الطهاطيل وأسماء أهل الكهف) ابن رشد المالكي والعز بن عبد السلام الشافعي
وجماعة من أئمتنا وغيرهم ، وقيل وعن ابن المسيب ما يقتضي الجواز لقوله صلي
الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه. انتهى ، ولا دليل فيه لأنه لم
يقل لهم ذلك إلا بعد أن سألوه أن عندهم رقيا يرقون بها فقال لهم صلي الله عليه
وسلم:) اعرضوا علي رقاكم فعرضوها عليه فقال صلي الله عليه وسلم: (لا بأس)
ثم قال: (من استطاع منكم) إلخ فلم يقل ذلك إلا بعد أن عرف رقاهم ، وأنه لا
محذور فيها ، وذكر بعض أئمة المالكية أن من أمر الغير بعمل السحر لا يقتل
بالأمر بل يؤدب أدبًا شديدًا كما في المدونة ، وسئل بعضهم عن رجل صالح يكتب
للحُمى ويرقي ، ويعمل النشر ويعالج أصحاب الصرع والجنون بأسماء الله والخواتم
والعزائم ، وينتفع بذلك كله من عمله ، ولا يأخذ على ذلك الأجور فهل له بذلك أجر؟
فأجاب: أما الكتب للحمى والرقى وعمل النشر بالقرآن وبالمعروف من ذكر الله
تعالى ، فلا بأس به ، وأما معالجة المصروع بالجنون بالخواتم والعزائم ففعل
المبطلين، فإنه من المنكر والباطل الذي لا يفعله ولا يشتغل به من فيه خير أو دين ،
فإن كان هذا الرجل جاهلاً بما عليه في هذا فينبغي أن يُنهى عنه ، ويُبصر فيما عليه
فيه حتى لا يعود إلى الاشتغال به. اهـ فتوى ابن حجر ، ولا يخفي أنه ليس كل ما
يفرضه الفقهاء لبيان حكمه يكون واقعًا أو مما يقع، فإنهم أحيانًا يفرضون المستحيل
عادة بل وعقلاً كما صرحوا به.
(اقتراح في الإصلاح الإسلامي)
كتب بعض أهل الفضل والغيرة الملية كتابًا إلى مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد عبده مفتي الديار المصرية يقول فيه: إنه قرأ رسالة التوحيد؛ فعرفتْه دينه
بقليل من الزمن ، وأزاحت من سماء فكره سحب أوهام وشُبه طال عناؤه من قبل
في السؤال عنها ، فلم يستفد من كتاب ولا من عالم ما يزيحها ، ثم اطلع على تقرير
المحاكم الشرعية فألفاه قد شخص الداء ووصف الدواء على أكمل وجه ، وعند ذلك
جال في فكره أنه ينبغي لهذا الإمام الحكيم أن يضع تقريرًا آخر يشخص مرض الأمة
الإسلامية كلها ويصف دواءه ، وقوي عنده هذا الفكر حتى دفعه إلى الكتابة للأستاذ
يطلب منه ذلك بالوجه الذي يرى ، وعلى الوجه الذي يرى ، وقال: إن ذلك التقرير قد
طلبته منك الحكومة ، وهذا التقرير يطلبه منك دينك وأمتك ووطنك ويكافئك عليه الله
الذي بيده ملكوت السموات والأرض ، واقترح على الأستاذ أن يجاوبه على كتابه هذا
في مجلتنا (المنار) وهذا المنار يجاوبه بما يعلمه عن الأستاذ في هذا المقام علم اليقين
وهو:
إن الأستاذ وعد بتأليف كتاب مخصوص في هذا الغرض يسميه (الإسلام
والمسلمون) وقد أشار إلى هذا الوعد في الصفحة 128 من رسالة التوحيد ، ولم
تزل عوائق الزمان وصوادف البيئة والمكان تحول دون الشروع فيه ، وقد
اقترحنا على فضيلته نحن وكثيرون ممن يحضرون درسه في التفسير الذي يقرأه
في الأزهر الشريف أن يؤلفه تفسيرًا على الوجه الذي يقرأه ، فإنه مبين لأمراض
الأمم الروحية والاجتماعية ومرشد إلى علاجها؛ لأن القرآن فيه تبيان كل شيء ،
وقد فسر من حيث هو كلام بليغ مشتمل على أحكام وفرائض ، ولكنه لم يفسر على
أنه دين مرشد للأمم وقائد للشعوب إلى السعادة الاجتماعية المدنية في دنياهم
والسعادة الروحية الأخروية في عقباهم، حتى قام هذا الأستاذ الحكيم يفسره على هذا
الوجه ، بل إن غير واحد ممن يعرف فضل الأستاذ في غير مصر قد كتبوا
يقترحون عليه هذا الاقتراح حتى بواسطتنا ، ويرون أن هذا التفسير كافٍ لإرشاد
الأمة إلى جميع ما تطلبه لسعادتها وإرجاع مجدها ، وقد أجاب الاقتراح ووعد
بالكتابة، فما علينا إلا أن نسأل الله تعالى أن يسهل لفضيلته أسباب التعجيل بالعمل.
ثم نقول: إنه يجب على الذين تنبهت نفوسهم إلى سوء حال الأمة ووجوب
السعي في تجديد دينها وإعادة مجدها أن لا يتواكلوا ويعتمدوا على من يعتقدون أنه
أوسع منهم علمًا وحكمة ، بل يجب على كل واحد أن يبحث ويسعى في استعراف
الداء والدواء وطريق المعالجة والله تعالى يهدي كل طالب بصدق وإخلاص ،
ويعطيه على مقدار جده واجتهاده ، وهؤلاء الباحثون يكونون بلا ريب أبلغ فهمًا
وأكثر انتفاعًا بما يكتبه الأستاذ ، والذين يسيرون في طريق واحد ينتهون مع
الاستقامة في السير إلى غاية واحدة ، وإن كان سير بعضهم بطيئًا وسير الآخر
حثيثًا ، وأما الواقف انتظارًا لمن يحمله ويوصله إلى الغاية فقد يهلك دون مقصده
ولا يجد من يحمله ، ومن لطيف الاتفاق أن كاتب هذه السطور كان يذاكر بعض
المهذبين في حال الأمة وما تحتاجه من الإصلاح فقال شاب مهذب: إنني أتمنى
أن يكتب مولانا الأستاذ مفتي الديار المصرية كتابًا في حال الأمة وأمراضها وطرق
علاجها ، وأن يعرضه على المشهورين من أهل العلم والفكر ليقرّوه ويوافقوا عليه ،
ثم يُنشر لتأخذ به الأمة وتعتمده ، وفي مساء ذلك اليوم علمت بورود الكتاب الذي
نحن بصدد الكلام عليه إلى فضيلة الأستاذ فالأفكار التي تتسابق في ميدان واحد
كثيرًا ما تلتقي في نقطة واحدة ، فالباحثون في حال الإسلام والمسلمين بصدق
وإخلاص لا بد أن يصلوا في يوم ما إلى نتيجة واحدة (وعلي الله قصد السبيل
ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) .
(الانتصار بالدين، وصلاة روبرتس)
يقول الله - تعالي - في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45) والفلاح في الحرب
الانتصار ، والسبب فيه معقول ، وهو أن المحارب إذا ذكر الله الذي يعتقد أن بيده
ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، واستمد منه النصر لأنه يحارب
بحق يرضيه ، وهو القوي الذي تتضاءل لديه كل القوىَ فلا شك أنه يزداد جرأة
وإقدامًا ويستهين بخصمه وإن كان استعداده فوق استعداده ، ولذلك فرض على
المؤمنين أن يقاتلوا ضِعفهم على الأقل. وقد ثبت هذا بالتجربة في كل عصر ،
ومن ذلك ما اتفقت عليه كلمة الباحثين في الحرب الأخيرة بين الإنكليز والترنسفال
من أن من جملة أسباب انتصار البوير على الإنكليز نحو خمسة أشهر متوالية، أن
البوير كانوا عند اشتباك القتال يذكرون الله ويستمدون النصر من عنايته والإنكليز
يذكرون الوطن (ليعتبر أنصار الوطنية) والملِكة ، ولما تلافى الإنكليز أسباب
الانكسار وأكثروا عَددهم وأصلحوا عُددهم لم ينسوا هذا السبب المهم ، ولذلك كتب
قائدهم الجديد العام اللورد روبرتس صلاة (دعاء) وزعها على الجيش ليتلوها كل
واحد منهم عند الزحف وهذه ترجمتها:
(اللهم إننا ملوثون بالذنوب والآثام ، فطهرنا منها بدم المسيح ، وأيدنا بروح
منك لنقدر على إصلاح حالنا وحياتنا ، ويسر لنا لقاء أهلنا وأولادنا الذين خلَّفناهم
في ديارنا ، وقوِّنا على رفع كلمتنا الحقة بالشجاعة والإقدام ، ووفقنا للثبات في
المهالك التي انتُدبنا إليها ، والقيام بخدمة وطننا ورفع أعلامنا بصدق واخلاص ،
وألهمنا الصبر على ما ابتلينا به ووفقنا لإعلاء شأن إنكلترا بالظهور على الأعداء
إن كان ذلك قد سبق في علمك ، وارزقنا مع عصياننا لك قوة نغلب بها عدونا ،
لنكون مقبولين عندك أكثر ممن ظهروا علينا بجاه سيدنا المسيح الذي بذل نفسه
لأجلنا) اهـ.
(الصواب)
جريدة أسبوعية سياسية تجارية أدبية تصدر في ريوجانيرو من جمهورية
البرازيل رئيس تحريرها حبيب أفندي الخوري ، والمحرر المسئول ميخائيل أفندي
مراد ، ومدير أعمالها بطرس أفندي روفائيل كرم ، وقد ورد علينا منها إلى الآن 6
أعداد رأينا فيها من الفوائد ما يقوي الرجاء بنجاحها فسُقيا لأصحابها وحمدًا وشكرًا.
نقلت جمعية شمس الإسلام إلى سراي محمود باشا سامي البارودي في باب
الخلق حيث إدارة مجلة المنار.
وكلاء المنار
علم قراء المنار أن وكيله علي رضا الديب قد جمع مبلغًا من مال الاشتراك ،
وانقطع خبره عنا ، فنشدناه في المنار ، فخاف الفضيحة بأكل مبلغ رآه قليلاً فحضر ،
وقال: إنني اضطررت إلى إنفاق المبلغ الفلاني الذي جمعته ، وإذا أبقيتموني في
العمل أعوضه في وقت قريب ، ولكن لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، فوقفناه عن
العمل حتى يُحضر المبلغ ، فما كان منه إلا أنه اختفى عن الأنظار ، فنرجو ممن
يعرف مكانه من قرائنا أن يتفضل علينا بالبيان، وقد فعل معنا هذا الوكيل كما فعل
معنا مِن قبله وكيلنا السابق في الإسكندرية الشيخ أحمد عبد الكريم فإنه جمع مبلغًا
وأكله ، وقطع المخابرات بيننا وبينه بعد ما كان يوهمنا أنه شيخ صوفي ، الآن
نطلب وكيلاً للمنار من أهل الإيمان (ولا إيمان لمن لا أمانة له) ولا نقبله مع ذلك
إلا بضمانة معتمدة يوثق بصاحبها.
(فذلكة ومقابلة) علم من الإحصاء الأزهري المنشور في باب التربية
والتعليم أن الذين أخذوا المكافأة من المشتغلين بالعلوم الجديدة 13 في المائة والذين
نقلوا 44 في المائة ، والذين سقطوا 45 في المائة والذين أخذوا المكافأة من غيرهم
7 في المائة أي نحو نصف أولئك ، والذين نقلوا 36 في المائة ، والذين سقطوا 60
في المائة (بالتقريب) وعلم أن مجموع الذين امتحنوا من الأولين 1114 طالبًا
ومن الآخرين 618 أي أن الممتحنين من غير المشتغلين بالعلوم الجديدة نحو نصف
الممتحنين من المشتغلين بها مع أن المشتغلين بها لا يبلغ عددهم الثلث من مجموع
طلاب العلم في الأزهر.
***
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع المعارف والمدارس)
عدد المدارس اليونانية في القسطنطينية وضواحيها يزيد عن مائة يختلف عدد
تلامذتها من أحد عشر إلى اثني عشر ألفًا، ثلاثة أرباعهم ذكور. أكثر الطوائف
استفادة مما منحته جلالة السلطان للرعايا من وسائل في التربية والتعليم العام هي
الطائفة الأرمنية ، وكان يجب عليها من أجل هذا أن تخلص لجلالته شكرها وتعترف
بفضله عليها، فإنها قبل حكمه لم يكن لها من المدارس إلا عدد يسير في العاصمة
وبعض المدن الكبرى ، فكان في كل خورنية بالقسطنطينية مدرسة ابتدائية كان التعليم
فيها قاصرًا على القراءة والكتابة ومبادئ الحساب والدين والترتيل الكنيسي لمن يكون
حسن الصوت من الأطفال ، وفي بعض هذه المدارس كان يعلم زيادة عما ذكر النحو
والتاريخ والجغرافيا وقليل من العلوم الرياضية ، فبفضل عزيمة جلالة السلطان
الموجهة إلى ترقية أمته في معارج الحضارة قد بلغت هذه الطائفة من التقدم في التعليم
العام مبلغًا عظيمًا في أسرع ما يكون ، وصارت مدارسها اليوم مساوية لمدارس
الحكومة ، وصارت النهضة العقلية للأرمن أظهر ما يكون خصوصًا في العاصمة ،
فيوجد منهم فيها مائتا ألف مقيمون في ست وثلاثين محلة وضاحية ، ولهم في هذه
المحلات والضواحي تسع وثلاثون كنيسة يتبعها إحدى وخمسون مدرسة ابتدائية للذكور
والإناث ، والتعليم في معظم هذه المدارس مجاني على نفقة الطائفة ، وعدد تلامذتها
يقرب من ستة آلاف تلميذ أربعة آلاف منها ذكور وألفان إناث.
من المدارس الثانوية للأرمن مدرسة بربريان ومدرسة إيفازيان ومدرسة
مسيوريان للإناث في إسكودار ومدرسة ميخدوجيان في يني قبو ومدرسة تريد
يانيان في قوم قبو ، وجميع هذه المدارس أسسها بعض أفراد من الأرمن ،
وللمستشفي الأرمني في يدي قولا مدرسة صناعية للأيتام الذكور والإناث ، وعدد
تلامذتها 425 منهم 206 ذكور و219 إناث ، وفي حسقنى ملجأ لليتامى الذين لا
يوجد لهم من يعولهم تدبر شؤونه الأخوات الأرمنيات ، أول المدارس الأرمنية هي
مدرسة غلطة المركزية التي يتعلم فيها 150 تلميذًا من الذكور التعليم الثانوى ،
ومعلموها من الأرمن والأتراك والأوربيين ، وهم منتدبون من كلية سراي غلطة
الأميرية الاختيارية ، والدروس التي تلقى فيها هي الدين واللغة الأرمنية والإنشاء
واللغات التركية والفرنساوية والألمانية والخط والرسم والجغرافيا والتاريخ العام
والحكمة والتاريخ الطبيعي والطبيعة والكيمياء وعلوم الرياضية والقانون والاقتصاد
السياسي والتحرير في الدفاتر وفن التعليم وفن حفظ الصحة والرياضات البدنية. لم
تتأسس هذه المدرسة إلا في سنة 1886 وقد نتج عنها نتائج جليلة أعلت قدرها كما
أعلت قدر مدرسة سراي غلطة الاختيارية.
