الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَاّ} (الانفطار: 6-9) لا
تغتر بربك فليس الغرور من لوازم الكرم ، واشكر له نعمة التعديل والتسوية، فإن
الكفران يزيل النعم ، فبهذه النعمة جعلك خليفة في الأرض ، واستعمرك فيها إلى يوم
العرض ، وسخر العوالم العلوية والسفلية ، وذلل لك القوى الطبيعية ، وهداك
النجدين ، وبين لك السنتين ، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وأنزل عليك
الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه ، وسعادتك أو شقاوتك
محصورة فيه ، فأما الذين يقومون بحقوق الاستعمار بحسب السنن الطبيعية؛
فأولئك أصحاب السعادة والخلافة في دنياهم ، وإذا ضموا إليها تزكية الأرواح باتباع
السنن الدينية تمت لهم السعادة في أخراهم ، وأما الذين يجهلون سنة الله في هذه
الأكوان ، ويقصرون بما اقتضته الحكمة الإلهية من العمران؛ فأولئك هم الذين لا
يرون في دنياهم من السعادة فتيلاً ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى
وأضل سبيلاً.
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الحياة
الأبدية ، ويمتعكم بالسعادة الدنيوية والأخروية ، {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) ولو شكرتم لظلت هذه النعم في مزيد {وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)
فلولا كفر النعم لما حلت بنا هذه النقم ، ففاتنا ونحن كثير ، ما كان لنا ونحن
قليل ، حلت بنا الرزايا والمصائب ، وتخطفنا الناس من كل جانب {ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) منح الله آباءنا الأولين ما وعد به عباده المؤمنين ، وما
كان ذلك محاباة وجزافًا ، وحرمنا نحن من تلك السيادة وحيل بيننا وبين هاتيك
السعادة ، وما كان ذلك بخلاً أو إخلافًا ، ولكنه أعطى كلاًّ ما طلبه بلسان حاله ،
واكتسبه بجليل أعماله ، كلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء
ربك محظورًا ، انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر
تفضيلاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ} (الأنفال: 29) بالرجوع إلى سنته
الكونية والدينية والشكر على نعمه النفسية والآفاقية {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: 29) يزيح عنكم الشبهات ، ونورًا تهتدون به في هذه الظلمات ،
{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الأنفال: 29) التي تقاسون بلاءها ، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: 29) ذنوبكم التي تساورون عناءها {وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الأنفال: 29) هداكم بالدين القيم إلى النجاح في الحال ، والفلاح في
المآل ، فمن نجح به فأولئك هم المفلحون ، ومن فاته الربح به فأولئك هم
الخاسرون ، وقد مضت سنة الأولين بأن الناس تبع لرؤسائهم في الدنيا
والدين ، فما غوينا إلا بغوايتهم ، ولا نهتدي إلا بهدايتهم ، فإذا انقطع من الحكام
الرجاء ، فهو لم ينقطع من العلماء {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ
قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) .
إن أولى الناس بتعليق الآمال بالعلماء من دون الحكام والأمراء ، هي الأمة
التي ما ترك دينها رابطة إلا وحلَّها ، وحل بعد ذلك محلها ، حتى أحاط بجميع
المصالح البشرية ، وأوضح محجة الشؤون الروحية والجسدية ، فكل ما أصابته من
السعادة كان يفيض عليها من سماء الدين ، وكل ما أصابها من الشقاء إنما هو
بالانحراف عن صراط الدين ، فلا جرم تكون حياتها بحياة الدين ، وموتها بموت
علماء الدين ، ويصح أن تضيف ما هي فيه من البلاء كله أو بعضه إلى تقصيرهم،
وتنسب ما بقي لها من آثار النعماء إلى ما كان من تشميرهم ، ألم تروا أن ما دخل
عليها من المدنية العصرية بأيدي الأمراء المنسلخين عن المعارف الدينية كان عليها
وبالاً وما زادها إلا خزيًا ونكالاً، بخلاف مدنيتها الزاهية في أيام دولها الماضية ،
وكان وعدًا مفعولاً.
فيا أيتها الامة الإسلامية التي اغتر بعضها بدعاة الوطنية ، فعلقوا آمالهم
بالوساوس الأجنبية ، فانقلبوا بالبعد عن دينهم خاسرين ، واغتر آخرون ببعض
أصحاب العمائم ظانين أن كل ذي عمامة عالم ، فأوهموهم أن طلب السيادة والثروة
منبع المآثم ، وأن المدنية كيفما كانت فهي عدوة للدين ، اعلمي أنه قد أخطأ أولئك
كما أخطأ هؤلاء ، وأوقعوا المسلمين في اختلاف الآراء ، بل ألقوا بينهم العداوة
والبغضاء ، فكانوا في ذلك من الظالمين ، وخلاصة القول وزبدته ، وصفوته
وحقيقته ، أنه لا يرجى لهذه الأمة النجاح والسير في منهاج الفلاح ، إلا بدعاة
ومرشدين يمثلون لها سعادة الدنيا في مرآة الدين ، ويبينون لها كيف جمع القرآن
بين مصالح الدارين ، حيث جعل الناس على قسمين {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا
حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ
سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 200-202) وهذا ما قام يدعو إليه المنار في سنتيه
الماضيتين وهو ما يصيح به الآن على رأس السنة الثالثة ، وقد انتشرت بفضل الله
تعاليمه فأُشربتْها قلوب ولهجت بها ألسنة وكَتَبَ بمواضيعه الكُتَّاب ، وخطب
الخطباء فمن مخطئ ومصيب ومنتقد ومجيب ، وهكذا يكون الأمر في أوله
وستتجلى الحقيقة للناس إن شاء الله عن قريب ، والعاقبة للمتقين.
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا
تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .
_________
الكاتب: العروة الوثقى
التعصب
{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .
لفظ شغل مناطق الناس خصوصًا في البلاد المشرقية تلوكه الألسن ، وترمي
به الأفواه في المحافل والمجامع حتى صار تُكأة للمتكلمين يلجأ إليه العيي في تهتهته
والذملقاني في تفيهقه.
أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير فقلما تكون عبارة إلا وهو فاتحتها أو حشوها أو
خاتمتها ويعدون مسماه علة لكل بلاء ومنبعًا لكل عناء ، ويزعمونه حجابًا كثيفًا وسدًّا
منيعًا بين المتصفين به وبين الفوز والنجاح ، ويجعلونه عنوانًا على النقص وعلمًا
للرذائل.
والمتسربلون بسرابيل الإفرنج الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط ،
لا يميزون بين حق وباطل هم أحرص الناس على التشدق بهذا البَدع الجديد فتراهم
في بيان مفاسد التعصب يهزون الرءوس ويعبثون باللحى ويبرمون السبال ، وإذا
رموا به شخصًا للحط من شأنه أردفوه للتوضيح بلفظ إفرنجي (فناتيك) فإن عهدوا
بشخص نوعًا من المخالفة لمشربهم؛ عَدُّوه متعصبًا وهمزوا به وغمزوا ولمزوا ،
وإذا رأوه عبسوا وبسروا وشمخوا بأنوفهم كبرًا وولوه دبرًا ، ونادوا عليه بالويل
والثبور.
ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ؟ وماذا اتصل بعقولهم من معناه حتى
خالوه مبدأ لكل شناعة ومصدرًا لكل نقيصة؟ وهل لهم وقوف على شيء من
حقيقته؟
التعصب: قيام بالعصبية، من المصادر النِّسبية نسبة إلى العصبية ، وهي قوم
الرجل الذين يعززون قوته ويدفعون عنه الضيم والعداء ، فالتعصب وصف للنفس
الإنسانية تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها ، والذود عن حقه ووجوه الاتصال
تابعة لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها.
هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب وأقام بناء الأمم ، وهو عقد الربط
في كل أمة بل هو المزاج الصحيح، يوحد المتفرق منها تحت اسم واحد وينشئها
بتقدير الله خلقًا واحدًا كبدن تألف من أجزاء وعناصر، تدبره روح واحدة فتكون
كشخص يمتاز في أطواره وشؤونه وسعادته وشقائه عن سائر الأشخاص.
وهذه الوحدة هي مبعث المباراة بين أمة وأمة وقبيل وقبيل ومباهاة كل من
الأمتين المتغالبتين بما يتوفر لها من أسباب الرفاهة وهناء العيش وما تجمعه قواها
من وسائل العزة والمنعة وسمو المقام ونفاذ الكلمة ، والتنافس بين الأمم كالتنافس
بين الأشخاص أعظم باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة
بقدر ما تسعه الطاقة.
التعصب روح كليّ مهبطه هيئة الأمة وصورتها ، وسائر أرواح الأفراد
حواسه ومشاعره، فإذا ألمَّ بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه؛ انفعل الروح
الكلي وجاشت طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحمية العامة ومسعر النعرة الجنسية.
هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات فيما
يعود على الأمة بضرر أو يأول بها إلى سوء عاقبة ، وإن استقامة الطبع ورسوخ
الفضيلة في أمة تكون على حسب درجة التعصب فيها والالتحام بين آحادها، ويكون
كل منهم بمنزلة عضو سليم من بدن حي لا يجد الرأس بارتفاعه غنى عن القدم ،
ولا يرى القدمان في تطرفهما انحطاطًا في رتبة الوجود، وإنما كل يؤدي وظائفه
لحفظ البدن وبقائه.
كلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة بضعف التعصب فيهم؛ استرخت
الأعصاب وَرَثَّت الأطناب ورقَّت الأوتار وتداعى بناء الأمة إلى الانحلال كما
يتداعى بناء البنية البدنية إلى الفناء بعد هذا الروح الكلي ، وتبطل هيئة الأمة وإن
بقيت آحادها فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة إما أن تتصل بأبدان أخرى بحكم
ضرورة الكون ، وإما أن تبقى في قبضة الموت إلى أن ينفخ فيها روح النشأة
الآخرة ، سنة الله في خلقه إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل ، وغفل
بعضهم عن بعض ، وأعقب الغفلة تقطع في الروابط ، وتبعه تقاطع وتدابر فيتسع
للأجانب والعناصر الغريبة مجال التداخل فيهم ولن تقوم لهم قائمة من بعد حتى
يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب في نشأة ثانية.
نعم إن التعصب وصف كسائر الأوصاف له حد اعتدال وطرفا إفراط
وتفريط ، واعتداله هو الكمال الذي بينا مزاياه ، والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا
لرزاياه ، والإفراط فيه مذمة تبعث على الجور والاعتداء ، فالمفرط في تعصبه
يدافع عن الملتحم به بحق وبغير حق ، ويرى عصبته متفردة باستحقاق الكرامة ،
وينظر إلى الأجنبي عنه كما ينظر إلى الهمل ، لا يعترف له بحق ولا يرعى له ذمة ،
فيخرج بذلك عن جادة العدل ، فتنقلب منفعة التعصب إلى مضرة ، ويذهب بهاء الأمة
بل يتقوض مجدها ، فإن العدل قوام الاجتماع الإنساني ، وبه حياة الأمم وكل قوة لا
تخضع للعدل فمصيرها إلى الزوال ، وهذا الحد من الإفراط في التعصب هو
الممقوت على لسان صاحب الشرع صلي الله عليه وسلم في قوله: (ليس منا من
دعا إلى عصبية) الحديث.
التعصب كما يطلق ويراد به النعرة على الجنس ، ومرجعها رابطة
النسب والاجتماع في منبت واحد ، كذلك توسع أهل العرف فيه فأطلقوه على قيام
الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضًا ، والمتنطعون من مقلدة الإفرنج
يخصون هذا النوع منه بالمقت ، ويرمونه بالتعس ، ولا نخال مذهبهم هذا مذهب
العقل ، فإن لحمة يصير بها المتفرقون إلى وحدة تندفع عنها قوة لدفع الغائلات
وكسب الكمالات، لا يختلف شأنها إذا كان مرجعها الدين أو النسب ، وقد كان من
تقدير العزيز العليم وجود الرابطتين في أقوام مختلفة من البشر ، وعن كل منها
صدرت في العالم آثار جليلة يفتخر بها الكون الإنساني ، وليس يوجد عند العقل
أدنى فرق بين مدافعة القريب عن قريبه ومعاونته على حاجات معيشته ، وبين ما
يصدر عن ذلك من المتلاحمين بصلة المعتقد ورابطة المشرب.
فتعصب المشتركين في الدين المتوافقين في أصول العقائد بعضهم لبعض إذا
وقف عند الاعتدال ولم يدفع إلى جور في المعاملة ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم
أو نقض لذمته؛ فهو فضيلة من أجَلِّ الفضائل الإنسانية وأوفرها نفعًا وأجزلها فائدة،
بل هو أقدس رابطة وأعلاها، إذا استحكمت صعدت بذوي المكنة فيها إلى أوج
السيادة وذروة المجد خصوصًا إن كانوا من قبيل قَوِيَ فيهم سلطان الدين ، واشتدت
سطوته على الأهواء الجنسية حتى أشرف بها على الزوال كما في أهل الديانة
الإسلامية على ما أشرنا إليه في العدد الثاني من جريدتنا [1] .
ولا يؤخذ علينا في القول بأنه من أقدس الروابط ، فإنه كما يطمس رسوم
الاختلاف بين أشخاص وآحاد متعددة ، ويصل ما بينهم في المقاصد ،
والعزائم والأعمال ، كذلك يمحو أثر المنابذة والمنافرة بين القبائل والعشائر بل
الأجناس المتخالفة في المنابت واللغات والعادات ، بل المتباعدة في الصور
والأشكال ، ويحوِّل أهواءها المتضاربة إلى قصد واحد وهو تأصيل المجد وتأييد
الشرف وتخليد الذكر تحت الاسم الجامع لهم.
هذا الأثر الجليل عهد لقوة التعصب الديني ، وشهد عليه التاريخ بعدما أرشد
إليه العقل الصحيح ، وما كانت رابطة الجنس لتقوى على شيء منه.
ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني ، وزعموا أن
حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم ، وتضافرهم لدفع ما يلم بدينهم من
غاشية الوهن والضعف هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية ، ويحجبهم
عن نور العلم والمعرفة ، ويرمي بهم في ظلمات الجهل ، ويحملهم على الجور
والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم ، ومن رأي أولئك المتفتقين أن لا سبيل
لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية ومحو أثرها ،
وتخليص العقول من سلطة العقائد ، وكثيرًا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي ،
ويخوضون في نسبة مذامِّ التعصب إليهم.
كذب الخراصون ، إن الدين أول معلم وأرشد أستاذ وأهدى قائد للأنفس إلى
اكتساب العلوم والتوسع في المعارف ، وأرحم مؤدب ، وأبصر مروض يطبع الأرواح
على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة ، ويقيمها على جادة العدل ، وينبه فيها حاسة
الشفقة والرحمة، خصوصًا دين الإسلام فهو الذي رفع أمة كانت من أعرق الأمم في
التوحش والقسوة والخشونة ، وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة والمدنية في أقرب
مدة وهي الأمة العربية.
قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على
التعصب الجنسي فيفضي إلى ظلم وجور ، بل ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين لإبادة
مخالفيهم ومحو وجودهم ، كما قامت الأمم الغربية واندفعت على بلاد الشرق لمحض
الفتك والإبادة لا للفتح ، ولا للدعوة إلى الدين في الحرب الهائلة المعروفة بحرب
الصليب ، وكما فعل الأسبانيوليون بمسلمي الأندلس ، وكما وقع قبل هذا وذاك في
بداية ما حصلت الشوكة للدين المسيحي أن صاحب السلطان من المسيحيين جمع
اليهود في القدس وأحرقهم، إلا أن هذا العارض لمخالفته لأصول الدين قلما تمتد له
مدة ، ثم يرجع أرباب الدين إلى أصوله القائمة على قواعد السلم والرحمة والعدل.
أما أهل الدين الإسلامي فمنهم طوائف شطَّت في تعصبها في الأجيال الماضية
إلا أنه لم يصل بهم الإفراط إلى حد يقصدون فيه الإبادة وإخلاء الأرض من
مخالفيهم في دينهم وما عُهد ذلك في تاريخ المسلمين بعد ما تجاوزوا حدود جزيرة
العرب، ولنا الدليل الأقوم على ما نقول وهو وجود الملل المختلفة في ديارهم إلى الآن
حافظة لعقائدها وعوائدها من يوم تسلطوا عليها وهم في عنفوان القوة وهي في وهن
الضعف.
نعم كان للمسلمين ولع بتوسيع الممالك وامتداد الفتوحات ، وكانت لهم شدة
على من يعارضهم في سلطانهم إلا أنهم كانوا مع ذلك يحفظون حرمة الأديان ،
ويرعون حق الذمة ، ويعرفون لمن خضع لهم من الملل المختلفة حقه ، ويدفعون
عنه غائلة العدوان ومن العقائد الراسخة في نفوسهم (أن من رضي بذمتنا فله ما لنا
وعليه ما علينا) ولم يعدلوا في معاملتهم لغيرهم عن أمر الله في قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ
وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) اللهم إلا ما لا تخلو عنه الطباع البشرية ، ومن نشأة
المسلمين إلى اليوم لم يدفعوا أحدًا من مخالفيهم عن التقدم إلى ما يستحقه من
علو الرتبة وارتفاع المكانة ، ولقد سما في دول المسلمين على اختلافها إلى
المراتب العالية كثير من أرباب الأديان المختلفة ، وكان ذلك في شبيبتها وكمال
قوتها ، ولم يزل الأمر على ما كان، وفي الظن أن الأمم الغربية لم تبلغ هذه
الدرجة من العدل إلى اليوم (فسحقًا لقوم يظنون أن المسلمين بتعصبهم يمنعون
مخالفيهم من حقوقهم) لم يسلك المسلمون من عهد قوتهم مسلك الإلزام بدينهم
والإجبار على قبوله مع شدة بأسهم في بدايات دولهم وتغلغلهم في افتتاح الأقطار ،
واندفاع هممهم للبسطة في المُلك والسلطة، وإنما كانت لهم دعوة يبلغونها فإن قُبلت
وإلا استبدلوا بها رسمًا ماليًّا يقوم مقام الخراج عند غيرهم مع رعاية شروط عادلة تُعلم
من كتب الفقه الإسلامي.
هذا على خلاف متنصرة الرومانيين واليونانيين أيام شوكتهم الأولى ، فإنهم ما
كانوا يطأون أرضًا إلا ويلزمون أهلها بخلع أديانهم والتطوق بدين أولئك
المُسلطين ، وهو الدين المسيحي، كما فعلوا في مصر وسوريا بل وفي البلاد
الإفرنجية نفسها.
هذا فصل من الكلام ساق إليه البيان ، وفيه تبصرة لمن يتبصر ، وتذكرة لمن
يتذكر ، ثم أعود بك إلى سابق الحديث فيما كنا بصدده: هل لعاقل لم يُصَب برزيئة
في عقله أن يعد الاعتدال من التعصب الديني نقيصة؟ وهل يوجد فرق بينه
وبين التعصب الجنسي إلا بما يكون به التعصب الديني أقدس وأطهر وأعم فائدة؟
لا نخال عاقلاً يرتاب في صحة ما قررناه، فما لأولئك القوم يهذون بما لا يدرون؟
أي أصل من أصول العقل يستندون إليه في المفاخرة والمباهاة بالتعصب الجنسي
فقط واعتقاده فضيلة من أشرف الفضائل ويعبرون عنه بمحبة الوطن [2] وأي قاعدة
من قواعد العمران البشري يعتمدون عليها في التهاون بالتعصب الديني المعتدل
وحسبانه نقيصة يجب الترفع عنها؟
نعم إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما هي الرابطة
الدينية ، وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية ولأولئك الإفرنج مطامع
في ديار المسلمين وأوطانهم فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة بين أرباب
الديانة الإسلامية ، وزينوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة ، وفصم حبالها لينقُضوا بذلك
بناء الملة الإسلامية ويمزقوها شيعًا وأحزابًا، فإنهم علموا كما علمنا وعلم
العقلاء أجمعون أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، وتسنى
للمفسدين نجاح في بعض الأقطار الإسلامية ، وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلاً
وتقليدًا فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعد ما فقدوها ، ولم يستبدلوا بها
رابطة الجنس (الوطنية) التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقًا منهم وسفاهة ،
فمثلهم كمثل من هدم بيته قبل أن يهيئ لنفسه مسكنًا سواه؛ فاضطر للإقامة بالعراء
معرَّضًا لفواعل الجو وما تصول به على حياته.
هذا أسلوب من السياسة الأوربية أجادت الدول اختباره ، وجنت ثماره فأخذت
به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم ، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد
العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية ، ولم تُعدم صيدًا من الأمراء
والمنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة ، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من
بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن يميلوا
مع هذه الأهواء الباطلة ، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع بقائهم
على عقائدهم وثباتهم في إيمانهم يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني ، ويلهجون
في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة ، ولا يعلم أولئك
المسلمون أنهم بهذا يشُقون عصاهم ويفسدون شأنهم ، ويخربون بيوتهم بأيديهم
وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة ودفعها إلى
أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء.
والله ما عجَبُنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين
من الأمم الإفرنجية الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين [3] ،
ولا يخجلون من تبشيع التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة.
الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب ، وأحرصهم على القيام
بدواعيه ، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين
والقائمين بنشره ومساعدتهم على نجاح أعمالهم ، وإذا عَدَت عادية مما لا يخلو عنه
الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق
سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية
وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة وحدثت حادثة، مهمة فأجمعوا الأمر وخذوا
الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية ،
وتراهم على اختلافهم في الأجناس وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات
وترقب كل دولة منهم لعثرة الأخرى حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون
ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين ، وإن
كان في أقصى قاصية من الأرض ، ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية.
أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغُمر وجه البسيطة من دماء
المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس ، بل
يتغافلون عنه ويذرونه وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده ، ويذهلون عما
أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والمرحمة الطبيعية كأنما يعدون
الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية ، وليس من نوع الإنسان
الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره ، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين منهم بل
الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم
الديني ، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم ، وليتهم يقفون عند الحق ولكن كثيرًا
ما تجاوزوه.
أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب ، يبلغ الرجل منهم
أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه ، ثم لا نجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها
نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة من روحه (انظر إلى
كتب غلادستون وخطبه السابقة) .
فيا أيتها الأمة المرحومة هذه حياتكم فاحفظوها ، ودماؤكم فلا تريقوها ، وأرواحكم
فلا ترهقوها ، وسعادتكم فلا تبيعوها بثمن دون الموت.
هذه هي روابطكم الدينية لا تغرنكم الوساوس ولا تستهوينكم الترهات ، ولا
تدهشنكم زخارف الباطل ، ارفعوا غطاء الوهم عن باصرة الفهم ، واعتصموا بحبال
الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها التركي بالعربي ، والفارسي
بالهندي ، والمصري بالمغربي ، وقامت لهم مقام الرابطة النَّسبية حتى إن الرجل
منهم ليألم لما يصيب أخاه من عاديات الدهر وإن تناءت دياره وتقاصت أقطاره.
هذه صلة من أمتن الصلات ساقها الله إليكم ، وفيها عزتكم ومنعتكم وسلطانكم
وسيادتكم، فلا توهنوها ، ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل ، فالعدل
أساس الكون وبه قوامه ، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم ، وعليكم أن تتقوا
الله وتلزموا أوامره في حفظ الذمم ومعرفة الحقوق لأربابها ، وحسن المعاملة
وأحكام الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب
الأديان المختلفة ، فإن مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم كما لا تقوم مصالحهم إلا
بمصالحكم ، وعليكم أن لا تجعلوا عصبية الدين وسيلة للعدوان ، وذريعة لانتهاك
الحقوق ، فإن دينكم ينهاكم عن ذلك ويوعدكم عليه بأشد العقاب. هذا ولا تجعلوا
عصبيتكم قاصرة على مجرد ميل بعضكم لبعض ، بل تضافروا بها على مباراة الأمم
في القوة والمنعة والشوكة والسلطان ، ومنافستهم في اكتساب العلوم النافعة والفضائل
والكمالات الإنسانية. اجعلوا عصبيتكم سبيلاً لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم ، وأخذ كل
منكم بيد أخيه ليرفعه من هوة النقص إلي حضيض الكمال ، وتعاونوا على البر
والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(العروة الوثقى)
يقول منشئ هذه المجلة:
(إن الوطنية العمياء التي يلغط بها بعض الناس في مصر هي أضر على
الرابطة الإسلامية من ذم التعصب الديني؛ لأنها ضُرتها وخصيمتها ، ولذلك ترى
أصحابها يمقتون غير المصري ممن يقيم في مصر ، وإن قام لهم بأشرف الخدم
وهي خدمة الدين ، ولا يستحي كتابهم حيث يسجلون في جرائدهم مثل قولهم:
إن هؤلاء غرباء ، وجاءوا بلادنا ليتعيشوا ويتريشوا، وما أشبه هذه السخافات
فوا إسلاماه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
_________
(1)
يشير إلى مقالة نفيسة عنوانها (الجنسية والديانة الإسلامية) وسننشرها في عدد آخر.
(2)
تأمل كيف صرح بأن الذين يحاولون منع التعصب الديني يريدون أن يستبدلوا به التعصب الوطني.
(3)
ذكر هنا من مثال ذلك أن الإنكليز سعوا بنشر جريدة وانشاء مدرسة لبث هذه الأباطيل، حذفناه اختصارًا، وأما في مصر فمن محمل لواء الوطنية يدعي بعض الإنكليز.
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(21)
من هيلانة إلى أراسم في 2 يولية سنة - 185
أترى أن الكمال لا يخلو من نقص والحسن لا يعرى من قبح؟ إني -
والحق أقول - أراني مدفوعة إلى اعتقاد ذلك ببواعث كافية.
فما عاينته من أحوال الإنكليز وأخلاقهم ينطبق انطباقًا تامًّا في بعض المواضع
على ما سمعته عنهم من السير جون سنت أندروز ، ولكن تصفحي هذه الأخلاق
وترديد فكري فيها قد اضطرني إلى الأخذ بالحزم في امتداحها ، وترك المجازفة في
إطرائها.
لأكثر الامهات اللاتي ألاقيهن في بيت السيدة وارنجتون أولاد عديدون، فما
أعجب ما يرى في جميعهم من مقدار تحققهم بما لمخالطيهم من الأوهام وسرعة
انطباع معتقداتهم الباطلة في نفوسهم، فتراهم على قلة علمهم بالأمور يفرقون بين
مطلق رجل والسري المهذب من الرجال ، ومطلق امرأة والسيدة الكريمة من النساء
فرقًا تامًّا ، ويميزون من ولدوا لخدمتهم ممن يجب لهم عليهم الإجلال والتعظيم لأول
نظرة إليهم غير مترددين في ذلك ولا مرتابين ، ويحافظون على شرف الاقتداء بعظماء
الناس في سيرهم لا لأن ذلك مطلوب لذاته ، بل لعدم الإخلال بما تواضع عليه
أولئك العظماء من الآداب. وإني لعلى يقين من أنك لو اطلعت على هذا العالم
الناشئ لوجدت فيه شيئًا من التصلف ، فلشد ما يُرى فيهم من العجرفة ، وما يُبدونه
أمام الأجانب من ظواهر الأبهة الصبيانية.
أليست حقيقة الأمر أن هؤلاء الإنكليز أنفسهم على ما لهم من الحرية الواسعة،
وما فيهم من كمال استحقاقها هم في غاية الخشية والخضوع لرأي الكافة؟ أليس
شأنهم في هذا شأن باسكال [1] الذي يسمي ذلك الرأي ملك الدنيا.
على أنني لا أدري أي تأثير له فيها يستحق به هذه التسمية ، ولكني أخال أنه
له في إنكلترا من السلطان والسيطرة ما ليس مثله لفكتوريا ، فإن جيراننا ينشأون
من صغرهم عبيدًا مختارين لبعض مواضعات قومية ، فيوجبون على أنفسهم تعظيم
ما عظمه جمهور المهذبين من قومهم بدون بحث فيه ولا نظر ، فكل منهم في
سيرته وآرائه تبع لغيره معتمد على ما لهذا الغير من الاعتبار وعلو الكلمة ، وتراهم
في منتدياتهم قليلي الكلام ، بل إن محادثاتهم لا تخرج عن حدود المواضيع التي
قدسها استقرار العادة. فلهم جمل من المعاني والأفكار كأنها تحجرت في أخلاقهم
وعوائدهم ، فأجمعوا على عدم المناظرة والجدال فيها.
إني إلى الآن لم أعرف الإنكليز معرفة تكفي لإدراك سر هذه المباينات ، وإنما
الذي أراه في كبارهم أنهم قد جمعوا بين غاية الاستقلال في أفعالهم وغاية التقليد في
آرائهم ، وأما صغارهم فإنهم كذلك أحرار في حركاتهم وفي معظم ما تتوجه إليه
عزائمهم من أعمالهم ، لكنهم يحجرون على أنفسهم أن تتعلق هذه العزائم من
الأعمال بما يخالف تقاليد أهليهم وآثار سلفهم وعوائد الصالحين من مخالطتهم ،
وربما كانت الحكمة في كل ذلك أن القوم قد رأوا طباعهم تجري بهم في بحر لجي
من الحرية جري السفن مدت شرعها فاضطرهم ذلك إلى طلب مرساة يوقفون بها
جريها فالتمسوها في ضبط الأخلاق البيتية وفي العوائد القومية والأصول الملية
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
باسكال - ويسمي بليز باسكال - هو كاتب ومهندس فرنساوي شهير ولد في كليرمونت فيراند سنة 1623 ومات سنة 1662 ميلادية وله مؤلفات شهيرة منها (أفكار باسكال) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
دار علوم في مكة المكرمة
شكونا غير مرة في المنار من إهمال المعارف والفنون في البلدين المكرمين:
مكة والمدينة مهبط الوحي ومشرق أنوار العلم والحكمة تنبيهًا للدولة العلية
والحضرة السلطانية إلى تدارك ذلك ، وقد ذكرت جريدة الرياض (التي سيأتي
تقريظها) المدرسة الصولتية التي تأسست في مكة المكرمة من نحو ربع قرن ، وأنه
انحط شأنها الآن بسببين، أحدهما: موت النواب محمود علي خان صاحب رئيس
جهتاري من مضاف بلند شهر (رحمه الله تعالى) فإن ذلك الأمير الفاضل كان ركن
هذه المدرسة وعمادها ومبالغًا في إرفادها وإمدادها ، وثانيهما: انتشار الطاعون في
بلاد الهند الذي حال بين مسلمي الهند وبين بلد الله الأمين ، وقد كان للمدرسة في
كل عام وفد عظيم من أغنيائهم ، وحاصل القول: إن المدرسة قد حيل بينها، وبين
موارد ثروتها ، قال صاحب الرياض وأعضاء الشورى (أي في الهند) والمهتمون
بالمدرسة الصولتية يبتغون إقامة (دار علوم) في مكة المكرمة تجمع بين علوم
الدين وعلوم الدنيا حتى الحرف والصنائع ثم قال: (وكفى لمسلمي الهند فخرًا
يباهون به أن ينعقد بتوجههم دار العلوم في أم القرى ، وأنا أردت أن أدور في جميع
أقطار الهند وبلادها وأمصارها لأحشد لها نقودًا، وأرصن بها بناء دار العلوم
لتعليمات الفنون الدنيوية والعلوم الدينية ، وقد جعلني الجناب المولوي محمد سعيد
منتظم المدرسة الصولتية في بلد الله الأمين وكيلاً من قبله في بلاد الهند) ثم
ذكرنا أنه جعل جريدته داعية إلى هذا ، وأنه يعطي لكل من يدفع له شيئًا من النقود
وصولاً (قسيمة) مختومًا بختم المولوي محمد سعيد ، ويتكفل هو بإيصال النقود
إليه.
(اقتراح المنار)
نشكر لإخواننا مسلمي الهند الساعين بهذا العمل المبرور غيرتهم الدينية ،
ونعترف لهم بفضل السبق إليه ، ولكن نحب أن يشاركهم فيه سائر إخوانهم
المسلمين في جميع أقطار الأرض ، ونقترح على مسلمي كل قطر أن يؤلفوا لجنة
للاكتتاب وجمع المال لهذا العمل الشريف يرأسه في كل مصر أحد أهل الفضل
والوجاهة ، وأن يحث عليه الخطباءُ وأصحابُ الجرائد عمومًا ، وأن تكون اللجنة
العليا في مكة المكرمة نفسها ، وأن يكون بينها وبين سائر اللجان اتصال بالمكاتبة ،
وأن تعهد كل لجنة من لجان الآفاق إلى بعض الفضلاء الذين يقصدون الحج
بحضور اللجنة العليا واكتناه شؤونها ، وإذا اتفق السيد الشريف أمير مكة مع دولة
واليها على الإيعاز إلى خطباء الحرم الشريف وخطباء عرفة بحث الحجاج على
التبرع لهذا العمل المبرور فلا تسل عما يظهر من المكارم الإسلامية في تلك البقاع
القدسية ، وقد كنا اقترحنا في المجلد الأول من (المنار) إنشاء جمعية إسلامية
كبرى في مكة المكرمة يكون لها شُعب في جميع بلاد الإسلام ، وبينَّا هنالك أعمالها
ومزاياها ، وأشرنا إلى الصعوبة التي أمامها ، ولكن هذا العمل (إنشاء دار علوم)
لا صعوبة أمامه بل هو متيسر جدًّا إن شاء الله تعالى ، وسيكون فاتحة خير لجمع
كلمة المسلمين بفضل الله تعالى ، وبه يظهر المسلم الغيور ممن لا حظَّ له من الغيرة
على الإسلام إلا كثرة اللغط والكلام ، وسنعود إلى الموضوع ، ونرجو من المؤيد
الأغر ، ثم من سائر الجرائد المصرية حث إخواننا المصريين على أن يسبقوا سائر
المسلمين إلى الانضمام إلى إخوانهم الهنديين ، والله لا يضيع أجر المحسنين ،
وأقسم بالله العظيم رب البيت الحرام ومميزه على سائر البلاد بظهور نور الإسلام،
على جميع المقربين من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين أن يبلغوه
خبر هذه المدرسة بالصفة الحقيقية التي ترضيه لكي تفيض عليها مكارمه الهامية ،
وتحوطها رعايته السامية ، وعسى أن يهتم من يسمع له الكلام ، من على ذلك المقام
كسماحة السيد أبي الهدى أفندي بأن يكون الواسطة بين المسلمين وخليفتهم في
أمنيتهم هذه ، فيكون له عند الجميع شأن عظيم ، وعند الله أجر كريم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
نفتتح باب الآثار الأدبية بقصيدة من غرر القصائد العصرية مزينة بمديح
مولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد خان أيد الله
دولته ، وأنفذ شوكته ، نظم عقدها صديقنا الفاضل الشيخ محيي الدين أفندي الخياط
البيروتي ، وهي:
إليك فما تغني القنا والقنابل
…
إذا لم يقم بالأمر كاف وكافل
وليس الظبي إلا مخاريق لاعب
…
إذا سلها كف عن العدل عادل
وليست قلاع الجو تدعى معاقلاً
…
إذا لم يدر أمر المعاقل عاقل
وما صولجان الملك يدفع أكرة
…
إذا لعبت بالصولجان الأسافل
وما يصنع البحار فوق سفينة
…
إذا عُطِّلت بالسير منها المراجل
وما تصنع الأجناد والجهل قائد
…
وما تنفع القُوَّاد والجند خاذل
دع البذخ ما هذي القصور مشيدة
…
لتبني فخارًا والمشيد جاهل
كذلك ما تبني الجبال شواهقًا
…
تناطح هام الأفق وهي مجاهل
إذا العلم لم تعهده منك معاهد
…
غدت بلقعًا وهي الربوع الأواهل
وما العلم إلا الدين مع عمل به
…
وما الدين والأعمال إلا الفضائل
وما الشعب والسلطان إلا وشائج
…
وما الناس والأوطان إلا الفعائل
أتتك أمير المؤمنين ووجهها
…
ووجهك وضاح عليه دلائل
تمد يمينًا ذات يمن ومعصم
…
له الكون كف والأنام أنامل
قرونًا ثلاثًا جاوزت بعد عشرة
…
وتبقى إلى أن يسحل الكون ساحل
وتحيا وفي الإسلام حي وميت
…
وليس بقايا السيف إلا الثواكل
تقطعها الأجيال وهي قواطع
…
وترشقها الأقتال وهي قواتل
توالت عليها الحادثات وكفها
…
طليق وما للقيد إلا السلاسل
تحملتها كهلاً، بلى كنتَ شيخها
…
وما ونيت يا كهل منك الكواهل
خليفة رب الكون تلك خلافة
…
إذا أيمت لم يبق في الكون عاهل
رعيت رعاك الله أي رعية
…
تقاتل بالأرواح فهي الجحافل
وما ينفع الجيش العرمرم في الوغا
…
إذا لم يكن مستقتلاً من يقاتل
تبوأتَ عرش الملك والجهل طالع
…
بأفق الرزايا والخطوب نوازل
على حين ما إن الخلافة أعوزت
…
زعيمًا فلم تقبل سواك القبائل
وأم العلا رامت خطيبًا لبكرها
…
وليس لبيت المجد غيرك آهل
يقولون: ما ساس الأمورَ كغيره
…
فقلت: وكم قد قال في الناس قائل
وما راكب البحر العباب تحوطه
…
عواد كمن يؤويه بالبر ساحل
وكم من طليق للسياسة يدّعي
…
فلما تولى شكلته المشاكل
يظنون تحرير الجرائد دولة
…
وما هي إلا القول للبيع نازل
ظنون وتخريص وأوهام زاجر
…
يشوبهم بالطبع حق وباطل
يديرون أمر الكون والكون دائر
…
على سنن للناس فيها شواغل
نعم إن منهم نافعًا لبلاده
…
ولكن وايم الله هن قلائل
فلا يتعدى أول العقد آخر
…
ولا يتخطى مركز العقد واصل
فدعهم بلج القول تفديك أمة
…
بك اتصلت روحًا فلم يبق فاصل
تعدك ظل الله إذ أنت عندها
…
خليفته والسر في تلك حاصل
لقد سُستَها بالعلم والحلم والندى
…
وهذي المزايا كلها والفضائل
مليك البرايا دأبك الجد لا تقف
…
فأنت لنا عضو عن الجسم عامل
كذاك دهاقين العلا ورجاله
…
وليس امرأ إلا الهمام الحلاحل
عداك الردى لو كنت في غير شرقنا
…
لما نُصبت إلا إليك الهياكل
ولو أن أهل الشرق مثلك لم نجد
…
سوى الجد بل ما كان في الشرق خامل
لقد شدت للتعليم أي مدارس
…
بها علمتنا كيف تنشأ المعامل
ولكننا اعتدنا الخمول وشرقنا
…
أناخت عليه بالخمول كلاكل
نؤمل أن يبقى لذي الأمر عالة
…
يعول علينا الدهر والكل عائل
فلا المال يرضينا ولا العلم نبتغي
…
ولا للعلا نسعى وهذا التسافل
ونعتقد الحكام هيكل قدرة
…
له البدر صيد والنجوم حبائل
إذا موسر أو عالم نبغا بنا
…
يعرقل مسعاه سريٌّ وسافل
ولستُ أزكي النفس بل أنا واحد
…
بل كلنا المسئول والله سائل
ودونكها ليس التبرج شأنها
…
ولم تتبذل قط والغير باذل
لقد صغتُها والشعر يشهد أنني
…
هجرت قوافيه فهن قوافل
وما تبتغي مني البلاغة إن أكن
…
بليغًا بعصر فيه باقل قائل
دعونى وشأني والتظاهر لا أرى
…
فليس يعاب البدر والبدر آفل
(المنار)
لم نتصرف بشيء من أبيات القصيدة ولا من ألفاظها المفردة؛ لأنها
جاءت مذيلة من حضرة ناظمها الفاضل بالتصحيح؛ وممضاة بإمضائه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(فلسفة البلاغة)
وضع العلامة عبد القاهر الجرجاني فنون البلاغة وكتب فيها ما يتنافس فيه
المتنافسون ، ثم جاء مَن بعده فكتب دون ما كتب عبد القاهر ، ولم تزل البلاغة
تسفل وتتضاءل على تمادي السنين والأجيال حتى آلت إلى الاضمحلال وآذنت
بالزوال ، ولم يبق عند المشتغلين بتلك الفنون إلا بعض المحاورات اللفظية في
أساليب كتب المؤلفين الذين تبعد أساليبهم عن ذوق اللغة الصحيح ، وقد تنبه
الناس في هذا العصر إلى إحياء فنون اللغة العربية وتحصيل ملكة البلاغة فيها
ورأى صديقنا العالم الفاضل المعلم جبر ضومط أستاذ اللغة العربية بالمدرسة الكلية
السورية الأميركانية في بيروت أن حالة العصر تقتضي وجود تآليف في البلاغة
بأسلوب جديد فألف أولاً كتاب (الخواطر الحسان) وقد أهدانا من أشهُر كتابًا آخر
سماه (فلسفة البلاغة) تصفحنا بعض صفحاته ، فألفيناه على قاعدة جعلها قطب
دائرة البلاغة وأصاب ، وهي (الاقتصاد في انتباه السامع) وقد كنا أرجأنا تقريظه إلى
أن تتسنى لنا مطالعته بتمامه ، وإلى الآن لم يسمح لنا الوقت بذلك ، فنوهنا به مؤقتًا
لنعطيه بعض حقه ، ونرشد الطلاب إلى الاستفادة منه.
(الزراعة المصرية)
يؤلف أخونا الفاضل المهذب أحمد أفندي جرانة العالم البارع في فن
الزراعة سلسلة رسائل في الزراعة المصرية ، وقد طبعت الرسالة الأولى
منها في مطبعة الهلال ، وهي في (زراعة قصب السكر) تكلم فيها كلامًا وافيًا
ابتدأه بتاريخ القصب ، ثم تكلم عن القصب المصري خاصة وعن
الأرض التي تصلح لزراعته ، وعن حالة الجو بالنسبة له ، وعن المياه والتقاوي
ومعالجة الأرض ، وكيفية الزراعة ، وعن المحصول والنفقات والأمراض التي
تصيبه ، وغير ذلك من الفوائد العلمية والعملية ، فعسى أن يُقبل المصريون على
اقتناء هذه الرسالة والاستفادة منها ، فإن القصب من أهم غلات هذه البلاد.
(الرياض)
جريدة علمية أدبية شهرية مؤقتًا ذات ثماني صفحات كبيرة تصدر في مدينة
لكهنوء من بلاد الهند باللغتين العربية والأوردية ، صاحب امتيازها الفاضل الهمام
الحاج رياض الدين أحمد ، وقد تصفحنا العدد الأول منها فألفيناه مشتملاً على فوائد،
منها أنه ضبط خمس كلمات مما يخطئ أكثر الناس في ضبطها ، وقد فتح لهذا بابًا في
الجريدة لأجل متابعة العمل ، والكلمات الخمس هي:(آصَف) كاتب سليمان عليه
السلام بفتح الصاد (ابن جنِّي) العالم المشهور بضم الجيم معرَّب كني (الأُبَّهة) بضم
الهمزة وفتح الباء المشددة ، (الأجنة) جمع جنين الأجن ، وهذه وما قبلها لا يخطئ
فيهما أحد عندنا (الأجوبة) في جمع الجواب غلط ، قال ابن الجوزي في تقويم
اللسان: (الجواب لا يجمع) هذا ما جاء في الرياض ، ونزيد نحن في الكلمة الأخيرة
أن سيبوبه سبق ابن الجوزي فقال: الجواب لا يجمع، وقولهم: جوابات كُتُبي مولد ،
وأجوبة كتبي مولد ، إنما يقال: جواب كتبي ، أي إن كان الجواب متعددًا؛ لأن المفرد
المضاف يعم ، ولكن المصباح ذكر الجمعين وسكت عليهما ، فهل كان ذهولاً عن كلام
سيبوبه أم ثبت عنده الجمع؟ ومنها - بل عظمى فوائدها - الحث على إنشاء دار
علوم في مكة المكرمة (انظر باب التربية والتعليم) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
منثورات
(انتشار دين الإسلام)
جاء في جريدة الحاضرة الغراء ما نصه:
بعث الفاضل محمد أفندي عبد الحق القاطن في مقاطعة قولينسلاند من أعمال
القارة الأسترالية برقيم حَرِيٍّ بالذكر أوضح فيه أن الدين الإسلامي آخذ بالانتشار في
جزائر فيكتوريا وجنوبي بلاد الغال وقولينسلاند والفيشي انتشارًا مهمًّا ، وأن المسلمين
قُطَّان هذه الجزائر يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل الحصول على الكتب الدينية
الإسلامية ، وأنهم قد ألفوا جمعيات عديدة في البلاد بغية نشر الدين، وفقهم الله.
وجاء في رسالة من نيش إلى جريدة إقدام العثمانية أن عشرة آلاف من سكان
نيش من عواصم الصرب ، وثلاث بلدان أخرى بعملها قد اهتدوا جميعًا إلى الدين
الإسلامي ، وعزموا على ترك الأوطان فرارًا من ظلم الحكومة الصربية ، والالتجاء
إلى الممالك العثمانية.
إن الجامع الذي عزم المسلمون على تأسيسه في (لندرة) عاصمة البلاد
الإنكليزية قد قُدِّرت نفقاته بعشرة آلاف ليرة، وسيكون في أحسن موقع من البلدة
على أجمل طرز غربي.
(مأثرة تذكر لفضيلة شيخ الجامع الأزهر)
كتب مولانا شيخ الجامع الأزهر إلى سعادة محافظ مصر بأن يمنع الرجال
والنساء الذين يتلون القرآن في الطرق والشوارع ، حتى بقرب الحانات والمزابل
لما في هذا من الإهانة للدين.
***
انتقلت جمعية شمس الإسلام من مركزها الذي كانت فيه ويجتمع مجلس إدارتها
الآن في بيت أحد أعضائه ، وسيصير أخذ محل مناسب لها في هذا الأسبوع ، وعند
ذلك تخبر به جميع الأعضاء وجميع اللجان الفرعية إن شاء الله تعالى ، وسنشرح
أسباب الإرجاف بها.
لم نتمكن من جمع فهرست المجلد الثاني وطبعه لنقدمه مع هذا الجزء؛ لكثرة
الشواغل التي أحدثها تعدي المفسدين علي الجمعية ، وقد انتهت المشكلة على خير ،
ولله الحمد ، ونرجو أن نتمكن من تقديم الفهرست مع الجزء الآتي.
***
نهنئ جريدة الأصمعي وجريدة المناظر الغراوين اللتين تصدران في بلاد
البرازيل بإكمال السنة الأولى ، والدخول في السنة الثانية مع الجد والاجتهاد في
خدمة أبناء وطنهم السوري في تلك البلاد ، ونتمنى لهم زيادة النجاح والفلاح.
_________
الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى
الجنسية والديانة الإسلامية
من مقالات العروة الوثقى
خير ما كتبه علماء الإسلام في حكمة الدين الإسلامي
إن استقراء حال الأفراد من كل أمة ، واستطلاع أهوائها يثبت لجلي
النظر ودقيقه وجود تعصب للجنس ونعرة عليه عند الأغلب منهم ، وإن
المتعصب لجنسه منهم لَيَتيه بمفاخر بنيه ويغضب لما يمسهم حتى يُقْتل دون دفعه
بدون تنبه منه لطلب السبب ، ولا بحث في علة هذه الوجدانيات الطبيعية ، إلا أنه
يبعد ظنهم ما نراه في حال طفل ولد في أمة من الأمم ، ثم نقل قبل التمييز إلى
أرض أمة أخرى وربي فيها إلى أن عقل ولم يذكر له مولده، فإنا لا نرى في طبعه
ميلاً إليه بل يكون خالي الذهن من قِبَله ويكون مع سائر الأقطار سواء ، بل ربما
كان آلف لمرباه وأميل إليه ، والطبيعي لا يتغير ، ولهذا لا نذهب إلى أنه طبيعي ،
ولكن قد يكون من الملكات العارضة على الأنفس ترسمها على ألواحها
الضرورات، فإن الإنسان في أي أرض له حاجات جمة، وفي أفراده ميل إلى
الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية ذكية ، وسعة المطمع إذا
صحبها اقتدار يطبعها على العدوان، فلهذا صار بعض الناس عرضة لاعتداء بعض
آخر ، فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقابًا طوالاً إلى الاعتصاب بلحمة النسب
على درجات متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس فتوزعوا أممًا كالهندي
والإنكليزي والروسي والتركماني ونحو ذلك؛ ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده
المتلاحمة قادرًا على صيانة منافعه وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الآخر ، ثم
تجاوزوا في ذلك حد الضرورة كما هي عادة الإنسان في أطواره ، فذهبوا إلى حد
أن يأنف كل قبيل من سلطة الآخر عليه علمًا بأنه لابد أن يكون جائرًا إذا حكم ،
ولئن عدل فإن في قبول حكمه ذُلاًّ تحس به النفس وينفعل له القلب ، فلو زالت
الضرورة لهذا النوع من العصبية؛ تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في
الحدوث بلا ريب، وتبطل الضرورة بالاعتقاد على حاكم تتصاغر لديه القوى ،
وتتضاءل لعظمته القدر ، وتخضع لسلطته النفوس بالطبع ، وتكون بالنسبة إليه
متساوية الأقدام ، وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض ، ثم يكون القائم من
قبله بتنفيذ أحكامه مساهمًا للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم الحاكمين
فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى ، وأيقنت بمشاركة القيم على أحكامه
لعامتهم في التطامن لما أمر به؛ اطمأنت في حفظ الحق ودفع الشر إلى صاحب هذه
السلطة المقدسة ، واستغنت عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها فمحي أثرها من
النفوس ، والحكم لله العلي الكبير.
هذا هو السر في إعراض المسلمين على اختلاف أقطارهم عن اعتبار
الجنسيات ، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبيتهم
الإسلامية ، فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه
ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة وهي علاقة المعتقَد [1] لأن الدين
الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق ، وملاحظة أحوال
النفوس من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى ، بل
هي كما كانت كافلة لهذا جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد ، وبيان
الحقوق كليها وجزئيها وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة
الحدود ، وتعيين شروطها حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد
الناس خضوعًا لها ، ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية أو
ثروة مالية ، وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها
ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتهم المقدسة الإلهية
التي لا تميز بين جنس وجنس واجتماع آراء الأمة ، وليس للوازع أدنى امتياز
عنهم إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع عنها.
وكل فخار تكسبه الأنساب ، وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع
أثرًا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض ، بل كل رابطة سوى
رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتة على لسان الشارع ، والمعتمِد عليها مذموم ،
والمتعصب لها ملوم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية ،
وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية) والأحاديث
النبوية والآيات المنزلة متضافرة على هذا ، ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من
يفوق الكافة في التقوى (اتباع الشريعة){إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ومن ثم قام بأمر المسلمين في كثير من الأزمان على اختلاف
الأجيال من لا شرف له في جنسه ، ولا امتياز له في قبيله ، ولا ورث الملك عن
آبائه ، ولا طلبه بشيء من حسبه ونسبه ، وما رفعه إلى منصة الحكم إلا خضوعه
للشرع وعنايته بالمحافظة عليه.
وإن بسطة ملك الوازعين في المسلمين كان يسديها إليهم على حسب امتثالهم
للأحكام الإلهية ، واهتدائهم بهديها ، وتجردهم عن الاعتلاء الشخصي ، وكلما أراد
الوازع أن يختص نفسه بما يفوق به غيره في أبهة ورفاهة معيشة ، وأن يستأثر
على المحكومين بحظ زائد رجعت الأجناس إلى تعصبها ووقع الاختلاف
وانقبضت سلطة ذلك الوازع.
هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا
يعتدُّون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس ، وإنما ينظرون إلى جامعة الدين ،
لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي ، والفارسي يقبل سيادة العربي ،
والهندي يذعن لرئاسة الأفغاني ، ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وإن
المسلم في تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها وانتقالها من
قبيل إلى قبيل ما دام صاحب الحكم حافظًا لشأن الشريعة ذاهبًا مذاهبها ، نعم إذا نبا في
سيره عنها وجار في حكمه عما نصت عليه ، وطلب الأثرة بما ليس له من حقه؛
انصدعت منه القلوب وتخلت عن محبته الأنفس ، وأصبح وإن كان وطنيًّا فيهم أشنع
حالاً من الأجنبي عنهم.
إن المسلمين اختصوا من بين سائر أرباب الأديان بالتأثر والأسف عندما
يسمعون بانفصال بقعة إسلامية عن حكم إسلامي بدون التفات إلى جنسها وقبيلها ،
ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية ، وثابر
على رعايتها ، وَأخَذَ الدهماء بحدودها ، وضرب بسهمه مع المحكومين في
الخضوع لها ، وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة - لأمكنه أن يحوز
بسطة في الملك ، وعظمة في السلطان ، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في
الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين ، ولا يتجشم في ذلك أتعابًا ، ولا يحتاج إلى بذل
النفقات ولا تكثير الجيوش ، ولا مظاهرة الدول العظيمة ولا مداخلة أعوان التمدن
وأنصار الحرية
…
ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين ،
والرجوع إلى الأصول الأولى من الديانة الإسلامية القويمة ، ومن سيره هذه تنبعث
القوة وتتجدد لوازم المنعة. أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم
تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط ، ولكنه مع ذلك أتى بما فيه مصلحة
العباد في دنياهم ، وما يكسبهم السعادة في الدنيا والتنعيم في الآخرة ، وهو المعبر عنه
في الاصطلاح الشرعي بسعادة الدارين ، وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس
المتباينة والأمم المختلفة.
ابيضت عين الدهر ، وامتقع لون الزمان حتى أصاب أن بعضًا من المسلمين
على حكم الندرة يعز عليهم الصبر ، ويضيق منهم الصدر لجور حكامهم وخروجهم
في معاملتهم عن أصول العدالة الشرعية ، فيلجأون للدخول تحت سلطة أجنبية، على
أن الندم يأخذ بأرواحهم عند أول خطوة يخطونها في هذا الطريق ، فمثلهم مثل من
يريد الفتك بنفسه حتى إذا أحس بالألم رجع واسترجع ، وإن بعض ما يطرأ على
الممالك الإسلامية من الانقسام والتفرق إنما يكون منشؤه قصور الوازعين
وحيَدَانهم عن الأصول القويمة التي بُنيت عليها الديانة الإسلامية ، وانحرافهم عن
مناهج أسلافهم الأقدمين ، فإن منابذة الأصول الثابتة ، والنكوب عن المناهج
المألوفة أشد ما يكون ضررهما بالسلطة العليا ، فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى
قواعد شرعهم ، وساروا سيرة الأولين السابقين لم يمض قليل من الزمان إلا وقد
آتاهم الله بسطة في الملك ، وألحقهم في العزة بالراشدين من أئمة الدين ، وفقنا الله
للسداد وهدانا طريق الرشاد.
(المنار)
لقد وقعت مقالة التعصب التي نشرناها في الجزء الماضي أحسن
موقع وأجله في نفوس قارئيها من فضلاء المصريين ، ولا ريب أن سيكون لهذه ما
كان لتلك ، فإن الكل من ينبوع واحد وهو علم أستاذنا الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية محرر جريدة العروة الوثقى ، ومن هاتين المقالتين يعرف القراء
السر والحكمة فيما اشتهر عن الأستاذ من تخطئة اللاغطين بالوطنية في مصر ،
والإعراض عنهم لجهلهم بما ينفع الأمة ويضرها ، ولكن زعماء الوطنية يوهمون
الناس بأن كل من يسفه أحلامهم فهو ميال إلى مسالمة المحتلين أو مصانعتهم ،
وقد أساء أغرار المصريين الظن بكثير من الفضلاء لوساوسهم ، ثم انجلت الحقيقة
لأكثرهم ، وستنجلى للآخرين إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
ولكن قد بلينا في هذا الزمان بقوم لم يتربوا تربية إسلامية فاندفعوا بالوساوس الأوروبية إلى قطع العلاقة العامة الاعتقادية ، وتعليم الناس التعصب لوطنهم فقط ، ولا وجود لهم إلا في مصر ، ويسمون أنفسهم الوطنيين ، ونحمد الله أن عددهم قليل وإلا لألقوا العداوة والبغضاء بين مسلمي مصر وسائر المسلمين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح
وصَّى الله - تعالى - جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ولكن رجال الدين من كل أمة فرقوا دينهم ،
وكانوا شيعًا ومذاهب يضلل بعضها بعضًا ، فكان هذا التفريق مسقطًا للدين من نظر
الحكماء والفلاسفة ، فقام رجال الدين يناصبون أهل العلم العقلي والحكمة العداء ،
حتى كانت الأمم قبل الإسلام تعتقد أن الدين والعقل ضدان لا يجتمعان ، وخصمان
لا يتفقان ، وسرت هذه الوساوس من تلك الأمم لبعض المسلمين ، وصارت تقوى
بينهم كلما ضعف العلم والدين، ولما تنبه أهالي أوربا بعد الحروب الصليبية إلى أن
ضعفهم في العلوم والمعارف وما يتبعها من الصنائع وأسباب العمران كله أو جله
من سوء سيرة رجال الدين فيهم شنوا عليهم الغارة الشعواء ، وظهر فيهم حزب
الإصلاح الذي استتبع من الحروب ما أوجب ذلك الانقلاب العظيم في أوربا ، وعنه
نشأت مدنيتها العظمى التي نشاهد من آثارها ما يحير الأفكار ، ويكاد سنا ضوئه
يذهب بالأبصار.
ولما رأى رجال الدين من بعد أن مقاومة العلم ومقاومة المدنية يعودان
عليهم وعلى الدين بالوبال ، ويؤذنان سلطتهم بالزوال؛ ساروا مع العلم والمدنية ،
وكانوا من أكبر أنصارهما ، وجمعوا بين علوم الدين والدنيا ، ثم فاضت العلوم
الغربية على الشرق ، وانتشرت فيه بواسطة دعاة الدين المسيحي من الأوربيين ،
فكان هذا سببًا لعناية الإكليروس الشرقي بالعلوم العصرية اقتداءً بالإكليروس الغربي
لا سيما الكاثوليك الذين كانوا من قبل أعدى أعداء العلم والعقل ، ولم يبق لهم ذنب في
نظر العارفين بأحوال الوقت وما تقتضيه من أمتهم الذين يلقبون بالمتنورين إلا
أمران: أحدهما صرف أموال الأوقاف العظيمة على معاهد العبادة كالديور ورجال
الكهنوت الذين لا عمل لهم ينفع الأمة؛ لأنهم انقطعوا للتحنث والتعبد ، وثانيهما
تفريق كل فرقة بين التابعين لها وبين سائر الفرق ، وتضليل بعضهم بعضًا مع أنهم
أبناء دين واحد ، بل وتكفير بعضهم بعضًا للخلاف في مسائل هي أشبه
بالفرعية منها بالأصلية الأساسية ، وقد شن هؤلاء المتنورون بسبب هذه الأمور
الغارة الشعواء على رجال الدين ، وطلبوا منهم أن ينفقوا أموال الأوقاف على
معاهد التربية والتعليم ، وأكثروا من الكتابة في هذا الموضوع في الجرائد
السورية والأميركية والمصرية لا سيما جريدة (الرائد المصري) و (السيار)
و (المناظر) وكم كتبوا وخطبوا ونظموا القصائد في حث رجال الدين على
التأليف بين الطوائف ، وإطفاء نيران التحمس والغلو في التعصب.
ومن هؤلاء من جعل كلامه عامًّا للمختلفين في الأديان لأن البلاد لا تعمر إلا
باتفاقهم على عمارتها ، ومنهم من جعل كلامه لأهل الدين النصراني المختلفين في
المذاهب فقط ، وقد رأينا في جرائد أميركا السورية الأخيرة خبر نهضة عظيمة في
هذا الأمر تستحق التدوين والذكر ، وإننا ننشر هنا أهم واقعة حدثت لهم فيها وهو ما
كان في احتفال (جمعية الشبان المارونيين) ليعتبر به الجاهلون بالتاريخ
والأحوال الحاضرة الذين يتوهمون ويقولون ، بل ويكتبون في جرائدهم أن سائر
أهل الأديان يقدسون رجال الدين ولا ينتقدون عليهم بشيء، يعني أننا قد خرجنا
بالمنار عن آداب أهل الأديان كلها لطلبنا من علمائنا إصلاح التعليم والجمع بين
علوم الدنيا والآخرة كما هو مقتضى الإسلام ، والسعي في جمع كلمة المسلمين التي
فرقها اختلاف المذاهب لا سيما أهل السنة والشيعة. ثم قام دعاة الوطنية يفرقونها
أيضا باختلاف الأجناس والبلاد ، ومع أننا نتكلم في المنار بكل أدب واحترام ، ونعتقد
أن تعليق آمال الأمة بعلمائها وإقناعها بأن سعادتها في أيديهم هو التعظيم الأكبر لهم ،
وأننا - ولله الحمد - لم نذكر أحدًا من علمائنا الكرام بسوء ، وقد جرينا على آداب
السنة السَّنية في الانتقاد على من كتب في مصنف له أن الاقتصاد في المعيشة وتربية
الأولاد وتدبير المنزل ليست من الأمور الواجبة على النساء ، وذلك أننا لم نصرح
باسم القائل ، ولا باسم كتابه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذكر
الإنكار حتى على المنبر من غير تصريح باسم فاعله وذلك بمثل: ما بال قوم يفعلون
كذا ، فليحاسب أنفسهم الذين يخوضون في الإنكار على المعروف عن غيره بصيرة
ليعلموا هل يعملون لمرضاة قوم وإسخاط آخرين ، أم ابتغاء مرضاة الله واتقاء
سخطه؟ والله ولي المتقين ، وهاكم الآن أيها القراء الكرام بعض ما جاء في جريدة
الأيام التي تصدر في نيويورك:
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة للمؤرخين
ثورة السوريين على الإكليروس
احتفال جمعية الشبان المارونيين
نكتب هذه السطور لتكون من بعدنا مستندًا للكتاب والمؤرخين حتى إذا
قدر الله أن تنهض هذه الأمة السورية التعيسة من وهدة التأخر والخمول إلى ذروة
التقدم والفخر يعلم الناس أساس تلك النهضة وأسبابها.
نكتب هذه السطور بمداد الفخر والإعجاب لتكون أكبر دليل على أن
السوريين لا تزال في صدورهم روح الأنفة والحماسة وحب التقدم والنشاط.
بل نكتب هذه السطور لنفتخر بأن كلام (الأيام) وغيرها من الجرائد
العربية الحرة في هذه البلاد قد أثمر - والحمد لله - الثمرة الصالحة التي كاد أن يقطع
الأمل من الحصول عليها في الحين القريب.
فالسوريون منذ ليلة الجمعة الواقعة في (9 شهر شباط سنة 1900) قد
خطوا الخطوة الأولى في سبيل التقدم والحرية.
وهي الليلة التي احتفلت فيها جمعية الشبان المارونيين بمرور سنة
كاملة على تأسيسها.
فإن هذه الحفلة كانت بعلم من الله تعالى واسطة لإظهار ما تُكِنُّه قلوب
السوريين من الكُره والنفور من أعمال الآباء الروحيين التي كانت ولا تزال منذ
القديم عثرة في سبيل تقدم السوريين واتحاد قلوبهم ، بل هي التي كانت سبب
المخاصمات والعداوات الطوائفية التي اشتهر أمرها بين النزالة السورية في
العامين الأخيرين وكانت نتيجتها تعطيل المتاجر وخراب البيوت وتدنيس
الشرف السوري في بلاد الحرية والعدل.
نعم إن السوريين قد شعروا الآن بأن تلك القلانس هي التي كانت منبع الشر
والفساد فيما بينهم ، وأنها الباعث الوحيد على تأخرهم وشقائهم وتنافر قلوبهم وتعاسة
أحوالهم ، فقاموا الآن قومة واحدة يرومون تحطيمها كما فعل الفرنسيون من قبلهم
في ثورتهم المشهورة على الإكليروس ، وهي التي ينبئنا التاريخ أنها كانت حجر
الزاوية لذاك الطود الشامخ، نعني به تقدم الأمة الفرنسوية وتمدنها الذي نراه الآن
ساطعًا كالشمس في فلك هذا العالم.
جهاد وأي جهاد قام به السوريون في أواخر الأسبوع الماضي! فقد اشترك فيه
الماروني والأرثوذكسي والكاثوليكي واليهودي وكل سوري غيور على شرفه ومتنور
بنور العلم الصحيح البعيد عن الخرافات والأباطيل.
فمن سمع قبل الآن أم قرأ في تاريخ السوريين وماضي أحوالهم أن هذه الأمة
التي يصفها الكُتاب الأجانب بالطاعة العمياء لرؤساء الأديان والتي كانت في الحقيقة
منبع التعصبات الدينية في سابق الأزمان - دافعت ولو مرة واحدة عن حقوقها المداسة
بأرجل الإكليروس منذ الألوف من الأجيال؟
إن هذا لم نسمعه منذ قديم الزمان ولكننا قد سمعناه الآن، فقد ضجت
النزالة السورية بالأمس بخبر ما توقع مساء الجمعة الماضي لحضرة الأب المحترم
الخوري يوسف يزبك ساعة انتصب على المرسح خطيبًا من غير أن يدعوه
أحد من الناس ، وشرع يندد بالأدباء والمصلحين ، ويدعو الناس إلى التعصب
والطاعة العمياء ويقول لهم: (إن من لم يخضع لسلطتنا فليسقط ومن لا
يرضى بأعمالنا وأفعالنا فليشق نفسه غيظًا وليمت كمدًا وحسرة) .
بمثل هذا الكلام تفوه هذا الأب المحترم ، بل هو قد فعل أكثر من ذلك ، ففاه
بكلمات لا يليق برجال الله الأتقياء أن يفوهوا بها بمثل هذه المحافل الأدبية؛ إذ قال
في جملة مطاعنه على بعض الخطباء الذي تقدمه في منبر الخطابة ، وخطب في
وجوب التساهل الديني: (إنه كالسعدان يتمعص، ويتقعص، ويتملص ، ويوصي
الناس بالخلاعة وعدم التسليم لإرادة مرشديهم الخوارنة الأطهار) .
وتفصيل الخبر
إن جمعية الشبان المارونيين أقامت مساء نهار الجمعة الفائت الواقع في 9
الحاضر احتفالاً شائقًا بمناسبة مرور سنة كاملة على إنشائها ، ودعت ما يقرب من
ستمائة شخص من السوريين ، وبعض الأمر كان لسماع الخطب في المكان الذي
أعدته لهذه الغاية - وهو أرلنثن هول - فخطب في الجمع أدباء كثيرون ودارت
المباحثة على محور الوطنية.
ثم اعتلى منبر الخطابة بعد ذلك جناب الشاب الذكي الفؤاد الأديب أمين أفندي
ريحاني ففاه بخطاب لم يُسمع له نظير من خطيب سوري حتى الآن وعنوانه:
(التساهل الديني) نبه فيه الشعب السوري إلى وجوب التساهل الديني، ومنع
التعصب ليسهل على السوريين بعد ذلك الاتحاد الذي هو سلم السعادة والمدنية، وقد
أورد البراهين والأدلة على أن تأخر الشرقيين بالعلم والثروة والنفوذ ناتج عن انقيادهم
الأعمى إلى رؤساء الأديان، وتسليمهم لهم زمام أمورهم الجزئية والكلية، وكان
ملخص كلامه بهذا الموضوع: (إن الديانات غشاء على أبصار العامة من الشعب
وخرافات في نظر العلماء وتجارة في أيدي الإكليروس ، وآلة نافعة في يد الحكومة) .
وكان يلقي هذه الدرر بمهارة كلية في فن الخطابة وبصوت جهوري وإشارات
لطيفة حتى أهاج في صدور القوم كامن الأحقاد على مستهضمي حقوقهم ، فكان لا
ينطق بكلمة إلا ويعقبها صدى الاستحسان وتصفيق الأيدي ، ولكن ما سمعه الجمهور
من خطابه أساء (بالطبع) رجال الإكليروس الذين كانوا في صدر تلك الحفلة ،
وكأنهم خشوا أن تكسد تجارتهم وتسقط هيبتهم في أعين الشعب بعد أن تتنور الأذهان
فقام أحدهم وهو الخوري يوسف يزبك ، وادعى أنه سيخطب في موضوع الثناء
على القنصل الإفرنسي الذي كان نائبه حاضرًا في تلك الليلة ، فتخلص من ذلك
الثناء إلى الطعن بشخصيات ريحاني أفندي بكلام تأبى سماعه آذان الأدباء معترضًا
على ما قاله من وجوب التساهل الديني والاتحاد الوطني ، وكان كلما قال عبارة من
هذا النوع ينتظر من الحضور أن يصفقوا له تصفيق الاستحسان، ويقولوا له:
(سبحانك) ولكنه رأى في هذه المرة غير ما كان يعهده بأبناء سورية ، فإنهم قابلوا
كلامه بصفير الاستهزاء ، وطلب وجهاؤهم وأدباؤهم من هيئة الجمعية إسقاط المتكلم
عن منبر الخطابة خوفًا من هيجان الشعب ، ولما تمادى الأب المشار إليه في جرح
الحاسات الوطنية وإثارة روح التعصب؛ علت ضجة الشعب من كل جانب ، وما كاد
الأب ينهي عبارته: (من لا يخضع لسلطتنا فليسقط) حتى نادى الحضور بصوت
واحد: فلتسقط أنت وكل من كان على شاكلتك ، وهجم بعض الشبان على المرسح
يريدون إسقاط الكاهن بالقوة ، وحاول كثيرون من الأدباء الخروج من الحفلة
إظهارًا لاستيائهم من عمل الأب المشار إليه ، فمنعهم أعضاء الجمعية وطيبوا
خاطرهم.
ولما رأى جناب الأديب شكري أفندي رحيم مدير الجمعية أن لا سبيل لتسكين
الخواطر إلا بإسقاط الأب عن كرسي الخطابة ومنعه من إكمال خطابه - طلب من
الأب تخفيف لهجته أو التوقف عن الكلام فرفض الأب إجابة الطلب ، فالتزم إذ ذاك
لتوقيفه بالقوة عملاً بنظام الجمعية ، وهكذا تم ، فسُر جميع الحضور من عمله ،
وأثنوا على الجمعية التي بذلت كل ما في وسعها لتسكين الخواطر وإرضاء
الجمهور، وهو عمل ندونه لها بمداد الشكر والثناء.
ولم يزل الشعب متأثرًا من عمل الأب المشار إليه حتى نهاية الحفلة فقام إذ
ذاك جناب الشاب الوطني الأديب الأمير يوسف أبي اللمع وألقى في الحضور خطابًا
مهيجًا صادق به على كلام الخطيب الأول أمين أفندي ريحاني ، وكانت لهجته
شديدة فقام بعض دعاة التعصب ، وأحدثوا جلبة وضجة بين الحضور ، وطلب
بعضهم منع الخطيب عن الكلام ، ولكن الرأي العام كان متحيزًا له ، فقام النزاع بين
الأحزاب ، ولكنها والحمد لله لم تكن أحزاب طوائفية لأن الطوائف كانت متحدة يدًا
واحدة ، بل كانت أحزاب آراء وأميال فاز فيها التمدن والعلم على الخمول والجهل ،
وأثنى الحضور على الخطيبين اللذين تكلما في وجوب التساهل الديني ، وحملوهما
على الأكف ، وقد اقتصر النزاع على الكلام ، ولم يحدث تلاكم وخصام ، وانتهت
الحفلة باعتذار عمدة الجمعية عما حدث من غير قصد ولا علم منها ، وهكذا
انصرف الجمع ، وهم لا يعلمون إذا كانوا في يقظة أم في منام لأن المظاهرات التي
ظهرت في تلك الليلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السوريين منذ قديم الزمن حتى
الآن.
هذه حاسات الشعب شرحناها كما هي ، وهذه تفاصيل الحفلة ذكرناها من وجه
إخباري ، ونحن كما يعلم الجميع نُجِلُّ الأديان ونحترمها ، ونكرم الكهنة الأفاضل
الذين يسيرون بموجب التقوى والفضيلة ، ويسوءنا أن نرى تصرفات البعض منهم
قد أوجبت حنق الشعب وهيجانه.
ويا حبذا لو اقتدى البعض من كهنتنا بكهنة الأمريكان الذين إذا اعترضوا على
مبدأ ما أظهروا اعتراضاتهم بالكلام الحسي متجنبين الأوصاف الغير لائقة
(كالسعدان والأمعط والأشمط) لاسيما وهم في أعين الشعب قدوة الأدب وعنوان
الفضيلة اهـ بحروفه.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(22)
من هيلانة إلى أراسم في 6 يوليه سنة - 185
كأني أيها الحبيب بساعة الوضع قد اقتربت ، وإني وإن كنت لا أزال في
كفاية من جودة الصحة لكن ما أشد خوفي من هول تلك الساعة وما تأتي به
من الشدائد والمحن التي كان شهودك فيها وحده كافلاً بتخفيف آلامها عني.
رباه كيف لا تكون بقربي أيها العزيز أراسم؟ وأخص وقت تكون فيه المرأة
كالعشقة (شجرة اللبلاب) لزامًا لمن تحبه وتعلقًا به إنما هو أمس، ذلك اليوم
المعروف بالعناء والخطر.
في الليلة الماضية رأيت رؤيا تحيرت في تأويلها ، رأيتني أزور قبر
والدتي لابسة الحداد! فعظمت دهشتي لما رأيته هناك من شجر الورد والآس
وغيرهما من الأزهار لأني لم أكن أوصيت بغرسها ، ولما رأيت أن يدًا
مجهولة قد عنيت بآخر منزل لمن كنت أحبها فزينتْه بهذه الأزهار هاجت
أشجاني وانهطلت عَبراتي وأحسست بالبكاء في نومي وقلت في نفسي: ليت
شعري مَن هذا الذي عرف كيف يتحبب إليَّ ويسترضيني عنه ، ثم تبينت من
جملة وقائع متتابعة مبهمة أنك أنت الذي غرستها فغرقت في شبه لُجة من
الفناء في حبك ، وما عسى أن أصف لك مما خطر في ذهني إذ ذاك؟ فقد تمثلت
لي جميع الأحوال التي تلاقينا فيها لأول مرة ، وما انعقد بيننا من روابط الحب
الأولي تمثلاً ليس كالذي يحصل عند ذكر المرء حوادث ماضية، بل كما
يحصل في الحلم، حيث تتشكل فيه الأشياء الحية وغير الحية بأشكالها الحقيقية،
فما قولك في هذه الرؤيا؟ ! أما أنا فلو كنت من الموسوِسات لاعتقدت
أن فيها إنذارًا ببعض المصائب.
أبشرك أيها الحبيب بأن أول مكتوب يأتيك مني بعد هذا سأكتبه إليك
وأنا أم ، وإني كلما افتكرت في ذلك تعروني هزة الفرح ونشوة الطرب ،
فالآن أودعك وأقبلك بكل ما في نفسي من قوى الحب والشوق اهـ.
شذرات مقتطفة من جريدة أراسم
(23)
تحرر في 6 يوليه سنة - 185
دخلت فراشة في مخدعي من السجن من حيث لا أعلم ، ومكثت ربع
ساعة تحاول الخروج من الشباك يدعوها إلي ذلك ما وراءه من الضياء
والفضاء والحياة بما تسمعه من الأصوات في جو السماء ، ولكنه على ضيقه
كان محكم الإقفال فانقضت عليه بنت الهواء أولاً على جهل منها بحقيقة
زجاجه اللطيف حاسبة أنه لا وجود أمامها ، ثم أخذت تصادمه وتلتصق به
وتقاومه ، وكلما ردتها صلابته خائبة أعادت عليه الكرة.
هكذا يكون شأن الإنسان مع العقبات المعنوية التي تعترضه في طريق
حياته لا يحسب لها حسابًا لأنها لا تكاد تكون شيئًا يذكر، فهي كسُمك لوح من
الزجاج مثلاً، لكن هذا الشيء الذي لا يذكر كوهم أو عقيدة أو معنى غير
صحيح أو مغالطة؛ كافٍ في إعاقة عقله عن التحليق بجناحيه في سماء
الحرية فلا يجدي معه اشتداد العقل في اقتحام عقبة ، كما لم يُجدِ تلك
الحشرة اصطدامها بالزجاج وإيهاء جناحيها.
فلما رأيتها قد عجزت عن الخروج فتحت لها الشباك ، وقلت لها: امضي
أيتها المسكينة في سبيلك ، وطيري بجناحيك كما كنت في خالص الهواء
وحرارة الشمس فهذا يكفيك من مسجون في حجرته اهـ.