من أجل أن يشرك الأرمن معهم في فوائد التعليم العام ومزاياه إخوانهم في
الدين قد أسسوا شركات لنشر التعليم مثل شركة باريكو تساجان ، وشركة أزياجان ،
وشركة وارتانيان وشركة سينيكير يميان وغيرها ، وأشهرها بلا شك هي الشركات
الأرمنية المتحدة التي أنشئت في عهد جلالة السلطان عبد الحميد وإن جلالته تدفع
لهذه الشركة معونات سنوية لمساعدتها على نشر التعليم بين رعاياه المخلصين له
في تركية آسيا ، ولهذه الشركات خمس وثلاثون مدرسة للذكور فيها 2362 تلميذًا
وعشر مدارس للإناث فيها 839 تلميذة ، وإنها لجديرة بالشكر لأنها تعلم 3201 من
أبناء الفقراء التعليم الابتدائي مجانًا.
ويوجد أيضًا شركتان مؤلفتان من السيدات في عهد جلالة السلطان أيضًا
تنافسان شركات الرجال في تعليم بنات الفقراء في الأقاليم وهما:
أولاً: شركة تبروتزاسير هاهيو هيانز التي تخرج المعلمات لمدارس البنات
في الأقاليم فإن لها مدرسة معلمات في استانبول فيها ثمانون طالبة ومن عهد تأسيسها
يتخرج منها كل سنة نحو ثلاثين معلمة للمدارس المختلفة بالأقاليم.
ثانيًا: شركة إسكنانر هاهيو هيانز التي غرضها إنشاء مدارس للبنات
في المراكز الخالية منها فإنها قد أسست إلى الآن خمس مدارس ابتدائية
فيها 500 طالبة.
تتعلم الناشئات من البنات في العاصمة التعليم العالي في مدرسة الحرف التي
في بيرا ففي هذه المدرسة 150 طالبة بقسميها التجهيزي والعالي ، وشرط القبول
فيها أن تكون التلميذة قد تعلمت التعليم الابتدائي ، يتعلم التلميذات فيها زيادة عن
الدروس العلمية شغل الإبرة بجميع أنواعه ، واللاتي يعلمنهن إياه معلمات
استحضرن من البلاد الأجنبية لهذا الغرض ، ولقد كان من صنع أيدي التلميذات
اللاتي في الفرق العالية فيها أشياء من لوازم العرس ، وأنواع من الأطرزة الشرقية
نادرة الإتقان.
مما ينبغي ذكره هنا مدرسة سناياريان في أرضروم التي أسسها أرمنى روسي
من بلدة (وان) في سنة 1881 بتصريح من جلالة السلطان ، وهي مدرسة ثانوية
تننفع بها ولايات آسيا التركية ، ومعلمو هذه المدرسة منتدبون لها من المدارس
الجامعة بألمانيا ، ويتعلم الطالب فيها أيضًا كثيرًا من الحرف اليدوية المتنوعة
كصناعة النعال والنجارة والحدادة وغيرها ، ويقوم بتعليم فني الزراعة وإنشاء
البساتين رجال مخصوصون بعلم هذين الفنين من بلاد الشرق ومن أوربا.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إعادة مجد الإسلام
] كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [[*] .
كثر الخوض في هذه الأيام في إعادة مجد الإسلام فتبارت الألسنة بالكلام ،
وتسابقت في ميادين الصحف جياد الأقلام فغارت عرج الحمير ، ونهقت تطلب
النفير ، وتحاكي للناس الزئير بالشهيق والزفير ، فاشتغل بهذه المجالي والمظاهر
والمسامع والمناظر من لا يميز بين الناطق والناهق ، ولا يُزيِّل بين المسبوق
والسابق ، وأقبل قوم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون يقولون:
كيف يعود للإسلام مجده ، ويرجع إليه عزه وسعده ، وثلثا أهله تحت سلطة الأجانب
والثلث الآخر قد أحدقت به النوائب من كل جانب ، والجواب على هذا السؤال
من الكتاب {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) ومن السُّنَّة: (بدأ الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) ومن كلام علماء العمران: (إن التاريخ يعيد نفسه)
ولنوضح هذه الإشارات بشيء من الشرح والبيان ليظهر الحق للعيان.
كان العالم الإنساني قبيل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة ،
وظلمات من الظلم والفتن ، وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة ، وصدع
بنيانها؛ فأراد الحي القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ، ويقيم بناء مدنيته على
أساس من الحكمة ليثبت ويبقى إلى ما شاء الله تعالى ، ويبلغ به الإنسان كماله
المستعد هو له في أصل الفطرة القويمة ، فأظهر الله جل ثناؤه الإسلام في الأمة
العربية فحملته وطافت به العالم المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية ، فما كان
إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى عم نوره المشرق والمغرب ، ودخل الإنسان في
طور جديد ، وأقام أركان مدنيته على أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل ما
دامت الأرض أرضًا والسماء سماء ، وكيف تزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن
الخليقة ، وقد أخبر مبدعها الحكيم الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل.
لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟ اختارها وهو
أعلم لأسباب ووجوه:
(إحداها) : أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي
أقيم فيها من قبل بنيان الحضارة ، وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق
وفارس حيث كان التمدن الكلداني والآشوري والبابلي والفارسي والفينيقي
والمصري واليوناني والروماني، فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في
الأرض القابلة وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة.
(ثانيها) : أنها كانت- ولا مدنية لها سابقة - أشد استعدادًا من تلك الأمم
التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه الأول وهو
استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي لأنه لم يكن لها رؤساء في الدين والسياسة
يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم وتتلاشى آراء أفرادها في
آرائهم فلا يرجع اليهم أحد قولاً ، ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا ولا نفعًا ، وأما
تلك الأمم فقد كان المرءوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا حتى لم تبق لهم
إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ من الرؤساء ، ويمثل أفكارهم وآراءهم.
(ثالثها) : أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة
الكمال بمجرد سلامة الفطرة ، وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي
جاء يخاطب العقل والوجدان معًا ، ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى ، ويطمس
رسومه وتكون أسرع انفعالاً بالمؤثرات وأشد تمسكًا بالمعتقدات.
(رابعها) : أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة
والحرية الشخصية ، وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا
والاستماتة في المدافعة عنه، على حين أمات الأخرى وذهب بإرادتها ما تواتر
عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة حتى سهل عليها مشايعة الظالمين على
خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا العهد ،
وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني.
(خامسها) : أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه
على وحي سماوي وعلى سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به
الإسلام أو يزاحمه ، وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان ،
وعلى وجه يقبله العقل ، وينفعل له الوجدان إذا وجد استقلال الفكر والرأي ،
وكذلك كان.
هذا ما ظهر لنا الآن من وجوه اختيار الحكمة الإلهية الأمة العربية على سائر
الأمم لإظهار الإصلاح الإسلامي ونشره في العالم الإنساني ، وقد رزئ المسلمون
بجميع أرزاء الأمم السابقة التي لم تخضع للإصلاح الإسلامي من فقد الاستقلال في
الإرادة والفكر ، وضعف الفهم والوجدان ، والتسليم الأعمى للرؤساء ، والتقاليد
الباطلة من البدع والمذاهب في أصول الدين والذلة والجبن والمهانة ، وزادوا على
ذلك أنهم فقدوا لغة دينهم التي جاءهم كتاب الإصلاح بها حتى إن علماءهم لا
يفهمونه كما كان يفهمه الأعراب من رعاء الإبل والشاء ، فكيف السبيل إلى
إرجاعهم إليه ، وهم لا يتناولونه بأفهامهم ، وإن الكثيرين منهم فتنوا بمدنية أوربا
فبعضهم يرى أن السعادة فيها مطلقًا ، والبعض يرفضها ، وينهى عنها باسم الدين
من غير فصل بين نافعها وضارها ، وبين ما كان منها موافقًا للإسلام أو مأخوذًا
عنه وما ليس كذلك ، فالإصلاح الذي يعيد للإسلام مجده لا يوجد إلا على أيدي
جماعة لهم استقلال في الفكر والإرادة ، وعندهم شهامة وعزة ، ويمكن أن يفهموا
القرآن أو يُفهموه حتى إذا دُعوا لجعله أصلاً مع السنة الصحيحة ، وما كان عليه
السلف الصالح من العقائد والأخلاق والآداب والأعمال؛ يلبون الدعوة وينصرونها
بما يستطيعون من حول وقوة لا يزحزحهم عنها الرؤساء ، ولا يصدهم عن قبول ما
فهموه تجرع عصارة أفكار القدماء ، واستقلال الإرادة والفكر لا يوجد الآن في
الجملة إلا عند طائفتين من المسلمين:
(الطائفة الأولى) : بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية ، وأكثرهم من
الأتراك والهنود وفيهم عدد غير قليل من المصريين وغيرهم ، وأكثر أفراد هذه
الطائفة منحرفون عن صراط الدين غير مصبوغين بآدابه وفضائله وأعماله ، وما
داموا كذلك لا يرجى منهم للأمة خير ، ومولانا السلطان عبد الحميد يمقت هؤلاء
المتمدنين ، ويراهم آفة على الأمة وبلاد الإسلام ، ومثل المصريين يسهل إقناعهم
بقضايا الدين الحقيقية إذا وجد فينا علماء عارفون بالعلوم والفنون التي تلقوها
والأفكار الجديدة التي أشربتها قلوبهم يكتبون الكتب ، ويقرأون الدروس في التوفيق
بين الإسلام وبين المدنية الحقة والعقل ، بل في بيان أنهما صنوان لا يختلفان ، وكم
من صاحب شبهة أو شبه في الدين أرجعته قراءة (رسالة التوحيد) إلى الحق
اليقين ، وهؤلاء إنما استفادوا من التعليم الجديد استقلال الفكر دون استقلال الإرادة ،
فالضعف والجبن غالبان عليهم ، وأكثر ما يرجى منهم نشر العلوم والفنون التي
تعلموها ، ونشر الدعوة للإصلاح وتكثير سواد أهلها مهما كانوا آمنين من الخوف.
(الطائفة الثانية) : سكان البوادي (وبعض أهل المدن) من العرب، فإنهم لم
يصبهم من ظلم الظالمين ما أصاب غيرهم لأنهم بمعزل عن سطوة الملك وقهر
السلطان ، ولم يأخذ سلطان التقليد بأعنتهم ، فيصرفهم عن استعمال عقولهم بالمرة.
إلا أن هذه الطائفة يعسر عليها أن تجاري المدنية الحاضرة إلا في استعمال آلات
الحرب والكفاح، فإذا أمكن بإصلاحها أن يكون للإسلام قوة يُحفظ بها جزء عظيم من
البلاد الإسلامية ، وتكون بها الدولة عزيزة قوية - يمكن للمسلمين أن يقيموا بناء
مدنيتهم في ضمن دائرة هذه القوة ، ووراء حصنها الحصين كما كان شأنهم في
مدنيتهم الأولى ، وكما فعلت الروسية في نشأتها الجديدة.
كان المنار يدعو إلى الوحدة الإسلامية التي تضمن لسائر الشعوب والملل
حقوقها في بلاد الإسلام على أكمل وجه ، وهذه الوحدة الإسلامية لا يتيسر القيام
بتعميمها من مصدر واحد مع اختلاف لغات المسلمين ومذاهبهم وحكوماتهم
وأقطارهم ومذاهبهم؛ فينبغي أن يدعى للوحدة الإسلامية عملاً في كل عنصر من
العناصر والشعوب الإسلامية على وجه خاص بأن يضم إلى الكلام في الوحدة العامة
الوحدة الخاصة التي يحفظ فيها كل عنصر كيانه ويحمي حقيقته، فإن الخطر الذي
يتهدد العرب بابتلاع الأمم المتمدنة لهم لا يتهدد الترك الذين هم بين براثن أوربا
وأنيابها، فإذا كسر باب المسألة الشرقية ودخل الشرق الطامعون من كل جانب ،
فالمرجح ما قاله غير واحد من الباحثين في السياسة من أن الأتراك تنحصر سلطتهم
في بر الأناضول فلا يمس استقلالهم فيه أحد لأنهم ثم عنصر مستقل قادر على أن
يحكم نفسه بنفسه ، ويُجاري أوروبا في مدنيتها ، ولكن البلاد العربية تذهب فريسة
المطامع إذا تقلص عنها ظل الدولة العثمانية بهذا الانقلاب الهائل ، والعياذ بالله
تعالى.
ومجد الإسلام إنما يحفظ بمجد العرب ، فلابد من السعي لحفظه بالوحدة
العربية ، واسم العرب يتناول اليوم مع أهل البادية في الشرق والغرب سكان البلاد
من العراق إلى مراكش شرقًا وغربًا فالإصلاح المعنوي يجب أن يكون عامًّا لبدوهم
وحضرهم كما يجب أن يكون عامًّا لسائر المسلمين ، والإصلاح المادي على
ضربين: مدني وحربي، فالمدني يقوم به الحضر ، ويتحدون فيه مع سائر الملل
الذين يشاركونهم في البلاد ، والحربي يقوم به أهل البادية لأجل حمايتهم من العوادي ،
والعمدة في إعادة مجد الإسلام على الإصلاح المعنوي الأدبي، والمادي سياج له ،
ولابد أن يكون السعي في الوحدة العربية على وجه لا يخل بسيادة الدولة العلية ، ولا
يهيج علينا الدول الأوربية ، وسنبين هذا في جزء آخر إن شاء الله.
_________
(*) الأعراف: 29 - 30.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم في الأزهر الشريف
نشرنا ونشر المؤيد في يوم الخميس الأسبق نبذة في نجاح التعليم في الأزهر
بالنسبة للمشتغلين بالعلوم التي أدخلت فيه حديثًا بسعي فضيلة مفتي الديار المصرية
فكتب الشيخ محمد راضي البحراوي من علماء الأزهر نبذة في المؤيد يعترض فيها
على ما جاء فيه من نجاح التعليم ، فنشر المؤيد بعد ذلك مقالة بإمضاء (مجاور
أزهري) يرد فيها على ما كتبه الشيخ مع كمال الأدب والاحترام وهي:
***
قرأنا في مؤيد أول أمس نبذة لأحد مشايخنا الكرام في مضرة الاشتغال بالعلوم
الجديدة، ونتيجة امتحان المكافأة في هذه السنة تنحصر أبحاثها في مسائل:(1) إن
الذين امتحنوا في العلوم الأزهرية وحدها أي دون العلوم الجديدة إنما ظهر فيهم عدم
النجاح؛ لأنهم مشتغلون بالجديد أيضًا ، ولكن باعتناء زائد أضاع ثمرة اشتغالهم بغيرها
(2)
إننا لو تأملنا لوجدنا أن علمي الحساب والهندسة يشتغل بهما في الأزهر في كل
عصر وآن على أحسن من الطريق الموجود الآن لأن الكتب التي كانت تقرأ كانت
مشتملة على البراهين القطعية ، وأما الآن فليس في تعليمهما إلا بيان الأعمال (3)
إن التعليم الأول كان يقوي العقل ، والتعليم الجديد يقوي الحافظة ويضعف العقل (4)
إن علم تقويم البلدان سهل لا يحتاج إلى إمعان الفكر والنظر، فهو كالتاريخ يفيد
الحافظة ولا يفيد العاقلة أصلاً (5) إن هذا العلم لا فائدة فيه للمصريين أي وبالأحرى
للأزهريين.