(24)
تحرر في 8 يوليه سنة - 185
كثيرًا ما شاهدت ساحل البحر بين حركتي المد والجزر ، وأبصرت على
سطح رماله المبللة الرطبة آثار كثير من الأقدام ومن العجلات ونعال الخيل
ورسومًا غريبة في بابها نقشتها على صفحاتها أيدي الأطفال ، وأسماء كتبت
بأطراف العصي وغير ذلك من الآثار الكثيرة المتنوعة ، فلما مدَّ البحر محاها
جميعًا فلم يبق منها شيء يدل على سبق وجودها ، كذلك شأن العدل والزمن
فإن لهما كالبحر مدًّا وجزرًا ، فاعملوا ما شئتم من تأليف الكتب وتحرير
الصحف وإقامة الأبنية ووضع القوانين ، وارسموا مقاصدكم على الرمال، كل
ذلك يغمره مد العدل في يوم ، بل في ساعة واحدة، فالبحر يقول في مده: إني
أعود إلي ما تركت من مكاني ، والشعب يقول في مده: إني أسترد ما اغتصب
من حقوقي اهـ.
(25)
تحرر في 9 يوليه سنة - 185
كان فيما سلف من القرون رجل من الفاتحين دمر الممالك ودوخ الأقيال،
ثم مات بعد أن تم له النصر في كثير من وقائعه وغزواته فوضعه رجال دولته
على سرير فخيم محفوف بأكمل مظاهر الأبهة والجلال مع أنه بالموت قد خلع
من ملكه ، وأنزل من عرش سلطانه ، فاتفق أن تهافتت على أنفه ذبابة فلم
تستطع يداه ذودها عنه على ما كان منهما من إدارة شئون الممالك وقمع
نخوة الجبابرة ، يا عجبًا للوصول إلي الغاية التي وصل إليها ذلك الرجل يوطأ
العدل والحرية بالمناسم وتهضم حقوق الأمم! اهـ.
(26)
تحرر في 10 يوليه سنة - 185
أرادت دجاجة أن تغطي بجناحيها أفراخًا تفقص عنها البيض وكبرت
فقلن لها: لسنا في حاجة إلي عنايتك فإنك تزهقين أنفسنا بثقلك ، فكان جوابها
على ذلك أن قالت لهن: مه فإنكن لا تدرين في ذلك شيئًا ، أما عدم احتياجكن
إلي فهذا ممكن ، وأما أنا فلا أستغني عنكن: أولاً لأنه يلذ لي أن ألقي ثقلي
على شيء فإن هذا يكثر من أهميتي ، وثانيًا لأني آكل ما أعد لكُنَّ من الحب.
أليست هذه الحكاية تمثل الحكومة مع الشعوب التي بلغت من درجات
التقدم ما يكفيها في الاستقلال بحكم نفسها اهـ.
(27)
تحرر في 12 يوليه سنة -185
كانت ليلتي هذه هائلة فظيعة ، فإني كنت في بعض ساعاتها أرى من
خواطري ما كان يمثل أمامي كما تمثل الأشباح فهل أنا صائر إلي الجنون؟
لقد رأيتها.. هي بنفسها لا في حلم ، بل في يقظة لكنها أخفى من النوم
بألف مرة.
رأيت هيلانة نائمة على سريرها ، وكنت ألاحظ نَفسَها المختنق ، وأجس
نبضها الذي دلني على أنها محمومة. واعجبًا أخالني سمعت صوتًا.
ويلاه إنها تئن وتتألم وأنا بعيد عنها.
إنما يدرك ثقل وطأة السجن ويحس بضيقه في مثل هذه الساعات التي
تغلب على الإنسان فيها حيرته وتزهق نفسه ، ولقد كنت أريد أن أكون قدوة
لزوجتي في الثبات والصبر فهذه أول مرة غلبني فيها السجن على عزمي فانثنى
رأسي ، وانجرح فؤادي مما ألاقيه من نقم القانون البشري.
لو كان حقًّا ما يقال من أن في قدرة الأموات أن يزوروا من كانوا
يحبونهم في هذه الحياة الدنيا ، لوددت أن أموت في هذه الساعة حتى أراها
اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(التبر المسبوك في نصيحة الملوك)
كتاب وجيز وضعه الإمام أبو حامد الغزالي للملك العادل السلطان محمد ابن ملك
شاه، كتبه باللغة الفارسية ونقله إلى العربية بعض تلامذته وهو مشتمل على الحكم
البالغة والنصائح الرائعة والحكايات التي تشتمل على العظة وتدعو إلى الاعتبار ،
ولكنه على فضل واضعه وتحقيقه لا يخلو مما يُنتقَد على كتب الوعظ وهو كثير ،
منه: الغلو في التزهيد ، والنهي عن العناية بعمارة الدنيا ككلامه في (بيان العينين
اللتين هما مشرب شجرة الإيمان) ويعني بهما معرفة الدنيا ، ولِمَ وجد الإنسان فيها ،
ومعرفة النفس الأخير على أن الكتاب لا يخلو عما يخالف ذلك من الحث على عمارة
البلاد ، وبيان أن الدين لا يقوم إلا بعمارة الدنيا كقوله:
واعلم أن أولئك الملوك القدماء كانت همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم
بعدهم ، روي أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفى وأشكر ، وكانوا يعلمون
أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه، وهو قولهم: إن الدين
بالملك ، والملك بالجند ، والجند بالمال ، والمال بعمارة البلاد ، وعمارة البلاد بالعدل
في العباد. فما كانوا يوافقون أحدًا على الجور والظلم ، ولا يرضون لحشمهم بالخرق
والغشم ، علمًا منهم أن الرعية لا تثبت على الجور ، وأن الأماكن تخرب إذا استولى
عليها الظالمون ، ويتفرق أهل الولايات ، ويهربون في ولايات غيرها ، ويقع النقص
في الملك ويقل في البلاد الدخل ، وتخلو الخزائن من الأموال ، ويتكدر عيش الرعايا
لأنهم لا يحبون جائرًا ، ولا يزال دعاؤهم عليه متواترًا ، فلا يتمتع بمملكته ، وتسرع
إليه دواعي هلكته اهـ.
ومن أحسن ما جاء فيه خبر قال الامام الغزالي: إنه يستفيد منه القارئ
والسامع وهو: سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لأي
شيء لا تنفع الموعظة هؤلاء الخلق؟ ، فقال: الخبر معروف - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما أوصى عند وفاته أشار بأصابعه الثلاث ، وقال: (لا
تسألوني عن حال أولئك) فقال قوم من الصحابة: أشار إلى ثلاثة أشهر ،
وقال قوم: إلى ثلاث سنين ، وقال قوم: إلى ثلاثين سنة ، وقال قوم: ثلاثمائة
سنة ، يعني إذا مضت ثلاثمائة سنة فلا تسألوني عن حال أولئك الرجال ، فإذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألوني عن حال أولئك فكيف ينفع الوعظ
فيهم؟
وسئل عن هذا السؤال ، فقال: كان الناس في ذلك الوقت نيامًا ، وكان
العلماء أيقاظًا ، واليوم العلماء نيام ، والخلق موتى ، فأي نفع لكلام النائم مع
الميت (قال الغزالي) : أما زماننا هذا فهو الذي هلك فيه الخلائق جميعهم وقد
خبثت أعمال الناس ونياتهم اهـ.
(المنار)
وجه الفائدة في الكلام أن المسلمين قد انحرفوا عن صراط دينهم بعد النبي
صلى الله عليه وسلم بزمن قليل - انحرف العامة أولاً وبعدهم العلماء - وليس
في الكلام دليل على أنهم لا يعودون إلى الاستقامة على ذلك الصراط المستقيم،
فقد ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ترك فينا الثقلين إن تمسكنا بهما
لن نضل أبدًا ، وهما كتاب الله تعالى وسنته عليه الصلاة والسلام فما علينا إلا
الاستمساك بهما وترك الأهواء والبدع التي روج سوقها فينا قال فلان وفعل
علان.
(الدليل الصادق على وجود الخالق ، وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري
الخوارق)
كتاب مطول في العقائد لمؤلفه العالم الفاضل الشيخ عبد العزيز بن عبد
الرحمن جاب الله ، وقد أتم الجزء الأول منه تأليفًا ، وطبع في مطبعة الآداب
والمؤيد، وهو يدخل في نحو 400 صفحة جمع فيها صاحبه كثيرًا من مباحث
المتقدمين والمتأخرين ، وسار كغيره من المتأخرين علي طريقة السنوسي في
تقسيم الصفات ، وأورد الأبحاث التي أوردها الذين كتبوا على عقائد السنوسي
الشروح والحواشي ، ولم تسمح لنا الفرص بمطالعته لننتقده ونوفيه حقه من
التقريظ ، وغاية ما نقول فيه: إنه جمع من الفوائد والنقول ما لا يكاد يوجد في
غيره فنحث أهل العلم على الاطلاع عليه.
(سبيل الهدى)
مجلة علمية لصاحبها الأديب اللوذعي أحمد سعيد أفندي البغدادي، ويسرنا
أن المجلات الأدبية قد كثرت ، ووجد منها ما يناسب كل طبقة من الناس،
ونرجو أن تحول أفكارهم عن كثرة الاشتغال بالسياسة التي لا تفيدهم، ونرجو
لهذه المجلة بخصوصها الإقبال لا سيما عند تلامذة المدارس لأن صاحبها على
معرفة تامة بأذواقهم ومشاربهم ، وإننا نقرظها الآن وليس في يدنا عدد منها
لننبه على أهم مباحثه وهي تطلب من حضرة صاحبها في مصر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(روسيا وإنكلترا)
بذلت دولة الروسيا جهدها في الاستفادة من فرصة الحرب الحاضرة فعقدت
قرضًا مع دولة إيران لتنفي منه هذه دين إنكلترا فيبطل نفوذها في تلك البلاد،
وساقت جيشًا إلى حدود أفغانستان تمهيدًا للزحف على الهند أكبر أمانيها الاستعمارية
بمقتضى وصية بطرس الأكبر ، وقد نشرت مجلة (بلاك دويت) تقريرًا لأربعة
من الضباط الروسيين انتدبهم ناظر حربية روسيا لاكتشاف حدود الهند وتحصينها
بينوا فيه أن الاستيلاء على الهند سهل على روسيا ، وذكروا أنهم ذهبوا أولاً إلي
مشهد من بلاد فارس ثم إلى أسخاباد ثم إلى كوشك ومنها إلى هرات مفتاح البلاد
الهندية، ثم رجعوا إلي كوشك ومنها ركبوا في نهر الأكسوس (سيحون) إلى
كيليف وهناك اكتشفوا الحدود الروسية، ثم ذهبوا إلي بلخ، ثم إلى كابل عاصمة
أفغانستان من جهة ماجاشريف وباميان وقد شكَوا من وعورة هذا الطريق ورداءته ،
وذكروا أن الأمير عبد الرحمن تقبلهم بقبول حسن وتلقى مكتوب القيصر له بكل
سرور ، وساعدهم على استعراف ما أرادوه من مراكز الإنكليز ونقطهم الحربية
الجديدة ، وقابلوا عنده بعض رؤساء القبائل الأفغانية ، واستفادوا منهم فوائد لا تقدر
بثمن ، وأقاموا في كابل ثلاثة أسابيع ، ثم سافروا إلى حدود الشترال لاستعراف
عادات القوم وأحوالهم بعد أن عرفوا الشئون الحربية ، وقد استطلعوا حدود
البلوخستان الإنكليزية والنجود والأراضي التي بين الهند الإنكليزية والإيالات
المستقلة الأهلية في جهة شترال وكشمير ولاداك ، وصرحوا بخطأ الذين كانوا
يعدون أفغانستان داخلة في دائرة النفوذ البريطاني ، وصرحوا بأنه ضعيف في
أفغانستان ، ومعدوم في الولايات التابعة لها ، وأنه حل محله في هرات وبلخ
وكوندوز الميل إلى روسيا ،وصرحوا بأن حدود الهند الإنكليزية تدل على قلة
تبصرهم بالعواقب؛ لأنهم اعتمدوا على الحصون الطبيعية، ولم يستعدوا للطوارئ
اقتصادًا أو بخلاً وغرورًا ، ونتيجة اكتشاف هؤلاء الضباط أن الخط الذي بين
بشاور وكوتا المواجه لأقرب طريق من أواسط آسيا غير كفؤ للمقاومة ولا يمكن
عبوره بقوة مهاجِمة ما دام الإنكليز متحصنين وراءه (كذا) أن بقية الحدود
الإنكليزية يمكن تجاوزها بقوات ضعيفة، يمكن القرب من أي نقطة من الحدود
بسهولة إذا كانت القوة عظيمة على شرط أن تبقى الأعمال مكتومة لئلا تستعد
حكومة الهند استعدادًا جيدًا اهـ.
***
(أخبار الحرب الحاضرة)
مضى على هذه الحرب خمسة أشهر ، والإنكليز فيها على انكسار متواصل
وخذلان مستمر ، وقد نقل إلينا البرق أخيرًا أن قائد جيش أورانج الجنرال كرونجي
قد سلم للقائد الإنكليزي العام المارشال روبرتس؛ لأنه وجد أن جيشه لا يبلغ ربع
جيش الإنكليز هنالك، وأكثر ما قيل فيه: إنه يبلغ نحو 4000 صاروا أسرى
للإنكليز وعند البوير ممن أسروه من الإنكليز أكثر منهم ، ونقول ها هنا: إن جميع
جرائد أوربا أظهرت الشماتة بالإنكليز تبعًا لأممها ودولها إلا الجرائد العثمانية ، بل
إن من هذه الجرائد ما كان كلامها في الحرب إفراطًا في المدافعة عنهم كجريدة
بيروت الغراء ، وإننا نقول الحق وإن كان مرًّا في مذاق المصريين الذين يئنُّون من
وطأة ضغط الإنكليز أن من مصلحة الدولة العلية أن تنتصر دولة إنكلترا بعد
انكسارها لأن خذلانها المستمر يحدث انقلابًا في أوربا ، واختلالاً في الموازنة بين
الدول يكون فيه الرجحان لدولة روسيا عدوة الدولة الطبيعية التي لا يرضيها إلا
محو اسمها من لوح الوجود (حماها الله تعالى ووقاها) وقد هنأ مولانا السلطان
الأعظم جلالة الملكة بهذا الانتصار الأخير ، ويظهر أن الكَرَّة رُدت للإنكليز على
البوير لأن جيشهم بلغ مائتي ألف مقاتل إلا أن يحول دون ذلك امتداد الثورة في
مستعمرة الكاب، فقد ورد في برقيات يوم الخميس الماضي أن بلاد قضائين أعلن
أصحابها الانضمام إلى الأورانج ، والذين أظهروا الثورة فعلاً منها 3000 رجل.
عندما أراد الجنرال بوللر الزحف لإنقاذ لاديسمث من الحصار نشر في جيشه
كتابًا يحثه فيه على الثبات ، قال فيه: (فليثق كل واحد منكم بالنجاح وليعتقد
بالفوز) وقد فسرت جريدة الأهرام كلمته هذه بقولها: (أشار عليهم بكيفية اعتبار
البوير مسلمين بهذه العبارة) ونقول: كبرت كلمة هي قائلتها ، وأكبر منها أن
المسلمين قرأوها من مدة طويلة ، ولم نر أحدًا استكبرها أو استنكرها ، نعم إن
المسلمين صاروا مهضومي الحقوق في الأرض ، وتأخروا عن سلفهم في كل شيء
من حيث تقدمت الأمم الأخرى على أسلافها في كل شيء إلا أن المسلمين لا
يزالون أشجع الأمم وأثبتها وأشدها بأسًا ، وأصعبها مراسًا ، وإلى الآن ما غلبوا من
قلة أو جبن ، ولكن الجهل والبعد عن آداب الدين جعلا بأسهم بينهم شديدًا ، وقد آن لهم
أن يعتبروا بما يقال فيهم ، ويجتهدوا في تبرئة أنفسهم منه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع ما قبله)
من المدارس العليا التي تشهد اليوم في تركيا لما لجلالة السلطان من الميل إلى
تعليم الفنون الأدبية ميلاً صادرًا عن علم بفائدتها ، ولما يبذله من العناية البالغة في
توسيع نطاق المعارف لموظفي حكومته - مدرسة العلوم السياسية التي ستضارع
نظيرتها في باريس.
المدارس التابعة لغير نظارة المعارف هي:
أولاً: ما يتبع منها لنظارة التجارة والأشغال والزراعة وهذا بيانه:
أ - المدرسة التجارية الحميدية المؤسسة في سنة 1882 بعناية جلالة السلطان
عبد الحميد الذي أفاض على مملكته أنفع العلوم وأكفلها بتقدم الصناعة
والتجارة.
ب - مدرستا الصنائع والحِرَف ، وتسميان بالمكتبين الصناعيين، إحداهما
للذكور، والأخرى للإناث ، وهذه قد رتبت ترتيبًا جديدًا في سنة 1883 ويصح أن تعد
نموذجًا في بابها ، وفيها يتعلم البنات القراءة والكتابة وشغل الإبرة وتباع الأشياء التي
يصنعنها ليكون ثمنها لهن فيوضع ما يحصل منها في شبه مصرف توفير حتى يوزع
على متخرجاتها على حسب استحقاقهن.
ت - مدارس الحرف التي تقرر في سنة 1884 إنشاء واحدة منها بكل ولاية
وتأسيسها الآن جار على التوالي.
ثانيًا: ما يتبع منها نظارة المالية وهو:
أ - مدرسة المعادن والغابات التي كانت قبل حكم جلالة السلطان عبد الحميد
مدرستين منفصلتين إحداهما للمعادن والأخرى للغابات، فضُمتا في حكمه
وجُعلتا مدرسة واحدة.
ب - مدرسة التلغراف التي بفضل رعاية جلالة السلطان صارت إلى ما
هي عليه الآن من الأهمية.
قبل الكلام على مدارس الطوائف الغير الإسلامية يجب علينا أن نخصص
بعض أسطر للمدارس الدينية الإسلامية ، فنقول:
تنقسم العلوم التي تلقى في هذه المدارس إلى عشرة فروع وهي: النحو
والصرف والمنطق والفلسفة واللغة والبيان والإنشاء والمعاني والهندسة والهيئة ،
وبعد أن يقضي فيها الطلبة عشر أو اثنتي عشرة سنة يكون لهم الخيار بين أن
يعينوا قضاة أو مفتين أو أئمة ، ومن أراد منهم التبحر في علم الشريعة وجب
عليه أن يمكث بعض سنين أخرى لدراسة مذاهب الفقه وتفسير القرآن والحديث ،
ويوجد غير هذه المدارس مدرسة الأيتام التابعة مثلها لمشيخة الإسلام المسماة
بمدرسة موجبات الشريعة ، ومدرستا الأئمة والمؤذنين في استامبول وإسكودار
المؤسسة جميعها بفضل عناية جلالة السلطان في سنة 1883 ، في القسطنطينية
عدد عظيم من دور الكتب العمومية يزيد عن أربعين، وهي في الجملة مؤسسة في
المساجد وتابعة لها وتفتح للعامة في كل أيام الأسبوع ما عدا يومي الثلاثاء والجمعة،
وزيادة على هذه المكتبات العامة يوجد في العاصمة ما يزيد عن ألف مكتبة خاصة
ناتجة مما يوقف على المساجد.
مدارس الطوائف غير الإسلامية في المملكة العثمانية تدخل في قسم معاهد
التعليم العام التي يسميها القانون المدارس الحرة فإنه متى صرحت الحكومة بإنشاء
مدرسة منها وفتحها كانت إدارتها مستقلة استقلالاً تامًّا فلا يكون للحكومة إلا حق
النظر فيما إذا كان التعليم فيها لا يحتوي على شيء مغاير لأوضاع المملكة أو
للإدارة ، وفيما إذا كان معلموها حائزين للشهادات التي تعطيها نظارة المعارف أو
المجلس العلمي في الولاية التي تكون فيها المدرسة أو الرؤساء الروحانيون للطائفة
التي بها المدرسة ، فما خلا هذين الأمرين اللازم مراعاتهما حفظًا لحقوق الحكومة
تكون مدارس الطوائف الغير الإسلامية حرة بعيدة عن تداخل الحكومة ، ولا شك في
أن هذا مثال حسن للتساهل والتسامح من الحكومة العثمانية لغيرها من الأمم ، ولا
يسع أحدًا إلا أن يعترف بعلو مكانة أخلاق هذه الحكومة.
أهم مدارس الطوائف الغير الإسلامية هي:
مدارس الروم الأرثوذكس من حيث عددها ودرجة العلوم فيها وانتفاع الطلاب
منها ، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، وهي: المدارس الخورنية والمدارس الأهلية
والمدارس العالية المركزية ، فالقسم الأول الذي يؤسسه الخوريون ، وينفقون عليه
يشمل المدارس الابتدائية المشتركة بين البنات والبنين ، والمدارس اليونانية
ومدارس البنات وهي تقابل مدارس الصبيان والمدارس الابتدائية والمدارس شبه
الرشدية ، والقسم الثاني وهو المقابل للمدارس الابتدائية العالية هو المدارس المعدة
للتعليم الثانوي التي يؤسسها بعض الأفراد ، والقسم الثالث يمكن تشبيهه بمدارس
الحكومة العالية ، ومن هذا القسم تمتاز مدرسة الفنار الكبرى الأهلية ومدرسة
حلقي التجارية الدينية ، ومكتبة المدرسة الكبرى الأهلية تحتوى على زهاء
عشرين ألف مجلد.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكتب العربية والإصلاح
لا تسعد الأمة إلا بالأعمال النافعة التي يقوم بها أفرادها ولا يعمل أحد عملاً
إلا إذا كان يعتقد أن فيه منفعة ومصلحة ، فأعمال الناس إذن تابعة لعلومهم ومعارفهم ،
والناس متفاوتون في العلم بالمصالح والمنافع؛ لأن القارئين يكونون أعلم بها من
الأميين ، بل هم الذين يفيضون عليهم المعارف ، ويلقنونهم إياها بطرق مختلفة
أعمها المذاكرة والعمل بها ، وكل ما وراء البديهيات من المعارف يستفيده الناس
من الكتب ، فنتيجة هذه المقدمات كلها أن الأمة لا يصلح حالها إلا إذا كانت الكتب
المتداولة بين أفرادها في التعليم والمطالعة مشتملة على ما فيه صلاحها وطرق
منافعها على الوجه الصحيح من حيث الأخلاق والآداب ، ومن حيث الأعمال.
وهل الكتب التي في أيدي أمتنا لهذا العهد وعليها مدار معارف الأكثرين منهم هي
كذلك؟ كلا ثم كلا ، بل هي بخلاف ذلك: كتب التعليم صعبة لا ترشد إلى العمل،
وكتب المطالعة ملأى بالمجون والخرافات والأوهام التي تفسد العقول والآداب بل
والدين أيضًا.
ألف آباؤنا الأولون كُتبًا نافعة في جميع العلوم والفنون أيام كانت أسواق العلم
في أمتنا نافقة وبضاعة المعارف فيها رائجة ، ثم لما كسدت تلك الأسواق وعمت
الجهالة والبطالة؛ مالت النفوس إلى اللهو الباطل والهذيان وطلب المنافع والمصالح
من غير طرقها الطبيعية لِما لابس النفوس من الكسل، وظهرت فيها كتب الخلاعة
والمجون وكتب الأوهام والخرافات وكتب الروحانيات والطلسمات وراجت بضاعتها
ونفقت أسواقها؛ لأن الناس يميلون في كل عصر إلى ما يناسب حالتهم ، وصارت
الكتب النافعة تخفى عن العيون وتختزل من الأيدي، حتى لم يبق منها بين الأيدي
بل في البلاد العربية التي أُلفتْ فيها إلا أقل القليل ، وهي الآن محشورة في مكاتب
باريس ولندن وبرلين وغيرهم من عواصم أوربا وفي القسطنطينية جملة صالحة
منها لم تقدر أيدي أوربا على انتزاعها كما انتزعت الكتب النافعة من مصر
وسوريا ، ولولا تنظيم الكتبخانة الخديوية أخيرًا على النسق الجديد لما بقي فيها
شيء من مهمات الكتب ، ولا نعرف حال الكتب الإسلامية في الهند وبلاد فارس
على وجه يعتمد. على أنه لا يخلو مصر من الأمصار الإسلامية التي سبقت لها
الحضارة والعلم من بقايا من تلك الكتب غفلت عنها عين الزمان ، ولم تصل
إليها أيدي الحوادث التي أودت بأخواتها ، ونحمد الله أن وفق منا من ألفوا شركة
في مصر لإحياء كل ما يعرفونه من تلك الكتب بالطبع ليعم نفعها ، لكن جميع
هذه الكتب النافعة التي أشرنا إليها إنما ألفت للمشتغلين بالعلم في الأغلب ، فالذين
ينتفعون منها هم العلماء ، وإن من علماء عصرنا من يهاب قراءة كتب الأئمة
المتقدمين لا سيما ما لم يكتب عليه الشروح والحواشي وهو الأكثر، فإحياء هذه
الكتب ونشرها على ما فيه من الفائدة العظيمة لا يغنينا عن نوعين من الكتب نحن في
أشد الحاجة إليهما إذا أردنا العمل للنهوض والخروج من الحضيض الضيق الذي
نحن فيه:
النوع الأول: كتب سهلة مختصرة في اللغة والدين والأخلاق والآداب
والتاريخ وسائر الفنون المتداولة في هذا العصر لأجل تعليم النشء الجديد، يراعي
مؤلفوها فيها أعمار التلامذة وأفكارهم وسائر ما يرشد إليه فن التعليم ، وأساليبه
الحديثة التي ثبتت فوائدها بالتجربة والاختبار ، ولقد بعثت الحاجة أو الضرورة
بعض أساتذة المدارس الأميرية وشبه الأميرية في مصر والمدارس الأجنبية في
سوريا إلى تأليف كتب ورسائل في فنون اللغة العربية ، وبعض العلوم والفنون
الأخرى التي تعلم في هذه المدارس ، ولكن لما يوجد منها ما يفي بالمراد ، بل إن ما
نحن أحوج إليه هو الذي لم يكد يوجد منه عندنا شيء يعتد به ككتب العقائد
والأخلاق والعبادات ومبادئ علم الاجتماع وآداب اللغة العربية ، ألا ترى كيف
تلقفت المدارس كتاب (الدروس الحكمية) عندما ظهر ، وما ذلك إلا لأن مؤلفه ما
كتبه إلا عند ما رأى شدة حاجة المدرسة العثمانية إلى مثله أيام كان ناظرها ، وما
تحتاجه إحدى المدارس تحتاجه سائرها لأن المطلوب واحد للجميع ، وقد طلب مني
بعض أفاضل أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية أن أكتب رسائل في الدين على
الوجه المطلوب لأجل دراستها في مدارس الجمعية ، ومن يشاء من سائر المدارس
الإسلامية ، وسألبي الطلب إن شاء الله تعالى عن قريب.
النوع الثاني: كتب سهلة العبارة صحيحة المعاني لأجل قراءة العوام
ومطالعتهم ، والكتب التي تتوجه إليها رغبات الناس ليست نوعًا واحدًا ، وإنما هي
أنواع شتى منها القصص ، وهذه على ضربين ، الضرب الأول: القصص الدينية
كقصة المولد النبوي الشريف ، وقصص الأنبياء ، وقصة المعراج ، وقصة فتوح
اليمن وقصة تودد الجارية وغير ذلك ، وفي المنتشر بين الأيدي من هذه القصص
من الكذب على الله ورسوله وسائر أنبيائه ودينه العجب العجاب.
الضرب الثاني: القصص الوضعية كقصة عنترة العبسي وألف ليلة وليلة ،
ويسمون ما أُلف في هذا العصر من هذه القصص بالروايات ، ومنها ما له أصل
زيد عليه ، ومنها ما لا أصل له ، وأكثر المتداول منها مشتمل على العشق والغرام
بحيث يُنتقَد ، ويُخشى تأثيره في إفساد الآداب والأخلاق ، والعصري يمتاز على
القديم بالنزاهة والخلو من ألفاظ الفحش والمجون ، ولكنه مع ذلك قليل الجدوى لخلوه
غالبًا من الأفكار الصحيحة والإرشادات القويمة ، ومنها كتب المناقب وحكايات
الصالحين ، وفيها من الخرافات والأكاذيب ما يزلزل ركن التوحيد ويفسد الفكر
والعقل ، ومنها كتب الأوراد والأدعية ، وفيها من الشرور وأسباب الغرور ما نبهنا
عليه في العدد 40 من المجلد الأول ، وناهيك بدعاء عكاشة ، والدعاء الذي طبعه في
العام الماضي عبد اللطيف القباج ، وأمثالهما كثير ، ومنها كتب الروحانيات
والطلاسم والتنجيم والعزائم ، وفي هذه الكتب من المفاسد في الدين والدنيا ما لا سعة
في هذه المقالة لشرحه ، ولكننا نشير إلى أهمه إجمالاً ، فمن ذلك: تعليق الآمال
بحصول المنافع وقضاء الحوائج بغير أسبابها الطبيعية التي علقها الله تعالى بها ، ومنه
طبع النفوس بطابع الخوف والجزع من مس الجن وملابسة الشياطين والعفاريت ،
وهذا الوهم يؤثر في النفوس ، حتى إنه يولد فيها أمراضًا عصبية قد تؤدي بها إلى
الجنون ، ويحملها على بذل المال للعرافين والدجالين الذين يدَّعون إخراج الجن من
المصروعين ونحوهم ، ومنه تعويد العقل على التصديق بما لا دليل عليه ، بل وبما
يقوم البرهان على بطلانه أو استحالته ، وأي جناية على العقل الذي هو مشرق نور
الايمان وقائد الإنسان إلى جميع مصالحه أشد من هذه الجناية؟ ومنه رغبة المعتقدين
بهذه الخرافات عن معالجة الأطباء القانونيين لهم في أمراضهم لا سيما العصبية ،
والتجائهم إلى أصحاب الروحانيات والطلسمات ، وإن تعجب فمن مثارات العجب أن
طلاب العلم في الأزهر الشريف هم أشد الناس تهافتًا على هذا النوع من الكتب ، ومن
كان في ريب من هذا فليسأل الكتبخانة الخديوية؛ فإنها تنبئه بالخبر اليقين ، هذا وهم
يقرءون في كتب الفقه تشديد الفقهاء في ذلك حتى إن منهم من رمى الآخذين بها
بالسحر أو الكفر (انظر فتوى ابن حجر في باب الآثار العلمية) .
والذي أقترحه في الكتب السهلة التي تؤلف للعامة أن تكون نزيهة لا مجون
فيها ، وأن تكون مشتملة على التحذير من الخرافات والأمور المضرة بدلاً من
إقرارها والإغراء بها ، وأن لا يكون فيها كذب على رجال الدين ، لا سيما الشارع
صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون خالية مما يخالف عقائد الدين وآدابه وأحكامه ،
هذا ركن عظيم من أركان الإصلاح ، وهو مطلوب من رجال العلوم وحملة الأقلام
لا من رجال السياسة والأحكام ، فعسى أن تتوجه نفوسهم لإقامته خدمة لهذه الأمة
المرحومة والله ولي المحسنين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أمالي دينية
(الدرس التاسع)
(29)
الوحدانية وأقسامها
جعل المتأخرون مبحث الوحدانية ثلاث مسائل، إحداها: وحدانية الذات بمعنى
أن الواجب واحد لا يتعدد ويسمون هذا نفي الكم المنفصل ، وأن ذاته لا تركيب
فيها كما أنها ليست جوهرًا فردًا يدخل في بناء الأجسام ، ويدعون هذا نفي الكم
المنفصل ، والثانية: وحدانية الصفات بمعنى أن صفاته لا تعدد فيها ، فليس له
علمان وإرادتان وقدرتان ، بل علم واحد محيط بكل المعلومات ، وإرادة واحدة نافذة
في جميع الأشياء ، وقدرة واحدة لا يتعاصى عليها شيء من الممكنات ، وهكذا سائر
صفات الكمال ، ويسمون هذا نفي الكم المتصل ، وأنه ليس لغيره تعالى صفة تشبه
صفاته تعالى ، بل ليست الموافقة بين صفات الخلق وصفات الخالق إلا بالتسمية
فقط ، ويسمون هذا نفي الكم المنفصل ، والثالثة: وحدانية الأفعال، ولا يُتصور فيها
إلا الكم المنفصل ، ومعناها أنه لا فعل إلا لله - تعالى - وحده ، هذا ما جرى
عليه المؤلفون في التوحيد من عهد السنوسي إلى الآن ولم يكن المتقدمون يُدخلون
هذه المسائل كلها في مبحث الوحدانية؛ لأن الوحدة بمعنى نفي التركيب ، وكون
صفات الله تعالى لا تشبه صفات أحد من خلقه يدخلان في مبحث التنزيه (راجع عدد
19 و23 من الدرس السادس) وأما تصور تعدد الصفات من جنس واحد ، فقد جاء
من التعمق في فلسفة الأفكار ، فاحتاجوا إلى نفيه ، ولا يوجد أمة من الأمم تعتقد هذا
الاعتقاد ، وليس عليه شُبه ظاهرة يُلتفت إليها ، وأما الاعتقاد بأن الله تعالى خالق
كل شيء ، وإليه يستند وجود كل ممكن ، فهو يدخل في مبحث وجوب الوجود
(راجع الدرس الخامس) نعم إن مسألة أعمال العباد وكسبهم لها تعلق بهذا
المبحث ، وسنفرد لها درسًا مخصوصًا ، فبقي أن الوحدانية إذا أُطلقت تنصرف
إلى مفهوم كلمة (لا إله إلا الله) أي نفي الألوهية عن غير الله - تعالى - والمتبادر
من معنى الألوهية المعبودية ، ومن معنى الإله المعبود ، فالوحدانية إذن هي
وحدانية العبادة التي شرحناها في الدرس الثامن ، ولما كان المعبود بحق هو
خالق الكون ومدبره؛ وجب أن يبرهن في مبحث الوحدانية على كون هذا الخالق
واحدًا لا ند له ولا شريك وهو ما عقدنا له هذا الدرس.
(30)
البرهان:
قام البرهان على وجود الواجب كما بيناه في الدرس الخامس ، وهو يصدق
بواجب واحد ، ولا تقوم حجة على وجود واجب آخر ، بل على عدمه وانتفائه ،
وبيانه من وجوه:
(الأول) : لو جاز التعدد للزم المحال لأنه لا عدد وراء الواحد تقتضيه
ذات الواجب ، فكل عدد يفرض لا بد أن يكون له مرجح يرجحه على سائر الأعداد
المتساوية في نظر العقل بالنسبة لما يجوز عليه التعدد ، فإن وجد المرجح لزم أن
يكون الواجب المسبوق به حادثًا؛ لأنه ليس من ذاته ، والواجب قديم كما سبق
برهانه ، فلا يكون ما فرض واجبًا واجب وهو تناقض محال ، وإن لم يوجد
المرجح؛ لزم ترجيح العدد الذي فرض انتهاء الواجب إليه على غيره بدون مرجح
وهو محال فثبت نقيضه وهو أن الواجب واحد لا يتعدد.
(الثاني) : أن واجب الوجود ما عرف بالحس ، وإنما عرف بالعقل الذي
نظر في هذه الكائنات الممكنة فوجدها بديعة النظام متقنة الصنع سننها مطردة
ونواميسها ثابتة محكمة ، فعلم أنها صادرة عن ذات واحدة واجبة ذات علم وإرادة
وقوة ، ولو كان صدروها عن ذوات واجبة متعددة للزم أن يكون لكل ذات علم
وإرادة وقدرة مغايرات لما للذات الأخرى ، وما كان صادرًا عن قُدر وإرادات وعلوم
متعددة لا يجري على نظام واحد ، بل يختلف باختلاف مصادره ، وهذه الكائنات لا
خلل فيها ولا اختلاف؛ فوجب أن تكون صادرة عن ذات واحدة لا عن ذوات
متعددة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) .
(الثالث) : يمكن الاستدلال على وحدة الصانع من كل ذرة في الكون كما
يستدل بمجموع الكائنات على ما في الوجه الثاني ، ولهذا قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد
وبيانه بالإيجاز أن كل ذرة من الذرات التي تألفت منها مادة الكون (كالجوهر
الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ) إذا فرضنا تعلق أكثر من إرادة بإيجادها فلا يخلو
إما أن تنفذ واحدة من تلك الإرادات فقط ، وإما أن تنفذ جميعها ، فإن نفذت جميعها
لزم اجتماع أكثر من مؤثر على أثر واحد بسيط وهو محال ، وإن نفذت إرادة واحدة
فقط ووجدت تلك الذرة بقدرة صاحبها وحده كان صاحب الإرادة النافذة والقدرة
المؤثرة هو الواجب الذي يستند اليه الإيجاد ، وماعداه من الواجبين المفروض
وجودهم باطل لا حقيقة له (ألا كل شئ ما خلا الله باطل) هذا إذا فرضنا أن
الواجبين اتفقوا على إيجاد الذرة ، وإذا فرضنا أنهم اختلفوا بأن أراد أحدهم إيجادها
وغيره عدم إيجادها ، فحينئذ إما أن تنفذ الإرادتان معًا؛ فيلزم التناقض المحال وهو
أن الذرة وجدت ولم توجد ، وإما أن تنفذ إرادة واحدة فقط فيكون صاحبها هو
الواجب الذي تصدر عنه الممكنات ، وفرض وجود واجب آخر معه باطل لا حقيقة
له لأننا لا نعرف للواجب معنى إلا الذات التي لها الوجود من نفسها ، وعنها تصدر
سائر الوجودات الممكنة بقدرة وإرادة وعلم.
ويمكن ايراد البرهان بكيفية أخرى ، وهي إذا فرضنا وجود واجبين لكل منهما
علم تام وإرادة نافذة وقدرة كاملة ، وأرادا إيجاد شيء فلا يجوز أن تنفذ الإرادتان
لئلا يكون للشيء الواحد وجودان متغايران لكل واحد منهما مصدر مغاير للمصدر
الآخر ، وهو محال ، ولا يجوز أن تنفذ إحدى الإراتين إذ لا مرجح يرجحها على
الأخرى؛ لأن الفرض أنهما متساويان فيلزم من تعدد الواجب أن لا يوجد ممكن ما ،
لكن وجود الممكنات ثابت بالمشاهدة ، فتعين أن تكون صادرة عن واجب لا إله
غيره ولا رب سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نجاح التعليم في الأزهر
الشريف
يسرنا ما نراه عامًا بعد عام من نجاح الإصلاح الجديد الذي أدخل
في الأزهر الشريف ، وهذا النجاح لم يظهر إلا في المشتغلين من طلاب العلم
بالعلوم الجديدة التي أضيفت على علوم الأزهر كالحساب والجغرافيا ، فقد تبين
بالإحصاء الدقيق في امتحان المكافأة لهذه السنة أن الذين امتُحنوا في علم التفسير من
المشتغلين بالعلوم الجديدة 41 طالبًا نجح منهم ثلاثون ، ستة منهم نالوا المكافأة،
وأربعة وعشرون نقلوا إلى درجة أعلى ، أو سنة أخرى في التعليم ، وسقط أحد
عشر أي نحو الربع ، والذين امتحنوا في هذا العلم من غير المشتغلين بالفنون
الجديدة 22 طالبًا سقط نصفهم ، ونال المكافأة واحد فقط ، ونقل العشرة الباقون ،
وإن الذين امتحنوا في علم الفقه والميراث من المشتغلين بالفنون الجديدة 357 طالبًا
نجح منهم 198 أخذ المكافأة منهم 59 ونقل 139 وسقط 159 والذين امتحنوا فيه
من غير المشتغلين بالفنون الجديدة 177 نجح منهم 71 منهم 15 أخذوا المكافأة
و56 نقلوا وسقط 106 ، والذين امتحنوا في الحديث والمصطلح من المشتغلين بالفنون
الجديدة 25 نجح منهم 11 أخذ المكافأة منهم 5 ونقل 6 وسقط 14 ، ومن غير
المشتغلين بها 21 نجح منهم 8 أخذ المكافأة واحد ، ونقل 7 ، وسقط 13 ، والذين
امتحنوا في النحو والصرف والوضع والاشتقاق من المشتغلين بالعلوم الجديدة 310
نجح منهم 168 أخذ المكافأة منهم 21 ، ونقل 147 ، وسقط 142 ، ومن غير
المشتغلين بها 155 نجح منهم 64 أخذ المكافأة منهم 8 ، ونقل 56 ، وسقط 91 ،
والذين امتحنوا في علوم البلاغة الثلاثة من المشتغلين بالعلوم الجديدة 93 نجح منهم
68 طالبًا أخذ المكافأة منهم 19 ونقل 49 وسقط 25 ، ومن المشتغلين بها 83 نجح
منهم 50 أخذ المكافأة منهم 14 ونقل 36 وسقط 33 ، والذين امتحنوا في علم
التوحيد من المشتغلين بالعلوم الجديدة 157 نجح منهم 63 أخذ المكافأة منهم 15 ونقل
48 وسقط 94 ، ومن غير المشتغلين بها 98 نجح منهم 22 أخذ المكافأة منهم اثنان
فقط ونقل 20 وسقط 76 ، والذين امتحنوا في المنطق وآداب البحث من
المشتغلين بالعلوم الجديدة 131 نجح منهم 83 أخذ المكافأة منهم 19 أو نقل 64
وسقط 48 ومن غير المشتغلين بها 62 نجح منهم 34 أخذ المكافأة منهم 3 فقط
ونقل 31 وسقط 28.
فتبين من ذلك أن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة هم الناجحون في العلوم
الدينية ووسائلها من علوم اللغة والمنطق ، والنسبة بينهم وبين من لم يشتغل بها
بعيدة جدًا ، وإنهم لثقتهم بنجاحهم وتحصيلهم أكثر إقدامًا على الامتحان فإن الذين
امتحنوا منهم أكثر عددًا من الذين امتحنوا من غيرهم كما هو ظاهر في الإحصاء.
ولا غرو فإن علم الحساب والهندسة مما يقوي العقل والإدراك ويقوم الذهن؛ لأنه
عمل فكري محض ، ومسائله وبراهينه كلها يقينية، متى برع فيها الذهن سهلت
عليه البراعة في غيرها ، وعلم الجغرافيا يعطي صاحبه معرفة بالعالم الذي يعيش
فيه فيستنير عقله ، وتنشط نفسه في طلب التقدم والترقي ، وسيكون المشتغلون بهذه
العلوم هم المدرسين والمؤلفين والقضاة والمفتين ، وإذا ضموا إليها سائر العلوم
العصرية التي عليها مدار العمران؛ فإننا نرجو أن يكون منهم أئمة يفتخر بهم العالم
الإسلامي ، ويرجع إليه مجده بهديهم ، فإن أكابر أئمة العلماء السالفين كانوا واقفين
أتم الوقوف على العلوم الحكمية والرياضية التي كانت في عصرهم لا سيما الإمام
الغزالي والإمام الرازي وأضرابهم مع أن تلك العلوم لم تكن في عصرهم مدار
العمران ومن أسباب القوة والعزة والثروة كما هي الآن ، ومن المشاهد أن الذين
لهم معرفة ما بهذه العلوم من علماء هذا العصر هم أكثر تقدمًا ونجاحًا من غيرهم
فعسى أن يتدبر ما نقول نجباء الطلاب وما يتذكر إلا أولو الألباب.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(28)
من الدكتور وارنجتون إلي الدكتور أراسم في 12 يوليه سنة - 185.
أبشرك أيها السيد العزيز بغلام جميل ولد لك في الساعة الثالثة من صباح هذا
اليوم بعد ما قاسته والدته من طول العناء وشديد الألم ، ولقد كنت عشية أمس مشفقًا
من أن يحل بها مكروه لبعض علامات بدت عليها ، ولكن قد أعانتنا قوة طبيعتها ،
وسلامة خلقها على النجاة من الخطر ، وأصبحت صحتها من الجودة على ما كنا
نرجوه لها ، أما الغلام فجل ما يبتغيه أن يعيش ليخلد به ذكرك ، ويعلو بنباهته قدرك
ويعظم فخرك.
وهذه فرصة قد انتهزتها لمكاشفتك بما في قلبي لك من المنزلة الرفيعة ،
وما في نفسي من جواذب الميل إليك ورجائك في أن لا تضن بي على أي خدمة
يلزم لك أداؤها ، وأن لا تكتم عني حاجة يعوزك قضاؤها ، فإن قبلت هذا
الرجاء استوجبت خالص شكري لأنك بذلك تكون قد برهنت لي على أنك لم تنس
صديقك القديم ، نحن معشر الإنكليز متهمون عندكم بأن فينا شيئًا من الانقباض عن
الناس والاحتراس في معاملتهم ، ولكن ربما كنا خيرًا مما اشتهر عنا ، وعلى كل
حال فإن لنا قلوبًا تعطف على البائسين وتكرم المنكوبين.
…
...
…
صديقك المخلص.
…
(29)
من هيلانة إلي أراسم في 2 أغسطس سنة- 185
لابد لي أن أقص عليك تاريخي فيما يسميه الإنكليز اعتكاف النُّفَساء، ملتزمة
في ذلك طريق الايجاز فأقول:
استأجرت ممرضة كما هي العادة هنا ، وهي امرأة واسعة الخبرة في أمور
التمريض والولادة ، أراك تقضي منها العجب لو سمعتها تتكلم في الطب والجراحة
والقيام على الأطفال وغير ذلك مما يدل على كثرة درايتها فيما يلزم لمهنتها ،
والظاهر أنه يوجد من هؤلاء القوابل في إنكلترا قبيلة بتمامها ، ووظيفتهن في حق
الوالدات هي أن يرشدن من يكن منهن حديثات عهد بالولادة إلي ما يعود عليهن
وعلى أولادهن بالنفع ، وينفذن ما يصفه الطبيب من طرق التداوي ، وعندهن
بحسب ما يُسمع منهن عدة من المركبات الدوائية لمداواة بعض طوارئ العلل لا
يتخلف عنها الشفاء ، أما قصصهن في هذا الموضوع ، فإنها لا نفاد لها ، وإني لو
اعتقدت صدق كلامهن في جميع الأطفال الذين يدعين أنهم نجَوا على أيديهن من
الموت لبطل عجبي من كون إنجلترا قد وجدت من أبنائها العدد الكافي لعمارة
إستراليا وزيلاندا الجديدة ، وسائر مستعمراتها.
أما التي تقوم علي منهن ، فهي - فوق ما تقدم من الصفات - امرأة بارعة
ذات فضل يظهر أن صفة الأمومة العامة قد صارت غريزة من غرائزها ، وهي
قصيرة هيفاء تلوح عليها سمات الاستقامة وكرم النفس، شهدت في ماضيها كما يقال
أيامًا فإنها كانت زوجة لرجل كان ملاحظًا للأعمال في أحد مناجم كورنواي وقتل
بسبب اندكاك هذا المنجم فترملت من بعده ، وقد رزقت هي أيضًا عدة أولاد فارقوها
من عهد بعيد ، وتشتتوا في البر والبحر ابتغاء الرزق، اثنان منهم ملاحان صالحان
يصلانها حينًا بعد حين بصندوق من الشاي وقطعة نقد من الذهب ، وقد عرض عليها
أن تكون ممرضة في مستشفي كبير فلم تقبل على ما في إبائها من المباينة لمصلحتها ،
وقالت: إني أفضل أن أتلقى الوافدين إلى الدنيا ، وأرجو لهم حياة طويلة فيها على
توديع من يفارقها فراقًا أبديًّا.
كان الدكتور وارنجتون قد أوصى قبل سفره بأن يؤذَن بدنو ساعة الولادة، فلما
حان الوقت أُرسل إليه مكتوب فلم يلبث أن جاء من لوندرة على إثره قبل أن
يضربني الطلق وتنزل بي شدائد المخاض وأهواله ، ومما يُحمد في خصال
الإنكليز أنهم إذا أسدوا إلى غيرهم معروفًا لا يمنون عليه ، بل لا يظهرون له
قصدهم بذلك خدمته ، أو إسداء المعروف إليه ، وذلك إما أن يكون منهم رقة طبع
وكمال أدب أو كبرًا وترفعًا عن خدمة سواهم، يدلك على ما أقول أني لما شكرت هذا
الدكتور على مجيئه وتركه مرضاه في لوندرة كان جوابه لي أن قال: رويدك فإني
ما جئت من أجلك ، وإنما جئت لزيارة زوجتي وأولادي ، فهذا الجواب يعتبر
في رأينا معشر الفرنساويات دليلاً على قلة الظرف ، ويعده كثير من الباريسيات
إهانة وتحقيرًا ، أما أنا فلم أنظر إلا إلى قصد قائله ، فهو جليل ، فإنه على يقيني
بأن الغرض من مجيئه هو غير ما يقول قد أراد أن يقنعني بأن وجوده عندي إنما
كان اتفاقًا لا تعملاً فلا يد ولا منة له علي ، أو أنه كان شيء من ذلك فلا ينبغي أن
يتمدح به أو أن يذكر.
ثم إنه لم يقف في تفضله علي عند حد مساعدتي بعلمه وحذقه في فن التوليد
على النجاة من الهلاك الذي كنت مشفقة من الوقوع فيه ، بل إنه قد تكرم أيضًا بأن
محضني النصح شأن الصديق مع صديقته فيما يجب للمولود من ضروب العناية
فقال: (إني أخاطب الآن غَرة لا خبرة عندها فلا تدهش لما سألقيه عليها من
أفكاري ، فإن أقل مزية لها أن أساسها التجربة والاختبار ، قد نبه كثير من وصفائي
أفكار الناس في جميع البلدان إلى كثرة عدد الوفيات المريعة في الأطفال الحديثي
العهد بالولادة ، ويمكن إرجاع هذه البلوى إلي جملة أسباب، كفاقة الوالدين وفساد
أخلاقهما وعدم كفاية أقواتهما ، ولكني أعتقد أن أخص سبب يجب أن ينسب إليه
ذلك هو جهل الأمهات بما تجب عليهن رعايته في شأن أولادهن، فإن الاساءة في
بعض طرق العناية بالمواليد كاتخاذها في غير وقتها ، أو الخطأ في تدبيرها لا تقل
عن إهمال شأنهم شؤمًا وسوء مغبة ، وإني لست أقصد بهذا أنه يجب على الأمهات
أن يجرين على ما تقتضيه الفطرة جري عماية وغفلة ، فإنهن إن يفعلن ذلك يعصين
الله (سبحانه) بتخليهن عن العقل الذي لم يهبه لهن إلا لمراقبة سير الفطرة في
مناهجها وإقامتها عليها إذا حادت عنها ، وإنما أعني بذلك أن الاوهام والعادات
والمعارف الكاذبة هي أعدى أعداء المواليد فتجب محاربتها ومحو آثارها ، وينبغي
أن تعتقدي أننا لسنا أسوا من غيرنا حالاً في تربية مواليدنا؛ لأن شعبنا يزداد زيادة
ظاهرة حتى إنه قد ضاقت عن سكناه أرجاء بلادنا وها نحن أولاء نرسله أفواجًا إلي
الأقطار السحيقة ليتوطنها ويستعمرها، ومن هذا تعلمين أن ازدياد الأجناس لا يكون
على نسبة عدد الأطفال المولودين ، بل على نسبة عدد من يتخطاهم الموت منهم ،
وعندي أن هذه النتيجة الحسنة الداعية إلي الاغتباط في بلادنا ترجع إلي ثلاثة أمور
وهي: استعداد الدم الإنكليزي السكسوني للحياة ، وانطباع نسائنا على حب بيوتهن
والعناية بها وما لذوي العقول المستضيئة بنور العرفان من علمائنا من التأثير في
نفوس العامة فإن كثيرًا من نطس الأطباء الطائري الصيت عندنا لم يأنفوا أن يقوموا
ببث الأفكار الصحيحة والآراء السديدة في فن القيام على المواليد بين
أفراد الشعب) .
ولم يكد الدكتور يفرغ من كلامه حتى باشر العمل بنفسه ورتب ما رآه غير
مرتب في غرفة نومي، من ذلك أنه وجد مهد (أميل) قد وضع خطأ تجاه الشباك
فغير وضعه وقال لي: (إني رأيت أطفالاً أصبحوا عميًا أو حولاً بسبب تعريضهم
بعد ولادتهم بأيام لضوء شديد) هذا وإني سأتحفك بنصائح أخرى وعيتها عن هذا
الرجل الفاضل لما رأيته فيها من كمال الحكمة والسداد ، ولم أُخِل بشيء منها ،
وإني لا أرتاب في أنه قد تكلف من المشقة والتعب من أجلي ما لم يتكلفه لغيري من
النساء اللاتي يُدعى لتوليدهن ، وعاملني كما يعامل الرجل زوجة صديقه ، على أن
الناس قد أكدوا لي أن الأطباء المولدين هنا لا يرون أن عملهم قد تم بمجرد انتهاء
الولادة ، بل يرشدون الوالدة بعد ذلك إلي جميع ما يلزمها في تربية وليدها اهـ.
(30)
من هيلانه إلي أراسم في 3 أغسطس سنة - 185
كلما رددت النظر إلى (أميل) رأيت مثالك محققًا فيه ولا بد لي أيها
العزيز أراسم أن أحكي لك بهذه المناسبة حكاية طبق ذكرها الآفاق في البلد الذي
أسكنه، ذلك أن قسيسًا بروتستنتيًّا قاطنًا في جنوب إنكلترا وجد اتفاقًا في كورنواي
يومًا من الأيام فطلب أن يزور قصرًا عتيقًا جدًّا في ضيعة هناك كانت لأسلافه في
غابر الأزمان ، ولذلك كان كثير الاهتمام برؤية أماكنها ، فلما حل بها ملأه العجب ،
وأخذ منه الاندهاش كل مأخذ إذ رأى في الرواق المعلقة فيه صور أهل هذا البيت
السالفين صورة كأنها تمثله بذاته مرسومًا على قماش قديم لابسًا عُدة الحرب كما كانت
سُنة الناس في القرون الوسطى لا بملابسه السوداء التي يلبسها اليوم ، وبينما هو يتأمل
في هذه الصورة وفيما يليها من الصور إذ وقع بصره على صورة أخرى زادته ارتياعًا
ودهشةً فتقهقر خطوتين إلي الوراء وهي صورة تمثل ابنه البكر ، وهو في الثالثة
عشرة من عمره ، وكان معه في هذا الرواق، فماذا تفتكر في هذه الصورة الوراثية؟
أما أنا فإني أكاد أفزع عند ما أفتكر في أن رجلاً من الأحياء يعرف نفسه وابنه في
شخصين مجهولين من أهله ماتا من عدة قرون.
فليت شعري هل نحن راجعون إلي الدنيا بعد الفناء كما روى لنا التاريخ ذلك
عمن يؤمنون بالرجعة والتناسخ؟ اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم)
أنقل فيه فتوى للعلامة ابن حجر الهيتمي ليعتبر بها مجاورو الأزهر وغيرهم
وهي:
(وسئل نفع الله به: هل من السحر ما يفعله أهل الحِلق الذين في الطرقات ،
ولهم فيها أشياء غريبة كقطع رأس الإنسان وإعادتها وندائهم له بعد قطعها ،
وقبل إعادتها فيجيبهم ، وجعل نحو دارهم في التراب ، وغير ذلك مما هو مشهور
عنهم ، وكذا كتابة المحبة والقبول وإخراج الجان ونحو ذلك؟ فأجاب بقوله: هؤلاء
في معنى السحرة إن لم يكونوا سحرة، فلا يجوز لهم هذه الأفعال ، ولا يجوز لأحد
أن يقف عليهم لأن في ذلك إغراء لهم على الاستمرار في هذه المعاصي والقبائح
الشنيعة ، وإفسادهم قطعي وفسادهم حقيقى ، فيجب على كل من قدر منعهم من
ذلك ، ومنع الناس من الوقوف عليهم ، وإذا كان كثير من أئمتنا أفتوا بحرمة المرور
بالزينة على أن أكثر أهلها مكرَهون على التزيين بخصوص الحرير ، ورأوا أن
التفرج عليها فيه إغراء على فعلها ، وللحكام على الأمر بها ، فما ظنك بالفرجة
على هؤلاء الكذبة المارقين والجهلة المفسدين ، وفي الموَّازية من كتب المالكية:
الذي يقطع يد الرجل أو يدخل السكين في جوف نفسه ، إن كان سحرًا قتل، وإلا
عوقب ، وسئل ابن أبي زيد من أئمتهم عن نحو ما في السؤال ، فقال: إن لم يكن
في أفعالهم تلك كفر فلا شيء عليهم ، وتعقبه المرزباني فقال: هذا خلاف ما اختاره
شيخنا الإمام أنهم سحرة ، وأن الوقوف عليهم لا يجوز ، وهو يشبه ظاهر الرواية
لابن عبد البر، روى ابن نافع في المبسوطة في امرأة أقرت أنها عقدت زوجها عن
نفسها أو غيرها أنها تنكل ولا تقتل ، قال: ولو سحر نفسه لم يقتل، بذلك قال شيخنا
الإمام ، والأظهر أن فعل المرأة سحر ، وإن كان فعل ينشأ عنه حادث في أمر منفصل
عن محل الفعل فإنه سحر ، وعن ابن أبي زيد: من يعرف الجن وعنده كتب فيها
جلب الجن وأمراؤهم فيصرع المصروع ، ويأمر بزجر مردة الجن عن الصرعة ،
ويحل من عقد عن امرأة ، ويكتب كتاب عطف الرجل على المرأة ، ويزعم أنه يقتل
الجن - أفي هذا بأس إذا كان لا يؤذي أحدًا وينهى بريًّا أن لا يتعلمه (كذا) قلت:
هذا نحو مما أنكره شيخنا من عقد المرأة زوجها ، والصواب أن التقرب إلى
الروحانيات ، وخدمة ملوك الجان من السحر ، وهو الذي أضل الحاكم العبيدي لعنه الله
حتى ادعى الألوهية ، ولعبت به الشياطين حتى طلب المحال ، وهو مجبول على
النقص وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة.
وعن ابن أبي زيد أيضًا: لا يجور الجُعل على إخراج الجان من الإنسان لأنه
لا يعرف حقيقته ولا يوقف عليه ، ولا ينبغي لأهل الورع فعله ولا لغيرهم، وكذا
الجُعل على حل المربوط والمسحور ، وسئل أيضًا عمن يكتب كتاب عطف لامرأة
أعرض عنها زوجها ليُقبل عليها وتكتفي شره ، فأجاب: أما ما بين الزوجين فأرجو
أن يكون حقيقيًّا بكتب القرآن وغيره مما لا يستنكر ولا يشترط في جُعله ، قلت:
وهذا خلاف ما تقدم له، إلا أن هذا بالرقى الظاهرة الحُسن كرقي أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه سيد الحي الملدوغ بالفاتحة. انتهى.
ومذهبنا أن كل عزيمة مقروءة أو مكتوبة إن كان فيها اسم لا يعرف معناه فهي
محرمة القراءة والكتابة سواء في ذلك المصروع وغيره ، وإن كانت العزيمة أو
الرقيا مشتملة على أسماء الله تعالى وآياته والإقسام به وبأنبيائه وملائكته، جازت
قراءتها على المصروع وغيره وكتابتها كذلك ، وما عدا ذلك من التبخيرات
والتدخينات ونحوهما مما اعتاده السحرة الفجرة الحرام الصرف ، بل الكبيرة ، بل
الكفر بتفصيله المشهور عندنا ، ومطلقًا عند مالك وغيره ، وسئل ابن أبي زيد
المالكي عن أجر أن يكتب فيها (كذا) نحو اسم الله الذي أضاء به كل ظلمة ،
وكسر به كل قوة ، وجعله على النار فأوقدت ، وعلى الجنة فتزينت ، فأقام به
عرشه وكرسيه ، وبه يبعث خلقه ، وما أشبه ذلك مع قرآن تقدمه فهل بهذا بأس؟
فقال: لم يأت هذا في الأحاديث الصحاح ، وغير هذا من القرآن والسنة الثابتة عن
النبي صلي الله عليه وسلم أحب الينا أن يدعى به ، وذكر في أثناء كلامه أن ذلك لا
يجوز إلا ببعد من التأويل. انتهى.
وممن صرح بتحريم الرقيا بالاسم الأعجمي الذي لا يعرف معناه (أي كأسماء
الطهاطيل وأسماء أهل الكهف) ابن رشد المالكي والعز بن عبد السلام الشافعي
وجماعة من أئمتنا وغيرهم ، وقيل وعن ابن المسيب ما يقتضي الجواز لقوله صلي
الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه. انتهى ، ولا دليل فيه لأنه لم
يقل لهم ذلك إلا بعد أن سألوه أن عندهم رقيا يرقون بها فقال لهم صلي الله عليه
وسلم:) اعرضوا علي رقاكم فعرضوها عليه فقال صلي الله عليه وسلم: (لا بأس)
ثم قال: (من استطاع منكم) إلخ فلم يقل ذلك إلا بعد أن عرف رقاهم ، وأنه لا
محذور فيها ، وذكر بعض أئمة المالكية أن من أمر الغير بعمل السحر لا يقتل
بالأمر بل يؤدب أدبًا شديدًا كما في المدونة ، وسئل بعضهم عن رجل صالح يكتب
للحُمى ويرقي ، ويعمل النشر ويعالج أصحاب الصرع والجنون بأسماء الله والخواتم
والعزائم ، وينتفع بذلك كله من عمله ، ولا يأخذ على ذلك الأجور فهل له بذلك أجر؟
فأجاب: أما الكتب للحمى والرقى وعمل النشر بالقرآن وبالمعروف من ذكر الله
تعالى ، فلا بأس به ، وأما معالجة المصروع بالجنون بالخواتم والعزائم ففعل
المبطلين، فإنه من المنكر والباطل الذي لا يفعله ولا يشتغل به من فيه خير أو دين ،
فإن كان هذا الرجل جاهلاً بما عليه في هذا فينبغي أن يُنهى عنه ، ويُبصر فيما عليه
فيه حتى لا يعود إلى الاشتغال به. اهـ فتوى ابن حجر ، ولا يخفي أنه ليس كل ما
يفرضه الفقهاء لبيان حكمه يكون واقعًا أو مما يقع، فإنهم أحيانًا يفرضون المستحيل
عادة بل وعقلاً كما صرحوا به.
(اقتراح في الإصلاح الإسلامي)
كتب بعض أهل الفضل والغيرة الملية كتابًا إلى مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ
محمد عبده مفتي الديار المصرية يقول فيه: إنه قرأ رسالة التوحيد؛ فعرفتْه دينه
بقليل من الزمن ، وأزاحت من سماء فكره سحب أوهام وشُبه طال عناؤه من قبل
في السؤال عنها ، فلم يستفد من كتاب ولا من عالم ما يزيحها ، ثم اطلع على تقرير
المحاكم الشرعية فألفاه قد شخص الداء ووصف الدواء على أكمل وجه ، وعند ذلك
جال في فكره أنه ينبغي لهذا الإمام الحكيم أن يضع تقريرًا آخر يشخص مرض الأمة
الإسلامية كلها ويصف دواءه ، وقوي عنده هذا الفكر حتى دفعه إلى الكتابة للأستاذ
يطلب منه ذلك بالوجه الذي يرى ، وعلى الوجه الذي يرى ، وقال: إن ذلك التقرير قد
طلبته منك الحكومة ، وهذا التقرير يطلبه منك دينك وأمتك ووطنك ويكافئك عليه الله
الذي بيده ملكوت السموات والأرض ، واقترح على الأستاذ أن يجاوبه على كتابه هذا
في مجلتنا (المنار) وهذا المنار يجاوبه بما يعلمه عن الأستاذ في هذا المقام علم اليقين
وهو:
إن الأستاذ وعد بتأليف كتاب مخصوص في هذا الغرض يسميه (الإسلام
والمسلمون) وقد أشار إلى هذا الوعد في الصفحة 128 من رسالة التوحيد ، ولم
تزل عوائق الزمان وصوادف البيئة والمكان تحول دون الشروع فيه ، وقد
اقترحنا على فضيلته نحن وكثيرون ممن يحضرون درسه في التفسير الذي يقرأه
في الأزهر الشريف أن يؤلفه تفسيرًا على الوجه الذي يقرأه ، فإنه مبين لأمراض
الأمم الروحية والاجتماعية ومرشد إلى علاجها؛ لأن القرآن فيه تبيان كل شيء ،
وقد فسر من حيث هو كلام بليغ مشتمل على أحكام وفرائض ، ولكنه لم يفسر على
أنه دين مرشد للأمم وقائد للشعوب إلى السعادة الاجتماعية المدنية في دنياهم
والسعادة الروحية الأخروية في عقباهم، حتى قام هذا الأستاذ الحكيم يفسره على هذا
الوجه ، بل إن غير واحد ممن يعرف فضل الأستاذ في غير مصر قد كتبوا
يقترحون عليه هذا الاقتراح حتى بواسطتنا ، ويرون أن هذا التفسير كافٍ لإرشاد
الأمة إلى جميع ما تطلبه لسعادتها وإرجاع مجدها ، وقد أجاب الاقتراح ووعد
بالكتابة، فما علينا إلا أن نسأل الله تعالى أن يسهل لفضيلته أسباب التعجيل بالعمل.
ثم نقول: إنه يجب على الذين تنبهت نفوسهم إلى سوء حال الأمة ووجوب
السعي في تجديد دينها وإعادة مجدها أن لا يتواكلوا ويعتمدوا على من يعتقدون أنه
أوسع منهم علمًا وحكمة ، بل يجب على كل واحد أن يبحث ويسعى في استعراف
الداء والدواء وطريق المعالجة والله تعالى يهدي كل طالب بصدق وإخلاص ،
ويعطيه على مقدار جده واجتهاده ، وهؤلاء الباحثون يكونون بلا ريب أبلغ فهمًا
وأكثر انتفاعًا بما يكتبه الأستاذ ، والذين يسيرون في طريق واحد ينتهون مع
الاستقامة في السير إلى غاية واحدة ، وإن كان سير بعضهم بطيئًا وسير الآخر
حثيثًا ، وأما الواقف انتظارًا لمن يحمله ويوصله إلى الغاية فقد يهلك دون مقصده
ولا يجد من يحمله ، ومن لطيف الاتفاق أن كاتب هذه السطور كان يذاكر بعض
المهذبين في حال الأمة وما تحتاجه من الإصلاح فقال شاب مهذب: إنني أتمنى
أن يكتب مولانا الأستاذ مفتي الديار المصرية كتابًا في حال الأمة وأمراضها وطرق
علاجها ، وأن يعرضه على المشهورين من أهل العلم والفكر ليقرّوه ويوافقوا عليه ،
ثم يُنشر لتأخذ به الأمة وتعتمده ، وفي مساء ذلك اليوم علمت بورود الكتاب الذي
نحن بصدد الكلام عليه إلى فضيلة الأستاذ فالأفكار التي تتسابق في ميدان واحد
كثيرًا ما تلتقي في نقطة واحدة ، فالباحثون في حال الإسلام والمسلمين بصدق
وإخلاص لا بد أن يصلوا في يوم ما إلى نتيجة واحدة (وعلي الله قصد السبيل
ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) .
(الانتصار بالدين، وصلاة روبرتس)
يقول الله - تعالي - في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45) والفلاح في الحرب
الانتصار ، والسبب فيه معقول ، وهو أن المحارب إذا ذكر الله الذي يعتقد أن بيده
ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، واستمد منه النصر لأنه يحارب
بحق يرضيه ، وهو القوي الذي تتضاءل لديه كل القوىَ فلا شك أنه يزداد جرأة
وإقدامًا ويستهين بخصمه وإن كان استعداده فوق استعداده ، ولذلك فرض على
المؤمنين أن يقاتلوا ضِعفهم على الأقل. وقد ثبت هذا بالتجربة في كل عصر ،
ومن ذلك ما اتفقت عليه كلمة الباحثين في الحرب الأخيرة بين الإنكليز والترنسفال
من أن من جملة أسباب انتصار البوير على الإنكليز نحو خمسة أشهر متوالية، أن
البوير كانوا عند اشتباك القتال يذكرون الله ويستمدون النصر من عنايته والإنكليز
يذكرون الوطن (ليعتبر أنصار الوطنية) والملِكة ، ولما تلافى الإنكليز أسباب
الانكسار وأكثروا عَددهم وأصلحوا عُددهم لم ينسوا هذا السبب المهم ، ولذلك كتب
قائدهم الجديد العام اللورد روبرتس صلاة (دعاء) وزعها على الجيش ليتلوها كل
واحد منهم عند الزحف وهذه ترجمتها:
(اللهم إننا ملوثون بالذنوب والآثام ، فطهرنا منها بدم المسيح ، وأيدنا بروح
منك لنقدر على إصلاح حالنا وحياتنا ، ويسر لنا لقاء أهلنا وأولادنا الذين خلَّفناهم
في ديارنا ، وقوِّنا على رفع كلمتنا الحقة بالشجاعة والإقدام ، ووفقنا للثبات في
المهالك التي انتُدبنا إليها ، والقيام بخدمة وطننا ورفع أعلامنا بصدق واخلاص ،
وألهمنا الصبر على ما ابتلينا به ووفقنا لإعلاء شأن إنكلترا بالظهور على الأعداء
إن كان ذلك قد سبق في علمك ، وارزقنا مع عصياننا لك قوة نغلب بها عدونا ،
لنكون مقبولين عندك أكثر ممن ظهروا علينا بجاه سيدنا المسيح الذي بذل نفسه
لأجلنا) اهـ.
(الصواب)
جريدة أسبوعية سياسية تجارية أدبية تصدر في ريوجانيرو من جمهورية
البرازيل رئيس تحريرها حبيب أفندي الخوري ، والمحرر المسئول ميخائيل أفندي
مراد ، ومدير أعمالها بطرس أفندي روفائيل كرم ، وقد ورد علينا منها إلى الآن 6
أعداد رأينا فيها من الفوائد ما يقوي الرجاء بنجاحها فسُقيا لأصحابها وحمدًا وشكرًا.
نقلت جمعية شمس الإسلام إلى سراي محمود باشا سامي البارودي في باب
الخلق حيث إدارة مجلة المنار.
وكلاء المنار
علم قراء المنار أن وكيله علي رضا الديب قد جمع مبلغًا من مال الاشتراك ،
وانقطع خبره عنا ، فنشدناه في المنار ، فخاف الفضيحة بأكل مبلغ رآه قليلاً فحضر ،
وقال: إنني اضطررت إلى إنفاق المبلغ الفلاني الذي جمعته ، وإذا أبقيتموني في
العمل أعوضه في وقت قريب ، ولكن لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، فوقفناه عن
العمل حتى يُحضر المبلغ ، فما كان منه إلا أنه اختفى عن الأنظار ، فنرجو ممن
يعرف مكانه من قرائنا أن يتفضل علينا بالبيان، وقد فعل معنا هذا الوكيل كما فعل
معنا مِن قبله وكيلنا السابق في الإسكندرية الشيخ أحمد عبد الكريم فإنه جمع مبلغًا
وأكله ، وقطع المخابرات بيننا وبينه بعد ما كان يوهمنا أنه شيخ صوفي ، الآن
نطلب وكيلاً للمنار من أهل الإيمان (ولا إيمان لمن لا أمانة له) ولا نقبله مع ذلك
إلا بضمانة معتمدة يوثق بصاحبها.
(فذلكة ومقابلة) علم من الإحصاء الأزهري المنشور في باب التربية
والتعليم أن الذين أخذوا المكافأة من المشتغلين بالعلوم الجديدة 13 في المائة والذين
نقلوا 44 في المائة ، والذين سقطوا 45 في المائة والذين أخذوا المكافأة من غيرهم
7 في المائة أي نحو نصف أولئك ، والذين نقلوا 36 في المائة ، والذين سقطوا 60
في المائة (بالتقريب) وعلم أن مجموع الذين امتحنوا من الأولين 1114 طالبًا
ومن الآخرين 618 أي أن الممتحنين من غير المشتغلين بالعلوم الجديدة نحو نصف
الممتحنين من المشتغلين بها مع أن المشتغلين بها لا يبلغ عددهم الثلث من مجموع
طلاب العلم في الأزهر.
***
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع المعارف والمدارس)
عدد المدارس اليونانية في القسطنطينية وضواحيها يزيد عن مائة يختلف عدد
تلامذتها من أحد عشر إلى اثني عشر ألفًا، ثلاثة أرباعهم ذكور. أكثر الطوائف
استفادة مما منحته جلالة السلطان للرعايا من وسائل في التربية والتعليم العام هي
الطائفة الأرمنية ، وكان يجب عليها من أجل هذا أن تخلص لجلالته شكرها وتعترف
بفضله عليها، فإنها قبل حكمه لم يكن لها من المدارس إلا عدد يسير في العاصمة
وبعض المدن الكبرى ، فكان في كل خورنية بالقسطنطينية مدرسة ابتدائية كان التعليم
فيها قاصرًا على القراءة والكتابة ومبادئ الحساب والدين والترتيل الكنيسي لمن يكون
حسن الصوت من الأطفال ، وفي بعض هذه المدارس كان يعلم زيادة عما ذكر النحو
والتاريخ والجغرافيا وقليل من العلوم الرياضية ، فبفضل عزيمة جلالة السلطان
الموجهة إلى ترقية أمته في معارج الحضارة قد بلغت هذه الطائفة من التقدم في التعليم
العام مبلغًا عظيمًا في أسرع ما يكون ، وصارت مدارسها اليوم مساوية لمدارس
الحكومة ، وصارت النهضة العقلية للأرمن أظهر ما يكون خصوصًا في العاصمة ،
فيوجد منهم فيها مائتا ألف مقيمون في ست وثلاثين محلة وضاحية ، ولهم في هذه
المحلات والضواحي تسع وثلاثون كنيسة يتبعها إحدى وخمسون مدرسة ابتدائية للذكور
والإناث ، والتعليم في معظم هذه المدارس مجاني على نفقة الطائفة ، وعدد تلامذتها
يقرب من ستة آلاف تلميذ أربعة آلاف منها ذكور وألفان إناث.
من المدارس الثانوية للأرمن مدرسة بربريان ومدرسة إيفازيان ومدرسة
مسيوريان للإناث في إسكودار ومدرسة ميخدوجيان في يني قبو ومدرسة تريد
يانيان في قوم قبو ، وجميع هذه المدارس أسسها بعض أفراد من الأرمن ،
وللمستشفي الأرمني في يدي قولا مدرسة صناعية للأيتام الذكور والإناث ، وعدد
تلامذتها 425 منهم 206 ذكور و219 إناث ، وفي حسقنى ملجأ لليتامى الذين لا
يوجد لهم من يعولهم تدبر شؤونه الأخوات الأرمنيات ، أول المدارس الأرمنية هي
مدرسة غلطة المركزية التي يتعلم فيها 150 تلميذًا من الذكور التعليم الثانوى ،
ومعلموها من الأرمن والأتراك والأوربيين ، وهم منتدبون من كلية سراي غلطة
الأميرية الاختيارية ، والدروس التي تلقى فيها هي الدين واللغة الأرمنية والإنشاء
واللغات التركية والفرنساوية والألمانية والخط والرسم والجغرافيا والتاريخ العام
والحكمة والتاريخ الطبيعي والطبيعة والكيمياء وعلوم الرياضية والقانون والاقتصاد
السياسي والتحرير في الدفاتر وفن التعليم وفن حفظ الصحة والرياضات البدنية. لم
تتأسس هذه المدرسة إلا في سنة 1886 وقد نتج عنها نتائج جليلة أعلت قدرها كما
أعلت قدر مدرسة سراي غلطة الاختيارية.
من أجل أن يشرك الأرمن معهم في فوائد التعليم العام ومزاياه إخوانهم في
الدين قد أسسوا شركات لنشر التعليم مثل شركة باريكو تساجان ، وشركة أزياجان ،
وشركة وارتانيان وشركة سينيكير يميان وغيرها ، وأشهرها بلا شك هي الشركات
الأرمنية المتحدة التي أنشئت في عهد جلالة السلطان عبد الحميد وإن جلالته تدفع
لهذه الشركة معونات سنوية لمساعدتها على نشر التعليم بين رعاياه المخلصين له
في تركية آسيا ، ولهذه الشركات خمس وثلاثون مدرسة للذكور فيها 2362 تلميذًا
وعشر مدارس للإناث فيها 839 تلميذة ، وإنها لجديرة بالشكر لأنها تعلم 3201 من
أبناء الفقراء التعليم الابتدائي مجانًا.