والغرض من تلك النبذة هو ما صرح به بقوله: (إن الاشتغال بالعلوم الجديدة
مضر جدًّا) وقد رأيت أنا وبعض إخواني أن نكتب ما عندنا في هذه المسائل ،
فكتبت إليكم بهذه العجالة غير مصرح باسمي لأن الكلام مع الكلام ، ولأننى لا
أتسامى لأن أظهر بصفة المناظر لحضرة أستاذنا كاتب تلك النبذة في جريدتكم ،
وغرض الأستاذ وغرض حضرتكم وغرضنا بيان الحقيقة.
أما المسألة الأولى فقد أحسن المؤيد الجواب عنها [*] وأزيد على ذلك أن
حضرة الأستاذ قالها عن اجتهاد لا عن اختبار؛ لأننا نحن الممتحنين يعرف بعضنا
بعضًا على أنه ليس من المعقول أن أحدًا يصرف كل عنايته إلى علم من العلوم ،
ويطلب الامتحان فيما أهمل الاشتغال به دون ما اشتغل به بكل اجتهاد.
وأما المسألة الثانية فيحتمل أن يكون مراد الأستاذ بها القرون الأولى أيام خلفاء
الفاطميين ومن بعدهم ، وأما في هذا العصر فعُدم وجود علماء الحساب والهندسة في
الأزهر وهو الذي اضطر مجلس إدارته إلى استحضار مدرسين لهما من الخارج
وليدلنا الأستاذ على مهندس واحد تخرج من الأزهر.
وأما المسألة الثالثة فهي من مباحث الفلسفة العقلية التي لا يشتغل بها أحد
في الأزهر اليوم ، ولكن من المعروف أن أكابر الفلاسفة والسياسيين في أوروبا تعلموا
الحساب والهندسة على الطريقة الجديدة ، ولا يمكننا أن نقول: إن عقولهم ضيقة ، وقد
اكتشفوا في العلوم ما اكتشفوا ، ورقوها إلى الدرجة التي أعطتهم السيادة والسعادة
في الدنيا على أن العلوم إنما تطلب لأجل العمل ، فكيف يكون بيان العمل مضرًّا
ومضعفًا للعقل؟ .
وأما المسألة الرابعة وهي قوله: إن تقويم البلدان كالتاريخ يقوي الحافظة ،
ويضعف العقل؛ فجوابه يعلم مما قبله ، والمشهور عند جميع الأمم أنه لا شيء
يقوي العقل من العلوم كهذين العلمين لأنهما يعرفان الإنسان أحوال العالم وشئونه.
هذا البرنس بسمارك الذي نقل إلينا أن دماغه أكبر دماغ بحسب ما وصل إليه
اختبار الأوروبيين أي أن عقله أكبر عقل عرفوه باختبارهم الحديث ، حتى إنه كان
يحرك الممالك الأوروبية بكلمة ويسكنها بكلمة ، وناهيك بعمله العظيم في الوحدة
الألمانية - كان أعلم الناس بالتاريخ والجغرافيا ، واتفق الناس على أن قوة عقله ونفوذ
سياسته إنما جاءا من ذلك.
وأما المسألة الخامسة فيمكن للعارف بتقويم البلدان أن يجيب عنها بمقالة أو
رسالة أو كتاب في بيان فوائد هذا العلم للناس عمومًا وللمصريين منهم وللأزهريين
خصوصًا وأكتفي الآن بمسائل:
(أحدها) أن في الأزهر الشريف عدة أروقة ، ولكل رواق منها أوقاف
مخصوصة ، فإذا لم يكن أهل الأزهر عارفين بتقويم البلدان يشتبه عليهم الأمر في
إلحاق أهل كل رواق به ، مثلاً: إن للشوام رواقًا ، وللأتراك رواقًا ، وبلاد الشام
متصلة ببلاد الترك ، ومن أهلها في الأطراف من لا ينطق اليوم إلا بالتركية ، وهل
يُعرف الحد بين البلادين إلا من هذا العِلم ، وكذلك يقال في رواق الهنود ، ورواق
الأفغان إلخ إلخ.
(ثانيها) تبين أن ببلاد أميركا قومًا من المسلمين لكنهم جاهلون بدينهم، فإذا
كتبوا إلى مشيخة الأزهر يطلبون كتابًا أو أستاذًا يعلمهم أمر دينهم فهل يمكننا أن
نعرف سمت القبلة هناك إلا إذا كنا عالمين بطول البلاد وعرضها ، وذلك من علم
تقويم البلدان ، ومثل هذا يقال فيما إذا كان السائل من بلاد الكاب أو إستراليا أو
جزائر المحيط وغيرها ، وإن كثيرًا من المصريين يسافرون في كل سنة إلى
أوروبا، فإذا سئل الأستاذ عن القبلة في بلاد أسوج ونروج كيف يمكنه الجواب إذا لم
يعرف هذا العلم؟ .
(ثالثها) أن حوالي الدرجة 160من خطوط الطول الغربي لمدينة باريس
وحوالي درجة 45 من خطوط العرض الجنوبي لها نقطة في المحيط الباسفيكي لو
خرج منها خط مستقيم ، ومر في مركز الأرض إلى الجانب الآخر يكون في وسط
الكعبة ، ففي تلك النقطة يصح لمن كان هناك أن يولي وجهه في الصلاة أية جهة
من الجهات الأربع ، فإذا سافر المسلمون من غربي أميركا أو شرق آسيا في تلك
الجهة هل يمكن لهم معرفة هذا الحكم إلا بعلم تقويم البلدان.
(رابعها) اتفقت الجرائد حتى الإنكليزية منها على أن أهم أسباب انتصار
البوير وانكسار الإنكليز في الحرب المشتعلة الآن في جنوب أفريقيا، هو معرفة
البوير التامة بجغرافية البلاد التي وقعت فيها الحرب ، وتقصير الإنكليز في ذلك ،
والحرب عند المسلمين قد تكون فرض عين عليه بالشرط الذي يعرف حضرة
الأستاذ أنه متحقق اليوم في كثير من البلاد الإسلامية ، وهذا الفرض متوقف في هذا
العصر على معرفة تقويم البلدان.
(خامسها) إن للبلاد الإسلامية التي يتغلب عليها العدو أحكامًا شرعية
مخصوصة ، والبلاد التي من هذا القبيل كثيرة الآن ومتصلة بالبلاد الأخرى ،
وكثيرًا ما يقع الاختلاف في حدودها ، والأحكام تابعة لمعرفة الحدود ، وقد ألحق
ببلاد السودان جزء من بلاد مصر لاشتباه حضرات النظار بين (سرس)
و (فرس) .
(سادسها) إن علم تقويم البلدان يعلمنا مع التاريخ ما عليه الدول الحربية من
الاستعداد ، وقد أمرنا الله أن نعد لهم ما نستطيع من قوة ، وورد في بعض الأحاديث
أن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به، فالقيام بامتثال هذا الأمر يتوقف على هذين
العلمين.
(سابعها) إن عقلاء المسلمين وكُتابهم قاموا في هذه السنين يحثون المسلمين
على الاتحاد والارتباط والتعاون والتعاضد ، ولا ينكر فائدة هذا مسلم ، وهو يحتاج
إلى التعارف ، والتعارف يكون بعلمي التاريخ وتقويم البلدان.
هذه الوجوه لوجوب الاشتغال بالجغرافيا على المسلمين عمومًا والأزهريين
الذين يستعدون لإرشاد المسلمين في كل قطر بوجه خاص، كلها دينية محضة
ويمكن استنباط غيرها.
ولا حاجة بعد ما تقدم للكلام في نتيجة النبذة التي كتبها أستاذنا الشيخ راضي
البحراوي، وهي أن الاشتغال بالعلوم الجديدة مُضر ، فإنه حفظه الله اعترف بأن
الحساب والهندسة من العلوم النافعة ، وحصر المضرة في تعلمهما على الوجه
العملي ، وقد علم ما فيه كما علمت فوائد تقويم البلدان بالإجمال ، وظهرت فوائدها
في تقوية العقل بالنجاح في الامتحان.
وهذا الرأي يوافقه عليه بعض المشايخ ويخالفه الآخرون ، وقد كان
عندما اجتمعنا في يوم الخميس الماضي بحضرة أكابر المشايخ لتوزيع المكافأة أن
فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية قال: إن بعض المشايخ
قال: إن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة في الأزهر قد تركوا العناية بالعلوم الدينية
ووسائلها مع أن هذه هي المقصودة أولاً بالذات ، فحملني ذلك على استخراج هذا
الإحصاء لأجل تلافي الأمر إذا اتضحت حقيقته ، وتلا علينا الإحصاء الذي نشرتموه
مبسوطًا في المؤيد الأغر.
وعندما قال: إن بعض المشايخ قال كذا؛ التفت إليه مولانا الأستاذ
الأكبر شيخ الجامع وقال مستفهمًا استفهام إنكار: (ومن الذي قال هذا؟) وقد
سمع هذه الكلمة منه المشايخ الحاضرون ، ومن كان قريبًا منهم من المجاورين ،
فعلمنا من هذا أن أكابر مشايخنا ينشطوننا على الاشتغال بهذه العلوم لعلمهم
اليقيني بدرجة استفادتنا منها ، ولا شك أن حضرة الأستاذ الشيخ محمد راضي
البحراوي يوافقهم على هذا بعد زيادة التدقيق لأن مقصود الجميع مصلحة الجميع.
_________
(*) ملخصه أن الاشتغال بالعلوم الجديدة يزيد الإقدام والنشاط لأن جميع الذين تقدموا للامتحان منهم على قول الشيخ المعترض، وفي ذلك تسجيل الخمول على سائر طلبة الأزهر.
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(31)
من هيلانة إلى أراسم في 4 أغسطس سنة - 185
لا أزال أشعر في نفسي بكثرة الضعف حتى إني في تحرير هذا المكتوب إليك
لم أستطع أن أكتبه مرة واحدة ، بل كنت أراوح فيه بين الكتابة والاستراحة عدة
مرات.
كنت لزمت الفراش اثني عشر يومًا موافقة للعادة المتبعة في معظم جهات
إنكلترا والآن أصبحت قادرة على القيام والمشي في البيت قليلاً ، وصرت مثلك
أجيل ناظري وفكري وأسيح بهما فيما حولي وإني أجد لذة في حبسي لأني أنوي به
مشاركتك في حبسك.
أيكون من الوهم أن أحسب أن أميل ما لبث أن عرفني؟ كلا فإني لا أجيز
لنفسي مطلقًا أن تعتقد أني لست في نظره (إلا ثديًا مملوءًا لبنًا) على قول أحد
العلماء ، على أني أعترف اعترافًا قلبيًّا بأن هذا المولود الضعيف الذي يكاد يكون
جمادًا محتاج إلى أن يأخذ كثيرًا من غيره ، ولا يكاد يعطي شيئًا ، نعم إن لنا فيه
قرة عين وانشراح صدر ، ولكنه ليس له في هذا اختيار ، فهو كالزهرة ترتاح لها
النفس ويبتهج برؤيتها الناظر على غير إرادة منها ولا قصد ، ومهما كانت حاله
ألست أنا أشد منه أثرة لأني أنا المغتبطة بحبي إياه؟ ثم إني كيف يسعني أن
أرتاب فيما له من الإحسان إلي؟ فإنه قد أعاد لي سكينتي وكف عني ما كنت أجده
من غُربتي ذلك أن خلقي - ولا أخفي عليك - قد خالطه من بضعة أشهر شيء من
الحدة بسبب العزلة والاغتراب ، ومن هذا تعلم العلة في غضبي على جورجيا قبل
الآن بأيام على أنها أحسن النساء وأكثرهن التفاتًا لواجبها ، وحقيقة الأمر أنها
تستثقل القابلة ولا تطيق النظر إليها ، ويوجدها عليها أن تراها قد استحقت نصيبًا
من شكري لأنه من المفروض علينا أن نشكر من يخدمنا.
فهذه الغيرة المنبعثة من قلب مخلص لم يستضئ بنور العلم أهاجت غضبي
عليها فلم أستطع كظم غيظي ولا كف بوادر لساني في تلك الساعة، فما كان أشدني
اندهاشًا وارتياعًا إذ ذاك! فإني لم أكد أفرغ من تقريعها؛ حتى أبصرت وجه أميل قد
صار أحمر كالأرجوان ، وطفق يصرخ صراخًا شديدًا ، فليت شعري هل انفعالات
الأم تؤثر في نفس الطفل فيكون بكاؤه وتغيره رجعًا لصداها؟ ! أنا والحق أقول قد
ملت من ذلك اليوم إلى اعتقاد ذلك.
وسواء كان هذا الاعتقاد صحيحًا أو فاسدًا فقد عاهدت نفسي على أن أعتبر
بهذه الواقعة وأصبحت من الآن كلما عرض لي ما يكاد يذهب بحلمي أنظر إلى أميل
فيسكن غضبي على الفور إجلالاً لولدي ، وإذا كنت قد صرت أحسن خلقًا وأوسع
صدرًا وأملك لنفسي مما كنت قبل فليس ذلك إلا بسببه وبيُمن وجوده اهـ.
(32)
من هيلانه إلى أراسم في 5 أغسطس سنة - 185
تلقى الدكتور وارنجتون مكتوبك [1] وأطلعني عليه ، فرأيتك قد تجنيت على
نفسك إذ قلت أنك ملوم على ما جلبه لي تعيس حظك من الخمول والذل ، وأنك
لست جديرًا بأن تكون والدًا.
رويدًا ، هون عليك الخطب فإني من عهد أن جمعتنا عقدة النكاح كنت راضية
بكل ما وقع لنا ، فهل كان ذلك مني كما تقول ناشئًا من شرف نفسي ، أو من رعاية
واجبي ، كلا بل كان سببه ما في قلبي لك من صادق الحب وخالص الود ، فمن
الجبن والعار أن تأسى اليوم على ما قد كان. أنا لست أشكو أبدًا ما ابتلينا به من
الشدائد والمحن بل إني أزهى بها وأفتخر باحتمالها.
أما ولدنا فقد آن لنا على ما أرى أن نشرع في تربيته، فما هي التربية؟ ومتى
تبتدئ؟ ومتى تنتهي؟ أنا في انتظار جوابك عن ذلك. اهـ
حاشية- أميل مستغرق في نومه وقد قبلته قبلتين في وجنتيه حبًّا لك اهـ.
* * *
(الباب الثاني)
(الولد)
(1)
من أراسم إلى هيلانه في 10 أغسطس سنة - 185
تسألينني في خاتمة رسالتك الأخيرة عن التربية متى يكون ابتداؤها فأقول:
يصح أن يبتدأ فيها قبل الولادة بزمن طويل [2] لأنه من المحقق الذي لا مساغ
للريب فيه أن في أجيال البشر أنواعًا من الاستعداد الوراثي تنتقل من الآباء إلى
الأبناء ، فابن المتوحش يولد متوحشًا ، وولد البربري يخلق بربريًّا ، ومن كان من
أبوين متمدنين فإنه يولد مهيئًا للتمدن.
من ذا الذي لا يرى في هذا أن هناك قوى سابقة لخلق الحياة في الإنسان تحدد
لكل فرد من أفراده درجة ملكاته ومقدارها نوعًا من التحديد؟ إن ما نسميه
بالتصورات الغريزية والقوى الحاسية والمواهب الخلقية والفيض الخفي قد لا يكون
شيئًا آخر سوى ما نتوارثه من حالة العمران، أعني نتيجة عمل العقل في من سبقنا
من القرون ، فنحن الراجعون إلى الدنيا بعد الفناء كما تقولين.
إن ظهور أثر أعمال السالفين وأفكارهم في إحدى مثاني مخنا على غير علم
منا ، وتنقل المادة الحية من قرن إلى قرن مرتقية على الدوام في صورها بعمل
العقل ، وخروج المولود من غيابة الرحم إلى عالم الشهادة بأعضاء كملها التقدم ،
وسواها الترقي - جميع هذه الأمور يغلب على ظني أنها من أسباب النمو التي يصح
ملاحظتها في التربية ، ولكن لما كانت عزائمنا ليس لها على مثل هذه الأسباب أدنى
سلطان لعمومها وخروجها عن حد الضبط، كان من العبث البحث فيها.
لكن هناك أحوالاً طبيعية يتأتى للعلم فيما أعتقد أن يتناولها ويغيرها، خلافًا
للأسباب المذكورة، فأي مانع يمنع المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء مثلاً أن يصلوا
يومًا ما إلى تحديد ما لسن الرجل والمرأة وحالتهما الصحية وطريقتهما الغذائية من
التأثير في التناسل؟ وقد وجه فريق من نابغي هذا العلم الذائعي الصيت أنظارهم
إلى هذه الغاية وأعملوا أفكارهم في سبيل الوصول إليها، فإذا أدركوها
وتقرر أنها أصبحت من ثمراته؛ صار علم وظائف الأعضاء فرعًا من فروع علم
التربية النفسية.
إذا علمت مما تقدم أنه من الصعب جدًّا تحديد الزمن الذي تبتدئ فيه التربية
اتضح لك أن تعيين الوقت الذي تنتهي فيه أصعب وأكثر مجازفة لأنها تستغرق
العمر كله.
أما حقيقة التربية وهي أول شيء تسألين عنه فلي أن أجيبك عنها جوابًا سديدًا
وهو: إنها على ما يؤخذ من معنى لفظ التربية اللغوي عبارة عن تكميل عقل
الناشئ ، وتهذيب نفسه بإظهار جميع ما استكن فيه من ضروب الاستعداد وأنواع
القوى وإنمائها؛ لأن ذلك اللفظ مأخوذ من (رَبَا) أي: زاد ونما ، لكني خشية أن
تخالي في هذا التعريف إبهامًا أعجل بكشف معناه وتقريبه إلى ذهنك فأقول:
أراد جمهور علماء الأخلاق بالتربية الوصول إلى ما تصوروه في الإنسان من
معنى الكمال ، فغرضهم منها إيجاد الإنسان الكامل ، وهو غرض يظهر لأول نظرة
أنه موافق للعقل تمام الموافقة ، لكنه مثار لاعتراضات كثيرة ، فلقائل أن يقول: إن
الإنسان الكامل ليس هو إلا صورة خيالية لا تحقق لها في الوجود الخارجي قطعًا
فنحن إذن نحلم به كل على حسب تصوره ، فإيانا والتشبث بهذه الصور الوهمية
التي يريد بها الخيال أن يتغلب على الواقع المحقق ، فإنه لا شيء أيسر علينا من
تخيل ذات عاقلة ، ونعتها بآلاف من نعوت الكمال حتى تكون نموذجًا لجميع
الفضائل ، ولكن من لنا بإنزال هذه الذات من السماء وإبرازها لنا إلى عالم الظهور.
مثل هذا الاعتراض على مسألة التربية يكون وجيهًا لو أن الإنسان كان ذاتًا
واجبة الوجود، لكنا في الحقيقة نراه على خلاف ذلك متغيرًا لا يستقر على حالة
واحدة ، فإنه وهو في الرحم تتناوبه أطوار جنينية مختلفة ، ولا أريد أن أبين لك ما
يتقدم ولادته من الحوادث ، وإنما أقول: إن حياته من أولها إلى آخرها ليست إلا
سلسلة استحالات متفاوتة في الحصول سرعة وبطئًا.
ألم تنظري إلى شعره (الذي لا يوجد عادة عند الولادة) كيف يتغير لونه عدة
مرات ، وإلى لون جسمه وسمات وجهه ، وبنيته كيف أنها تتجدد كلما كبر؟
تأملي في الغلام الصغير عندما تبتدئ ثناياه اللبنية في الزوال؛ تجديه قد صار شيخًا
بالنسبة إلى ابن الرابعة أو الخامسة الذي لا تزال لثته مجلاة بجميع لآلئها.
فقد خلق الله (سبحانه) لجميع الكائنات الحية في دور نموها أعضاء وقتية
تتلاشى بعد انقضاء مدتها ، وأعد لها أعضاء أخرى تنمو في هذه المدة لتخلف
الأولى ، كذلك القوى الجسدية والملكات النفسية تتعاقب ، ويخلف بعضها بعضًا على
نظام محدود ، فإن المولود يذوق قبل أن يبصر ، ويبصر قبل أن يسمع ، والذاكرة
فيه تسبق القوة الحاكمة ، ووجدانه يكون قبل فكره بزمن طويل ، فالحياة من الولادة
إلى الشبيبة ، ومن الشبيبة إلى الشيخوخة مظهر قوى تتعاقب ، ويحيا بعضها بفناء
بعض ، والإنسان من مهده إلى لحده يسلك طريقًا تفرق فيه رفاته ، وبددت في
جوانبه بقاياه.
أنى يكون لنا بعد ذلك موقف في هذه الحركة الدائمة؟ وكيف السبيل إلى غاية
ننتهي إليها؟ فالذي أراه هو أن لكل يوم ما فيه ، وأن أهم ما تلزم به العناية في علم
التربية هو اختيار ما يناسب كل سن من أنفع طرق النمو وأمثلها ، وحينئذ فأنا الآن
أقتصر على الكلام عن التربية في زمن الطفولية اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هذا المكتوب لم يعثر عليه.
(2)
المنار: قلنا في الجزء الأول من المجلد الثاني أن التربية يُبتدأ فيها من ابتداء الحمل، وهذا هو المعقول الموافق لتعريف التربية الذي يقارب ما قلناه فيه هناك ما يقوله هنا، وزعم بعض الجاهلين أن الإفرنج يقولون: يبتدأ بالتربية في السنة السابعة للولد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(جميع الكتب النافعة) إن علامة اللغة والأدب الأستاذ الشيخ محمد محمود
ابن التلاميد التركزي الشنقيطي الشهير قد جمع في رحلاته وأسفاره في الأقطار كتبًا
نفيسة، منها ما هو نادر الوجود ، وقد وقفها على عامة أهل العلم في بلاده شنقيط
ونظم في هذه الأيام قصيدة غراء ينافس فيها بهذه الكتب ، ويحض فتى من قومه
على الرحلة إليه لكسب العلم وأخذ هذه الكتب قبل وفاته ، وصدَّرها بالحماسة
لتعرض بعض من يدعي العلم ، وقد طبعت وأهديت إلينا نسخة منها فرأينا أن
ننشرها بشرحها المفيد وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إظهار بعض الحسب المذخور لردع كل متعرض مفخور
يا من تعرض لي بالعلم والأدب
…
وهب [1] يسألني عن مقتضى حسبي
عُض الأنامل من غيظ ومت كمدًا
…
وكلْ جنى الجهل واشرب قهوة الغضب
أنا الذي لا أزال الدهر ذا طرب
…
سرًّا وجهرًا لتسياري ومضطربي
لضبط علم وكتب أبتغي بهما
…
وجه الإله وفوزي بعد منقلبي
أنا الذي لا أزال الدهر ذا شغف
…
بنقدي الكتب أبدي خافي الكذب
أنا الذي لا أزال الدهر ذا فرح
…
بما أنميه من علمي ومن كتبي
تجول بي همتى في الأرض مجتهدًا
…
في جمعها من بلاد العجم والعرب
تسرني غربتي في الناس منفردًا لكسبها لا لكسب المال والنشب [2] وما سررت بشيء قد ظفرت به
…
مسرتي بكتاب نلته عربي
ألهو به طول ليلي والنهار معًا
…
مجانبًا لهو خود [3] عذبة الشنب [4]
بيضاء بهكنة [5]
…
هيفاء خرعبة [6] ريا المخلخل لا تدنو من الريب
فدونكم معشري كتبًا مهذبة
…
من حسن ما قد حوت لا ينقضي عجبي
كفيتكم جمعها مستبشرًا جذلاً
…
بشق نفسي بالإيغال في الطلب
يود ذو العلم والفهم الأصيل قوى
…
تصونها فيه بين اللحم والعصب
يحوي معانقها طول الزمان غنى
…
يغني عن الفضة البيضاء والذهب
وحلو طعم معانيها على ظمأ
…
أحلى من البرد الممزوج بالضرب
قد قيدتني بأرض غير أرضكم
…
تقييد عانٍ بلا كبلٍ ولا سبب
وسركم سنكم [7] إبلاً مؤبلة
…
سن المعيدي [8] في السعدان [9] والربب [10]
أليس منكم فتى بالرشد متصف
…
يفري الفريّ [11] ويأتي أعجب العجب
ينمي القتود [12] على عيرانة [13] أجد [14]
…
تقوى على الوخد والتخويد والخبب
يطوي المفاوز قد ضمت جوانحه قلب السليك عدا في الدرع واليلب
حتى ينيخ ببابي غير مكترث
…
لما يلاقيه من هول ومن نصب
فعل الأمين أخي ضوى [15] الذي سبقت له العناية أنضى العيس [16] في طلبي
حث النجائب لا يلوي علي أحد منكم يثبطه عن نيله رُتبي
جاب البراري ثم البحر منصلتًا [17] على ركائب لا تخشى وجى [18] النقب [19]
حتى أناخ لدى البيت الحرام لديّ
…
فحاز ما يبتغي من مرتضى الأرب
قضى المناسك حجا عمرة [20] تفثًا [21]
…
مناسكًا هن حقًّا أصعب القرب [22]
قفاهما حججًا تقتافها عمر [23]
…
في سعيها راحة تنسي أذى التعب
فقرت العين بالجمع الصحيح به
…
وجد في العلم كل الجد بالأدب
وطابت أنفسنا مستمتعين بذا
…
ونال مني يقين العلم من كثب
غذاؤنا العلم صرفًا لا مزاج له
…
من الأغاليط والتمويه والشغب
عشنا معا عيشة في (طيبة) رغدًا
…
وفي البقيع ثوى في أطيب الترب
وسرت منها إلى مصر البلاد وقد
…
صارت لي الآن ملقى الرحل والقتب
كابني نويرة كنا قبلنا وصلا
…
حبل الأخوة بالأشعار والخطب
كمالك وعقيل مالك ومتمم
…
أخو مالك من صحب خير نبي
فقطع الموت حبل الوصل بينهما
…
فلا تواصل يرجى غابر الحقب
هذا وإن لسان الحال ينشدني
…
أبيات مكتسب للكتب محتسب
(إني لما أنا فيه من منافستي
…
فيما شغفت به من هذه الكتب)
(لقد علمت بأن الموت يدركني
…
من قبل أن ينقضي من جمعها أربي)
(ولا أؤمل زادًا للمعاد سوى
…
علم عملت به أو رأفتي بأبي)
_________
(1)
هبَّ: شرع وطفق.
(2)
النشب بالتحريك المال.
(3)
الخود بالفتح الشابة الناعمة.
(4)
الشنب بالتحريك برد الأسنان والفم وهو تفسير الأصمعي.
(5)
البهكنة: الشابة الغضة ويقال: شاب بهكن.
(6)
الخرعبة: اللينة الرخصة الكاملة الحسن.
(7)
سن الإبل: إذا أحسن القيام عليها.
(8)
قوله: سن المعيدي تلميحاً لقول النابغة:
ضلت حلومهم عنهم وغرهم
…
سن المعيدي في روعي وتعزيب
(9)
السعدان: نبت من أفضل مراعي الإبل ومنه المثل (مرعى ولا كالسعدان) .
(10)
الربب كعنب جمع ربة وهو نبت وقيل الخروب.
(11)
يفري الفري ، أي: يأتي بالعجب ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب:(فلم أر عبقريًّا يفري فريه) .
(12)
القتود جمع قتد وهو أعواد الرحل.
(13)
العيرانة: الناقة المشبهة بعير الوحش في القوة والصلابة.
(14)
الأجد بضمين القوية الظهر المأمونة الدبر، والوخد بالفتح نوع من سير الابل ، والتخويد سرعة السير والخبب بالتحريك أدنى من التخويد.
(15)
الضو بالكسر الأخ الشقيق وله معانٍ غير ذلك.
(16)
العيس: جمع أعيس وعيساء، وهي الإبل التي يخالط بياضها صهبة.
(17)
منصلتًا ماضيًا سابقًا.
(18)
الوجى بالتحريك حفًا وظلع يطرأ لذي الحافر ، والحف لطول السير.
(19)
النقب بالتحريك رقة باطن خف الناقة، ومنه قول الأعرابي يخاطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أقسم بالله أبو حفص عمر
…
ما مسها من نقب ولا دبر
(20)
العمرة معلومة وهي الحج الأصغر قال تعالى: [وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ](البقرة: 196) .
(21)
التفث بالتحريك الشعث ونحو قص الأظافر وحلق العانة وهو المراد بقوله تعالى: وليقضوا تفثهم ، ومنه الحاج أشعث أغبر.
(22)
القرب كصرد جمع مقربة وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى.
(23)
عُمر: جمع عمرة وبه سمي عمر بن الخطاب، ومن قبله ومن بعده، وهذا من أدل دليل قاطع على وجوب صرف عمر وبهتان من يدعي غير ذلك لأنه علم منقول عن جمع نكرة ، وكل علم منقول عن جمع نكرة كعمر هذا وغبر وكلاب وضباب وأنصار، وإنما يجب صرفه إتباعًا لأصله ، وهذا مجمع عليه لا يشك فيه عالم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(جمعية شمس الإسلام)
ما نجحت جمعية في القطر المصري كجمعية شمس الإسلام ، ولا خاض
الناس في جمعية كخوضهم فيها ، وكثيرًا ما يكون الخوض والتحامل من أسباب
الفوز والنجاح ، أما نجاح الجمعية فحسبك دليلاً عليه كثرة الفروع التي تتفرع منها
آنًا بعد آن حتى تكرر طبع دفاترها وقسائمها وأوراقها مرارًا.
وإنني أذكر من هذه الفروع الآن ما أتذكره من غير مراجعة الدفاتر وهو
جمعيات حلوان وبني سويف وملوي وديروط وفزارة وأسيوط وطهطا ومنفلوط
والمنيا والفيوم وقلوصنا والجرابيع والشيخ فضل وصدفا والصبحة وصنمو.