ويوجد أيضًا شركتان مؤلفتان من السيدات في عهد جلالة السلطان أيضًا
تنافسان شركات الرجال في تعليم بنات الفقراء في الأقاليم وهما:
أولاً: شركة تبروتزاسير هاهيو هيانز التي تخرج المعلمات لمدارس البنات
في الأقاليم فإن لها مدرسة معلمات في استانبول فيها ثمانون طالبة ومن عهد تأسيسها
يتخرج منها كل سنة نحو ثلاثين معلمة للمدارس المختلفة بالأقاليم.
ثانيًا: شركة إسكنانر هاهيو هيانز التي غرضها إنشاء مدارس للبنات
في المراكز الخالية منها فإنها قد أسست إلى الآن خمس مدارس ابتدائية
فيها 500 طالبة.
تتعلم الناشئات من البنات في العاصمة التعليم العالي في مدرسة الحرف التي
في بيرا ففي هذه المدرسة 150 طالبة بقسميها التجهيزي والعالي ، وشرط القبول
فيها أن تكون التلميذة قد تعلمت التعليم الابتدائي ، يتعلم التلميذات فيها زيادة عن
الدروس العلمية شغل الإبرة بجميع أنواعه ، واللاتي يعلمنهن إياه معلمات
استحضرن من البلاد الأجنبية لهذا الغرض ، ولقد كان من صنع أيدي التلميذات
اللاتي في الفرق العالية فيها أشياء من لوازم العرس ، وأنواع من الأطرزة الشرقية
نادرة الإتقان.
مما ينبغي ذكره هنا مدرسة سناياريان في أرضروم التي أسسها أرمنى روسي
من بلدة (وان) في سنة 1881 بتصريح من جلالة السلطان ، وهي مدرسة ثانوية
تننفع بها ولايات آسيا التركية ، ومعلمو هذه المدرسة منتدبون لها من المدارس
الجامعة بألمانيا ، ويتعلم الطالب فيها أيضًا كثيرًا من الحرف اليدوية المتنوعة
كصناعة النعال والنجارة والحدادة وغيرها ، ويقوم بتعليم فني الزراعة وإنشاء
البساتين رجال مخصوصون بعلم هذين الفنين من بلاد الشرق ومن أوربا.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إعادة مجد الإسلام
] كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [[*] .
كثر الخوض في هذه الأيام في إعادة مجد الإسلام فتبارت الألسنة بالكلام ،
وتسابقت في ميادين الصحف جياد الأقلام فغارت عرج الحمير ، ونهقت تطلب
النفير ، وتحاكي للناس الزئير بالشهيق والزفير ، فاشتغل بهذه المجالي والمظاهر
والمسامع والمناظر من لا يميز بين الناطق والناهق ، ولا يُزيِّل بين المسبوق
والسابق ، وأقبل قوم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون يقولون:
كيف يعود للإسلام مجده ، ويرجع إليه عزه وسعده ، وثلثا أهله تحت سلطة الأجانب
والثلث الآخر قد أحدقت به النوائب من كل جانب ، والجواب على هذا السؤال
من الكتاب {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) ومن السُّنَّة: (بدأ الإسلام
غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) ومن كلام علماء العمران: (إن التاريخ يعيد نفسه)
ولنوضح هذه الإشارات بشيء من الشرح والبيان ليظهر الحق للعيان.
كان العالم الإنساني قبيل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة ،
وظلمات من الظلم والفتن ، وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة ، وصدع
بنيانها؛ فأراد الحي القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ، ويقيم بناء مدنيته على
أساس من الحكمة ليثبت ويبقى إلى ما شاء الله تعالى ، ويبلغ به الإنسان كماله
المستعد هو له في أصل الفطرة القويمة ، فأظهر الله جل ثناؤه الإسلام في الأمة
العربية فحملته وطافت به العالم المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية ، فما كان
إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى عم نوره المشرق والمغرب ، ودخل الإنسان في
طور جديد ، وأقام أركان مدنيته على أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل ما
دامت الأرض أرضًا والسماء سماء ، وكيف تزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن
الخليقة ، وقد أخبر مبدعها الحكيم الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل.
لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟ اختارها وهو
أعلم لأسباب ووجوه:
(إحداها) : أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي
أقيم فيها من قبل بنيان الحضارة ، وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق
وفارس حيث كان التمدن الكلداني والآشوري والبابلي والفارسي والفينيقي
والمصري واليوناني والروماني، فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في
الأرض القابلة وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة.
(ثانيها) : أنها كانت- ولا مدنية لها سابقة - أشد استعدادًا من تلك الأمم
التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه الأول وهو
استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي لأنه لم يكن لها رؤساء في الدين والسياسة
يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم وتتلاشى آراء أفرادها في
آرائهم فلا يرجع اليهم أحد قولاً ، ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا ولا نفعًا ، وأما
تلك الأمم فقد كان المرءوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا حتى لم تبق لهم
إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ من الرؤساء ، ويمثل أفكارهم وآراءهم.
(ثالثها) : أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة
الكمال بمجرد سلامة الفطرة ، وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي
جاء يخاطب العقل والوجدان معًا ، ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى ، ويطمس
رسومه وتكون أسرع انفعالاً بالمؤثرات وأشد تمسكًا بالمعتقدات.
(رابعها) : أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة
والحرية الشخصية ، وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا
والاستماتة في المدافعة عنه، على حين أمات الأخرى وذهب بإرادتها ما تواتر
عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة حتى سهل عليها مشايعة الظالمين على
خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا العهد ،
وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني.
(خامسها) : أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه
على وحي سماوي وعلى سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به
الإسلام أو يزاحمه ، وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان ،
وعلى وجه يقبله العقل ، وينفعل له الوجدان إذا وجد استقلال الفكر والرأي ،
وكذلك كان.
هذا ما ظهر لنا الآن من وجوه اختيار الحكمة الإلهية الأمة العربية على سائر
الأمم لإظهار الإصلاح الإسلامي ونشره في العالم الإنساني ، وقد رزئ المسلمون
بجميع أرزاء الأمم السابقة التي لم تخضع للإصلاح الإسلامي من فقد الاستقلال في
الإرادة والفكر ، وضعف الفهم والوجدان ، والتسليم الأعمى للرؤساء ، والتقاليد
الباطلة من البدع والمذاهب في أصول الدين والذلة والجبن والمهانة ، وزادوا على
ذلك أنهم فقدوا لغة دينهم التي جاءهم كتاب الإصلاح بها حتى إن علماءهم لا
يفهمونه كما كان يفهمه الأعراب من رعاء الإبل والشاء ، فكيف السبيل إلى
إرجاعهم إليه ، وهم لا يتناولونه بأفهامهم ، وإن الكثيرين منهم فتنوا بمدنية أوربا
فبعضهم يرى أن السعادة فيها مطلقًا ، والبعض يرفضها ، وينهى عنها باسم الدين
من غير فصل بين نافعها وضارها ، وبين ما كان منها موافقًا للإسلام أو مأخوذًا
عنه وما ليس كذلك ، فالإصلاح الذي يعيد للإسلام مجده لا يوجد إلا على أيدي
جماعة لهم استقلال في الفكر والإرادة ، وعندهم شهامة وعزة ، ويمكن أن يفهموا
القرآن أو يُفهموه حتى إذا دُعوا لجعله أصلاً مع السنة الصحيحة ، وما كان عليه
السلف الصالح من العقائد والأخلاق والآداب والأعمال؛ يلبون الدعوة وينصرونها
بما يستطيعون من حول وقوة لا يزحزحهم عنها الرؤساء ، ولا يصدهم عن قبول ما
فهموه تجرع عصارة أفكار القدماء ، واستقلال الإرادة والفكر لا يوجد الآن في
الجملة إلا عند طائفتين من المسلمين:
(الطائفة الأولى) : بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية ، وأكثرهم من
الأتراك والهنود وفيهم عدد غير قليل من المصريين وغيرهم ، وأكثر أفراد هذه
الطائفة منحرفون عن صراط الدين غير مصبوغين بآدابه وفضائله وأعماله ، وما
داموا كذلك لا يرجى منهم للأمة خير ، ومولانا السلطان عبد الحميد يمقت هؤلاء
المتمدنين ، ويراهم آفة على الأمة وبلاد الإسلام ، ومثل المصريين يسهل إقناعهم
بقضايا الدين الحقيقية إذا وجد فينا علماء عارفون بالعلوم والفنون التي تلقوها
والأفكار الجديدة التي أشربتها قلوبهم يكتبون الكتب ، ويقرأون الدروس في التوفيق
بين الإسلام وبين المدنية الحقة والعقل ، بل في بيان أنهما صنوان لا يختلفان ، وكم
من صاحب شبهة أو شبه في الدين أرجعته قراءة (رسالة التوحيد) إلى الحق
اليقين ، وهؤلاء إنما استفادوا من التعليم الجديد استقلال الفكر دون استقلال الإرادة ،
فالضعف والجبن غالبان عليهم ، وأكثر ما يرجى منهم نشر العلوم والفنون التي
تعلموها ، ونشر الدعوة للإصلاح وتكثير سواد أهلها مهما كانوا آمنين من الخوف.
(الطائفة الثانية) : سكان البوادي (وبعض أهل المدن) من العرب، فإنهم لم
يصبهم من ظلم الظالمين ما أصاب غيرهم لأنهم بمعزل عن سطوة الملك وقهر
السلطان ، ولم يأخذ سلطان التقليد بأعنتهم ، فيصرفهم عن استعمال عقولهم بالمرة.
إلا أن هذه الطائفة يعسر عليها أن تجاري المدنية الحاضرة إلا في استعمال آلات
الحرب والكفاح، فإذا أمكن بإصلاحها أن يكون للإسلام قوة يُحفظ بها جزء عظيم من
البلاد الإسلامية ، وتكون بها الدولة عزيزة قوية - يمكن للمسلمين أن يقيموا بناء
مدنيتهم في ضمن دائرة هذه القوة ، ووراء حصنها الحصين كما كان شأنهم في
مدنيتهم الأولى ، وكما فعلت الروسية في نشأتها الجديدة.
كان المنار يدعو إلى الوحدة الإسلامية التي تضمن لسائر الشعوب والملل
حقوقها في بلاد الإسلام على أكمل وجه ، وهذه الوحدة الإسلامية لا يتيسر القيام
بتعميمها من مصدر واحد مع اختلاف لغات المسلمين ومذاهبهم وحكوماتهم
وأقطارهم ومذاهبهم؛ فينبغي أن يدعى للوحدة الإسلامية عملاً في كل عنصر من
العناصر والشعوب الإسلامية على وجه خاص بأن يضم إلى الكلام في الوحدة العامة
الوحدة الخاصة التي يحفظ فيها كل عنصر كيانه ويحمي حقيقته، فإن الخطر الذي
يتهدد العرب بابتلاع الأمم المتمدنة لهم لا يتهدد الترك الذين هم بين براثن أوربا
وأنيابها، فإذا كسر باب المسألة الشرقية ودخل الشرق الطامعون من كل جانب ،
فالمرجح ما قاله غير واحد من الباحثين في السياسة من أن الأتراك تنحصر سلطتهم
في بر الأناضول فلا يمس استقلالهم فيه أحد لأنهم ثم عنصر مستقل قادر على أن
يحكم نفسه بنفسه ، ويُجاري أوروبا في مدنيتها ، ولكن البلاد العربية تذهب فريسة
المطامع إذا تقلص عنها ظل الدولة العثمانية بهذا الانقلاب الهائل ، والعياذ بالله
تعالى.
ومجد الإسلام إنما يحفظ بمجد العرب ، فلابد من السعي لحفظه بالوحدة
العربية ، واسم العرب يتناول اليوم مع أهل البادية في الشرق والغرب سكان البلاد
من العراق إلى مراكش شرقًا وغربًا فالإصلاح المعنوي يجب أن يكون عامًّا لبدوهم
وحضرهم كما يجب أن يكون عامًّا لسائر المسلمين ، والإصلاح المادي على
ضربين: مدني وحربي، فالمدني يقوم به الحضر ، ويتحدون فيه مع سائر الملل
الذين يشاركونهم في البلاد ، والحربي يقوم به أهل البادية لأجل حمايتهم من العوادي ،
والعمدة في إعادة مجد الإسلام على الإصلاح المعنوي الأدبي، والمادي سياج له ،
ولابد أن يكون السعي في الوحدة العربية على وجه لا يخل بسيادة الدولة العلية ، ولا
يهيج علينا الدول الأوربية ، وسنبين هذا في جزء آخر إن شاء الله.
_________
(*) الأعراف: 29 - 30.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم في الأزهر الشريف
نشرنا ونشر المؤيد في يوم الخميس الأسبق نبذة في نجاح التعليم في الأزهر
بالنسبة للمشتغلين بالعلوم التي أدخلت فيه حديثًا بسعي فضيلة مفتي الديار المصرية
فكتب الشيخ محمد راضي البحراوي من علماء الأزهر نبذة في المؤيد يعترض فيها
على ما جاء فيه من نجاح التعليم ، فنشر المؤيد بعد ذلك مقالة بإمضاء (مجاور
أزهري) يرد فيها على ما كتبه الشيخ مع كمال الأدب والاحترام وهي:
***
قرأنا في مؤيد أول أمس نبذة لأحد مشايخنا الكرام في مضرة الاشتغال بالعلوم
الجديدة، ونتيجة امتحان المكافأة في هذه السنة تنحصر أبحاثها في مسائل:(1) إن
الذين امتحنوا في العلوم الأزهرية وحدها أي دون العلوم الجديدة إنما ظهر فيهم عدم
النجاح؛ لأنهم مشتغلون بالجديد أيضًا ، ولكن باعتناء زائد أضاع ثمرة اشتغالهم بغيرها
(2)
إننا لو تأملنا لوجدنا أن علمي الحساب والهندسة يشتغل بهما في الأزهر في كل
عصر وآن على أحسن من الطريق الموجود الآن لأن الكتب التي كانت تقرأ كانت
مشتملة على البراهين القطعية ، وأما الآن فليس في تعليمهما إلا بيان الأعمال (3)
إن التعليم الأول كان يقوي العقل ، والتعليم الجديد يقوي الحافظة ويضعف العقل (4)
إن علم تقويم البلدان سهل لا يحتاج إلى إمعان الفكر والنظر، فهو كالتاريخ يفيد
الحافظة ولا يفيد العاقلة أصلاً (5) إن هذا العلم لا فائدة فيه للمصريين أي وبالأحرى
للأزهريين.
والغرض من تلك النبذة هو ما صرح به بقوله: (إن الاشتغال بالعلوم الجديدة
مضر جدًّا) وقد رأيت أنا وبعض إخواني أن نكتب ما عندنا في هذه المسائل ،
فكتبت إليكم بهذه العجالة غير مصرح باسمي لأن الكلام مع الكلام ، ولأننى لا
أتسامى لأن أظهر بصفة المناظر لحضرة أستاذنا كاتب تلك النبذة في جريدتكم ،
وغرض الأستاذ وغرض حضرتكم وغرضنا بيان الحقيقة.
أما المسألة الأولى فقد أحسن المؤيد الجواب عنها [*] وأزيد على ذلك أن
حضرة الأستاذ قالها عن اجتهاد لا عن اختبار؛ لأننا نحن الممتحنين يعرف بعضنا
بعضًا على أنه ليس من المعقول أن أحدًا يصرف كل عنايته إلى علم من العلوم ،
ويطلب الامتحان فيما أهمل الاشتغال به دون ما اشتغل به بكل اجتهاد.
وأما المسألة الثانية فيحتمل أن يكون مراد الأستاذ بها القرون الأولى أيام خلفاء
الفاطميين ومن بعدهم ، وأما في هذا العصر فعُدم وجود علماء الحساب والهندسة في
الأزهر وهو الذي اضطر مجلس إدارته إلى استحضار مدرسين لهما من الخارج
وليدلنا الأستاذ على مهندس واحد تخرج من الأزهر.
وأما المسألة الثالثة فهي من مباحث الفلسفة العقلية التي لا يشتغل بها أحد
في الأزهر اليوم ، ولكن من المعروف أن أكابر الفلاسفة والسياسيين في أوروبا تعلموا
الحساب والهندسة على الطريقة الجديدة ، ولا يمكننا أن نقول: إن عقولهم ضيقة ، وقد
اكتشفوا في العلوم ما اكتشفوا ، ورقوها إلى الدرجة التي أعطتهم السيادة والسعادة
في الدنيا على أن العلوم إنما تطلب لأجل العمل ، فكيف يكون بيان العمل مضرًّا
ومضعفًا للعقل؟ .
وأما المسألة الرابعة وهي قوله: إن تقويم البلدان كالتاريخ يقوي الحافظة ،
ويضعف العقل؛ فجوابه يعلم مما قبله ، والمشهور عند جميع الأمم أنه لا شيء
يقوي العقل من العلوم كهذين العلمين لأنهما يعرفان الإنسان أحوال العالم وشئونه.
هذا البرنس بسمارك الذي نقل إلينا أن دماغه أكبر دماغ بحسب ما وصل إليه
اختبار الأوروبيين أي أن عقله أكبر عقل عرفوه باختبارهم الحديث ، حتى إنه كان
يحرك الممالك الأوروبية بكلمة ويسكنها بكلمة ، وناهيك بعمله العظيم في الوحدة
الألمانية - كان أعلم الناس بالتاريخ والجغرافيا ، واتفق الناس على أن قوة عقله ونفوذ
سياسته إنما جاءا من ذلك.
وأما المسألة الخامسة فيمكن للعارف بتقويم البلدان أن يجيب عنها بمقالة أو
رسالة أو كتاب في بيان فوائد هذا العلم للناس عمومًا وللمصريين منهم وللأزهريين
خصوصًا وأكتفي الآن بمسائل:
(أحدها) أن في الأزهر الشريف عدة أروقة ، ولكل رواق منها أوقاف
مخصوصة ، فإذا لم يكن أهل الأزهر عارفين بتقويم البلدان يشتبه عليهم الأمر في
إلحاق أهل كل رواق به ، مثلاً: إن للشوام رواقًا ، وللأتراك رواقًا ، وبلاد الشام
متصلة ببلاد الترك ، ومن أهلها في الأطراف من لا ينطق اليوم إلا بالتركية ، وهل
يُعرف الحد بين البلادين إلا من هذا العِلم ، وكذلك يقال في رواق الهنود ، ورواق
الأفغان إلخ إلخ.
(ثانيها) تبين أن ببلاد أميركا قومًا من المسلمين لكنهم جاهلون بدينهم، فإذا
كتبوا إلى مشيخة الأزهر يطلبون كتابًا أو أستاذًا يعلمهم أمر دينهم فهل يمكننا أن
نعرف سمت القبلة هناك إلا إذا كنا عالمين بطول البلاد وعرضها ، وذلك من علم
تقويم البلدان ، ومثل هذا يقال فيما إذا كان السائل من بلاد الكاب أو إستراليا أو
جزائر المحيط وغيرها ، وإن كثيرًا من المصريين يسافرون في كل سنة إلى
أوروبا، فإذا سئل الأستاذ عن القبلة في بلاد أسوج ونروج كيف يمكنه الجواب إذا لم
يعرف هذا العلم؟ .
(ثالثها) أن حوالي الدرجة 160من خطوط الطول الغربي لمدينة باريس
وحوالي درجة 45 من خطوط العرض الجنوبي لها نقطة في المحيط الباسفيكي لو
خرج منها خط مستقيم ، ومر في مركز الأرض إلى الجانب الآخر يكون في وسط
الكعبة ، ففي تلك النقطة يصح لمن كان هناك أن يولي وجهه في الصلاة أية جهة
من الجهات الأربع ، فإذا سافر المسلمون من غربي أميركا أو شرق آسيا في تلك
الجهة هل يمكن لهم معرفة هذا الحكم إلا بعلم تقويم البلدان.
(رابعها) اتفقت الجرائد حتى الإنكليزية منها على أن أهم أسباب انتصار
البوير وانكسار الإنكليز في الحرب المشتعلة الآن في جنوب أفريقيا، هو معرفة
البوير التامة بجغرافية البلاد التي وقعت فيها الحرب ، وتقصير الإنكليز في ذلك ،
والحرب عند المسلمين قد تكون فرض عين عليه بالشرط الذي يعرف حضرة
الأستاذ أنه متحقق اليوم في كثير من البلاد الإسلامية ، وهذا الفرض متوقف في هذا
العصر على معرفة تقويم البلدان.
(خامسها) إن للبلاد الإسلامية التي يتغلب عليها العدو أحكامًا شرعية
مخصوصة ، والبلاد التي من هذا القبيل كثيرة الآن ومتصلة بالبلاد الأخرى ،
وكثيرًا ما يقع الاختلاف في حدودها ، والأحكام تابعة لمعرفة الحدود ، وقد ألحق
ببلاد السودان جزء من بلاد مصر لاشتباه حضرات النظار بين (سرس)
و (فرس) .
(سادسها) إن علم تقويم البلدان يعلمنا مع التاريخ ما عليه الدول الحربية من
الاستعداد ، وقد أمرنا الله أن نعد لهم ما نستطيع من قوة ، وورد في بعض الأحاديث
أن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به، فالقيام بامتثال هذا الأمر يتوقف على هذين
العلمين.
(سابعها) إن عقلاء المسلمين وكُتابهم قاموا في هذه السنين يحثون المسلمين
على الاتحاد والارتباط والتعاون والتعاضد ، ولا ينكر فائدة هذا مسلم ، وهو يحتاج
إلى التعارف ، والتعارف يكون بعلمي التاريخ وتقويم البلدان.
هذه الوجوه لوجوب الاشتغال بالجغرافيا على المسلمين عمومًا والأزهريين
الذين يستعدون لإرشاد المسلمين في كل قطر بوجه خاص، كلها دينية محضة
ويمكن استنباط غيرها.
ولا حاجة بعد ما تقدم للكلام في نتيجة النبذة التي كتبها أستاذنا الشيخ راضي
البحراوي، وهي أن الاشتغال بالعلوم الجديدة مُضر ، فإنه حفظه الله اعترف بأن
الحساب والهندسة من العلوم النافعة ، وحصر المضرة في تعلمهما على الوجه
العملي ، وقد علم ما فيه كما علمت فوائد تقويم البلدان بالإجمال ، وظهرت فوائدها
في تقوية العقل بالنجاح في الامتحان.
وهذا الرأي يوافقه عليه بعض المشايخ ويخالفه الآخرون ، وقد كان
عندما اجتمعنا في يوم الخميس الماضي بحضرة أكابر المشايخ لتوزيع المكافأة أن
فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية قال: إن بعض المشايخ
قال: إن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة في الأزهر قد تركوا العناية بالعلوم الدينية
ووسائلها مع أن هذه هي المقصودة أولاً بالذات ، فحملني ذلك على استخراج هذا
الإحصاء لأجل تلافي الأمر إذا اتضحت حقيقته ، وتلا علينا الإحصاء الذي نشرتموه
مبسوطًا في المؤيد الأغر.
وعندما قال: إن بعض المشايخ قال كذا؛ التفت إليه مولانا الأستاذ
الأكبر شيخ الجامع وقال مستفهمًا استفهام إنكار: (ومن الذي قال هذا؟) وقد
سمع هذه الكلمة منه المشايخ الحاضرون ، ومن كان قريبًا منهم من المجاورين ،
فعلمنا من هذا أن أكابر مشايخنا ينشطوننا على الاشتغال بهذه العلوم لعلمهم
اليقيني بدرجة استفادتنا منها ، ولا شك أن حضرة الأستاذ الشيخ محمد راضي
البحراوي يوافقهم على هذا بعد زيادة التدقيق لأن مقصود الجميع مصلحة الجميع.
_________
(*) ملخصه أن الاشتغال بالعلوم الجديدة يزيد الإقدام والنشاط لأن جميع الذين تقدموا للامتحان منهم على قول الشيخ المعترض، وفي ذلك تسجيل الخمول على سائر طلبة الأزهر.
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(31)
من هيلانة إلى أراسم في 4 أغسطس سنة - 185
لا أزال أشعر في نفسي بكثرة الضعف حتى إني في تحرير هذا المكتوب إليك
لم أستطع أن أكتبه مرة واحدة ، بل كنت أراوح فيه بين الكتابة والاستراحة عدة
مرات.
كنت لزمت الفراش اثني عشر يومًا موافقة للعادة المتبعة في معظم جهات
إنكلترا والآن أصبحت قادرة على القيام والمشي في البيت قليلاً ، وصرت مثلك
أجيل ناظري وفكري وأسيح بهما فيما حولي وإني أجد لذة في حبسي لأني أنوي به
مشاركتك في حبسك.
أيكون من الوهم أن أحسب أن أميل ما لبث أن عرفني؟ كلا فإني لا أجيز
لنفسي مطلقًا أن تعتقد أني لست في نظره (إلا ثديًا مملوءًا لبنًا) على قول أحد
العلماء ، على أني أعترف اعترافًا قلبيًّا بأن هذا المولود الضعيف الذي يكاد يكون
جمادًا محتاج إلى أن يأخذ كثيرًا من غيره ، ولا يكاد يعطي شيئًا ، نعم إن لنا فيه
قرة عين وانشراح صدر ، ولكنه ليس له في هذا اختيار ، فهو كالزهرة ترتاح لها
النفس ويبتهج برؤيتها الناظر على غير إرادة منها ولا قصد ، ومهما كانت حاله
ألست أنا أشد منه أثرة لأني أنا المغتبطة بحبي إياه؟ ثم إني كيف يسعني أن
أرتاب فيما له من الإحسان إلي؟ فإنه قد أعاد لي سكينتي وكف عني ما كنت أجده
من غُربتي ذلك أن خلقي - ولا أخفي عليك - قد خالطه من بضعة أشهر شيء من
الحدة بسبب العزلة والاغتراب ، ومن هذا تعلم العلة في غضبي على جورجيا قبل
الآن بأيام على أنها أحسن النساء وأكثرهن التفاتًا لواجبها ، وحقيقة الأمر أنها
تستثقل القابلة ولا تطيق النظر إليها ، ويوجدها عليها أن تراها قد استحقت نصيبًا
من شكري لأنه من المفروض علينا أن نشكر من يخدمنا.
فهذه الغيرة المنبعثة من قلب مخلص لم يستضئ بنور العلم أهاجت غضبي
عليها فلم أستطع كظم غيظي ولا كف بوادر لساني في تلك الساعة، فما كان أشدني
اندهاشًا وارتياعًا إذ ذاك! فإني لم أكد أفرغ من تقريعها؛ حتى أبصرت وجه أميل قد
صار أحمر كالأرجوان ، وطفق يصرخ صراخًا شديدًا ، فليت شعري هل انفعالات
الأم تؤثر في نفس الطفل فيكون بكاؤه وتغيره رجعًا لصداها؟ ! أنا والحق أقول قد
ملت من ذلك اليوم إلى اعتقاد ذلك.
وسواء كان هذا الاعتقاد صحيحًا أو فاسدًا فقد عاهدت نفسي على أن أعتبر
بهذه الواقعة وأصبحت من الآن كلما عرض لي ما يكاد يذهب بحلمي أنظر إلى أميل
فيسكن غضبي على الفور إجلالاً لولدي ، وإذا كنت قد صرت أحسن خلقًا وأوسع
صدرًا وأملك لنفسي مما كنت قبل فليس ذلك إلا بسببه وبيُمن وجوده اهـ.
(32)
من هيلانه إلى أراسم في 5 أغسطس سنة - 185
تلقى الدكتور وارنجتون مكتوبك [1] وأطلعني عليه ، فرأيتك قد تجنيت على
نفسك إذ قلت أنك ملوم على ما جلبه لي تعيس حظك من الخمول والذل ، وأنك
لست جديرًا بأن تكون والدًا.
رويدًا ، هون عليك الخطب فإني من عهد أن جمعتنا عقدة النكاح كنت راضية
بكل ما وقع لنا ، فهل كان ذلك مني كما تقول ناشئًا من شرف نفسي ، أو من رعاية
واجبي ، كلا بل كان سببه ما في قلبي لك من صادق الحب وخالص الود ، فمن
الجبن والعار أن تأسى اليوم على ما قد كان. أنا لست أشكو أبدًا ما ابتلينا به من
الشدائد والمحن بل إني أزهى بها وأفتخر باحتمالها.
أما ولدنا فقد آن لنا على ما أرى أن نشرع في تربيته، فما هي التربية؟ ومتى
تبتدئ؟ ومتى تنتهي؟ أنا في انتظار جوابك عن ذلك. اهـ
حاشية- أميل مستغرق في نومه وقد قبلته قبلتين في وجنتيه حبًّا لك اهـ.
* * *
(الباب الثاني)
(الولد)
(1)
من أراسم إلى هيلانه في 10 أغسطس سنة - 185
تسألينني في خاتمة رسالتك الأخيرة عن التربية متى يكون ابتداؤها فأقول:
يصح أن يبتدأ فيها قبل الولادة بزمن طويل [2] لأنه من المحقق الذي لا مساغ
للريب فيه أن في أجيال البشر أنواعًا من الاستعداد الوراثي تنتقل من الآباء إلى
الأبناء ، فابن المتوحش يولد متوحشًا ، وولد البربري يخلق بربريًّا ، ومن كان من
أبوين متمدنين فإنه يولد مهيئًا للتمدن.
من ذا الذي لا يرى في هذا أن هناك قوى سابقة لخلق الحياة في الإنسان تحدد
لكل فرد من أفراده درجة ملكاته ومقدارها نوعًا من التحديد؟ إن ما نسميه
بالتصورات الغريزية والقوى الحاسية والمواهب الخلقية والفيض الخفي قد لا يكون
شيئًا آخر سوى ما نتوارثه من حالة العمران، أعني نتيجة عمل العقل في من سبقنا
من القرون ، فنحن الراجعون إلى الدنيا بعد الفناء كما تقولين.
إن ظهور أثر أعمال السالفين وأفكارهم في إحدى مثاني مخنا على غير علم
منا ، وتنقل المادة الحية من قرن إلى قرن مرتقية على الدوام في صورها بعمل
العقل ، وخروج المولود من غيابة الرحم إلى عالم الشهادة بأعضاء كملها التقدم ،
وسواها الترقي - جميع هذه الأمور يغلب على ظني أنها من أسباب النمو التي يصح
ملاحظتها في التربية ، ولكن لما كانت عزائمنا ليس لها على مثل هذه الأسباب أدنى
سلطان لعمومها وخروجها عن حد الضبط، كان من العبث البحث فيها.
لكن هناك أحوالاً طبيعية يتأتى للعلم فيما أعتقد أن يتناولها ويغيرها، خلافًا
للأسباب المذكورة، فأي مانع يمنع المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء مثلاً أن يصلوا
يومًا ما إلى تحديد ما لسن الرجل والمرأة وحالتهما الصحية وطريقتهما الغذائية من
التأثير في التناسل؟ وقد وجه فريق من نابغي هذا العلم الذائعي الصيت أنظارهم
إلى هذه الغاية وأعملوا أفكارهم في سبيل الوصول إليها، فإذا أدركوها
وتقرر أنها أصبحت من ثمراته؛ صار علم وظائف الأعضاء فرعًا من فروع علم
التربية النفسية.
إذا علمت مما تقدم أنه من الصعب جدًّا تحديد الزمن الذي تبتدئ فيه التربية
اتضح لك أن تعيين الوقت الذي تنتهي فيه أصعب وأكثر مجازفة لأنها تستغرق
العمر كله.
أما حقيقة التربية وهي أول شيء تسألين عنه فلي أن أجيبك عنها جوابًا سديدًا
وهو: إنها على ما يؤخذ من معنى لفظ التربية اللغوي عبارة عن تكميل عقل
الناشئ ، وتهذيب نفسه بإظهار جميع ما استكن فيه من ضروب الاستعداد وأنواع
القوى وإنمائها؛ لأن ذلك اللفظ مأخوذ من (رَبَا) أي: زاد ونما ، لكني خشية أن
تخالي في هذا التعريف إبهامًا أعجل بكشف معناه وتقريبه إلى ذهنك فأقول:
أراد جمهور علماء الأخلاق بالتربية الوصول إلى ما تصوروه في الإنسان من
معنى الكمال ، فغرضهم منها إيجاد الإنسان الكامل ، وهو غرض يظهر لأول نظرة
أنه موافق للعقل تمام الموافقة ، لكنه مثار لاعتراضات كثيرة ، فلقائل أن يقول: إن
الإنسان الكامل ليس هو إلا صورة خيالية لا تحقق لها في الوجود الخارجي قطعًا
فنحن إذن نحلم به كل على حسب تصوره ، فإيانا والتشبث بهذه الصور الوهمية
التي يريد بها الخيال أن يتغلب على الواقع المحقق ، فإنه لا شيء أيسر علينا من
تخيل ذات عاقلة ، ونعتها بآلاف من نعوت الكمال حتى تكون نموذجًا لجميع
الفضائل ، ولكن من لنا بإنزال هذه الذات من السماء وإبرازها لنا إلى عالم الظهور.
مثل هذا الاعتراض على مسألة التربية يكون وجيهًا لو أن الإنسان كان ذاتًا
واجبة الوجود، لكنا في الحقيقة نراه على خلاف ذلك متغيرًا لا يستقر على حالة
واحدة ، فإنه وهو في الرحم تتناوبه أطوار جنينية مختلفة ، ولا أريد أن أبين لك ما
يتقدم ولادته من الحوادث ، وإنما أقول: إن حياته من أولها إلى آخرها ليست إلا
سلسلة استحالات متفاوتة في الحصول سرعة وبطئًا.
ألم تنظري إلى شعره (الذي لا يوجد عادة عند الولادة) كيف يتغير لونه عدة
مرات ، وإلى لون جسمه وسمات وجهه ، وبنيته كيف أنها تتجدد كلما كبر؟
تأملي في الغلام الصغير عندما تبتدئ ثناياه اللبنية في الزوال؛ تجديه قد صار شيخًا
بالنسبة إلى ابن الرابعة أو الخامسة الذي لا تزال لثته مجلاة بجميع لآلئها.
فقد خلق الله (سبحانه) لجميع الكائنات الحية في دور نموها أعضاء وقتية
تتلاشى بعد انقضاء مدتها ، وأعد لها أعضاء أخرى تنمو في هذه المدة لتخلف
الأولى ، كذلك القوى الجسدية والملكات النفسية تتعاقب ، ويخلف بعضها بعضًا على
نظام محدود ، فإن المولود يذوق قبل أن يبصر ، ويبصر قبل أن يسمع ، والذاكرة
فيه تسبق القوة الحاكمة ، ووجدانه يكون قبل فكره بزمن طويل ، فالحياة من الولادة
إلى الشبيبة ، ومن الشبيبة إلى الشيخوخة مظهر قوى تتعاقب ، ويحيا بعضها بفناء
بعض ، والإنسان من مهده إلى لحده يسلك طريقًا تفرق فيه رفاته ، وبددت في
جوانبه بقاياه.
أنى يكون لنا بعد ذلك موقف في هذه الحركة الدائمة؟ وكيف السبيل إلى غاية
ننتهي إليها؟ فالذي أراه هو أن لكل يوم ما فيه ، وأن أهم ما تلزم به العناية في علم
التربية هو اختيار ما يناسب كل سن من أنفع طرق النمو وأمثلها ، وحينئذ فأنا الآن
أقتصر على الكلام عن التربية في زمن الطفولية اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
هذا المكتوب لم يعثر عليه.
(2)
المنار: قلنا في الجزء الأول من المجلد الثاني أن التربية يُبتدأ فيها من ابتداء الحمل، وهذا هو المعقول الموافق لتعريف التربية الذي يقارب ما قلناه فيه هناك ما يقوله هنا، وزعم بعض الجاهلين أن الإفرنج يقولون: يبتدأ بالتربية في السنة السابعة للولد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(جميع الكتب النافعة) إن علامة اللغة والأدب الأستاذ الشيخ محمد محمود
ابن التلاميد التركزي الشنقيطي الشهير قد جمع في رحلاته وأسفاره في الأقطار كتبًا
نفيسة، منها ما هو نادر الوجود ، وقد وقفها على عامة أهل العلم في بلاده شنقيط
ونظم في هذه الأيام قصيدة غراء ينافس فيها بهذه الكتب ، ويحض فتى من قومه
على الرحلة إليه لكسب العلم وأخذ هذه الكتب قبل وفاته ، وصدَّرها بالحماسة
لتعرض بعض من يدعي العلم ، وقد طبعت وأهديت إلينا نسخة منها فرأينا أن
ننشرها بشرحها المفيد وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إظهار بعض الحسب المذخور لردع كل متعرض مفخور
يا من تعرض لي بالعلم والأدب
…
وهب [1] يسألني عن مقتضى حسبي
عُض الأنامل من غيظ ومت كمدًا
…
وكلْ جنى الجهل واشرب قهوة الغضب
أنا الذي لا أزال الدهر ذا طرب
…
سرًّا وجهرًا لتسياري ومضطربي
لضبط علم وكتب أبتغي بهما
…
وجه الإله وفوزي بعد منقلبي
أنا الذي لا أزال الدهر ذا شغف
…
بنقدي الكتب أبدي خافي الكذب
أنا الذي لا أزال الدهر ذا فرح
…
بما أنميه من علمي ومن كتبي
تجول بي همتى في الأرض مجتهدًا
…
في جمعها من بلاد العجم والعرب
تسرني غربتي في الناس منفردًا لكسبها لا لكسب المال والنشب [2] وما سررت بشيء قد ظفرت به
…
مسرتي بكتاب نلته عربي
ألهو به طول ليلي والنهار معًا
…
مجانبًا لهو خود [3] عذبة الشنب [4]
بيضاء بهكنة [5]
…
هيفاء خرعبة [6] ريا المخلخل لا تدنو من الريب
فدونكم معشري كتبًا مهذبة
…
من حسن ما قد حوت لا ينقضي عجبي
كفيتكم جمعها مستبشرًا جذلاً
…
بشق نفسي بالإيغال في الطلب
يود ذو العلم والفهم الأصيل قوى
…
تصونها فيه بين اللحم والعصب
يحوي معانقها طول الزمان غنى
…
يغني عن الفضة البيضاء والذهب
وحلو طعم معانيها على ظمأ
…
أحلى من البرد الممزوج بالضرب
قد قيدتني بأرض غير أرضكم
…
تقييد عانٍ بلا كبلٍ ولا سبب
وسركم سنكم [7] إبلاً مؤبلة
…
سن المعيدي [8] في السعدان [9] والربب [10]
أليس منكم فتى بالرشد متصف
…
يفري الفريّ [11] ويأتي أعجب العجب
ينمي القتود [12] على عيرانة [13] أجد [14]
…
تقوى على الوخد والتخويد والخبب
يطوي المفاوز قد ضمت جوانحه قلب السليك عدا في الدرع واليلب
حتى ينيخ ببابي غير مكترث
…
لما يلاقيه من هول ومن نصب
فعل الأمين أخي ضوى [15] الذي سبقت له العناية أنضى العيس [16] في طلبي
حث النجائب لا يلوي علي أحد منكم يثبطه عن نيله رُتبي
جاب البراري ثم البحر منصلتًا [17] على ركائب لا تخشى وجى [18] النقب [19]
حتى أناخ لدى البيت الحرام لديّ
…
فحاز ما يبتغي من مرتضى الأرب
قضى المناسك حجا عمرة [20] تفثًا [21]
…
مناسكًا هن حقًّا أصعب القرب [22]
قفاهما حججًا تقتافها عمر [23]
…
في سعيها راحة تنسي أذى التعب
فقرت العين بالجمع الصحيح به
…
وجد في العلم كل الجد بالأدب
وطابت أنفسنا مستمتعين بذا
…
ونال مني يقين العلم من كثب
غذاؤنا العلم صرفًا لا مزاج له
…
من الأغاليط والتمويه والشغب
عشنا معا عيشة في (طيبة) رغدًا
…
وفي البقيع ثوى في أطيب الترب
وسرت منها إلى مصر البلاد وقد
…
صارت لي الآن ملقى الرحل والقتب
كابني نويرة كنا قبلنا وصلا
…
حبل الأخوة بالأشعار والخطب
كمالك وعقيل مالك ومتمم
…
أخو مالك من صحب خير نبي
فقطع الموت حبل الوصل بينهما
…
فلا تواصل يرجى غابر الحقب
هذا وإن لسان الحال ينشدني
…
أبيات مكتسب للكتب محتسب
(إني لما أنا فيه من منافستي
…
فيما شغفت به من هذه الكتب)
(لقد علمت بأن الموت يدركني
…
من قبل أن ينقضي من جمعها أربي)
(ولا أؤمل زادًا للمعاد سوى
…
علم عملت به أو رأفتي بأبي)
_________
(1)
هبَّ: شرع وطفق.
(2)
النشب بالتحريك المال.
(3)
الخود بالفتح الشابة الناعمة.
(4)
الشنب بالتحريك برد الأسنان والفم وهو تفسير الأصمعي.
(5)
البهكنة: الشابة الغضة ويقال: شاب بهكن.
(6)
الخرعبة: اللينة الرخصة الكاملة الحسن.
(7)
سن الإبل: إذا أحسن القيام عليها.
(8)
قوله: سن المعيدي تلميحاً لقول النابغة:
ضلت حلومهم عنهم وغرهم
…
سن المعيدي في روعي وتعزيب
(9)
السعدان: نبت من أفضل مراعي الإبل ومنه المثل (مرعى ولا كالسعدان) .
(10)
الربب كعنب جمع ربة وهو نبت وقيل الخروب.
(11)
يفري الفري ، أي: يأتي بالعجب ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب:(فلم أر عبقريًّا يفري فريه) .
(12)
القتود جمع قتد وهو أعواد الرحل.
(13)
العيرانة: الناقة المشبهة بعير الوحش في القوة والصلابة.
(14)
الأجد بضمين القوية الظهر المأمونة الدبر، والوخد بالفتح نوع من سير الابل ، والتخويد سرعة السير والخبب بالتحريك أدنى من التخويد.
(15)
الضو بالكسر الأخ الشقيق وله معانٍ غير ذلك.
(16)
العيس: جمع أعيس وعيساء، وهي الإبل التي يخالط بياضها صهبة.
(17)
منصلتًا ماضيًا سابقًا.
(18)
الوجى بالتحريك حفًا وظلع يطرأ لذي الحافر ، والحف لطول السير.
(19)
النقب بالتحريك رقة باطن خف الناقة، ومنه قول الأعرابي يخاطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أقسم بالله أبو حفص عمر
…
ما مسها من نقب ولا دبر
(20)
العمرة معلومة وهي الحج الأصغر قال تعالى: [وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ](البقرة: 196) .
(21)
التفث بالتحريك الشعث ونحو قص الأظافر وحلق العانة وهو المراد بقوله تعالى: وليقضوا تفثهم ، ومنه الحاج أشعث أغبر.
(22)
القرب كصرد جمع مقربة وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى.
(23)
عُمر: جمع عمرة وبه سمي عمر بن الخطاب، ومن قبله ومن بعده، وهذا من أدل دليل قاطع على وجوب صرف عمر وبهتان من يدعي غير ذلك لأنه علم منقول عن جمع نكرة ، وكل علم منقول عن جمع نكرة كعمر هذا وغبر وكلاب وضباب وأنصار، وإنما يجب صرفه إتباعًا لأصله ، وهذا مجمع عليه لا يشك فيه عالم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(جمعية شمس الإسلام)
ما نجحت جمعية في القطر المصري كجمعية شمس الإسلام ، ولا خاض
الناس في جمعية كخوضهم فيها ، وكثيرًا ما يكون الخوض والتحامل من أسباب
الفوز والنجاح ، أما نجاح الجمعية فحسبك دليلاً عليه كثرة الفروع التي تتفرع منها
آنًا بعد آن حتى تكرر طبع دفاترها وقسائمها وأوراقها مرارًا.
وإنني أذكر من هذه الفروع الآن ما أتذكره من غير مراجعة الدفاتر وهو
جمعيات حلوان وبني سويف وملوي وديروط وفزارة وأسيوط وطهطا ومنفلوط
والمنيا والفيوم وقلوصنا والجرابيع والشيخ فضل وصدفا والصبحة وصنمو.
وأما الخوض فيها فجدير بأن يثير العجب ، ويحمل على البحث عن السبب ،
فإن في هذه البلاد جمعيات كثيرة لسائر الملل ، ومنها ما هو مشترك بين جميع
الأجناس والملل، فلماذا اهتم الناس بهذه الجمعية دون سواها؟ هل ذلك لأنها على
شيء من الباطل؟ كلا إن هذا مردود من وجوه:
(أحدها) أن الخائضين والمرجفين بها ممن لا يكادون يميزون بين الحق
والباطل ، وهم أميل إلى الثاني منهم إلى الأول ، وحكم من لا يعرف حقيقة
الجمعية من سائر الناس على أقوالهم تختلف باختلاف الأفهام والعقول ، فالعاقل
يرفض كلامهم المتعارض المتناقض ، وما عساه يكون معقولاً في نفسه يتوقف فيه
حتى يظهر له بالاختبار، والفدم الإمَّع يتابع كل قائل على رأيه من غير بصيرة ولا
تمييز.
(ثانيها) أن المرجفين قد خلقوا عللاً واهية للخوض في هذه الجمعية، وفي
مصر من الجمعيات جمعية تدعو إلى أن يؤاخي المسلم أبناء كل الملل ، ويفضل
إخوته في الجمعية على إخوته في الإسلام ، وينصرهم عليهم ظالمين أو مظلومين
لا أنه يبرهم ويقسط إليهم فقط كما جاء في القرآن ، وآخرين من دون هذه الجمعية
يدعون إلى دين جديد يستدلون عليه حتى بالقرآن ، ويقولون: إن الجائي هو السيد
المسيح عليه الصلاة والسلام وأنه مات وترك وصيًّا هو رئيس الدين الآن ،
والمرجفون بجمعية شمس الإسلام إذا كانوا يحترمون الجمعية الأولى وهي الماسونية
أو كانوا منها فهم لا يحترمون الثانية قطعًا ، ومع ذلك لا يرجفون بها ولا يضادون
أهلها ولا يحادونهم.
(ثالثها) أن ما يقولونه غير معقول في نفسه ، وإننا نخجل من ذكره ،
وكيف لا يخجل المسلم أن يقول: إن بعض المسلمين يخذل عملاً إسلاميًّا شريفًا لأن
الذي وضع أساسه وسن سنته الحسنة ليس من وطنه مع أن دينه يقول له: (الحكمة
ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) فاتباعًا لهذا القول الشريف يجب على
المسلم أن يأخذ كل ما يراه نافعًا لملته وأمته ولو عن مخالفه في الدين ، فهل يكون
على هدي الإسلام إذا كان يرفض ، بل ويخذل الأعمال النافعة للإسلام لأن من قام
بها أولاً غير وطني؟ يا رباه اصرف عنا شر هذه الوطنية العمياء التي مزقت
رابطتنا الملية كل ممزق ، واهدِ قلوب الذين يغشون الناس بها لعلهم يرجعون.
هذا أحد الأسباب الحقيقية للإرجاف بالجمعية ، وثَم أسباب أخرى:
(أحدها) أن بعض الماسون ظنوا أن الجمعية وضعت لمعارضة جمعيتهم ،
وقوَّى عندهم هذا الظن خروج من دخل فيها من الماسونية ، ولذلك رأينا المرجفين بها
كلهم أو جُلهم من الماسون ، وقد انتهى الغلو ببعض المارقين من هؤلاء الأشرار إلى
أن قال ما معناه: كيف تتضاءل الجمعية الماسونية التي وجدت قبل الأنبياء
والمرسلين أمام جمعية شمس كذا.... (وذكر كلمة تليق بمقامه لا ينبغي
أن تكتب) .
(وثانيها) أن في مصر نفرًا من الأشرار قد اتخدوا التجسس والمحْل والسعاية
بين مصر والأستانة معاشًا وأحبولة لاصطياد الرتب والوسامات، فحيثما وَجَدَ هؤلاء
خرقًا وسَّعوه فجعلوه بابًا يدخلون منه إلى غرضهم يجعلون الحبة قبة والشبهة حجة
قاطعة. أذاع هؤلاء أن غرض الجمعية إقامة خلافة عربية ، وإننا نذكر شبههم
التي خدعوا بها بعض الأغرار والسذج وهي:
(1)
علموا أن الجمعية لا تقبل أحدًا فيها من حزب تركيا الفتاة الذين غلوا
في الخوض بمولانا السلطان الأعظم ويطلبون الإصلاح بالقانون الأساسي فقالوا:
إنها لا تقبل أحدًا من الأتراك مطلقًا لأنهم لا يشايعونها على الخلافة العربية.
(2)
علموا أن الجمعية خصوصية لا تبيح لكل أحد أن يحضر اجتماعاتها
لئلا يحضرها السكران والحشاش والأحمق ويختلطوا بكرام الناس، فقالوا: إنها
سرية والدين ليس فيه سر، فلم يبق إلا أنها جمعية سياسية تريد الخلافة العربية ،
ففتحت الجمعية أبوابها لسائر الناس مدة من الزمن فرأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما
هو صريح في الإخلاص للدولة العلية والخلافة العثمانية لا سيما الثناء والدعاء
للحضرة الحميدية فخشي رهط الفتنة أن لا يسمع لهم بعد ذلك قول فأغروا بعض
السفهاء بإحداث الشغب في وقت الاجتماع لتضطر الجمعية إلى الرجوع إلى أصلها
وكذلك كان.
(3)
رأى بعضهم في آخر مجلة الجمعية الرسم الذي ترونه على أعلى
الصفحة الأولى من المنار فقال: إن هذا رمز من الجمعية إلى التاج الذي سيتوج به
الخليفة الذي تنصبه! ! مع أن واضع ذلك الرسم هو جامع الحروف في المطبعة ،
ولم يره أحد من أعضاء الجمعية إلا بعد تمام الطبع وهو موضوع على كثير من
المطبوعات التي طبعت في مطبعة المنار لسائر الناس! !
(4)
علموا أن في الجمعية طبقات ودرجات ، فرتبوا لها وظائف
مخصوصة.
(5)
رأوا في المجلة أن من موضوع الجمعية تعليم الصناعة، فإذا كان لديها
مال وافر تنشئ بعد مدارس التربية والتعليم مدارس الصناعة ، فقالوا: إن الغرض
من الصناعة هو عمل الآلات الحربية لمحاربة الدولة العلية! ! قال بعض الأذكياء
لرجل سمع منه مثل هذا الكلام السخيف وأن الخليفة موجود يبايع: كيف يتصور
العقل أن جمعية يصرح قانونها بأن مالها يصرف على تعليم الدين والفنون
والصنائع يكون غرضها إقامة خلافة ، وهو ما يعجز عنه الملوك والأمراء أصحاب
القوى الحربية ، فأجابه ذلك الأحمق: إنها تقصد أن يكون هذا بعد خمسين سنة أو
أكثر ، قال الذكي: إنكم تزعمون أن خليفتها موجود الآن ولكنكم اختلفتم في تعيين
القطر الذي يقيم فيه، فبهت المرجف الكذاب.
ولم يخجل هؤلاء السعاة المحَّالون من كتابة هذه السخافات وإرسالها إلى دار
الخلافة ويتوقعون عليها الجزاء الأوفى، فقد أخبرنا رجل كان انضوى إلى رهط
الفتنة ثم رجع أن الذي أظهر الوقاحة الكبرى في الجمعية موعود من فلان باشا
وفلان بك برتبة ووسام.
(ثالثها) يوجد رجل حاسد للجمعية لا أذكر اسمه ولا وصفه ولا أشير إليه
بشيء يميزه لأن فضيحة المستور غير جائزة ، ولأن بعض المغترين به لا يصدق
عليه القول فيتهم قائله بالغرض.
هذا الرجل اجتهد في الإغراء والتحريض بإبطال الجمعية لغرض له شخصي
محض يرى أن يفيده جاهًا عريضًا ، هذا ملخص الإرجاف وأسبابه.
وقد استاء أهل الفضل من اللغط والإرجاف بالجمعية وأشفقوا من انحلالها ،
ونبشرهم بأن ما حصل أفاد الجمعية ونفعها ، وأبعد عنها من ليس من أهلها وإنما
دخلها بالغش وسوء الاختيار ، وقد انتكث بفضل الله فتل المفسدين وبطل اجتماعهم
وكانت العاقبة للمتقين ، والحمد لله رب العالمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استماحة وتهنئة
يعلم قراء المنار الكرام أن موعد صدور الجزء الخامس منه هو ثاني أيام عيد
الأضحى السعيد ، وأن العمال يتركون العمل من يوم عرفة، فلهذا ولاضطرار منشئ
المجلة ومحررها إلي السفر قبل العيد بأيام إلي خارج القاهرة نرجو أن يسمحوا لنا
بالجزء المذكور، وإننا نسدي إليهم جزيل الشكر مع التهنئة بالعيد السعيد سلفًا.
قد رأينا ان نجعل قيمة الاشتراك بالمنار في خارج القطر المصري 16 فرنكًا
بتنزيل فرنكين من القيمة السابقة تسهيلاً للاشتراك.
كتب إلينا بعض أهل العلم والفضل من العرب المقيمين في سنغافورة بأن
الرسائل التي جاءتنا من بلاد جاوه نحن وبعض الجرائد العربية في مصر وغيرها
في الطعن بالسيد عثمان بن عقيل فيها تحامل وكذب حمل عليهما الحسد وسوء الظن.
ولا غرابة في ذلك فإن الأمة الآن في طور طفولية في حياتها الاجتماعية ،
والطفل لا يميز في الغالب بين ما ينفعه وما يضره ، وإننا نعرف في هذه البلاد
وغيرها رجالاً من خيار الأفاضل يسيء الناس بهم الظن لشبه وهمية لا تروج إلا
عند الأطفال الذين لا يعقلون.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدنيا والآخرة
] فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ *
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ [[*] .
ذهب قوم إلى أن الإنسان في هذه الدنيا حيوان كسائر الحيوانات، وأنَّ زعم
بعض أفراده أنه مَلك أرضي وأنه أفضل المخلوقات ما جاء إلا من العجب
والغرور ، وأن كماله إنما هو في التمتع باللذات الجسدية بقدر ما يستطيع ، ولا
يحرم نفسه منها إلا لجهله وغروره ، بل تطرف بعض أهل هذا المذهب الحيواني
فقالوا: إن الإنسان أخس من غيره من الحيوانات ، وأنقص في فطرته من كثير من
الحشرات لأنها خلقت مستقلة في شئون معيشتها وخلق هو جاهلاً فاحتاج لتقليدها
والأخذ عنها ، ولولا استعداده للتقليد لما أمكن أن يعيش ويثبت ، والمقلد لا يكون إلا
أنقص من مقلَّده. قالوا: لا يوجد حيوان يقلد الإنسان فيستفيد بتقليده ما يقوم به أوده
ويحفظ حياته ، والإنسان قد قلد كثيرًا من الحيوانات والحشرات ، فإنه تعلم النسج
من العنكبوت ، والهندسة من النحل ، وبناء البيوت من النمل الأبيض ، وتعلم قابيل
ابن آدم من الغراب كيف يواري سوءة أخيه.
وذهب قوم إلى أن الإنسان مَلك روحاني، ولكنه لبس هذا الجسد الحيواني
ليختبر الحالة الحيوانية ويعرف حقيقة العوالم الجسدية فنسي أفراده عالمهم الأصلي،
وشغلهم هذا الثوب العارض عن حقيقتهم، فيجب عليهم أن يجتهدوا في التخلص من
عوائقه والفرار من دواعيه بحسب طاقتهم، وأن يخدموا الروح ويقووا سلطانه حتى
يقطعوا هذه المرحلة الجسدية ويصلوا إلى عالمهم الروحاني (الآخرة) غير منهوكي
القوى، وهناك يكونون أرواحًا تسبح مع الملائكة المقربين في عالم الملكوت الأعلى
حيث لا لذات جسدية كالأكل والشرب وملامسة النساء، أي أن عالم الوجود يخلو من
هذا النوع الذي نسميه (الإنسان) وتنعدم منه اللذات المادية التي سموها بزعمهم
نقائص ، بل يتخيل كثير منهم أن عالم المادة يتلاشى ويضمحل ولا يبقي إلا عالم
الأرواح والروحانيات. ومن العجيب أن أكثر الناس يعظمون أهل هذا المذهب على
اختلاف آرائهم ويعتقدون فيهم الكمال مع أنهم في العمل أقرب إلى المذهب الذي
قبله، والحق هو ما نقصه عليك فيما يلي:
إذا تتعبت أحوال بني آدم في عامة أوقاتهم ، واستخرجت مقاصدهم من جميع
أعمالهم ترى أنها محصورة في تحصيل المنافع ودفع المضار ، وإن شئت فقل:
اجتناب المؤلم واجتلاب الملائم ، وإذا سبرت أفكارهم ووقفت على مذاهبهم في
المنافع التي يتهافتون عليها والمضار التي يهربون منها؛ ترى أنه لا معنى للمنفعة
عندهم إلا اللذة ، ولا معنى للمضرة إلا فقدها ، واللذات منها الجسدي والمادي ومنها
الروحي والعقلي ، والإنسان نزاع بطبيعته إلى كلتا اللذتين ، ولكن اللذة الجسدية
سابقة في الطبيعة ، وحياته الشخصية والنوعية متوقفة عليها فلا يستغني عنها في
وقت من الأوقات ، ولهذين السببين ترسخ فيه وتقوى فتغلب على أختها التي تأتي
بعدها لأن بها تمام الإنسان وكماله. والجزء المتمم المكمل لا يكون كذلك إلا إذا كان
قبله جزء يكون هو مكملاً ومتممًا له. وكل ماهية من الماهيات المركبة التي تكمل
بتمام ما تركبت منه تعدم بعدم أي جزء من أجزائها سواء كان الجزء المعدوم هو
الأول في الوجود أو المرتبة أو كان الثاني ، وما تعدم بعدمه تنقص بنقصه وتصل
إلى كمالها باستيفائه ما هو مستعد له في أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها مع
الاعتدال الذي هو ميزان الفضيلة والكمال.
إذا علمت هذا أيها الناظر المدقق؛ يتبين لك غلط الذين يزعمون أن اللذة
الجسدية نقيصة في الإنسان ، وطلبها ولو مع الاعتدال مذموم عقلاً أو شرعًا كأن
هؤلاء الناس غفلوا عن أنفسهم فجهلوا أن الإنسان مركب من جسد وروح وأن تركه
لدواعي الجسد وما يحفظ وجوده ويصل به إلى كماله هو كتركه دواعي الروح
العاقل وما يصل به إلى كماله، كلاهما خروج بهذا النوع عن نوعيته ، وهو محال لا
يطلبه إلا جاهل. ولو أمكن للإنسان أن يستغني عن اللذات الجسدية ويعيش بدونها
مكتفيًا باللذات الروحية مستغرقًا في المعارف العقلية لكان ملكًا ولم يكن إنسانًا ، ولو
حبس نفسه على اللذات الجسدية ولم يعبأ بما يطالبه به روحه وعقله من تحصيل
اللذات المعنوية لهبط من أفق الإنسانية إلى أرض الحيوانية ، وكان كالبهائم السائمة
والدواب الراعية فالحق الذي لا مرية فيه أن الإنسان لا يكون إنسانًا على وجه
الكمال إلا إذا استوفى لذتي الروح والجسد جميعًا مع الوقوف عند حدود الاعتدال.
هو هكذا في الدنيا وسيكون كذلك في الآخرة لأن الآخرة ليست عالمًا يمحى فيه عالم
المادة من لوح الوجود ويخرج به الإنسان عن كونه إنسانًا وإنما هو عالم يكون
الإنسان به في أعلى أوج الكمال فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير
عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء أو يحجب به عن اللذتين كلتيهما.
بهذا جاء الدين الإسلامي فكان حكمًا عدلاً بين الناس: مليين وفلاسفة ، وحُكمه
هذا ترتاح له النفس المعتدلة ، ويرضى به العقل السليم إذا كان يؤمن بالغيب الممكن
الذي يُخبر به مَن ثبث صدقه بالآيات البينات. نعم إن العقل الجوال لا يرضيه
الأخذ بالإجمال فيطالب بالتفصيل ويسأل عن البرهان والدليل. وقد تكفل له
الإسلام بكل هذا، فإنه لم يكلف أحدًا بأن يأخذ به تقليدًا بل نعى على المقلدين وقال:
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .
ليس من غرضنا أن نبين في هذه المقالة وما بعدها ما قصه علينا الدين من
أحوال الآخرة وبيان أنه ممكن منطبق على ما يليق بعدل الله تعالى وفضله ، وإنما
الغرض بيان ما أرشد إليه من الكمال الإنساني في الدنيا والآخرة ، وكيف جمع بين
مصالح الدارين وألف بين مطالب الروح والجسد فوافقت الشريعة نظام الفطرة
والطبيعة لأن كلاًّ منه جل وعز ، ولا يصح في العقل أن الحَكَم العدل يخلق الخليقة
بنظام محكم ثم ينزل شريعة تخل بذلك النظام (وقد أوضحنا هذا من قبل في مقالة
عنوانها (الشريعة والطبيعة والحق والباطل) فليرجع إليها من أراد) وسنبين فيما
يأتي وجه الجمع بين الأمرين ، ونشرح معنى الزهد والقناعة على الوجه الذي
ينطبق على قاعدتنا، فانتظر ما يفتح الله به في الأجزاء التالية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) البقرة: 200-202.
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(2)
من أراسم إلى هيلانة في 11 أغسطس سنة- 185
اعلمي أن تربية الطفل في الأسبوعين الأولين من حياته - بل يصح أن أقول
في الشهرين الأولين منها - تكاد تنحصر في مجرد وقايته مما عساه يؤذيه من
المؤثرات الخارجية ، فهي ترجع إلى نوع من انتظار الفطرة ومراقبتها في عملها ،
وإعانتها عليه عند الحاجة.
إن المولود يدخل عند ولادته فيما اصطلح علماء وظائف الأعضاء تسميته
بالحياة المستقلة ، ولكن ما أضعف استقلاله وأقل حريته ، فإنه بما أودع فيه من
غريزة التغذي لا يكاد يُرى إلا ملتقمًا ثدي أمه فتكون معه كالغصن المطعم بآخر ،
فهو إذن تابع لغيره فقير إليه في غذائه وسد حاجات معيشته المادية ، وما أخفى
معنى الإنسانية فيه وأبهمه وهو في هذا الطور من الحياة، فإنه لمَّا كان مغمورًا في
سحابة من الجهالة لم يكن فيه أول أمره على ما يرى من حالة أدنى إدراك ظاهر لما
يضطرب حوله من الأشياء.
مسكين ذلك المولود الأعمى ! فإنه لا يجد ثدي أمه إلا بتلمسه، نعم إن له عينين
لكنه لا يبصر بهما ، وأذنين غير أنه لا يسمع بهما ويدين إلا أنه لما يتيسر له
أن يبطش بهما.
هذا المولود الذي هو وثن لأمه تعبده وتخصه بفرط محبتها، قريب الشبه
بالآلهة [1] الزمنى الذين سَخَرت منهم التوراة، لكنه على ما فيه من الضعف والعجز
قد خلقت له وظيفة مهمة يؤديها في العالم ألا وهي النمو.
فوظيفة الأم تكاد تنتهي إلى عدم إعاقة هذا العمل الفطري الخفي والتحرز من
تشويشه ، وإني طالما أعجبت بما تهديه إليها في ذلك أنثى الطير من الأسوة الحسنة
فإنها لشد ما تعتني بحجب ذخرها الحي عن دنس الأنظار ، وتبالغ في إخفائه بعشها
المستتر تحت أغصان الأشجار ، والمرأة أقل منها دراية بما يجب للأولاد؛ لأننا
كثيرًا ما نراها تتخذ مولودها ألعوبة لشفقتها وحنانها.
وماذا نقول في أمهات ما ينفككن يرين الأجانب أولادهن، فيُدِرنهم من يد إلى يد
ويُهِجن انفعالاتهم بما يتصنعنه لهم من الحركات والإشارات ، ويعذبنهم بالملاطفات
المنبعثة عن جنون الشغف بهم ، أقول قولاً لا أود منك إذاعته وهو: إني أخشى
أنهن في ذلك ينظرن إلى تسليهن أو إلى زهوهن أكثر من نظرهن إلى مصلحة
الطفل.
والحذر الحذر أيضًا من بعض الأوهام الشعرية، فإن شعراء هذا العصر وكُتابه
قد بالغوا في إطراء الطفل، فإنهم قد حَبَّب إليهم الخيال أن يروا فيه ملِكًا نزل من
الجنة تاركًا فيها جناحيه.
إني في الحقيقة لا أعرف من أين أتى ولكن رأيي فيه هو أنه إذا كان قد رأى
عجائب في عالم آخر فقلما يذكر منها شيئًا ، وأنه إنما يُحصِّل علومه جميعها بيننا ،
وسأبين لك في الرسالة التالية كيف يُحصِّل هذه العلوم. اهـ
(3)
من أراسم إلى هيلانه في 12 أغسطس سنة- 185
إن أول زمن في حياتنا نكون فيه أكثر تعلمًا وأشد تحصيلاً هو ذلك الزمن
الذي لا يعلمنا القائمون علينا فيه شيئًا تعليمًا نظاميًّا ، فجميع الأمهات يعرفن أن
الطفل يترقى في تحصيل العلوم من الشهرين الأولين من حياته إلى أن يبلغ ستة
أشهر ترقيًا غير معهود في هذا السن ، وقد حسب له بعض علماء وظائف الأعضاء
ما يكتسبه من العلوم وهو في سن شهرين إلى أن يبلغ سنتين أو ثلاثًا من عمره
فوجد أنه يكتسب منها ثلث ما يكتفي بتحصيله أوساط الناس ، فأنى له هذه التربية
الأولى؟ نعم إنه لا ينكر أن لأمه دخلاً فيها ، ولكن أخص مؤثر في تحصيله تلك
العلوم هو ملامسته لما يحيط به من الأشياء ، وتناول مشاعره إياها فهذا الينبوع
الأصلي من ينابيع العلم الإنساني وأعني به الاحتكاك بالأشياء وتناولها بالحواس هو
الذي أريد توجيه فكرك إليه.
ولننظر ابتداء إلى ما يجري في الواقع، فالمولود في مدة الأسابيع الأولى من
ولادته يكون مخه لا يزال في غاية الرخاوة ، وأعضاؤه المعدة لمعيشة الاختلاط بما
حوله في نهاية العجز عن إجابة داعي ما يختلف به من الأشياء إجابة يكون من
ورائها عمل ، فإنه يرى جميع هذه الأشياء كأنها شفق فلا يميز منها شيئًا ، ويسهِّل
لك الاقتناع بذلك ما ترينه فيه من الغفلة عن وجودها ، وعدم المبالاة بها ، ثم تتدرج
انفعالاته بعد ذلك في التيقظ لها فيكون مثله في هذا التيقظ بعد خموده كمثل صنم
ممنون [2] يكون ساكتًا فإذا انصبت عليه أشعة الشمس جعل يصوت كما تعلمينه.
هذا هو شأن الطفل فإنه ينتعش بما حوله انتعاش ذلك الصنم بالشمس، إن سُمي
هذا انتعاشًا.
هل يتعلم المولود الإبصار والسماع أم يأتيانه عفوًا؟ تلك مسألة صعُب كثيرًا
على المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء الاتفاق على الإجابة عنها، فلهم فيها أقوال
مختلفة ، ولكن الذي أجمعوا عليه أن المولود يتعلم بالتمرين إجادة هذين الفعلين ،
فليكفنا ذلك من جواب هذه المسألة ، والحكمة في هذا أنه من السنن الإلهية أن كل
عضو يحسن عمل ما واظب عليه ، وفوق ذلك فإن قوة الانفعالات عند الطفل تزداد
يومًا فيومًا بما يجده من اللذة في استخدام ما أوتيه من وسائل العلم الصغرى فقد قال
بسويه [3] : إن لذة الاحساس قوية جدًّا.
الإحساس في الغالب يحصل في المولودين عفوًا من غير معاناة تعليم ، فلا
يحتاج معظمهم إلى تعلم اللمس والذوق والإبصار والسماع ، بل إنهم يجدون فيما
وهبهم الله من الغرائز ما يلزم من القوة لإجراء هذه الأفعال التي هي من مقتضيات
الحياة ، ولكن أليس في قوة اقتداء الطفل بغيره ومنافسته إياه ، وفي تخيله الأشياء
المحيطة به لتزداد رونقًا يستلفت نظره إليها ما يساعد على تنبيه مشاعره ، ودفعها
إلى إجراء ما خلقت لأجله؟ إننا نرى في البهائم أن أنثاها لا تكف عن إرشاد
صغارها إلى استخدام حاستي السمع والبصر ، وحملها على الانتفاع بهما وهذا
الإرشاد هو السبب على ما أرى فيما يوجد من القوى المدهشة لبعض الفصائل
الحيوانية.
كذلك المتوحش كما تعلمين يكاد يكون نصيبه من التربية قاصرًا على
المشاعر، ولشد ما برز علينا بهذا السبب في بعض القوى ، فالعادة والرياضة البدنية
وطريقة المعيشة تنمي في الأجيال البدوية جملة أنواع من الإدراك خارقة للعادة في
دقتها وسعتها.
وإذا سأل سائل عن سبب فقد الإنسان بعض هذه المواهب الأصلية بتمدنه؛
اكتفينا في الجواب عن ذلك بتوجيه نظره إلى ما حصل في بعض أنواع الحيوان من
ضروب التغير عند انتقالها من حالة التوحش إلى حالة الاستئناس، فمن ذا الذي كان
يظن أن الأرانب إذا تربت في خابية نسيت بعد ثلاث بطون طريقة احتفار الأجحار
للسكنى بها ، وهذا الخروف نفسه الذي نعتبره مثالاً للذل وسلاسة القياد والغباوة،
لم يكن كما نراه اليوم في جميع الأزمان، فإن أصله الذي تولد منه وهو الكبش
الوحشي على عكسه في الطباع؛ لأنه حيوان جريء يزهى بالمخاطرة بنفسه في
جبال قورصه [4] ، ويقاوم من يبتغي صيده من الصيادين ، فجعله الإنسان خروفًا
أهليًّا بزربه - أي ببناء زريبة له - وتوظيف راعٍ للقيام عليه وكلاب لحراسته.
كذلك الإنسان كلما تهذبت أخلاقه بالتمدن وتحضر؛ تدرج في التخلي عن بعض
خواص معيشته الوحشية فأي حاجة تبقى له في أن يكون دائم التيقظ للمحافظة على
نفسه إذا كان غيره يسهر لحفظه وكلاءته ، فمراقبة الحيوان المؤذي من بعيد
وإلصاق الأذن بالأرض لمعرفة خطا العدو من بُعد ألفي أو ثلاثة آلاف ميل لا
ضرورة لهما إلا في حق سكان أمريكا وأوستراليا الأصليين أما نحن ففي حالتنا
العمرانية ما يغنينا عن ذلك ، فإن لنا الشرطي والجندي اللذين نستأجرهما ليدفعا عنا
ما نخشاه من أذى المعتدين وكيد الخائنين ، فإذا زال الخطر الملازم للمعيشة البدوية
بالتحضر؛ وجب حتمًا أن يزول معه ما كان لحاستي السمع والبصر من الدقة
العجيبة التي هي عون وجدان المحافظة على النفس.
كأني بك تقولين: إن هذه المزايا الجسدية لم تكن شيئًا مذكورًا في جانب
القوى التي خلقها الإنسان في نفسه بارتقاء التمدن إن صح أن ينسب له الخلق ، وأنا
بلا شك موافق لك في هذا ، فإننا - والحق يقال- قد ربحنا من الحضارة أكثر مما
خسرنا ، ولكن هيهات أن يقنعني هذا الفكر لأني أرى أنه كان يجب على الإنسان
في العصر الحاضر أن يستجمع في شخصه جميع المواهب التي كانت لمن عمروا
الأرض من قبله ، وكوني على يقين من أننا لو بلغنا هذه الغاية ما عُد ذلك منا
إفراطًا في الغنى ، ولا وصلنا في الحياة مطلقًا إلى درجة تكفي لأن نمثل فيها كل ما
من شأنه أن يحيا ، وإن قوى الإدراك الحسية تكاد تكون في لزومها لفهم معنى
وجودنا مساوية للقوى الفكرية.
أما كون التمدن يزيد الثقة في المعاملات بين الناس ويقوي روابطهم الاجتماعية ،
ويغالب على الدوام العوامل الفطرية مغالبة يقلل بها جدًّا عدد البلايا التي تجعل
البدوي على خطر من حياته - فهذا كله في غاية الحُسن، وأما كون الشرطة تحفظ
الأرواح والأموال فهذا أمر لا أجد مساغًا للطعن فيه ، وإنما كل الذي آسف عليه من
ذلك هو أن طريقة الحفظ هذه تصير مدعاة كسل وخمود لمشاعرنا ، وقد أدركت ذلك
الأمم المتمدنة أنفسها تمام الإدراك فإنها قد أبقت من عاداتها القديمة بعض
الرياضيات البدنية التي لم يبق لوجودها أدنى موجب إن لم تكن قد اعتبرتها من
وسائل إحياء قوى الفطرة الأصلية ، وذلك كالصيد وألعاب المبارزة والمصارعة
مثلاً.
ولو أن رجالاً تلاكموا في الطريق لقبض عليهم الشرطيون ، وساقوهم إلى
المحاكمة مع أنهم لم يفعلوا إلا ما يفعله الملاكمون من شباننا في ملاعبهم الرياضية
(محال الجنباز) .
إني أرى - ما لم أكن مخطئًا أن الترقي في مجموع الآلات التي نستخدمها لسد
حاجاتنا لا بد أنه يستتبع زيادة التكلف في استعمال القوى العضلية بمجتمعاتنا ، وإلا
لأصبح الإنسان عما قليل بسبب إحلاله الآلات محله في مشيه وعمله وكفاحه شبيهًا
بباشا غشيه خدر الترفه ، وغرق في فتور البطالة [5] فلابد لمنع تطرق الفساد إلى
النسل من انهماك الناشئين في كل أنواع اللعب التي هي في الظاهر غير مفيدة لكنها
في الحقيقة معدة لحفظ قوة الجسم ، ولولا هذه الألعاب المقاومة للضعف والانحلال
لكانت اختراعاتنا نفسها سببًا في انحطاط الدولاب [6] الإنساني من عرش سيادته.
العلم أيضًا يفرغ جهده ، وينفذ مهاراته وحذقه في تكميل نقص أعضائنا بما
يوجده لها من طرق المساعدة في أداء وظائفها ، وإني لكثير الإعجاب كجميع الناس
باكتشاف المنظار المقرب أو المرقب (التلسكوب) لأنه جم الفوائد ، ولكن
المتوحش الأمريكي ذا الجلد الأحمر لا يحتاج في اكتشاف نقطة فوق الأفق إلى شيء
يطيل به بصره سوى ما استقر فيه من الاعتياد على إرسال أشعة بصره المجرد
لتنفذ في المسافات السحيقة ، وتأتي إليه بصور ما فيها من الأشياء.
أليس في إعانة المشاعر بالآلات على القيام بوظائفها رفع جزء من ثقة
الإنسان بفطرته التي قضت بأن يفوق الوحشي المتمدن ولو من بعض الوجوه ،
وإني لا أريد بهذا (كما لا يخفى عليك) وجوب الاستغناء مطلقًا عن مكتشفات العلم
والصناعة ، وإنما أريد به أن لا تتخذ مزايا المدنية ذريعة إلى إنشاء الطفل المتمدن
مترفًا جبانًا قصير النظر وأنه سيأول أمره إلى ذلك إذا اعتاد في كل شئونه على
ترقي وسائلنا الصناعية ، ولم يجعل لنفسه وقوة أعضائه نصيبًا من ارتكانه عليهما.
ألا توجد طريقة لاسترجاع جزء من الخواص الأصلية التي أضاعها منا
الانغماس في التمدن؟ قد يوجد لذلك سبيل، فكثيرًا ما فكرت في الوظيفة العمرانية
للأصناف الإنسانية التي نعتبرها أحط من صنفنا لوقوفها عند أخلاق الطفولية ،
وسألت نفسي غير مرة عما إذا لم تكن هذه الأصناف معدة لسد خلل فينا ، وهو
القضاء الذي يحول بيننا وبين حالتنا الفطرية.
الصنف الأسود في كثير من ولايات أمريكا الجنوبية هو الذي يُعهد إليه خاصة
بتربية مولودي الصنف الأبيض، فنساؤه مراضع بارعات لهؤلاء المولودين ،
والرجال يمرنونهم على حسن النظر والسمع ، ولذلك كانت تربية الأحداث
الأمريكيين أوفق لمقتضى العقل بكثير من التربية عندنا ، فإن المربين هناك
يجتهدون في أن يعطوا الأطفال مشاعر قبل أن يعطوهم عقولاً، على أن التعبير
بالإعطاء هنا خطأ؛ لأن التربية لا تعطي شيئًا للطفل ، وإنما تنمي ما هو موجود
فيه ، فكم من القوى الجسدية التي لا يشك في وجودها فيه تبقى كامنة بمجرد إغفال
استعمالها.