وأما الخوض فيها فجدير بأن يثير العجب ، ويحمل على البحث عن السبب ،
فإن في هذه البلاد جمعيات كثيرة لسائر الملل ، ومنها ما هو مشترك بين جميع
الأجناس والملل، فلماذا اهتم الناس بهذه الجمعية دون سواها؟ هل ذلك لأنها على
شيء من الباطل؟ كلا إن هذا مردود من وجوه:
(أحدها) أن الخائضين والمرجفين بها ممن لا يكادون يميزون بين الحق
والباطل ، وهم أميل إلى الثاني منهم إلى الأول ، وحكم من لا يعرف حقيقة
الجمعية من سائر الناس على أقوالهم تختلف باختلاف الأفهام والعقول ، فالعاقل
يرفض كلامهم المتعارض المتناقض ، وما عساه يكون معقولاً في نفسه يتوقف فيه
حتى يظهر له بالاختبار، والفدم الإمَّع يتابع كل قائل على رأيه من غير بصيرة ولا
تمييز.
(ثانيها) أن المرجفين قد خلقوا عللاً واهية للخوض في هذه الجمعية، وفي
مصر من الجمعيات جمعية تدعو إلى أن يؤاخي المسلم أبناء كل الملل ، ويفضل
إخوته في الجمعية على إخوته في الإسلام ، وينصرهم عليهم ظالمين أو مظلومين
لا أنه يبرهم ويقسط إليهم فقط كما جاء في القرآن ، وآخرين من دون هذه الجمعية
يدعون إلى دين جديد يستدلون عليه حتى بالقرآن ، ويقولون: إن الجائي هو السيد
المسيح عليه الصلاة والسلام وأنه مات وترك وصيًّا هو رئيس الدين الآن ،
والمرجفون بجمعية شمس الإسلام إذا كانوا يحترمون الجمعية الأولى وهي الماسونية
أو كانوا منها فهم لا يحترمون الثانية قطعًا ، ومع ذلك لا يرجفون بها ولا يضادون
أهلها ولا يحادونهم.
(ثالثها) أن ما يقولونه غير معقول في نفسه ، وإننا نخجل من ذكره ،
وكيف لا يخجل المسلم أن يقول: إن بعض المسلمين يخذل عملاً إسلاميًّا شريفًا لأن
الذي وضع أساسه وسن سنته الحسنة ليس من وطنه مع أن دينه يقول له: (الحكمة
ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) فاتباعًا لهذا القول الشريف يجب على
المسلم أن يأخذ كل ما يراه نافعًا لملته وأمته ولو عن مخالفه في الدين ، فهل يكون
على هدي الإسلام إذا كان يرفض ، بل ويخذل الأعمال النافعة للإسلام لأن من قام
بها أولاً غير وطني؟ يا رباه اصرف عنا شر هذه الوطنية العمياء التي مزقت
رابطتنا الملية كل ممزق ، واهدِ قلوب الذين يغشون الناس بها لعلهم يرجعون.
هذا أحد الأسباب الحقيقية للإرجاف بالجمعية ، وثَم أسباب أخرى:
(أحدها) أن بعض الماسون ظنوا أن الجمعية وضعت لمعارضة جمعيتهم ،
وقوَّى عندهم هذا الظن خروج من دخل فيها من الماسونية ، ولذلك رأينا المرجفين بها
كلهم أو جُلهم من الماسون ، وقد انتهى الغلو ببعض المارقين من هؤلاء الأشرار إلى
أن قال ما معناه: كيف تتضاءل الجمعية الماسونية التي وجدت قبل الأنبياء
والمرسلين أمام جمعية شمس كذا.... (وذكر كلمة تليق بمقامه لا ينبغي
أن تكتب) .
(وثانيها) أن في مصر نفرًا من الأشرار قد اتخدوا التجسس والمحْل والسعاية
بين مصر والأستانة معاشًا وأحبولة لاصطياد الرتب والوسامات، فحيثما وَجَدَ هؤلاء
خرقًا وسَّعوه فجعلوه بابًا يدخلون منه إلى غرضهم يجعلون الحبة قبة والشبهة حجة
قاطعة. أذاع هؤلاء أن غرض الجمعية إقامة خلافة عربية ، وإننا نذكر شبههم
التي خدعوا بها بعض الأغرار والسذج وهي:
(1)
علموا أن الجمعية لا تقبل أحدًا فيها من حزب تركيا الفتاة الذين غلوا
في الخوض بمولانا السلطان الأعظم ويطلبون الإصلاح بالقانون الأساسي فقالوا:
إنها لا تقبل أحدًا من الأتراك مطلقًا لأنهم لا يشايعونها على الخلافة العربية.
(2)
علموا أن الجمعية خصوصية لا تبيح لكل أحد أن يحضر اجتماعاتها
لئلا يحضرها السكران والحشاش والأحمق ويختلطوا بكرام الناس، فقالوا: إنها
سرية والدين ليس فيه سر، فلم يبق إلا أنها جمعية سياسية تريد الخلافة العربية ،
ففتحت الجمعية أبوابها لسائر الناس مدة من الزمن فرأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما
هو صريح في الإخلاص للدولة العلية والخلافة العثمانية لا سيما الثناء والدعاء
للحضرة الحميدية فخشي رهط الفتنة أن لا يسمع لهم بعد ذلك قول فأغروا بعض
السفهاء بإحداث الشغب في وقت الاجتماع لتضطر الجمعية إلى الرجوع إلى أصلها
وكذلك كان.
(3)
رأى بعضهم في آخر مجلة الجمعية الرسم الذي ترونه على أعلى
الصفحة الأولى من المنار فقال: إن هذا رمز من الجمعية إلى التاج الذي سيتوج به
الخليفة الذي تنصبه! ! مع أن واضع ذلك الرسم هو جامع الحروف في المطبعة ،
ولم يره أحد من أعضاء الجمعية إلا بعد تمام الطبع وهو موضوع على كثير من
المطبوعات التي طبعت في مطبعة المنار لسائر الناس! !
(4)
علموا أن في الجمعية طبقات ودرجات ، فرتبوا لها وظائف
مخصوصة.
(5)
رأوا في المجلة أن من موضوع الجمعية تعليم الصناعة، فإذا كان لديها
مال وافر تنشئ بعد مدارس التربية والتعليم مدارس الصناعة ، فقالوا: إن الغرض
من الصناعة هو عمل الآلات الحربية لمحاربة الدولة العلية! ! قال بعض الأذكياء
لرجل سمع منه مثل هذا الكلام السخيف وأن الخليفة موجود يبايع: كيف يتصور
العقل أن جمعية يصرح قانونها بأن مالها يصرف على تعليم الدين والفنون
والصنائع يكون غرضها إقامة خلافة ، وهو ما يعجز عنه الملوك والأمراء أصحاب
القوى الحربية ، فأجابه ذلك الأحمق: إنها تقصد أن يكون هذا بعد خمسين سنة أو
أكثر ، قال الذكي: إنكم تزعمون أن خليفتها موجود الآن ولكنكم اختلفتم في تعيين
القطر الذي يقيم فيه، فبهت المرجف الكذاب.
ولم يخجل هؤلاء السعاة المحَّالون من كتابة هذه السخافات وإرسالها إلى دار
الخلافة ويتوقعون عليها الجزاء الأوفى، فقد أخبرنا رجل كان انضوى إلى رهط
الفتنة ثم رجع أن الذي أظهر الوقاحة الكبرى في الجمعية موعود من فلان باشا
وفلان بك برتبة ووسام.
(ثالثها) يوجد رجل حاسد للجمعية لا أذكر اسمه ولا وصفه ولا أشير إليه
بشيء يميزه لأن فضيحة المستور غير جائزة ، ولأن بعض المغترين به لا يصدق
عليه القول فيتهم قائله بالغرض.
هذا الرجل اجتهد في الإغراء والتحريض بإبطال الجمعية لغرض له شخصي
محض يرى أن يفيده جاهًا عريضًا ، هذا ملخص الإرجاف وأسبابه.
وقد استاء أهل الفضل من اللغط والإرجاف بالجمعية وأشفقوا من انحلالها ،
ونبشرهم بأن ما حصل أفاد الجمعية ونفعها ، وأبعد عنها من ليس من أهلها وإنما
دخلها بالغش وسوء الاختيار ، وقد انتكث بفضل الله فتل المفسدين وبطل اجتماعهم
وكانت العاقبة للمتقين ، والحمد لله رب العالمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استماحة وتهنئة
يعلم قراء المنار الكرام أن موعد صدور الجزء الخامس منه هو ثاني أيام عيد
الأضحى السعيد ، وأن العمال يتركون العمل من يوم عرفة، فلهذا ولاضطرار منشئ
المجلة ومحررها إلي السفر قبل العيد بأيام إلي خارج القاهرة نرجو أن يسمحوا لنا
بالجزء المذكور، وإننا نسدي إليهم جزيل الشكر مع التهنئة بالعيد السعيد سلفًا.
قد رأينا ان نجعل قيمة الاشتراك بالمنار في خارج القطر المصري 16 فرنكًا
بتنزيل فرنكين من القيمة السابقة تسهيلاً للاشتراك.
كتب إلينا بعض أهل العلم والفضل من العرب المقيمين في سنغافورة بأن
الرسائل التي جاءتنا من بلاد جاوه نحن وبعض الجرائد العربية في مصر وغيرها
في الطعن بالسيد عثمان بن عقيل فيها تحامل وكذب حمل عليهما الحسد وسوء الظن.
ولا غرابة في ذلك فإن الأمة الآن في طور طفولية في حياتها الاجتماعية ،
والطفل لا يميز في الغالب بين ما ينفعه وما يضره ، وإننا نعرف في هذه البلاد
وغيرها رجالاً من خيار الأفاضل يسيء الناس بهم الظن لشبه وهمية لا تروج إلا
عند الأطفال الذين لا يعقلون.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدنيا والآخرة
] فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ *
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ [[*] .
ذهب قوم إلى أن الإنسان في هذه الدنيا حيوان كسائر الحيوانات، وأنَّ زعم
بعض أفراده أنه مَلك أرضي وأنه أفضل المخلوقات ما جاء إلا من العجب
والغرور ، وأن كماله إنما هو في التمتع باللذات الجسدية بقدر ما يستطيع ، ولا
يحرم نفسه منها إلا لجهله وغروره ، بل تطرف بعض أهل هذا المذهب الحيواني
فقالوا: إن الإنسان أخس من غيره من الحيوانات ، وأنقص في فطرته من كثير من
الحشرات لأنها خلقت مستقلة في شئون معيشتها وخلق هو جاهلاً فاحتاج لتقليدها
والأخذ عنها ، ولولا استعداده للتقليد لما أمكن أن يعيش ويثبت ، والمقلد لا يكون إلا
أنقص من مقلَّده. قالوا: لا يوجد حيوان يقلد الإنسان فيستفيد بتقليده ما يقوم به أوده
ويحفظ حياته ، والإنسان قد قلد كثيرًا من الحيوانات والحشرات ، فإنه تعلم النسج
من العنكبوت ، والهندسة من النحل ، وبناء البيوت من النمل الأبيض ، وتعلم قابيل
ابن آدم من الغراب كيف يواري سوءة أخيه.
وذهب قوم إلى أن الإنسان مَلك روحاني، ولكنه لبس هذا الجسد الحيواني
ليختبر الحالة الحيوانية ويعرف حقيقة العوالم الجسدية فنسي أفراده عالمهم الأصلي،
وشغلهم هذا الثوب العارض عن حقيقتهم، فيجب عليهم أن يجتهدوا في التخلص من
عوائقه والفرار من دواعيه بحسب طاقتهم، وأن يخدموا الروح ويقووا سلطانه حتى
يقطعوا هذه المرحلة الجسدية ويصلوا إلى عالمهم الروحاني (الآخرة) غير منهوكي
القوى، وهناك يكونون أرواحًا تسبح مع الملائكة المقربين في عالم الملكوت الأعلى
حيث لا لذات جسدية كالأكل والشرب وملامسة النساء، أي أن عالم الوجود يخلو من
هذا النوع الذي نسميه (الإنسان) وتنعدم منه اللذات المادية التي سموها بزعمهم
نقائص ، بل يتخيل كثير منهم أن عالم المادة يتلاشى ويضمحل ولا يبقي إلا عالم
الأرواح والروحانيات. ومن العجيب أن أكثر الناس يعظمون أهل هذا المذهب على
اختلاف آرائهم ويعتقدون فيهم الكمال مع أنهم في العمل أقرب إلى المذهب الذي
قبله، والحق هو ما نقصه عليك فيما يلي:
إذا تتعبت أحوال بني آدم في عامة أوقاتهم ، واستخرجت مقاصدهم من جميع
أعمالهم ترى أنها محصورة في تحصيل المنافع ودفع المضار ، وإن شئت فقل:
اجتناب المؤلم واجتلاب الملائم ، وإذا سبرت أفكارهم ووقفت على مذاهبهم في
المنافع التي يتهافتون عليها والمضار التي يهربون منها؛ ترى أنه لا معنى للمنفعة
عندهم إلا اللذة ، ولا معنى للمضرة إلا فقدها ، واللذات منها الجسدي والمادي ومنها
الروحي والعقلي ، والإنسان نزاع بطبيعته إلى كلتا اللذتين ، ولكن اللذة الجسدية
سابقة في الطبيعة ، وحياته الشخصية والنوعية متوقفة عليها فلا يستغني عنها في
وقت من الأوقات ، ولهذين السببين ترسخ فيه وتقوى فتغلب على أختها التي تأتي
بعدها لأن بها تمام الإنسان وكماله. والجزء المتمم المكمل لا يكون كذلك إلا إذا كان
قبله جزء يكون هو مكملاً ومتممًا له. وكل ماهية من الماهيات المركبة التي تكمل
بتمام ما تركبت منه تعدم بعدم أي جزء من أجزائها سواء كان الجزء المعدوم هو
الأول في الوجود أو المرتبة أو كان الثاني ، وما تعدم بعدمه تنقص بنقصه وتصل
إلى كمالها باستيفائه ما هو مستعد له في أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها مع
الاعتدال الذي هو ميزان الفضيلة والكمال.
إذا علمت هذا أيها الناظر المدقق؛ يتبين لك غلط الذين يزعمون أن اللذة
الجسدية نقيصة في الإنسان ، وطلبها ولو مع الاعتدال مذموم عقلاً أو شرعًا كأن
هؤلاء الناس غفلوا عن أنفسهم فجهلوا أن الإنسان مركب من جسد وروح وأن تركه
لدواعي الجسد وما يحفظ وجوده ويصل به إلى كماله هو كتركه دواعي الروح
العاقل وما يصل به إلى كماله، كلاهما خروج بهذا النوع عن نوعيته ، وهو محال لا
يطلبه إلا جاهل. ولو أمكن للإنسان أن يستغني عن اللذات الجسدية ويعيش بدونها
مكتفيًا باللذات الروحية مستغرقًا في المعارف العقلية لكان ملكًا ولم يكن إنسانًا ، ولو
حبس نفسه على اللذات الجسدية ولم يعبأ بما يطالبه به روحه وعقله من تحصيل
اللذات المعنوية لهبط من أفق الإنسانية إلى أرض الحيوانية ، وكان كالبهائم السائمة
والدواب الراعية فالحق الذي لا مرية فيه أن الإنسان لا يكون إنسانًا على وجه
الكمال إلا إذا استوفى لذتي الروح والجسد جميعًا مع الوقوف عند حدود الاعتدال.
هو هكذا في الدنيا وسيكون كذلك في الآخرة لأن الآخرة ليست عالمًا يمحى فيه عالم
المادة من لوح الوجود ويخرج به الإنسان عن كونه إنسانًا وإنما هو عالم يكون
الإنسان به في أعلى أوج الكمال فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير
عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء أو يحجب به عن اللذتين كلتيهما.