نعم إن مجتمعاتنا المؤلفة من أشخاص كبار في السن متأنقين لا تخلو من
منبهات المشاعر ، ولكن هل تلائم أنديتنا وزخرفنا حالة الطفل الملائمة المطلوبة؟
كلا فإنه يولد محبًّا للاستطلاع مقلدًا لما يراه ، ففي إيجاده في مثل هذه الأندية جذب
له إلى أذواق لم تخلق فيه ، ولا تناسب سنه ، وقلما يكتسب من يتربى من الأطفال
في هذه البيئة الصناعية الذوق الفطري فيما بعد ، فأنا أفضل كثيرًا أن يتربى أميل
في الريف حيث يوجد كل شئ على حقيقته ، ويصل إلى مخ الطفل قبل أن تغير
مواضعاتنا شيئًا من صورته.
جميع المشتغلين بوظائف الأعضاء معترفون بما لتربية المشاعر من الأهمية،
بل إن بعضهم قد أوصى باتخاذ بعض الرياضات لتربية البصر والسمع واللمس
وغيرها في الصغر ، ولكني لا أخفي عنك أن مثل هذه الرياضات قليلة الفائدة فلا
تثقي بها كثيرًا ، فإن كل ما يفكر الطفل بالرياضة والعمل يتعبه ويسئمه ، فالواجب
على ما أرى أن يعتمد في تنبيه طرق الإحساس لهذا المخلوق الصغير على ما
يروق نفسه ويجذبها من غير أن يظهر فيه قصد التعليم والتربية.
والأم هي التي من وظائفها اختيار الانفعالات التي تنشأ من الأصوات
والأشكال والألوان والروائح والطعوم وتنويع هذه الانفعالات وتدريجها ، فعليها أن
تجري في ذلك حسب مقتضيات الأحوال ، والعالم الخارجي لا يقتضي سوى الولوج
إلى نفس الطفل من طريق مشاعره فيكفي في ذلك أن يبقى هذا الطريق مفتوحًا مع
تنبيهه عند مسيس الحاجة إلى ما يستحق التنبيه.
القوى الجسدية والقوى النفسية وإن كانت متمايزة منفصلاً بعضها عن بعض
إلا أن بينها رابطة تربطها، فإن صحة أنواع التصورات ليست بمعزل عن صحة
التصديقات ، وإن الذهن بما يتمثل فيه من صور المدركات يهيئ مواد الفكر ،
فيجب أن تكون تربية المشاعر ابتداءً مقصودًا بها تربية العقل اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لعل هؤلاء الآلهة هم الذين سخر منهم سيدنا إلياس عليه السلام لما أراد أن يتحدى أمته بقبول الله قربانه إذ طلب اليهم أن يقربوا ثورًا لآلهتهم ، ويقرب هو آخر لإلهه ليظهر أي الآلهة يقبل قربان عباده فقربوا ثورهم ، ودعوا بعلاً إلههم من الصباح إلى الظهر لينزل نارًا تأكله فلم يجبهم فسخر منهم نبي الله ، وقال: ثابروا على الدعاء فلعله نائم.
(2)
ممنون في أساطير اليونان هو ابن الفجر وابن تيتون ملك الحبشة وهو أيضًا اسم لتمثال معبود مصري كانوا يعبدونه في طيبة وكان صنعه على طريقة علمية بحيث أن الشمس لما كانت تطلع عليه كان يسمع له صوت ناشئ من حركة الهواء بسبب حرارة الشمس.
(3)
بسويه هو جاك بيننبي بسويه المولود في ديجون سنة 1627 والمتوفى سنة 1704 كان أسقفًا لكندوم ثم مو ثم صار مربيًا لولي عهد لويز الرابع عشر وهو من أكبر كتاب فرنسا وأعظم واعظ نبغ فيها.
(4)
قورصة جزيرة بالبحر الأبيض المتوسط وهي إحدى مقاطعات فرنسا على بعد 270 كيلو متر من شواطئها.
(5)
ليتأمل القارئ اعتقاد علماء الإفرنج في أعاظم رجال الشرق (الباشاوات) وليحكم فيه بإنصاف.
(6)
المراد بالدولاب الإنساني جسم الإنسان بما فيه من الأعضاء والقوى فإنه شبيه به.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدرسة زعزوع بك للبنين
أنشأ سيد أحمد بك زعزوع مدرسة في بني سويف ، ففرح المسلمون بذلك
واستبشروا بهذا العمل الشريف والخدمة الإسلامية الجليلة ، ولما تبين أنه جعل
لأكابر رجال الحكومة في بلدها حق النظر في إداراتها، ظن الناس أن هذا يحول
دون التربية الإسلامية التي يجب أن تقرن بالتعليم لأجل بث روح التهذيب الملي في
النشء الجديد ، وأنشأ بعض المتبجحين بالوطنية أو انتقاد الحكومة ومعارفها مدرسة
وبشر الناس بأن سيكون امتيازها على سائر المدارس بالتوسع بتعليم الدين
والتربية الوطنية ، فتوهم الذين يعتقدون الكمال بكل من ينتقد الحكومة أن هذه
المدرسة هي ضالة الأمة المنشودة؛ فأخطأ الظن وضل الوهم في المدرستين ،
وتبين بالاختبار أن مدرسة زعزوع بك منبع الحياة الملية ، فالتلامذة يتلقون القرآن
الكريم مع تفسيره إجمالاً فما بالك بسائر العلوم الدينية؟ ويُصَلُّون في المدرسة
أجمعين ، وليس في المدرسة الوطنية التي أشرنا إليها شيء من هذا.
مدرسة زعزوع بك اختبرتها بنفسي مرتين ، والمدرسة الوطنية الأخرى
علمت ممن يوثق به من أهلها أن التلامذة لا يُلزمون فيها بالصلاة ، وأنها دون
مدارس الحكومة في تعليم الدين.
وإنما قلنا هذا لأن الثناء بالصدق والانتقاد بالحق من أعظم أسباب الترقي
والكمال.
لا خلاف بين العقلاء في أن العناية بالتربية أهم من العناية بالتعليم لأن الذي
يتعلم ولا يتربى ربما يضر بعلمه أكثر مما ينفع، وقد رأيت بنفسي في مدرسة
زعزوع بك ما ملأ قلبي سرورًا ورجاء بحسن المستقبل ، وإنني أذكر مسألة واحدة
يقاس عليها.
دخلنا مع حضرة ناظر المدرسة الفاضل على صف ابتدائي يتعلم القرآن
الكريم بالتجويد حفظًا ، فقرأ علينا غير واحد من التلامذة ، وأوقف الناظر واحدًا
منهم لم يكن حفظه جيدًا ، ثم قال للتلامذة: إنني أذكر لكم واقعة حدثت لأحد تلامذة
المدارس ، وأطلب منكم إبداء رأيكم فيها ، وهي أن تلميذًا ضرب في الطريق تلميذًا
آخر من مدرسته فبماذا ينبغي أن يعاقبه أبوه على هذا الذنب؟ فقال أحدهم:
ينصحه بأن مثل هذا العمل يجعله ممقوتًا ومبغوضًا بين الناس
…
وقال آخر: يهدده
بمعاقبة الحكومة
…
وقال ثالث: يضربه ، فانتهر الناظر هذا وخطَّأه ، ثم قال لهم:
إن من رأيي أنا أن يفصل أبوه بينه وبين إخوته ويقول له: إذا كنت تؤذي إخوتك
في المدرسة فلا يبعُد أن تؤذي إخوتك في النسب ، وإنني أخشى من مخالطتك
لإخوتك أن يتعلموا الشراسة والتعدي ومفاسد الأخلاق منك ، فالأولى أن تكون خليعًا
لينجو إخوتك من شرِّك.
ثم قال لهم: واعلموا أن ذلك التلميذ الضارب جعله فساد أخلاقه أسوأ التلامذة
حفظًا وتعلمًا ، وربما تتعجبون إن قلت لكم: إنه من مدرستنا هذه (فشخصوا عند
هذا بأبصارهم) بل هو من صفكم هذا ، وموجود معكم الآن ، وستعرفونه فطفقوا
يلتفتون يمينًا وشمالاً وذلك التلميذ السيئ الحفظ واقف شاخص لا يبدي حراكًا، فالتفت
إليه الناظر وقال: ألست أنت المقترف لهذا الذنب يا فلان؟ فأراد أن يدافع عن
نفسه بالإنكار فقلنا له: لا تضم جريمة الكذب إلى جريمة الضرب.
وقال له الناظر: إنني سأعاقبك بما قلت أنه ينبغي لأبيك أن يعاقبك به بأن
آمر التلامذة جميعًا باجتنابك وعدم مكالمتك بعد ما أذكر لهم جريمتك عندما
يجتمعون عمومًا للانصراف؛ لئلا نفسد أخلاقهم بمعاشرتك ، أو يصيبهم الأذى من
شراستك ، ففاضت العبرة من عيني التلميذ المذنب ، وصارت الدموع تجري على
خديه ، وتنحدر إلى الأرض من غير نشيج ولا كلام.
فعند هذا شفعت فيه على أنه يتوب توبة نصوحًا ، فقبل الناظر الشفاعة على
شرط أن يطرده من المدرسة إذا هو عاد إلى مثل جريمته طردًا ، فهكذا هكذا تكون
التربية.
مدرسة زعزوع بك للبنات
رأى بعض الأفاضل فتاة معصرًا من بنات الوجهاء في بني سويف لابسة لبسًا
أفرنجيًّا وماشية في الطريق ، فسألها أين تقصد ، فقالت: المدرسة ، فقال: لا
مدرسة اليوم لأنه يوم (أحد) فقالت: إنما أريد الصلاة بها ، فقال: أنت مسلمة
وإذا كنت تصلين صلاة النصارى يغضب أبوك ، وربما يعاقبك ، فقالت: إذا
عاقبني ولم يرض مني فإن الذين علموني لا يتركونني ، ويمكنني أن أكون عندهم
راهبة في الدير! ! فقص الرجل هذه الحكاية على حضرة الفاضل الغيور أحمد بك
زعزوع ، فاستفزته الحمية الملية في الحال إلى تأسيس مدرسة إسلامية للبنات ، وقد
استحضر لها ناظرة فاضلة واستأجر لها محلاًّ مناسبًا ، وكملت الآن بها لوازم التعليم
من المعلمات والمعلمين والأدوات.
وقد وضع لها ناظر مدرسة البنين قانونًا للتعليم مبنيًّا على أساس الحكمة
ومراعاة أهم ما يلزم للبنات ، وسنتكلم عنه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى ،
وننقل بعض نبذ منه ، فعسى أن يبادر جميع المسلمين في بني سويف لإخراج
بناتهم من مدارس الغالين في التعصب لدينهم المسيحي الذين يلزمون بنات المسلمين
إلزامًا بعباداتهم النصرانية ، ويدخلوهم في هذه المدرسة الإسلامية.
وليعلم أن ما ذكرته في سبب تأسيس هذه المدرسة لم أسمعه من حضرة
زعزوع بك نفسه عندما كنت عنده في بني سويف ، وإنما سمعته من آخرين في بلد
آخر.
وعلى كل حال نقول: شكر الله سعي هذا الفاضل الهمام ، وأكثر في المسلمين
من أمثاله.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(سؤال وجواب وعبرة لأولي الألباب)
سأل سائل (اسمه قنديل) بما جاء في أول مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي
نشرت في المنار الماضي من العبارات الثلاث إشارة إلى إعادة مجد الإسلام ، فأنكر
علينا الإشارة بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) إلى أن ما قام
به الإسلام واعتز في أول أمره ، وتركه المسلمون فسلبوا مجدهم وعزهم هو
الذي يرجع به ذلك المجد والعز إليهم ، وسمى هذه الإشارة استنباطًا وقال: إنه
(غير مُسلَّم بل باطل وحرام) .
وقال في الإشارة الثانية ، وهي حديث (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ)
أن الحديث صريح في أن لا إعادة ، وأن رجوع الإسلام كما بدأ من علامات الساعة ،
وهو إنما يكون في آخر الزمان ، وقد جزم السائل بأن هذا الزمن هو آخر أزمان
الدنيا ، فيستحيل بمقتضى الحديث على رأيه وفهمه أن يعود للإسلام مجده ، ولذلك
رتب عليه الاعتراض على المنار في دعوة المسلمين إلى الاتحاد والسعي في إعادة
مجد الملة ، وقال في العبارة الثالثة التي أوردناها في صدر تلك المقالة وهي: (إن
التاريخ يعيد نفسه) أنها استعارة ، والعلاقة فيها بعيدة ، وقد طلب إجراءها للإيضاح
معللاً ذلك بأن الذين يطالعون المنار في البلاد لا يعرفون البلاغة فيفهموا إشاراته
الدقيقة.
ثم اعترض السائل على قولنا: إن ناموس الشريعة الإسلامية لا يتزلزل
ولا يزول؛ بأن الدليل الذي أوردناه عليه (وهو موافقة سنن الله في خلقه التي
أخبر بأنها لا تبدل ولا تحول) غير سديد ، قال: (إذ إخبار الله جل شأنه بأنها لا
تبدل ولا تحول لا ينفي زوالها بالكلية ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء إلى
آخره كما تقولون) وعقب هذا بالإنكار الشديد على التصريح بازدراء العلماء ،
وعدم فهمهم معنى كتاب الله مع أنه لم يستدل أحد منهم بآية كاستدلالنا بالآية التي
تقدمت إلخ- هذا ملخص ما كتبه إلينا السائل من (نكلا العنب) وقد طلب منا نشره
حرفيًّا ، والعذر في عدم إجابة طلبه هذا ما في عبارته من الركاكة والغلط الذي
نتحاماه في المنار ، وإننا نجيبه عن مسائله بما يأتي ، فعسى أن يصادف إنصافًا
وقبولاً.
(1)
إننا قلنا بعد إيراد الآية الكريمة والحديث الشريف والعبارة التي قالها
أحد علماء العمران ما نصه: (ولنوضح هذه الإشارات) ولا يجهل السائل فيما
نظن أن ما يؤخذ من القرآن الكريم بطريق الإشارة لا يسمى استنباطًا ولا تفسيرًا
ولا استدلالاً ، ولم يكن إيراد الآية في كلامنا على سبيل الاستدلال ، وإنما جاء في
جواب من سأل (كيف يعود للإٍسلام مجده إلخ) وقد أردنا به أن مجد الإسلام إنما
يعود كما بدأ أي أن الأصول والأعمال التي أخذ بها المسلمون عند ظهور الإٍسلام
فكان لهم بها ذلك المجد العظيم وزال مجدهم بإهمالها هي التي يعود المجد بالأخذ
بها، وهذا معنًى صحيح ، والأسباب تتصل دائمًا بمسبباتها ، والعلل لا تنفك عن
معلولاتها ، واحتمال الخوارق لا يخل بالقواعد الثوابث ، وقول السائل: إن هذا
باطل بل حرام ، فيه من الجرأة على الفتوى والتحريم ما ليس لمثله أن يقدم عليه ،
وقد ورد في ذلك من القرآن ما ورد.
(2)
حديث (بدأ الإسلام غريبًا) إلخ فيه من بلاغة الإيجاز ما لا يكاد
يوجد إلا في كلام الله ورسوله ، فإنه يدل على أن أهله ينحرفون عن صراطه
بالتأويلات والتقاليد على نحو ما كان ممن قبلهم كما يفسره الحديث الصحيح:
(لتتبعن أو لتركبن (روايتان) سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع)
ومعنى الانحراف مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (وسيعود غريبًا) فإنه إذا
كان معروفًا على حقيقته معمولاً به على جليته ، وقام داعي الإصلاح يدعو إليه لا
يستغرب ، بل لا معنى لعوده غريبًا حينئذ ولا للدعوة إليه ، وقد أخطأ الذين يفهمون
من الحديث أن الإسلام يضمحل ويتلاشى ، ثم لا يعود إليه مجده وعزته لأن هذا
المعنى لا يدل عليه الحديث ، وإنما صريحه أن الإسلام سيظهر مرة ثانية مثل
ظهوره في المرة الأولى ، وظهوره في المرة الأولى كان غريبًا في العالم ، ولكنه
على غرابته استعقب مجدًا كبيرًا وعزة وشرفًا ، وكذلك يكون في الكَرَّة الأخرى إن
شاء الله تعالى رغمًا عن أنوف اليائسين الذين سجلوا على هذه الأمة الشقاء بدينها
إلى يوم الدين.
وأما ضعف الإسلام بانحراف أهله عنه - كما ذكرنا - فإنما جاء بطريق
الاستلزام لا بطريق النص ، وقوله تبعًا لغيره: إن هذا من علامات الساعة؛ لا ينافي
ما نقول، فإن ظهور الإسلام في المرة الأولى من علامات الساعة أيضًا، ونبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم هو نبي الساعة كما ورد في أحاديث كثيرة.
هذا ما نفهمه في الحديث وعلى فهمنا هذا قمنا ندعو المسلمين في المنار إلى
إحياء مجد دينهم بالرجوع إلى ما كان عليه سلفهم الصالح ، ولا آفة ولا بلاء على
المسلمين أشد من الذين يعلمونهم ما يوقعهم في اليأس والقنوط من سعادتهم ومجد
ملتهم لسوء فهمهم وانتحالهم علم الدين ، وهم ليسوا من أهله.
ومن البلاء أن هؤلاء الجهلاء يلبسون لباس العلماء ، ويُعادون الإصلاح باسم
الدين ، وينفِّرون من الداعي إليه بدعوى أنه يحتقر علماء المسلمين! !
(3)
طلب السائل إجراء الاستعارة في كلمة من قال: (إن التاريخ يعيد
نفسه) لأجل أن يفهمها من لا يعرف علوم البلاغة ، وهذا الطلب بهذا التعليل لا
يلوح إلا في أذهان المشتغلين بالعلم على الطريقة الأزهرية.
وظاهر أن سائر المقالة شرح لهذه الكلمة ، وملخصه أن الأمم التي تنتابها
السعادة والشقاوة مرة بعد أخرى إنما تسعد في الكرة الثانية بمثل ما سعدت به في
المرة الأولى ، فيكون تاريخها الحاكي عن حالها أعاد في الكرة الثانية ما كان قصه
وحكاه في المرة الأولى.
هذا ما أراده صاحب الكلمة منها ، وهو بعض علماء أوروبا، ومن البديهي أن
الذي لا يعرف علوم البلاغة لا يكون فهمه للعبارات ببيانها باصطلاحات تلك العلوم.
(4)
قال السائل: إن إخبار الله تعالى بأن سننه لا تبدل ولا تحول، لا
ينفي زوالها بالكلية ، ورتب على زعمه هذا بطلان استدلالنا على أن ناموس الديانة
الإسلامية لا يزول ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء بكونه مبنيًّا على سنن الله
في خلقه.
فيجوز عند هذا العالم النحرير أن يبقى الكون وتزول منه السنن الإلهية التي
بها قوامه ونظامه ، وغرضه من هذه السخافة إقناع الناس بزوال ناموس الدين
الإسلامي ، واليأس من رجوع عزه ومجده! ! اللهم إن هؤلاء الناس أضر على هذه
الأمة المكلومة من أعدائها شياطين الإنس والجن الأقارب منهم والأجانب ، فافصل
بينهم وبينها بالحق وأنت خير الفاصلين ، اللهم إن كتابك وما وهبتنا من العقل
يعلماننا أن الناس إذا اعتقدوا أن السعادة في ما عدا الدين الحق؛ فإنهم يأخذون بما هو
مسعد لهم في دنياهم فقد قلت: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 33) إلخ
الآيات.
وإن قومًا من المنتحلين لعلوم الدين يحاولون إقناع المسلمين بأن دينهم يسجل
عليهم الشقاء في الدنيا، فاصرف اللهم قلوب هذه الأمة المسكينة عن هذا العلم الضار،
واهد قلوب أهله لعلهم يرجعون ، ومن هنا علم من نعني بانتقاد المدعين للعلم.
مسألة فقهية
زرت في هذه الأيام مدينة الفيوم لمعاهدة جمعية شمس الإسلام التي تأسست
فيها ، فرغب إلي كثيرون من أعضاء الجمعية وغيرهم أن أخطب بالناس خطبة
الجمعة في أحسن جوامعها المسمى بجامع الروبي فأجبتهم لذلك ، وكان الذي استأذن
لي خطيبه فضيلة قاضي المديرية، واتفق أن الخطبة جاءت أطول مما اعتاد
الخطباء الذين يخطبون قراءة في الورق أو حفظًا منه ، فتوهم رجل من المشتغلين
بفقه الشافعية أن الصلاة لم تصح؛ لأن الخطبة لمن سبق إذا كانت المساجد التي
يصلى فيها الجمعة متعددة ، وذكر هذا أمام بعض الناس ، فسألوني فبينت لهم الحق
في المسألة وهو:
إن اجتماع وتعارف أهل البلد الذي تقام فيه الجمعة في بيت الله تعالى وعلى
طاعته وتلقيهم المواعظ التي ترشدهم إلى سعادتهم على طريقة واحدة هو الحكمة
الكبرى من هذه العبادة ، فإذا أمكن أن يجتمع الكل في مسجد واحد وتفرقوا في عدة
مساجد يكون تفرقهم خروجًا عن حكمة الاجتماع المقصودة ، وقد ذهب الإمام
الشافعي إلى أن الجمعة الصحيحة قطعًا هي لمن سبق بالصلاة من المتفرقين في عدة
مساجد ، معتبرًا أن الذي تأخر هو الذي عدَّد ، وأن الصلاة الأولى وقعت في محلها
وحيث لا يعلم السابق قطعًا وجب على جميع المعَدِّدين إعادة الظهر ، وأما إذا لم
يمكن اجتماع أهل البلد في مسجد واحد ، وتعددت المساجد للحاجة ولم تزد عنها،
فلا تجب إعادة الظهر على أحد ، وقد علمت أن التعدد في مدينة الفيوم للحاجة بل
إن العامر من مساجدها لا يفي بحاجة أهلها ، وعلى هذا لا تجب إعادة الظهر على
أحد فيها ، ولو فرضنا أن التعدد فيها لغير حاجة فلا يمكن لمن صلى في مسجد منها
أن يجزم بأنه سابق أو مسبوق لنحو طول خطبة أو قصرها؛ لأن ما اتفق حصوله
في هذا الجامع يمكن أن يكون حصل مثله في غيره أيضًا ، فالأمر مبني على
الاحتمال وفي الإعادة احتياط على كل حال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(عثمان باشا الغازي)
نعت إلينا أخبار الأستانة العلية هذا القائد العظيم فكان لنعيه وقع أليم في قلوب
الأمة العثمانية، مليكها الأعظم فمن دونه. وطيره البرق إلى جميع الأقطار كما هو
الشأن في عظماء الرجال ، وسنأتي على ترجمته في الجزء الآتي رحمه الله تعالى
فوق حسناته.
* * *
نبأ غريب (سرقة الآثار النبوية الشريفة)
علمنا من أخبار الأستانة العلية الخصوصية أنه شاع عند الطبقة العالية فيها
أن بعض الآثار الشريفة سرق من قصر (طوب قبو) المحفوظة فيه ، وقد
اضطرب لهذا النبأ الغريب عظماء الدولة ، وكل من طرق سمعه ، فمنهم المصدق
له ، ومنهم من يرى أن الإشاعة يقصد بها التمهيد لنقل الآثار المكرمة من سراي
طوب قبو حيث هي الآن إلى قصر يلدز الأعلى ليتولى مولانا الخليفة المعظم
حفظها بما يحفظ به نفسه الكريمة؛ لأن الخليفة أولى بحفظ آثار من هو خليفة له ،
وليستغني مولانا - أيده الله وأعزه - عن الخروج في كل سنة لزيارتها في اليوم
الموعود (15 رمضان) حسب التقاليد العثمانية ، ومما يستدلون به على ذلك تعلق
الإرادة السَّنية بتأليف لجنة للبحث في ثبوت هذه الآثار وعدمه ، وقد نمى إلينا أن
اللجنة قررت أن الآثار الموجودة في مصر أثبت من الآثار الموجودة في دار الخلافة.
وزعموا أنه كان القصد من تأليفها التشكيك في صحة نسبة هذه الآثار للنبي
صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك عذرًا لمولانا الخليفة الحالي في ترك سنة سلفه
بزيارتها في الاحتفال المشهور ، أما سبب رغبة مولانا السلطان في الاستغناء عن هذه
الزيارة فيعرفه أهل الأستانة جميعًا وكل من يعرف الأستانة أو يعرف ما يجري فيها،
وحسبك منه أن ألوفًا من الجند الباسل لا شغل لهم في ليلهم ونهارهم إلا حفظ الطريق
من يلدز إلى (طوب قبو) حتى إنه قد مات منهم في العام الماضي عدة أشخاص من
شدة البرد في جانب الجسر (الكوبري) ونبشت الأرض مرة في ذلك الطريق إلى
أعماق الثرى لزعم بعض الجواسيس أن فيها ديناميت، فلا عجب إذن في اقتضاء
العاطفة الحميدية إراحة هؤلاء الجنود المخلصين من هذا العناء من حيث تكون الراحة
لمولانا نفسه ، ويتبع ذلك توفير مبلغ غير قليل من النفقات الاحتياطية يمكن أن
يصرف في وجه آخر.
وأما الأتراك فإنه ليكبر على خاصتهم وعامتهم ترك شيء من تقاليد ملوكهم
وخلفائهم السالفين ، وللمتنطعين منهم والمتطرفين في الانتقاد على المابين الهمايوني
أفكار وظنون في مثل هذه المسألة يمنعنا الأدب والاحترام لمولانا أمير المؤمنين
أعزه الله تعالى من ذكرها.
* * *
(القران الميمون)
تم في أوائل هذا الشهر اقتران دولة الأميرة الفاضلة نازلي هانم أفندي بحضرة
المفضال السيد خليل بو حاجب، فيا له من قران وصل بيوت العلماء ببيوت الأمراء
وكان سببه ميل الفضل للفضل وتلاقي النبل بالنبل خلافًا لما عليه الدهماء من
جعل الاقتران منوطًا بالأهواء.
* * *
(جمعية شمس الإسلام)
زرت في الأسبوع الماضي بعض جمعيات الوجه القبلي ، وحمدت الله تعالى
على ما رأيت من النجاح ، وقد تأسست في هذه الأيام جمعيتان فرعيتان إحداهما في
معصرة سمالوط رئيسها حضرة الفاضل إبراهيم أفندي خطر والثانية في بلدة (مير)
التابعة لديروط رئيسها حضرة الفاضل الشيخ نمر إبراهيم، وسنعود إلى الوجه
القبلي في آخر هذا الأسبوع إن شاء الله تعالى ، وقد تمهدت السبل لإنشاء عدة فروع
في بلاد أخرى نذكرها في الجزء الآتي أو الذي بعده. وقد شكا إلي الأستاذ الفاضل
السيد الشيخ محمد خطيب رئيس جمعية الفيوم ونقيب السادة الأشراف فيها من قلة
إقبال الناس على الدخول في الجمعية ، فقلت له: إنما أشكو أنا من كثرتهم
وأطلب منك أن تتربص ، فلا تبادر بقبول كل طالب حتى تعلم أنه مستوفي الشروط ،
وكيف لا أشكو من كثرة الدخول في ذلك الفرع ، وقد دخل فيه ليلة التأسيس
الرسمي زيادة عن ستين رجلاً.
ولقد كان أمر الجمعية مبهمًا عند بعض الناس هناك ، فخطبت فيهم خطبة
مطولة في اجتماع عام أوضحت فيها كل مبهم ، وجلوت كل غامض ، ولا أصف ما
لقيت من الإقبال والحفاوة ، وما رأيت من التأثر بخطبة الجامع وخطبة الجمعية كما
يفعل محبو الفخفخة وإنما أقول: إنني رأيت ما رجوت به أن تكون جمعية الفيوم
من أحسن الجمعيات وأنجحها ، وقد كتب إلي كاتب سر الجمعية يستقدمني إليها مرة
أخرى وسألبي الطلب إن شاء اله تعالى عن قريب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الوحدة العربية
يود كل مسلم عثماني أو محكوم من دولة غير إسلامية لو تكون الدولة العلية
في أعلى درج العزة وأقصى غايات القوة ، فيعود للإسلام مجده على يديها ، ويشتد
أزره بساعديها ويكون الترك والعرب وسائر العناصر الإسلامية في هذا المجد
سواء، وما كان أقرب هذه الأمنية لو استن من جاء بعد السلطان سليم ياوز (عليه
الرحمة) من الملوك بسننه السياسية ، فعمموا اللغة العربية وجعلوها اللغة
الرسمية ، ووجهوا عنايتهم إلى ضم سائر الممالك الإسلامية إليهم ، ولكن لم يصل
عقل أحد منهم إلى ما وصل إليه ذلك العقل الكبير ، بل ظلوا مفتونين بالبلاد
الأوربية التي أنفقوا على فتوحها خزائن قوتهم ، وما زالت تتربص بهم الدوائر حتى
أمكنها بمساعدة الدول القوية أن تستقل دونهم مملكة مملكة وولاية بعد ولاية.
وما انفصلت ولاية من تلك الولايات من جسم الدولة إلا وأحدثت فيه من
الضعف مثلما يضعف الجسم الحي الذي تقطع أعضاؤه واحدًا بعد واحد لفسادها أو
خروجها عن ما يقتضيه مزاج مجموع الجسم.
كلنا نعلم أن أوربا متحاملة على الدولة العلية ، وأنه لا يُنجي الدولة من الخطر
الذي يتهددها منها إلا قوة الأمة قوة شاملة لجميع عناصرها الحقيقية ، ونعلم أن
العرب وهم العنصر الأكبر متأخرون عن الترك ، وينذرهم من الخطر ما لا ينذر
الترك.
والعرب عز الإسلام وبيضته ، وبلادهم منبع حكمته ومنبعث أشعته ، فيها
أُسِّس بنيانه ، وفيها تقام أركانه ، فإذا غلب الأجانب العرب على أمرهم وأنشبوا
براثنهم في أحشاء بلادهم ، فذلك هو الموت الأحمر والبلاء الأسود الذي يسلب
من المسلمين أسآر الرجاء ، ويذهب بما بقي لهم من الذماء (بقايا النفس) والعياذ
بالله تعالى.
ومهما سلمت الأمة العربية وبلادها فإن النفوس تظل مطمئنة راجية أن يعتز
الإسلام بها يومًا من الأيام.
إن أنواع القوى للأمم ثلاث: العلم والثروة والاستعداد الحربي ، فأما العلم فإن
الدولة قد خصصت جزءًا من مالها للمعارف إلا أنها كادت تجعل ذلك محصورًا في
البلاد التركية، فليس لها في البلاد المقدسة مدرسة ولا مكتب.
ولا نقول كما يقول سيئو الظن أنها تتحرى بقاء العرب على جهالتهم وضعفهم
لئلا يسترجعوا الخلافة منها ، بل نقول ما يقتضيه حسن الظن والتأليف بين
العنصرين ، وهو أن الدولة عاجزة عن تعميم المعارف ، ومن السياسة تقديم
عاصمة السلطنة وما أطاف بها على سائر البلاد.
وإذا كانت عاجزة فالواجب على العرب خاصة - والمسلمين عامة - أن ينوبوا
عنها بإحياء البلاد العربية بالعلوم والفنون ، ويعرفوا أهلها ما يتوعدهم من نوائب
الدهر وغوائله ، وكيف يمكنهم حفظ معهد الدين وكعبة الإسلام. فنحض كل مسلم
على أن يجيب داعيهم ويمد إليهم ساعد المساعدة.
وأخص بالذكر الذين يسعون في إنشاء (دار علوم) في مكة المكرمة وهذا
سعي في مقدمات الوحدة العربية يرضي الدولة العلية ، ولا يهيج علينا دول أوربا
فهو على ما اشترطنا في مقالة (إعادة مجد الإسلام) وأما الثروة فهي في هذا
العصر تابعة للعلوم والفنون والسلطة ، فلا غرو حينئذ أن يكون الترك فيها أحسن
حالاً من العرب.
وأما القوة الحربية ، فقد وجهت الدولة العلية عنايتها لتعليم فنونها للأتراك
أيضًا ، فلا يكاد يوجد عندها قائد عسكري من العرب ، وما كانت الدولة مقصرة بهم
أكثر من تقصيرهم بأنفسهم، فإنهم لعموم الجهالة يرغبون عن الخدمة العسكرية ولا
يرغبون فيها ، وحيث كان التكلان في حماية البلاد على الدولة نفسها ، فلا فرق بين
بلاد العرب وغيرها إذ الجميع بلادها ، فهي تحميها على السواء ما دامت قادرة -
وستدوم إن شاء الله تعالى - وأما إذا كان من المخبوء لها في مطاوي الغيب أن
سيجيء يوم تحتاج فيه هذه البلاد إلى المدافعة عن نفسها بنفسها حيث يكون قواد
الترك مشغولين بأنفسهم وحفظ بلادهم عن غيرها ، فذلك يوم تحتاج فيه إلى قواد
مهرة في الفنون العسكرية من أهل البلاد أنفسهم ، فإذا وُجدوا - وما وجود السلاح
الجديد إلا أيسر من وجودهم - فحينئذ يُرجى بشجاعة العرب وبسالتهم أن يظلل الأمن
تلك البلاد المقدسة من لفحات هجير ذلك اليوم العصيب.
ولهذا اقترح المنار غير مرة على مولانا السلطان الأعظم أيده الله بنصره
وتوفيقه أن يعمم التعليم العسكري في جميع المملكة لأجل أن يكون كل قطر قادرًا
على الدفاع عن نفسه إذا وقعت الواقعة ، وانكسر الباب الذي نسمع أوربا آنًا بعد آن
تنادي أنه (مفتوح) فادخلوه عسى أن تنالوا شيئًا ، ثم يسكت المنادي معتبرًا أن
(الباب المفتوح) قد أغلق إلى أجل مسمى.
فإذا وفقت الدولة العلية لهذا ينال سائر البلاد العربية منه ما نال طرابلس
الغرب ويجب على أبناء العرب المشتغلين بالفن العسكري علمًا وعملاً أن تسمو
أنفسهم إلى إحراز الغاية من هذا الفن الجليل استعدادًا لذلك الأمر الجلل ، وهذا نوع
من الاستعداد لحفظ الأمة العربية وسلامة وحدتها، لا يخل بسيادة الدولة العلية على
بلادها ، ولا مجال لأوروبا لمعارضتنا فيه ، بل يحصل ولا تشعر به لأنه عمل
نفسي محض ، فمن لي بمن ينفثه في روع كل فرد من أهله.
ووراء هذا النوع نوع آخر يعرفه أهل الرأي الصائب والعقل النافذ لا يسطر
في الكتب والجرائد؛ لأنه مخالف لما شرطناه للكلام في الوحدة العربية.
وخلاصة القول: إن جميع العناصر الإسلامية أمست مهددة من أوربا ، وأن
الخطر الأكبر على من كان أضعف في القوى الثلاث التي ذكرناها في هذه المقالة ،
وأن الخطر الذي يلحق بالإسلام من استيلاء الأجانب على العرب أشد من كل خطر
يصيبه من استيلائهم على غيرهم من العناصر الإسلامية المستقلة كالترك والفرس
والأفغان ، وأن كل عنصر من هذه العناصر أكثر استعدادًا من العرب لحفظ وحدته،
وأنه لا يفيد الإسلام قوة واحد منها كما يفيده قوة العنصر العربي ، فيجب إذن على
الأمة العربية أن تسعى في تقوية نفسها وجمع كلمتها وحفظ وحدتها ، ويجب على
جميع المسلمين أن يساعدوها على ذلك؛ لأنها روح الجامعة الإٍسلامية التي توجهت
إليها أفكار عقلائهم بعد ما كاد الضغط يسحقهم سحقًا.
أما كفاكم أيها المسلمون ما جناه عليكم اختلاف العناصر وتفرق الأجناس؟ أما
آن لكم أن تعلموا أن أمتكم هذه أمة واحدة؟ اعلموا واعملوا ، وعلى الله المتكل في
نجاح العمل.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
من أراسم إلى هيلانة فى 31 أغسطس سنة - 185
الطفل يتلقى علومه الأولى من العالم الخارجي ، ولكنه هيهات أن يرضى
بمجرد الانفعال بالمؤثرات الأجنبية كغيره من الحيوانات التي ترضخ لما يقرر لها
من أحوال المعيشة ساكتة عليه غير مفرقة بين ضاره ونافعه ، فإنه لا يكاد يخرج
من ظلمة الرحم إلا ويكون قد أثبت حريته بصراخه الذي يعارض به ملمات الألم
وفواعل الطبيعة.
فترينه يبكي ويتبرم ممن حوله من الناس والأشياء ، ويوجِد عليهم إن لم
يجروا على مقتضى رغائبه ، وهو على عزله وعجزه يلج في الشكوى من سلطان
القدر ، ويتذمر عليه بحسب حاله.
وبعد بضعة أسابيع أو أشهر من ولادته تنفتح عيناه وأذناه تدريجًا في مشهد
الكون، فمن ذا الذي كان يحسب أن هذا الجسم الضئيل الصغير لا يرتعد لما يراه
يثور حوله من قوة الفواعل الكونية.
بلى إنه لا يحسب لها حسابًا ، فلا يلبث أن يتأمل في هذا الدولاب الأرضي
العظيم ، ويرجع فيه بصره الرائق ، وهو هادئ البال آمن مع أن أقل أداة فيه ربما
كانت كافية لسحقه ومحقه ، وهو وإن ولد أسير الفطرة لكنه لا يلبث أن يكون
حاكمها المستبد فيطلب إلى أمه بلغته المبهمة الخفية الدلالة أن تجمع له بين الحر
والقر والمطر والصحو ، بل إنه ربما استسهل أن يسألها إنزال القمر والكواكب من
السماء تحصيلاً للذته ، ولما كانت الأم على كل حال ليست في نظره إلا مثالاً حيًّا
للنوع الإنساني كان شعوره بالقوة إنما يستمد من انتسابه لهذا النوع ، فتسبق إلى
ذهنه العاجز عن الفكر غريزة السلطان الذي لتلك اللذات المختارة على العالم ، فلا
يبقى تلقاء هذه القوة المعنوية التي لا يدركها إلا حدسًا غير بَيِّنٍ أدنى تأثير في نفسه؛
لعظم تسلط المادة.
ليس الطفل كما يقال لوحًا مصقولاً مجردًا من الإدراك ، بل إن له ذاتًا تشعر
بالوجود ، ولا تلبث أن تثبت وجودها بما لها من الطريقة المخصوصة في المعيشة
والإحساس ، وبما يصدر عنها من الانفعالات اختيارًا ، وبما لها من الغرائز خلقة.
وكما أن مشاعره قد جعلت بينه وبين ما حوله من الأشياء اتصالاً ، كذلك
أمياله ورغائبه تتدرج في تعريفه من يعيش بينهم من الناس وتقريبه منهم ، نعم إن
معظم انفعالاته النفسية تأتيه في مبادئ الأمر من الخارج ، فيكون حبه لغيره
وضحكه وكلامه ناشئة من حب ذلك الغير إياه ورؤيته يضحك وسماعه يتكلم ، لكنه
عما قليل يبدي ما يستقر في نفسه من ضروب النفور والميل والترجيح وجملة القول:
إن طبعه يستبين ، وسأتكلم عن هذا الموضوع في بحث آخر.
أنا لا أعتقد مطلقًا أني قد أجبت في رسالتي هذه عن أسئلتك التي سألتنيها في
التربية ، فإن توفية الإجابة حقها تستلزم زمنًا ، وأنا قد عدوت فيها عدوًا أسرع ما
يكون ، فوصيتي إليك أن تفرضي على نفسك أنت أيضًا مراقبة أميل، فإن أبعد
الأشياء عن نظر القائمين بأمر التربية إلى الآن وأكثرها انفعالاً هو اختبار الطفل
ومعرفته.
كلما فكرت فيك وفي أميل كان مثلي كمثل الخنفساء الطيارة يمسكها التلميذ ،
ويربط أحد أطرافها بخيط ، ويرسلها فتطير في الشمس ناسية رباطها ، وتسبح في
الهواء وتطن ، فلم يكن إلا أن يجذب التلميذ الخيط حتى تسقط على الأرض ، فها
هو السَّبَحان يدعوني لأن هذا الوقت هو وقت التنزه على أسوار السجن فأودعك ،
وأرجو أن يبقى الحب بيننا وثيق العرى. اهـ
(5)
من هيلانة إلى أراسم في 2 أكتوبر سنة- 185
إن أميل لأجمل غلام في الدنيا ، أقول هذا القول وأنا عالمة حق العلم أن
جميع الأمهات يدَّعين ذلك مثلي لأول مولود يرزقنه ، وهذا يدلك على أننا نرى
أيضًا بقلوبنا أكثر مما نرى بأبصارنا.
المرأة تتعلم الحب ، وتتعلم كيف تكون أمًّا ففي كل يوم تبدو لي شواهد على
ذلك بما يبعثه في نفسي هذا الغلام المحبوب من الرحمة والحنو المتزايدين ، لكن لا
يدعونَّك هذا الأمر إلى أن تخاف علي الاستعباد لوجداني ، والعجز عن القيام بما
فرضته على نفسي من تربيته ، فإني اتباعًا لنصائحك ونصائح صديقك أقدم
مصالحه الحقيقية على ما تقتضيه أميالي وأذواقى ، وقد أقام لي الدكتور على وجوب
ذلك دليلاً مستوفى الشرائط ، فقال بما تعهده فيه من أدب المنطق وحسن اللهجة:
(خلق الله لسائر الحيوانات أعضاء تقوم لها مقام الأسلحة في الذود عن أنفسها، أما
الطفل فلا سلاح له إلا ضعفه وصراخه ، ولكن ما أشد مقاومته لنا بهما ، وما أكثر
ما يستفيد منهما ، فهو وإن كانت أنواع الإحساس فيه لا تزال مبهمة؛ لكنه قد
طبعت فيه غريزة العدل من نشأته ، فهو لا يلبث أن يميز بها ما يصدر عنا من
الأفعال في حقه صوابه من خطأه ، فاعلمي وثقي بما أقوله لك أن الواجب في
سياسة الأطفال خاصة هو أن نكون نحن المحقين لا هم لأنه إذا انعكس الأمر فجعل
الحق والسلطة لهواهم واستبدادهم فقد أضعفنا كل شيء ذلك أن الطفل يبكي أحيانًا
للحصول على ماعوده أهله اشتهاءه ابتداء موافقة لهواهم فإذا لم يبادروا إلى إرضاء
شهوته إما إغفالاً منهم لها أو غضبًا عليه فإنه يستمر في بكائه ساعات كاملة ، بل
إنه يبكي حتى يشارف الموت ، فإذا انتهى الأمر بالإذعان إلى رغبته كان ذلك
أيضًا شرًّا من مخالفته؛ لأنه يبين منه أن والديه خلو مما يدرعانه لمقاومة شديد
أهوائه ، فلا ينبغي أن يعارض الطفل في شيء مما يشتهيه إلا متى كان في
المعارضة خير له ، وإذ ذاك يجب أن تكون عزيمتنا كالقانون ثباتًا وصرامة) .
هذا ما قاله لي ، وإني لأخاله عقودًا من الدرر يلفظها من فيه، فقد اتفق لي -
ولا أخفي عليك - أني كنت أنسى أحيانًا الأخذ بنصائحه في سياستي لأميل ، وفي هذه
الحالة كنت أنا وهو نتألم من عاقبة هذا النسيان.
قرأت الفصل الأول من كتابك ، وهو على ما أرى كتاب تؤلفه في التربية ،
وأنا في انتظار قراءة باقيه لأكاشفك برأيي فيه فأعتقد تمام الاعتقاد أن تربية أميل
ستكون على وفق آرائك ورغائبك ، ولكن لا يغرب عن فكرك أن خط المعاني على
الورق أسهل من نقشها في صحف الحياة ومجاري الواقع.
أنشأ ورق الشجر هنا يحت ويسقط ، لكن فصل الخريف في هذا البلد
جميل وإن كان غزير الأمطار فهو كوداع العزيز ابتسام في بكاء ، وتأتي فيه أيام قد
يتوهم الإنسان فيها أنه لا يزال فصل الصيف ، ومما يزيد هذا الوهم قوة أن زِنْجِيَّنَا
البارَّ قد غرس في حديقتنا المربعة المقابلة لشباك حجرة نومي أشجار العود والصبار
والمانوليا [1] وأراد بهذه العناية اللطيفة أن يهديني شيئًا من جنى أرض بلاده التي
يحفظ لها في فؤاده أشد ذكر ، ويؤكد الناس أن بعض نباتات المنطقة الحارة يمكن
إذا حيطت ببعض ضروب من العناية أن تغرس هنا وتنمو ، ولا ينالها من
فصل الشتاء أدنى أذى ، فقد قال لي بستاني السيدة وارنجتون ما نصه:
(إن السبب في هلاك هذه النباتات في غير إقليمها ليس هو فقدانها
ما كانت فيه من الحرارة ، بل هو ما تلاقيه من الجليد في الأقاليم الأخرى ،
وحينئذ فهي تنجح في كورنواي لأن إقلميها معتدل ، إذ ليس فيه إفراط في الحرارة،
ولا في البرودة) .
فكم من امرأة تعيش معيشة هذه النباتات مطوحًا بها عن مطلع شمس محبتها ،
فلا تموت لتستريح من عناء هذه المعيشة اهـ.
(6)
من هيلانة إلى أراسم في أول يناير سنة- 185
قد حيرني سكوتك وانقطاع رسائلك عني ، فقد مضى زمن طويل جدًّا لم أحظَ
فيه بشيء من إخبارك فلعل السر في ذلك أن دخول المكاتيب في السجن أيسر من
خروجها منه ، وإني على يقين بأنك لا ذنب لك في هذا ، ولكني لبعدي عنك تراني
أوجس خيفة من كل شيء.
فشا في كورنواي منذ بضعة أسابيع مرض معدٍ أودى بكثير من الأنفس ،
ويقال: إنه وفد علينا من جنوب إنكلترا.
ترى هل كان يدور في خلدك أن مسقط رأس الطبيب جنار [2] يصح أن يكون
أحد بلاد أوروبا التي فيها طبقتا الفعلة والمزارعين هما أشد مقاومة لنشر الفوائد
التي نجمت من اكتشاف ذلك الطبيب؟ فكثير من الأسر (العائلات) يرفضون تقديم
أولادهم للتلقيح إما بلادة فهم أو حذرًا أو وسوسة ، بل إن منهم من يعتقدون أن في
إبعاد المرض باتخاذ الوسائل الواقية منه معارضة لمشيئة الله تعالى ، ثم إن مصلحة
الطبيبات في هذا البلد ، وهن طائفة من القوابل يطببن في القرى من على شاكلتهن
تنحصر في ترويج مثل هذه الأوهام، فإن هؤلاء النساء لما كان معظمهن يجهل
طريقة التلقيح كانت وظيفتهن القيام على من يصابون بالمرض ، وهل بعد هذا
يستغرب ازدياد عدد وفياته؟ لم يكتفِ الدكتور وارنجتون بتلقيح أميل بل أراد أن
يجدد تلقيحي للتوقي من الخطر المحدق بنا.
إني ولا أخفي عليك عندما أفكر في الجدوى آنس من نفسي رعبًا واشمئزازًا
لا يحيط بهما الوصف ، وخصوصًا إذا تمثل في خاطري أنه لم يسلم من آثار هذا
المرض الشنيع إلا قليل من رجال القرن الماضي ونسائه ، ولا شك أن الإنسان
يقضي يومه عناءً وكدرًا إذا خطر في ذهنه أن كثيرًا من أخدان الملوك كالآنسة
فاليير والسيدة دوباري وعدة غيرهما من ربات الحسن اللاتي طار صيتهن بالجمال
لتعاسة حظهن كن جميعًا مجدورات بدرجات متفاوتة في القلة والكثرة ، أما أنا فإني
أشكر لعلم الطب نعمته على الإنسان وهي تحرير وجهه وإعفاؤه مما كان يؤديه من
الجزية لذلك الداء المريع في أغلب إغاراته.
فلقد كانت الفتاة منا - معشر النساء - ترى أملها في أن تُحَب قد انقطع بزوال
ما كان ينمحي بسببه من محاسنها ، وإني وإن لم أكن الآن فتاة لكني لو جعلت لي
الدنيا بما فيها على أن أخسر ما لي من بقية الجمال القليلة ما رضيتها منها بدلاً! فإني
أخال أنني لو فقدت تلك البقية لأنكرتَني ، وانقطعتْ عنك معرفتي.
إنك بما كلفتني من مراقبة أحوال الطفولية واستعراف شئونها في شخص
أميل كأنك قد بعثتني لاكتشاف بلد مجهول ، فإنه من المحقق الذي لا ريب فيه وجود
عالم للأطفال على حدته لأن جميع من رأيتهم منهم لا يكادون يختلفون في شيء من
طرق إحساسهم وإبداء انفعالاتهم ، ولكن من الصعب جدًّا الرجوع إلى دخول هذا
العالم بعد الخروج منه ، فإذا رجعنا إلى ما نذكره من ماضينا ابتغاء معرفة شئ من
أموره تَبَيُّنًا له ، فالجنة الأرضية التي لم يخرجنا منها إلا مجرد نمونا وكبرنا وإنه
يكون من العبث البحث عن موقعها في خريطة ذاكرتنا ، فليت شعري هل الطفل
الساكن في تلك الجنة التي هي مطلع فجر حياته ودار هدوئه وسكونه يعرف من
أمرها أكثر مما نعرف؟ أنا ربما ملت إلى اعتقاد هذا ، ولكن إذا كان الله سبحانه قد
استودعه سرها فهذا السر هو في غاية الحفظ لم يطلع عليه أحد إذ كيف يصح
تخمين ما يقع في نفس ذات صغيرة عاجزة عن بيان لذاتها وآلامها اللهم إلا بلهجة
مبهمة وأصوات غير معروفة المخارج.
إني بما ألاحظه في الأطفال كل يوم قد تبينت أن لهم لغة تكون قبل الكلام
بكثير ، ولكن ما أبهمها وأعسر فهمها حتى على الأمهات أنفسهن ، وإني أخالنى أفهم
بعض رغبات أميل ، وأدرك أفراحه وأحزانه فهل هذا يكفي في معرفته؟
منتهى ما يمكنني أن أقول فيما وصلت إليه من استعراف أحواله هو أني
لاحظت فيه حصول استحالات كبرى فإنه في مدة الشهرين الأولين من ولادته كانت
معيشته كلها في نفسه (إن صح تسمية هذا معيشة) فلم يكن له ارتباط بالعالم
الخارجي أما الآن فهو يميز بعض ما يحيط به من الأشياء تمييزًا فيه نوع من
الوضوح وفوق ذلك فهو يتبسم لي.
يومنا هذا هو عيد أول السنة الجديدة ، ولكن ما أشد حزني فيه وأعظم كدري،
وأنت تعلم أن من عادة الناس في مثل هذا اليوم أن يتمنوا لمن يحبونهم من الخير ما
يشاءون وأنا أتمنى لك شيئًا واحدًا هو أن تعود إليك نعمة الحرية اهـ.
حاشية - هديتي إليك في هذا العيد هي جزء من شعر أميل أرسله طي هذه
الرسالة.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الصبار: هو التين الشوكي وليس بعربي ، والمانوليا نبات أمريكي بهي الأزهار.
(2)
جنار: طبيب إنكليزي هو المخترع للتلقيح بالمادة الجدرية في أوربا حوالي سنة 1776م.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(العام الجديد)
هذا اليوم هو افتتاح سنة 1318 للهجرة الشريفة ، وقد قابل سمو العزيز
المعظم فيه جموع المهنئين من علماء العاصمة وأمرائها وموظفيها ووجهائها ،
فكان يتلقاهم بما عُهد في سموه من اللطف والطلاقة ، وأنشد بين يدي سموه حضرة
صديقنا الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم الخطيب والمحامي الشهير هذه التهنئة
التاريخية:
باكر لتهنئة العباس مبتهجًا
…
فيومنا فيه بدء العام قد ثبتا
هل الهلال وسعد الملك طالعه
…
ودوحة اليمن فيها غرسه نبتا
وانشر بشائره فيما نؤرخه
…
عام جديد بإيناس الخديو أتى
فتقبلها سموه بالبشر والارتياح ، نسأل الله تعالى أن يجعله عامًا سعيدًا ويهيئ
للأمة فيه مجدًا جديدًا.
***
(أوروبا والإسلام)
فرنسا وإنكلترا هما الدولتان اللتان تهتمان بقوة الإسلام وضعفه؛ لسعة
مستعمراتهما الإسلامية ، ولكن الثانية أبرع من الأولى وأحكم ، فإنها إذا أظلت
بنفوذها بلادًا إسلامية تتحامى جرح عواطف المسلمين في سائر البلاد بقدر الطاقة
بأن تَدخُلها باسم الإصلاح ووقاية الحقوق المهضومة ، وتثبت ذلك بالفعل والتنائي
عن الضغط الذي يخشى أن يحدث الانفجار، وفي كل يوم تُسمِع المسلمين من
وزرائها وجرائدها ما يرضيهم ويربط بمودتها حبال آمالهم حتى يبلغ الكتاب أجله.
ولولا أن الإنكليز توهموا منذ سنين أن في مصر حزبًا وطنيًّا عاملاً يرتبط
بدولة فرنسا الطامعة في مصر ويعتمد عليها في حل عقدة الاحتلال الإنكليزي؛ لما
ظهر منهم ما ظهر من الضغط والاستعجال في القبض على أزِمّة كثير من المصالح
والمنافع المصرية ، فلقد كان المفتونون بحزب الاستعمار الفرنساوي الذين لقبوا
أنفسهم بالوطنيين أكبر بلاء على مصر والمصريين.
وأما فرنسا فإنها لم تحسن هذه السياسة ، ولذلك لا يوجد عندها من الاطمئنان
على مستعمراتها الإسلامية ، والثقة بالمسلمين عشر معشار ما عند الإنكليز من ذلك،
وقد أحس سواسها بهذا فقاموا ينصحون حكومتهم بتلافي الأمر ، واستنباط الوسائل
والحيل لربط ثقة المسلمين بهم؛ ليأمنوا على ما استعمروه من بلادهم ، ويتسنى لهم
ضم غيره إليه ، وتبين لهذا الفريق منهم خطأ الفريق الآخر الذي كان ولا يزال يرى
أنه لا يمكِّن لفرنسا في أرض الإسلام إلا الضغط الشديد وتقطيع الروابط الدينية ،
وهدم الأركان الإسلامية كمنع الحج إلى بيت الله الحرام الذي لم يتجرأ عليه من دول
أوربا غير فرنسا المتهورة.
كتب منهم الموسيو هانوتو وزير الخارجية سابقًا مقالتين في إحدى جرائدهم
ذكر فيها الرأيين وبين المذهبين ، ولكنه خاض مع ذلك في فلسفة الديانتين
الإسلامية والمسيحية واستمدادهما وآثارهما ، فخبط وخلط ، وجرح الوجدان وآلم
النفوس ، فرد عليه ذلك الإمام العظيم من علماء المسلمين ردًّا حكيمًا كان شفاءً لما
في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين.
ثم ترجمت جريدة المؤيد الصادرة قبل أمس مقالة لسياسي فرنساوي آخر اسمه
(نابليون ني) هو أعلى من هانوتو كعبًا وأرسخ قدمًا في السياسة رمى بكلامه إلى
أغراض بعيدة ، وأشار بآراء لهم سديدة ينبغي أن يجعلها المسلمون نصب أعينهم ،
ويعلقوا عليها الشروح والحواشي ، ويضعوا لها التقارير، وإن أخذ ذلك وقتًا من
حواشي الصبان والأمير ، وسنكتب ما يعن لنا بذلك في الجزء الآتي إن شاء الله.
كتبنا مقالة في الوحدة العربية في وقت كان الذهن فيه صافيًا والفكر موافيًا ،
ثم أضعناها فاستملينا الفكر معانيها مرة ثانية ، فضن ببعض ما جاد به أولاً حيث
وجد الوقت ضيقًا ، وهي ما ترى في صدر هذا الجزء.
***
(نور الإسلام)
ستصدر في هذا الشهر مجلة دينية في الزقازيق تدعى نور الإسلام ، فنرحب
برفيقتنا ، ونستوفي الكلام عليها بعد ظهور العدد الأول منها إن شاء الله تعالى.
***
(جمعية شمس الإسلام)
يرى قارئ مجلة الجمعية أن لها ثلاث طبقات ، وأن لها لجنة عليا ، ويتساءل
الناس عن ذلك ، والذي يمكن أن نوضحه لهم أن الجمعية عندما تنتشر في قطر من
الأقطار يرتقي أصحاب الجد والاجتهاد في خدمتها إلى الدرجة الثانية بشروط
مخصوصة ، ومن هؤلاء تتألف اللجنة الثانية العالية التي تدير نظام الجمعية ،
وتنظر في شئونها في جميع القطر ، ومن هؤلاء من يرتقي إلى الدرجة الثالثة
بشروط مخصوصة ، ومنهم ينتخب أعضاء اللجنة العليا فيتعارفون بأمثالهم من
سائر الأقطار ، ويتألف منهم من يدير أعمال الجمعية في جميع أقطار الأرض ،
وبهم يحصل التعارف العام الذي تقوم به الجامعة الإسلامية.
وقد اجتمعت اللجنة العالية التي تدير أعمال جمعيات القطر المصري اجتماعها
الأول في ليلة الجمعة الماضية ، وستوالي ذلك في الأوقات المعينة إن شاء الله تعالى.
***
(نجاح الجمعية)
سافر كاتب هذه السطور ثانية إلى الوجه القبلي بصحبة سعادة محمد علي بك
المؤيد الرئيس العام ، فزرنا بعض الجمعيات ، وأسسنا جمعية جديدة في بلدة (مسارة)
وأهل هذه البلدة كانوا مشهورين في الصعيد بسفك الدماء والسلب والنهب ، فتاب
الجم الغفير منهم إلى الله تعالى ، وعاهدوا الله تعالى على التمسك بالدين والعمل به
ودعوة سائر إخوانهم إلى ذلك وموالاة من والاهم على ذلك ، ومنابذة من خالفهم فيه
وفقهم الله لذلك بمنه وكرمه.
***
(احترام الجمعية)
اشتهر أعضاء الجمعية في البلاد التي انتشرت فيها بالصدق والتمسك بالدين
وحدثني بعض القضاة أن امرأة لها دعوى جاءت بشاهد واحد ، وقالت للقاضي
متبجحة: عندى شاهد من جمعية شمس الإسلام ، وهو يعدل خمسين شاهدًا من سائر
الناس.
_________
الكاتب: سيد فرج
تأسيس فرعي سمالوط ومعصرة سمالوط
لجمعية شمس الإسلام
(لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء)
جاء طلب من حضرات أهالي معصرة سمالوط لحضرة مولانا صاحب
الفضيلة الشيخ محمد النجار قاضي مركز ديروط ورئيس جمعية شمس الإسلام فيها
بقصد تأسيس فرع هناك ، فلبى الطلب ، وقام يصحبه حضرة الوجيه الفاضل محمد
أفندي عارف عضو جمعية ديروط ، وحضرة محمود أفندي إبراهيم الجوهري أستاذ
الرياضة في المدرسة الخيرية وأحد رجال الجمعية ، ومحرر هذه السطور مكاتبكم ،
فلما جئنا سمالوط بدأنا بزيارة ضريحي أميري الصعيد المرحومين حسن باشا
الشريعى وإبراهيم باشا شقيقه ، ثم زرنا منزل حضرات أشبال حسن باشا الشريعي
أحمد بك وحسين بك ونزلنا ضيوفًا عند سعادة الفاضل محمد بك أبو جبل عمدة
سمالوط نجل المرحوم إبراهيم باشا ، ثم أسسنا فرعًا لجمعية شمس الإسلام في نفس
مدينة سمالوط رئيسه سعادة محمد بك هذا ، وبعدها زرنا المسجدين اللذين أسسهما
المرحوم والده ، وأحدهما بمنارة شائقة ، وعلمنا أن سعادة العمدة مصمم على إيقاف
عشرين فدانًا لهذين المسجدين ، وفي عزمه وعزم حضرات أنجال حسن باشا إنشاء
مدرسة لتثقيف أبنائهم وأبناء الفقراء ، وعن قريب يخرج هذا العمل من حيز القول
إلى حيز الفعل، أكثر الله من أمثالهم.
ثم توجهنا إلى معصرة سمالوط ونزلنا ضيوفًا بمنزل حضرة الشهم الفاضل
علي أفندي شريف مهندس المركز وفيه شكلنا فرعًا آخر تحت رئاسته وعضوية
حضرات إبراهيم أفندي خضر وسليمان أفندي شكري والشيخ عبد الجواد سالم
وفي هذا المقام قام محرر هذه السطور ، وألقى خطابًا يناسب المقام افتتحه بما يأتي:
أيها السادة اشترك اليوم الشعوب والقبائل من سائر الأجناس والمذاهب بموسم
شم النسيم الذي يعبر عنه بالعيد الوطني ، وجدير بكل قوم أدوا واجباتهم نحو المدنية
والحضارة والتجارة والمعارف والحمية القومية والجامعة الدينية التي هي أعظم
الروابط أن يفتخروا ويتبادلوا عبارات التهاني ، فإن كنا يا قوم قمنا ببعض الواجب
فلشعبنا الإسلامي أن يفرح ويلعب ، ويخرج للمنتزهات ، ويركب المركبات
ويتفسح في الحدائق ، ولكن بكل أسف يا سادتي أقول: إن الذي ألم بمجموع أفرادنا
لا يخفى عليكم فإذا أردنا إحراز الفضائل؛ فلنتضافر على الاتحاد والإخاء والعمل
بالكتاب والسنة ، وهذا لا يتسنى إلا بربط قلوبنا بجمعية شمس الإسلام التي هي
أوثق رابطة دينية تربط المسلم المصري بالمسلم العثماني والتونسي والجزائري
والمراكشي والجاوي والهولاندي والهندي والروسي والصيني والإنكليزي.
ماذا التقاطع في الإسلام بينكمو
…
وأنتمو يا عباد الله إخوان
ألا نفوس أبيات لها همم
…
أما على الخير أنصار وأعوان
ولولا ضيق المقام لذكرنا جميع الخطبة التي تلوناها شفاهيًا على مسامع
حضرات الإخوان ، ثم قام حضرة محمد أفندي كامل كاتب الجمعية هناك ، وألقى
مقالة غراء تحث على التعاون والتعاضد الأخوي ، ثم قام حضرة الشاعر الأديب
الشيخ عبد الجواد ، وألقى قصيدة جميلة يضمنها تطريز لفظ (جمعية شمس
الإسلام) وكلها حكم ، ثم ختمت الجلسة ، ثم قفلنا إلى ديروط ، وكلنا نثني أجمل
الثناء على المساعدة التي قام بها حضرات الإخوان لا سيما حضرة الفاضل علي
أفندي شريف مهندس المركز ورئيس فرع معصرة سمالوط ، وحضرات البكوات
أنجال سعادة حسن باشا ، وإبراهيم باشا الشريعى فهكذا هكذا المسلمون، نفع الله
بهم الأمة والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
سيد فرج
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سيرة المرحوم عثمان باشا الغازي
ولد في مدينة توقات من ولاية سيواس سنة 1248 ، وكان والده في الأستانة
فاستقدم بيته إليها ، وأدخل عثمان أولاً إحدى مدارسها الابتدائية ، ثم نقله إلى
المدرسة الإعدادية في سنة 1258 ، وكان أخوه أو خاله أستاذًا فيها ، فعني بتعليمه
وتربيته ، وبعد خمس سنين انتقل منها إلى المدرسة الحربية ، وخرج منها في سنة
1265 برتبة ملازم ثان في الفرسان وفي إثر ذلك كانت حرب القريم فجعل من
أركان حربها تحت قيادة عمر باشا فظهرت بسالة الفقيد ونجابته فيها ، فترقى عقيبها
إلى رتبة يوزباشي في الحرس الشاهاني ، ثم إلى رتبة (قول أغاسي) وفي سنة
1274 عين في اللجنة التي كلفت بتنظيم خرائط الأناضول ، وفي سنة 1276
صار رئيسًا لأركان الحرب في معسكر بكييشهر فظهرت براعته فيها أحسن ظهور ،
وكان في العسكر الذي أرسل لإخماد فتنة سوريا المعروفة بفتنة سنة 1860
ميلادية برتبة بكباشي ، واستقدم مع عسكره من سوريا لإخماد فتنة حدثت في كريد
وقد ارتقى ببراعته وبسالته فيها إلى رتبة قائمقام ثم أميرالاي وأنعم عليه بالوسام
المجيدى الثالث وكان ذلك في سنة 1283هـ و 1866م.
ولما كانت فتنة سنة 1283 في اليمن كان الفقيد أحد قواد العساكر التي
أرسلت إليه فارتقى بعمله فيها إلى رتبة أمير لواء.
ولما عين قائدًا لفرقة يكى بازار نظمها أحسن تنظيم؛ فارتقى إلى رتبة
فريق وجعل قائدًا للأستانة العلية ، ثم لأشقودره ثم لبوسنه ثم تعين رئيسًا
للمجلس العسكري في الفيلق الرابع.
ولما حاربت بلاد الصرب الدولة العلية كان قائدًا للفرقة الأولى في محاربتها
فدوخها ، وألجأ أهلها إلى طلب الصلح ، فارتقى بهذا إلى رتبة المشيرية ، وأنعم
عليه بالوسام المجيدي الثاني ، ثم وقعت الحرب بين الدولة العلية والروسية ، فتولى
عثمان باشا قيادة 68 طابورًا و17 كوكبة من الفرسان وأعطي 174 مدفعًا وكانت
له فيها الوقائع الهائلة التي كان فيها مثال الثبات والشجاعة والدراية في الفن
العسكري وقيادة الجيوش ، وناهيك بما كان منه في حصار بلافنا فإن الروسيين
زحفوا عليه بقضهم وقضيضهم وعددهم وعديدهم ، فصابرهم وكافحهم ، وقتل منهم
الألوف ، وهزم الزحوف بعدد قليل ، ثم قطع عنه الزاد والإمداد ، حتى لم يبق عنده
شيء يتلمظ به الجند ، وهل ألجأ هذا الأسد للتسليم ما أصابه من البلاء الأليم؟ كلا
إنه نفخ في جنده روح الحمية والبسالة ، وأمرهم بأن يخترقوا صفوف العدو بالقوة ،
وكان عددهم نحو أربعين ألفًا ، وعدد الروس يزيد على مائة وخمسين ألفًا ومعهم
ستمائة مدفع، فأطاعوه واخترقوا صفين من المعسكر الروسي والنيران تنصب عليهم
كالمطر ، وقبل النجاة باختراق الثالث أصيب القائد العظيم بالرصاص هو وجواده
فوقع جريحًا، فسلم جنده ظنًّا منهم أنه قتل.
وقد عرف الروسيون لهذا القائد الباسل فضله وقدروه قدره ، فلم يعاملوه
معاملة الأسرى ، بل أعادوه إلى بلافنا مكرمًا معظمًا؛ ليداوي جرحه ، وكان دخلها
القيصر إسكندر الثاني وفي اليوم التالي من وصول عثمان باشا إليهم قابل القيصر
فوقف له وسلم عليه وجامله بالقول والفعل ، ومما تناقله الركبان قول القيصر له:
(لا يحزنك أيها الباشا أنك اضطررت للتسليم فإنك لم تسلم جبنًا ولا تقصيرًا ، بل
دافعت عن وطنك أشد الدفاع وانتهيت في الشجاعة والثبات إلى الغاية التي لا
وراءها ، وإنني لا أنظر إليك كما أنظر إلى الأسير ، وإنما أنظر إلى بسالتك بعين
الاحترام والتوقير ، وأراني ذا حظ بالتقائي بشجاع مثلك في حومة الوغى ، وها أنا
ذا أعيد إليك سيفك ، وأبيح لك أن تتقلده في بلادي إقرارًا بشجاعتك واعترافًا
بجدارتك ، وهذه مركبتي وهؤلاء حرسي تحت أمرك ، فلك الخيار إن شئت ركبت
وإن شئت مكثت) .
وأمر بأن تضرب له خيمة بجانب خيمة الغراندوق نقولا القائد العام لعسكر
الروس ، وكان الغراندوق يزوره كل يوم ويلاطفه ويسليه.
ولما ألقي السلم بين الدولة العلية والروسية في سنة 1296هـ 1878م وأطلق
سراح الأسرى عاد عثمان باشا إلى الأستانة فاستقبل فيها باحتفال عظيم ، ومن
المستقبلين له عدد كثير انتهوا إلى مدخل البحر الأسود ، ولما بلغها سار توًّا إلى
المابين الهمايوني حيث حظي بمقابلة مولانا السلطان ، ولقي منه أجمل الالتفات ،
وتناول طعام العشاء في ذلك اليوم على المائدة السلطانية ، وحضر العشاء معه
بالأمر السلطاني وكلاء الدولة وأكابر وزرائها ، وكان مولانا أعزه الله يخصه
بالملاطفة على المائدة ، وأنعم عليه في ذلك المجلس بالوسام العثماني المرصع ،
وقلده سيفًا محلًى بالذهب من آثار السلطان محمود خان عليه الرحمة، منقوش عليه
هذه الكلمة (للغازي) .
ثم عين مشيرًا للحرس السلطاني ، ثم مشيرًا للمابين وفي 22 شهر أيلول أو
تشرين أول من سنة 1894 مالية عهد إليه بوزارة الحربية (سر عسكر) فبقي فيها
إلى 18 أيلول (سبتمبر) سنة 1302 مالية ، ففصل منها وبقي مشيرًا للمابين ، ثم
أعيد إليها في 9 أغسطس سنة 1307 عقيب وفاة السر عسكر علي صائب باشا ثم
انفصل بعد مدة ، وبقي مشيرًا للمابين إلى آخر أيام حياته فكانت مدة خدمته في هذا
المنصب 22 عامًا كان فيها من مولاه محل الثقة الأول ، وعليه المعتمد والمعول ،
وقلده في أثنائها أعلى وسامات الدولة- وسام الافتخار ووسام الامتياز والعثماني
والمجيدى المرصعات ، وأنواع المداليا من ذهبية وفضية ولياقة وكريد ، وحاز
وسامات الدول الأجنبية كلها من الدرجة الأولى ومنها أعظم وسام عند حضرة البابا.
وقد نال شرف المصاهرة السلطانية فإن نور الدين باشا أكبر أولاده تزوج
بدولة زكية سلطان ، ونجله الثاني كمال الدين باشا تزوج بدولة نعيمة سلطان وهما
كريمتا مولانا أمير المؤمنين.
ولصاحب الترجمة عليه الرحمة ولدان آخران أحدهما جمال بك أفندي وهو
اليوم في برلين يشتغل بالتحصيل ، ورتبته بكباشي في الجيش العثماني ، وملازم
في عسكر بروسيا وسنه 22 سنة ، وثانيهما حسيب بك من حُجاب الحضرة
السلطانية أحسن الله عزاءهم جميعًا ، وجعلهم خير خلف لخير سلف.
فعلم من مجموع ما تقدم أن هذا القائد العظيم قد ارتقى إلى الأوج الذي كان فيه
بجده واجتهاده ، ولو أنه أعطي الرتب والوسامات من أول النشأة قبل أن يظهر منه
عمل من الأعمال لما نال ما نال ، وأن مبدأ شهرته كان من ظهور بسالته في
حصار بلافنا ، وقد جاء في الهلال أن كل أمة حاولت أن تدعي في إثر تلك الواقعة
أنه منها ، فقال الأميركان: إنه أميركانى الأصل ، وقال الفرنساويون: إنه
فرنساوي ، وقال غيرهم مثل قولهم ، والحق أنه تركي صريح كما مر ، وهكذا شأن
الناس تدهشهم الوقائع الغريبة ولذلك لم تشتهر بينهم الوقائع التي أظهر القواد فيها
من البراعة في الفن العسكري ما يكاد يكون معجزًا كبعض وقائع دولة الغازي
مختار باشا التي قررت دولة ألمانيا أن تجعلها من الدروس العسكرية الدائمة ، ولا
شك أن عثمان باشا هو ثاني (مختار باشا) في الفنون العسكرية علمًا وعملاً على أنه
كان جديرًا بكل ما ناله ، وإن ذهب بعض الناس إلى أن للمداراة يدًا في ذلك ، تغمده
الله - تعالى - برحمته ، وأسكنه فسيح جنته آمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع المعارف)
إن مدارس طائفة الأرمن الكاثوليك على قلتها لقلة عدد أفراد هذه الطائفة،
حسنة النظام معتنى بإدارتها ، ومما يستحق أن يخص بالذكر منها هنا مدارس طائفة
الملكية التي أصلها في مدينة البندقية ومدينة ويانا ومدرسة البطركخانة ومدرسة
هيماز قياتز ، وللراهبات الأرمنيات مدرسة يتعلم فيها البنات التعليم الابتدائي.
ويلي المدارس اليونانية والأرمنية في الدرجة المدارس الإسرائيلية التي كلها
مؤسسة ومدارة على نفقة بعض سراة اليهود أو جمعية الاتحاد الإسرائيلي العام ،
وفي أوائل سنة 1890 مسيحية كان يوجد من هذه المدارس في جميع بلاد الدولة
العثمانية سبع عشرة للذكور يتعلم فيها منهم 2935 طالبًا وثلاث عشرة للإناث يتعلم
فيها 2309 طالبة وزيادة عن ذلك توجد مدرسة مختلطة للذكور والإناث فيها 161
تلميذًا وتلميذة ، والدروس التي تلقى في هذه المدارس تكاد تكون هي نفس ما يلقى
في المدارس الرشدية للحكومة فهي تشمل: اللغة العبرية ، وتاريخ اليهود ،
والتاريخ الحديث ، والجغرافية ، والحساب ، والقيد في الدفاتر ، والكيميا ، والتاريخ
الطبيعي ، واللغات التركية والعربية واليونانية والتليانية والأسبانية بحسب
مقتضيات الجهات المختلفة المؤسسة بها هذه المدارس.
أما التعليم العالي فلا توجد له مدارس في الطائفة الإسرائيلية ، ولكن يوجد
لهذه الطائفة غير ما تقدم من المدارس عشر مدارس صناعية للذكور وتسع للإناث
تحتوي الأولى على مائتين وأربعين متعلمًا والثانية على مائتين وخمس عشرة
متعلمة.
ولم يضيق كرم الحكومة العثمانية الواسع عن قبولها تأسيس الأوربيين معاهد
للتعليم العام في بلادها سواء في ذلك العاصمة والولايات ، فجميع الطلبات التي تقدم
من الأجانب استئذانًا في فتح مدارس تصادف دائمًا من حكومة جلالة السلطان أحسن
قبول ، وهذا هو السبب فيما يراه الإنسان بجميع أنحاء المملكة العثمانية من
المدارس الفرنساوية والتليانية والإنكليزية والنمساوية والألمانية والأمريكية التي
تنجح وتترقى في الكنف الواقي لجلالة السلطان الذي وجدت فيه الآداب والعلوم
والصنائع أقدر كفل ، ففي القسطنطينية وحدها واحد وعشرون معهدًا من معاهد
التربية والتعيم بين مدارس وملاجئ أيتام وكليات يديرها اللازاريون وإخوة
المدارس المسيحية وأخوات الإحسان ، وغيرهم من الطوائف الدينية الكاثوليكية
وعدد المتعلمين في هذه المحال يزيد عن 2500 تلميذ بين ذكور وإناث ، وفوق ذلك
يوجد خمس مدارس بروتستانتية يديرها المبعوثون الدينيون من الإنجليز
الأموريكيين ، ومدرسة يونانية كاثوليكية ، وست مدارس للقسيسين العالميين تعلم
فيها العلوم الابتدائية والثانوية والعالية.
وقد أسس أحد أغنياء الأميركيين المدرسة الشهيرة بكلية روبرت التي امتازت
بحسن تعليمها العالي ، وللمبعوثين الأمريكيين فوق ما تقدم مدرسة اشتهرت جدًّا
بتربية البنات.
ويوجد في بيروت مدرسة طبية حرة فائدتها لا تقدر بالنسبة للبلاد التي يُتكلم
فيها باللغة العربية.