بهذا جاء الدين الإسلامي فكان حكمًا عدلاً بين الناس: مليين وفلاسفة ، وحُكمه
هذا ترتاح له النفس المعتدلة ، ويرضى به العقل السليم إذا كان يؤمن بالغيب الممكن
الذي يُخبر به مَن ثبث صدقه بالآيات البينات. نعم إن العقل الجوال لا يرضيه
الأخذ بالإجمال فيطالب بالتفصيل ويسأل عن البرهان والدليل. وقد تكفل له
الإسلام بكل هذا، فإنه لم يكلف أحدًا بأن يأخذ به تقليدًا بل نعى على المقلدين وقال:
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
ليس من غرضنا أن نبين في هذه المقالة وما بعدها ما قصه علينا الدين من
أحوال الآخرة وبيان أنه ممكن منطبق على ما يليق بعدل الله تعالى وفضله ، وإنما
الغرض بيان ما أرشد إليه من الكمال الإنساني في الدنيا والآخرة ، وكيف جمع بين
مصالح الدارين وألف بين مطالب الروح والجسد فوافقت الشريعة نظام الفطرة
والطبيعة لأن كلاًّ منه جل وعز ، ولا يصح في العقل أن الحَكَم العدل يخلق الخليقة
بنظام محكم ثم ينزل شريعة تخل بذلك النظام (وقد أوضحنا هذا من قبل في مقالة
عنوانها (الشريعة والطبيعة والحق والباطل) فليرجع إليها من أراد) وسنبين فيما
يأتي وجه الجمع بين الأمرين ، ونشرح معنى الزهد والقناعة على الوجه الذي
ينطبق على قاعدتنا، فانتظر ما يفتح الله به في الأجزاء التالية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) البقرة: 200-202.
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(2)
من أراسم إلى هيلانة في 11 أغسطس سنة- 185
اعلمي أن تربية الطفل في الأسبوعين الأولين من حياته - بل يصح أن أقول
في الشهرين الأولين منها - تكاد تنحصر في مجرد وقايته مما عساه يؤذيه من
المؤثرات الخارجية ، فهي ترجع إلى نوع من انتظار الفطرة ومراقبتها في عملها ،
وإعانتها عليه عند الحاجة.
إن المولود يدخل عند ولادته فيما اصطلح علماء وظائف الأعضاء تسميته
بالحياة المستقلة ، ولكن ما أضعف استقلاله وأقل حريته ، فإنه بما أودع فيه من
غريزة التغذي لا يكاد يُرى إلا ملتقمًا ثدي أمه فتكون معه كالغصن المطعم بآخر ،
فهو إذن تابع لغيره فقير إليه في غذائه وسد حاجات معيشته المادية ، وما أخفى
معنى الإنسانية فيه وأبهمه وهو في هذا الطور من الحياة، فإنه لمَّا كان مغمورًا في
سحابة من الجهالة لم يكن فيه أول أمره على ما يرى من حالة أدنى إدراك ظاهر لما
يضطرب حوله من الأشياء.
مسكين ذلك المولود الأعمى ! فإنه لا يجد ثدي أمه إلا بتلمسه، نعم إن له عينين
لكنه لا يبصر بهما ، وأذنين غير أنه لا يسمع بهما ويدين إلا أنه لما يتيسر له
أن يبطش بهما.
هذا المولود الذي هو وثن لأمه تعبده وتخصه بفرط محبتها، قريب الشبه
بالآلهة [1] الزمنى الذين سَخَرت منهم التوراة، لكنه على ما فيه من الضعف والعجز
قد خلقت له وظيفة مهمة يؤديها في العالم ألا وهي النمو.
فوظيفة الأم تكاد تنتهي إلى عدم إعاقة هذا العمل الفطري الخفي والتحرز من
تشويشه ، وإني طالما أعجبت بما تهديه إليها في ذلك أنثى الطير من الأسوة الحسنة
فإنها لشد ما تعتني بحجب ذخرها الحي عن دنس الأنظار ، وتبالغ في إخفائه بعشها
المستتر تحت أغصان الأشجار ، والمرأة أقل منها دراية بما يجب للأولاد؛ لأننا
كثيرًا ما نراها تتخذ مولودها ألعوبة لشفقتها وحنانها.
وماذا نقول في أمهات ما ينفككن يرين الأجانب أولادهن، فيُدِرنهم من يد إلى يد
ويُهِجن انفعالاتهم بما يتصنعنه لهم من الحركات والإشارات ، ويعذبنهم بالملاطفات
المنبعثة عن جنون الشغف بهم ، أقول قولاً لا أود منك إذاعته وهو: إني أخشى
أنهن في ذلك ينظرن إلى تسليهن أو إلى زهوهن أكثر من نظرهن إلى مصلحة
الطفل.
والحذر الحذر أيضًا من بعض الأوهام الشعرية، فإن شعراء هذا العصر وكُتابه
قد بالغوا في إطراء الطفل، فإنهم قد حَبَّب إليهم الخيال أن يروا فيه ملِكًا نزل من
الجنة تاركًا فيها جناحيه.
إني في الحقيقة لا أعرف من أين أتى ولكن رأيي فيه هو أنه إذا كان قد رأى
عجائب في عالم آخر فقلما يذكر منها شيئًا ، وأنه إنما يُحصِّل علومه جميعها بيننا ،
وسأبين لك في الرسالة التالية كيف يُحصِّل هذه العلوم. اهـ
(3)
من أراسم إلى هيلانه في 12 أغسطس سنة- 185
إن أول زمن في حياتنا نكون فيه أكثر تعلمًا وأشد تحصيلاً هو ذلك الزمن
الذي لا يعلمنا القائمون علينا فيه شيئًا تعليمًا نظاميًّا ، فجميع الأمهات يعرفن أن
الطفل يترقى في تحصيل العلوم من الشهرين الأولين من حياته إلى أن يبلغ ستة
أشهر ترقيًا غير معهود في هذا السن ، وقد حسب له بعض علماء وظائف الأعضاء
ما يكتسبه من العلوم وهو في سن شهرين إلى أن يبلغ سنتين أو ثلاثًا من عمره
فوجد أنه يكتسب منها ثلث ما يكتفي بتحصيله أوساط الناس ، فأنى له هذه التربية
الأولى؟ نعم إنه لا ينكر أن لأمه دخلاً فيها ، ولكن أخص مؤثر في تحصيله تلك
العلوم هو ملامسته لما يحيط به من الأشياء ، وتناول مشاعره إياها فهذا الينبوع
الأصلي من ينابيع العلم الإنساني وأعني به الاحتكاك بالأشياء وتناولها بالحواس هو
الذي أريد توجيه فكرك إليه.
ولننظر ابتداء إلى ما يجري في الواقع، فالمولود في مدة الأسابيع الأولى من
ولادته يكون مخه لا يزال في غاية الرخاوة ، وأعضاؤه المعدة لمعيشة الاختلاط بما
حوله في نهاية العجز عن إجابة داعي ما يختلف به من الأشياء إجابة يكون من
ورائها عمل ، فإنه يرى جميع هذه الأشياء كأنها شفق فلا يميز منها شيئًا ، ويسهِّل
لك الاقتناع بذلك ما ترينه فيه من الغفلة عن وجودها ، وعدم المبالاة بها ، ثم تتدرج
انفعالاته بعد ذلك في التيقظ لها فيكون مثله في هذا التيقظ بعد خموده كمثل صنم
ممنون [2] يكون ساكتًا فإذا انصبت عليه أشعة الشمس جعل يصوت كما تعلمينه.
هذا هو شأن الطفل فإنه ينتعش بما حوله انتعاش ذلك الصنم بالشمس، إن سُمي
هذا انتعاشًا.
هل يتعلم المولود الإبصار والسماع أم يأتيانه عفوًا؟ تلك مسألة صعُب كثيرًا
على المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء الاتفاق على الإجابة عنها، فلهم فيها أقوال
مختلفة ، ولكن الذي أجمعوا عليه أن المولود يتعلم بالتمرين إجادة هذين الفعلين ،
فليكفنا ذلك من جواب هذه المسألة ، والحكمة في هذا أنه من السنن الإلهية أن كل
عضو يحسن عمل ما واظب عليه ، وفوق ذلك فإن قوة الانفعالات عند الطفل تزداد
يومًا فيومًا بما يجده من اللذة في استخدام ما أوتيه من وسائل العلم الصغرى فقد قال
بسويه [3] : إن لذة الاحساس قوية جدًّا.
الإحساس في الغالب يحصل في المولودين عفوًا من غير معاناة تعليم ، فلا
يحتاج معظمهم إلى تعلم اللمس والذوق والإبصار والسماع ، بل إنهم يجدون فيما
وهبهم الله من الغرائز ما يلزم من القوة لإجراء هذه الأفعال التي هي من مقتضيات
الحياة ، ولكن أليس في قوة اقتداء الطفل بغيره ومنافسته إياه ، وفي تخيله الأشياء
المحيطة به لتزداد رونقًا يستلفت نظره إليها ما يساعد على تنبيه مشاعره ، ودفعها
إلى إجراء ما خلقت لأجله؟ إننا نرى في البهائم أن أنثاها لا تكف عن إرشاد
صغارها إلى استخدام حاستي السمع والبصر ، وحملها على الانتفاع بهما وهذا
الإرشاد هو السبب على ما أرى فيما يوجد من القوى المدهشة لبعض الفصائل
الحيوانية.
كذلك المتوحش كما تعلمين يكاد يكون نصيبه من التربية قاصرًا على
المشاعر، ولشد ما برز علينا بهذا السبب في بعض القوى ، فالعادة والرياضة البدنية
وطريقة المعيشة تنمي في الأجيال البدوية جملة أنواع من الإدراك خارقة للعادة في
دقتها وسعتها.
وإذا سأل سائل عن سبب فقد الإنسان بعض هذه المواهب الأصلية بتمدنه؛
اكتفينا في الجواب عن ذلك بتوجيه نظره إلى ما حصل في بعض أنواع الحيوان من
ضروب التغير عند انتقالها من حالة التوحش إلى حالة الاستئناس، فمن ذا الذي كان
يظن أن الأرانب إذا تربت في خابية نسيت بعد ثلاث بطون طريقة احتفار الأجحار
للسكنى بها ، وهذا الخروف نفسه الذي نعتبره مثالاً للذل وسلاسة القياد والغباوة،
لم يكن كما نراه اليوم في جميع الأزمان، فإن أصله الذي تولد منه وهو الكبش
الوحشي على عكسه في الطباع؛ لأنه حيوان جريء يزهى بالمخاطرة بنفسه في
جبال قورصه [4] ، ويقاوم من يبتغي صيده من الصيادين ، فجعله الإنسان خروفًا
أهليًّا بزربه - أي ببناء زريبة له - وتوظيف راعٍ للقيام عليه وكلاب لحراسته.
كذلك الإنسان كلما تهذبت أخلاقه بالتمدن وتحضر؛ تدرج في التخلي عن بعض
خواص معيشته الوحشية فأي حاجة تبقى له في أن يكون دائم التيقظ للمحافظة على
نفسه إذا كان غيره يسهر لحفظه وكلاءته ، فمراقبة الحيوان المؤذي من بعيد
وإلصاق الأذن بالأرض لمعرفة خطا العدو من بُعد ألفي أو ثلاثة آلاف ميل لا
ضرورة لهما إلا في حق سكان أمريكا وأوستراليا الأصليين أما نحن ففي حالتنا
العمرانية ما يغنينا عن ذلك ، فإن لنا الشرطي والجندي اللذين نستأجرهما ليدفعا عنا
ما نخشاه من أذى المعتدين وكيد الخائنين ، فإذا زال الخطر الملازم للمعيشة البدوية
بالتحضر؛ وجب حتمًا أن يزول معه ما كان لحاستي السمع والبصر من الدقة
العجيبة التي هي عون وجدان المحافظة على النفس.
كأني بك تقولين: إن هذه المزايا الجسدية لم تكن شيئًا مذكورًا في جانب
القوى التي خلقها الإنسان في نفسه بارتقاء التمدن إن صح أن ينسب له الخلق ، وأنا
بلا شك موافق لك في هذا ، فإننا - والحق يقال- قد ربحنا من الحضارة أكثر مما
خسرنا ، ولكن هيهات أن يقنعني هذا الفكر لأني أرى أنه كان يجب على الإنسان
في العصر الحاضر أن يستجمع في شخصه جميع المواهب التي كانت لمن عمروا
الأرض من قبله ، وكوني على يقين من أننا لو بلغنا هذه الغاية ما عُد ذلك منا
إفراطًا في الغنى ، ولا وصلنا في الحياة مطلقًا إلى درجة تكفي لأن نمثل فيها كل ما
من شأنه أن يحيا ، وإن قوى الإدراك الحسية تكاد تكون في لزومها لفهم معنى
وجودنا مساوية للقوى الفكرية.
أما كون التمدن يزيد الثقة في المعاملات بين الناس ويقوي روابطهم الاجتماعية ،
ويغالب على الدوام العوامل الفطرية مغالبة يقلل بها جدًّا عدد البلايا التي تجعل
البدوي على خطر من حياته - فهذا كله في غاية الحُسن، وأما كون الشرطة تحفظ
الأرواح والأموال فهذا أمر لا أجد مساغًا للطعن فيه ، وإنما كل الذي آسف عليه من
ذلك هو أن طريقة الحفظ هذه تصير مدعاة كسل وخمود لمشاعرنا ، وقد أدركت ذلك
الأمم المتمدنة أنفسها تمام الإدراك فإنها قد أبقت من عاداتها القديمة بعض
الرياضيات البدنية التي لم يبق لوجودها أدنى موجب إن لم تكن قد اعتبرتها من
وسائل إحياء قوى الفطرة الأصلية ، وذلك كالصيد وألعاب المبارزة والمصارعة
مثلاً.
ولو أن رجالاً تلاكموا في الطريق لقبض عليهم الشرطيون ، وساقوهم إلى
المحاكمة مع أنهم لم يفعلوا إلا ما يفعله الملاكمون من شباننا في ملاعبهم الرياضية
(محال الجنباز) .
إني أرى - ما لم أكن مخطئًا أن الترقي في مجموع الآلات التي نستخدمها لسد
حاجاتنا لا بد أنه يستتبع زيادة التكلف في استعمال القوى العضلية بمجتمعاتنا ، وإلا
لأصبح الإنسان عما قليل بسبب إحلاله الآلات محله في مشيه وعمله وكفاحه شبيهًا
بباشا غشيه خدر الترفه ، وغرق في فتور البطالة [5] فلابد لمنع تطرق الفساد إلى
النسل من انهماك الناشئين في كل أنواع اللعب التي هي في الظاهر غير مفيدة لكنها
في الحقيقة معدة لحفظ قوة الجسم ، ولولا هذه الألعاب المقاومة للضعف والانحلال
لكانت اختراعاتنا نفسها سببًا في انحطاط الدولاب [6] الإنساني من عرش سيادته.