ويوجد أيضًا في أدرنة وسالونيك وجنينا وأزمير وطرابزون وعنتاب
والموصل وغيرها مدارس أجنبية تساعد المدارس العثمانية في ترقية التعليم العام.
يخصص جلالة السلطان في كل سنة مبالغ طائلة ينفقها من جيبه الخاص
لنشر التعليم العام ، وليست جلالته تقتصر على منح النقود اللازمة لإنشاء مكاتب
الصبيان والمدارس الابتدائية للذكور والإناث في الجهات التي تعوزها النقود بل إنها
على الدوام تساعد المدارس إما بالنفقات المالية التي تجود بها عليها بسخاء لا يعهد
إلا في أعاظم الملوك ، أو بالهدايا المختلفة الأنواع والجوائز المعدة للتلامذة حثًّا لهم
على الجد ، وتحريكًا لغيرتهم في تحصيل العلم ، وجميع هذه المساعدات المالية
وغيرها يوزعها جلالة السلطان على جميع رعاياه بدون نظر إلى اختلافهم في الدين
فجميع الرعايا كما قلنا متساوون لأنهم أبناء وطن واحد ، ولذلك ترى أن جلالته لما
تخرج في كل سنة إلى إستانبول في احتفال الخرقة الشريفة تحييها التلامذة
والمعلمون غير المسلمين تحية حماسية ، وهم مصطفون في شوارع المدينة التي
يمر بها الركب السلطاني. وهذه التحية هي: (بادشاه مزجوق يشا) لتعش جلالة
سلطاننا كثيرًا ، وليست هي إلا عنوانًا صغيرًا لما تكنه صدور الأمة لحاكمها من
الشكر الكثير والولاء المتين.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدنيا والآخرة
(2)
بينَّا في المقالة الأول أن الإنسان مادي روحاني ، وأن عوارض المادة تغلب
عليه أولاً فتكون عنايته مصروفة لتحصيل اللذات الجسدية والمنافع المادية التي
تجعله سعيدًا في حياته الدنيا ، ثم يظهر فيه الميل إلى اللذات الروحية والمعارف
العقلية فتكون فيه ضعيفة تحتاج إلى تقويتها بالإرشاد السماوي وهو الدين.
ونقول الآن: إن العمل لتحصيل المنافع المادية له طرف نقص وطرف كمال
فالأول أن يعمل الإنسان لنفسه فقط ولا يبالي في سبيل لذته بسائر الناس أضرهم
عمله أم نفعهم ، والثاني أن يعمل لنفسه ولغيره ، ولهذا الكمال درجات أدناه أن
يعمل لمنفعة أهله وعشيرته ، وأوسطها أن يعمل لمنفعة وطنه وأمته ، وأعلاها أن
يكون مرمى طرفه منفعة أبناء جنسه والناس أجمعين ، والمنافع الروحية العقلية
تنقسم أيضًا إلى هذه الأقسام والدرجات.
ما خلق الله الإنسان ليعنته ، وما كلفه بأن يقلب طبيعته ، خلق آدم وخلق
زوجه له ليسكن إليها ، وأمرهما بأن يتمتعا باللذات الجسدية ، ونهاهما عن الأكل
من شجرة واحدة؛ ليتعلما بذلك كف النفس عن الشهوات ، فإن من لا يستطيع كف
نفسه عن شيء مما يشتهيه تورده موارد الهلكة وتقذف به في هاوية الشقاء.
قص الله علينا قصة أبينا آدم لنسترشد بها ، ثم قال مخاطبًا لنا ممتنًّا علينا
بالمنافع الدنيوية: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ
التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: 26) فالأول ما
لا بد منه ، والثاني للزينة ، والثالث للتوقي من الحرب ، فاستوفى أقسام اللباس كلها
ثم حذرنا من الفتنة التي نزعت عن أبوينا لباسهما وأظهرت سوآتهما ، وأخبرنا
أنه أمر بالقسط والاعتدال في الأمور كلها ، ثم أمرنا بالعبادة الروحية ، فقال: {قُلْ
أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الأعراف: 29) الآية ، ثم بين أن الزينة لا تنافي العبادة بل تجامعها وتلازمها ،
وأن العبادة لا تؤدي إلى ترك اللذات الحسية المعتدلة ، بل تستعقبها وتنتهي إليها
فتكون ثمرة للدين في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31-
32) ولولا أنه قال: خالصة يوم القيامة؛ لفهم أن غير المؤمن لا حظ له في لذات
الدنيا ، وقد كررنا التنبيه على هذا في المنار ليعقله الذين سجلوا على المسلمين
الحرمان من الطيبات لأنهم مؤمنون مسلمون ، ولما كان الإفراط في اللذة والإسراف
في الزينة يؤديان إلى الفواحش والمآثم والبغي والتعدي أخبرنا أنه لا ينهانا من حيث
الدنيا إلا عن هذه الأشياء ، كما أنه لا ينهانا من حيث الدين إلا عن الشرك ، وأن
نقول على الله ما لا نعلم ، ومنه أن نزيد في دين الله تعالى عبادة أو تحريمًا أو
تحليلاً فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) .
هذه الآيات خطاب عام من الله جل ثناؤه لبني آدم أجمعين، فهي أصل الأديان
كلها ، ولذلك عقبها بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي
فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا
عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف: 35-36) ثم فصل
الوعيد والوعد ووصف العقوبة والمثوبة ، وأقام الدليل والبرهان ، واستلفت العقل
واستصرخ الوجدان ، وأنشأ بعد هذا كله يقص على هذه الأمة أخبار الأمم مع
المرسلين وما أخبرنا أن رسولاً منهم كلف قومه بأن يكونوا روحانيين خلصًا
يعرضون عن عمارة الدنيا ، ويجعلون عملهم كله للآخرة ، بل كانوا يمنون عليهم
بالتمكن في الأرض والخلافة والاستعمار فيها وسعة الرزق وكثرة العدد وبسطة
المُلك والعزة والقوة ، وينهونهم عن الشرك والمفاسد التي تزيل هذه النعم ، اقرأ إن
شئت قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ
نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69)
وقوله عنه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52) إلى قوله: {فَإِن تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ
رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (هود: 57) وقوله تعالى في قصة صالح عليه
السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ
أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61)، وقوله تعالى حكاية عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف: 74) وقوله - تعالى - في
قصة موسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) وقوله -
تعالى -: {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ
يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف: 137) .
ومن يقرأ التوراة لا يكاد يرى فيها ذكرًا للآخرة لا ترغيبًا في جنتها ولا
ترهيبًا من نارها ، وإنما يرى تكفير الذنوب فيها بتقديم القرابين من الذبائح
والمحرقات وغيرها فهي عقوبة بتفويت شيء من الدنيا عليهم ، ويرى العبادات
معللة بالشكر على الخلاص من نقمة أو الإتحاف بنعمة ، ففي الباب 23 من سفر
الخروج ما نصه: (14 ثلاث مرات تعيِّد لي في السنة 15 تحفظ عيد الفطير تأكل
فطيرًا سبعة أيام كما أمرتك في وقت شهر أبيب؛ لأنه فيه خرجت من مصر ولا
يظهروا أمامي فارغين 16 وعيد الحصاد أبكار غلاتك التي تزرع في الحقل ، وعيد
الجمع في نهاية السنة عندما تجمع غلاتك من الحقل 17 ثلاث مرات في السنة
يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب اهـ) هكذا ، وعيد التوراة البلاء في الدنيا
بإذهاب الرزق والسلطة والإجلاء من الأرض ، ووعدها التمكن في الأرض وسعة
الرزق فيها ، قال في الباب الرابع من سفر التثنية: (40 واحفظ فرائضه التي أنا
أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك من بعدك) .
وقال - تعالى - حاكيًا عن الأمم بالإجمال بعد ما قص أخبارهم مع المرسلين:
] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى [1] آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [2 {
وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96) .
يدلنا كل هذا على صحة ما جاء به الإسلام من أن الله - تعالى - جعل الدين
لمصلحة الناس لا لإعناتهم والخروج بهم عن طبيعة بشريتهم، وعلى تحقيق ما
ذهب إليه أستاذنا في (رسالة التوحيد) من أن سنة الله في الإنسان منفردًا
كسنته فيه مجتمعًا ، طفولية فتمييز تدريجي فرشد وعقل وقد أعطاه الله تعالى في كل
طور ما يليق بحاله من تعاليم الدين ، ولما استعد النوع الإنساني لفهم حقيقة الإنسان
وللقيام بما تطالبه به الإنسانية من حيث جسديته وروحانيته معًا أرسل الله في إثر
أولئك المرسلين السيد المسيح عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى مقابل ما هم فيه
أو نقيضه ، يدعوهم لأن يتركوا الدنيا بالمرة ويكونوا روحانيين خلصًا؛ لتكون دعوته
تمهيدًا للدعوة المعتدلة الممكنة التي تكون من بعده ، وهذه هي الطريقة المثلى في
الإرشاد: يُدعى الواقف عند أحد طرفي الإفراط أو التفريط إلى الطرف الآخر
ليكون مبلغ جهده في الإجابة الوصول إلى الوسط.
جاء في الباب 19 من إنجيل متى ما نصه: (23 فقال يسوع لتلاميذه:
الحق أقول لكم: إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات 24 وأقول لكم أيضًا:
إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله 25 فلما
سمع تلاميذه بهتوا جدًّا قائلين: إذن من يستطيع أن يخلص 26 فنظر إليهم يسوع
وقال لهم: هذا عند الناس غير مستطاع ، ولكن عند الله كل شيء مستطاع)
وهذه المسألة مذكورة في غير إنجيل متى أيضًا ، وفي معناها كلمات أخرى في
الأناحيل ، أنذر الأغنياء بسوء العاقبة وأمر بالخضوع لكل سلطة ومغفرة كل ذنب
لكل أحد ومحبة الأعداء ، وذكر أن اللذات الجسدية لا تكون لأهل الحق إلا في
الملكوت حيث تكون اللذات الروحية، كقوله: (طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم
تشبعون) وقوله: (الحق أقول لكم: إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك
اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت الله) اهـ مرقس وغيره.
وفي الباب الخامس من أعمال الرسل أنهم كانوا يكلفون المؤمن أن يبيع كل ما
ملكه ويأتي بجميع ثمنه للرسل ، وقد أمسك رجل اسمه حنانيا بعض ثمن حقل له
وأعطى الباقي للرسل فوبخه بطرس وسماه مختلسًا ، فمات حنانيا من كلامه.
بهذا وبما تقدمه استعد النوع الإنساني لفهم الحقيقة الإنسانية ، والقيام بحقيها
الروحي والجسدي على صراط مستقيم فمنحه الله دين الإسلام فهي تبيان لكل شيء،
وجعله آخر الأديان ، فجاء بالحق وصدق المرسلين ، وجمع بين أنواع هداهم
وإرشادهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:
90) وقد خاطب القرآن أهل هذا الدين بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) ولم يختلف أحد من أئمة
هذا الدين في أن غايته سعادة الدنيا كما في هذه الآية ، وسعادة الآخرة كما في
الآيات الكثيرة ، وأن الإعراض عنه مجلبة للشقاء في الدارين قال عز وجل:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) فضيق المعيشة في الدنيا من آثار الإعراض عن كتاب الله ودينه
وهو دليل على الشقاء في الآخرة بالنسبة لمجموع الأمة أيضًا.
فعلم مما شرحناه أن القرآن ما أخبرنا بأنه يستخلفنا بديننا في جميع أقطار
الأرض نتصرف فيها كما تتصرف الملوك (قاله البيضاوي في تفسير الآية) وأنه
سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه ، وما أمرنا بأن نطلب منه
حسنة الدنيا والآخرة - إلا وقد جعل ثمرة دينه كلا الامرين ، وما جاء في القرآن من
ذم الدنيا فهو لتأديب المسرفين وكبح جماح المفرطين ، ولكن من المسلمين من
انصرف إلى الغلو في التزهيد عملاً بنصف الدين الروحي ، ومنهم من انصرف إلى
النصف الآخر وسنبين غلط الفريقين {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ
الحِسَابِ} (البقرة: 201-202) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المراد بأهل القرى الأمم الذين بُعث فيهم الأنبياء، والقرى: المدن ، ولم يبعث الأنبياء في أهل البادية لأنهم أبعد عن مبادئ الاجتماع المعبر عنه بالمدنية، والأديان إنما تدعو للاجتماع ، وأهل المدن أقرب إليه لما عندهم من مبادئه.
(2)
أي لوسعنا عليهم الخير ويسَّرناه من كل جانب، وقيل المراد المطر والنبات اهـ بيضاوي.
الكاتب: محمد رشيد رضا
فرنسا والإسلام
عجبًا للدم الذي تحرك لكلام المسيو هانوتو كيف لم يتبيغ لكلام القومندان
نابليون ني ، وعجبًا للقلوب التي جرحها ذلك كيف لم يذبحها هذا ، بل عجبًا للنفوس
التي اضطربت للأول كيف لم يزلزل الثاني وجودها زلزالاً؟ إلا إن قومنا لا يزلون
أغرارًا يغترون بالظواهر وينخدعون للمظاهر ، ويخلبون بالأوهام ويعيشون
بالأحلام ، يصيحون من السب ويسكتون على الضرب ، ويتململون من الكلام ولا
يتألمون من الكِلام (بالكسر: الجراح) حاشا نفرًا من أهل الفهوم المشرفين على
حقائق العلوم ، والاستثناء- كما قالوا- معيار العموم.
صاح الصائحون وناح النائحون وكتب الكاتبون وخطب الخاطبون ، وما ذلك
إلا لما رواه هانوتو عن الغالين في التعصب الديني من قومه من وجوب نسف الكعبة ،
ونقل قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى متحف اللوفر في باريس لتنحلَّ رابطة جامعة
الإسلام ويقع أهله في اليأس التام ، ونحو هذا الهذيان الذي يقوله طفل فلا يلتفت له
سائر الصبيان اللهم إلا ما كتبه ذلك الإمام من روائع الحِكم وحقائق الأحكام.
كتب (نابليون ني) في الإسلام والمسلمين ما كتب فعلم المسلمين من هم ، وما
هو الإسلام لو كانوا ممن يعلم أو يتعلم ، وأنى لمن يجهل تاريخ الإٍسلام أن يعرف
تأثيره في الأنام؟ وكيف يهرب من هذا الجهل من يقول علماؤهم: إن هذا العلم
يضعف العقل؟ يبحث نابليون ني عن مكان تتوجه إليه وجوه المسلمين وتتولاه
قلوبهم ، وترمي إليه أبصارهم وتمتد نحوه أعناقهم ليجعلوه قبلة آمالهم ، وكعبة
لإقبالهم ، ومعهدًا لاجتماعهم ، ومعقدًا لارتباطهم- لآمالهم بفرنسا وإقبالهم عليها ،
واجتماعهم في دائرتها وارتباطهم بحبل سيادتها.
علم (نابليون ني) أنه لا يوجد في الدنيا بلد من البلاد تتعلق به قلوبهم وتتوجه
إليه نفوسهم إلا مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأنى لفرنسا أن تقبض على زمام
السلطة الإسلامية فيهما؟ ذلك ما لا مطمع فيه ، وقد أشار الكاتب بأن تُجعل باريس
بديلاً من مكة ، وأن تلفت إليها أنظار العالم الإسلامي بتأليف جمعية فيها من كبار
علماء الإسلام من جميع الأقطار ، وأن يكون للجمعية جريدة إسلامية باللغات
المشهورة بينهم ، فهو يرى أن هذه الجمعية التي يقاد أفرادها إلى أوربا بسلاسل
الذهب والفضة كافية لتحويل قلوب الأمة الإسلامية إلى فرنسا، وصرح بأن اجتماع
المسلمين على دولة أجنبية أقرب من اجتماع بعضهم على بعض لما بينهم من تفرق
المذاهب وتعدد المشارب.
فهل يفقه المسلمون بعد سماع هذا الكلام معنى الجامعة الإسلامية وكيف تكون
وبماذا تكون؟ هل يفطنون للسر الغريب في فريضة الحج ، ويتنبهون إلى أنه لم
يوجد دين من الأديان ، ولا حكيم من الحكماء قدر أن يضع وضعًا يجذب به أرواح
الشعوب من جميع أقطار الأرض إلى مكان واحد، فتطير بأجسامهم إليه لتقوية
الجامعة الملية بينهم ، وهو ما وضعه دين الإسلام دين المدنية الكبرى والاجتماع ،
هل يتدبرون سوء مغبة اختلاف المذاهب في الملة التي يتبرأ كتابها ونبيها من
المتفرقين في الدين ويسعون في شعب الصدع ورتق الفتق؟ هل يتفكرون بعده في
معنى اجتماع العلماء وما له من النفع العميم؟ وما في اختلافهم من البلاء العظيم؟
هل يعقلون بعده فوائد الجرائد الدينية الإسلامية وآثارها.
قد بيَّنا كل هذا ودعونا إليه في مقالات الإصلاح الإسلامي التي نشرناها في
المجلد الأول من المنار- دعونا إلى تأليف جمعية إسلامية يكون لها شُعب في كل
قطر إسلامي وتكون عظمى شعبها في مكة المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع
أقطار الأرض ويتآخون في مواقفها ومعاهدها المقدسة ويكون أهم اجتماعات هذه
الشعبة في موسم الحج الشريف حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشُّعب التي في
سائر الأقطار يأتون الحج فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام ما يستقر عليه الرأي
من التعاليم السرية والجهرية، وقلنا هناك: وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية
الكبرى في مكة المكرمة على وجودها في دار الخلافة.
وثَم مرجحات أخرى من أهمها البعد عن دسائس الأجانب ووساوسهم والأمن
من وقوفهم على ما ينبغي عدم وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله، ومنها أن
لشرف المكان ولحالة قاصده الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص والتنزه عن الهوى
والغرض فضلاً عن الغش والخيانة.
وينبغي أن يكون للجمعية الكبرى جريدة دينية علمية تطبع في مكة أيضًا وأية
شعبة استطاعت إنشاء جريدة تنشئها.
وارتأينا أن يكون من أعضاء الجمعية العاملين العلماء والخطباء ليتسنى
للجمعية إفاضة تعالميها على قلوب جميع المسلمين ، وبينا أعمال الجمعية ونتائجها،
ومنها الجمع والتأليف بين أهل المذاهب لا سيما الفرقتين العظيمتين أهل السنة
والشيعة.
بماذا قابل المسلمون هذا الاقتراح؟ السواد الأعظم لا إحساس لهم ولا شعور،
وأما المتصدرون للكتابة وإرشاد المسلمين في الجرائد فقد مسخوه مسخًا واستدبروا
به المقصد، فأنشأوا يكتبون مقالات يحثون فيها على عقد (مؤتمر إسلامي)
في القسطنطينية، ولا ينتظر من التائه في مفاوز الخيال إلا طلب الفوز من المحال
ولقد كان من حجتنا على هؤلاء أننا نعترف لهم بإصابة رأيهم إذا وجدت جريدة من
جرائد الأستانة العلية توافقهم في الدعوة إليه فإن تلك الجرائد يشبه أن تكون كلها
رسمية؛ لأنها لا تكتب الا ما يمليه عليها أولو الأمر
…
ثم علمنا أنه يوجد من يسعى
بما اقترحناه عملاً لا قولاًً- وما كان غرضنا من القول إلا تنبيه الأفكار إليه- ولكن
المسلمين أمسوا أعداء أنفسهم يبلغون من نكايتها ما لا يبلغه الأجانب منهم ، أو كما
قلت في مكتوب أرسلته منذ سنين لأحد عظماء المسلمين: (إن الممالك الإسلامية
أمست كالمريض الأحمق يأبى الدواء ويعافه من حيث أنه دواء) ولولا رجال
فضلاء منبثون في بعض الأنحاء لانقطع بنا - والعياذ بالله - حبل الرجاء.
قال هذا الضابط: إن الوحدة الاسلامية النظرية (كذا) قد تمزقت بالفتوحات
المتوالية ، وانشقت إلى أقسام دينية لا حدود لها، ولا نظام لحكوماتها ، وقال قبل
هذا: إن الإسلام أصابه الشلل من سوء إدارة مديريه ومديري شئونه ، وكرر القول
بأن دوام فتوحات أوربا المسيحية قد آلمت المسلمين فطفق يتقرب بعضهم من بعض
وأحسوا بالحاجة إلى الاجتماع ، وحث أمته أن تكون الجامعة الإسلامية على يديها
وبيديها.
وعنده أنه لا يمكن أن توجد بنفسها، وأنها إذا وجدت فإنها تنحل بعد ثلاثة
أشهر من وجودها ، ثم صرح بأنه لا ينقص الحركة نحو الجامعة الإسلامية إلا
شيء واحد إذا وجد تكون به قوة الإسلام وغلبته؛ ألا وهو اختيار مكان غير تابع
لدولة من الدول كي يتم به الائتمار بين الفرق الاسلامية المختلفة، فإن عدم وجود هذا
المكان هو السبب في عدم استقرار الفرق الدينية الإسلامية في مكان ثابت، فلكل
منها آثار تتفاوت في الشدة أو الضعف، في بغداد ومصر والأستانة وفارس والهند
وأفريقية ، قال: ولو اهتدى رؤساء تلك الفرق إلى وجود بقعة على سطح الأرض
تكون للإسلام بمثابة رومية أو الفاتيكان للمسيحيين فلا ينقضي زمن يسير حتى
ينعقد فيها مجتمع إسلامي يخضع لإرادته العالم الإسلامي بأسره ، وعقب هذا
بالتنبيه على عموم دعوة الإسلام، يشير إلى أن هذا المجتمع لابد أن يصل مده إلى
أطراف العالم الإنساني.
ونقول نحن: أين رومية والفاتيكان من مكة؟ رومية لا يحج إليها النصارى ،
ولا يؤمن لحبرها الأعظم جميع فرقهم، ولا يوجد مسلم يؤمن بنبوة محمد صلى الله
عليه وسلم إلا ويستقبل في صلاته مكة ويحج إليها عند الاستطاعة، لا فرق بين
سني وشيعي ووهابى وخارجي
…
ولكن أمراء المسلمين وسلاطينهم هم الذين جنوا
على الإسلام وأهله ما لم يجنه الأعداء ، فجعلوا البلاد المقدسة دون سائر البلاد
فأخذهم الله بذنوبهم ، وفرق كلمتهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
ذكر هذا الضابط الباسل بل الضابط العاقل أن من الأمور السياسية التي
يجهلها الأوربيون كون الحكومة الشرعية في الإسلام مبنية على قواعد الدين
والمبادئ الديموقراطية ، وأن أعظم مصيبة ألمت بالمسلمين هي اتخاذهم
الديموقراطية أساسًا لحكومتهم ، وعدم حرصهم على البناء الذي شادوه فوقها ، ثم
ذكر أن هذا الأساس هو الذي يبنى عليه هيكل الوفاق بين فرنسا التي حكومتها
ديموقراطية لا علاقة لها بالدين ، وبين الإسلام الذي تسوسه الديموقراطية الدينية.
لقد صدق الرجل فيما حكاه عن أساس الحكومة الإسلامية ويتذكر قراء المنار
أننا ذكرنا غير مرة أن الإسلام هو الذي وضع أصول الحكومة الديموقراطية
المعتدلة ، ولكن العالم الإنسانى لم يكن استعد لها كمال الاستعداد ، ولذلك لم يتعد
العمل بها زمن الراشدين حتى جعلت السلطة المطلقة للأفراد، ومُني الزعماء
بالاستبداد، فكان ما كان من الفساد والإفساد ، وأما اعتماد المسلمين على فرنسا في
تكوين جامعتهم على الوجه الذي ارتآه فهو المرام الذي لا يدرك واللبانة التي لا
تقضى ، وكأني به وقد نسي أساس الديموقراطية الذي عمل الخلفاء والملوك
والمسلمون في نقضه من القرن الأول إلى الآن فما استطاعوا له نقضًا، وبقي
المسلمون على ضعف الدين فيهم لا ينقادون ظاهرًا وباطنًا إلا لشريعتهم السماوية ،
وخضوعهم الظاهر للحكام القانونيين منهم ومن غيرهم لا يطابق باطنهم ، ولولا
العجز ما خضعوا ورضخوا، وهذا العجز لا يدوم لأن طبيعة العمران قاضية بأنه
سيزول قريبًا بزوال سببه ، وهو الجهل العام بالشئون الاجتماعية الذي تقطعت بمداه
روابطهم الملية ، وقد علم الكاتب هذا ونبه عليه غير مرة.
هذه الجامعة لا تستطيع دولة أوربية تكوينها إلا إذا دخلت في دين الإسلام ،
وقد كتبنا في المنار من قبل أن الدولة الأوربية التي تدخل في الإسلام يمكنها أن
تضم إليها العالم الإسلامي كله ، وأن تمتلك به الدنيا بأسرها.
نعم يمكن لفرنسا أن تعيش مع المسلمين بسلام ، وأن توسع دائرة استعمارها
لبلادهم إذا هي عاملتهم بالحسنى ، ولم تمس استقلالهم الديني بوجه ما ، ويمكن
أيضًا للمسلمين أن يستفيدوا من انصراف عناية دولة كفرنسا إلى الاستفادة من قوة
الإسلام.
ولكن من الذي يستفيد؟ وماذا يستفيد؟ وكيف يستفيد؟ أترك الكلام في هذا
لأجل أن تشتغل به الأفكار ، وربما نعود إليه في فرصة أخرى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية وأدبية
(سؤال وجواب عن آيتين من الكتاب)
رفع سؤال إلى مولانا حجة الإسلام وقدوة الأنام الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية يطلب صاحبه فيه بيان الجمع بين قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: 78) ، وقوله -
تعالى - عقيبها: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ
وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء: 79) فإن بينهما في بادي
الرأي تنافيًا يتنزه عنه كلام الله تعالى ، فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله:
(كان بعض القوم بطِرًا جاهلاً إذا أصابه خير ونعمة يقول: إن الله تعالى قد
أكرمه بما أعطاه من ذلك ، وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه
به لعلو منزلته لديه ، وإذا وصل إليه شر وهو المراد من السيئة يزعم أن منبع هذا
الشر هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات
والشرور ، فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة
يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما؛
فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله تعالى على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي
يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي فيه ، وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه
مصدرها الأول ومنبعها الحقيقى كذلك، وأن شؤمه هو الذي رماهم بها.
وهذا هو معنى (من عند الله) أو (من عندك) أي: من لدنه ومن
خزائن عطائه ، ومن لدنك ومن رزاياك التي ترمي بها الناس.
فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)
أي إن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم
إنما هو الله وحده ، وليس ليُمن ولا لشؤم مدخل في ذلك.
هذا فيما يتعلق بمن بيده الخير والشر والنعم والنقم، وأما ما يتعلق بسنة الله
في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك، فالأمر على خلاف
ما يزعمون كذلك ، فإن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في
توفير أسباب سعادتنا ، والبعد عن مساقط الشقاء ، فإذا نحن استعملنا تلك المواهب
فيما وهبت لأجله ، وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير وذلك
إنما يكون بجودة الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه ، وفهم شرائع الله حق الفهم
والتزام ما حدده فيها؛ فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة ، ويجنبنا الشقاء
والتعاسة ، وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله تعالى ،
فما أصابك من حسنة فمن الله؛ لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها
الحسنات ، بل واستعمالك لتك القوى إنما هو من الله.
وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا ، وفرطنا في النظر في شئوننا ، وأهملنا
العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه ، وغفلنا عن فهمه فاتبعنا الهوى
في أفعالنا ، وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا ، كان ما أصابنا من ذلك صادرًا عن سوء
اختيارنا ، وإن كان الله تعالى هو الذي يسوقه إلينا جزاءً على ما فرطنا ، ولا يجوز
لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه.
وحاصل الكلام في المقامين أنه إذا نظرنا إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع
ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ولا يجوز أن يقال: إن سواه يقدر
على ذلك ، ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلامًا ، لأن نسبة الخير إلى الله
ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل ، فإن الذي
يأتي بالخير ويقدر عليه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه ، فالتفريق ضرب من
الخبل في العقل.
وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا
سعداء ، ولا يكونوا أشقياء فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من
فضل الله لأنه أحسن استعمال الآلات التي منَّ الله عليه بها فعليه أن يحمد الله
ويشكره على ما آتاه ، ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا
نفسه ، فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب ، وليس بسائغ له
أن ينسب شيئًا من ذلك للنبي ولا لغيره فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ،
ولم يقهره على إتيان ما كان سببًا في الانتقام منه.
فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك (يا محمد) على ما ينالون من
خير فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله
وفي التزامها سعادتهم ، ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على
أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله فعند ذلك يعلمون أن الله قد
انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته ، لأن
الكل من عنده ، وإنما ينعم على من أحسن الاختيار ، ويسلب نعمته عمن أساءه.
وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم ، وأن عصيانه من
مجالب النقم ، وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه وصرف ما وهب من الوسائل فيما
وهب لأجله.
ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب، فإنك لو كنت فقيرًا أعطاك
والدك مثلاً رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد
في الإنفاق ، وصرت بذلك غنيًّا فإنه يحق لك أن تقول: إن غناك إنما كان من ذلك
الذي أعطاك رأس المال وأعدك به للغنى.
أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه واطلع على ذلك
منك فاسترد ما بقي منه ، وحرمك نعمة التمتع به؛ فلا ريب أن يقال: إن سبب
ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد
وهو والدك ، غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد ،
وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يجب لأن تحويل الوسائل عن
الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها
وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه.
وهناك للآية معنى أدق يشعر به ذو وجدان أرق مما يجده الغافلون من سائر
الخلق ، وهو أن ما وجدتَ من فرح ومسرة وما تمتعتَ به من لذة حسية أو عقلية
فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك وما خلقت إلا لتكون سعيدًا بما وهبك،
أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك ، ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما
سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار ، وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار
ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك.
ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة ، وأخذته كما هو وعلى ما
هو عليه؛ لكانت المصائب لديك بمنزلة التوابل الحريفة [1] يضيفها طاهيك [2] على
ما يهيئ لك من طعام لتزيده حسن طعم ، وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة ،
واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده ، والتعرض
لنعمه ، والتحول عن مصاب نقمه فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة
التأديب ومتاع التعليم والتهذيب، وهو متاع تجتني فائدته ولا تلتزم طريقته ، فكما
يسُر طالب الأدب أن يحتمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه
يسره كذلك أن يرتقي فوق ذلك المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعًا بما حصل
بالغًا ما أمل ، وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي.
***
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الحاضرة ، وأهدانا مؤلفه الكاتب
الفاضل محمد أفندي مسعود نسخة منه فإذا هو فلك مشحون بالفوائد العلمية علوية
وسفلية ، أو سماوية وأرضية وكونية ونفسية ، وفي القسم الجغرافي منه بيان أطوال
وعروض السودان وكلام عن بلاد الترنسفال وأورانج والكاب كما أن في القسم
التاريخي ملخص تاريخ الحرب في السودان وفي الترنسفال ، وفي القسم
الزراعي فوائد لا يستغني عنها مصري ، وفي القسم الطبي وقسم تدبير المنزل
فوائد لا يكاد يستغني عنها أحد ، وفيه قسم لغوى فسر فيه كثير من الألفاظ الغريبة
بترتيب المعاجم ، وفيه جداول ليضبط حامل التقويم في البياض منها أمورًا ينبغي
ضبطها كالكتب التي باعها واشتراها وأعارها واستعارها وكالأسماء والعناوين التي
يهمه حفظها ، وكالديون التي له وعليه ، وكالمشاهدات الغريبة التي تعرض له ،
وكأيام المرض والعلاج وما يتعلق بذلك لمن يعنيه ضبط ذلك لهم ، وكالكسب الذي
يدخل عليه من السندات والأسهم ، وكتاريخ أهل المنزل في عامة أطوارهم كالولادة
ودخول المدرسة والحج وغير ذلك ، وليت المؤلف جعل هذه الجداول في باب واحد
ليسهل الكشف عليها ومراجعتها.
وفيه تعريف بأحوال التلغراف والبريد وسكك الحديد وأجور السفر فيها
ومواقيته ، فينبغي أن لا يخلو جيب قارئ من هذا التقويم فإنه خير رفيق في السفر ،
وألطف صديق في الإقامة.
***
(جمعية النهضة الأدبية)
يسرنا أن هذه الجمعية التي أنشأها عمال المطابع قد نجحت ، وما كان أجدر
أرباب المطابع والصحافة بمثلها ، وقد احتفلت في أول ليلة من السنة الهجرية
احتفالاً عامًّا حضره الجم الغفير من الفضلاء والخطباء ، وألقيت فيه الخطب
المفيدة ، ووفقت الجمعية لإنشاء نشرة أدبية تاريخية صناعية فكاهية تصدر في
الشهر مرتين وسمتها باسم الجمعية (النهضة الأدبية) وصدر العدد الأول منها
في أول السنة فنرجو للجمعية وجريدتها التوفيق والنجاح.
***
(الصبا)
جريدة سياسية علمية أدبية فكاهية أسبوعية تصدر في الزقازيق مديرها الوجيه
المحترم أحمد أفندي عبد الله حسين ، وقيمة الاشتراك فيها 20 قرشًا في
القطر المصري و 30 في خارجه فعسى أن تصادف توفيقًا ونجاحًا.
_________
(1)
هي ما يتبل به الطعام كالفلفل والخردل واحدها تابل.
(2)
الطاهي: الطباخ.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(تنبيه) ضاق هذا الجزء عن نشر نبذة من كتاب أميل القرن التاسع عشر
المفيد ، وقد علمنا من بعض القراء أنهم كانوا لا يقرأون ما ينشر من هذا الكتاب
ظنًّا منهم أنه قصة من القصص الوضعية التي يسمونها روايات ، ثم علموا أنه
كتاب لم يؤلف مثله في التربية العملية ، وإنما جعل أسلوبه هكذا رسائل متبادلة بين
رجل وامرأته في تربية ولدهما هربًا من السآمة التي تعتري أكثر الناس من قراءة
الكتب العلمية ، وقد رغّب إلينا كثيرون من الأفاضل المولعين بقراءته أن نطبعه
على حدته ، وسيكون ذلك إن شاء الله تعالى.
***
ثبت لدى الأطباء مرض أناس وموت البعض منهم بالطاعون في بورسعيد
ولكنه خفيف جدًّا كما كان في الإسكندرية ونسأل الله زواله عن قريب.
***
تحقق أنه سيشرع في تنفيذ إرادة مولانا السلطان الأعظم بمد سلك الأخبار
البرقي بين الشام والحجاز، وأكدت أخبار الأستانة أن الإرادة السَّنية صدرت أيضًا
بإنشاء سكة حديد من الشام إلى البلدين المكرمين مكة والمدينة ، وقد كنا اقترحنا
هذا وبينا فوائده في المجلد الأول من المنار فنسأل الله تحقيق الآمال.
***
(أعجوبتان)
كتب إلينا من القلمون أنه ولد لحمود عبيد من زوجه رابعة بنت مصطفى
الخباز بنت بدنها كبدن البشر إلا أن رأسها بدون وجه وعينيها في مكان الناصية
من رأسها وأذنيها بحذاء عينيها ، وهما كأذني الأرنب ولها أربع شفاه بعضها فوق
بعض يرى أهل القانون أن الحكمة في خلق هذه البنت ممسوخة هي الانتقام من
أبويها ، فإن المرأة كانت متزوجة وعشقت هذا الرجل فنشزت ، وأساءت
معاملة زوجها الأول حتى اضطرته إلى طلاقها ، وتزوجت بالثاني.
أما الأعجوبة الثانية فهي بنت وُلدت لرجل من دده (قرية في لبنان) نصفها
الأعلى كالبشر ونصفها الأسفل كتلة كالبطيخة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
الأرمن وفتنتهم
(تابع لما قبله)
قبل ختم الكلام في وصف ما نالته تركيا من التقدم في عهد السلطان الحالي
رأينا من الواجب علينا أن نقول كلمات في الفتنة الأرمنية التي شهدناها مدة الأشهر
الثلاثة الأخيرة وفي الأرمن الذين يتجنسون بالجنسية الأمريكية في الولايات المتحدة
ويرجعون إلى تركيا وشأنهم مع القانون.
للأتراك مثل مشهور في تبصر الأرمن وهو (لا بد لغش أرمني واحد وخديعته
من اجتماع ستة من اليهود عليه) وهذا يدل على مقدار ما لهؤلاء في نفوس أهل
الشرق من الاعتبار والاحترام؛ لاعتقادهم بصدقهم واستقامتهم ، ولكن للأرمن
أنفسهم شعورًا شديدًا بأن هاتين الصفتين تعوزانهم فإن رجلاً منهم قد نشر من زمن
غير بعيد رسالة في جريدة مشهورة من جرائد نيويورك ينصح فيها لإخوانه في
الدين أن يلتزموا الصدق في أقوالهم فلا يفوهوا بغيره ومن أراد أن يعرف كيف
نجح هذا الأرمني الساذج في مساعيه ووصاياه فليقرأ هذه الحادثة التي ذاع خبرها
في جميع أرجاء الولايات المتحدة وأوربا وها هي نقلاً عن الجرائد.
(إن قصة زوجة جريجو الأرمني زعيم الثاثرين ارتج العالم لبشاعتها وهي
أن هذه المرأة فضلت الموت على عبث مضطهديها الأتراك بعرضها ، فألقت بنفسها
وطفلها على يديها في هاوية عميقة ، وتبعها غيرها من النساء حتى امتلأت الهاوية
بأجسادهن- هذه القصة لم تكد تريع الناس بانتشارها حتى ظهر بطلانها كما أنبأ
بذلك كثير من العارفين بالحقائق فإنه قد تبين أن هذه الحكاية الفظيعة ليست إلا
أسطورة قديمة شعرية نظمتها السيدة هيمانس من سنين مضت وعنونتها بعنوان
(الوالدة سليوت) فنقلت ، وزيد عليها من الحواشي وأنواع التزويق ما يطابق
المقام.
وقد بعث الناس انكشاف هذه الحقيقة لهم على أن يعتقدوا أنه من المحتمل أن
لم يكن من المرجح أن معظم ما يسمى بالفظائع الأرمنية ليس هو إلا من مخترعات
الخيال عند بعض الغلاة في الدين خلقوه ابتغاء للربح أو الانتقام أو ما شاكلهما من
الأغراض السافلة ، وسكن بذلك هياج القلوب على الأتراك سكونًا ظاهرًا في كل
جهة إلا بين مضرمي نار الفتنة من الأرمن المولعين بالمخالفة للجمهور لإقلاق
الخواطر فإن هؤلاء الأشخاص لا يودون أن يعتقدوا أن القصة لا أصل لها سوى
تلك الأنشودة الشعرية وينتظرون تقرير لجنة التحقيق التي قد وصلت إلى بلاد
الأرمن واثقين ثقة تامة بصحتها.
نعم إنه لا ينكر أن بعض القلاقل قد حدث في ساسون وعينت لجنة لتحقيقها
لما لجلالة السلطان من العزيمة الصادقة في معاملة كل رعاياه بالعدل والإنصاف
ومعاقبة جميع من له يد في ارتكاب الجرائم ، ولكن من المهم على ما نرى أن
نعرف أولاً حقيقة ما حصل في بلاد الأرمن وثانيًا من هم المعتدون الحقيقيون.
ويمكننا إجمال الوقائع في كلمات مختصرة نتقلها عن جريدة نيويورك هرالد
(داعي نيويورك) وهي:
ظهر محركو الفتنة في جبال تالوري الوعرة الواقعة بين ساسون في الجنوب
الشرقي لموش (من ولاية بتليس) ومركز قول من متصرفية جوينج ، وجمعوا
قواهم بإغراء من يدعى همبارتزن الذي انتحل لنفسه اسم مراد ، وبادر بإلقاء بذور
الفتنة في تلك الجهات.
وهمبارتزن هذا أصله من قرية تدعى هجين (من ولاية أطنة) وبعد أن
قضى ثماني سنوات في دراسة الطب بالمدرسة الطبية الملكية بالقسطنطينية ،
واشترك في قلاقل (قوم قبو) هرب إلى جنوه ، ثم ذهب بعد ذلك متنكرًا مغيرًا
اسمه من ديار بكر إلى ضواحي بتليس على طريق إسكندرونة وأنشأ من حين إلى
آخر ينفث في نفوس الأهلين سموم الثورة هو وخمسة نفر آخرين.
كان هذا الرجل يؤكد لبسطاء العقول من أمته أنه مأمور أجنبي تشد أزره
الدول الأورباوية في إنفاذ مقاصده لتقويض سلطة الأتراك فنجح بذلك في جذب
قلوب الأرمن القاطنين قرى (سينار ، وسيماي ، وجوللي جوزات ، وآهي ، هيدنك،
وسنانك ، وشيكاند ، وإليفارد ، وموسون ، وإيتيك ، وإديجسار) إليه واستمالتهم إلى
مساعدته في الوصول إلى مآربه الأثيمة كما أفلح في استمالة أرمن
إقليم تالاري المشتمل على أربعة مراكز.
ثم اجتمع أولئك الثائرون تحت إمرة همباتزون مغادرين قراهم في النصف
الأخير من شهر يولية الماضي بعد أن وضعوا نساءهم وأطفالهم وأمتعتهم في أماكن
معينة ، وبعد أن انضم إليهم أيضًا قوم آخرون مسلحون من العصاة أرسل بعضهم
من قبل والي موش ، والبعض الآخر من قضائي قول وسلوان ، فبلغ عدد
المحتشدين أكثر من ثلاثة آلاف ، وكان اجتماعهم في مكان يدعى أندوك داغ فعزم
خمسمائة أو ستمائة منهم على الإغارة على موش ، وابتدأوا بالهجوم على قبيلة
دليقان فوق جبل قورلنك في جنوب موش ، وقتلوا قليلاً منهم وسلبوا أمتعتهم ،
وجميع من وقعوا في أيديهم من المسلمين أهينوا في دينهم ، وقُتلوا أشنع قِتْلة ، وقد
هجم العصاة أيضًا على عساكر الحكومة التي في ضواحي موش ولكنهم لم يجسروا
على مهاجمة موش نفسها بسبب ما فيها من القوى العسكرية العظيمة.
فشكل هؤلاء العصاة مع بقية المحتشدين في أندوك داغ من أجل ذلك عصابات
أخذت تناوش القبائل من كثب ، وترتكب فيها أفظع أنواع القتل والسلب فإنها
أحرقت ابن أخي عمر أغا وهجمت على نساء ثلاثة بيوت أو أربعة من المسلمين
وأكرهتهم على تقبيل الصليب ، ومثلث بهم فاقتلعت أعينهم وصلمت آذانهم وجعلتهم
موضوعًا لأشنع أنواع التحقير.
ثم هجم هؤلاء العصاة أنفسهم في أوائل أغسطس الماضي على قبائل فانينار ،
وبيكران ، وباديكان ، وارتكبوا فيها مثل ما تقدم من الجرائم ، وهاجم عصاة
قريتي إيليغار نوق ، وإيرموس الواقعتين في قضاة ديجان (بمركز قلب) الأكراد
المتوطنين هناك كما هاجموا قريتي قيسار وتشاتشات.
وفي أواخر شهر أغسطس الماضي هجم الأرمن على الأكراد المقيمين في
ضواحي موش ، وأحرقوا ثلاثة قرى، أو أربعة منها جوللي جوزات.
أما الثائرون في تالوري البالغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف فإنهم بعد أن
أحلوا الرعب والموت بالمسلمين والمسيحيين معًا رفضوا التسليم للحكومة ، ولجُّوا
في ارتكاب الفظائع ، فأرسلت الحكومة بعضًا من عساكرها المنتظمة إلى تلك الجهة
لقمع عصيانهم ، فهرب زعيمهم همباتزون ، واعتصم بجبل عالٍ هو وأحد عشر من
شركائه في الإثم فقبض عليه حيًّا ، لكن لم يكن ذلك إلا بعد أن قتل عسكريين
وجرح ستة وفي نهاية أغسطس الماضي كانت جميع عصابات الثائرين قد تشتتت.
وقد عامل العساكر نساءهم وأطفالهم وذوي العاهات منهم بما يجب لهم من
الرعاية ، وبما تتقضيه في حقهم أحكام الشريعة الإسلامية وعواطف الإنسانية ، ولم
يقتل من رفضوا التسليم وفضلوا أن يقوموا محاربين في وجه حكومتهم الشرعية.
وقد تأيدت هذه الوقائع فيما بعد بشهادة شاهد عاينها بنفسه ، وهو سائح أسباني ،
وعضو في الجمعية الجغرافية بإنكلترا يسمى كزيمنس وهاك ما قاله عن مشاغب
ساسون منقولاً عن الجرائد:
(قد عاد الآن المسيو كزيمنس بعد أن أتم العمل الجغرافي الذي كلفته به
الحكومة التركية في كردستان وموزوبوتاميا وقضى فيه ثمانية أشهر من مارس إلى
نوفمبر الماضي وقد اتفق له الوجود في إقليم بتليس حين حصول القلاقل المزعوم
حصولها في ساسون وهو يقرر أنه لم ير ولم يسمع شيئًا يؤيد ما ذاع خبره من
قصص (الفظائع الأرمنية) . (وقد أقام المسيو كزيمنس في القسطنطينية شهرًا
لكنه لم يود أثناء وجوده فيها أن ينافس في تلك الفظائع المدعاة بوجه من الوجوه ،
أما الآن فهو في لوندرا مع ووس باشا فلم يبق بعدُ سببٌ لالتزامه السكوت عنها
ورأيه هو أن الذين يجب توجيه كثير من اللوم المهم عليهم بما حدث في أرمينيا من
المشاغب هم المرسلون الأمريكيون المتشددون المقيمون في آسيا الصغرى ، فهو
يقول: إن هؤلاء المراسلين يلقون على الأرمن من قشور التعاليم ما لا يناسب حاجات
طائفتهم ، فتجد التلامذة المتخرجين عليهم لا يقنعون بعد تعلمهم بالرجوع إلى بلادهم
والاشتغال بأرضهم ، بل إنهم على الدوام يهتفون بحرية الأرمن واستقلالهم ، وقد
ظهر في معظم القلاقل التي حدثت ببلاد الأرمن أن محركيها هم تلامذة أولئك
المراسلين.
ثم قال المسيو كزيمنس بعد ذلك: إن ما نسب للأتراك عساكر وملكيين من
تعذيب نساء الأرمن وأولادهم وانتهاك حرماتهم لا أثر له من الصحة ، وأن كل ما
وقع مما كثر به الإرجاف والتهويل إنما هو تشويش حصل من بعض الأرمن في
جهة فحسمت مادته فيها دون أن يتعدى ذلك إلى غيرها.
وبعد أن وصف المسيو كزيمنس ما وقع بين الأرمن والأكراد في أوائل
الصيف الماضي من المشاغب والمقاتل قال: إن الأرمن احتشدوا جموعًا كبرى في
ولاية تالوري على مقربة من ساسون ، فطلب حاكم بتليس إلى الحكومة أن ترسل
بعضًا من الجند لتسكين الفتنة وإعادة النظام إلى أصله فصدرت الأوامر إلى زكي
باشا بجمع أربعة طوابير وهي تبلغ حوالي 1200 جندي وإرسالها على الفور
لتمزيق شمل الأرمن المتألبين فأدركتهم هؤلاء الجنود على ربوة في تلك الجهة ،
وطلبت إليهم التسليم فسخر منهم الأرمن لأن عددهم كان يقرب من ثلاثة آلاف ،
وأنشأوا يرجمونهم بالحجارة ، ولم يقتصروا على ذلك ، بل إنهم أطلقوا عليهم بعض
مقذوفات نارية فأجابهم العساكر بإطلاق الرصاص عليهم مرة واحدة فهربوا متشتتين
ثم اجتمعوا في وادٍ ضيق فأدركهم فيه العساكر ونصح إليهم القائد بكلام سلمي أن
ينصرف كل منهم إلى شأنه وأن يكفوا عن هذا الاحتشاد ، فسمع بعضهم النصح
وانصرف ، ولكن معظمهم بقي مصرًّا على عناده فأطلقت الجنود عليهم الرصاص
مرة أخرى ، وبلغ كل من قتل منهم في هذه الواقعة ثلاثمائة وهي على قول مسيو
كزيمنس أهم شغب حصل في الفتنة كلها ، نعم إن كثيرًا منهم أسروا لكنهم قد أطلق
سراحهم بعد) .
هذا ما حصل في بلاد الأرمن قد بيناه ، أما ما يتعلق بالمحركين الحقيقيين
للفتنة وبما وصلوا بالأمور إلى ما صارت إليه فلا شيء فيه أجدر بالقبول بين
الناطقين بالإنكليزية من قول رجل مثل القسيس المبجل سايروس هملن في رسالته
الشهيرة التي نشرت في 23 ديسمبر سنة 1893 في الجريدة الدينية المسماة
(نصير الاستقلال الكنيسي) وها هي بحروفها.
لها بقية
***
من إدارة المنار
نرجو من القراء الكرام الذين لم يدفعوا لنا قيمة الاشتراك عن السنة الثانية
(وقليل ما هم) أن يقدموها لنا حوالة علي إدارة البريد أو طوابع بريد لأننا لم نظفر
بمحصل أمين بعد خيانة من سبق ، وبهذا يحق لنا أن نفتخر بجميع قراء المنار ،
وأنهم من الخواص الأخيار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الترك والعرب
(1)
قام في الإسلام دول وممالك كثيرة أعظمها شأنًا وأطولها زمانًا وأشدها بأسًا
وأوسعها سلطانًا دولتا العرب بأقسامها والترك.
وإننا نرى الكتاب يخبطون في التفاضل بينهما خبط عشواء ، وقد غلا بعضهم
في النيل من العرب حتى زعم أنهم لا قابلية فيهم للتمدن، ولا قدرة لهم على سياسة
الممالك وإقامة دعائم العمران ، وأفرط هؤلاء في مدح الترك حتى كادوا يرفعونهم
عن رتبة البشرية إلى مصاف الملائكة المقربين، زاعمين أنهم ما وجدوا إلا ليكونوا
ملوكًا حاكمين، أو آلهة معبودين.
ومن الناس من تحامل على الترك حتى سلبوهم مزاياهم وفضائلهم وزعموا
أنهم خلقوا فتنة للناس وبلاء على الانسانية. فريق يتزلف فيعميه التزلف وفريق
يتعسف ، فيضله التعسف.
وإننا نكتب نبذة في هذا المقام مما يمليه علينا التاريخ الصادق، ويشهد به
الوجود الثابت {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) .
نكتب لبيان الحقيقة ، والعلم الصحيح لا يكون إلا نافعًا، كما أن الجهل بحقائق
الأمور لا يكون إلا ضارًّا ، فلا يمكن أن ينكر علينا كتابتنا هذه إلا من يفضِّل الجهل
على العلم، والظلمة على النور، والضلالة على الهداية.
ومن منافع العلم بهذه الحقيقة أن يعرف العرب الكرام، أنهم فوق ما يقول فيهم
أعداؤهم اللئام فينشطوا لدفع العار الذي يُرمَون به، ويجتهدوا في استرجاع مجد
سلفهم الصالح ومفاخر آبائهم الأولين ، وأن يعرف الترك للعرب فضلهم كما
يعرف العرب لهم فضلهم، ويأخذ كل منهما بيد أخيه ويتعاونا على الوحدة الإٍسلامية
معتقدين أن الإسلام ساوى بينهما في الحقوق وآخى بينهما في الدين ، وأنه ليس
وراء هذه إلا التفاضل بالأعمال، فيجب أن يكون عمل كل منهما متممًا لعمل الآخر،
وأن امتياز جنس على جنس كما كان سبب الضعف فيما مضى يكون سبب
الموت والفناء فيما يأتي من الزمن.
وصف مؤرخ الترك العالم الشهير جودت باشا الدولة العثمانية في كلامه على
تأسيسها بقوله: (إنها كانت جامعة الديانة والشجاعة العربية، متصفة بالثبات الذي
هو من أخلاق الترك ، فلذلك كانت على صغرها في أول نشأتها مستعدة لأن تكون
كهفًا وملجأ للملة الإسلامية) .
وما قال هذا المحقق إلا حقًّا، فإن الترك نجحوا بهذه الصفات الثلاثة: العظمى
منها أخذوها كغيرهم عن العرب وهي الدين، والثانية شبَّههم فيها بالعرب والمشبه
به يكون أرقى وأقوى من المشبه في الصفة التي بها المشابهة، وأما الثالثة فهي مما
امتاز به الترك على كثير من الشعوب والأجناس وهي أحد الأسباب في ثبات ملكهم
وطول زمن دولتهم (أعزها الله وزادها ثباتًا وبقاءً بفضله وكرمه) .
وثَم سببان آخران جديران بالالتفات (أحدهما) أن الترك طُبعوا كجميع
الشرقيين ما عدا العرب على الخضوع الأعمى لرؤسائهم، وتقديس ملوكهم وأمرائهم
وإنما حصل التنازع على السلطة في العرب للمبدأ الديمقراطي الذي جاء به
الإسلام ، وكان العرب أشد الناس استعدادًا له ، ولكنهم ما رعوه حق رعايته ، بل
تقلص ظله بعد الراشدين رويدًا رويدًا بضعف الدين في النفوس كما سنبينه بعد ،
و (ثانيهما) أن حالة البلاد الإسلامية التي نشأت فيها الدولة وفتوحاتها في جهة
أوروبا بلاد المسلمين وحالة المسلمين في البلاد المجاورة لها كانت تقتضي نجاح
هذه الدولة وثباته؛ ذلك أن الاختلافات السابقة والفتن والحروب الداخلية، وإغارة
جنكيز خان وأولاده وتدويخهم المسلمين وتنكيلهم بهم شر تنكيل- كل ذلك كان مريبًا
للأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها ومعدًّا لها بل ومُلجئًا إلى الخضوع والسكينة.
فهذا هو المانع للشعوب الإسلامية من الكر على الشعب التركي وتدويخه
وإزالة سلطته ، وما كان أحد ليقوى في تلك الأزمنة على المسلمين إلا المسلمون
الذين كان بأسهم بينهم شديدًا، وما كانت إغارة تيمورلنك على البلاد الإسلامية في
أوائل نشأة هذه الدولة إلا زلزالاً عنيفًا صدع البلاد المجاورة لها وما أضر ببلادها
هي إلا قليلاً؛ ما أضر بالدولة بل رباها فإن السلطان بايزيد الأول الذي أسره
تيمورلنك كان منغمسًا في الترف مسترسلاً في اللذات وقد خانه عسكره فانضوى
قسم كبير منه إلى تيمورلنك على أنه كان لا يزيد عن تسعين ألف فارس وكان
عسكر تيمور 380 ألفًا من التتر الأشداء الغلاظ.
مات السلطان بايزيد بعد ثمانية أشهر من أسره (سنة 805 هـ) فتنازع
أولاده على الملك فولى تيمورلنك على البلاد العثمانية أمراء قرامان والسلاجقة
ورحل عنها إلى الهند بعد ما عاث وسلب ونهب، وظل سرير السلطنة إحدى عشرة
سنة بغير سلطان؛ فضعفت الدولة بذلك ، ولكن لم يكن في جوارها دول قوية تغتنم
الفرصة فتُجهِز عليها ولذلك عادت إليها قوتها سريعًا على يد السلطان محمد جلبي
ابن السلطان بايزيد الأول الذي كان أول من أحدث العساكر البحرية في الدولة
وإرسال الصرة السلطانية إلى الحرمين الشريفين.
إنما الترك أمة حربية وما كانوا أشد بأسًا من العرب ، وأين فتوحاتهم من
فتوحات العرب مع أن مدتهم أطول من مدة دول العرب كلها؟ البلاد التي فتحها
العرب هي التي نما فيها الإسلام وثبتت أصوله، وعلت فروعه.
ومعظم البلاد التي فتحها الترك كانت وبالاً على الإسلام والمسلمين ، ولا تزال
تنذرهم بالبلاء المبين.
لا أقول: إن تلك الفتوحات مما يعاب بها الترك ويُذمون ، ولكنني أقول: إن
الفضل الأكبر في الفتوحات الإسلامية للعرب ، وأن الدين انتشر بالعرب واعتز
بهم ، فأساسهم أقوى أساس ونبراسهم أضوء نبراس، وهم خير أمة أخرجت
للناس ، ولا أنكر أن للترك فضلاً وذكاء ونبلاً ، ولا أحب أن أطيل القول في
المقابلة بالفتوحات وما هو أكثر منها فائدة للإسلام والمسلمين فكل من له شمة من
معرفة التاريخ الماضي والحاضر يعرف أن معظم البلاد التي تمكن فيها الإسلام هي
مما فتحه العرب وانتشر الدين فيه بواسطة العرب.
وسنأتي في مقالة أخرى على المقابلة بين الجنسين في العلوم والفنون
والزراعة والتجارة وسائر أمور المدنية والعمران.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدين والدنيا والآخرة
(3)
أثبتنا في المقالتين السابقتين أن العقل والنقل والفطرة البشرية والأديان
السماوية، متفقة كلها على أن الله تعالى أنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها؛
ليسعد بها لا ليشقى، وشرع له الدين ليوقفه بطلبها عند حدود الاعتدال ، ويعلمه
قرن التمتع بالنعم بشكر المنعم، وذلك بأن يؤمن بأنه هو الواهب لها ، ويجعل
مصالحه الخاصة منطبقة على المصالح العامة ، ويسترشد في عمله بسنن الله في
شريعته وخليقته جميعًا ، كما يعلمه أن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة فيأخذ نفسه فيها
بالعبادات والفضائل النفسية والمعارف الروحية التي تكمل بها السعادة في الدنيا،
ويتأهل بها للسعادة في الآخرة.
ولم ترد هذه التعاليم كلها على كمالها إلا في الديانة الإسلامية خاتمة الأديان
وما أخذت أمة من الأمم بدين سماوي ، إلا وحسنت حالها بالأخذ به في حياتها الدنيا ،
وارتقت عما كانت عليه قبل ذلك، خصوصًا الأديان التي كانت قبل المسيحية ،
وأقربها إلينا اليهودية؛ فإن الزهد في الدنيا والإعراض عنها لم يكن من تعاليمها ،
ولم يُعرف عندها قولاً ولا عملاً.
وأما المسيحية فلم تكن إلا إصلاحًا في اليهودية وتتميمًا لها، فقد صرح القرآن
حكاية عن المسيح عليه السلام أنه قال: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ
لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران: 50) ويروون عنه في الأناجيل أنه
قال: ما جاء لينقض الناموس وإنما جاء ليتممه.
فمن حق النصارى أن يكونوا يهودًا آخذين بالتوراة في عباداتهم ومعاملتهم مع
زيادة زهادة في الدنيا وإعراض عنها.
وأما المسلمون فلقد كانوا على صراط الدين في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم وزمن الراشدين من بعده ، وكانت الزينة والطيبات من الرزق في أول نشأة
الإسلام بالدرجة التي يقتضيها ذلك الطور المعانق لطور البداوة حتى إن الإمام عليًّا
كرم الله وجهه كان يرى أن أكل مخ الحنطة (أي الحنطة المنخولة) من النعيم وهو
أمير المؤمنين! ! ولما فتحوا الممالك واستفحل عمرانهم توسعوا في تناول الطيبات
واستعمال الزينة كما هو شأن الحضارة ، وما كان الجمهور من الصحابة وأكابر
التابعين ينكرون من هذا إلا ما انتهى صاحبه إلى السرف وانغمس في الترف لما
يستعقبه هذا من الضعف عن حماية البيضة، والعجز عن تعزيز الأمة.
وربما أنكروا ذلك على من انتصب للإرشاد ، وجعله الناس قدوة لهم فمثل هذا
ينبغي أن يكون عزاء للبائس الفقير، وتسلية للعاجز المسكين ، وصرح غير واحد
بأن النبي والخلفاء الراشدين كانوا يختارون شظف العيش في عامة الأوقات لأجل
هذه الأسوة والقدوة.
قال في الإحياء: إن يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى الإمام مالك بن أنس:
(بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، من
يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس. أما بعد ، فقد بلغني أنك تلبس
الدقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطيء، وتجعل على بابك حاجبًا، وقد جلست
مجلس العلم ، وضُربت إليك المطي ، وارتحل إليك الناس فاتخذوك إمامًا، ورضوا
بقولك، فاتق الله يا مالك ، وعليك بالتواضع.
كتبت إليك بالنصيحة مني كتابًا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى
والسلام) .
فكتب إليه مالك: (بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد وآله
وصحبه وسلم.
من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد ، سلام الله عليك ، أما بعد فقد وصل إلي
كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب ، أمتعك الله بالتقوى ، وجزاك
بالنصيحة خيرًا، وأسأل الله تعالى التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الوطيء،
فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، فقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) وإني لأعلم أن ترك
ذلك خير من الدخول فيه ، ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا ، والسلام) .
فانظر كيف قيد يحيى الإنكار على الإمام مالك بقوله: وقد جلست مجلس العلم
إلخ ، كأنه يقول: إن الإمام القدوة ينبغي أن يراعي حال أضعف الناس لا سيما في
الطور التي كانت فيه الأمة يومئذ ، ولقد أنكر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على
معاوية ما كان فيه من الأبهة والسعة عندما كان أميرًا في الشام فاعتذر معاوية بحالة
البلاد والأمة المحكومة ، وأنها لاتهاب الحاكم إذا كان رث الهيئة، فقبل عذره ، وقد
لبس النبي صلى الله عليه وسلم الطيالسة الكسروية والجبة الرومية، وغير ذلك
من اللبوس الفاخر، لئلا يظن الموسرون أن إباحة ذلك في القرآن لا تنافي أنه
مذموم أو مكروه وإن اجتنب السرف والمخيلة.
ولقد بالغ رجل واحد من الصحابة الكرام في التزهيد، ورأى أنه يجب إنفاق
كل ما زاد عن الحاجة ، فنفاه معاوية من الشام إلى المدينة ونفاه عثمان الخليفة
الثالث إلى الربذة حتى مات فيها، وذلك خشية أن ينتشر رأيه بين الناس فيضعف
هممهم عن الكسب وعمارة الدنيا ، ثم حدثت الفوضى العلمية والدينية في المسلمين
عندما شغل ملوك بني أمية ومن بعدهم زخرف الملك عن القيام بحقوق الخلافة
فانتشرت التعاليم الفاسدة والآراء والمذاهب التي كانت تنجم في زمن الراشدين
فيبادرون لحصدها أو قلعها قبل أن يعلم بها جماهير الناس.
ومن أضر ما حدث الغلو في التزهيد، وحمل الناس على الاعتقاد بأن الدنيا
ضرة الآخرة على الإطلاق ، وأن كل عمل يطلب للدنيا يغضب الله تعالى ، ومن
كبر المصائب أن هذا التعليم كان ديدن الخطباء والوعاظ والقصاص الذين لا يسمع
العامة إرشاد الدين إلا منهم ، وأنه انتشر بين جميع الفرق الإسلامية فزرع أهله فى
قلوب الأمة الإسلامية فسيل الكسل، ومقاومة ما تقتضيه الطبيعة والفطرة من الجد
والعمل.
إن الله - تعالى - زين للناس ما على الدنيا ليكون داعيًا إلى إحسان العمل
فيها كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: 7) وقد ورد في الحديث تفسير حسن العمل بالعقل أي ما يرشد إليه،
ولكن فريق المزهِّدين أو المكسِّلين فسروه بالزهد في الدنيا.
أخذ السواد من المسلمين هذه التعاليم بالقبول؛ لأنهم تلقفوها ممن يعتقدون بهم
كمال الدين كالعُباد والمتصوفة والوُعاظ وتبعها تعليم آخر أشد منها ضررًا ، وهو أن
العلوم الدنيوية كالرياضيات والطبيعيات ويتبعها الطب والتشريح كلها مفسدة للعقائد،
وقائدة إلى الزندقة ، وصارت هذه الآراء تقوى في الأمة كلما ضعف العلم،
وصار العلماء الراسخون يتحامون الظهور بإبطال هذه الآراء والتعاليم خوفًا من
إساءة ظن العامة فيهم واتهامهم بالزندقة لأنهم لم يَدعوا إمامًا من أئمة المسلمين إلا
واتهموه في عصره بهذه أو ما يقاربها حتى إن منهم من عد الاشتغال بعلم المنطق
كفرًا ، ذكر ابن الوردي في حوادث سنة 639 من تاريخه ترجمة العلامة كمال
الدين بن معية الذي فضله العلامة أثير الدين الأبهري على الإمام الغزالي ، وقال
فيها: إن ابن الصلاح الفقيه الشافعي المشهور سأل كمال الدين أن يقرئه المنطق
سرًّا فقرأه عليه مدة ولم يفهمه، فقال كمال الدين: يافقيه ، المصلحة عندي أن تترك
الاشتغال بهذا الفن لأن الناس يعتقدون فيك الخير ، وهم ينسبون كل من اشتغل به
إلى فساد الاعتقاد فكأنك تفسد عقائدهم ، ولا يصح لك من هذا الفن شيء.
قال ابن الوردي: (ولغلبة العلوم العقلية على كمال الدين اتهم في دينه ، وهذه هي
العادة) فتأمل قول المؤرخ: (وهذه هي العادة) .
والمشهور عن ابن الصلاح أنه كان يحرم المنطق قال في السلم:
ابن الصلاح ، والنواوي حرما
…
وقال قوم: ينبغي أن يُعلَما
فلينظر أي النقلين أصح؟ على أنه يمكن الجمع بأنه رجع عن التحريم بعد
القول به في العلوم الدنيوية؛ لعلمهم أن الدنيا سياج الدين ومزرعة الآخرة ،
وكانت العامة على خلاف رأيهم.
وأما في هذا العصر فقد انحط العلم حتى صار العلماء هم الذين يَنْفُرُون
ويُنَفِّرُون عن هذه العلوم والفنون ، وصار قسم كبير من العامة يرغبون فيها
ويحملون أبناءهم على تعلمها ، والسبب في هذا ظاهر؛ فإن التطلع إلى سعادة الدنيا
هو مرمى أبصار جميع الناس ، والعلوم الدنيوية في القرون السالفة لم تكن من
وسائل الترقي في الدنيا ، وإنما كان العلماء مسوقين إليها بإرشاد القرآن الطافح
بالحث على النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وكانوا
مكتفين من الثمرة بقوة الإيمان ولذة العقل اللذين فيها ، ولم يكن للعامة حظ من ذلك.
أما العلم بالقرآن وبما يرشد إليه من أنواع المعارف فقد ضعف في صنف
العلماء وانحصرت فوائد هؤلاء الدنيوية في مناصبهم الدينية، وأما العامة فإنهم رأوا
الفائدة فيها فأقبلوا عليها، فكم من فقير حقير علم ولده فخرج موظفًا أو مهندسًا أو طبيبًا
فاستغنى بماله واعتز بجاهه.
وقد ساوى العلماءُ العامة في هذا الإقبال عملاً ، وإن كان منهم من يذمه قولاً.
ذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها
…
أفاويق حتى ما تدر لها ثعل
كتب الشيخ محمد راضي البحراوي أحد أساتذة العلم في الأزهر مقالات يذم
فيها علم الحساب وتقويم البلدان ، وكتب غيره منهم يؤيد رأيه ، وزعما أن جميع
شيوخ الأزهر على رأيهما في ذلك ولكني علمت من بعض أهل الأزهر أن الشيخ
محمد راضي هذا ، بل والأستاذ الأكبر شيخ الجامع يعلمان ولدهما هذه العلوم.
يقول قائل: إن التزهيد في الدنيا لا يؤثر في النفوس لكونه على خلاف سنن
الفطرة ، ولم يوجد في الأمة من الزهاد الذين تركوا الدنيا باختيارهم ظاهرًا وباطنًا
لأجل الآخرة إلا نفر قليل كإبراهيم بن أدهم - رحمه الله تعالى - وأكثر المنتحلين
للتصوف المدعين الإعراض عن الدنيا للتقرب من رضوان الله تعالى كانوا وما
زالوا يطلبون الدنيا بهذه الأعمال؛ لأنهم وجدوها أقوى ذريعة للمال والجاه ، وهم
في هذا أبعد عن الزهد الحقيقي من الأغنياء لأن الزهد عمل قلبي كما سنوضحه بعد ،
وقد فضحهم الأئمة المحققون في التصوف كالغزالي وغيره ، فكيف تقول: إن
ذلك أضر بالمسلمين؟
والجواب عن هذا واضح ، وهو على وجهين (أحدهما) أن من مضرته
وجود الألوف من رجال الدين عبادًا وعلماء لا عمل لهم ، وإنما يعيشون عالة على
الناس ومن الخلفاء الراشدين من كان صانعًا ومنهم من كان تاجرًا ، وما التكايا التي
أحدثها المسلمون إلا كالأديار عند المسيحيين، ولكنهم لا يوجبون على من دخلها أن
يكون راهبًا طول حياته.
و (ثانيهما) أن المضرة قد ظهر أثرها في مجموع الأمة فعلاً حتى هبطت
من الأوج إلى الحضيض ، وهكذا شأن التعاليم النافعة والمضرة لا يعرف تأثيرها
إلا بمثل ذلك ، وإن شئت تعليلاً عقليًّا يثبت لك تأثير الغلو في التزهيد باسم الدين
على ما فيه من مخالفة سنن الفطرة فتأمل في حال كل من يعمل عملاً تقتضيه
الطبيعة والفطرة اقتضاء حتمًا أو غير حتم ، وهو يعتقد سوء مغبتهِ تجده في عمله
ضعيفًا لا يبلغ الغاية منه.
انظر لمن يحمله الغضب على الضرب وهو يخاف الله أو عقوبة الحاكم كيف
يكون ضربه دون ما تبلغه قوته لولا ذلك الخوف ، وربما يكون في وقت الضرب
ناسيًا لمراقبة الله ، وغير متفكر في عقوبة الحكومة ، ولكن نسيان ما انطوت عليه
النفس وعدم ملاحظته والتفكر فيه لا يبطل أثره ، وتأمل كيف أن العرب ما أتقنوا
فن الموسيقى في أيام حضارتهم مع اشتغالهم به مجاراة للطبيعة الميالة إليه، وما
ذلك إلا لأن فقهاءهم يذمونه ويحرمون بعض آلاته.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(7)
من هيلانة إلى أراسم في 3 أبريل - سنة - 185
قد أتاني السيد
…
بشيء من أخبارك بعد طول تطلعي إليها فاطمأن قلبي قليلاً
بما قاله لي عنك ، وزال بعض ما كنت أجده من الجزع عليك.
لا يخطرن ببالك أني نسيت ما تلقيته من نصائحك وتعاليمك في تربية (أميل)
فإني باذلة قصارى جهدي في تعريفه بما حوله من الأشياء ، وفي هذا المقام أقول:
إني أحسبني قد تبينت أن فتور مشاعر الطفل ينشأ من عدم التفاته إلى
المحسوسات أكثر من حدوثه من ضعف تلك المشاعر فإن في قدرته أنه يدرك
أصوات كثير من الأشياء الخارجة وألوانها تمام الإدراك لو أراد أن يكلف نفسه
الإصغاء والنظر إليها ، ولكن لما كانت هذه الأشياء لا تستميله كان يغفلها إغفالاً كليًّا.
وجملة القول في ذلك: إنه لا بصر له ولا سمع إلا فيما يحب إبصاره
وسماعه، وإذا كان هذا شأنه فكيف السبيل إلى معرفة ما يروقه من الأشياء وما لا
يروقه؟ إني أعترف وأنا صاغرة بأني كثيرًا ما أخطأت في استعراف تلك الأشياء ،
فليس كل ما أتخيره منها لتنشيط حاسة اللمس في (أميل) يحب أن يجيل فيه يديه
الصغيرتين ، ثم إن أبهى الألوان وأجملها في نظري تمر أمام عينيه مرور الظلال
فلا تستلفته أقل استلفات ، وأنا أظن أننا معشر الأمهات مدفوعات في هذا الأمر وفي
غيره إلى إحلال أذواقنا محل أذواق الأطفال.
إن جورجيا وهي أقل مني ارتياضًا بالعلم لأنجح منى أغلب الأحيان في
سياسة (أميل) فإنها تجد بغريزتها ما يعجبه ويسليه وينبه قوة الاستطلاع فيه، وربما
كانت تستعرف رغائبه فتسعى في تحصيلها له ، وسبب ذلك أنها كما تعلم قد
كانت والدة لثلاثة أولاد حرمها منهم الرق على التعاقب ولا تدري أين هم الآن، فلا
بدع إذن في شدة تعلقها بأميل ومحبتها له، وإني لفي وجد عليها من حبها إياه أكثر
مني، وحاشا أن يكون ذلك حسدًا فإنه مستحيل ، وإنما الذي أحسدها عليه هو
قدرتها على أن تكون طفلة مع الطفل، فهل هذا هو الذي تعنيه بكلامك في استعداد
المرأة الزنجية للأمومة؟ ليت شعري هل تصدق أن أميل قد صار من أصدق
التابعين لزور واستر [1] أعني أنه يعبد الشمس؟ من أجل أن تعتقد ذلك ينبغي أن
تراه لتنظر كيف يبسط ذراعيه إلى ضيائها فرحًا برؤيته.
كان الشتاء عندنا في غاية السهولة فلم ينزل فيه الثلج إلا مرتين على أنه كان
فيهما يذوب بمجرد ملامسته الأرض ، ولا تزال الأشجار مجردة من أوراقها ،
فالريف العاري من الخضرة كالبيت الخالي من الفراش والأثاث ، ولكن نفحة من
الحياة أنشأت تدب وتسري في مادة الكون جميعه ، ولن تلبث أن تملأ ما خلفه
الفصل المنقضي من الفراغ ، وقد أمست الآصال عندنا في غاية الصفاء واللطف
ولذلك ترى أميل إذا رأى الجو صحوًا أبدى من القلق ما يدل على رغبته في أن
يُحمل إلى الحديقة.
ولما كانت الشمس في (كورنواي) خصوصًا زمن الربيع لا ضرر فيها على
أحد ، بل إنها تلائم الأطفال والشيوخَ اعتادت جورجيا أن تفرش سجادة على
الحشيش الجاف وتُجلس عليها (أميل) ليلعب ويمرح كما يشاء ، ولما رأيته يعتمد
علينا في حراسته مدة وجودنا معه قصدت أن أعلمه شيئًا من الثقة بنفسه والارتكان
عليها ، فأوعزت إلى جورجيا بالتنحي عنه ، واختفيت عن بصره أنا أيضًا من غير
أن يغيب عن عيني فلاحظت أنه في مبدأ الأمر خاف عندما فكر في وجوده وحيدًا
وأبدى بعض القلق لكنه ما لبث أن تشجع وقوي قلبه ، فكنت حينئذ أراه يفتح عينيه
ويلتفت إلى كل ما يجول حوله ، ويحرك يديه الصغيرتين كأنه يذود ذبابة تطن فوق
رأسه فأخذت على نفسي من هذا الوقت أن أكف عنه مراقبتي حينًا بعد حين حتى
إذا أحس بقلة حمايتي له؛ تعلم كيف يستغني عن مساعدة غيره.
إني كلما فكرت في فروض الأمومة بدا لي منها معنى قلما يشابه ما يفهمه
غيري من النساء ، فإني أرى أنه من الواجب علي بمجرد أن يكبر (أميل) أن
أحرم نفسي من لذة مكاشفته في كل وقت بأني مهتمة به؛ لأن أكبر شيء يعيق نمو
المشاعر في بعض الأطفال ، ويعطل استقرار طباعهم إنما هو فيما أرى طريقة
القائمين عليهم في تربيتهم ، فإنهم بكثرة حياطتهم إياهم بضروب من العناية البالغة
غايتها من الظهور والناشئة عن فرط الاهتمام بهم - يعودونهم على أن يعيشوا غير
مهتمين بأنفسهم ، فإن الطفل إذا كان غنيًّا متعجرفًا كيف يتكلف إعمال ملكة الاحتفاظ
بنفسه ، كلا بل يكون شأنه مع نفسه كملوك الشرق الحمقى الذين يهون عليهم أن
يسموا مشيري دولهم أبصارهم وأسماعهم طيبة بذلك نفوسهم، لأنه يعتاد على أن
يستعين في إبصاره وسماعه بالمربيات القائمات عليه المكلفات بخدمته ، وتَعرُّف
حاجاته لقضائها، فماذا يكون حال هذا الطفل المبالَغ في حفظه إذا رأى نفسه يومًا
ما بعد أن كان محوطًا بأمتن أسباب الوقاية قد خلي بينه وبين أقل خطر يلم به؟ لا
شك أنه يكون أسوأ الناس حالاً، وأكسفهم بالاً، بل يكون هو الشخص الذي يحكى
عنه أنه كان يخاف من خياله.
إن (أميل) يدعوني بأفعاله وأحواله إلى التفكر في كل شيء ، فقد ذكرني
بالأمس شخصًا من المذكورين في أساطير الأقدمين، ذلك أن الأطفال لا حساب
للمسافات عندهم ، وهذا الأمر فيهم منشأ لكثير من الأغاليط البصرية الكثيرة، فقد
كنت في الحديقة وكانت جورجيا واقفة في أحد شباببك المنزل المشرفة على مكاني ،
وهو على يديها فلم يكن إلا أن رآنى حتى بدت عليه علائم الابتهاج ، ومد إليَّ
يديه كالجناحين على أن الشباك الذي كان فيه هو في الطبقة الأولى من البيت فلما لم
تصل إلي يداه ظهر عليه الاندهاش ، ثم أفضى به الأمر إلى أن غضب واحمر
وجهه، والذي كان يبتغيه منى بحسب ما يحلو لي اعتقاده هو ما أبديه له من
صنوف الملاطفة والمداعبة، بل كان يريد أيضًا التقام ثديه؛ لأنه لم يكن رضع من
بضع ساعات فلم يكن لهذا المحبوب المسكين مثيل في عذابه هذه إلا طانتال [2] .
أأكون واهمةً إن قلت: إن أميل قد عرفك ، بل إنه قد عرف صورتك التي
أريه إياها ذاكرة له اسمك.
أنا لا أعتقد أن هذا وهم فإني بحملقته في مثالك وابتسامه له ومده يديه
نحوها إخاله قد عرف والده تخمينًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
زور واستر هو شارع ديني للأمم البكثريانية وهم سكان قسم من آسيا كان يدعى قديما بكثريانيا وهو الآن تركستان وهذا الرجل هو المؤسس للديانة البرسية التي تدعو الآخذين بها للاعتقاد بإلهين ، وهما: الضياء والظلام أو منشآهما وروحا الخير والشر ويسمى الأول (أورموزد) والثاني (أهريمان) أو (أهرمن) وهذا هو أصل مذهب المانوية.
(2)
طانتان في أساطير الأقدمين هو ملك فريجيا التي هي قطر من أقطار آسيا الصغرى وكان قدم للآلهة أشلاء أولاده طعامًا فعوقب بالجوع والعطش في جهنم ويضرب بعذابه المثل فيقال: يعذب عذاب طانتان، إذ كان على الدوام يعتقد أنه قد صار من رغائبه بمكان اللامس، وهو في الحقيقة عاجز.
عن إدراكها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(الإسلام)
طبعت جمعية التأليف رسالة بهذا الاسم جمعت فيها من جريدة المؤيد مقالات
المسيو هانوتو الأخيرة ، وما جاء في الرد عليها لأحد أئمة المسلمين وعظمائهم
ولحضرة الكاتب الفاضل محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة ، ولا حاجة
بنا للترغيب في اقتناء هذه الرسالة فإن ما فيها قد أخذ من نفوس المسلمين مأخذًا
وأثر فيها تأثيرًا لم يعهد له نظير.
ومن الناس من نسخها بخطه، ومنهم من حفظ نسخ المؤيد التي نشرت فيها،
وتمنى السواد الأعظم لو تطبع لتحفظ ، وتكون عبرة ومرشدًا لهم على ممر الأيام.
مقال هانوتو جرح القلوب، وآلم الوجدان، ومقال الإمام كشف ظلمة الشبهة ،
وأنار مصباح الحجة، وقذف بالحق على الباطل فدمغه.
وقد أجمع الناس على استحسانه حتى فضلاء المسيحيين ، ولم يوجد فيه مغمز
لغامز ولا مطعن لطاعن، فإن اتفق شذوذ واحد نقول فيه:
ليس كل خلاف جاء معتبرًا
…
إلا خلاف له حظ من النظر
والرسالة تطلب من إدارة مجلة السمير الصغير، ومن حضرة الفاضل حسن
أفندي وصفي بعموم الأوقاف ومن مكتبة المعارف في شارع بين الصورين ، وثمنها
ثلاثة غروش.
***
(نور الإسلام)
مجلة علمية أدبية إسلامية لصاحبيها الفاضلين الشيخ أمين أبي يوسف المحامي
ومحمود أفندي عبد الكريم التاجر في الزقازيق تصدر في أول ومنتصف كل
شهر عربي ، وقيمة الاشتراك بها في القطر المصري عشرة قروش أميرية في
السنة ، وفي الخارج خمسة عشر قرشًا تدفع سلفًا ، وهي قيمة لا يراد منها الكسب.
وقد صدر العدد الأول منها في 15 المحرم الحال مشتملاً على المقالات النافعة
والإرشادات القويمة والنصائح الحكيمة، وقد جعل فيها بعد المقالات الأولى باب
للتفسير يكتب فيه منشئ هذه المجلة (المنار) نبذًا مما يقتبسه من درس الأستاذ
الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وبعده باب العبادات ينشر فيه أسرار
العبادات وحِكمها ، وسيزاد على ذلك بيان الضروري من الأحكام وبعده العقائد
وتنشر فيه الآن (رسالة التوحيد) تباعًا وهي الرسالة التي لم يؤلَّف مثلها في
الإٍسلام ، فعسى أن تصادف هذه المجلة النافعة ما تستحق من الإقبال عليها ،
وتستقيم على الطريقة التي أشرعتها ، وهي تطلب من صاحبيها في الزقازيق.
***
(الإخاء)
جريدة عمومية تصدر في كل عشرة أيام مرة لحضرة الفاضل محمود كامل
أفندي كاشف ورئيسا تحريرها الشاعران الناثران أحمد أفندي محرم وأحمد أفندي
الكاشف ، وقد صدر العدد الأول منها في عاشر المحرم وفيه بعد الفاتحة متصلاً بها
بحث مسهب في الإخاء وشرائطه يتبعه ببان المقصد من الجريدة وهو شد أواخي
الإخاء وما يستلزمه ، وقد جاء في بيان خطة الجريدة هذه الجملة المفيدة: (ولا
نريد أن نختط لجريدتنا هذه ما يختطه بعض أرباب الصحف من الخوض في
الشخصيات أو التعرض للخصوصيات تزلفًا إلى عظيم، أو تقربًا من كبير أو
انتقامًا لعاطفة غضبية، وقضاءً لأغراض نفسية ، فتلك هي آفات الجرائد وبلاياها
التي حطت من قدرها، وحقرت من أمرها ، بل هي أدواء الأمة التي كادت تأتي
على قواها، وتوردها موارد رداها ، فالاشتغال بهذه الهنات واقتراف تلك
المنكرات ذنب لا يجب أن يغتفر لذوي هذه المهنة الكريمة، المتصدين لأداء
وظيفتها العظيمة) ثم جاء فيها بعد مقالة في أوربا والإسلام قصيدة غراء من أرق
الشعر وأعذبه في مديح سماحة أبي الهدى أفندي الشهير ومن أبياتها في الفخر
والتقرب.
أنا سيفك اشهرني على هام العدى
…
فالسيف ليس يخيف حتى يشهرا
وانط إلي (؟) خمائل الفخر التي
…
أنا أهلها لأزيد قومي مفخرا
ومنها في المدح والاستماحة
هو عدَتي للحادثات وعمدتي
…
في المشكلات أرى به ما لا أرى
إن رمته للجود رمت كنهورا
…
أو هجته للخطب هجت غضنفرا
فيه الغنى كل الغنى وهو الحمى
…
كل الحمى يثني المخوف إذا انبرى
والقصيدة كلها درر ، فنسأل لهذه الجريدة التوفيق للوقوف عند الخطة التي
اختطتها لنفسها في العبارة السابقة والرواج والنجاح المكافئين لخدمتها ، وهي تصدر
في طوخ (قليوبية) وقيمة الاشتراك فيها 25 غرشًا في السنة.
***
(رواية الروضة النضيرة في أيام بمباى الأخيرة)
تصف هذه الرواية مدينة بومباي الرومانية الزاهية قبل أن ينفجر عليها بركان
فيزوف ويغمرها ، وتصف ما كان عليه الرومانيون وقتئذ من الترف والنعيم وسعة
العمران ، وتشرح أخلاقهم وعاداتهم ، وأفيد ما فيها وصف حال المسيحيين الذين
كانوا منبثين في بلاد الرومان يدعون إلى دينهم من يرونه أهلاً مع غاية الحذر
والاستخفاء ، ولكن شرح حال الدعوة إلى الدين المسيحي في الرواية ليس إخبارًا
عن جزئيات واقعة، وحوادث معروفة ، ولكن المعروف بالإجمال أن هذا الأمر كان
موجودًا وواقعًا ، وقد صوره مصنف الرواية تصويرًا ينطبق على العقيدة التي عليها
المسيحيون اليوم.
مصنف الرواية هو اللورد ليتن الإنكليزي ونقلتها إلى العربية الفاضلة المهذبة
فريدة عطية بنت صديقنا الفاضل المعلم يوسف عطية وهي تباع بمطبعة الهلال
وثمنها عشرة قروش.
***
(ثمرات الفنون)
نهنيء صاحب هذه الجريدة الفاضل الكامل سعادتلو عبد القادر بك أفندي
القباني رئيس مجلس بلدية بيروت بدخول جريدته في السنة السابعة والعشرين وهي
في طريقها القويم، وعلى صراطها المستقيم، تتحرى الصدق والنصيحة بقدر
الإمكان، في مواقف يعز من يصبر فيها على نار الامتحان، حتى صار لها في
الجرائد السورية المكان الأعلى من نفوس المسلمين ، وكيف لا وإن عددًا منها لا
يخلو عما يهم المسلمين معرفته مما لا يوجد في غيرها فلا زالت تزيد ارتقاءً
ونجاحًا.
***
(النظارة)
مجلة علمية أدبية فكاهية (تصدر بمصر في يوم الاثنين من كل أسبوع
لمحررها ع. كامل) وقيمة الاشتراك فيها أربعون غرشًا في السنة و30 للتلامذة
ووكلاء البريد وتدفع أقساطًا ، وللمجلة ثلاثة أبواب: الأول منها للأخبار والبرقيات،
والثاني للأشعار والأزجال والثالث للآداب والحكايات، والعلوم والمخترعات وقد
صدر العدد الأول منها بورق جيد فنسأل لصاحبها التوفيق والنجاح.
***
(الهوانم)
جريدة فكاهية سياسية انتقادية تصدر بشكل المجلات في يوم الأحد من كل
أسبوع لم يصرح صاحبها باسمه وهو مسلم مصري لما فيها من المباحث الغرامية
والنسائية ، وإذا أُعطيَتْ هذه المباحث حقها من النزاهة ، وابتُعد بها عما يخل
بالآداب تكون من أنفع ما يكتب ، والسواد الأعظم من الأمة في أشد الحاجة إلى
معرفة الآداب في طور الصبا ، والميل إلى الزواج وحسن الاختيار فيه وما يتعلق
بذلك ، ثم معرفة شئون المنزل وأخلاق النساء وعاداتهن في جميع أحوالهن ، وهذه
المعرفة والحث عليها أنفع للأمة من معرفة السياسة وأحوال الممالك.
وكثيرًا ما كاشفت بعض أصدقائي الفضلاء برأي يختلج في ذهني كثيرًا وهو
أنه إذا وجدت جريدة أدبية غرامية يحررها بعض أصحاب المعارف والآداب
الصحيحة العارفين بمنافع الأمة يمكن أن ينتفع بها أكثر مما ينتفع بسائر الجرائد
السياسية والعلمية بل والتهذيبية، فيمكن لصاحب جريدة الهوانم النبيه أن يتدبر ما
قلناه ويتحرى العمل به بقدر الإمكان والله الموفق.
***
(لجنة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي سنة 1900)
أهدتنا لجنة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي التي تألفت في هذه السنة الشمسية
وأقامت الزينة التي نوهنا بها في وقتها كراسة مطبوعة بالعربية والفرنسوية تتضمن
تقريرها العمومي (وميزانية الإيراد والمصروفات) جعلتها (تذكارًا لهذا العمل
العظيم ولكل من اشترك فيه) وعلم منه أن مجموع الدخل كان 136230 غرشًا
ونصف غرش ، ومجموع النفقات 50199 غرشًا ونصف غرش.
ومن الدخل 20031 غرشًا لم تحصل فيكون صافي الدخل 66000 أقرت
اللجنة على توزيعه على الجمعيات الخيرية لجميع الطوائف وهي عشرون جمعية
ثلاث منها للمسلمين وهي الجمعية الخيرية الإسلامية وقد أصابها 180 جنيها
والجمعية الايرانية وقد أصابها 15 جنيها وجمعية العروة الوثقى والذي أصابها 32
جنيها.
وواحدة للإسرائيليين وقد أصابها ستون جنيهًا والباقي وقدره 373 جنيهًا
أعطي لسائر الجمعيات المسيحية وطنية وأجنبية ، ويستثنى منه 21 جنيهًا لمدرسة
حلوان الخيرية وهي مدرسة أهلية.
وقد لاحظ بعض الناس أن أكثر هذا المال من المسلمين، وأعطي أكثره
لغيرهم ، وليس هذا بشيء مهم ، ولكن المهم كل المهم هو قلة الجمعيات الخيرية
الإسلامية مع أن المسلمين في البلاد أكثر عددًا ومالاً ، وأحوج إلى الجمعيات
الخيرية من سائر الطوائف؛ لأنهم وراءها كلها في العلوم والفنون وسائر شؤون
المدنية والاجتماع.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(مآثر مولانا الخليفة والسلطان الأعظم)
نوهنا مرارًا كثيرة في مجلتنا وخطبنا بمآثر أعمال مولانا السلطان عبد الحميد
خان أيد الله دولته وأنفذ شوكته ، وبينا أن أعظمها شأنًا وأسطعها برهانًا ،
وأحسنها وقعًا ، وأعمها نفعًا ، وأرفعها ذكرًا ، وأطيبها نشرًا ، هو إنشاء الألايات
الحميدية وتعميم التعليم العسكري في طرابلس الغرب ، واقترحنا أن يكون هذا
الأخير عامًّا في جميع الولايات العثمانية.
وقد قرأنا خطبة اللورد سالسبري رئيس الوزارة في الدولة البريطانية التي
حملها إلينا البريد الأخير ، فألفيناه يرغب فيها أمته بالإقبال على تعميم التعليم
العسكري ، وصرح بأن البلاد لا تكون آمنة من خطر المستقبل إلا بهذا وهي موافقة
لرأينا نرجو أن تحمل الدولة العلية على المبادرة لهذا العمل العظيم.
وأقول الآن: إن (المأثرة الرابعة) من مآثر مولانا الكبرى هى مدرسة
العشائر في الأستانة وإنما كمال نفع هذه المدرسة بإلزام كل من يدخلها تعلم الفن
العسكري.
(والمأثرة الخامسة) هي إنشاء سلك الأخبار البرقي بين السلط من سورية
وبين الحرمين الشريفين ، وقد ذكرنا الخبر في الجزء الماضى ، ونزيد الآن أن
الجرائد السورية أنبأتنا بأن سعادتلو صادق باشا المؤيد العظمي حاجب مولانا
السلطان قد حضر إلى دمشق الشام ليتولى رئاسة هذا العمل المبرور عملاً بالإدارة
السلطانية الواجبة الاتباع ، وطول هذا الخط 2500 متر ، وعلم الناس أن نفقته من
الجيب السلطاني الخاص.
(وأما المأثرة السادسة) فهى إنشاء سكة حديدية بين الشام والحرمين
الشريفين ، وقد أشرنا إليها في الجزء الماضي ، ثم علمنا بأن الأمر السلطاني قد
صدر بذلك حقيقة ، وأن نفقاتها ستكون من خزينة الدولة ، وأن الهمة موجهة
للإسراع بالعمل ، ولعمري إن هذه المأثرة هي التي تخلد الذكر الحميد لهذا السلطان
الكريم والخليفة العظيم في الألسنة والكتب ما دام يوجد في الدنيا مسلم يحج بيت الله
الحرام ، فحق لنا أن نعيد ما قلناه قى مآثر مولانا من قصيدة نشرت في المجلد الأول
من المنار وهو:
مآثر كهتون المزن هامية
…
تواترت بين مرئي ومروي
قد طوقت كرة الدنيا مناطقها
…
منها بنورٍ ولكن غير شمسي
بالكم والكيف تأبى الاشتراك بها
…
بالرغم عن هذيان الاشتراكي
تعزى إلى شخصه السامي فلست ترى
…
سوى حميدية اسم أو حميدي
***
(جمعية شمس الإسلام في طنطا)
(لحضرة الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندى الرافعي)
حضرة الأستاذ الفاضل منشئ المنار الأغر.
نظرت نظرة فى الوجوه فإذا هي تضحك وتعبس وتنكر وتعرف ، وإذا منها
الكاشر نابيه والمرائي بعينيه والمصيخ بأذنيه ، بينما هذا يفتقد الخطوب لتعم
الكروب إذا غيره يرتق الحوادث لتزول الكوارث ، تحالف وتخالف ، وتآلف
وتجانف ، ومحبة وبغضاء ، كأنهم لأنفسهم أعداء ، حتى عميت عليهم المذاهب ،
وانسدت أمامهم المهارب ، فأعدت النظر فإذا منهم جاهل شرب السم ثقة بالعقاقير
لا يشرب السم الزعاق أخو حجى
…
وثوقًا بدرياق لديه مجرب
فتركت العين وما تراه ، والأمر وما وراه ، حتى خفتت جنادب الذهول
وسمعت القرآن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) فاطمأن الخاطر ، وقر الناظر ، وما عتم الصدر أن
رحب حتى ضاق ، وكشفت الحقيقة عن ساق وسمعت النداء ، كيف الاهتداء وقد
ترك الأمر بالمعروف ، وأصبح المنكر مألوف ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(الدين النصيحة) - فما زال الهاجس يتردد في الفكر ، والانفعال يتلجلج في
الصدر ، حتى غلبت سطوته ، وقوية شوكته ، فاستنجدت بالعلم ، وسألته بيان الحكم ،
فقال: لا يهولنك اختلاف الناس في الوسائل والذرائع ، فإنهم متفقون على اجتناب
المضار ، وجلب المنافع.
والرب واحد ، والأب واحد ، والدين واحد ، والكتاب واحد ، والضر واحد ،
والنفع واحد؛ أفلا يكونون كرجل واحد؟ فقلت: الأمر كما قلت ، ولكن
صددت فأطولت الصدود وقلما
…
وصال على طول الصدود يدوم
فقال: قد خانك العقل ، وفاتك النقل {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر:
53) ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) هنالك نظرت
المسلمين فرأيت من ذكر قد سقط في يده ، وفت في عضده ، وأقلع وأناب ، ورجع
وتاب ، فأعلنت في الناس أن يجتمعوا لينتفعوا ، وجعلت المقر مسجد البهي قدس
الله سره ، والميعاد مساء الخميس ، ثم كتبت ورقة عليها (جمعية السنة الإسلامية)
وأعطيتها لإنسان ، فأقبل في البلد وأدبر ، ونادى فحشر ، وما أزفت الساعة الثانية
بعد الغروب حتى غصت مشاعب المسجد ، وأقبل الناس من سائر الأجناس ،
وازدحمت سفن الأقدام ، وتلاطمت أمواج المناكب ، وأذن الله أن أقوم فنهضت ،
وأن أتكلم فخطبت. هنالك انحنت الرءوس وائتلفت النفوس ، ودمعت العيون ،
وخشعت الأصوات {وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ} (طه: 111) وصفْتُ الإسلام
في الغابر والحاضر بما روض الصعب وجذب النافر ، وما جلست حتى نهض
حضرة الأديب والشاب النجيب محمود أفندي الشبيني فأطرب وأغرب ، وجاء بما
أثار الحنين وعضد اليقين. نثر أزهار الكلام ، ونظم نصائح الإسلام ، وقد كانت
الخطابتان من الطول بحيث لم يبق مجال لأحد أن يقول ، وقد اتفقنا على أن تكون
هذه الجمعية من شعاع شمس الإسلام ، لعل الثبات يطير إلينا طيران السهم ، ويطلع
علينا طلوع النجم ، فما جواب حضرة الأخ على ذلك لأخيه.
…
...
…
...
…
... طنطا في 18 محرم سنة 1318
(الجواب) شكر الله أيها الأخ مسعاك ، وجزاك عن نفسك وعن ملتك وأمتك
خيرًا ، ومرحبًا بك وبهذه الجمعية التي أنشأتها ، وقد تقبلتكم جمعية شمس الإسلام
بقبول حسن ، ورضيت مع الابتهاج والسرور بأن تكونوا فرعًا لها عسى يتحقق
فيها وفيكم مثل التنزيل {شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) وينبغي أن تسمى باسم الأصل أيضًا كما هو الشأن في جميع
الفروع ، وتصل إليكم في البريد مجلة الجمعية فراعوا أحكامها واعملوا بها ، وما
هي إلا التعاهد والتآخي على التأدب بآداب الدين والعمل بهدي الكتاب والسنة ،
واعلموا أن من يحمل المسلمين على غير هذا ويزعم أنهم يرتقون بما عداه فهو إما
جاهل وإما غاش ، فلا شأن لجمعيتنا بالسياسات ولا بالحكومات ، وإنما تدعو
المسلمين إلى الحب والصدق والأمانة والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، ومن الآداب التي يمتاز بها أعضاء الجمعية على غيرهم مجاملة
مجاوريهم من المخالفين لهم في الدين واحترامهم وعدم غمط حق من حقوقهم ،
ولا يقبل في الجمعية فاسق إلا إذا تاب وأناب ، وأرجو أن أوفق لزيارتكم
عن قريب.
***
(إبطال مولد أبي العيون)
شرحنا في مقالات كثيرة مفاسد الشيوخ الذين جعلوا التصوف حرفة من حرف
الكسل ، وما يتخذون لذلك من الأسواق المعروفة بالموالد. ومن هذه الموالد التي
تقام في الصعيد مولد الشيخ أبي العيون وقد اشتهر عن الشيخ الذي يقيمه أمور لا
نشرحها لأنها تتعلق بشخصه ، وقد استأذن في هذه الأيام من سعادة المفضال الهمام
حشمت باشا مدير أسيوط بإقامة المولد فأصدر سعادته أمرًا رسميًّا بإبطال هذا المولد
لعلمه بما فيه من المنكرات والفواحش التي يعم ضررها ويفسد جو الصعيد الطيب
قذرها ، فانطلقت ألسن العقلاء والفضلاء بالدعاء والثناء على سعادته ، وقد كتب
إلينا من يوثق به هذا الخبر مؤكدًا بأنه ليس في جانب منكرات مولد أبي العيون
فائدة تجارية ولا غير تجارية ، فعسى أن يكون في هذه المأثرة التي صدرت عن
سعادة المدير عبرة عامة للمغترين بصاحب هذا المولد من العامة الذين يسمحون له
بغشيان منازلهم في حضورهم وغيبتهم ، ويبيحون له الخلوة بالنساء لأجل التبرك به
وليعلم هؤلاء أن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم كان يكلم إحدى أزواجه
الطاهرات في باب المسجد فمر رجلان فأسرعا في المشي فناداهما وقال لهما: إنها
فلانة. وقد قال العلماء: إن من الفائدة في هذا تنبيه المسلمين إلى أنه لا يجوز
لرجل أن يخلو بامرأة مهما كان صالحًا.
***
(سفر الأمير)
ترجح أنه في يوم السبت الآتي يسافر سمو الأمير المعظم بالسلامة إلى أوربا
قاصدًا زيارة جلالة ملكة الإنكليز ، وهذه الزيارة من الحكمة بمكان يعرفه أصحاب
العقول الراجحة ، والآراء النافذة ، ويذهب كثيب من هؤلاء إلى أن هذه الزيارة لو
سبقت هذا الوقت بسنين لكانت أكثر نفعًا وفائدة لمصر والمصريين فنسأل الله تعالى
أن يجعل من رفقاء الأمير في سفره الحفظ والسلامة ، ويمنحه كمال التوفيق في الترحال والاقامة.
***
(فوز الإنكليز في الحرب الحاضرة)
عاد الفوز المنتظر للإنكليز إليهم فقد استولوا على كرونستاد ولندلي ، وعندما
دخلوا عاصمة الأورانج الجديدة لم يجدوا الرئيس (ستين) فيها وأنقذوا مدينة
مافكنج من الحصار ويصح أن يقال: إنهم دوخوا الأورانج ، وما عليهم بعد هذا إلا
تدويخ بلاد الترانسفال وهذا يحتاج إلى زمن طويل؛ لأن هذه البلاد أكثر استعدادًا ،
وأهلها أقوى جلادًا، وربما يكون الصلح قبل ذلك ، فقد أنبأنا البرق أن حزبًا ينشأ في
بريتوريا لأجل طلبه ، والمنتظر أن تجيب الملكة طلب الصلح في عيد مولدها الذي
يحتفل به في يوم الخميس الآتي (14 مايو) .
***
(العفو التام عن سعادة محمود باشا سامي البارودي)
نهنئ الفضل والأدب ، والمجد والحسب ، بصدور الأمر العالي الخديوي
بالعفو التام عن هذا الرجل المفضال الذي كان في الفتنة العرابية كما جاء في المثل:
(مكره أخاك لا بطل) وقد نكب فيها بما لم ينكب به أحد سواه. وقد عادت إليه
بهذا العفو - الذي صادف محله - رتبته العسكرية (فريق) ووساماته وحقوقه
المدنية كلها فلله الحمد ولمولانا العباس الثناء والشكر.
***
(فرنسا ومراكش)
أرسلت فرنسا سريةً عسكريةً إلى واحة طوات على حدود المغرب الأقصى ،
فوجل أهله لذلك ، وهاجت القبائل ، وأمر السلطان عبد العزيز بإرسال الجنود إلى
تلك الحدود ، ويظهر أن فرنسا تريد التحرش لأجل التعدي على تلك البلاد بالحجج
التي نعرفها من الأوربيين فقد قال هافاس في برقياته من ثلاثة أيام: إن الخواطر
هائجة بين قبائل الغرب الأقصى التي في الحدود الجنوبية من بلاد الجزائر فلذلك
عززت الجنود الفرنسوية هناك! !
***
(المؤتمر الإسلامي في باريس)
تريد فرنسا بمناسبة المؤتمر إنفاذ غرضها السياسي بجمع العلماء المسلمين
في باريس للغرض المعلوم ، ويظهر أن محاولة سعادة صاحب الأهرام الاتصال
بفضيلة شيخ الجامع الأزهر يراد بها السعي في هذا الأمر الذي لا نظنه ينجح فيه.
من إدارة المنار
نرجو من القراء الكرام الذين لم يدفعوا لنا قيمة الاشتراك عن السنة الثانية
(وقليل ما هم) أن يقدموا لنا حوالة على إدارة البريد أو طوابع بريد؛ لأننا لم نظفر
بمحصل أمين بعد خيانة من سبق ، وبهذا يحق لنا أن نفتخر بجميع قراء المنار ،
وأنهم من الخواص الأخيار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الترك والعرب
(2)
بينا في المقالة السابقة أن المزية التي امتازت بها دولة الترك العثمانية على
كل دولة عربية هى بقاء دولتهم وثباتها زمنًا يناهز زمن دول العرب كلها أو يزيد ،
وأوضحنا الأسباب في ذلك ملمين بأسباب تنازع الدول العربية في السلطة ، وأنهم
على تنازعهم وتخاذلهم كانوا أوسع فتوحًا وأكثر نشرًا للإسلام ونصرًا للدين من
الترك ، ووعدنا بأن نقابل بين الفريقين ونفاضل بينهما في العلوم والمعارف
والمدنية والعمران ، وها نحن أولاء منجزو موعدنا فتدبر ما نكتبه تدبرًا.
من أحاط خبرًا بحال الشعبين في هذه الأيام ، ولم يكن عارفًا بتاريخهما
الماضي ، ولا واقفًا على علل الأحوال الحاضرة وأسبابها؛ يحكم بأن الترك أقرب
إلى المدنية من العرب لأنهم أرقى منهم في الفنون والعلوم العصرية ، وما ينشأ عنها
من الصناعات ، وما يتبع ذلك من مظاهر الجمال والجلال والبهاء والكمال ، فإذا مدَّ
عينيه بعد هذا إلى مناشئ الأمور وعللها رأى أن المال المخصص للمعارف
في الدولة ينفق في الأستانة العلية وما يليها من بلاد الترك إلا نزرًا يسيرًا يصرف
إلى ما يتصل بها كسوريا فهو كالرشاش يصيب الأرض المجاورة لمكان مرهوم أو
ذي صيّب لا يروي غليلاً ولا يغني فتيلاً ، وإذا رأى هذا وعرفه يرجع عن حكمه
لا محالة ، وإذا هو رجع القهقرى في التاريخ إلى أيام دول العرب ، وشاهد ما كان
منهم من العلم أيام لاعلم إلا علمهم ، والصناعة حيث لا صناعة تعلو صناعتهم
والزراعة أزمان لا زراعة كرزاعتهم ، والتجارة حيث لا أحد يجاريهم في تجارتهم؛
يتجلى له أن قابليتهم للكمال أقوى ، واستعدادهم للمدنية أعلى ، وعقولهم في العلم
أرقى ، وهمتهم في العمل أعلى فإنهم أوجدوا مدنية لم تكن ، وأحيوا علومًا كانت
مدفونة في مقابر مكاتب الرومان وغيرهم ، ونفخوا في العالم الإنسانى روحًا جديدًا
كان مبدأ الانقلاب الأعظم في تاريخه وأفاضوا على أرضه الميتة صيب الحكمة
والجد والعمل؛ فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، وأما الترك فلم يظهر
فيهم أيام عزهم وقوتهم شيء من ذلك مع أن لهم سلفًا فيه ، وقد غمرتهم في هذه
الأيام المدنية الأوربية ، وجاءتهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن
شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين؛ لا تكاد تجد منهم مكتشفًا ولا مخترعًا ولا تكاد
تجد فيهم صاحب مذهب في الأصول العلمية ، ولا صاحب رأى في المذاهب
الفلسفية ، ولا تكاد تجد فيهم شركات صناعية أو تجارية تضرب في الأرض ابتغاء
الثروة والكسب.
إلا أنني أعيد القول بأنهم أرقى من العرب في هذه الأيام لما ذكرت من
الأسباب لا لأن استعدادهم أقوى ، وأعيد القول بأن الغرض من المقابلة والمفاضلة
بينهم وبين العرب بيان الحقيقة وخدمة التاريخ ، وحث الشعبين على أن يكونوا
شعبًا واحدًا يخدم الوحدة الاسلامية التي يجب أن تكون فوق كل جنسية ، بل أن
تتلاشى فيها كل جنسية ، وأن يسعى عقلاء الفريقين في التأليف والتوحيد فإن الترك
يظهرون احتقار العرب حتى إن لفظ (عرب) من ألفاظ الشتم في لغتهم ، والعرب
يعتقدون أن الترك تحرّوا محو آثار المدنية العربية من بغداد وغيرها متعمدين ، وقد
انتهى بهم سوء الظن إلى الاعتقاد بأن الجامع الأموي ما أحرقه إلا الأتراك؛ لأنه
من الآثار العربية التي يفتخر بها.
ولو أردنا أن نفيض في هذا الموضوع ونشرح بعض ما يتحدث به الناس من
ذلك في سوريا وغيرها لقضى المصريون منه عجبًا. ومن ذلك أن قاضيًا تركيًّا
جاء الشام فمكث فيها عدة سنين معظمًا مبجلاً محترمًا مكرمًا ، وعندما نقل منها قال
لأخص أصدقائه عند الوداع: أدعو الله أن ينزع بغض العرب من قلبي فإننى ما
رأيت منكم إلا كل لطف وكمال.
ومما هو مستفيض عن جهلائهم أنهم ينكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم
عربي ، ويزعم بعضهم أنه قال:(أنا عربي وليس العرب مني) ولم يعرف أنه
كان مثل هذا بين العرب وبين غير الترك من الأعاجم الذين استووا على عروش
السلطة في البلاد الإسلامية ، وهذه دولة الفرس الحاضرة لم ينقل عن أهلها أنهم
يبغضون العرب أو يحتقرونهم لأنهم عرب ، وإن من الأعاجم من يعتقد أن العرب
أفضل من جميع الأجناس لأن النبي الأعظم منهم ، والقرآن بلسانهم ، وهم الذين
نشروا الدين وأيدوه ، ومن هؤلاء الأفغان الذين يتعصبون لجنسهم أشد التعصب ،
ويرون أن الأفغانى هو أفضل الناس لأنه أفغاني ، ولكنهم يستثنون العرب.
يا قوم إن ربكم يقول لكم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92)
ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ
فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103)
ويقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) وجاء في السنة الصحيحة: (لا تنازعوا
ولا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانًا ، المسلم أخو المسلم
لا يظلمه ولا يحقره) .
يا قوم إن في تاريخ مَن قبلكم أعظم عبرة لكم. ألم يقص عليكم ما أصاب
الأمة من تنازعهم على الخلافة والملك ومن اختلافهم وتفرقهم في الدين؟ أصابهم
شر عظيم قذف بهم من القمة إلى الهاوية ، وخزيت الأمة كلها بخزي رؤسائها في
الدين والدنيا.
ولما تجددت لها دولة قوية وهي (الدولة العلية) أعزها الله تعالى لم تسْعَ في
إبان قوتها في رتق الفتق ، ولم تعمل لاستئصال جراثيم الفتن السابقة واصطلامها؛
لأنها كانت دولة قوة وبأس لا دولة علم وحكمة ، وما كان بين المسلمين وما هو كائن
لا يمحوه إلا العلم الاجتماعى ، وهو ما كان ضعيفًا أو معدومًا في دولهم العلمية فما
بالك بغيرها؟ ما محا الترك سطور التعصبات الماضية ، ولكنهم زادوا في الطنبور
نغمة: وهى التعصب للجنس الذي محاه الإسلام من أعرق الأمم وأشدها فيه وهي
الأمة العربية. ثم قام في هذه السنين فى مصر من زاد في الطين بلة فأحدث في
الإسلام بدعة التعصب للوطن والافتخار بلفظ الوطنية. فبهذه المُدى تُقطع روابط
الإسلام ويمزق أهله كل ممزق ، والآخذون بها هم الذين يذفِّفون على المسلمين
ويحولون بين عقلائهم وبين ما يشتهون من الوحدة الإسلامية ، ومن العجيب أن هؤلاء
الأغرار يغشون الناس في مصر بأنهم من أنصار الدولة العلية والمخلصين لها وليست
الدولة من سلالة الفراعنة ولا من أبناء وادي النيل الذي يتعصبون له ، ويحملون
الناس على مناوأة كل من ليس من أهله ، ومنهم من يجاري الناس في هذه الأيام بذكر
(الإسلام) و (الجامعة الإسلامية) وكيف تتكون الجامعة الإسلامية إذا كان المسلم
المصري يعادى المسلم الشامي والمغربي والحجازي وأولئك يعادونه أيضًا؟ نسأل الله
البصيرة والهداية لهؤلاء الأغرار لعلهم يرشدون.
ونحمد الله أن مولانا السلطان الأعظم عبد الحميد الثانى أيده الله تعالى هو
الملك الثانى (والأول هو السلطان سليم ياوز) الذي عقل مضرة التعصب للجنس
ولولا شدة عصبية الأتراك لقلب الأوضاع ، وغير ما عليه الدولة من نظام
الاجتماع ، وكلنا على علم بحزب (تركيا الفتاة) الذي تألف لمقاومة ذاته الكريمة؛
لأن سياسته غير مرضية عندهم. وقد شغل فساد هذا الحزب الضار أفكار جلالته
فأخذ جزءًا غير قليل من وقته الثمين ، ولولاهم لصرف في مصلحة الدولة والأمة
ورأيت أيضًا غير واحد من عظماء الأتراك سياسته إسلامية لا تركية ولا وطنية ،
ومنهم دولة الغازى مختار باشا الذي كنت أسمع من الناس أنه كان في اليمن يسير
سيرة تركية ، وأن العرب هناك لاقوا من تعصبه أضعاف ما يقتضيه التأديب
وتستلزمه المصلحة. ولكننى لما اتصلت بدولته في مصر ، وذاكرته في شئون
الدولة العلية والإسلام كذب الخبر ، وعلمت أن سياسته إسلامية ، وإن شئت قلت
سليمية (نسبة للسلطان سليم عليه الرحمة) إلا أن يكون هذا الرأي قد حدث عنده بعد
ذلك ، وعلى كل حال نسأل الله تعالى أن يكثر من أمثال هؤلاء العقلاء الفضلاء في
الدولة العلية عسى أن تتوحد الأمة بسعيهم ، وتتكون الجامعة الإسلامية باهتدائهم
وهديهم وما ذلك على الله بعزيز.
(سيأتي الكلام على مدنية العرب بخصوصها)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم النافع
لا ترتقي أمة من الأمم دفعة واحدة ، وإذا أراد الله بقوم خيرًا يعطي أفرادًا
منهم عقولاً كبيرة ، ويهيئ لهم اكتساب العلوم النافعة ، ويبصرهم بالمصالح وطرق
الوصول إليها ، ويوفقهم للتصدي للإرشاد ، ثم يلهم قومهم احترامهم ، والأخذ بهديهم
وإرشادهم؛ فينتشر بذلك الإصلاح فيهم ، وإذا أراد الله بقوم سوءًا يُبغِّض إليهم
كل من ينبغ فيهم وينبري لانتياشهم مما هم فيه من الشقاء والعناء متوهمين أنه
مبطل فيما يدعو إليه؛ لأنه مخالف لما هم عليه من العادات والتقاليد ، ويقول
سادتهم وكبراؤهم: لو كان ما يدعو إليه خيرًا ما سبقنا إليه] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ [أي ما جاء به محمد {خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحقاف: 11) . هكذا كان، وهكذا يكون والتاريخ شاهد
صادق وحاكم عادل ولكن الأمم في طور الجهالة لا تعتبر بالحوادث ، ولا تتأدب
بالكوارث.
خير الإصلاح إصلاح التعليم ، وخير التعليم ما كان على الطريقة العملية
حتى إن الأمم المرتقية لم تعد تعتبر نجاح التعليم ببراعة التلامذة في الامتحان بل
إننا نسمع كل يوم صياح المنتقدين من علماء البيداجوجيا (التعليم والتربية) قائلين:
إن جعْل النجاح في الامتحان وأخذ شهادة العالمية بأنواعها هو الغاية من التعليم
التي تتوجه إليه نفوس المتعلمين - خطأ عظيم وضرره على البلاد جسيم؛ لأنه
يجهد العقل فيما لا يعود بالفائدة على البلاد ، وإنما غاية التعليم إنتاج رجال قادرين
على الأعمال النافعة ومباراة الأمم الحية ومسابقتها في ميدان الحياة ، وحق ما قالوا
والعبرة أمامنا ، فإننا نحن المسلمين نرى أن خيارنا في التعليم والتعلم الإسلامي أهل
الأزهر الشريف ، ولنفرض أن الأمة أصبحت كلها أزهرية فهل يكون ذلك كافيًا
لنجاحنا وارتقائنا ومجاراتنا للأمم العزيزة القوية؟ كلا ، إننا نرى أهل هذا المكان
أبعد الناس عن معرفة أحوال الأمم التي تنازع المسلمين البقاء ، وهذه المعرفة هي
التي تنفخ روح الغيرة في النفوس ، وتبعث العارفين على المنافسة والمباراة لا سيما
إذا أخذت على الوجه العملي المفيد ، بل إننا نراهم أبعد الناس عن الأعمال النافعة
لأشخاصهم والمقومة لحياتهم ، وليس هذا عن زهد اختياري يقصدون به التقرب إلى
الله - تعالى - فإنهم يتهافتون على الرغيف، ولو أن أميرًا أو غنيًّا صاح بهم أن
اخرجوا من هذا المكان إلى عمل كذا - وكان العمل مما يخف عليهم - ولكلٍّ منكم علي
حق معلوم في كل شهر أدناه ثلاثة جنيهات وأعلاه عشرة كاملة، لما بقي في الأزهر
من الثمانية آلاف ثمانون رجلاً.
يتناقل الناس في غير هذا القطر عن أهل مصر أنهم يحتقرون طلاب العلم في
الأزهر الشريف ، وأن لفظ (مجاور) يكاد يكون عندهم من ألفاظ السخرية والشتم ،
وقد وجدنا لما كنا نسمعه أصلاً ، وإننا نقر من يغمز المصريين بهذا على غميزتهم ،
ولكننا لا نغفل عن العلة الحقيقية في ذلك وهي أن أكثر المجاورين لا يكرمون
أنفسهم (ومن لم يكرم نفسه لا يكرّم) وليس بيان هذا من موضوعنا الآن فنرجئه
لفرصة أخرى ، وأذكر ههنا مثالاً في التعليم النافع نقله المقتطف الأغر عن الجرائد
الأميركية ، وهو أن عبدًا أسود اسمه (بوكر واشنطون) كان خادمًا ثم تعلم ، ثم
أنشأ مدرسة للعلوم والصنائع بجِّده وكده ، وهاك مجمل خبره تحت هذا العنوان الذي
يليق به ، وهو:
هل يوجد في مصر أمير كهذا العبد الأسود
كان بوكر واشنطون أولاً في خدمة امرأة فاضلة فرأت رغبته في تعلم القراءة
فجعلت تُعلمه في دقائق الفراغ من الخدمة ، وسمع يومًا أن الجنرال أرمسترنغ أنشأ
مدرسةً في مدينة اسمها همتون يتعلم فيها أولاد السود، ويعملون فيكتسبون ما يقوم
بنفقات تعليمهم. قال: (ولما سمعت ذلك عزمت على الذهاب إلى هذه المدرسة ،
ولم يكن معي شيء من النقود ، ولا كنت أعرف الطريق إليها فقمت من ساعتي
وجعلت أستدل على الطريق وأستعطي أو أعمل لكي أكتسب ما أسد به الرمق ، فإذا
اكتسبت فوق ذلك دفعت أجرة سكة الحديد ، وإلا مضيت ماشيًا ، وبلغت مدينة
رتشمند ليلاً ، ولم يكن معي شيء من النقود ، ورأيت ألواحًا مبسوطة في شارع
وتحتها حفرة ، فانتظرت حتى انقطعت رجل السابلة من ذلك المكان ودخلت تحت
الألواح ونمت تلك الليلة ولحسن بختي وجدت عملاً في اليوم التالي في تفريغ شحن
سفينة ، ودام هذا العمل عدة أيام ، وكنت آتي كل ليلة وأنام تحت تلك الألواح ،
فوفرت من أجرتي ما دفعت من أجرة سفري إلى همتن وبقي معي نصف ريال) .
ولما وصل إلى المدرسة ورأى أساتذتها حالته الزرية أعطوه مكنسة ، وبعثوه
إلى غرفة وأمروه أن يكنسها أربع مرات متوالية ، ولما رأوا منه ذلك قبلوه في
مدرستهم. قال: وهذا كان الامتحان الذي امتحنوني به فدخلت المدرسة ، ورأيت فيها
وفي مدينة همتن من أسباب التعليم والتهذيب ووسائل النجاح والفلاح ما أيقظ كل قوى
نفسي ، وجعلني أشعر بأني مولود لأكون إنسانًا لا لأكون من بعض المقتنيات ،
وعزمت أن أمضي إلى الولايات الجنوبية التي يقيم فيها السود حالما تتم دروسي ،
وأبذل جهدي في إنشاء شيء لقومي يستفيدون منه كما استفدت أنا من مدرسة همتن ،
ولما أتيح لي ذلك مضيت إلى بلدة تسكجي في ولاية ألاباما ، وجمعت ثلاثين ولدًا كنت
أعلمهم في كوخ صغير ، ولم يكن لهذه المدرسة ما قيمته ريال واحد من العقار لكن
الرغبة في السعي ، والسعي في الكسب خوَّلاني إنشاء مدرسة كبيرة للعلوم والصنائع
فيها الآن ثمانٍ وثلاثون دارًا وألف تلميذ.
وكثيرًا ما يسألني البعض عن الغرض من جمع المال لهذه المدرسة فأجيب أن
في الولايات الجنوبية الأميركية عشرة ملايين من السود أبناء جنسي ، وهم
يحتاجون إلى المأكل والمشرب والمأوى ، ويحتاجون أيضًا إلى التعليم والتهذيب
وإلى تربية الأخلاق التي تتخلق بها الشعوب المرتقية ، ولا يسهل الوصول إلى
هؤلاء الملايين إلا بأن نرسل إليهم أناسًا من نخبة الرجال والنساء المتعلمين
المتهذبين الذين تدربت عقولهم على الشفقة ، فيسكنوا بينهم ويعلموهم ويهذبوهم ،
والغرض من المدرسة التي أنشأتها إنما هو إعداد هؤلاء الرجال والنساء لهذا العمل
العظيم.
قال المستر ثرشر الذي نقلنا عنه هذه الحقائق: لما أتيت تسكجي أول مرة
مررت في ولاية جورجيا ، وكان معي في القطار رجل يستدل من كلامه على أنه
كان قائدًا في جيش الولايات المتحدة وقت حرب الحرية فسألني عن الجهة التي أنا
ذاهب إليها فقلت له: إني ذاهب إلى تسكجي لأحضر مؤتمر السود ، فقال:
(أظنك تقابل بوكر وشنطون هناك لقد اهتدى هذا الرجل إلى السبيل الذي يفيد به
أبناء جلدته ، فإنه يعلّم السود العلم ، ويا حبذا لو كان في الولايات الجنوبية ألف
رجل مثله) ثم علمت بعد ذلك أن الرجل الذي كان يكلمني من أصحاب الثروة في
تلك البلاد.
وفي اليوم التالي بعد المؤتمر قابلني رجل من السود وقال لي: ألست أنت
فلانًا؟ أو لم تكن في معرض شيكاغو؟ فقلت: بلى، ومن أنت؟ فقال: ألا تتذكر
أنك رأيتني في المعرض أعمل في المكان الفلاني؟ فقلت: بلى إني أتذكرك الآن ،
وما أتى بك إلى هنا؟ فقال: ذهبت في السنة التالية إلى معرض أتلنتا وسمعت المستر
وشنطون هناك يتكلم عن مدرسته التي يتعلم فيها أولاد السود الصنائع، وأنا في
صناعتي نجار ، ولكنني لا أعرف حرفة النجارة فأتيت إلى هنا لكي أتعلمها ، وقد
كدت أتقنها الآن ، ومتى أتقنتها سهل علي الكسب.
قال الكاتب: ولما أردت العودة من تسكجي دخلت مركبة البريد لأضع كتابًا
فيها ، وكان على غلافه اسم مدرسة تسكجي فلما رآه كاتب البريد قال لي: (إن
بوكر وشنطون رئيس هذه المدرسة رجل عجيب فإني لم أره قط ولكني أعلم أنه
يعلّم الناس العمل) وكنت كيفما التفتُّ أرى الشهادات تتكرر على نفع العمل الذي قام
به هذا الرجل ، وأي عمل أنفع من أن تعلم الرجال والنساء مبادئ العلوم والفنون ،
وتجعلهم يقرنون العلم بالعمل ، ولا تضطرهم إلى دفع درهم بل تكسبهم من عملهم
ما يقوم بنفقاتهم ونفقات تعليمهم.
قلنا: إن في مدرسة تسكجي ثمانيًا وثلاثين دارًا: الثلاث الأولى منها وهي
أصغرها بنيت قبلما دخلها التلامذة ، والخمس والثلاثون الباقية بناها التلامذة أنفسهم
فهم كانوا يصنعون الآجُرَّ (الطوب المشوي) ويشوونه بإرشاد معلمين ماهرين
في هذه الصناعة ، ولم يكتفوا بعمل الآجر اللازم لهذه المباني ، بل عملوا كثيرًا منه
وباعوه للغير ، وقد وصف المستر واشنطون هذا كيفية إقدامه على قرن العلم بالعمل
في محفل حافل قال:
(بعد أن مضى علي مدة في تسكجي رأيت كأن تعبي ضائع سدًى؛ لأنني
كنت أقتصر على تعليم الطلبة ما في الكتب من غير أن أعلمهم كيف يعتنون بأنفسهم
وبمن لهم ، ثم وقعت عيني على أرض قرب تسكجي وددت أن أشتريها ، ولم يكن
معي ثمنها فقرضني واحد مائة ريال اشتريتها بها ، ونقلت المدرسة إليها ، وكنت
أعلم التلامذة جانبًا من النهار ، وأخرج معهم في الجانب الآخر منه نقطع الأشجار
من تلك الأرض ونمدها ، ولما عملنا الآجر لم أكن أعلم كيف يشوى ، ولم يكن معي
ما أدفعه أجرة لصانع ماهر في شيِّه فأخذت ساعتي ورهنتها على نقود استأجرت بها
الصانع ، فعلمنا كيفية شيِّه ، ولم أستفِكَّ هذه الساعة حتى الآن مع أننا بنينا ثمانية
وثلاثين بناءً كبيرًا بما تعلمناه منها) .
والتلامذة في هذه المدرسة أو المدارس يتعلمون الآجر والبناء والنجارة على
اختلاف فروعها ، وفيها الآن معامل كبيرة مجهزة بكل ما يلزم لها من الآلات
والأدوات ، وأكثر ما فيها من مكاتب وكراسي وأسرّة صنعه التلاميذ أنفسهم في هذه
المعامل ، وصنعوا أيضا مركبات النقل على أنواعها ، والبناء دائم هناك حتى يكون
للتلامذة عمل يعملونه ، وقد بنوا كنيسة كبيرة في العام الماضي تسع ألف نفس
رسمها واحد من الأساتذة ، وهو مدرّس المباني الهندسية ، ورسم أطنافها واحد من
التلامذة ، ومقاعدها تلميذ آخر ، والتلامذة هم الذين وضعوا الحديد على سقفها ،
ووضعوا فيها آلة بخارية لتدفئتها ، وآلة كهربائية لإنارتها.
ويتعلم التلامذة تصليح الآلات على أنواعها ، ولا سيما الآلات الزراعية ،
وفي المدرسة معمل كبير لذلك ، وهم يصلحون فيه آلات كثيرة لأهالي البلاد
المجاورة ، ويتعلمون أيضًا الحدادة والطباعة والخياطة والتصوير ، ويتعلم البنات
الأعمال الخاصة بالنساء كالطبخ والغسل والخياطة وعمل البرانيط ، ويتعلم بعضهن
تمريض المرضى. ومن أهم ما يتعلمه التلامذة ويمارسونه علم الفلاحة ، وكل
الأساليب العلمية المتبعة الآن حيث صارت الزراعة على أرقاها ، وأساتذتهم من
أمهر الأساتذة في هذا الفن ، وعندهم كثير من البقر الحلوبة ، وهم يستخرجون
الزبدة من لبنها ، ويصنعون منه الجبن.
ذكر المستر وشنطون حادثةً جرت لأحد تلامذته قال: أعلن أصحاب معمل
من معامل الزبدة أنهم يحتاجون إلى مدير لمعملهم وكان في مدرستنا شاب أتقن
استخراج الزبدة ، وأتم دروسه في المدرسة ، فمضى إلى هذا المعمل وعرض نفسه
على أصحابه ، فلما نظروا إليه قالوا له: لا يمكننا أن نستخدم رجلاً أسود ، فقال
لهم: إنني لم آتكم لتستخدموا لوني ، بل معارفي، فجربوني واحكموا، فنظروا في
الأمر قليلاً ثم قالوا له: ابق عندنا أسبوعين ، ولكن يجب أن تعلم من الآن أننا لا
نريد أن نستخدم رجلاً أسود ، فأقام عندهم الأسبوع الأول ، ولما عرضت زبدتهم في
السوق دفع في الرطل منها ثمن يزيد نصف غرش على ما كان يدفع عادة فاستغربوا
ذلك ، وقالوا: لنرَ ما يكون في الأسبوع الثاني ، فلما عرضوا زبدته للبيع دفع في
الرطل منها ربع غرش زيادة عما دفع في زبدة الأسبوع الأول فسروا بهذا الربح ،
وأقروا الرجل في منصبه ولو كان أسود فاحمًا.
والمؤتمر المشار إليه آنفًا أنشئ في تسكجي منذ عشر سنوات ، أنشأه المستر
وشنطون للسود لكي يتذاكروا فيه بما يعود عليهم بالنفع ، وحضره أول سنة نحو
عشرين رجلاً ، لكنهم رأوا من فائدته ما ضاعف رغبتهم فيه ، فصار عدد الحضور
الآن ألفين رجالاً ونساء ، وهم ليسوا من العلماء ، ولا كلهم من الذين يعرفون
القراءة والكتابة لأن أكثرهم كانوا عبيدًا وقت حرب الحرية ، حتى إن واحدًا منهم
وقف مرة وقال: إن ذلك اليوم (يوم اجتماع المؤتمر) هو اليوم الوحيد الذي دخل
فيه المدرسة.
أما المواضيع التي يبحثون فيها فمما يتعلق بهم خاصة ويتوقف عليه نجاحهم
أو فشلهم مثل الاقتصار على زراعة القطن ، ورهن الغلة قبل جنيها ، والاكتفاء
باستئجار الأطيان ، وقلة الاهتمام بابتياعها ، وما في ذلك كله من الخسارة عليهم ،
ومثل الضرر الناتج عن الإسراف والزينة الباطلة ، وابتياع ما ليس بهم حاجة إليه
ونحو ذلك من المواضيع. ويرأس المستر وشنطون اجتماعاتهم ويديرها بحكمة
ومهارة ، حتى لا تضيع دقيقة من الوقت سدى ، ولا يبقى هذا المؤتمر إلا يومًا
واحدًا.
قال الكاتب: وقد رأيت في أحد هذه الاجتماعات أمرًا يستحق أن يكتب بالتبر
على صفحات الأيام؛ رأيت امرأة خلاسية وقفت في الجمع ، واستأذنت في الكلام
وقالت: (أخبرنا الأخ وشنطون في العام الماضي أن الإنسان الواحد يستطيع أن
يقوت عائلة من ثلاثة أفدنة من الأرض ، وشرح لنا كيفية ذلك ، وقال: إنه ميسور
للمرأة كما هو ميسور للرجل فعزمت أن أمتحن قوله ، واستأجرت ثلاثة أفدنة ،
واستأجرت أيضًا من حرثها لي ، ووقفت على يده حتى رأيت الأرض حرثت حرثًا
عميقًا جدًّا كما يجب أن تحرث ، وسمدتها وزرعتها) ثم وصفت طريقة الاعتناء
بزرعها ، وذكرت النفقات التي أنفقتها ، ومقدار الغلة التي استغلتها منها وقالت:
(إن الغلة كفتني وكفت عائلتي سنة كما قال فثبت قوله بالامتحان) فصفق لها
الحضور طويلاً ، وهي واقفة لا تبدي علامةً من علامات الشكر لهم ، ثم رفعت
يدها يمنة ويسرة فصمتوا كلهم فقالت: (إني لأعجب منكم كيف تضيعون دقيقة من
هذا اليوم الوحيد في ما لا طائل تحته وأنتم تعلمون أن شعبًا كبيرًا على شفا جرف
هار) (ليت لنا رجلًا كهذه المرأة) .
(المقتطف)
وبمثل ذلك تنقضي هذه المؤتمرات ويرجع الحضور ، وقد استفادوا منها فوائد
جمة ، ويرى القارئ لأول وهلة أن ليس غرضنا من كتابة هذه السطور مدح رجل من
زنوج أميركا بل ذكر مثال من الأمثلة العديدة التي يبين منها ما يستطيعه المرء إذا كان
من رجال الهمة والإقدام ولو كان صفر اليدين ، والاستدلال على أن رجلاً واحدًا قد
يأخذ على نفسه ترقية أمة كبيرة فيفلح في غرضه إذا كان من أبناء تلك الأمة أكثر مما
يفلح مئات مثله إذا لم يكونوا منها ، فإن ألوفًا من الأميريكين البيض بذلوا أقصى الجهد
في تعليم سكانها السود وتهذيبهم فلم يفلحوا عشر ما أفلح هذا الرجل. وأمثال ذلك
كثيرة في الهند واليابان وكل البلدان التي سعى فضلاء الأوربيين والأميركيين في نشر
العلوم والفنون فيها فإنهم حيث استطاعوا أن ينهضوا همم الوطنيين ليصلحوا شئونهم
بأنفسهم؛ كان فوزهم عظيمًا ، وحيث بقي الوطنيون يعتمدون عليهم لم ينتج عن سعيهم
غير فوائد قليلة محصورة في بعض الذين تعلموا منهم ، ولا يفيد الأمم إلا سعي أبنائها
كما لا يفيد المرء إلا سعيه لنفسه (ومن كان أسعى كان بالمجد أجدرا) اهـ بحروفه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السنوسي وأتباعه
إن اهتمام أوربا بالشيخ محمد المهدي السنوسي وأتباعه قد جعل له شأنًا كبيرًا
في جميع العالم الإسلامي ، وقد نشرت جريدة (دي كولوني) الألمانية كلامًا عن
عالم ألماني خبير بأحوال أفريقيا عامةً والسنوسيين خاصةً، أثبت فيه أن عددهم
يبلغ تسعة ملايين، وأن في وسعهم إنفاذ جيش إلى مصر والسودان مؤلف من
خمسمائة ألف مقاتل، وذكر مجملاً نافعًا من تاريخهم عربته جريدة المؤيد عن جريدة
الميوريال وهو:
إن طريقة السنوسية مهمة جدًّا من حيث انتشارها السياسي في أفريقية
ومن حيث الكفاح القائم بين الديانتين الإسلامية والمسيحية في هذه القارة ، وقد
أنشئت هذه الطريقة منذ خمسين عامًا تقريبًا أي في عام 1855 بواحة جغبوب
وواضع أساسها هو الشيخ محمد بن علي السنوسي المولود في عام 1819 على
حدود الجزائر المتاخمة لمراكش وفي سنة 1830 بارح مسقط رأسه مشتعلاً بنار
الضغينة على الفرنسويين الذين كانوا استولوا وقتئذ على تلك البلاد ، ثم قضى بضع
سنوات بين مصر ومكة مدرسًا علوم الدين إلى أن حط الرحال في واحة جغبوب
سنة 1855 وفيها لبث زمانًا طويلاً يلقي تلك الدروس على الطلاب العديدين الذين
نسلوا إليه من كل حدب وصوب على إثر اشتهاره بالتقوى والصلاح ورسوخ القدم
في العلم ، ثم أنشأ المذهب الذي أصبح اليوم أقوى وأهم المذاهب الإسلامية في العالم
والغرض منه تنقية القواعد الدينية مما عراها من شوائب البدع والتصرفات السيئة
فيه وإرجاعها إلى بساطتها الأولى وتوطيد سيطرة الدين ونفوذه في جميع البلاد التي
كانت تابعة لحكومات إسلامية ، ثم سقطت بيد المسيحيين.
وللمذهب نظام متين وترتيبات مرعية فالإخوان فيه يتعاهدون على حفظ
أسرار أعمالهم وصيانتها صيانة مطلقة ، وعلى الطاعة العمياء لما يقرره الرئيس أو
الشيخ من الأوامر أو النواهي ، وعلى الدقة في مراعاة قواعد الدين والعمل بها.
وليس للإخوان لباس خصوصي يتعارفون به ، ولكن لهم رموزًا وإشارات
يسهل عليهم بها معرفة بعضهم البعض ، ومن أخص ما يمنعون استعماله شرب
الدخان وتناول القهوة ، ومن مبادئ المذهب التي يبالغ رجاله في رعايتها والعمل بها
إنشاء المساجد والزوايا وإلى جانبها المدارس في البلاد المتوحشة أو التي تلمَّس أهلها
طريق المدنية ، فيعلمون الأطفال فيها القراءة والكتابة والحساب ، ويوقفونهم على
طريقة زراعة النخل وشجر الزيتون ، وبهذه المعاملة الحسنة أصبح للحزب
السنوسي نصراء في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
وبواسطة هؤلاء النصراء العديدين صار في سعة الشيخ أو الرئيس أن يقف
على أخبار الأصقاع السحيقة والبلاد القصية أو يبلغ أوامره وأخباره إليها في الوقت
القصير وعلى إثر وفاة مؤسس المذهب في سنة 1858 خلفه ابنه سيدي المهدي
محمد بن محمد علي السنوسي وكان وقتئذ فتًى فتيًّا ، وهو إلى اليوم رئيس المذهب
الذي أصبح على عهده واسع النطاق منتشرًا في الآفاق، وإشارة منه تكفي الآن لإزالة
الشحناء والخصومة بين سلطانين من سلاطين أفريقية إذا قام بينهم الشقاق واستحكم
الخلاف لأمر من الأمور.
ومن الأمور التي لا ريب ولا خلاف فيها أنه إذا جاء يوم أمر فيه بالجهاد
وإثارة الحرب الدينية اهتزت لصوته أركان العالم الإسلامي التي تترامى حدوده في
أفريقية إلى مصر شرقًا، والكونغو جنوبًا حتى بحيرة شاد ، ومراكش غربًا ،
وعليه يكون حزب السنوسي قد صار قوةً من القوى السياسية التي ينبغي على كل
دولة من دول أوربا أن تعمل لها حسابًا.
وقد اشتهر سيدي المهدي محمد بالتناهي في التقوى والصلاح ورعاية أمور
الدين ، والتقشف في المعيشة ، وهو دائب السعي على توفير أسباب الوئام والاتفاق
بين الأقوام والشعوب الأفريقية رغبة منه في توثيق العلائق التجارية بينها ، وترقية
الصناعة والزراعة ، ومما زاده رفعة ، وضاعف سيطرته ونفوذه بين أولئك الأقوام
حقده الشديد على الدخلاء الأوربيين في البلاد الإسلامية.
وليس بصحيح من أن له جيشًا عظيمًا دائميًّا ودارًا لصناعة الأدوات والذخائر
الحربية ، وغاية الأمر أن حوله جماعة من أرقائه مسلحون على الدوام ، ولكن هذا
لا يمنع من أن جميع الإخوان في المذهب مسلحون بأسلحة جيدة ومستعدون لتضحية
حياتهم بمجرد إشارة منه ، وقد انتقل الحقد على الفرنسويين في الجزائر من نفس
السنوسي مؤسس المذهب إلى نفس ابنه الرئيس الحالي ، وسرت هذه الروح في
جميع أفراد الحزب بحيث أن السبب الطفيف يكفي لحصول القتال الشديد إذا زحف
الفرنسويون على قبائل الطوارق (الملثمين) أو تقدموا نحو بحيرة شاد من
الشمال.
وقد أدرك الفرنسويون خطر موقفهم بإزاء السنوسيين فحاولوا مرارًا عديدة أن
يجتذبوهم إليهم ويستدنوهم من فرنسا ولكن ذهبت مساعيهم في هذا السبيل أدراج
الرياح ، وهذا خلاف ما حصل لجلالة السلطان عبد الحميد فإنه تمكن من استجلاب
خواطر السنوسيين إليه ، وكسب مودتهم ، وإن كان يعلم أن نظاماتهم وقوانينهم لا
تعترف بجلالته خليفة للإسلام.
وقد بارح الشيخ السنوسي في عام 1896 جهة جغبوب قاصدًا واحة كوفره
الواقعة على مسيرة 12 يومًا منها في وسط صحراء ليبيا واستصحب معه أكابر
العلماء وزعماء الحزب وأخذ المكتبة الكبرى التابعة لهذا الحزب.
ولما بلغ الشيخ السنوسي خبر انمحاق المهدوية في السودان سار قاصدًا بلدة
جورون على مسيرة 12 يومًا من الجنوب الغربي لكوفره حيث قبائل بني سليمان
والمحاميد من أعظم أنصاره وأشد الناس تعلقًا به ، وقد أفادت الأخبار الأخيرة أنه
انتقل من ذلك المكان في أوائل مارس الماضي قاصدًا عين كلاكه على مسيرة ستة
أيام منه ، وربما اتخذها مقرًّا له ومركزًا تنبعث منه أشعة سيطرته ونفوذه إلى جميع
الأرجاء وسوف يرى الجيل المقبل ويسمع من أخبار هذا الحزب ما لا يخطر له
الآن على بال) اهـ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثانى
الأرمن وفتنتهم
(تابع ويتبع)
يوجد الآن (أي وقت تأليف الرسالة) حزب أرمني للفتنة يعيث في بعض
جهات المملكة العثمانية وقد أضر ضررًا بليغًا بعمل المبعوثين الدينيين في تلك
الجهات ، وبجميع المسيحيين الذين يقطنونها ، وهو جمعية سرية يبذل رجالها في
إدارة شئونها حذقهم في المكر والخديعة اللذين لا يعرفان إلا في الشرق.
نشرت هذه الجمعية رسالة ضافية في جميع الأرجاء أنقل لك منها هذا الإعلان
الذي جاء في ختامها وهو:
(هذا هو الحزب الأرمني المتولي وحده زعامة الفتنة في أرمينيا، ومركزه
أثينا وله فروع في كل قرية ومدينة من أرمينيا وفي الجهات التي يقطنها نزلاء
الأرمن ، ويوجد في أمريكا أحد مؤسسيه، وهو نيشان جرابيديان ومن أراد أن يعلم
من أمور الحزب أكثر مما قلناه فليكاتبه هناك بهذا العنوان (نيشان جرابيديان
بشارع الصهريج نمرة 15 في مدينة ورستر التابعة لماس) ومن شاء أن يستعلم
من المركز فليكتب إليه بهذا العنوان: (المسيو بنفارد في أثينا من بلاد اليونان بريد
مقيم) .
وقد أكد لي أرمني في غاية الذكاء وحسن التربية يحسن التكلم باللغتين
الإنكليزية والأرمنية وهو من أنصار الفتنة الفصحاء أن قلوبهم متعلقة بأقوى الآمال
في تمهيد الطريق لروسيا لتدخل آسيا الصغرى وتملكها ، ولما سألته: كيف يحصل
ذلك؟ أجابني بأن تلك العصابات الهونشاجية التي تألفت في جميع أنحاء المملكة
سينتهزون كل فرصة لقتل الأتراك والأكراد ما أمكنهم ذلك ويحرقون قراهم ، ثم
يعتصمون في الجبال وإذ ذاك تهيج بالمسلمين ثورة الغضب فينقضون على الأرمن
وهم عزل ويوسعونهم تذبيحًا وحشيًّا يدفع روسيا إلى الدخول باسم الإنسانية،
والتمدن المسيحي فتملك البلاد.
ولما قبحت له هذا المقصد ، وقلت: إنه بالغ من الفظاعة والبشاعة الجهنمية
حدًّا لم يبلغه غيره من قبله؛ أجابني وهو هادئ البال بقوله: لا شك في أنك تخاله
كذلك ، ولكنا معشر الأرمن قد صممنا على أن نكون أحرارًا فلقد أصغت أوربا إلى
ما ذاع من فظائع بلغاريا وأنالتها استقلالها وهي ستسمع نداءنا متى ارتفع إلى عنان
السماء في صراخ من النساء والأطفال وانهمار دمائهم ، فلججت في نصحه قائلاً:
إن هذا العمل سيجعل اسم أرمني ممقوتًا عند جميع الأمم المتمدنة ، فلم أفلح لأنه
أجابني قائلاً: إننا يائسون ، ولا بد لنا من إنفاذه، فقلت له: لكن أمتكم لا تود أن
تكون تحت حماية روسيا وتفضل حكم تركيا - وإن ساء - على حكمها؛ فإن بلاد
روسيا متاخمة لبلاد الدولة العثمانية في مئات من الأميال ، والهجرة من هذه إلى تلك
متيسرة في جميع القرون التي حكم فيها المسلمون بلاد تركيا ، فلو كانت أمتكم
تفضل الحكومة الروسية لما وجد في المملكة العثمانية الآن ولا بيت أرمني واحد ،
فكان جوابه على ذلك أن قال: نعم ، ومن أجل هذا الحمق ينبغي أن يقاسي الأرمن
العذاب الأليم.
وقد تحادثت مع أرمنيين آخرين في شأن الفتنة فكانوا يجاهرون بهذه الأمور ،
إلا أنه لم يعترف لي واحد منهم بأنه من أعضاء ذلك الحزب ولا جرم ، فحيث
يكون القتل وإحراق البيوت يتبرر الكذب ، ويجوز الزور والبهتان.
ومن مقاصد الحزب المذكور في تركيا أن يهيج الأتراك على دعاة
البروتستانت وعلى الأرمن الآخذين بمذهبهم فجميع المشاغب التي حصلت في
مرسوان كان سببها دسائس رجاله فإنهم ماكرون غلاظ القلوب لا رعاية للحق
عندهم ، وهم يرهبون إخوانهم ويتوعدونهم بالقتل إن لم يدفعوا لهم ما يفرضونه
عليهم من المساعدات المالية ، وكثيرًا ما أنجزوا هذا الوعيد.
لا أذكر من قبائح ذلك الحزب الهونشاجي الثائر إلا يسيرًا مع غاية الاعتدال
في البيان ، فهو روسي الأصل يديره ذهب روسيا ودهاؤها ، فليمقته المبعوثون
الوطنيون والأجانب ، وليذيعوا شنائعه ، وليفعل ذلك الأرمن البروتستانت بإقدام
وجراءة فإنه يحاول الدخول في يوم الأحد من كل أسبوع في المدارس الدينية؛
ليغش الجهال البسطاء ويخدعهم حتى يكونوا أعوانًا لتنفيذ مآرب ذلك الدهاء
الروسي؛ من أجل ذلك يجب علينا - يعني الأميريكيين - مع مصافاتنا للأرمن أن
نبتعد كل الابتعاد عن كل فعل يفهم منه أننا مشايعون للثائرين ، ومستحسنون لهذه
الفتنة التي يلزم أن يمقتها الجميع ، ونحن وإن كنا نعترف بجواز أن من
اتبعوا الثوار الهونشاجيين من الأرمن لم يتبعوهم إلا لجهلهم مقصدهم الحقيقي
ومآربهم السيئة مدفوعين إلى ذلك بمحبتهم لوطنهم ، ويؤثر فينا ما يقاسونه من
الشدائد في بلادهم بسبب الفتنة؛ ينبغي علينا أن لا نتداخل في هذه المساعي
المخفقة التي يقارنها القضاء على البعثات البروتستانتية ، وتدمير الكنائس
والمدارس ، وكل آثار الإنجيل تدميرًا عامًّا يسعى فيه ذوو الغايات والدسائس سعيًا
حثيثًا ، فليحذر دعاة المسيحية - الوطنيون والأجانب - الاتحاد مع الهونشاجيين
أو بذل أي مساعدة لهم.
تحرر في ليكزينجتون يوم 23 ديسمبر
إيروس هملن
(لها بقية)
***
تعزية
أعزي نفسي وسيدي ومولاي الوالد وسائر أسرتي وأسرة بني الميقاتي وبني
ياسين بوفاة صهرنا ونسيبهم الشهم الهمام محمد أغا ياسين المشهور بالكرم والسخاء
والمروءة وبذل المعروف. توفاه الله في عاشر المحرم المنصرم. تغمده الله برحمته
وأسكنه فسيح جنته.
***
من إدارة المجلة
قد فصل حضرة عبد الحليم أفندي حلمي مدير أشغال المجلة من إدارتها ، ولم
تبق له بها علاقة ما، فينبغي أن لا يخاطب بشيء من شئونها بعد اليوم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحركة الإسلامية الحاضرة
أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر ، وهي في سكون وهمود ونوم
مستغرق حسبته الأمم الحية موتًا؛ فطفقت تتنازع على تراثها واقتسام بلادها ، ولم
تقنع بأخذ البلاد وما فيها من الخيرات والبركات ، بل حاولت الانتفاع بهذا الجسم
الكبير الذي فقد الحياة الاجتماعية كما تنتفع بالأحجار والآلات والأدوات ، بل
طمعت في سلخ جلده لتتخذ منه القفازان لأيدي السيدات الناعمات لما فيه من
المشاكلة والمناسبة ، وحاولت سحق عظامه لأجل تصفية السكر في معاملها ، أو
لتدخله في مادة الطعام المسمى (المكرونة) وما كان هذا بدعًا في نظام الخليقة ،
ولا غريبًا في تاريخ الأمم ، فإن انتفاع الإنسان بسائر المخلوقات حتى ما كان على
شكل الإنسان وابتلاع القوي للضعيف وتحلل الميت ثم دخوله في بنية الحي؛ كل
ذلك معهود ومشهود في كل زمان ومكان.
نقب في الولايات المتحدة الأميركية التي هي زينة الدنيا هل تحس فيها أحدًا
من سكانها الأولين أو تسمع لهم ركزًا؟ كلا إنهم أدغموا في بنية الأمة الحية
المستعمرة كما أدغم الرومانيون والمصريون في بنية الأمة العربية عندما استعمرت
بلادهم من قبل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .
إلا أن الأمة الإسلامية لم تصل في الضعف إلى ما كان عليه هنود أميركا عند
دخول الأوربيين بلادهم ، وليست النسبة بينها وبين الطامعين فيها كالنسبة التي
كانت بينها وبين الرومانيين وغيرهم من قبل ، فإن القوة التي سادت بها على جميع
الأمم في أوائل نشأتها إنما هي قوة الإصلاح السماوي الذي كان البشر كلهم في أشد
الحاجة إليه؛ لما كان عليه جميع الأمم من الفساد ، وقد ترك المسلمون في هذه
الأزمنة أكثر قواعد ذلك الإصلاح ، وأخذت الأمم الغربية منها ما استعلت به على
المسلمين الذين أخذته هي عنهم واقتبسته من أنوار علومهم. وما يحتاج المسلمون
الآن إلا إلى التفاتة واحدة إلى ما كان عليه سلفهم مع ملاحظة أن سعادتهم كانت فيه
وشقاوتهم بتركه ، فيعودوا إليه مسارعين ويستتبع هذا مجاراة الغربيين في جميع
علوم الدنيا وفنونها والقوى الآلية الناشئة عنها وتدحض حجة الأوربيين القائلين:
إنهم إنما يعتدون عليها لأنها عدوة المدنية الحاضرة ، ولا يحاولون إلا تحليتها بهذه
المدنية حبًّا بالإنسانية.
قلنا: إن الأمم الحية حسبت الأمة الإسلامية ميتة فتحاملن عليها تحاملاً شديدًا
وتصرفن فيها كما يتصرفن بالجمادات، وبينَا هن وادعات ساكنات غارَّات آمنات
لا يحسبن لحياة هذا الجسم الذي بين أيديهن حسابًا، إذا به قد اختلج بعض أعضائه
وتحرك لسانه بالتأوه والصياح؛ فاضطربن لحركته اضطرابًا عظيمًا ، وعلمن أن
فيه رمقًا من الحياة ، وأمسين في خوف وحذر من سريان الحركة في جميع
الأعضاء ، ثم نهوض الجسم كله ومنازعته إياهن الحياة والبقاء كما هو شأن
جميع الأحياء وطفقن يتساءلن عن السبب في هذه الحركة ، وعن الطريقة المثلى
لإبطالها ، فكثرت الآراء وتعددت الأقوال ، وصرحت جريدة التيمس الشهيرة
من عهد قريب بأن السبب في هذه الحركة الإسلامية هو شدة تحامل الأوربيين على
المسلمين ، وذكرت من الجزئيات في هذا مقالات هانوتو الأخيرة ، والرسالة
التي نشرها القسيسون في مصر وسموها (أيهما المسيح أم محمد) وجعلت العذر
للمسلمين في ذلك وكل الأوربيين يخشون أن تكون نتيجة هذه الحركة قيام
المسلمين على الأوربيين والمسيحيين عمومًا ، وهو وهم بعيد وخطأ لا يحوم
حول الصواب.
وما تلك الحركة والصيحة إلا حركة النائم المستغرق نُخس ولُكز؛ فتحرك
وصاح ثم مضى في نومه ، ولكنه كان في هبوغ وتسبيخ (هو أشد النوم) فصار
في طور الكرى والغمض (أي بين النائم واليقظان) ومن كان هذا شأنه فهو
قريب من اليقظة والانتباه ، ولا شك أن قليلاً من الضغط السابق ونزرًا من مثل
التحامل الماضي يوقظان هذه الأمة في وقت قريب.