العلم أيضًا يفرغ جهده ، وينفذ مهاراته وحذقه في تكميل نقص أعضائنا بما
يوجده لها من طرق المساعدة في أداء وظائفها ، وإني لكثير الإعجاب كجميع الناس
باكتشاف المنظار المقرب أو المرقب (التلسكوب) لأنه جم الفوائد ، ولكن
المتوحش الأمريكي ذا الجلد الأحمر لا يحتاج في اكتشاف نقطة فوق الأفق إلى شيء
يطيل به بصره سوى ما استقر فيه من الاعتياد على إرسال أشعة بصره المجرد
لتنفذ في المسافات السحيقة ، وتأتي إليه بصور ما فيها من الأشياء.
أليس في إعانة المشاعر بالآلات على القيام بوظائفها رفع جزء من ثقة
الإنسان بفطرته التي قضت بأن يفوق الوحشي المتمدن ولو من بعض الوجوه ،
وإني لا أريد بهذا (كما لا يخفى عليك) وجوب الاستغناء مطلقًا عن مكتشفات العلم
والصناعة ، وإنما أريد به أن لا تتخذ مزايا المدنية ذريعة إلى إنشاء الطفل المتمدن
مترفًا جبانًا قصير النظر وأنه سيأول أمره إلى ذلك إذا اعتاد في كل شئونه على
ترقي وسائلنا الصناعية ، ولم يجعل لنفسه وقوة أعضائه نصيبًا من ارتكانه عليهما.
ألا توجد طريقة لاسترجاع جزء من الخواص الأصلية التي أضاعها منا
الانغماس في التمدن؟ قد يوجد لذلك سبيل، فكثيرًا ما فكرت في الوظيفة العمرانية
للأصناف الإنسانية التي نعتبرها أحط من صنفنا لوقوفها عند أخلاق الطفولية ،
وسألت نفسي غير مرة عما إذا لم تكن هذه الأصناف معدة لسد خلل فينا ، وهو
القضاء الذي يحول بيننا وبين حالتنا الفطرية.
الصنف الأسود في كثير من ولايات أمريكا الجنوبية هو الذي يُعهد إليه خاصة
بتربية مولودي الصنف الأبيض، فنساؤه مراضع بارعات لهؤلاء المولودين ،
والرجال يمرنونهم على حسن النظر والسمع ، ولذلك كانت تربية الأحداث
الأمريكيين أوفق لمقتضى العقل بكثير من التربية عندنا ، فإن المربين هناك
يجتهدون في أن يعطوا الأطفال مشاعر قبل أن يعطوهم عقولاً، على أن التعبير
بالإعطاء هنا خطأ؛ لأن التربية لا تعطي شيئًا للطفل ، وإنما تنمي ما هو موجود
فيه ، فكم من القوى الجسدية التي لا يشك في وجودها فيه تبقى كامنة بمجرد إغفال
استعمالها.
نعم إن مجتمعاتنا المؤلفة من أشخاص كبار في السن متأنقين لا تخلو من
منبهات المشاعر ، ولكن هل تلائم أنديتنا وزخرفنا حالة الطفل الملائمة المطلوبة؟
كلا فإنه يولد محبًّا للاستطلاع مقلدًا لما يراه ، ففي إيجاده في مثل هذه الأندية جذب
له إلى أذواق لم تخلق فيه ، ولا تناسب سنه ، وقلما يكتسب من يتربى من الأطفال
في هذه البيئة الصناعية الذوق الفطري فيما بعد ، فأنا أفضل كثيرًا أن يتربى أميل
في الريف حيث يوجد كل شئ على حقيقته ، ويصل إلى مخ الطفل قبل أن تغير
مواضعاتنا شيئًا من صورته.
جميع المشتغلين بوظائف الأعضاء معترفون بما لتربية المشاعر من الأهمية،
بل إن بعضهم قد أوصى باتخاذ بعض الرياضات لتربية البصر والسمع واللمس
وغيرها في الصغر ، ولكني لا أخفي عنك أن مثل هذه الرياضات قليلة الفائدة فلا
تثقي بها كثيرًا ، فإن كل ما يفكر الطفل بالرياضة والعمل يتعبه ويسئمه ، فالواجب
على ما أرى أن يعتمد في تنبيه طرق الإحساس لهذا المخلوق الصغير على ما
يروق نفسه ويجذبها من غير أن يظهر فيه قصد التعليم والتربية.
والأم هي التي من وظائفها اختيار الانفعالات التي تنشأ من الأصوات
والأشكال والألوان والروائح والطعوم وتنويع هذه الانفعالات وتدريجها ، فعليها أن
تجري في ذلك حسب مقتضيات الأحوال ، والعالم الخارجي لا يقتضي سوى الولوج
إلى نفس الطفل من طريق مشاعره فيكفي في ذلك أن يبقى هذا الطريق مفتوحًا مع
تنبيهه عند مسيس الحاجة إلى ما يستحق التنبيه.
القوى الجسدية والقوى النفسية وإن كانت متمايزة منفصلاً بعضها عن بعض
إلا أن بينها رابطة تربطها، فإن صحة أنواع التصورات ليست بمعزل عن صحة
التصديقات ، وإن الذهن بما يتمثل فيه من صور المدركات يهيئ مواد الفكر ،
فيجب أن تكون تربية المشاعر ابتداءً مقصودًا بها تربية العقل اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لعل هؤلاء الآلهة هم الذين سخر منهم سيدنا إلياس عليه السلام لما أراد أن يتحدى أمته بقبول الله قربانه إذ طلب اليهم أن يقربوا ثورًا لآلهتهم ، ويقرب هو آخر لإلهه ليظهر أي الآلهة يقبل قربان عباده فقربوا ثورهم ، ودعوا بعلاً إلههم من الصباح إلى الظهر لينزل نارًا تأكله فلم يجبهم فسخر منهم نبي الله ، وقال: ثابروا على الدعاء فلعله نائم.
(2)
ممنون في أساطير اليونان هو ابن الفجر وابن تيتون ملك الحبشة وهو أيضًا اسم لتمثال معبود مصري كانوا يعبدونه في طيبة وكان صنعه على طريقة علمية بحيث أن الشمس لما كانت تطلع عليه كان يسمع له صوت ناشئ من حركة الهواء بسبب حرارة الشمس.
(3)
بسويه هو جاك بيننبي بسويه المولود في ديجون سنة 1627 والمتوفى سنة 1704 كان أسقفًا لكندوم ثم مو ثم صار مربيًا لولي عهد لويز الرابع عشر وهو من أكبر كتاب فرنسا وأعظم واعظ نبغ فيها.
(4)
قورصة جزيرة بالبحر الأبيض المتوسط وهي إحدى مقاطعات فرنسا على بعد 270 كيلو متر من شواطئها.
(5)
ليتأمل القارئ اعتقاد علماء الإفرنج في أعاظم رجال الشرق (الباشاوات) وليحكم فيه بإنصاف.
(6)
المراد بالدولاب الإنساني جسم الإنسان بما فيه من الأعضاء والقوى فإنه شبيه به.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدرسة زعزوع بك للبنين
أنشأ سيد أحمد بك زعزوع مدرسة في بني سويف ، ففرح المسلمون بذلك
واستبشروا بهذا العمل الشريف والخدمة الإسلامية الجليلة ، ولما تبين أنه جعل
لأكابر رجال الحكومة في بلدها حق النظر في إداراتها، ظن الناس أن هذا يحول
دون التربية الإسلامية التي يجب أن تقرن بالتعليم لأجل بث روح التهذيب الملي في
النشء الجديد ، وأنشأ بعض المتبجحين بالوطنية أو انتقاد الحكومة ومعارفها مدرسة
وبشر الناس بأن سيكون امتيازها على سائر المدارس بالتوسع بتعليم الدين
والتربية الوطنية ، فتوهم الذين يعتقدون الكمال بكل من ينتقد الحكومة أن هذه
المدرسة هي ضالة الأمة المنشودة؛ فأخطأ الظن وضل الوهم في المدرستين ،
وتبين بالاختبار أن مدرسة زعزوع بك منبع الحياة الملية ، فالتلامذة يتلقون القرآن
الكريم مع تفسيره إجمالاً فما بالك بسائر العلوم الدينية؟ ويُصَلُّون في المدرسة
أجمعين ، وليس في المدرسة الوطنية التي أشرنا إليها شيء من هذا.
مدرسة زعزوع بك اختبرتها بنفسي مرتين ، والمدرسة الوطنية الأخرى
علمت ممن يوثق به من أهلها أن التلامذة لا يُلزمون فيها بالصلاة ، وأنها دون
مدارس الحكومة في تعليم الدين.
وإنما قلنا هذا لأن الثناء بالصدق والانتقاد بالحق من أعظم أسباب الترقي
والكمال.
لا خلاف بين العقلاء في أن العناية بالتربية أهم من العناية بالتعليم لأن الذي
يتعلم ولا يتربى ربما يضر بعلمه أكثر مما ينفع، وقد رأيت بنفسي في مدرسة
زعزوع بك ما ملأ قلبي سرورًا ورجاء بحسن المستقبل ، وإنني أذكر مسألة واحدة
يقاس عليها.
دخلنا مع حضرة ناظر المدرسة الفاضل على صف ابتدائي يتعلم القرآن
الكريم بالتجويد حفظًا ، فقرأ علينا غير واحد من التلامذة ، وأوقف الناظر واحدًا
منهم لم يكن حفظه جيدًا ، ثم قال للتلامذة: إنني أذكر لكم واقعة حدثت لأحد تلامذة
المدارس ، وأطلب منكم إبداء رأيكم فيها ، وهي أن تلميذًا ضرب في الطريق تلميذًا
آخر من مدرسته فبماذا ينبغي أن يعاقبه أبوه على هذا الذنب؟ فقال أحدهم:
ينصحه بأن مثل هذا العمل يجعله ممقوتًا ومبغوضًا بين الناس
…
وقال آخر: يهدده
بمعاقبة الحكومة
…
وقال ثالث: يضربه ، فانتهر الناظر هذا وخطَّأه ، ثم قال لهم:
إن من رأيي أنا أن يفصل أبوه بينه وبين إخوته ويقول له: إذا كنت تؤذي إخوتك
في المدرسة فلا يبعُد أن تؤذي إخوتك في النسب ، وإنني أخشى من مخالطتك
لإخوتك أن يتعلموا الشراسة والتعدي ومفاسد الأخلاق منك ، فالأولى أن تكون خليعًا
لينجو إخوتك من شرِّك.
ثم قال لهم: واعلموا أن ذلك التلميذ الضارب جعله فساد أخلاقه أسوأ التلامذة
حفظًا وتعلمًا ، وربما تتعجبون إن قلت لكم: إنه من مدرستنا هذه (فشخصوا عند
هذا بأبصارهم) بل هو من صفكم هذا ، وموجود معكم الآن ، وستعرفونه فطفقوا
يلتفتون يمينًا وشمالاً وذلك التلميذ السيئ الحفظ واقف شاخص لا يبدي حراكًا، فالتفت
إليه الناظر وقال: ألست أنت المقترف لهذا الذنب يا فلان؟ فأراد أن يدافع عن
نفسه بالإنكار فقلنا له: لا تضم جريمة الكذب إلى جريمة الضرب.
وقال له الناظر: إنني سأعاقبك بما قلت أنه ينبغي لأبيك أن يعاقبك به بأن
آمر التلامذة جميعًا باجتنابك وعدم مكالمتك بعد ما أذكر لهم جريمتك عندما
يجتمعون عمومًا للانصراف؛ لئلا نفسد أخلاقهم بمعاشرتك ، أو يصيبهم الأذى من
شراستك ، ففاضت العبرة من عيني التلميذ المذنب ، وصارت الدموع تجري على
خديه ، وتنحدر إلى الأرض من غير نشيج ولا كلام.
فعند هذا شفعت فيه على أنه يتوب توبة نصوحًا ، فقبل الناظر الشفاعة على
شرط أن يطرده من المدرسة إذا هو عاد إلى مثل جريمته طردًا ، فهكذا هكذا تكون
التربية.
مدرسة زعزوع بك للبنات
رأى بعض الأفاضل فتاة معصرًا من بنات الوجهاء في بني سويف لابسة لبسًا
أفرنجيًّا وماشية في الطريق ، فسألها أين تقصد ، فقالت: المدرسة ، فقال: لا
مدرسة اليوم لأنه يوم (أحد) فقالت: إنما أريد الصلاة بها ، فقال: أنت مسلمة
وإذا كنت تصلين صلاة النصارى يغضب أبوك ، وربما يعاقبك ، فقالت: إذا
عاقبني ولم يرض مني فإن الذين علموني لا يتركونني ، ويمكنني أن أكون عندهم
راهبة في الدير! ! فقص الرجل هذه الحكاية على حضرة الفاضل الغيور أحمد بك
زعزوع ، فاستفزته الحمية الملية في الحال إلى تأسيس مدرسة إسلامية للبنات ، وقد
استحضر لها ناظرة فاضلة واستأجر لها محلاًّ مناسبًا ، وكملت الآن بها لوازم التعليم
من المعلمات والمعلمين والأدوات.
وقد وضع لها ناظر مدرسة البنين قانونًا للتعليم مبنيًّا على أساس الحكمة
ومراعاة أهم ما يلزم للبنات ، وسنتكلم عنه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى ،
وننقل بعض نبذ منه ، فعسى أن يبادر جميع المسلمين في بني سويف لإخراج
بناتهم من مدارس الغالين في التعصب لدينهم المسيحي الذين يلزمون بنات المسلمين
إلزامًا بعباداتهم النصرانية ، ويدخلوهم في هذه المدرسة الإسلامية.
وليعلم أن ما ذكرته في سبب تأسيس هذه المدرسة لم أسمعه من حضرة
زعزوع بك نفسه عندما كنت عنده في بني سويف ، وإنما سمعته من آخرين في بلد
آخر.
وعلى كل حال نقول: شكر الله سعي هذا الفاضل الهمام ، وأكثر في المسلمين
من أمثاله.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(سؤال وجواب وعبرة لأولي الألباب)
سأل سائل (اسمه قنديل) بما جاء في أول مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي
نشرت في المنار الماضي من العبارات الثلاث إشارة إلى إعادة مجد الإسلام ، فأنكر
علينا الإشارة بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) إلى أن ما قام
به الإسلام واعتز في أول أمره ، وتركه المسلمون فسلبوا مجدهم وعزهم هو
الذي يرجع به ذلك المجد والعز إليهم ، وسمى هذه الإشارة استنباطًا وقال: إنه
(غير مُسلَّم بل باطل وحرام) .
وقال في الإشارة الثانية ، وهي حديث (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ)
أن الحديث صريح في أن لا إعادة ، وأن رجوع الإسلام كما بدأ من علامات الساعة ،
وهو إنما يكون في آخر الزمان ، وقد جزم السائل بأن هذا الزمن هو آخر أزمان
الدنيا ، فيستحيل بمقتضى الحديث على رأيه وفهمه أن يعود للإسلام مجده ، ولذلك
رتب عليه الاعتراض على المنار في دعوة المسلمين إلى الاتحاد والسعي في إعادة
مجد الملة ، وقال في العبارة الثالثة التي أوردناها في صدر تلك المقالة وهي: (إن
التاريخ يعيد نفسه) أنها استعارة ، والعلاقة فيها بعيدة ، وقد طلب إجراءها للإيضاح
معللاً ذلك بأن الذين يطالعون المنار في البلاد لا يعرفون البلاغة فيفهموا إشاراته
الدقيقة.