ولذلك أشارت جريدة التيمس بوجوب كف الأوربيين عن التعرض لدين
المسلمين وقالت: إنهم إذا عادوا بعد ذلك للكلام في الجامعة الإسلامية ومزج
السياسة بالدين فلا عذر لهم ، وتعلم التيمس كما يعلم جميع ساسة أوربا وعلمائها أن
المسلمين لا جامعة لهم ولا جنسية إلا في دينهم فإذا انحلت الرابطة الدينية فليس لهم
رابطة تقوم مقامها ، ويستحيل أن تنجح أمة بل توجد بدون رابطة عامة يرتبط بها
جميع أفرادها ، وتكون لها المكانة العليا من نفوسهم ، وإن فريقًا من الذين تربوا في
مدارس الأوربيين وما على شاكلتها وأشربت قلوبهم عظمتهم ومدنيتهم قد حاولوا أن
يقنعوا المسلمين بأن نجاحهم وسعادتهم في (الرابطة الوطنية) وأن خيبتهم
وشقاءهم في الرابطة الملية التي يطلقون عليها عند الذم لفظ (التعصب الديني)
ولكنهم ما نجحوا في إرشادهم أو إغوائهم هذا ، ولا ينجحون مهما كتبوا وخطبوا؛
لأن غير المسلم منهم لا يلتفت لقوله المسلمون ، ومن عساه يوجد منهم مسلمًا فهو
على غير بينة مما يدعو إليه أو من الذين إذا سموا الوطنية (أشرف الروابط)
يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وقد قلنا ولا نزال نقول: إن الفائدة الحقيقية
من هذا الشيء الذي يسمونه وطنية هي أن يعيش أبناء الأديان المختلفة في كل بلاد
بالمجاملة والمسالمة والتعاون على ترقية بلادهم ، وهذه الفائدة لا توجد على كمالها
إلا في الإسلام ، ولا يمكن لأحد أن يقنع المسلمين بها على أنها وطنية شريفة
ويمكن لكل أحد أن يشربها قلوبهم باسم الدين إشرابًا.
فليهدأ روع ساسة أوربا وجرائدها، فما على المسيحيين في بلاد الإسلام من
سبيل ، وليس المقصود من الحركة الإسلامية إلا أن تجاري الأمة سائر الأمم الحية
في ميدان الحياة فتعلم كما يتعلمون ، وتعمل كما يعملون ، وتكتسب كما يكتسبون ،
وتقتصد كما يقتصدون ، ثم تحفظ استقلالها كما يحفظون.
وإن تعجب فمن العجب العجاب أن جسم الأمة الإسلامية لم يشعر كله بهذه
الحركة التي حدثت فيه وأكبَرَ أمرَها الأوربيون ، ولم ينس الناس تلك المحاورة
بين أحد مشايخ الأزهر وأحد المجاورين فيه وكيف رد الشيخ على المجاور قوله في
فوائد علم تقويم البلدان والتاريخ. إن بعض عقلاء المسلمين وفضلائهم يسعون في
هذه الأيام بتنبيه المسلمين لجمع كلمتهم واتحادهم ، ولابد في هذا من معرفة أهل كل
قطر منهم أحوال الأقطار الإسلامية الأخرى ، وهذا من علم تقويم البلدان والتاريخ.
وما كان رد الشيخ على هذا إلا أن قال: إنه لا يسلم أن أحدًا يسعى فيما ذكر ، وأنه
هو لم يسمع بهذا إلا في ذلك اليوم من ذلك المجاور! ! ! فكأنه لم يقرأ المؤيد ولا
جريدة أخرى من الجرائد الإسلامية بل وغير الإسلامية قبل ذلك اليوم ، وكأن هذه
المسألة نظرية من النظريات الفكرية فيكفي في منعها قوله: لا نسلم! ! ويقول
العقلاء: إنه لا وسيلة لتعميم هذه الحركة الإسلامية وتقويتها إلا استمرار أوربا على
الضغط على المسلمين لا سيما من الوجهة الدينية كمحاولة منع الحج ، وتقدم القول
بأن بعض الأوربيين تنبهوا لهذا الأمر ، ولا ندري ماذا تكون عاقبته ، والله بكل
شيء عليم.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد من الكتاب)
(8)
من أراسم إلى هيلانة في 15 يونيه سنة - 185:
لا سبب لانقطاع رسائلي عنك إلا ترقبي فرصة تمكنني من ايصالها إليك ،
وقد تلقيت مكاتيبك الأخيرة فأخذ ما ذكرتِه فيها عن (أميل) بمجامع لبي وبعث فيّ
دواعي الحنان والرحمة ، ولم أكن إلى الآن أعرف شيئًا من ذلك في حياتي التي
قضيتها في دراسة العلم ومناظرة الحكماء ومقارعة خطوب الدهر ، ولا غرو فإني
ولدت مستعدًّا للأبوة وأود لو أرى ولدي ولو بذلت في سبيل ذلك جميع ما أملكه من
الحطام ، وإني مخبرك بأمر وإن كان لا ينبغي مكاشفتك به ، وهو أني كنت عزمت
عدة مرات على دعوتك إلى الحضور إليَّ به على ما بيننا من البحار الزاخرة
والمسافات الشاسعة لعلمي بأن ما فيك من الإقدام ورباطة الجأش تتضاءل دونه
العوائق فلا يثنيك منها شيء عن تلبية دعوتي ، وكأني بك بعد هذا تسألينني عن
السبب الذي منعني من هذه الدعوة ولا يزال يمنعني منها، فأقول: إنني قلت في
نفسي: ألا يكون من الأثرة أن أخمل بسجني ذاتين هما من أحب الناس إلي
وأخفض من حالهما؟ فبأي حق أستلب من هذا الطفل غرارته وغفلته وبواكير
سروره وابتهاجه بإلصاقه بي في محنتي التي خصني بها القدر؟ معاذ الله أن يكون
مني ذلك ، فليشب وليترعرع حرًّا مغتبطًا في جناح والدته وكنفها.
أراك محقة في اهتمامك بتعرُّف أذواق (أميل) فإن الوالدين في الجملة
ينشئان أولادهما على مثالهما في الطباع والأذواق ، على أن هذا الأمر هو الذي كان
ينبغي اجتنابه لأن الطفل إذا كان ألعوبة في أيدي الكبار المنوطين بسياسته ، وآلة
تنفعل بمشاربهم وأفكارهم فإنه يعتاد على موافقتهم في جميع الأمور ، وهذا هو
السبب في ندرة الرجال المستقلين استقلالاً صحيحًا في هذه الأيام ، وإننا إذا فتشنا
عن العلة في وشك زوال ما فينا من أنواع الاستعداد والقابليات الخاصة والسير
الثابتة فربما وجدناها في تربيتنا الأولى فإنها مثار آفاتنا ونقائصنا النفسية.
ولنبحث ابتداء في ماهية الطبع فنقول: جرى اصطلاح العلماء بإطلاق هذا
اللفظ على مجموع من القوى المؤتلفة التي لا شك في أنها ترجع بأصلها إلى الفطرة ،
ولكنها على الدوام في تغير وتجدد لأسباب باطنية وظاهرية ، فمن الأسباب
الباطنية الإرادة فإن لها شيئًا من التأثير في أهوائنا وشهواتنا ومحباتنا ، وكأني
بسائل يقول: وهل هذه الإرادة نفسها خِلقية أو مكتسبة؟ فأجيبه أنها تجمع الوصفين
على ما أعتقد لأنها تكاد تظهر في الطفل بمجرد ولادته، وكلما شب وكبر قويت
وتحددت وجهتها بالتدرب عليها والممارسة لها. وأما الأسباب الظاهرية فيكفي أن
نمثل لها بالأسرة (العائلة) والتربية والاختلاط بالناس ومعاشرتهم فلو أن
الفرنساوي المسيحي ولد في الصين من أب نشأ على آداب كونفوشيوس [1] وتعاليمه؛
لكان مغايرًا لنا في آرائه وسيرته.
القوى المؤلف منها طبع الطفل تكون في الأيام التالية لولادته كأنها محجوبة
بإدراك مشاعره ، وهو وإن كان في هذا الوقت يشعر بوجود ذاته بل إن هذا الشعور
قد يكون أحيانًا هو الغالب عليه ، لكن ذلك قلما يبدو منه إلا بحركات إرادية وأعني
بهذه الحركات ضروب الرعدة والهياج ، بل وأنواع الصراخ التي تصدر عنه فإن
كل ما من شأنه أن يُوَلِّد ألمًا أو يحدث غضبًا؛ يكون فيه مدعاة إلى ظهور هذه
العلامات الخارجية ، وكثيرًا ما تبدو منه حركات نخالها مختلفة مغايرة للعقل لعدم
تدقيقنا النظر في السبب الذي يحدثها ، ولو دققنا النظر لظهر لنا أنها لا تكون منه
إلا طلبًا لتحصيل لذة أو تخفيف ألم ، ونحن بذلك جاهلون وعنه غافلون ، فالغلام
الذي في الثانية أو الثالثة من عمره إذا طلب من مربيته شيئًا فمنعته إياه فاستلقى
على الأرض وأنشأ يتمرغ وينتف شعر رأسه غيظًا؛ تكون أفعاله هذه معقولة في
حقه لأنه يجد فيها بطريق الإلهام شفاء لأعصابه من تهيجها فيتلاشى بها حنقه
وتنكسر حدته ، وكذلك الشأن في البكاء وغيره من الوسائل التي يزول بها عن
أعضاء الجسم ما تجده من الألم بسبب توتر أعصابها.
على أن بعض هذه الحركات الغريزية يبقى ملازمًا لنا حتى في زمن الرجولية
فإن كثيرًا من الناس من يضرب بيده على جبهته إذا بلغه خبر سيئ ، ومنهم من
يزغزغ أنفه ، ومنهم من إذا جاءت الأمور على غير مراده انبطح فوق فراشه ،
ومن هذا تعلمين أن أعقل الرجال تصدر عنه غالبًا وهو في شدة انفعاله حركات لا
تصدر إلا عن مجنون ، وأنا لا أماري في أنه يفقد ما له من السلطان على نفسه في
هذه الحالة ، ولكني أقول: إن في هذه الأفعال التي تصدر عن غير روية حكمة ،
وإن كنا لا نرى فيها إلا جنونًا وحمقًا ذلك أن للنفس حالات تقتضي من الجسم
أوضاعًا مخصوصة لعلة محجوب عنا علمها ، فمن الآلام النفسية ما يميل بنا إلى
الهجوع والسكون ، ومنها ما يدفعنا إلى المشي والحركة. فكيف السبيل إلى اكتناه
علة هذه البواعث الوقتية التي تدفع بعض أعضائنا إلى التحرك عند حدوث شيء
من الاضطرابات العقلية؟ لا سبيل لنا إلى ذلك سوى الاعتراف بأن الوصول إلى
معرفة هذا السر مما ليس في مقدورنا ، وهو سر آخر جدير بالتفتيش عن سببه.
أول حرية تجب علينا للطفل هي أن يكون مختارًا في حركاته ومقتضيات
غرائزه ، وإني كنت كغيري من الناس لا أحب أن أرى ولدًا مسكينًا يحمر وجهه من
الغضب ، ويبلغ به الانفعال إلى درجة الجنون ، ولكني أرى أن الإغضاء على
بوادر ذلك الغضب أخف ضررًا من قمعها بالإفراط في التسلط والقهر ، فإنه لا
شيء أردأ مغبة في الغيظ من إكراه صاحبه على كظمه ولا أسوأ في الطباع ولا
أخس في الخلائق مما يقمع دائمًا ، ويرغم صاحبه على إخفائه ، على أن الطفل
سيتعلم في مستقبل أيامه أن من موجبات كرامته أن يملك نفسه عند الغضب ويكف
سورة انفعالاته ، وأن البكاء وحركات الضجر وخفة الفرح الخارج عن حد الاعتدال
مما لا يليق بالرجال قطعًا ، بل إنه سيكون كآلاتنا البخارية تحرق ما يتولد من
دخانها ، ولكنا يجب علينا أن ننتظر في بلوغه هذه الغاية ريثما ينمو عقله وتقوى
إرادته.
أنا لست أعني بهذا أن يترك الطفل وما يعتوره من الانفعالات لعدم وجود ما
من شأنه أن يزيلها ، كلا فإن الأطباء قد اخترعوا لعلاج الجنون طريقة سموها
التلهية النفسية يمكن اتخاذها في تربية الأطفال على ما أرى ، على أنها معروفة
للمراضع من زمن لا تاريخ لمبدئه ، فقلما توجد واحدة منهن لا تعرف كيف يسكن
غضب الطفل بصرف وجهه إلى ما يلهيه ويشغل فكره ، ويمكن تعميم العمل بهذه
الطريقة فإن من الأطفال الحديثى السن جدًا من يكون لهم شغف بالموسيقى من
صغرهم ، ومنهم من يسهل إلهاؤهم بمجرد النظر إليهم ومنهم من يجد في رؤية
الحيوانات لذة مخصوصة ، ومنهم من يجد هذه اللذة في رؤية بعض الأشخاص ،
فينبغي النظر في هذه الأذواق الخلقية؛ لأن جميعها من الوسائل التي يمكن الاعتماد
عليها في تربية الطبع فيهم.
أنا لا أعتقد أن في الإنسان خلائق شَرِّيةً محضًا ، ولكن يوجد من خلائقه ما
إذا غلبت عليه وأسيء تصريفها فإنها ربما تؤدي إلى عواقب وخيمة ، فإذا سأل
سائل: هل يجب إعدامها؟ أجبته: ليس هذا من رأيى؛ لأننا مع تسليم إمكان
الوصول إلى هذه الغاية نكون قد خالفنا مقتضى الفطرة مخالفة ظاهرة ، وإنما الذي
ينبغي علينا عمله هو معارضة تلك الغرائز بمشارب وأذواق أخرى.
إني أجد في نفسي ميلاً إلى اعتقاد أنه لا يوجد طبع - مهما كان فساده - إلا
وقد انطوت فيه وسيلة للخلاص منه فلو أن القائمين على التربية حذقوا في التدرع
بتلك الوسائل لمكافحة الطباع السيئة ومغالبة الأخلاق الرديئة في الوقت المناسب
لذلك؛ لحفظوا على المجتمع الإنساني كثيرًا من أفراده الذين خسرهم خسرانًا مؤبدًا
في السجون ومعاهد العقاب بالأشغال الشاقة ، ولست أضرب لك تأييدًا لهذا القول إلا
مثلاً واحدًا أقتبسه من مذكراتي الخصوصية ، حدثني لص أنه انزبق ذات ليلة في
ملهى موسيقي فجلس على أحد مقاعده لا ليسمع المغنين؛ بل ليرتقب فرصة تمكنه
من سرقة ما عساه يجده في جيوب مجاوريه ، فإن هذا الأمر كان مهنة له ، ولكنه
كان هو المسروق في تلك الليلة لأنه كان ذا كلف بالموسيقى فلم يكن إلا أن سمع
أول رنة للكمنجة حتى أحس بأن عقله قد سلب ، ولما أنشأت المغنية دويريه تغني
صار إلى حالة أسوأ من ذلك لفنائه عن نفسه فيما وجده من اللذة في ذلك اللحن
المعروف بلحن الشيطان روبرت الذي في الفصل الخامس من تلك الرواية الغنائية ،
ويخيل له أن لا يزال يسمع رجع صداه ، وجملة القول: إنه نسي الاشتغال بمهنته
تلك الليلة ، فلما كان مساء اليوم الثاني عاد إلى ذلك الملهى نفسه عاقدًا نيته على أن
لا يفتن ببنت البحر [2] ولكنه في هذه النية لم يحسب حساب نزيله الذي بين جنبيه،
أعني ميله الفطري إلى سماع الألحان فخرج في هذه الليلة أيضًا ممتلئ الأذنين
صفر اليدين ، ومن أجل هذه الخيبة أقسم أن لا يعود فيضع قدميه حيث يكون
المغنون قائلاً: إنه إن فعل خسر ميله إلى حرفته ، وهو قول دال على قحته
واجترائه على القبائح.
الأهواء الفاسدة في الإنسان هي قوى مستبدة يبعثها نموها الفطري أو المكتسب
على أن تملك قياده فتتغلب على ما فيه من ضروب الوجدان أو الأفكار ، فمن
البديهي أن هذه الأهواء هي التي يجب أن تقاومها التربية من أول النشأة ، وهذه
المقاومة يصح أن تكون على طريقتين أولادهما الرجوع إلى أنواع التلهية التي
تشغل الطفل عنها ، وتصرف ذهنه إلى غيرها كما سبق لي بيانه. وثانيتهما -
جعله بمعزل عن البواعث الخارجية التي تهيج من غرائزه ما يغلب على الظن أن
في تحريكه وبالاً عليه ، فإن في بعض الأشياء شيطانًا رجيمًا كما ستعلمين من
حادثة جرت في أيقوسيا أقص عليك خبرها لتفهمي ما أريده بالبواعث الخارجية
التي تهيج الغرائز.
إن امرأة عليها سمة الاحتشام والحياء دخلت أحد حوانيت الطرف ، فلما انتقت
ما أرادت ابتياعه وحان وقت دفع الثمن ، وكان في نحس طالعه كربع ساعة
رابليه [3] أخرجت من جيبها ورقة مصرف (بنك) قيمتها خمسة جنيهات إنكليزية ،
فلما نقدها كاتب الحانوت لم يلبث أن عرف تزيفها ، فبهتت المرأة المسكينة
وأخرجت له أخرى لكنها لم تكن بأحسن من الأولى ، فارتاب الرجل في أمرها ،
وسلمها إلى الشرطة ، ولم يكد التحقيق يأخذ مجراه حتى ظهر أنها كانت خادمة في
بيت استوجبت احترام أهله إياها بما لها من حسن السيرة والصدق في الخدمة ، وأن
الأيقوسي الذي كانت في خدمته كان قبض من أحد معامليه قبل هذه الحادثة ببضع
سنين هاتين الورقتين المزيفتين وأخطأ في عدم تمزيقهما لتعاسة حظ هذه المحرومة ،
وأنها لاعتيادها على دخول حجرته في كل صباح للقيام بمقتضيات الخدمة كانت
تراهما مختلطتين بأوراق قديمة ، فلم تعبأ بهما كثيرًا أول الأمر ، ولكن لما تكرر
حضورهما أمام بصرها من يوم إلى يوم ، ومن أسبوع إلى آخر ، ومن شهر إلى
تاليه أنشأت تمعن النظر فيهما وكأن هاتين الورقتين اللتين كانت تخالهما على
بِلاهما صحيحتين كانتا ترنوان إليها من طرف خفي وتخدعانها وتفاجئانها بنصائح
غريبة ، فرفضت بادئ بدء فكرة أخذهما وأبعدتها عن نفسها فراسخ ، لكنها لم يبق
في وسعها أن تكف النظر عنهما متى وجدت في الغرفة التي هما فيها ، ثم إنها في
ذات يوم لمستهما بيديها وبسطتهما ، وأخذت تقلبهما ، ثم ردتهما فورًا إلى أضبارة
الأوراق البالية التي كانت فيها كأن فيهما نارًا كانت تحرق أصابعها ، وما زال بها
هذا الإغراء حتى غلبها وأوقعها فيما علمت.
فإذا كان هذا تأثير الأشياء في الكبار فما ظنك في الصغار؟ نعم ، إنهم ولله
الحمد ليسوا كلهم لصوصًا ، وفوق ذلك قلما تعرض لأنظارهم أوراق المصارف
صحيحة أو مزيفة ، ولكن توجد جملة من الخلائق الأخرى التي يهم المربين أن لا
يقوُّوها فيهم بنظر ما يوقظها من الأشياء، فإن رذائلنا وفضائلنا ليست مجرد معانٍ
ذهنية ، بل إن لها بالخارج ارتباطًا قويًّا فهي تطابق فيه أمورًا وأحوالاً شتى يكون
بها تأثرها وعنها انفعالاتها
…
فالشراهة مثلاً تتحرك في الإنسان بنظره إلى الطعوم
وشمه روائحها ، والغيرة تتيقظ فيه بسماعه ما يقال لغيره من رقيق الكلام ، ورؤية
ما يعامل به من صنوف الملاطفة. فأول واجب على المربي هو البحث عن طبع
الطفل ومعرفته ، والواجب الثاني هو أن يقطع عنه مواد الفتنة أعني البواعث
المادية التي تتخذ مشاعره ذرائع لإغراء طبائعه السيئة وإثارتها فلكثير من الأطفال
الحق في أن يقولوا للقائمين عليهم ناشدناكم الله لا تدلونا بغرور.
ثم لا ينبغي أن يغرب عن ذهن المربي هذا الناموس الفطري وهو أن الطبائع
والغرائز كما أنها تقوى وتنمو بالممارسة هي تضمحل وتزول بعدمها ، فبه تعرف
السر في قدرتنا على قمع بعض المشارب الشديدة التي تظهر في الطفل على أذواقه
الفطرية الأخرى ، وتمنعها من بلوغها غايتها ، فأكبر عمل للإنسان في إصلاح نفسه
منفردًا هو مكافحة ما يتغلب عليه من سيء الأخلاق ورديء الطباع كما أن أجل
سعي في إصلاح شأنه مجتمعًا هو ردع المعتدين وكسر نخوة الطغاة الظالمين.
كأني بقائل يقول: هل يكفي في تربية الطفل ما ذكرته من جعله بمعزل عما
يثير فيه غرائز الشر وإيجاد التوازن والتساوي بين طبائعه؟ فأجيبه: لا شك في
عدم كفاية ذلك فإن طريقة التربية هذه سلبية والواجب علينا هو أن ننبه في الطفل
بمجرد أن يشب ضروب المحبة وعواطف الخير ، وقبل الخوض في هذه المسائل
يجب علي أن أبحث أولاً فيما تتخذه الناس من الطرق عادة في تربية طبع الطفل
كحمله على الامتثال المطلق ، وتخويفه بالعقوبات ، وترغيبه في المكافآت ، وكقوة
القدوة والاعتقاد الديني ، وقواعد علم الأخلاق ، وأسائل نفسي عما تساويه
هذه الحيل المختلفة اهـ.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كونفوشيوس: هو أحد مشاهير فلاسفة الآداب وعلماء الأخلاق في الصين ولد في سنة 551 ومات في سنة 499 قبل المسيح.
(2)
بنت البحر في أساطير الأقدمين هي ذات خيالية نصفها الأعلى نصف امرأة ، والأسفل نصف سمكة كانت تعيق السائحين بلذيذ غنائها فتجذبهم إلى شعاب صعبة حيث يهلكون ، والمراد بها هنا المغنية ففي الكلام استعارة.
(3)
ربليه: هو كاتب قصص فرنساوي مشهور واسمه فرنسيس ولد عام 1495 ومات عام 1553 اتفق له أن حل في نزل وجلس يأكل مع جماعة فلما جاء وقت المحاسبة على ثمن الأكل لم يكن معه ما يدفعه في حصته فحرج صدره وكأن الساعة كانت وقت الربع إذ ذاك فضرب بوقته هذا المثل لنحس الطالع.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم المفيد
كتبنا في الجزء الماضي من المنار نبذة عنوانها (التعليم النافع) ذيلناها بنبذة
أخرى في بيان العمل العظيم الذي قام به أحد العبيد السود في أميركا نقلاً عما عربه
المقتطف الأغر عن جرائد تلك البلاد ، وقد جاء في جزء آخر من المقتطف مقالة
أخرى عنوانها (التعليم المفيد) ذكر فيها ملخصًا من مقالة لذلك العبد الكريم الفعال
ومما جاء فيها قوله:
(إن من المسائل الكبيرة عندنا تعليم ثمانية ملايين من السود سكان الولايات
الجنوبية من أميركا وتهذيبهم وجعلهم مثل غيرهم من السكان ، وقد اتسع نطاق هذه
المسألة الآن؛ لأنه صار علينا أن نعلم ثمانمائة ألف نفس من السود سكان كوبا
وبورتوريكو فضلاً عما يجب من تعليم البيض سكان تينك الجزيرتين؛ لأن كثيرين
منهم في حالة يرثى لها مثل السود الساكنين معهم. فإذا أبنت للقراء ما نجح من
السعي في تعليم السود في هذه البلاد مدة الثلاثين سنة الأخيرة مع ما لقيناه في ذلك
من المصاعب الجمة؛ أكون كأني أنبأتهم بما سينتج من السعي في نشر التعليم
والتهذيب في كوبا وبورتوريكو ، وإيضاحًا لذلك أقص عليهم القصة التالية: (كان
في البلاد المعروفة ببلاد السود أي التي يزيد فيها السود على البيض رجل له أملاك
وسيعة وعنده مائتا عبد يحرثون أرضه ويزرعونها ، فيكتسب بتعبهم مكاسب وافرة
فلما انتهت الحرب الأهلية بتحرير العبيد اضطر أن يحررهم كلهم ، لكن الفريق
الأكبر منهم بقي في خدمته ، أو صاروا يستأجرون الأرض منه ويزرعونها
وحدث بعد ذلك أنه كان مارًّا في أرضه ذات يوم فرأى ولدًا صغيرًا من أولاد هؤلاء
السود في حالة يرثى لها من الجوع والعري فرمى إليه قطعة من النقود ، ورآه بعد
ذلك مرارًا فكان يرق له ويرمي إليه قرشًا، أو نصف قرش ، واتفق أن هذا الولد
واسمه وليم سمع أن في تسكجى مدرسة يتعلم فيها أولاد السود مبادئ العلوم والفنون
بتعبهم أي أنهم يعملون ويتعلمون ، فتوسل إلى رفاقه أن يساعدوه على الذهاب إليها
فجمعوا له قليلاً من الثياب والنقود بعد العناء الشديد ، لكن النقود لم تكن كافية لدفع
أجرة السفر إلى المدرسة ، فعزم أن يمضي لها ماشيًا، وهي على مائة وخمسين
ميلاً من المكان الذي كان فيه ، فحمل ثيابه ، وسار إليها وبلغت نفقاته في الطريق
أربعة غروش لا غير لأنه كان يقص قصته على الذين يمر بهم فيطعمونه مجانًا.
وبلغ تسكجي مقرَّح القدمين وأتى إليَّ؛ فأرسلته إلى حيث اغتسل ونظف
بدنه ، ووضعته مع الذين يحرثون الأرض ويزرعونها لأنه كان قد صار لمدرستنا
ألف وأربعمائة فدان أصلحنا نصفها ، وكان التلامذة يزرعونه وحدهم ويشتغلونه ،
ويستخدمون في زرعه وخدمته أحدث الطرق العملية المعروفة. فصار يعمل في
النهار معهم ويتعلم ساعتين في الليل ، وكان في أول الأمر يتعب من الدرس وينام
وهو أمام المدرس ، ولكنه تنبه رويدًا رويدًا ، وصار يفهم ما يسمع ويزيد رغبة ،
وأخذ يسأل معلميه مسائل تدل على تعطشه إلى المعرفة مثل سؤال عن سبب
اعتمادنا على البقر المعروفة ببقر جرزى وبقر هلستين بدل البقر العادية ، وعن
سبب كثرة لبنها وسمنها.
ولم تمض السنة الأولى عليه حتى تعلم مبادئ القراءة ، وجمع بعض النقود
من أجرته فدخل الفرق القانونية في السنة الثانية ، وبقي يعمل جانبًا من الوقت في
الحقل ، فلما انتهت السنة وجد نفسه في حاجة إلى النقود ، فكتب إلى الرجل الذي
ولد بين عبيده يخبره عن دخوله في مدرسة تسكجي ، وطلب منه أن يقرضه خمسة
عشر ريالاً ، ووعده بإيفائها حالما يتم دروسه. فطرح الرجل الكتاب ولم يلتفت
إليه ، فكتب إليه ثانية فلم يجبه ، فكتب إليه ثالثة ، وحينئذ شعر الرجل بدافع في
نفسه يدفعه إلى مساعدته ، فكتب إلي يخبرنى بذلك ، وبعث إليه بالخمسة عشر
الريال التى طلبها.
(وبعد ثلاث سنوات وقف هذا الولد ، وكان قد صار شابًّا أمام سيده الذى
بعث إليه بالخمسة عشر ريالاً وقال له: أنا الولد وليم الذى كنت ترمي إليه بقطع
النقود ، ثم تكرمت عليه بخمسة عشر ريالاً ، وقد أتيت لأشكر فضلك ، وأوفيك
دَينك ، ثم دفع إليه المال مع رِباه؛ لأنه كان قد أتم دروسه ، وعمل سنة فى إحدى
المدارس وأخذ أجرتها. فنظر إليه الرجل نظر الدهشة والاعتبار ، ثم التفت إلي
السود الذين يعملون في أرضه وهم مئات لأنه كان على ثروة طائلة وأملاك
وسيعة ، فرأى أنه غير قائم بما يجب عليه لهم فقال لوليم: تعال، وافتح مدرسةً
عندي لإخوانك ، وكان ذلك منذ ست سنوات ، وقد اتسعت هذه المدرسة الآن
وصار فيها مائتا تلميذ وخمسة معلمين من الذين تخرجوا في مدرسة تسكجي
وثلاثة مباني ، ولها أربعون فدانًا يمارس فيها التلامذة الزراعة على أنواعها ،
ويتعلمون أيضًا النجارة بفروعها ، وفيها قسم لتعليم البنات مبادئ العلوم والخياطة
وتدبير المنزل ، وهي آخذة في إنشاء معمل للحدادة وعمل المركبات ، والرجل
المشار إليه هو الذي بنى المدرسة ووقف عليها الأربعين فدانًا ، وهو يدفع رواتب
معلميها أيضًا.
ولا يقتصر هؤلاء المعلمون على التعليم في المدرسة ، بل تراهم يجمعون
الفلاحين من البلاد المجاورة ، ويتذاكرون معهم في المواضيع الزراعية ، ويعلمونهم
الأساليب الجديدة لحرث الأرض وزرعها وخدمتها وطرق الاقتصاد المختلفة ،
ويحضر معهم الرجل الكريم المشار إليه آنفًا ، وهو مسرور بما يراه فيهم من دلائل
الاجتهاد والارتقاء.
(ولما غادر وليم قومه ، وأتى إلينا كانوا على غاية الفقر والذل لا يملكون
شيئًا ولا ينظرون إلى البيض إلا نظر الخصم إلى خصومه ، وهم مثقلون بالديون ،
فأوفوا ديونهم الآن ، ولم يعودوا يرهنون غلة الأرض التي يزرعونها كما كانوا
يفعلون قبلاً ، وابتنوا بيوتًا رحبة يسكنون فيها ، وصلحت أحوالهم بعد فسادها ،
وبمثل هذه المدرسة تحل مسألة السود في هذه البلاد وفي بلاد كوبا وبورتوريكو) .
ثم ذكر ما كان من غلو البيض في احتقار السود ، وبين أن هذا الاحتقار قد
زال لما أثرى كثيرون من السود ، وامتلكوا الأراضي الواسعة ، وبنوا المعامل
الكبيرة حتى ذكر أنهم صاروا يشاركون البيض في انتخاب رؤسائهم ، وقال في هذا
المقام: (وما من شيء أزال كراهة البيض لهم واشمئزازهم منهم مثل إصلاح
معيشتهم ، مثال ذلك أن فتاة من الفتيات اللواتي تعلمن في مدرسة تسكجي مضت
إلى جنوب البلاد ، وعزمت أن تفتح فيها مدرسة لتعليم أولاد السود فنظر إليها
البيض هناك شزرًا ، ولم يرض نساؤهم أن يلتفتن إليها فصبرت على الضيم حاسبة
أنهن يفعلن ذلك لما رسخ في نفوسهن من احتقار السود ، وأنشأت المدرسة واهتمت
بها ، ثم تزوجت بشاب من السود وبنيا بيتًا صغيرًا على أسلوب حسن جدًّا ، وأنشآ
أمامه حديقة غناء زرعت فيها أبدع أنواع الأزهار والرياحين ، ومرت بها امرأة من
عظماء البيض ذات يوم ، ورأتها في الحديقة تسقي رياحينها ، فنظرت إليها متعجبة
ثم دخلت الحديقة ، وطارحتها السلام ، فأخذت السوداء تتكلم معها عما في حديقتها
من أنواع النبات كلام امرأة متعلمة متهذبة ، فعجبت البيضاء منها ودخلت بيتها ،
ولما رأت غرفه وأثاثه ورياشه وما فيه من الكتب والجرائد وحسن الترتيب والتنظيم؛
ارتفع مقام السود في عينيها ، وأخبرت صديقاتها بما رأت ، فصار لتلك المرأة
السوداء المقام الأول في ذلك البلد.
ولو بقي الكُتاب والخطباء أعوامًا يحثون البيض على اعتبار السود
إخوانًا لهم ما أفلحوا في ذلك قدر ما أفلحت فيه هذه المرأة السوداء بتنظيم بيتها وزرع
حديقتها وإقناعها نساء البيض بهذا الدليل الحسي أنها ليست دونهن عقلاً
وذوقًا.
(ومنذ بضعة أشهر أقيم معرض زراعي في بلد اسمه كلهون في ولاية ألاباما ،
وفي هذا البلد مدرسة كبيرة عرض تلامذتها ، والذين تعلموا فيها معروضاتهم
الزراعية من القطن والأثمار فلما رآها البيض بالغة حد النمو؛ أعجبوا بها والتفتوا
منها إلى أصحابها ، فارتفعت منزلة السود في عيونهم ، ورأوا فضل التعليم
والتهذيب ، فللمدارس التي تعلم أولاد السود وتهذبهم الفضل الأول في ترقية
شأنهم ، وربط البيض بهم برباط الألفة والصداقة) اهـ.
ثم ذكر المعرب جملة مختصرة من كلام بوكر واشنطون هذا في وصف
مدرسته ، وأردفه بجملة أخرى في المقابلة بين تلك المدرسة وما تفرع منها ، وبين
مدارس هذا القطر وسائر البلاد الشرقية التي لا تعتني بقرن العلم بالعمل ، فهكذا قد
سبقنا حتى العبيد السود في تلك البلاد ، وما كنا لنفيق من هذا الرقاد، ونهتدي سبيل
الرشاد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
الأرمن وفتنتهم
(تابع ويتبع)
ومما لا بأس بذكره عقب هذه الرسالة الإلهامية بعض جمل اقتبسناها من
رسالة لمكاتب خاص بالجريدة المسماة (الصحافة المشتركة) ولا ريب في أن هذا
الكاتب ليس صديقًا للترك ، ولا لحكومتهم فانظر ما كتب وهو:
مما لا مرية فيه أن ثوار الأرمن كانوا قد ائتمروا بالقسيس المحترم إدوارد
ريجس واثنين آخرين من المرسلين الأمريكيين؛ ليقتلوهم في مرسوان ويلصقوا
تبعة قتلهم بالترك حتى يتيسر لحكومة الولايات المتحدة أن تعاقب الحكومة العثمانية
عقابًا عاجلاًً ، ويمكن بذلك أن ينال الأرمن استقلالهم ، فإذا قلب الإنسان صحف
التاريخ ليقف على مؤامرة أعرق من هذه في الشر وأبلغ في الفظاعة فإنه يفنى زمنه
قبل أن يجد ما يطلبه ، على أنها لم تكن مجرد فكرة خطرت ببال أولئك الأشرار ،
بل إنهم كانوا على وشك تنفيذها لو لم يكشف أمرها لأولئك القسيسين أرمني من
أصدقائهم ، ولم يكن ذنب الدكتور ريجس عند الأرمن سوى أنه وقف نفسه وقضى
حياته في تربية أحداثهم بمدارس المرسلين ، وفعل أكثر مما فعله أعظم أرمني في
جعلهم جديرين بحكم أنفسهم، فكأن الثوار لم يفطنوا لهذا الأمر ولم يفكروا فيه كثيرًا ،
ثم إنه وإن كان من المتعذر علينا معرفة غاية الأفكار الأساسية للثائرين لكن مقاصد
بعض زعمائهم تمجها الطباع مجًّا كليًّا.
وملخص هذه المقاصد أنهم يريدون التنكيل بالترك وابتلائهم بالفظائع؛ ليثور
غضبهم فيخرجوا في الانتقام عن حد الاعتدال فيهيج ذلك عليهم المسيحيين ، فإذا
لامهم لائم على هذه المقاصد المنافية لمبادئ الدين المسيحي اكتفى زعماؤهم في
الجواب عن هذه بقولهم لذلك اللائم: لا مرية في أنك ترى مقاصدنا صارمة،
ووحشية ، ولكنا نعلم ما نفعله ولماذا نفعله.
ثم إن طرق هؤلاء القوم في حصولهم على المال تدل على دهائهم كما تدل
عليه مقاصدهم السياسية وثورتهم ، فإنهم يكلفون أشخاصًا ممن هم أقل منهم علمًا
ودراية بتقديم آلاف مؤلفة من الغروش لهم ، وإن أردت أن تعرف كيف يحصل
هؤلاء على تلك النقود فهاك مقالا على طريقتهم في ذلك وهو:
(إن أحد سراة الترك من الموظفين في الحكومة تلقى في صباح يوم مكتوبًا
يتضمن الوعيد بالقتل إن لم يودع في مكان كذا مبلغ اثني عشر ألف قرش في أربع
وعشرين ساعة ، ولما تحرت الحكومة أمر هذا المكتوب؛ أداها التحري إلى أن
كاتبه أرمني كان مستخدمًا لذلك الموظف ، وقضى في خدمته عدة سنوات ، وقد
اعترف بجنايته لكنه ادعى مدافعًا عن نفسه أن الثوار هم الذي أكرهوه على كتابة
ذلك المكتوب وتوعدوه بالقتل إن لم يفعل وأنه لما رأى نفسه في هذه المسألة مترددًا
بين إرادتين: إرادتهم منه تنفيذ ما طلبوه ، وإرادة القانون وهي عكس ذلك؛ اختار أن
ينفذ رغبتهم ففدى ذلك المسكين حياته بمدة طويلة قضاها في الحبس. والذي يعتقده
الناس أن كثيرًا من الأحوال حصل بهذه الطريقة ، لكن لا يمكن لأحد أن يقول:
إنها خرجت من جيوب زعماء الفتنة ، وقد شاع أنها صرفت في شراء بنادق غير
أن هذا الأمر لا يعلمه إلا أولئك الزعماء أنفسهم) .
فهل يصح لأي إنسان فيه ميل إلى الحق ومسكة من العقل أن يقول بعد قراءة
ما تقدم أن الترك وحكومتهم هم الذين يضطهدون الأرمن ويسعون في محق جنسهم
وملتهم من على وجه البسيطة ، كلا ، بل إنه من المحقق أن الأرمن الصادقين في
ولائهم للحكومة والمحترمين للقانون لا تقتصر الحكومة على وقايتهم بحمايتها ، بل
إنها ترقيهم إلى مناصبها السامية ، يدلك على ذلك أن منهم من ارتقى إلى منصب
الوزارة في الدولة ، ومن الثابت المحقق أيضًا أن الأرمن في تركيا وعددهم لا يكاد
يزيد عن 900000 نسمة لهم مدارس خصوصية ، ولغتهم وآدابهم محفوظة
وجنسيتهم محترمة ، ورؤسائهم يرقون في معارج المناصب ومراتب الشرف ، على
أن الدول المسيحية في أوربا وأميركا لا تعبأ باليهود والأسبانيين الكاثولكيين لم
يسمحوا لمسلم واحد أن يبقى ببلادهم في أوربا فطردوهم عن بكرة أبيهم من قرون
خلت ، والسبب في هذا الفرق العظيم بين تركيا وغيرها من الدول في المعاملة هو
أن الدين الاسلامي في الحقيقة مبني على التسامح والتساهل ، ولو لم يكن هذا
التسامح لما وجد في تركيا على بعد أطرافها مسيحي واحد في زمننا هذا ، ولكان
ذلك مفيدًا للأتراك فإنه لولا وجود المسيحيين في بلادهم ما كان يوجد ما يسمى الآن
بالمسألة الشرقية ، فهم يذوقون اليوم ألم التسامح الذي هو ركن أساسي من أركان
دينهم ، وكان يجب على أوربا وأمريكا شكرهم عليه ، ولكنا نرى عوضًا عن ذلك
عددًا ليس بالقليل من فصحاء المسيحيين يعين الناس في تركيا على ما لايعينهم عليه
في بلاده من الفتنة وشق عصا الطاعة فهل هذا هو الإنصاف؟ .
ليس هذا وحده من أدلة إجحاف المسيحيين بحقوق تركيا وظلمهم لها ، فمما
يثبت نية الإجحاف أيضًا ما ألصق بالباب العالى من التهم الشنيعة فيما جرى عليه
من السياسة في حق الأرمن الذين تجنسوا بالجنسية الأمريكية منذ كانوا في الولايات
المتحدة ورجعوا إلى أوطانهم التي ولدوا فيها ، وذلك بسبب إصراره على معاملتهم
بمقتضى قانون الجنسية العثمانية؛ لعدم وجود معاهدات بين تركيا وأمريكا في شأن
التجنيس ، وهو قانون مبني على الحكمة واللزوم سنته الحكومة العثمانية ، ونشرته
قبل المشاغب الأوربية بزمن طويل ، وسأقدم للقراء بيانًا مختصرًا للحقائق كما هى
في الواقع لا على الصورة التي يعميها بها أعداء تركيا راجيًا أن يكون ذلك مفيدًا لهم
في فهم حقيقة هذه المسألة فأقول:
صدر قانون الجنسية العثمانية في 19 يناير سنة 1869 وها هي نصوص
مواده.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
وقائل كيف تفارقتما
…
فقلت قولاً فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته
…
والناس أشكال وآلاف
حملني حسن الظن الذي يغلب علي في عامة الشئون على أن أجعل عبد الحليم
أفندي حلمي مراد مديرًا لأشغال المنار من أول إنشائه ، ثم لما بلوته ندمت على ما
فعلت ، ولكنني أشفقت عليه ، وصعب علي أن أخرجه من العمل ، وهو لا يحسن
عملاً يعيش به هو وعياله ، فأطمَعتْه الشفقة واللين في المعاملة في أن يقرن اسمه
باسمي في المنار نفسه (لا تطعم العبد الكراع فيطمع بالذراع) فلما عيل الصبر
أخرجته من إدارة المجلة ، ولكنه رغب إلي أن أتلطف في الإعلام بذلك في المنار
بحيث لا يُشعِر الكلام بانتقاصه فكتبت (الإعلان) بذلك في العدد التاسع برضاه ،
وطبع بمعرفته مبينًا أنه ليس له علاقة ما ولا شأن في المنار ، وأخذ النسخ ليضعها
في البوسطة حسب العادة فوضعها في بيته لأمر ما ، وانتهز فرصة غيابي في طنطا
واختلس ما في الإدارة من نسخ المنار التي تفضل عن المشتركين ، وعلم أن القضاء
سيقضي عليه فتوارى عن وجهي وجهه فلا أدري أين هو. وسيعلم عن قريب أينما
كان تأويل ما كنت أذكره به عند كثير من حوادثه معي ، وهو أن العاقبة للمتقين،
ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأرجو من الذين دفعوا إليه الاشتراك عن هذه السنة من المشتركين الكرام أن
يعرفوني بذلك مبينين تاريخ الايصال لأنني علمت أنه كان يختلف إلى بعضهم ،
ويأخذ منهم من غير أن يعلمني بذلك ، وأما المنار فسيصل إلى قرائه بعد الآن في
مواعيده بغاية الدقة والانتظام ، وسنرسل الجزء التاسع الماضي مع الحادي عشر إن
شاء الله تعالى.
***
(سكة حديد الحجاز)
تبين أن مولانا الخليفة والسلطان الأعظم مهتم جدًّا بإنجاز هذا المشروع
العظيم ، وهو الذي إذا قال فعل ، وإذا فعل أحسن وأتقن ، ومن محاسن هذه السكة
أنها أول سكة إسلامية محضة فهي لأجل إقامة ركن عظيم من أركان الإسلام ، وفي
بلاد كلها للإسلام ، وعمالها كلهم من أبناء الإسلام ، وحديدها كله مصنوع في
عاصمة الإسلام (الأستانة العلية أعزها الله تعالى) وخشبها من الغابات الأميرية ،
ولا يركبها إلا المسلمون ، فنسأل الله تعالى أن يتمم هذا العمل الشريف بالخير عن
قريب ، ويجزي مولانا أمير المؤمنين عن هذه المأثرة خير الجزاء بمنه وكرمه.
***
(انتصار الإنكليز على البوير)
دخل الجيش الانكليزي بريتوريا عاصمة الترنسفال ، وكان الرئيس كروجر قد
خرج منها ، وقد جرت العادة بأن دخول العاصمة هو منتهى الانتصار ، ولكن
البوير لما يزالوا مقاتلين ببسالة غريبة ، حتى قالوا: إن الجهاد الحقيقي قد ابتدأ منذ
الآن.
***
(جمعية شمس الإسلام)
تأسس فرع للجمعية في مدينة طنطا العظيمة ، وقد ذهب كاتب هذه السطور
بدعوة من المجتهدين في التأسيس ، فخطبت في الناس مبينًا لهم حقيقة الجمعية ،
وهي الدعوة للتهذيب والتعاون على عمل البر ، وجعلت قسمًا من الكلام في
وجوب مجاملة أعضاء الجمعية لمجاوريهم من المخالفين لهم في الدين ، واحترامهم
كما هو الواجب في الإسلام ، وهذا هو شأن هذا الفقير في كل خطبة يخطبها في
الفروع عند ابتداء تأسيسها.
وقد أشاعت إحدى الجرائد الأجنبية عن الجمعية بأنها سرية ، ولها أغراض
سياسية ، فقد جاءت تلك الجريدة إثمًا وزورًا. ولو كانت الجمعية سرية لما طبع
قانونها ، ولما ذكر اسمها في الجرائد من قبل أهلها. ومن توهم من سائر الناس أن
لكلام تلك الجريدة أصلاً فليطلب من رؤساء الجمعيات الحضور في اجتماعها؛
يتبين لهم الخطأ من الصواب ، والحق من الباطل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أوروبا والإصلاح الإسلامي
بينا في المقالة التي افتتحنا بها الجزء الماضي من المنار أن الأوربيين كانوا
يظنون أن الأمة الإسلامية قد قضي عليها فلا ترجى لها حياة اجتماعية ، وأنهم لما
رأوا بعض أعضاء هذه الأمة تحرك؛ ذعروا ودهشوا وأوجسوا في نفوسهم خيفة ،
وطفقوا يراقبون شخصها في نومه فكلما تعارَّ [1] ؛ قالوا: إنه هب مستنفرًا لإجلائنا
من بلاده وتقليص ظل سلطتنا عن رأسه.
ونعني بهذا اهتمام القوم لما تكتبه الجرائد الإسلامية ، وما ترمي به أفواه
الخطباء في الجمعيات التي نمدحها إذا قلنا: إنها في دور الطفولية ، فقد بلغنا أن
قناصل الدول في مصر يهتمون بترجمة كل ما يكتب حتى في الجرائد الصغيرة التي
تشبه فقاقيع الماء تظهر كهيئة القبة الزجاجية ولا تلبث أن تتلاشى وتضمحل ، ولا
يكاد يشعر بها إلا من يراقبها مراقبة دقيقة.
يروعهم منا اسم (الإسلام) و (الجامعة الإسلامية) و (الاتحاد الإسلامي)
يظنون أن وراءها غارات تشن ، وحروب تشب ، وتعصبًا يدمي ، وتحزبًا يفني ،
والصواب أن أكثر اللاغطين بتلك الكلمات والراقمين لها في تلك الورقات إنما
يقصدون بها تزيين اللفظ واستلفات اللحظ؛ جلبًا للمال وتحسينًا للحال. كالصدى
يحكي الطائر المغرد ، والأخذ بالظواهر قصارى فعل المقلد.
وقد يتزيى بالهوى غير أهله
…
ويستصحب الإنسان ما لا يلائمه
وأما من يتكلم عن بصيرة ، ويعمل عن حمية وغيرة ، فهم يعلمون أن محاولة
الطفور غرور بل جنون ، وأن بلوغ الغاية في البداية محال لا يكون ، فلا يطالبون
المسلمين بأن يكون لهم سلطان واحد وحكومة واحدة ، وأن يخرجوا على حكامهم من
غير المسلمين فيبيدوهم أو يجلوهم عن بلادهم ، فإنهم يعلمون أن التحريض على
هذا تحريض على إبادة الشرق أو إبادة العالم الإنساني إلا قليلاً ، والتحريض على
مثل هذا يمنعه كل دين ويأباه كل عقل.
نعم إن هنا مسألة يسوء الأوربيين ذكرها في الجرائد على أن ذكرها وعدمه
سيان؛ لأنها معلومة بالضرورة لكل مسلم ، وهي أن الدين الإسلامي دين سلطة
وسياسة لا دين تعبد وتحنث فقط ، فمن أصوله أن يسعى أربابه بأن تكون لهم
السلطة على العالم كله ، لا على المسلمين وحدهم كما يظن البعض ، ولكن هذا
الأمر من وظائف الخلفاء والأمراء ، لا من وظائف العامة فترشدها إليه الجرائد
والخطباء ، وتؤلف لأجله الجمعيات ، وإننا نعتقد أن الله تعالى ما كلفنا بنشر ديننا
في جميع العالم ورفع لواء سلطتنا على رؤوس جميع الشعوب لأجل الأبهة
والفخفخة ، وتمتع الملوك والأمراء بالسلطة المطلقة ، واستعباد الناس وإذلالهم
وإنما أمرنا الله باستعمار الأرض وإصلاح الناس ، ولذلك ذكر في أول الآيات التي
نزلت في الإذن بالقتال هذا المقصد الشريف ، فقال عز من قائل:] أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ [2 {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) فذكر من
الحكمة في الإذن بالقتال المدافعة وإزالة الظلم ، وحفظ المعابد التي يذكر فيها الله
تعالى ، وذكر من وصف المقاتلين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك إما
بالإلزام وإما بالتربية والتعليم ، وهذا هو الإصلاح الأكبر ، فإذا كان حكامنا يتركون
سيل الفساد والظلم في بلادهم وما يجرف حتى صارت أبعد بلاد الله عن العمران
وأقربها إلى الفساد فكيف لنا أن نحرضهم مع هذا على أن يضموا غيرها إليها؟ .
كلا إننا لا نطلب من حكامنا الآن إلا إصلاح البلاد التي يحكمونها ، وإقامة
العدل فيها؛ لتعمر البلاد وتسعد العباد.
وأما الأمة فإننا نطالبها في كل قطر من الأقطار وتحت حكم أية دولة من
الدول بشيء واحد صرحنا به مرارًا تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل: وهو مجاراة
الأمم الحية في العلوم والأعمال.
وإن سألتم عن السبب في مطالبتها بهذا بلسان الدين ، وسوقها إليها بسوط الدين؛
فهاؤم اقرأوا جوابيه:
أنتم أيها المعترضون تعتقدون أنه لا سبب لتأخر الأمة الإسلامية في جميع
بقاع الأرض عن سائر الأمم إلا دينها الذي هي عليه ، فكيف يمكن لأحد أن يتصدى
لإصلاح هذه الأمة بقول أو فعل ولا يكون جل عنايته أو كلها في دينها؟ لقد حفيت
الأقلام وخفتت الأصوات من كثرة ما كتبنا وخطبنا في موضوع شقاء المسلمين
بدينهم الذي سعد به أسلافهم ، وبينا أن علة الشقاء إنما هي في ابتداعهم فيه ، لا في
اتباعهم له ، وفي لبسه كما يلبس الفرو مقلوبًا كما قال الإمام علي كرم الله وجهه في
بعض أهل عصره ، واستقباحهم ما استحسنه واستحبابهم ما كرهه.
فإن الإسلام دين الفطرة الآمر بكل علم نافع الناهي عن كل جهل مضر.
فأمسى أهله يعادون كل علم لأجل الدين ، ويقاومون كل إصلاح باسم الدين
ويفندون كل نظام لتأييد الدين ، ويؤيدون كل خلل انتصارًا للدين. فإذا قلت: عليكم
بالعلوم الطبيعية لأنها الموصلة إلى الصناعات، قال علماؤهم: إن هذا يريد إفساد
عقول المسلمين. وإذا قلت: انظروا في التاريخ وتقويم البلدان لتعرفوا حالة
الإنسان ، قال علماؤهم: إن هذا يصدنا بهذا اللغو عن علوم الدين. فما هذا الدين
الذي هو أكبر بلاء على المتدينين؟ .
هل هو الإسلام الذي تستلفتنا آيات كتابه التي لا تحصى للنظر في ملكوت
السموات والارض ويقول: إن الله تعالى أنشأنا من الأرض واستعمرنا فيها ،
وسخر لنا جميع المخلوقات لننتفع بها؟ كلا ، هل هو الإسلام الذي أرشدنا قرآنه إلى
سنن الله في الآفاق وفي أنفسنا وهدانا للاعتبار بها؟ كلا. هل هو الإسلام الذي حثنا
على الجد والعلم ، ونفرنا عن الخمول والكسل حتى قال نبيه صلى الله عليه وسلم:
(إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) ؟ كلا ، وإنما هي بدع وتقاليد ألفت
فيها كتب لا تحصى ، وحشيت فيها كتب لا تستقصى ، ويسمى مجموعها دينًا.
قد كان عند الأوربيين مثلما هو عندنا اليوم ، وما تسنى لهم الإصلاح الديني
إلا بعد ما وضعوا تلك الحواجز الحديدية دون تلك الكتب الخرافية التي أفسدت العقول
وغلت الأيدي عن العمل ، وقيدت الأرجل دون السعي ، وجلعت زمام إرادة العامة
في أيدي رؤساء الدين ، أليست طبائع الأمم متشابهة وسنن الخليقة واحدة؟ بلى ،
وإن للمسلمين سلفًا لم يكن للمسيحيين مثله ، وفي القرآن من الحث على العلم
والعمل ما ليس في الإنجيل ولا في التوراة ، فلا بد إذن من الدعوة إلى الإصلاح
الديني قبل كل شئ وسنبين الأصول التي يجب الابتداء بالدعوة إليها بحسب ما
يسمح به المقام إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
التعار: هو أن يتكلم الإنسان في يقظة خفيفة من نومه ثم يأخذه النوم.
(2)
الصوامع للعُبَّاد ، والبيع معابد النصارى ، والصلوات لليهود ، والمساجد للمسلمين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
نصيحة أمير أفغانستان إلى ولده وولى عهده
الأمير حبيب الله خان
اطلعنا على نصيحة ألقاها الأمير عبد الرحمن أمير أفغانستان على ولده حبيب
الله خان نشرتها جريدة (الحبل المتين) التي تصدر باللغة الفارسية في مدينة
كلكتا ، وقد ترجمت هذه النصيحة جريدة محمدان إلى اللغة الإنكليزية ، ونحن ننشر
للقراء ترجمتها باللغة العربية ، فقد حوت من جليل الآراء وسامي الأفكار
الإدارية والسياسية ما هو جدير بمثل أمير الأفغان حفظه الله ، وها هي:
(في ذات يوم دعا الأمير عبد الرحمن ولده حبيب الله خان وألقى على مسامعه
العبارات الآتية) :
ولدى العزيز: لا يخفى عليك أنني سلمت لك زمام الحكومة في مدة حياتي ،
وأن هذا العمل بلا شك مخالف لنظام الحكومات ومعاملات الدول الأوربية في
الغرب والسلاطين في الشرق ، ولكن غرضي من ذلك هو أن أعلمك كيف تحكم
وكيف تفعل؛ لكي تكون على بصيرة وحكمة حينما يخلص إليك الملك وترقى على
عرش هذه الدولة ، ولي في ذلك أيضًا غرض آخر وهو أن يعرف مقامك رؤساء
القبائل الأفغانية فيخشوا بأسك ويخضعوا لرأيك.
والآن أريد أن ألقي على مسامعك بعض كلمات في قالب النصيحة ، وأعتقد
أنك إذا سِرت على خطتها تأمن على سلامة بلادك ، ولا ترتكب خطأ في حكومتك
يؤدي إلى ضياع نفوذك وهذه نصيحتي إليك:
(1)
يجب عليك يا بني أن تتمسك بمبادئ دينك الشريف ، فتجعل له المقام
الأول ، وتنظر للواجبات الخاصة به قبل نظرك إلى أشغالك وسياستك ، وبعبارة
أخرى: يجب عليك أن تكون قدوة حسنة في التقى والدين لكافة أفراد رعيتك.
(2)
يجب عليك أيضًا أن توجه عنايتك إلى سعادة أمتك وراحة رعيتك ،
وتوطيد دعائم السلام والسكون في أرجاء بلادك. واعلم أن نجاح البلاد وفلاحها
متوقفان على الثروة ، وأن الثروة والنفوذ لا يدرَكان بغير وسائط الزراعة والتجارة
والصناعة ، وأن هذه الوسائل تحتاج في ترقيتها وتنجيحها إلى التعليم والتربية
العموميين.
إن أمتنا يا بني لا تزال في الدرجة الدنيا من درجات المدنية ، ولم يوجه
أفرادها أنظارهم إلى تحصيل العلوم وتربية الأفكار ، ولقد كانت أميالي القلبية من
زمن طويل موجهة إلى تشييد المدارس وإرسال أنوار العرفان إلى سائر الأقطار
الأفغانية على طريق المدارس ودور الفنون الموجودة في البلاد الغربية ، ولكن مثل
هذه الغاية لا تدرك بمجرد الإرادة ، ولا تحقق في زمن قليل؛ لأنها تحتاج إلى
التنمية والترقية التدريجية وحينئذ يلزمك أن توجه عنايتك التامة إلى هذه النقطة
المهمة ، وأن تعتقد أن من أقدس الواجبات عليك هو أن تبعث في نفوس رعيتك
ميلاً إلى التربية والتعليم.
(3)
حيث أنك ستستلم زمام الأحكام بيدك ، وتكون أنت أفضل رجل في
هذه الديار وأسماهم عقلاً وأكبرهم فكرًا وأعلاهم مقامًا - فأحسن معاملة أتباعك
ومَن تحت حكمك. عامل رعيتك باللطف والمحبة الأبوية ليعتقدوا اعتقادًا ثابتًا
بشفقتك عليهم وحرصك على سعادتهم وراحتهم؛ إذ هذا العمل يزيد في محبتهم لك
ويجعلك أسمى مكانة في أعينهم ، ولكن لا يجب أن تعامل الأجانب بمثل
هذه المعاملة الأبوية لأنها تزيد في جسارتهم ووقاحتهم.
(4)
يجب عليك أن تقدر أعمال رجالك ولا تنسَ فضل الفضلاء منهم
فتكافئهم؛ لأن ذلك يقوي عزائمهم وينشطهم على خدمتك بالدقة والإخلاص
والاستقامة.
(5)
كن بعيدًا عن المحاباة والمجاملة في إنصاف المظلوم من الظالم ومعاقبة
المجرم على جريمته ، ولو كان المذنب ولدك وفلذة كبدك ، واعرف أنك بذلك
تسترقُّ القلوب وتستعبدها.
(6)
لا تمكِّن الأجانب من فرصة ينالون بها حقًّا من الحقوق أو نفوذًا كيف
كان ، لأنك لو ملكتهم قليلاً من الفرصة فإنك تمهد لهم الطريق إلى خراب مملكتك
وضياع بلادك.
(7)
حيث أن الحكومة الإنكليزية بقيت معي إلى هذا العهد مسالمة مصافية
فكن معها كما كنت أنا ، ولكن على أي حال ضع نصب عينيك سلامة أفغانستان
واستقلالها.
(8)
ليكن من أول الواجبات التي تكلف نفسك بها: حماية مصالح رعاياك في
كل حال من الأحوال.
(9)
أما ما يختص بالمسائل السياسية فيجب عليك أن لا ترتكن فيها على
وزرائك وأعوانك ، بل يجب عليك أن توجه اهتمامك لكل شئ صغيرًا كان أو كبيرًا
بنفسك.
(10)
وأما ما يتعلق بالمسائل الحربية فاعلم أنه يلزمك أن تكون قواتك
الحربية على قدم الاستعداد كأنما تريد أن تزحف بها في الغد إلى ساحة القتال
لمحاربة دولة أقوى منك جأشًا وأكثر عددًا وعِدَدًا ، واعلم يا بني أن الأيام علمتنا
دروسًا يجب أن نستفيد منها ، فقد عرفنا أن من أول الضروريات أن يكون الجيش
دائمًا على أهبة الاستعداد التام ، ثم لا تنس زيادة الآلات والذخائر الحربية في زمن
السلم لأنه كما لا يخفى عليك من الصعب أن تزود جيشك بما يكفيه من المؤونة
والذخائر والآلات في زمن الحرب.
(11)
يجب على الملوك أن يجتهدوا في جذب قلوب الجند وازدياد محبتهم
لهم فاجعل جنودك سعداء مرتاحين فيحبوك فلا يتأخروا للوراء في ساعة يفيدك فيها
أن يضحوا حياتهم حبًا فيك وحرصًا على سلامتك ، واعلم أن الجنود يبيعون
أرواحهم الغالية بمرتبات قليلة تعطى دائمًا في مواعيدها ، وإذا لم تسر معهم على
هذه الخطة فإنهم يضنون في ساعة شدة أن يبيعوك أرواحهم بثمن أغلى
وقيمة أسمى.
(12)
يجب أن تعلم يا بني أن بيت مال الحكومة هو ملك الأمة ، وليس
مقام السلطان أو الأمير تجاهه إلا مقام الحارس الأمين على ما فيه ، فإذا ابتدأ الحاكم
يصرف المال المودع عنده على مصالحه ومطالبه الخصوصية؛ فإنه يكون خائنًا
لمن ولوه الأمانة ، وسلموه القيادة ، واعتقدوا فيه الاستقامة ، ومن المقرر المعلوم أن
الخائن لا قيمة له في أعين الأمة مطلقًا ، وأنه مبغض عند الله وعند الناس أجمعين ،
ويجب أن يكون بيت المال دائمًا ممتلئًا لأن ضعف الحكومة يظهر في قلة مالها
أكثر من ظهوره في شيء آخر ، كذلك يلزمك أن تدقق في ضروب المصروفات
والإيرادات ، وكل ما يزيد يضم على بيت المال بالتوالي.
ويجب عليك أن تعمل كل ما في إمكانك من الوسائل لزيادة ثروة بيت المال
لكي تتمكن من إنجاز الأعمال التي تريد إنجازها سواء كانت حربية أو سياسية أو
تجارية أو صناعية أو تعليمية في الأوقات المناسبة لها؛ لأن الزمن يا بني يحتاج
إلى كل هذه الأعمال والسير على هذا النهج القويم لكي تعيش آمنًا مطمئنًا قويًّا
عزيز الجانب) اهـ من ترجمة المؤيد بتصرف قليل.
(المنار)
يا حبذا لو اعتبر بهذه النصيحة جميع الحكومات الإسلامية ، فإن
الإمارة الأفغانية ما أصبحت أعزها وأقواها على صغرها إلا بحزم وحكمة أميرها
الذي أفاده نور البصيرة وحسن التجربة هذه النصائح التي هي أساس السياسة وروح
الرئاسة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
هانوتو والإسلام
سأل أحد أفاضل مسلمي بيروت صديقًا له من أدباء المسيحيين مقيمًا في مصر
القاهرة رأيه ، وما وصل إليه علمه في شأن المناقشات التي بنيت على مقالات
هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقًا في الإسلام لا سيما صحة الترجمة؛ فأجابه
بكتاب نذكر منه في هذا المقام ما يأتي:
(مقال هانوتو الذي سبب حركة الأفكار واهتزاز الأقلام قد طالعته مرارًا
باللغة الفرنسوية ، وترجمة المؤيد غير مغلوطة ، ولكن المسيو هانوتو عندما نقل
كلام كيمون كان غير مرتاح إليه ، وتهكم صريحًا على أفكاره ، وعلى الحل
المتناهي في الغلو الذي زعم كيمون أنه يريد أن يحل به المسألة الإسلامية ، فمترجم
مقال هانوتو في المؤيد قد حافظ المحافظة التامة على الأصل فاكتفى بأن يضع إشارة
الاستفهام الإنكاري ، والنقط التي تتبعها ، غير أن قراء لغتنا العربية لم يتعودوا على
إدراك سر هذه النقط التي اصطلح عليها الفرنجة ولهذا التبس المعنى ، وظن
الكثيرون أن هانوتو يصادق على كلام كيمون ، ومع ذلك فقد استأنف الكلام وعاد
ثانيةً إلى الإسلام وتبرأ مما نسب إليه ، وصرح بميله واحترامه الإسلام
والمسلمين ، وترجم مقاله المؤيد ، وتبعه في ذلك الأهرام أيضًا.
ثم دخل اللواء في مضمار المباحثة ، وتكدر منه محرر الأهرام الفرنسوي
(وهو شاب استقدمه تقلا باشا من باريز) وطلب مصطفى بك كامل إلى المبارزة ،
وتبع ذلك أقاويل مختلفة ، وأقيمت الدعوى من تقلا باشا على صاحب اللواء وتشاتم
الفريقان ، وانحاز إلى كل فريق أنصار ومريدون.
مولاي ، لو اكتفى المؤيد واللواء بما كتبه ذاك الإمام العظيم؛ لخدما حقيقة
الإسلام لأن الحق يصرع إذا عمد إلى إظهاره بالسباب والشتائم ، ولم يكن لرد الإمام
الوقع العظيم في نفوس المسلمين فقط ، بل إن كثيرين من أفاضل النصارى قد أجلوه
كثيرًا وأحلوه محلاًّ كريمًا ، ولا أبالغ إذا قلت لسعادتكم: إنني قرأته أكثر من
عشرين مرة.
دين الإسلام كله شهامة ومروءة وحرية ومدنية طاهرة ، غير أن كيمون
والذين على شاكلة كيمون قد تلقوا كل ما هو معاكس لروح الإسلام والمسلمين وبعيد
عن عقائدهم وأدابهم وأخلاقهم ، وكتاب الفرنجة لا يراعون العواطف في اندفاعهم ،
وقد كتب الكثيرون منهم في الطعن على السيد المسيح وعلى طهارة والدته وعلى
كرامة تلامذته ، وتصدى منهم فريق عظيم للتوثب على الأحبار الأعاظم ، وقالوا
فيهم الأقوال الشائنة التي ترتعد لها فرائص الأداب والفضيلة ، فالقوم الذين بلغ بهم
التمادي والغرور إلى هذا الحد أيليق أن نترجم أقوالهم ونذيع ترهاتهم على رؤوس
الأشهاد ونحرك ما كمن من الأحقاد؟
إنني أستحلفك بدينك القويم الذي أشرق بنوره الوضاح على البصائر المظلمة؛
فأنارها ، وعلى العقول المقيدة فأرشدها وحل عقالها ، وعلى القلوب المتسكعة فأيقظها
وقوم اعوجاجها - أن تحرك قلمك وتغمزه إلى الغاية المحمودة وذلك في
استنهاض همم فطاحل كتاب المسلمين للذود عن الإسلام بالطرق التي يريدها الإسلام،
والطرق التي يريدها الإسلام لا تخفى على أفاضل المسلمين الذين أشربت قلوبهم
محبة الائتلاف والموادعة والمسالمة وتحريض الأمة على اكتساب الفضائل السامية
في إكرام الجار ، وتعزيز حقوق الجوار ، ومعاملة عباد الله بطرق المساواة والعدل
والولاء.
يوجد كثيرون من الذين لم يتشرفوا بالدين الإسلامي على ضلال مبين في
أفكارهم وظنونهم نحو الإسلام والمسلمين ، ولكن ضلالهم لا تعفو آثاره إلا البراهين
القاطعة والحجج الدامغة التي تثبت لهم أن دين الإسلام دين الحرية المطلقة والحنان
الصادق والشهامة الحقيقية والمحافظة على الأعراق وكرم الأخلاق والعرض
والإخلاص والوفاء.
أتظن يا مولاي أن كيمون يقذف من فيه تلك الأقذار لو كان قرأ في زمانه
فصلاً واحدًا من الفصول التي دبجتها أنامل الإمام علي كرم الله وجهه.
أتظن أنه يجرؤ على التلفظ بذاك الحل الهائل الذي يريد أن يحل به المسألة
الإسلامية لو كان سمع بحلم وحكمة العُمَرين وكرم ابن زائدة وعدل الرشيد وسخاء
البرامكة؟ .
أتظن أنه يحرك قلمًا لو علم بأن أحقر رجل من المتدينين بدين الإسلام يهرق
آخر نقطة من دمه في الذود عن عرض وكرامة الملتجي إليه عندما يسأله الحماية.
مهما كان كيمون والذين على شاكلته في غرور وضلال فإنهم لا يستطيعون
بعد معرفة الإسلام إلا الثناء على الإسلام والافتخار بفضائل الإسلام.
وكنت أود من صميم الفؤاد أن أضم صوتي إلى أصوات مقرري الحقيقة
وأنصح أفاضل المسلمين أن يتخذوا الخطط الصائبة في مجادلاتهم وكسر شرة
المتوثبين عليهم ، فالحق - أيدك الله - في جانبهم غير أن بعض جهالهم يريدون أن
يصرعوه في تطفلهم على صناعة التحرير والتحبير ، ولا أكتم على سعادتكم شيئًا
فإن الأقلام التي تحركت من بعد رد الإمام المعتدل المحكم لم تأت بشيء من الفائدة ،
بل أضاعت أو أوشكت أن تضيع الحق الذي بجانبكم ، وتسبب حركة لا يرضاها
عقلاء الأمة الإسلامية عن القاهرة في 9 يونيو سنة 1900.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ج.ع
(المنار)
نحن تحامينا الخوض في المجادلات عندما حمي وطيسها ، وكنا
غير راضين عن الذين تهوروا منا فطعنوا في الديانة النصرانية نفسها بما لا يتعلق
بالرد ، ورأينا من نعرف من أفاضل المسلمين معنا في هذا الرأي ، وقد نشرنا كلام
هذا الكاتب الأديب المسيحي لما فيه من روح المودة الذي نحن في أشد الحاجة إليه
ولا شيء ينفخ روح الهدوء والائتلاف مثل الاعتدال والإنصاف.
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد من كتاب أميل القرن التاسع عشر)
(9)
من أراسم إلى هيلانة في 2 يونيه سنة -185
لا مراء في لزوم الاستعانة بضروب السلطة المطلقة في تربية الأطفال إذا
كانوا حديثي السن جدًّا رعاية لمصلحتهم ، فيؤمر الطفل منهم بالإقبال فيقبل ، وبفعل
كذا فيفعل ، وينهى عن الانطلاق إلى جهة كذا مع قرن هذا النهي بفعل يحول بينه
وبين الذهاب إليها فلا يذهب. مثل هذه الأوامر الصريحة التي تصدرها الأم لولدها
مع تلطيف شدتها بنغمة الصوت فيها ، ومباشرة ائتماره بها بنفسها مما لا بد أن يقبل
عذرها فيه؛ لأنها إنما تخاطب بها ذاتًا مجردة من العقل. على أن الأفضل التعجيل
بالكف عن الإلزام والقسر متى صار ذلك ميسورًا.
إن قهر الطفل على الامتثال وإلزامه إطاعة الأوامر يستلزم حتمًا إخماد وجدان
الاستقلال في نفسه خصوصًا إذا طال أمد ذلك العهد، فإنه إذا كان غيره يتكلف
الحلول محله في الإرادة والحكم المطلق على الخير والشر والإنصاف والجور فأي
حاجة تبقى له في الرجوع إلى وجدانه واستفتاء قلبه ، وعسى أن لا يكون هذا شأننا
مع (أميل) لأن بالحلول محله في عمله - أعني إلزامه اتباع أوامرنا - يميت فيه
قوى عزيمته الشخصية ، فمن أجل أن يكون له قيمة حقيقية يجب أن يصير خيرًا
صالحًا باختياره لا رغم أنفه ، وأن تكون أفعاله صادرة عن إرادته ، وإني أود كثيرًا
أن يكون من صغره عارفًا بخصائصه ونقائصه ليزيد في الأولى ، ويتجرد من
الثانية بتقدمه في سبيل الحياة ، فعلينا إذن أن لا نتعامى من أول الأمر عن حقيقة
وظيفتنا وحدودها. فإن الطفل لا يصير صالحًا بعمل الغير ، بل يكون كذلك بنفسه ،
ووظيفتنا كلها في تربيته تنحصر في إرشاده إلى استخدام وجدانه ، ويجب علينا
أيضًا في سبيل إرجاعه عما يقع منه من الهفوات في سيرته أن نقنعه بمضرة
الأشياء القبيحة بما في تلك الأشياء من البراهين الذاتية على ضررها ، لا بما لنا
من الحجج المتسلسلة ، وإني لو أسعدني الحظ فتوليت تربية (أميل) بشخصي
لما طالبته بطاعتي فيما آمره به ، بل إني متى تمكنت من مخاطبة عقله نصحته بأن
يسير على مقتضى القوانين التي تجري عليها شؤون الكون المعنوية
وحوادثه المادية.
يجري معظم الآباء مع أبنائهم على هذه الطريقة في الاستدلال وهي: اعتقد
صدق ما أقوله لك ، وافعل ما آمرك به ، وسأثبت لك بعد ذلك أنه هو الحق والعدل وأنا لا أسير عليها مطلقًا ، بل إني أجتهد في إقناع (أميل) بأن الأمر الذي
أنصحه باتباعه أو باجتنابه هو حسن أو قبيح لا لأني أراه كذلك بل لأنه قد يكون
مفيدًا للناس أو له أو مضرًّا بهم ، وكأني بك تقولين أن ذلك يقتضي أن يكون للطفل
مزايا عقلية خاصة به ، فأقول: إنه لا يقتضى إلا ذوقًا كبيرًا ، وبساطة كلية فيمن
يتولون تربيته وتعليمه ، فليس الذي يؤثر في ذوق الأطفال السليم هو كثرة الكلام
الذي يرمى به جزافًا أو طول الشرح في القول ، وإنما الذي يؤثر فيهم هو حسن
النوايا ونبل المقاصد لأنهم أقوى بصيرة مما نتوهمه بألف مرة.
الطاعة الصادرة عن حرية واختيار ترفع طبع الطفل، والإذعان الناشئ من
القسر يحطه ، فللأم ومعلم المدرسة كلمة يقولونها عن الطفل العنيد العاصي
لأوامرهما وهي قولهما: (سأذللُه) والحقيقة هي أن الناشئين على طريقتنا
الفرنسوية في التربية مذللون دائمًا.
نعم قد يقال: إنه في السير عليها مصلحة للأحداث وللمجتمع الإنساني ، ولكن
سائس الخيل له أيضًا أن يقول للحصان الذي يروضه: لا تجزع فإني إنما أفعل هذا
بك لمصلحتك. على أن إطلاق الترويض على الحصان أصلح من إطلاقه على
الإنسان لأن هذا الحيوان لا يخسر بترويضه باللجام والمهماز إلا حدته الوحشية ،
وأما الإنسان فإنك إذا أخذته بالقهر ، وسسته بالإرغام والقسر تذهب بحب الكرامة
من نفسه وتبخس قيمته في نظره. على أن الخوف وازع ضعيف فإنه لا لص ولا
فاتك إلا وهو يرجو النجاة من العقوبة على جريمته حال ارتكابها ، ولا طفل يعصي
ما يأمر به قيمه ومعلمه أو يعمل الشر إلا وهو يتخيل في نفسه مهارة في الخلاص
من تبعة ذلك ، فإذا نجح في هذا ولو مرة واحدة يحمله هذا النجاح على الثقة بنفسه
في خداع القائمين بتربيته وتهذيبه ومواربتهم.
والطفل الذي يعامل بالقسوة ويؤخذ بالعقوبة يستجم قواه ، ويستجن بكبره
وعناده لمقاومة حملنا عليه بسلطتنا وقوتنا.
لا شيء أسهل على الوالدين من إلقاء نير استبدادهما على عنق الطفل ، كما
أنه لا شيء أصعب عليهما بعد ذلك من استرداد ما يفقدان من ثقته بهما ، ومتى
شعر بأنهما يسوسانه بالهوى والاستبداد فإنه لا يخضع لهما إلا بالضغط والإلزام ،
وفي هذه الحالة ترى عليه أمارات الانقياد والطاعة ، ولكنه يطوي جوانحه على
نوع من التذمر والعصيان يستره الرياء ، وتترقب إرادتُه التي ترضخ لألم العقاب
بالسوط الوقتَ الملائم لاستعمال الخداع والمكر ، فإن الخداع هو سلاح الضعيف
يُعده للاحتماء به من شر القوي ، ولما كان عاجزًا عن الكفاح كان يبحث دائمًا عما
يخلصه من سلطة أهله.
وما أشد عجبي من خبثه واجترائه على الاختلاق في مثل هذه الحالة ، فإن
كثيرًا من الأطفال لا يبلغون السابعة والثامنة من عمرهم إلا ويحاكون في المكر
والاحتيال سري بلوت [1] وإسقابيني موليير [2] بل وفيجاور يومارشيه [3] .