ثم اعترض السائل على قولنا: إن ناموس الشريعة الإسلامية لا يتزلزل
ولا يزول؛ بأن الدليل الذي أوردناه عليه (وهو موافقة سنن الله في خلقه التي
أخبر بأنها لا تبدل ولا تحول) غير سديد ، قال: (إذ إخبار الله جل شأنه بأنها لا
تبدل ولا تحول لا ينفي زوالها بالكلية ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء إلى
آخره كما تقولون) وعقب هذا بالإنكار الشديد على التصريح بازدراء العلماء ،
وعدم فهمهم معنى كتاب الله مع أنه لم يستدل أحد منهم بآية كاستدلالنا بالآية التي
تقدمت إلخ- هذا ملخص ما كتبه إلينا السائل من (نكلا العنب) وقد طلب منا نشره
حرفيًّا ، والعذر في عدم إجابة طلبه هذا ما في عبارته من الركاكة والغلط الذي
نتحاماه في المنار ، وإننا نجيبه عن مسائله بما يأتي ، فعسى أن يصادف إنصافًا
وقبولاً.
(1)
إننا قلنا بعد إيراد الآية الكريمة والحديث الشريف والعبارة التي قالها
أحد علماء العمران ما نصه: (ولنوضح هذه الإشارات) ولا يجهل السائل فيما
نظن أن ما يؤخذ من القرآن الكريم بطريق الإشارة لا يسمى استنباطًا ولا تفسيرًا
ولا استدلالاً ، ولم يكن إيراد الآية في كلامنا على سبيل الاستدلال ، وإنما جاء في
جواب من سأل (كيف يعود للإٍسلام مجده إلخ) وقد أردنا به أن مجد الإسلام إنما
يعود كما بدأ أي أن الأصول والأعمال التي أخذ بها المسلمون عند ظهور الإٍسلام
فكان لهم بها ذلك المجد العظيم وزال مجدهم بإهمالها هي التي يعود المجد بالأخذ
بها، وهذا معنًى صحيح ، والأسباب تتصل دائمًا بمسبباتها ، والعلل لا تنفك عن
معلولاتها ، واحتمال الخوارق لا يخل بالقواعد الثوابث ، وقول السائل: إن هذا
باطل بل حرام ، فيه من الجرأة على الفتوى والتحريم ما ليس لمثله أن يقدم عليه ،
وقد ورد في ذلك من القرآن ما ورد.
(2)
حديث (بدأ الإسلام غريبًا) إلخ فيه من بلاغة الإيجاز ما لا يكاد
يوجد إلا في كلام الله ورسوله ، فإنه يدل على أن أهله ينحرفون عن صراطه
بالتأويلات والتقاليد على نحو ما كان ممن قبلهم كما يفسره الحديث الصحيح:
(لتتبعن أو لتركبن (روايتان) سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع)
ومعنى الانحراف مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (وسيعود غريبًا) فإنه إذا
كان معروفًا على حقيقته معمولاً به على جليته ، وقام داعي الإصلاح يدعو إليه لا
يستغرب ، بل لا معنى لعوده غريبًا حينئذ ولا للدعوة إليه ، وقد أخطأ الذين يفهمون
من الحديث أن الإسلام يضمحل ويتلاشى ، ثم لا يعود إليه مجده وعزته لأن هذا
المعنى لا يدل عليه الحديث ، وإنما صريحه أن الإسلام سيظهر مرة ثانية مثل
ظهوره في المرة الأولى ، وظهوره في المرة الأولى كان غريبًا في العالم ، ولكنه
على غرابته استعقب مجدًا كبيرًا وعزة وشرفًا ، وكذلك يكون في الكَرَّة الأخرى إن
شاء الله تعالى رغمًا عن أنوف اليائسين الذين سجلوا على هذه الأمة الشقاء بدينها
إلى يوم الدين.
وأما ضعف الإسلام بانحراف أهله عنه - كما ذكرنا - فإنما جاء بطريق
الاستلزام لا بطريق النص ، وقوله تبعًا لغيره: إن هذا من علامات الساعة؛ لا ينافي
ما نقول، فإن ظهور الإسلام في المرة الأولى من علامات الساعة أيضًا، ونبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم هو نبي الساعة كما ورد في أحاديث كثيرة.
هذا ما نفهمه في الحديث وعلى فهمنا هذا قمنا ندعو المسلمين في المنار إلى
إحياء مجد دينهم بالرجوع إلى ما كان عليه سلفهم الصالح ، ولا آفة ولا بلاء على
المسلمين أشد من الذين يعلمونهم ما يوقعهم في اليأس والقنوط من سعادتهم ومجد
ملتهم لسوء فهمهم وانتحالهم علم الدين ، وهم ليسوا من أهله.
ومن البلاء أن هؤلاء الجهلاء يلبسون لباس العلماء ، ويُعادون الإصلاح باسم
الدين ، وينفِّرون من الداعي إليه بدعوى أنه يحتقر علماء المسلمين! !
(3)
طلب السائل إجراء الاستعارة في كلمة من قال: (إن التاريخ يعيد
نفسه) لأجل أن يفهمها من لا يعرف علوم البلاغة ، وهذا الطلب بهذا التعليل لا
يلوح إلا في أذهان المشتغلين بالعلم على الطريقة الأزهرية.
وظاهر أن سائر المقالة شرح لهذه الكلمة ، وملخصه أن الأمم التي تنتابها
السعادة والشقاوة مرة بعد أخرى إنما تسعد في الكرة الثانية بمثل ما سعدت به في
المرة الأولى ، فيكون تاريخها الحاكي عن حالها أعاد في الكرة الثانية ما كان قصه
وحكاه في المرة الأولى.
هذا ما أراده صاحب الكلمة منها ، وهو بعض علماء أوروبا، ومن البديهي أن
الذي لا يعرف علوم البلاغة لا يكون فهمه للعبارات ببيانها باصطلاحات تلك العلوم.
(4)
قال السائل: إن إخبار الله تعالى بأن سننه لا تبدل ولا تحول، لا
ينفي زوالها بالكلية ، ورتب على زعمه هذا بطلان استدلالنا على أن ناموس الديانة
الإسلامية لا يزول ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء بكونه مبنيًّا على سنن الله
في خلقه.
فيجوز عند هذا العالم النحرير أن يبقى الكون وتزول منه السنن الإلهية التي
بها قوامه ونظامه ، وغرضه من هذه السخافة إقناع الناس بزوال ناموس الدين
الإسلامي ، واليأس من رجوع عزه ومجده! ! اللهم إن هؤلاء الناس أضر على هذه
الأمة المكلومة من أعدائها شياطين الإنس والجن الأقارب منهم والأجانب ، فافصل
بينهم وبينها بالحق وأنت خير الفاصلين ، اللهم إن كتابك وما وهبتنا من العقل
يعلماننا أن الناس إذا اعتقدوا أن السعادة في ما عدا الدين الحق؛ فإنهم يأخذون بما هو
مسعد لهم في دنياهم فقد قلت: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 33) إلخ
الآيات.
وإن قومًا من المنتحلين لعلوم الدين يحاولون إقناع المسلمين بأن دينهم يسجل
عليهم الشقاء في الدنيا، فاصرف اللهم قلوب هذه الأمة المسكينة عن هذا العلم الضار،
واهد قلوب أهله لعلهم يرجعون ، ومن هنا علم من نعني بانتقاد المدعين للعلم.
مسألة فقهية
زرت في هذه الأيام مدينة الفيوم لمعاهدة جمعية شمس الإسلام التي تأسست
فيها ، فرغب إلي كثيرون من أعضاء الجمعية وغيرهم أن أخطب بالناس خطبة
الجمعة في أحسن جوامعها المسمى بجامع الروبي فأجبتهم لذلك ، وكان الذي استأذن
لي خطيبه فضيلة قاضي المديرية، واتفق أن الخطبة جاءت أطول مما اعتاد
الخطباء الذين يخطبون قراءة في الورق أو حفظًا منه ، فتوهم رجل من المشتغلين
بفقه الشافعية أن الصلاة لم تصح؛ لأن الخطبة لمن سبق إذا كانت المساجد التي
يصلى فيها الجمعة متعددة ، وذكر هذا أمام بعض الناس ، فسألوني فبينت لهم الحق
في المسألة وهو:
إن اجتماع وتعارف أهل البلد الذي تقام فيه الجمعة في بيت الله تعالى وعلى
طاعته وتلقيهم المواعظ التي ترشدهم إلى سعادتهم على طريقة واحدة هو الحكمة
الكبرى من هذه العبادة ، فإذا أمكن أن يجتمع الكل في مسجد واحد وتفرقوا في عدة
مساجد يكون تفرقهم خروجًا عن حكمة الاجتماع المقصودة ، وقد ذهب الإمام
الشافعي إلى أن الجمعة الصحيحة قطعًا هي لمن سبق بالصلاة من المتفرقين في عدة
مساجد ، معتبرًا أن الذي تأخر هو الذي عدَّد ، وأن الصلاة الأولى وقعت في محلها
وحيث لا يعلم السابق قطعًا وجب على جميع المعَدِّدين إعادة الظهر ، وأما إذا لم
يمكن اجتماع أهل البلد في مسجد واحد ، وتعددت المساجد للحاجة ولم تزد عنها،
فلا تجب إعادة الظهر على أحد ، وقد علمت أن التعدد في مدينة الفيوم للحاجة بل
إن العامر من مساجدها لا يفي بحاجة أهلها ، وعلى هذا لا تجب إعادة الظهر على
أحد فيها ، ولو فرضنا أن التعدد فيها لغير حاجة فلا يمكن لمن صلى في مسجد منها
أن يجزم بأنه سابق أو مسبوق لنحو طول خطبة أو قصرها؛ لأن ما اتفق حصوله
في هذا الجامع يمكن أن يكون حصل مثله في غيره أيضًا ، فالأمر مبني على
الاحتمال وفي الإعادة احتياط على كل حال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(عثمان باشا الغازي)
نعت إلينا أخبار الأستانة العلية هذا القائد العظيم فكان لنعيه وقع أليم في قلوب
الأمة العثمانية، مليكها الأعظم فمن دونه. وطيره البرق إلى جميع الأقطار كما هو
الشأن في عظماء الرجال ، وسنأتي على ترجمته في الجزء الآتي رحمه الله تعالى
فوق حسناته.
* * *
نبأ غريب (سرقة الآثار النبوية الشريفة)
علمنا من أخبار الأستانة العلية الخصوصية أنه شاع عند الطبقة العالية فيها
أن بعض الآثار الشريفة سرق من قصر (طوب قبو) المحفوظة فيه ، وقد
اضطرب لهذا النبأ الغريب عظماء الدولة ، وكل من طرق سمعه ، فمنهم المصدق
له ، ومنهم من يرى أن الإشاعة يقصد بها التمهيد لنقل الآثار المكرمة من سراي
طوب قبو حيث هي الآن إلى قصر يلدز الأعلى ليتولى مولانا الخليفة المعظم
حفظها بما يحفظ به نفسه الكريمة؛ لأن الخليفة أولى بحفظ آثار من هو خليفة له ،
وليستغني مولانا - أيده الله وأعزه - عن الخروج في كل سنة لزيارتها في اليوم
الموعود (15 رمضان) حسب التقاليد العثمانية ، ومما يستدلون به على ذلك تعلق
الإرادة السَّنية بتأليف لجنة للبحث في ثبوت هذه الآثار وعدمه ، وقد نمى إلينا أن
اللجنة قررت أن الآثار الموجودة في مصر أثبت من الآثار الموجودة في دار الخلافة.
وزعموا أنه كان القصد من تأليفها التشكيك في صحة نسبة هذه الآثار للنبي
صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك عذرًا لمولانا الخليفة الحالي في ترك سنة سلفه
بزيارتها في الاحتفال المشهور ، أما سبب رغبة مولانا السلطان في الاستغناء عن هذه
الزيارة فيعرفه أهل الأستانة جميعًا وكل من يعرف الأستانة أو يعرف ما يجري فيها،
وحسبك منه أن ألوفًا من الجند الباسل لا شغل لهم في ليلهم ونهارهم إلا حفظ الطريق
من يلدز إلى (طوب قبو) حتى إنه قد مات منهم في العام الماضي عدة أشخاص من
شدة البرد في جانب الجسر (الكوبري) ونبشت الأرض مرة في ذلك الطريق إلى
أعماق الثرى لزعم بعض الجواسيس أن فيها ديناميت، فلا عجب إذن في اقتضاء
العاطفة الحميدية إراحة هؤلاء الجنود المخلصين من هذا العناء من حيث تكون الراحة
لمولانا نفسه ، ويتبع ذلك توفير مبلغ غير قليل من النفقات الاحتياطية يمكن أن
يصرف في وجه آخر.
وأما الأتراك فإنه ليكبر على خاصتهم وعامتهم ترك شيء من تقاليد ملوكهم
وخلفائهم السالفين ، وللمتنطعين منهم والمتطرفين في الانتقاد على المابين الهمايوني
أفكار وظنون في مثل هذه المسألة يمنعنا الأدب والاحترام لمولانا أمير المؤمنين
أعزه الله تعالى من ذكرها.
* * *
(القران الميمون)
تم في أوائل هذا الشهر اقتران دولة الأميرة الفاضلة نازلي هانم أفندي بحضرة
المفضال السيد خليل بو حاجب، فيا له من قران وصل بيوت العلماء ببيوت الأمراء
وكان سببه ميل الفضل للفضل وتلاقي النبل بالنبل خلافًا لما عليه الدهماء من
جعل الاقتران منوطًا بالأهواء.
* * *
(جمعية شمس الإسلام)
زرت في الأسبوع الماضي بعض جمعيات الوجه القبلي ، وحمدت الله تعالى
على ما رأيت من النجاح ، وقد تأسست في هذه الأيام جمعيتان فرعيتان إحداهما في
معصرة سمالوط رئيسها حضرة الفاضل إبراهيم أفندي خطر والثانية في بلدة (مير)
التابعة لديروط رئيسها حضرة الفاضل الشيخ نمر إبراهيم، وسنعود إلى الوجه
القبلي في آخر هذا الأسبوع إن شاء الله تعالى ، وقد تمهدت السبل لإنشاء عدة فروع
في بلاد أخرى نذكرها في الجزء الآتي أو الذي بعده. وقد شكا إلي الأستاذ الفاضل
السيد الشيخ محمد خطيب رئيس جمعية الفيوم ونقيب السادة الأشراف فيها من قلة
إقبال الناس على الدخول في الجمعية ، فقلت له: إنما أشكو أنا من كثرتهم
وأطلب منك أن تتربص ، فلا تبادر بقبول كل طالب حتى تعلم أنه مستوفي الشروط ،
وكيف لا أشكو من كثرة الدخول في ذلك الفرع ، وقد دخل فيه ليلة التأسيس
الرسمي زيادة عن ستين رجلاً.
ولقد كان أمر الجمعية مبهمًا عند بعض الناس هناك ، فخطبت فيهم خطبة
مطولة في اجتماع عام أوضحت فيها كل مبهم ، وجلوت كل غامض ، ولا أصف ما
لقيت من الإقبال والحفاوة ، وما رأيت من التأثر بخطبة الجامع وخطبة الجمعية كما
يفعل محبو الفخفخة وإنما أقول: إنني رأيت ما رجوت به أن تكون جمعية الفيوم
من أحسن الجمعيات وأنجحها ، وقد كتب إلي كاتب سر الجمعية يستقدمني إليها مرة
أخرى وسألبي الطلب إن شاء اله تعالى عن قريب.
_________