ومن عواقب القهر الوخيمة أنه يغيض ينبوع الفرح والسرور من نفوس
الأطفال ، فما أشبه الطفل المحروم من حريته بفصل الربيع الذي لا تشرق فيه
الشمس. أتحسبين أن هذه العواقب تنتهي بانتهاء سن الطفولية ، ولا يكون لها أثر
في مستقبل حياته؟ كلا ، إنني لأعرف لأول وهلة من رؤية الرجل ما كان من
نعمته أو بؤسه في طفوليته. ترين الذين يربون بالقهر جبناء عابسي الوجوه كاسفي
البال ويكون لذلك ظلمةً في عقولهم وعصل في طباعهم. (أي: اعوجاج بصلابة) .
وأنا أسال الله سبحانه أن يحفظنا من مدعي العلم والمعلمين ، فإنهم هم الذين
يفسدون أخلاق الناشئين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
بلوت: شاعر هزلي لاتيني برع في أشعاره زمن الحرب اليوتيه الثانية ، وكتب عشرين رواية كان من الممثلين في بعضها جماعة من الأسرى جعلهم مظهرًا للخبث والخداع.
(2)
إسقابينى موليير هم أشخاص من الممثلين في بعض روايات موليير الكاتب الفرنساوي الشهير جعلهم عنوانًا للدسائس والخبائث.
(3)
فيجارو يومارشيه أشخاص من الممثلين في روايات الكاتب الفرنساوي الشهير يومارشيه أناطهم بتمثيل الدسائس والفتن.
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(مدنية الإسلام)
قصيدة غراء مطولة لناظمها الشاعر الأديب الشيخ حسين محمد الجمل
القناياتي الأزهري، كان الباعث له على نظمها حمية جاشت في نفسه من مقالات
الموسيو هانوتو في الإسلام.
بدأ الناظم قصيدته بالكلام على حاجة الناس للإرشاد الإلهي ، ثم ذكر الأنبياء
وخاتمهم والقرآن ، وأفاض في محاسن عقائده وأخلاقه وآدابه وصرفه النفوس عن
الشرور والرذائل ، ثم ذكر الصحابة وفتوحاتهم وقال:
سقى أمة الإسلام أخلاف مزنة
…
يدرّ لها وابل من الغيث أسجم
فما فتحته في ثلاثين حجة
…
وأضحى به الإسلام وهو مفخَّم
كما فتح الرومان من قبل في مدى
…
مئات ثلاث بل أولئك أضخم
وقد سها الناظم في ذلك ، فإن المعروف من التاريخ ، وذكرناه في المنار من
قبل أن المسلمين فتحوا في مدة ثمانين سنة أكثر مما فتحه الرومانيون في ثمانمائة
سنة ، وهو تقدير صحيح لكنه لا يستلزم أن يكون كل عشر سنين من فتوح
المسلمين تساوي أو تزيد على عشرة أمثالها من الرومانيين.
ومن محاسن القصيدة قوله في إثر ما ذكره من الفتوحات:
فهل بعد هذا يفهم الخصم أننا
…
كسالى عن الأعمال أو يتوهم
ويزعم أن الدين يلوي بأهله
…
عن الخطة المثلى وأن يتعلموا
فوالله إن الدين ما حل بلدة
…
من الكون إلا وهي بالعلم تكرم
فللعلم والتعليم أشرق ديننا
…
وبالعلم والتعليم قد كان يفخم
سلوا الطب والتاريخ عنا وحكمة
…
سلوا علم تقويم البلاد لتعلموا
علوم الرياضيات عنا تبينت
…
علوم الطبيعيات عنا أخذتم
فمنا الذي الأفلاك منه تقومت
…
وكم فاق منا راصد ومنجم
ومنا الأساطين الذين تكشفت
…
غوامض أسرار الطبائع عنهم
أولئك أهلونا فجيئوا بمثلهم
…
وإن جئتم فالأفضل المتقدم
فيا أهل أوربا ألا تذكرون إذ
…
جهالتكم كانت عليكم تخيم
ونحن بأنوار المعارف نهتدي
…
ونمرح في الإسعاد والعيش ينعم
فلا كنت يا حرب الصليب لهم فقد
…
جعلت عدانا يعرفون ونعجم
فنحث حضرة الناظم على مداومة النظم في هذه الموضوعات الأدبية
والاجتماعية ، وخصوصًا الإسلامية مع الدقة في الضبط ، ولكن بدون أن يتعرض
للأديان الأخرى كما يفعل بعض المتهورين.
***
(المجلة المصرية)
مجلة أدبية تاريخية قضائية اقتصادية علمية زراعية تصدر في غرة كل شهر
ومنتصفه لصاحبها ومنشئها الكاتب الأديب الشاعر الناثر خليل أفندي مطران
(وتشترك في تحريرها لجنة من أعاظم الكتاب) ويديرها الكاتب الفاضل محمد
أفندي مسعود، وقيمة الاشتراك فيها ثمانون غرشًا صاغًا في السنة ، وقد صدر منها
عددان مشحونان بالمقالات المفيدة والقصائد اللطيفة والمسائل النافعة، فنحث عليها
القراء ، ونسأل لها النجاح والارتقاء.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
قانون الجنسية العثماني
(تابع ويتبع)
المادة الأولى - كل من وُلد من أبوين عثمانيين أو من أب عثماني فقط فهو
من رعايا الدولة العثمانية.
المادة الثانية - يجوز لكل من وُلد في أرض المملكة العثمانية من أبوين
أجنبيين أن يطلب اعتباره عثمانيًّا في السنين الثلاث التالية لبلوغه سن الرشد.
المادة الثالثة - كل أجنبي بالغ أقام في بلاد المملكة العثمانية خمس سنين
متوالية يجوز له أن ينال التابعية العثمانية بطلب يقدمه لنظارة الخارجية بنفسه أو
بواسطة غيره.
المادة الرابعة - للحكومة الشاهانية أن تمنح التابعية العثمانية على خلاف
المقرر في المادة السابقة لكل أجنبي ترى فيه أنه حقيق بهذا الامتياز.
المادة الخامسة - كل عثماني نال جنسية أجنبية برضا الدولة الشاهانية
وإذنها يعتبر أجنبيًّا ، ويعامل معاملة الأجانب ، فإن تجنس بجنسية أجنبية بغير إذن
الحكومة كان تجنسه باطلاً ، واعتبر كأنه لم يكن ، وبقي هو معتبرًا عثمانيًّا في
جميع أحواله ومعاملاته ، ولا يسوغ لأي عثماني في أي حال من الأحوال أن
يتجنس بجنسية أجنبية ما لم يحصل على شهادة دالة على تصريح الحكومة له بذلك
وتعطى هذه الشهادة بمقتضى إرادة شاهانية.
المادة السادسة - يجوز للحكومة الشاهانية أن تحكم بالحرمان من التابعية
العثمانية على كل من تجنس من رعاياها بجنسية أجنبية ، أو قبل من دول أخرى
التوظف في وظائفها العسكرية بدون تصريح من دولته ، وفي هذه الحالة يستتبع
الحرمان من التابعية العثمانية وحده منع من استحقه من الرجوع إلى المملكة
الشاهانية.
المادة السابعة - للمرأة العثمانية التي تزوجت بأجنبي ومات زوجها أن
تسترد تابعيتها العثمانية بأن تقرر ذلك في السنين الثلاث التالية لوفاته ، لكن هذا
الحكم لا يتعدى شخصها فتبقى أملاكها خاضعة للقوانين واللوائح العامة التي كانت
تابعة لها قبل وفاة الزوج.
المادة الثامنة - إذا تجنس عثماني بجنسية أجنبية ، أو خسر جنسيته العثمانية
فإن ولده وإن كان قاصرًا لا يتبعه في جنسيته ، بل يبقى عثمانيًّا ، وإذا تجنس
أجنبي بالجنسية العثمانية فلا يتبعه ولده أيضًا في جنسيته وإن كان قاصرًا بل
يبقى أجنبيًّا.
المادة التاسعة - كل شخص يسكن بلاد الدولة العثمانية يعتبر عثمانيًّا ،
ويعامل معاملة العثمانية حتى يثبت لدولة أخرى إثباتًا قانونيًّا.
وقد صدر منشور وزاري في 26 مارس سنة 1869 لجميع حكام الولايات
والأقاليم يتضمن تفسير مواد هذا القانون وإيضاح معانيها الحقيقية، أنقل إليك معناه
وهو بعد الديباجة:
قد بلغتكم بنفسي قانون الجنسية العثمانية الصادر في 6 شوال سنة 1285
الموافق 19يناير سنة 1869 وإني على ما أراه في سياق نصوصه من وضوح
معانيها التي لا يختلف في فهمها اثنان أرى من الضرورى أن أبين لكم المقصد
الأصلي من أحكامه المهمة فأقول:
إني قبل كل شيء لست فى حاجة لتنبيهكم إلى أن هذا القانون كغيره من
القوانين لا تجري أحكامه على الحوادث السابقة لصدوره فجميع من سبق تجنسهم
بالجنسية العثمانية من الأجانب ، وجميع العثمانيين الذين تجنسوا بجنسيات أجنبية
بمقتضى معاهدات أو عهود مبرمة بين الباب العالي والسفارات الأجنبية المعتمدة
عنده - يبقون كما كانوا قبل صدوره عثمانيين أو أجانب. الأحكام المبينة في المواد 1
و2 ، و3 ، و4 هي من الوضوح بحيث لا تحتاج لأدنى شرح، وإنما الذي أستلفتكم
إليه هو أنه لما كان قانون الأحوال الشخصية لكل فرد - أي قانون منشئه - هو
الذي يحدد زمن بلوغه ، وكان ذلك القانون يختلف في هذا التحديد باختلاف البلدان لأنه
في بعضها يحدد الزمن المذكور بخمس وعشرين سنة ، وفي بعضها بأكثر من ذلك
وفي بعض آخر بأقل منه - كان من الواجب على كل أجنبي أراد التجنس بالجنسية
العثمانية أن يثبت أنه وصل إلى سن البلوغ على حسب ما يقضي به قانون منشئه.
قضت المادة الخامسة على جميع العثمانيين الذين يريدون التجنس بجنسيات
أجنبية أن يحصلوا قبل ذلك على إذن مكتوب من الحكومة يعطى إليهم بمقتضى
إرادة شاهانية ، فإن لم يقوموا بهذا الواجب اعتبر تجنسهم باطلاً كأنه لم يكن ، بل
كان للحكومة الشاهانية الحق (كما في المادة السادسة) في أن تحرمهم من الجنسية
العثمانية حرمانًا يستلزم وحده منعهم من الرجوع إلى المملكة العثمانية ، وتقرير هذا
العقاب من خصائص الباب العالي نفسه ، فعلى الحكومة الشاهانية إذا تجنس عثماني
بجنسية أجنبية قبل الحصول على تصريح من حكومته أن تقتصر على اعتبار
تجنسه باطلاً ، ولا يجوز لها أن تتعرض لطرده قبل أن تتلقى الأوامر بذلك من
الباب العالي مباشرة.
من حيث إن المرأة العثمانية التي تتزوج بأجنبي تزول عنها جنسيتها العثمانية،
فإذا مات زوجها كان لها الحق بمقتضى المادة السابقة في أن تسترد جنسيتها
الأصلية بأن تقرر ذلك الحكومة العثمانية في السنين الثلاث التالية لوفاة زوجها.
قضت المادة الثامنة بأن تجنس الأب لا يستلزم تجنس أولاده وإن كانوا
قاصرين ، فإذا منح الأب امتياز التجنس بجنسية أجنبية فلا يشمل هذا الامتياز
أولاده إلا إذا أرادوا ذلك ، فإذا كانوا بالغين وقت تجنسه كان لهم الخيار في اتباعه
أو بقائهم عثمانيين ، فإن اختاروا الأول وجب عليهم طلبه من الحكومة ، وإذا كانوا
قاصرين كان لهم هذا الخيار عند بلوغهم وغني عن البيان أن هذه الحكم فضلاً عن
موافقته لمعظم الشرائع الأوربية لم يقصد بوضعه الأخير الأولاد وفائدتهم ، فإنهم قد
يجدون في بعض الأحوال أنه ليس من الملائم لمصلحتهم أن يتبعوا آباءهم في
الجنسية ، بل قد يرون أن في ذلك ضررًا عليهم. لكن ذلك الحكم لا يسري على
الأطفال الذين يولدون عقب تجنس أبيهم بالجنسية الأجنبية بل إن هؤلاء يتبعونه في
جنسيته ويكونون من الدولة التي صار تابعًا لها.
لا غرض من الشرط الذي جاء في نهاية القانون إلا بيان ما يتبع في حق
الأشخاص الذين قد توجد أسباب صحيحة لاعتبارهم عثمانيين ، وهم يدعون التابعية
لدولة أجنبية بدون أن يكون في حالهم ما يؤيد دعواهم.
فمن البديهي أنه عند حصول التنازع في تلك التابعية يجب على مدعيها أن
يقدم للحكومة مايثبتها ، وعلى جهات الحكومة أن تعتبره عثمانيًّا وتعامله معاملة
العثمانيين ما دام موجودًا في بلاد الدولة حتى يقدم لها ذلك الإثبات.
ولا يخفى على فطنتكم أن المادة الثامنة من القانون لم تغير شيئًا من الحقوق التي
تكلفها للأجانب المعاهدات ، ولم تعط لجهات الحكومة الحق في مخالفة اللوائح
المبنية على تلك المعاهدات المتعلقة بمعاملاتها للأجانب.
وإني في الختام أستلفت نظر حضرة الحاكم العام إلى أن التجنس بجنسية
أجنبية لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يترتب عليه خلاص المتجنس مما يكون
قد اتخذ في حقه من الإجراءات المدنية أو الجنائية قبل تجنسه من جهة الحكومة
التي كان تابعًا لها.
وأرجو أن تفرغوا جهدكم في اتباع هذه التعاليم بالدقة والجري على ما تقتضيه
تأييدًا لأحكام القانون ، وإني من أجل تسهيل أداء هذا الواجب عليكم سأرسل صورة
منها إلى الدول الأجنبية المعتمدة لدى الباب العالي؛ لترسل من قبلها إلى عمالها في
الولايات والأقاليم فيعلمونها) اهـ.
أذاع الأرمن وأصدقاؤهم من الأميريكيين على رءوس الأشهاد أن هذا القانون
الذي نقلت للقارئ صورته لا ينطبق إلا على الأرمن ، بل على الأرمن الذين لم
يتجنسوا إلا بجنسية الولايات المتحدة ، وفي مجرد الاطلاع على القانون دلالة على
أن هذه التهمة لم يقصد بها إلا تضليل الرأي العام، فهو متعلق بكافة من كانوا من
رعايا الحكومة العثمانية ، وخرجوا من تابعيتها بقطع النظر عن جنسهم أو دينهم ،
وبقطع النظر أيضًا عن تجنسهم في الولايات المتحدة أو في أي بلد من بلاد أوربا.
على أن الأرمن لا يسعون وراء التجنس بجنسية أوربية ، وذلك لأسباب ثلاثة:
أولها: أن أوربا تعلم حقيقتهم على حين أن أمريكا تجهلها.
ثانيها: أن ما يبذله المرسلون الأمريكيون من الجهد في تدينهم بدينهم وإيتائهم
حظًّا من التربية مناصبة للدولة العثمانية بالعدوان على رأي موسيو كزيمنس يحدو
بهم إلى ترجيح تابعية الولايات المتحدة.
ثالثها: أن الأرمن يعتبرون قانون الجنسية الأمريكية أوفق لمصلحتهم وأنفع
لإنفاذ مقاصدهم السرية؛ لأن تذاكر الجواز الأمريكية مثلاً لا تحتوى على شرط كالذي
يوجد دائمًا في تذاكر الجواز الإنكليزية وهو: (أعطيت هذه التذاكر مفيدة بأن
حاملها متى وجد داخل حدود الدولة الأجنبية التي كان تابعًا لها من قبل حصوله على
الشهادة الدالة على تجنسه بالجنسية الإنكليزية لا يعتبر تابعًا للحكومة الإنكليزية ما لم
تكن تابعيته لتلك الدولة قد زالت بمقتضى قوانينها أو بمقتضى معاهدة خاصة بذلك) .
لها بقية
(استلفات)
نستلفت نظر صاحبي مجلة نور الإسلام التي أضيئت لإرشاد الأنام إلى
مراعاة حقوق الصحافة بعزو النقل دائمًا إلى المجلات والجرائد والكتب التي ينقل
منها ، فقد نقلت عن مجلتنا (المنار) نبذة في الجواب عن آيتين كريمتين ، ولم
تعزُها إليها.
(سؤال)
ورد لنا من صيدا سؤال عن جواز أكل طعام أهل الكتاب وعدمه ، ولا شك أن
صاحبه يعلم أن أهل السنة على الجواز، والشيعة على عدمه ، ولكنه يطلب البحث في
أدلة الفريقين ، وسنوافيه بذلك في الجزء الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد عبده
القضاء والقدر
قضت سنة الله فى خلقه بأن للعقائد القلبية سلطانًا على الأعمال البدنية ، فما
يكون فى الأعمال من صلاح أو فساد، فإنما مرجعه فساد العقيدة وصلاحها ، على
ما بينا فى بعض الأعداد الماضية ، ورُب عقيدة واحدة تأخذ بأطراف الأفكار فيتبعها
عقائد ومدركات أخرى ، ثم تظهر على البدن بأعمال تلائم أثرها فى النفس ، ورُب
أصل من أصول الخير وقاعدة من قواعد الكمال إذا عرضت على الأنفس فى تعليم
أو تبليغ شرع يقع فيها الاشتباه على فهم السامع فتلتبس عليه بما ليس من قبيلها ،
وتصادف عنده بعض الصفات الرديئة أو الاعتقادات الباطلة فيعلق بها عند الاعتقاد
شيء مما تصادفه ، وفى كلا الحالين يتغير وجهها ويختلف أثرها ، وربما تتبعها
عقائد فاسدة مبنية على الخطأ فى الفهم أو على خبث الاستعداد فتنشأ عنها أعمال
غير صالحة ، وذلك على غير علم من المعتقِد كيف اعتقد، ولا كيف يصرفه
اعتقاده ، والمغرور بالظواهر يظن أن تلك الأعمال إنما نشأت عن الاعتقاد بذلك
الأصل وتلك القاعدة.
ومن مثل هذا الانحراف فى الفهم وقع التحريف والتبديل فى بعض أصول
الأديان غالبًا ، بل هو علة البدع فى كل دين على الأغلب ، وكثيرًا ما كان هذا
الانحراف وما يتبعه من البدع منشأ لفساد الطباع وقبائح الأعمال حتى أفضى بمن
ابتلاهم الله به إلى الهلاك وبئس المصير ، وهذا ما يحمل بعض من لا خبرة لهم
على الطعن فى دين من الأديان أو عقيدة من العقائد الحقة استنادًا إلى أعمال بعض
السذج المنتسبين إلى الدين أو العقيدة.
من ذلك عقيدة القضاء والقدر التى تعد من أصول العقائد فى الديانة الإسلامية
الحقة ، كثر فيها لغط المغفلين من الإفرنج وظنوا بها الظنون ، وزعموا أنها ما
تمكنت من نفوس قوم إلا وسلبتهم الهمة والقوة ، وحكَّمت فيهم الضعف والضعة ،
ورموا المسلمين بصفات ، ونسبوا إليهم أطوارًا ، ثم حصروا علتها فى الاعتقاد
بالقدر.
قالوا: إن المسلمين فى فقر وفاقة وتأخر فى القوى الحربية والسياسية عن
سائر الأمم ، وقد نشأ فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد
والتباغض وتفرقت كلمتهم وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة ، وغفلوا عما
يضرهم وما ينفعهم ، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون ، ثم لا ينافسون
غيرهم فى فضيلة ، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر فى إلحاق
الضرر به ، فجعلوا بأسهم بينهم ، والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى.
رضوا بكل عارض ، واستعدوا لقبول كل حادث وركنوا إلى السكون فى كسور
بيوتهم يسرحون فى مرعاهم ثم يعودون إلى مأواهم. الأمراءُ فيهم يقطعون أزمنتهم
فى اللهو واللعب ومعاطاة الشهوات وعليهم حقوق وواجبات تستغرق فى أدائها
أعمارهم ولا يؤدون شيئًا منها. يصرفون أموالهم فيما يقطعون به زمانهم إسرافًا
وتبذيرًا ، نفقاتهم واسعة ولكن لا يدخل فى حسابها شيء يعود على ملتهم بالمنفعة.
يتخاذلون ويتنافرون وينيطون المصالح العمومية بمصالحهم الخصوصية ، فرب
تنافر بين أميرين يضيع أمة كاملة ، كل منهما يخذل صاحبه ويستعدي عليه جاره
فيجد الأجنبى فيهما قوة فانية وضعفًا قاتلاً، فينال من بلادهما ما لا يكلفه عددًا ولا
عُدة. شملهم الخوف وعمهم الجبن والخور ، يفزعون من الهمس ويألمون من
اللمس. قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأمم فى العزة والشوكة ، وخالفوا فى
ذلك أوامر دينهم مع رؤيتهم لجيرانهم، بل الذين تحت سلطتهم يتقدمون ويباهونهم بما
يكسبون ، وإذا أصاب قومًا من إخوانهم مصيبة أو عَدَت عليهم عادية لا يسعون فى
تخفيف مصابهم ، ولا ينبعثون لمناصرتهم ، ولا توجد فيهم جمعيات ملية كبيرة لا
جهرية ولا سرية يكون من مقاصدها إحياء الغيرة وتنبيه الحمية ومساعدة الضعفاء
وحفظ الحق من بغى الأقوياء وتسلط الغرباء.
هكذا نسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار ، وزعموا أن لا منشأ
لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية ، وحكموا
بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة ولن ينالوا عزًّا ولن
يعيدوا مجدًا ، ولا يأخذون حقًّا ولا يدفعون تعديًا ، ولا ينهضون بتقوية سلطان أو
تأييد ملك ، ولا يزال بهم الضعف يفعل في نفوسهم ويركس من طباعهم حتى يؤدي
بهم إلى الفناء والزوال (والعياذ بالله) يفني بعضهم بعضًا بالمنازعات الخاصة ،
وما يسلم من أيدي بعضهم يحصده الأجانب.
واعتقد اولئك الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد
بمذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله ، وتوهموا أن
المسلمين بعقيدة القضاء يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما
تميل ، ومتى رسخ في نفوس قوم أنه لا اختيار لهم في قول ولا عمل ولا حركة ولا
سكون - وإنما جميع ذلك بقوة جابرة وقدرة قاسرة - فلا ريب تتعطل قواهم ،
ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى ، وتمحى من خواطرهم داعية
السعي والكسب ، وأجدر بهم بعد ذلك أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم.
هكذا ظنت طائفة من الإفرنج ، وذهب مذهبها كثيرون من ضعفاء العقول في
المشرق ، ولست أخشى أن أقول كذب الظان وأخطأ الواهم وأبطل الزاعم وافتروا
على الله والمسلمين كذبًا. لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني وشيعي وزيدي
ووهابي وخارجي يرى مذهب الجبر المحض ، ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه
بالمرة ، بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزاءً اختياريًّا في
أعمالهم ، ويسمى بالكسب وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم ، وأنهم محاسبون
بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري ، ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية
والنواهي الربانية الداعية إلى كل خير الهادية إلى كل فلاح ، وأن هذا النوع من
الاختيار هو مورد التكليف الشرعي ، وبه تتم الحكمة والعدل.
نعم كان بين المسلمين طائفة تسمى بالجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر
في جميع أفعاله اضطرارًا لا يشوبه اختيار ، وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك
الشخص فكه للأكل والمضغ وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته ، ومذهب هذه
الطائفة يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة ، وقد انقرض أرباب هذا المذهب
في أواخر القرن الرابع من الهجرة ولم يبق لهم أثر. وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر
هو عين الاعتقاد بالجبر ولا من مقتضيات ذلك الاعتقاد كما ظنه أولئك الواهمون.
الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع ، بل ترشد إليه الفطرة ، ويسهل على
كل من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان ، وأنه لا
يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه ، ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها ،
وأن لكل منها مدخلاً ظاهرًا فيما بعده بتقدير العزيز العليم. وإرادة الإنسان إنما هي
حلقة من حلقات تلك السلسلة ، وليست الإرادة إلا أثرًا من آثار الإدراك ، والإدراك
انفعال النفس بما يعرض على الحواس ، وشعورها بما أودع في الفطرة من
الحاجات ، فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله فضلاً
عن عاقل ، وأن مبدأ هذه الأسباب التي ترى في الظاهر مؤثرة إنما هي بيد مدبر
الكون الأعظم الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته ، وجعل كل حادث تابعًا لشبهه
كأنه جزء له، خصوصًا في العالم الإنساني.
ولو فرضنا أن جاهلاً ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم فليس في
إمكانه أن يتملص من الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية والتأثيرات الدهرية في
الإرادات البشرية ، فهل يستطيع إنسان أن يخرج بنفسه عن هذه السنة التي سنها
الله في خلقه؟ هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق فضلاً عن الواصلين ، وإن بعضًا
من حكماء الإفرنج وعلماء سياستهم التجأوا إلى الخضوع لسلطة القضاء وأطالوا
البيان في إثباتها ، ولسنا في حاجة إلى الاستشهاد بآرائهم.
إن للتاريخ علمًا فوق الرواية عني بالبحث فيه العلماء من كل أمة ، وهو العلم
الباحث عن سير الأمم في صعودها وهبوطها وطبائع الحوادث العظيمة وخواصها
وما ينشأ عنها من التغيير والتبديل في العادات والأخلاق والأفكار ، بل في
خصائص الإحساس الباطن والوجدان ، وما يتبع ذلك كله من نشأة الأمم وتكوُّن
الدول أو فناء بعضها واندراس أثره.
هذا الفن الذي عدوه من أجلِّ الفنون الأدبية وأجزلها فائدة، بناء البحث فيه على
الاعتقاد بالقضاء والقدر والإذعان بأن قوى البشر في قبضة مدبر للكائنات ومصرف
للحادثات ، ولو استقلت قدرة البشر بالتأثير ما انحط رفيع ولا ضعف قوي ، ولا
انهدم مجد ولا تقوض سلطان.
الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفات الجراءة
والإقدام وخلق الشجاعة والبسالة ، ويبعث على اقتحام المهالك التي ترجف لها قلوب
الأُسود ، وتنشق منها مرائر النمور. هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات
واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال ، ويحليها بحلي الجود والسخاء ، ويدعوها إلى
الخروج من كل ما يعز عليها ، بل يحملها على بذل الأرواح والتخلي عن نضرة
الحياة، كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة. الذي يعتقد بأن
الأجل محدود ، والرزق مكفول ، والأشياء بيد الله يصرفها كما يشاء؛ كيف يرهب
الموت في الدفاع عن حقه وإعلاء كلمة أمته أو ملته ، والقيام بما فرض الله عليه من
ذلك؟ وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله في تعزيز الحق وتشييد المجد على حسب
الأوامر الإلهية وأصول الاجتماعات البشرية؟ .
امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد مع بيان فضيلته في قوله الحق: {الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ
ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران: 173-174) اندفع المسلمون في أوائل نشأتهم
إلى الممالك والأقطار يفتحونها ويتسلطون عليها فأدهشوا العقول وحيروا الألباب بما
دوخوا الدول وقهروا الأمم ، وامتدت سلطتهم من بلاد بيريني الفاصلة بين أسبانيا
وفرنسا إلى جدار الصين مع قلة عددهم وعدم اعتيادهم على الأهوية المختلفة وطبائع
الأقطار المتنوعة. أرغموا الملوك وأذلوا القياصرة والأكاسرة في مدة لا تتجاوز
ثمانين سنة.
إن هذا ليُعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات. دمروا بلادًا ودكدكوا
أطوادًا ، ورفعوا فوق الأرض أرضًا ثانية من القسطل وطبقة أخرى من النقع ،
وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم وأقاموا بدلها جبالاً وتلالاً من رؤوس
النابذين لسلطانهم ، وأرجفوا كل قلب وأرعدوا كل فريصة ، وما كان قائدهم
وسائقهم إلى جميع هذا إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر.
هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش
يغص بها الفضاء ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم وردوهم على
أعقابهم.
بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق ، وانقضت شهبها على الحيارى في
هبوات الحروب من أهل المغرب ، وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما
يملكون من رزق في سبيل إعلاء كلمتهم لا يخشون فقرًا ولا يخافون فاقة. هذا
الاعتقاد هو الذي سهل عليهم حمل أولادهم ونسائهم ومن يكون في حجورهم إلى
ساحات القتال في أقصى بلاد العالم كأنما يسيرون إلى الحدائق والرياض ، وكأنهم
أخذوا لأنفسهم بالتوكل على الله أمانًا من كل غادرة وأحاطوها من الاعتماد عليه
بحصن يصونهم من كل طارقة ، وكان نساؤهم وأولادهم يتولون سقاية جيوشهم
وخدمتها فيما تحتاج إليه، لا يفترق النساء والأولاد عن الرجال والكهول إلا بحمل
السلاح ، ولا تأخذ النساء رهبة وتغشى الأولاد مهابة. هذا الاعتقاد هو الذي ارتفع
بهم إلى حد كان ذكر اسمهم يذيب القلوب ، ويبدد أفلاذ الأكباد حتى كانوا يُنصرون
بالرعب يُقذف به في قلوب أعدائهم فينهزمون بجيش من الرهبة قبل أن يشيموا
بروق سيوفهم ولمعان أسنتهم، بل قبل أن تصل إلى تخومهم أطراف جحافلهم
(بكائي على السالفين ، ونحيبى على السابقين. أين أنتم يا عصبة الرحمة وأولياء
الشفقة. أين أنتم يا أعلام المروءة وشوامخ القوة. أين أنتم يا آل النجدة وغوث
المضيم يوم الشدة. أين أنتم يا خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر. أين أنتم أيها الأمجاد الأنجاد القوَّامون بالقسط الآخذين بالعدل الناطقون
بالحكمة المؤسسون لبناء الأمة. ألا تنظرون من خلال قبوركم إلى ما أتاه خَلَفكم من
بعدكم ، وما أصاب أبناءكم ومن ينتحل نحلتكم. انحرفوا عن سُنتكم ، وجاروا عن
طريقكم فَضَلُّوا عن سبيلكم ، وتفرقوا فرقًا وأشياعًا حتى أصبحوا من الضعف على
حال تذوب لها القلوب أسفًا. وتحترق الأكباد حزنًا. أضحوا فريسة للأمم الأجنبية
لا يستطيعون ذودًا عن حوضهم ، ولا دفعًا عن حوزتهم. ألا يصيح من برازخكم
صائح منكم ينبه الغافل ويوقظ النائم ، ويهدي الضال إلى سواء السبيل. إنا لله وإنا
إليه راجعون) .
أقول - وربما لا أخشى واهمًا ينازعني فيما أقول -: إنه من بداية تاريخ
الاجتماع البشري إلى اليوم ما وجد فاتح عظيم ولا محارب شهير نبت في أواسط
الطبقات ثم رقي بهمته في أعلى الدرجات فذللت له الصعاب وخضعت الرقاب ،
وبلغ من بسطة الملك ما يدعو إلى العجب ويبعث الفكر على طلب السبب - إلا كان
معتقدًا بالقضاء والقدر. سبحان الله! الإنسان حريص على حياته شحيح بوجوده
على مقتضى الفطرة والجِبِلة ، فما الذي يهوّن عليه اقتحام المخاطر وخوض
المهالك ومصارعة المنايا، إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر ، وركون قلبه إلى أن القدر
كائن ولا أثر لهول المظاهر.
أثبتت لنا التواريخ أن كورش الفارسي (كيخسرو) وهو أول فاتح يعرف في
تاريخ الأقدمين ما تسنى له الظفر في فتوحاته الواسعة إلا لأنه كان معتقدًا بالقضاء
والقدر ، فكان لهذا الاعتقاد لا يهوله هول ، ولا توهن عزيمته شدة ، وأن إسكندر
الأكبر اليوناني كان ممن رسخ في نفوسهم هذه العقيدة الجليلة ، وجنكيز خان
التتري صاحب الفتوحات المشهورة كان من أرباب هذا الاعتقاد ، بل كان نابليون
الأول بونابرت الفرنساوي من أشد الناس تمسكًا بعقيدة القضاء ، وهي التي كانت
تدفعه بعساكره القليلة على الجماهير الكثيرة ، فيتهيأ له الظفر وينال بغيته من
النصر.
فنعم الاعتقاد الذي يطهِّر النفوس الإنسانية من رذيلة الجبن وهو عائق
للمتدنس به عن بلوغ كماله في طبقته أيًّا كانت. نعم إننا لا ننكر أن هذه العقيدة قد
خالطها في نفوس بعض العامة من المسلمين شوائب من عقيدة الجبر ، وربما كان
هذا سببًا في رزيئتهم ببعض المصائب التي أخذتهم بها في الأعصر الأخيرة ،
ورجاؤنا في الراسخين من علماء العصر أن يسعوا جهدهم في تخليص هذه العقيدة
الشريفة من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع ، ويذكِّروا العامة بسنن السلف
الصالح وما كانوا يعملون ، وينشروا بينهم ما أثبته أئمتنا رضي الله عنهم
كالشيخ الغزالي وأمثاله من أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع منا في
العمل لا في البطالة والكسل ، وما أمرنا الله أن نهمل فروضنا وننبذ ما أوجب علينا
بحجة التوكل عليه ، فتلك حجة المارقين عن الدين الحائدين عن الصراط المستقيم.
ولا يرتاب أحد من أهل الدين الإسلامي في أن الدفاع عن الملة في هذه الأوقات
صار من الفروض العينية على كل مؤمن مكلف ، وليس بين المسلمين وبين
الالتفات إلى عقائدهم الحقة التي تجمع كلمتهم وترد إليهم عزيمتهم وتنهض غيرتهم
لاسترداد شأنهم الأول - إلا دعوة خيرٍ مِن علمائهم وأن جميع ذلك موكول إلى ذمتهم.
أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشؤه هذه العقيدة (ولا
غيرها من العقائد الإسلامية) ونسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه ، بل أشبه ما
يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار.
نعم حدث للمسلمين بعد نشأتهم نشوة من الظفر وثمل من العز والغلب ،
وفاجأهم وهم على تلك الحال صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة
التتر من جنكيز خان وأحفاده ، وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوربية
بأسرها على ديارهم ، وإن الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي وتوجب الدهشة
والسبات بحكم الطبيعة ، وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة ووسد الأمر فيهم إلى
غير أهله وولي على أمورهم من لا يحسن سياستها ، وكان حكامهم وأمراؤهم من
جراثيم الفساد في أخلاقهم وطباعهم ، وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم؛ فتمكن الضعف
من نفوسهم ، وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز
لذته الآنيَّة ، وأخذ كل منهم بناصية الآخر يطلب له الضرر ، ويلتمس له السوء من
كل باب لا لعلة صحيحة ولا داعٍ قوي ، وجعلوا هذا ثمرة الحياة؛ فآل الأمر بهم
إلى الضعف والقنوط وأدى إلى ما صاروا إليه.
ولكني أقول - وحق ما أقول -: إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد
الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم ، ورسومها تلوح في أذهانهم ، وحقائقها متداولة بين
العلماء الراسخين منهم ، وكل ما عرض عليها من الأمراض النفسية والاعتلال العقلي
فلابد أن تدفعه قوة العقائد الحقة ويعود الأمر كما بدأ ، وينشطوا من عقالهم ،
ويذهبوا مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم وإرهاب الأمم الطامعة فيهم
وإيقافها عند حدها ، وما ذلك ببعيد ، والحوادث التاريخية تؤيده ، فانظر إلى
العثمانيين الذين نهضوا بعد تلك الصدمات القوية (حروب التتر ، والحروب
الصليبية) وساقوا الجيوش إلى أرجاء العالم ، واتسعت لهم ميادين الفتوحات ،
ودوخوا البلاد وأرغموا أنوف الملوك ، ودانت لسلطانهم الدول الإفرنجية حتى
كان السلطان العثماني يلقب بين الدول بالسلطان الأكبر.
ثم ارجع البصر ، تجد هزةً في نفوسهم ، وحركةً في طباعهم أحدثها فيهم ما
توعدتهم به الحوادث الأخيرة من رداءة العاقبة وسوء المنقلب. حركة سرت في
أفكار ذوي البصيرة منهم أغلب الأنحاء شرقًا وغربًا ، وتألفت من خيارهم عصبات
للحق كتبت على نفسها نصرة العدل والشرع والسعي بغاية الجهد لبث أفكارهم ،
وجمع الكلمة المتفرقة وضم الأشتات المتبددة ، وجعلوا من أصغر أعمالهم نشر
جريدة عربية لتصل بما يكتب فيها بين المتباعدين منهم ، وتنقل إليهم بعض ما
يضمره الأجانب لهم ، وإنا نرى عدد الجمعية الصالحة يزداد يومًا بعد يوم. نسأل
الله تعالى نجاح أعمالها وتأييد مقصدها الحق ، ورجاؤنا من كرمه أن يترتب على
حسن سعيها أثر مفيد للشرقيين عمومًا وللمسلمين خصوصًا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(العروة الوثقى)
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد من كتاب)
(10)
من أراسم إلى هيلانة فى 3 يونية سنة -185
أظن أن ما ينسب للاعتقاد الدينى من التأثير فى طباع الناس وأخلاقهم مُبالغ
فيه كثيرًا [1] وعلى كل حال فالتصديق بأن الإنسان يوفى جزاء أعماله في دار أخرى
بعد هذه الدار يُعرِّض صاحبه لأنواع من خيبة الآمال تكون آلامها صعبة الاحتمال ،
فإنه إذا هبت عليه أعاصير الشُّبه في مستقبل أيامه فزعزعت أركان عقيدته التي
بنيت عليها الفروض والواجبات فلا تلبث دعائم تربيته الأولى أن تنهار انهيارًا تامًّا
فكيف نرجو إذن في هذا العصر الذي ثارت فيه الشكوك ، وأطلقت حرية النظر
أن لا تؤثر عوارض الشبه في عقائد الطفل إذا كبر ، وهي إنما تفرغ في مخه حال
صغره إفراغًا ، وتلصق به لصقًا إن صح أن يقال ذلك؟
فالذي أتمناه (لأميل) هو أن يكون له وجدان مستقل عن الإيمان ، وليس يهدأ
لي بال ولا يطمئن لي قلب على سلامة شرفه وتهذيب نفسه إلا بحصول هذه الأمنية ،
إني كثيرًا ما سمعت بعض المسيحيين إذا عصى أولادهم أوامرهم يهددونهم
تهديدًا وحشيًّا وهم في شدة حنقهم بقولهم لهم: سيعاقبكم الله ويهلككم ، وكنت كلما
سمعت منهم ذلك تقلص جميع دمي من عروقي إلى قلبي غيظًا وغمًّا. فليت شعري
هل الاستغاثة بأحكم الحاكمين على تنفيذ عقوباتنا السافلة في الأطفال والاستصراخ
بالذات العلية لتشفي غلنا بالانتقام لنا منهم واقتضاء فعل الشر من الله ليسكن بذلك
وجدنا عليهم- هل كل ذلك هو ما يعبر عنه بتأسيس علم الأخلاق على الاعتقاد
الديني؟
كأني بك تقولين: إنك لم تختر من أمثلة التربية الدينية لتوجيه انتقادك إلا
أردأها وأحقها بالطعن، فأقول: نعم ، ولكن هذه التربية على كل حال فيها عيب
شنيع جدًّا وهو إلزام الناشئ في سيرته بأعمال لا يدرك عللها ، فلو أني قلت للطفل:
يجب عليك أن تكون مؤدبًا عاقلاً لتكون محبوبًا عند الله، لكان ذلك منى بلا شك
ألغازًا وتعميةً لأنه لا يعرف ما هو الله ، ولا يعرف علامة يميز بها ما يرضيه وما
يغضبه ، وأما إن قلت له: يجب عليك التزام الأدب لتحبك أمك، فإنه يفهم هذه العلة
أكثر من سابقتها بكثير.
من تكلم في الدين مع طفل حديث السن جدًّا فإنما يريد منه أن يفسد معنى ما
يؤديه إليه من الأفكار الدينية ، ويقلب المراد منها، فلو أن الأم أشارت بيدها إلى
السماء دلالة لولدها على أنها هي محل الذات الذي يجب أن يتوجه إليه بدعائه ،
لتوهم أن هذه السماء الدنيا المادية هي إلهه.
أنا أعلم أن كثيرًا من الآباء لا يهتمون بهذا الأمر كثيرًا ، ولا ينظرون فيه
نظرًا بليغًا ، ولكونهم ممن يشكون في كل شيء؛ ترينهم يلزمون أولادهم بأداء
بعض الأعمال الدينية التي هم أنفسهم لا يؤدونها ، أو إنما يؤدونها أمامهم فقط ،
فكأنه لا أهمية للصواب والخطأ في حق هؤلاء الأطفال ولا نتيجة لهما ، وأن أهم
شيء في حقهم هو أن تكون باكورة أعمالهم في أول حياتهم اتباع ما جرى عليه
الناس من العوائد مع إرجاء النظر فيها إلى المستقبل.
وحينئذ فمثل هؤلاء الآباء يتسببون في إفساد وجدان أبنائهم وقوتهم الحاكمة
بخفتهم وطيشهم أو عدم اكتراثهم بشأنهم ، فأنا أتحامى الأديان التي يكون شأن
الآخذين بها فيها كشأن من لا يؤمنون بها بالمرة أو من لا يؤمنون بها إلا إيمانًا
ناقصًا فإنها أضر الأديان بكرامة الإنسان.
فاحترامًا لأميل ولطائفة من المعاني التي يجب أن ينظر فيها متى كبر بفكر
خالٍ من التأثر بغيرها؛ أود أن يُجتنَب في تربيته زمن طفوليته الخوض في
المسائل الدينية ، فإننا مؤتمنون على عقله وعلى حرية ضميره ، ومسئولون عن
ذلك ، فإذا نحن عجلنا بحرمانه من حق النظر فقد ثلمنا أمانتنا اهـ.
(المنار)
أبان كلام المؤلف عن عدم عنايته بالدين كما تقدم في الهامش ، ولكن له وجهًا
في شيء واحد وهو عدم تلقين الطفل كثيرًا من أمور الدين في وقت لا يعقل منها
شيئًا ، فما تكون إلا كلمات يعتادها لسانه ولا يكون لها أثر في نفسه.
مثال ذلك: الأيمان التي يحلفون بها أمامه ، أو يكلفونه الحلف بها ، ومنها
التخويف الذي ذكره، فإذا كبر وفهم معاني ما تلقنه بالمعاملة والمعاشرة تكون عند
العمل كسائر العادات التي يفعلها من غير ملاحظة معناها وبدون تأثر بها ، بخلاف
ما إذا كان لا يلقى إليه شيء من أمور الدين إلا إذا استعد لفهمه وتدبره ، ولذلك
حكمت الشريعة الإسلامية بأن لا يعلم الطفل الدين إلا في سن التمييز ، ولا يكلف به
إلا إذا بلغ رشده.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
إن معظم ما كتبه المؤلف في هذه الرسالة غير مسلَّم ، وهو يدل على ضعف يقينه بدينه ، وعدم اكتراثه بتكاليفه التي لا يعتبرها إلا من الأمور التي جرت بها العادة ، وكأنه لم يبلغه خبر الأمم التي وصلت بدينها إلى أوج الكمال النفسي وغاية التقدم الحسي ، فأي شيء أخرج الأمة العربية قبلاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن رذائل التوحش إلى فضائل المدنية سوى دينها القويم الذي جاء به الرسول الكريم؟ ولست أدري كيف أن الاعتقاد بالدار الآخرة وما يكون فيها من الثواب والعقاب يدعو إلى خيبة الآمال؟ لا شك أن القائل بهذا منكِر للبعث وهي ضلالة جره اليها التطرف في النظر كما جر إليها كثيرًا من أمثاله، ولا أراه إلا مبالغًا في انتقاده على بعض المسيحيين ما يصدر منهم لأولادهم من التهديد بالعقاب الإلهي ، ولا نسلم أن هذا التهديد لا يكون له من الأثر ما يتوقعه ، وكأنه يعتقد أن الله سبحانه لا يتصف إلا بالرحمة والإحسان ، وينبو عقله عما وصف به نفسه من القهر والجبروت والانتقام ، وليس هذا الأمر خاصًّا به ، بل إني قد لاحظته فيما كتبه غير واحد من أهل النظر ، وهو خطأ بين يدل عليه العقل والنقل ، وترجيحه تخويف الأطفال بالعفاريت والأغوال على تخويفهم بالعقاب الذي أعده الله لمخالفي أوامره للعلة التي ذكرها - من خطل الرأي فيما أراه؛ لأنه لا ضرر على الطفل من تحذيره من غضب الله عليه إذا خالف أوامره ما دام أنه يرغب أيضًا بنوال رضاه ورحمته إذا
أطاعه، على أن عبارة المؤلف في تعليل هذا الترجيح بينة الفظاعة لا تليق بمقام الربوبية، ثم أي ذنب للأديان التي لا يؤمن بها أربابها أو يكون إيمانهم بها ناقصًا يدعوه إلى تحاميها والحذر منها ووصفها (أضرُّ الأديان بكرامة الإنسان) ألا يرى أن أقوم دين وأصحه في نظر العقل وأدعاه إلى سعادة الآخذين به وفلاحهم قد تَحُولُ دون الجري على صراطه غلبات الهوى وعمليات الضلال فيقع أربابه في مهاوي الوبال فكيف تلقى تبعة ذلك عليه؟ اللهم إن هذا بهتان عظيم فإنه لا دين إلا ما أرسلت به رسلك وليس فيه إلا ما يرفع شأن الإنسان ويعلمه أين يضع نفسه من ذروة الكرامة وهام المجد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ختام درس المنطق للأستاذ الأكبر
في الجامع الأزهر
لا خلاف في أن العلوم والمعارف بدأ ينزوي نورها، ويغيض معينها في بلاد
الشرق من عدة قرون، ولم يكن الشرق إلا الإسلام والمسلمين حيث لا علم إلا
علمهم ، ولا مدنية إلا مدنيتهم ، وقد اقتضت حوادث الكون بأن ينتبه المسلمون من
رقادهم كما انتبه غيرهم ، وكانوا أحق بالسبق والتقدم، وكلما انتبه فرد انتباهًا حقيقيًّا
عني بتنبيه غيره، سُنة الله في الخلق. وأشهر المنتبهين والمنبهين لإحياء العلوم في
المسلمين لهذا العهد هو مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية.
أخذ - حفظه الله - على نفسه إيقاظ أهل الأزهر الشريف وإرشادهم لطريقة
التعليم المثلى ، فلقي في ذلك من العناء ما كان يلقاه المصلحون من قبله في كل زمان
ومكان ، وعلم أن الإرشاد بالقول قليل الجدوى؛ فصار يقرأ الدروس بنفسه مع كثرة
أعماله الأخرى في خدمة بلاده ، وفي ليلة الأربعاء الماضية أتم كتاب (البصائر
النصيرية) في علم المنطق ، وقد احتفل بختامه في الرواق العباسي كما هي عادة
الأزهريين احتفالاً قرئت فيه الخطب والقصائد في الثناء على الأستاذ ، وكان الأولى
أن تتوجه أفكارهم إلى بيان طرق الإصلاح الذي امتاز بها درسه ، والأقطاب التي
كان يدور عليها كلامه وترمي إليها سهامه، ومرجعها الى أصلين:
(أحدهما) اختيار الكتاب ، فإن الناس يختارون في كل طور وحال
ما يناسب درجتهم واستعدادهم ، ولضعف العلم في القرون الأخيرة صار العلماء
لا يقرءون إلا كتب المتأخرين ، والتي كتب عليها الشروح والحواشي
الملأى بالمنازعات والمحاورات في الأساليب العرفية التي تُضعف العلم واللغة
جميعًا كما هو المشاهَد.
ولا يكاد يتجرأ عالم على قراءة كتاب من كتب الجهابذة المتقدمين التي لم
تشرح ولم تعلق عليها الحواشي ويسمونها (غير مخدومة) فعلَّمنا الأستاذ باختيار
(البصائر النصرية) الذي هو أمثل كتاب رأيناه في المنطق كيف تُختار الكتب
النافعة التي لم نتلقها بالمدارسة ، وعلق عليه شرحًا وجيزًا بيَّن غوامضه وأصلح ما
عساه يوجد فيه من الخطأ مما لا يخلو عنه غير كلام المعصوم ، فعلَّمنا بذلك كيف
ينبغي أن تكون الشروح ، وكيف أن المتمكن من العلم لا يهاب الكتب ، ولا
يتقيد بالعبارات التي ألفها وتعلمها.
(ثانيها) الإلقاء والتقرير - علَّمنا بذلك كيف تتجلى الحقائق بالصور المختلفة ،
وتتحلى المعاني بالصيغ المتعددة؛ ليعتقنا من رق العبارات ويفكنا من أسر
الألفاظ التي استبدت بالحكم فينا زمنًا طويلاً - علّمنا كيف ضلت الأفهام وغلبت
الأوهام. وكيف أطفأ دخان التقاليد النظرية ما في العقول من أنوار العلوم اليقينية
لنطلب العلم ببرهانه ونأخذ الشيء بربَّانه - علّمنا كيف تتضاءل الشبه افتضاحًا ،
وتتبختر الحجج اتضاحًا ، وكيف يفرغ البيان العويص من النظريات في قوالب
البديهيات؛ لتقوى منا العزائم ونقدم على العظائم - علّمنا كيف نطلب العلم بالعمل
بمسائله والتحقق بدلائله وملاحظة انطباقه على الواقع وموافقته للوجود؛ لنُحصِّل ثمرة
قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم) - علَّمنا كيف
تتمحص الحقائق للوصول إلى اليقين بالعلم والجزم بالفهم ليخرجنا من الحيرة في
طريقة التعليم المألوفة لهذا العهد: طريقة الاحتمال وسرد الأقوال - علمنا بحاله ومقاله
كيف يرتقي العلم ، وكيف يأتي المتأخر بما لم تأت به الأوائل؛ لينزع من نفوسنا
التسليم بأن الإنسان دائمًا في تدلٍّ وهوي لا في تقدم ورقي ، فإن التقدم مع هذا الاعتقاد
محال - علَّمنا كيف يكون العلم صفة من صفات العالم تنفعل به نفسه وتتكيف به
روحه ليرشدنا الى أن الصور والخيالات التي تلوح في الأذهان وتتراءى في الأفكار
عندما تنشر الصحف وتعرض على الأنظار نقوش الكتب ليس من العلم في شيء.
ولو شئت أن أستشهد على كل بشيء مما قلته بشئ مما جاء في درس المنطق
لفعلت ، وأظن أن نبهاء الطلاب الذين حضروه يكتفون بهذه الإشارات ولا ينسون
كيف فند الأستاذ كلام أفلاطون وأصلح رأي أرسطو في الماهيات ، ولا يغيب عن
أذهانهم ذلك التحقيق العجيب في معنى الوجود ، وأنه جنس الأجناس وجوهر
الجواهر ، ولا ينكرون أنهم لم يفهموا معنى الوجود إلا في ذلك اليوم ، كما لا يغيب
عن عقولهم ذلك التحقيق البديع في معنى العدم ، وأنه لا حقيقة له ، ولا يمكن
تصوره، فحيَّا الله من علَّمنا كيف نفرق بين الوجود والعدم، وأظن أنهم يتذكرون ذلك
السائل الذي سأله منهم عن مفهوم (شريك الباري) وقول المنطقييين: إنه من
الكليات التي لم يوجد لها أفراد ، ويتذكرون جواب فضيلته الذي يتدفق حكمة وإيمانًا
وعلمًا وإيقانًا الذي أثبت فيه أن ذلك المفهوم من الصور الخيالية المخترعة التي لا
حقيقة لها ولا يمكن تصورها ، وما جعلها من الكليات إلا نقص العلم وخطأ الفهم إلخ
ما لا محل له هنا لإيضاحه وتفصيله.
تُليت القصائد والخطب احتفالاً بختام الدرس كما قلنا ، والرواق العباسي
غاص بالناس يزاحم العلماء والمدرسون فيه الطلاب والمجاورين ، وعلم الأستاذ أن
ما سيلقى كثير فختم المجلس بخطاب بليغ ابتدأه بهضم نفسه بإزاء الإطراء في
المدح مع شكر من يظن به خيرًا. وقال: أحسن الكلام ما كان صادقًا مطابقًا للواقع ،
وإنما يذهب مذاهب المبالغة في قوله من كان مجازفًا في رأيه وإن كان العلماء
توسعوا في التسامح بالمبالغة والتشبيهات والاستعارات ولم يعدوها من الكذب
وسنذكر ما علق بالذهن من خطابه في الجزء الآتي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(خط الحديد الحجازي)
حيَّا الله الذات السلطانية الحميدية وبياها ، وأمدها بالعناية والتوفيق وقواها ،
فقد أصدرت إرادتها السَّنية بالتبرع بخمسين ألف ليرا عثمانية إعانة لهذا الخط
الشريف الذي هو أفضل آثارها من تالد وطريف. وتعلقت الإرادة الشريفة أيضًا
بإنجاز هذا العمل الميمون في مدة لا تزيد على أربع سنين. وكنا ذكرنا أنه تقرر أن
تكون جميع الأدوات واللوازم فيه إسلامية عثمانية ، ولكن تبين أن معامل إدارة
البحر في الأستانة لا تقدر أن تصنع أكثر من 250 متر من الخطوط في اليوم (أي
150متر من هذه الخطوط) وذلك يقتضي أن تزيد المدة على أربع سنين ، كما
أن النفقة تكون أكثر من نفقة ابتياعها من أوربا؛ لأن المعامل المذكورة غير مستعدة
تمام الاستعداد ، ويعوزها لهذا إنشاء معمل جديد، ولذلك تقرر أخيرًا أن تبتاع من
أوربا. وتهتم اللجنة العليا التي يرأسها مولانا السلطان الأعظم بكليات هذا العمل
وجزئياته وأصوله وفروعه، فبلَّغت السرعسكرية بأن ترسل إلى سوريا الجنود
العاملين به وبلغت نظارة الغابات والخراج بإرسال الأخشاب اللازمة من غابات
بيجيه ومنتشا ، وسترسل القضبان الحديدية الموجودة في مستودعات البحرية عاجلاً
وطول الخط 1900كيلو متر.
***
(إعانة المسلمين للعمل)
تتوجه رغبات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لهذه الإعانة الشريفة
لأنها تتعلق بإقامة ركن من أهم أركان دينهم ، وقد باشروا بهذا فعلاً ، وذكرت لنا
جرائد بيروت أنه قد تألفت لجنة فيها من الأعيان برئاسة عطوفة واليها الهمام
لأجل الاكتتاب ، فجمع في مدة قريبة مبلغ 212350 غرشًا.
فنستنهض الآن همة المصريين العالية ، ونستفيض ههنا مكارم أسخيائهم
الهامية ، ونُرغِّب إلى جميع الجرائد الوطنية - ونخص بالذكر الإسلامية - بأن يوالوا
الحث والتخضيض ويداوموا الترغيب والتحريض على مسارعة أهل هذا القطر
ومسابقة إخوانهم في هذا الامر ، ولا نلبث أن نسمع أخبار الأقطار النائية والبلاد
القاصية يتنافسون في إعانة هذا المشروع العظيم، والله ولي المحسنين.
***
(وفاة الأمير العاقل)
نعت إلينا أخبار الحجاز رجل الشهامة والفضل والسخاء والنبل، كبير أمراء
عكار: محمد باشا المحمد، المعدود من أفراد الرجال في طرابلس الشام في السياسة
والرياسة وعمل البر والإحسان، وأكبر مآثره المدرسة الإسلامية التي أنشأها في قرية
مشحا ، وصدرت الإرادة السلطانية بأن تسمى المدرسة الحميدية ، وأهداها مولانا
السلطان الأعظم مكتبة نفيسة أرسلها بخزاناتها من دار السعادة، وأنعم على الفقيد
يومئذ برتبة ميرميران ، وبالمداليا الذهبية والفضية وكان رحمه الله واسع
الاطلاع في التاريخ والأدب حتى كان يمتاز على مجالسيه في كل نادٍ وسامر ،
وينفرد عن كل من نعرف بالإحاطة بأحوال قبائل العرب لهذا العهد. توفاه الله في
المدينة المنورة بعد أداء فريضة الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم ، فنعزي
أنجاله الكرام وأسرته وسائر أهل الفضل به.
***
(إزالة وهم)
فهم بعض الناس أن انتقادنا على الذين طعنوا في الديانة النصرانية عند الرد
على هانوتو (في ص253 من الجزء الماضي) يوهم أن صاحب جريدة المؤيد
منهم؛ لأن الانتقاد جاء بعد ذكر مناقشته مع الأهرام ، وإننا نبرئ المؤيد وصاحبه
الفاضل من ذلك ، ونعرف بأنه أبعد الناس عن الطعن في الأديان وجرح إحساس
أصحابها.
***
أرجأنا مسألة حِل طعام أهل الكتاب للجزء الآتي لضيق المقام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
الأرمن وفتنتهم
(تابع ما قبله وهو ختام الرسالة)
فلو أن تذاكر الجواز الأمريكية كانت تتضمن مثل هذا الشرط المبني على
الحكمة والسداد، لبادر الأرمن إلى ترك التجنس بالجنسية الأمريكية تركًا تامًّا لأنهم
إنما يلجأون إليه لتكون حكومة الولايات المتحدة مِجنًّا لهم يقلبونه في وجه الحكومة
العثمانية ، ولكان في ذلك التَّرك راحة عظمى لنظارة الخارجية في واشنطن. إن
تجنس الأرمن يكاد يكون دائمًا مبنيًّا على نية سيئة ، وإنما يقصد به استخدام
الحكومة الأمريكية لإيصال الضرر بتركيا متى كان ذلك في الإمكان يتبين ذلك من
جملة اقتبسناها من تقرير رسمي كتبه في 29سبتمبر سنة1893 المستر إسكندر
تريل أسقف الولايات المتحدة الحالي في القسطنطينية وهو معروف بكفاءته وسعة
علمه قال:
(إن المهاجرين الأوربيين في الولايات المتحدة يتجنسون بالجنسية الأمريكية
عن قصد حسن في الجملة ، وأما المهاجرون الأسيويون فحسن النية فيهم نادر جدًّا ،
وإني في مكان أعرف فيه أن رجوع الأرمني إلى بلاده بعد تجنسه على نية البقاء
فيها هو القاعدة التي لا يخالفها إلا شذوذًا) .
تلك شهادة جاءت من قبل رئيس المبعوثين الأمريكيين الذين يمالئون ثوار
الأرمن في جميع الأمور ، ويحرضونهم على تركيا ، وهذه الشهادة مبنية على
التقارير التي رفعها لوكلاء الدول من عهد غير بعيد لجنة التحقيق الأمريكية التي
عوضًا عن أن تنصح للأرمن أن يكونوا من رعايا السلطان المطيعين ، وأن يلتزموا
السكوت الذي يستلزمه الشرف والوقار حتى تعلم نتيجة تحقيق المشاغب التي
حصلت في ساسون، كانت ترى أن من أهم واجباتها أن تثبت وقوع مذابح لم تكترث
بها الحكومة العثمانية على أنها كان يجب عليها أن تعلم أن هذه الحكومة لم تساعد
على وقوع أية مذبحة كانت ، وأن نفس وجود البعثات والمدارس الأمريكية في
تركيا وكون غرضها الأصلي نصر المذهب البروتستانتي بين الأرمن ، وحملهم
على الأخذ به؛ مما يثبت بلا شك أن أوضاع الترك ونظاماتهم مبنية على التسامح
والتساهل، فإذا استمر المبعوثون الأمريكيون على ممالأة الأرمن المتذمرين في تركيا
كانت سياستهم هذه مخالفة لإرادة الحكومة الأمريكية وشعبها ، فإن تركيا على أي
حال يجب أن تحافظ على السكينة والأمن في بلادها مهما كلفها ذلك ، ولا يمكن أن
تتغاضى عن الدسائس الأجنبية التي يحاول المفسدون بها في أرجائها ، وهي محقة
إذا ثار عضبها لقراءة مثل هذه الجملة التي كتبها أحد الأرمن عن اشتراك
الأمريكيين في حوادث بلغاريا التي حصلت سنة1875 ضمن رسالة بعث بها
للجريدة المسماة (منادي يوستون) وهى:
(قد علمت من زمن غير بعيد أن القسيس المحترم سيروس هملن كان يكتب
مكاتيب وِدّ وتشجيع للجمعيات المختلفة التي كانت تعقد في هذه البلاد (تركيا)
تعضيدًا لمقاصد الأرمن ، وعباراتها صريحة في الدلالة على انتصاره لدعوتهم ، وقد
سمعته يخطب من بضع سنين مضت في إمهارست التابعة لماس (بأمريكا) ولشد
ما كان يفتخر في خطبته على سامعيه بأهمية العمل الذي قام به البلغاريون
المتخرجون من كلية روبرت وهو حصولهم على حرية وطنهم واستقلاله وأنا
أسأل هذا القسيس المحترم عما إذا لم يكن عالمًا بوجود شركات عقدت للحث
على حب الوطن والدفاع عنه بين أولئك الطلبة البلغاريين إلخ.. .
لقد صدق الفرنساويون إذ يقولون في أمثالهم: لا يغشك إلا أصدقاؤك ، فليعلم
الأمريكيون ومجلس إدارتهم أنه ليس من الواجب عليهم ولا مما هم منوطون به أن
يساعدوا أي صنف من الناس في تركيا على نوال (حريته واستقلاله) ولا أن
يمالئوا الجمعيات السرية فيها ، ولا أن يتهموا الحكومة العثمانية أمام العالم بالمذابح
التي لم توجد ، ولا يمكن أن توجد في الحقيقة والواقع ، وإنما الواجب الذي ينبغي
عليهم مراعاته هو أمر هين بسيط ينحصر في رعايتهم قوانين البلاد التي أكرمت
مثواهم رعاية تامة في أفعالهم وأقوالهم ، فإنه إذا كان من المستغرب أن أولئك
المبعوثين عوضًا أن يخصوا بعناياتهم ونواياهم الحسنة هنود أمريكا وزنوجها،
اختاروا الذهاب إلى تركيا لتربية الأرمن على طريقة مخصوصة ، وحملهم على
التدين بالمذهب البروتستانتي ما أمكنهم ، وكان من المحقق أن الباب العالي يأذن لهم
بممارسة عملهم طيبة بذلك نفسه بفضل تعاليم دينه السائد التي تحث على التسامح
والتساهل ، فلم يكن أحد ممن يحبون الإنصاف وحرية الضمير ليقدر أن يلوم تركيا
على إظهارها الاستياء مما يقوله هؤلاء المبعوثون على رؤوس الأشهاد ، ويكتبون
من العبارات الدالة على معاداتهم ومباغضتهم لها ، والمفضية حتمًا إلى توسيع خرق
الفتنة والمشاغب في بلادها ، ولا شك في أن الولايات المتحدة لا ترضى بهذه
المظاهرة العدائية الموجبة لمعاقبة صاحبها إذا حصلت في بلادها من أي طائفة من
المبعوثين جاءت إليها بقصد تربية الهنود مثلاً ونشر دينها بينهم، خصوصًا إذا كان
هؤلاء لهم مقاصد ثوروية كالأرمن المعترفين بذلك، فالذي يكون صوابًا في حق
الولايات المتحدة لماذا لا يكون كذلك في حق تركيا؟
الفتنة الأرمنية التي بنيت على أكاذيب ومبالغات ، وعلى خطة رسمت وصمم
عليها من قبل كما بين ذلك القسيس المحترم سايروس هملن نفسه ، وأعان الأرمن
عليها كثير من الناس ، وساعدوهم على إضرام نارهم لمجرد أنهم مسيحيون ، وذلك
ما يثبت أن الذي يغري أعداء تركيا بها هو غلوهم في الدين لا غيره ، ولولا ذلك لما
كانت مفتريات ثوار الأرمن الخارجة عن حد العقل وقعت موقع التصديق عند أناس
يصفون أنفسهم بالنزاهة وعدم التشيع ، ولما علقت عليها الشروح والتأويلات بدون
أن يقوم عليها شيء من البراهين والأدلة المقنعة.
من أجل ذلك قد علمت تركيا الآن أنها لا يمكنها أن تعتمد على مليكها، فهي
تفتخر به لتنظيم ماليتها وإعلاء شأن جيشها ، وإدخال الإصلاحات القويمة في كل
فرع من فروع إدارتها ، وتعجب بما يدهشها من صدق عزيمته وسمو مداركه وكرم
نفسه ، وتعلم حق العلم أنها ما دامت في ظل رعايته لا تخاف ضيرًا من أعدائها
سواء في ذلك الأباعد والأقارب ، وأنها لما كان اعتقادها فيه مبنيًّا على حقائق ثابتة
كان السلطان عبد الحميد الثانى حقيقة ملكًا عظيم الشأن.
انتهت الرسالة. والله أعلم
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدنية العرب
النبذة الأولى
مقدمة تمهيدية
اليوم نبدأ بالوفاء بما وعدنا به في الجزء التاسع من الكلام في مدنية العرب ،
ولهذا الكلام فوائد ننبه عليها في فاتحة القول؛ لأن العلم بالفائدة والثمرة ينبغي تقديمه
كما قالوا ليكون الطالب على بصيرة فيما يطلب فينتفع به.
(الفائدة الأولى)
وهي أهمها، بيان أن تلك المدنية ما نالها العرب إلا بدينهم لأنهم كانوا قبل
الإسلام أبعد الأمم عنها ، وبهذا تسقط شبهة الذين يزعمون أن دين الاسلام هو
الحجاب المسدول بين المسلمين وبين المدنية الحاضرة في هذا العصر؛ لأن الشيء
الواحد لا تصدر عنه آثار متناقضة متباينة. وهؤلاء الزاعمون كلهم لا يعرفون
حقيقة الإسلام ، وإن كان منهم من ينتسب إليه ويلبس لباس خواص أهله.
(الفائدة الثانية)
إزالة شبهة الذين يحتقرون هذا الشعب (العربي) الشريف ، ويتوهمون أنه
لا قابلية فيه للمدنية والارتقاء ، وإن تسنى له من أسبابهما ما تسنى لأن له طبيعة
خاصة به ، وهي الجهل والتفرق والبعد عن النظام والاستبداد بالحكم وغير
ذلك من النعوت القبيحة التي يرمينا بها الجاهلون بتاريخنا وبطبائع الملل.
(الفائدة الثالثة)
استنهاض الهمم وحث النفوس على إحياء مجد أمتنا السابق واسترجاع ما
استأثر به الأجانب من تراث سلفنا الصالح، وهو العلوم النافعة والأعمال الرافعة
والسجايا الحميدة والمآثر المفيدة؛ لنُساير بذلك الأمم الحية ونُجاري الشعوب
المرتقية قبل أن تغمرنا سلطتها ونذوب فيها ذوبانًا حتى لا يبقى لنا هيئة ملية
نتميز بها.
(الفائدة الرابعة)
معرفة التاريخ الصحيح على الوجه الذي يعطي صاحبه البصيرة ويمنحه
الاعتبار ، فإن ما كتب في التاريخ العربي لم يكتب على الطريقة الحديثة التي تتجلى
فيها الحوادث بعللها وغاياتها ، وتتمثل الحقائق بمقدماتها ونتائجها ، ويوضع كل
شيء في موضعه ، ويقرن كل أمر بملائمه ومناسبه ، ويتبع هذه الفائدة ما في
التاريخ من الفوائد الكثيرة.
العناية بتاريخ العرب والعمل لإحياء مجد العرب هو عين العمل للوحدة
الإسلامية التي ما وجدت في القرون الأولى إلا بالعرب ، ولن تعود في هذا القرن إلا
بهم متحدين ومتفقين مع سائر الأجناس لأن المقوم لها هو الدين الإسلامي نفسه
وإنما الدين كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وهما عربيان ، ولا
يفهم الدين من لا يفهمهما فهمًا صحيحًا ، ولا يفهمهما أحد على هذا الوجه إلا اذا كان
يفهم لغتهما الشريفة ، ومن كان له هذا الفهم فهو عربي باصطلاحنا لأننا لا نعني
بالعرب من لهم نسب يتصل بإحدى القبائل العربية فقط؛ إذ ليس غرضنا التعصب
للجنسيات ، بل إن هذا مما نُنَفِّر عنه ونذمه ، وننتقد كل من يقول به.
المدنية العربية التي نفتخر بها لم يكن رجالها من صميم العرب أصحاب
النسب الصريح ، ولكن الأعجمي منهم لم تكن علومه ومعارفه بلغته الأعجمية ،
وإنما كان الباعث له عليها والراقي بهمته إليها هو النور الذي أشرق في أفق عقله
من سماء البلاد العربية ، والديانة التي تلقاها باللسان العربي. ولقد صدق الحكيم
ابن خلدون في قوله: (إن مثل الزمخشري وعبد القاهر من فرسان الكلام وجهابذة
اللسان العربي لم يكونوا أعاجم إلا في النسب فقط) .
ومما يحسن التنبيه عليه في هذه المقدمة أن بعض المتنفجين الذين يدَّعون
بأكثر مما عندهم يرون أن الكلام في مدنية العرب وتذكير هذا الشعب الذي يحكم
الفقه الإسلامي بأنه أفضل الشعوب بمجد سلفه وحثه على العلوم والأعمال النافعة -
كل ذلك مضر بالمسلمين لأن غايته نزع الخلافة الدينية من بني عثمان ، وهو
تفريق يعود على الأمة بالخيبة والخسران ، ويروج هذا القول الزائف على البسطاء
هذه الكلمة الصحيحة ، وهي أن محاولة نزع الخلافة من العثمانيين فيه تفريق
المسلمين وبلاء كبير على الأمة ، ولكن هذا التفريق وما يتبعه من البلاء والشقاء
ليس لازمًا من لوازم العلم والتهذيب والعمل والكسب التي يستحيل أن تنهض أمة
وتحفظ وجودها بدونها ، ولو فرضنا أن ذلك من لوازمها لما كان لنا أن نتركها لأن
ترك هذا الملزوم أو الملزومات أشد ضررًا وأعظم خطرًا. وكأني بالأحمق الذي
يقول بهذا التَّرك يرتأي أن يبقى أشرف عناصر الأمة الإسلامية في الدرك الأسفل
من الجهل والغباوة والفقر والفاقة والذل والمهانة لأجل المحافظة على لقب (خليفة)
في أسرة مخصوصة ، وإنما قلت: المحافظة على اللقب؛ لأن الخلافة الحقيقية لا
تثبت لآل عثمان فضلاً عن غيرهم إلا بقوة الملة والدين ، وهذه القوة منبعها العرب
وسياجها العلم والثروة ، فيجب أن يكونا عامَّين في العرب كغيرهم بل العرب
أولى بهذا وأجدر. على أن الجهل والفاقة مثاران لكل بلاء وشقاء ، فما دام العرب
على جهلهم وفقرهم لا نأمن أن يغش بعض أمرائهم غاش من الأجانب فيحمله على
طلب الخلافة ، والأمة الجاهلة تكون مستعبدة لأمرائها وحكامها ، فيتم بذلك التفريق
المخوف والعلم هدى ونور، فإذا فشا في الأمة تأمن به كل غائلة ونائبة حتى إذا
تسنى لأجنبي أن يغش أميرًا منها لا يتسنى له أن يغش معه الرأي العام ، وما دام
الرأي العام على بصيرة فلا خوف ولا خطر لأن القوة التي لا تبالغ ولا تقاوم هي
قوة الشعب والأمة.
وقد بينا رأينا في مسألة الخلافة من قبل ، وفندنا أقوال المرجفين الذين
يزعمون أن من المسلمين من يسعى لها سعيًا ، وأثبتنا أن هذه غاية لا تدرك بسعي
أمير من الأمراء أو جمعية من الجمعيات ، وأن الخوض فيها مضر لأنه يوهم
البسطاء إمكان نزعها من قرابها وتحويلها من مكانها والأمر منوط برأي السواد
الأعظم من الأمة ، وأين رأي السواد الأعظم من لغط اللاغطين وإرجاف المرجفين
وأي جاهل يقول: إن السواد الأعظم إذا أقرّ على شيء يكون ذلك الشيء تفريقًا؟
وهل للاجتماع والاتحاد معنى إلا هذا؟ .
نعم لقائل أن يقول: إن المنار قام منذ إنشائه يدعو إلى الوحدة الإسلامية
ويخاطب بكلامه الأمة كافة وينعي على من يقول بالوطنية والجنسية ، فكيف قام في
هذه الأشهر ينوّه بالعرب خاصة ويخاطبهم بالإصلاح من دون سائر الأجناس؟
والجواب عن هذا يفهمه الذكيّ النبه من المقالات السابقة ، ونزيده إيضاحًا مراعاة
لسائر الأفهام فنقول:
إننا في مقالاتنا (الوحدة العربية) و (الترك والعرب) لم نخرج عن التوحيد
والتأليف بين العناصر كلها ، وإنما أشرنا إلى عرض نزعات التعصب الجنسي عند
الترك لأن الطبيب لا بدّ له من تشخيص المرض والتعريف بالداء قبل وصف
الدواء وطرق العلاج ، و (من كتم داءه قتله وأماته) ولا شيء يقربنا من
إخواننا الأتراك ويجعل لنا قيمة في نفوسهم وبهاء في أعينهم، إلا اعتقادهم بأننا
شعب يفهم ويشعر، فيُسر بالكرامة ويتألم من الإهانة ، وأن مسرته نافعة لهم
وتألمه ضار بهم (ومن لم يكرم نفسه لا يكرم) وقد صرحنا من قبل بأننا لا
نعني بالوحدة العربية أن ينفصل العرب عن سائر المسلمين أو عن الترك خاصة ،
بل نعني به أن كل شعب يجتهد في ترقية نفسه ملاحظًا أن في ترقيه ترقيًا لسائر
الشعوب التي تتكون منها الأمة ، وسعادته من متمات سعادتهم ، ولكننني لا أنكر
أنني أرجو أن يظهر تأثير كلامي في قومي (العرب) الذين يقرءونه ويفهمونه ،
وهذا ما يحملني على أن أخصهم بالذكر أحيانًا ، وأن من الجرائد الإسلامية من لا
يتكلم في المواضيع الإرشادية إلا مع أهل بلاده خاصة حتى إنه لا يتجاوز ذلك إلى
إرشاد جيرانها من الناطقين بلغتها كما ترى في أكثر الجرائد المصرية بالنسبة للبلاد
السورية والحجازية والمغربية وذلك أن الإنسان يراعي في مثل هذا الأقرب
فالأقرب ، على أننا اقترحنا في مقالات الإصلاح الديني التي نشرت في المجلد
الأول أن يكون بين علماء المسلمين وخطبائهم وكتابهم روابط وتعارف ومشاركة في
الفكر لأجل أن يكون الإرشاد على طريقة واحدة والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاحتفال الأول
بامتحان مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية
احتُفل في أصيل يوم الجمعة الماضي في قبة الغوري الاحتفال الأول بامتحان
تلامذة مدرسة مصر القاهرة لهذه الجمعية النافعة تحت رئاسة فضيلة الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية ، وأحد أركان مؤسسي الجمعية
وأعضائها العاملة ، وقد حضر الاحتفال سعادة الفاضل الهمام ماهر باشا محافظ
مصر ، وكثيرون من العلماء والوجهاء ، وافتتح الاحتفال بقراءة آيات من الكتاب
العزيز قرأها أحد التلامذة بصوت رخيم وتجويد وترتيل انشرحت له الصدور ، ثم
قام رئيس الاحتفال فشكر للحاضرين عنايتهم بالجمعية وتنشيطها بالسعي لحضور
احتفالها ورؤية ثمرة أعمالها ، ثم بين أن الغرض الأول من تأسيس الجمعية تربية
أولاد الفقراء من يتامى وغيرهم تربية يحافظون فيها على عقائدهم وآداب دينهم
وأخلاقه وأعماله ، ويستعينون بها على معايشهم وتحصيل أرزاقهم ، ومن عساه
يوجد في مدارس الجمعية من أولاد الأغنياء، فوجوده غير مقصود بالذات.
قال: وإن الامتحان الذي يعرض أمام حضراتكم اليوم هو مطابق لهذا الغرض
ومبني على هذا الأصل ، ولهذا لا تسمعون فيه ذكر لغة أجنبية ، ولقد كان من رأي
بعض الأعضاء المؤسسين أن تُعلَّم في مدارس الجمعية اللغات الأجنبية لأجل
الترغيب في الإقبال عليها ، وقد كان الجواب عن هذا الرأي أنه ليس الغرض من
مدارس الجمعية التجارة فنرغب الناس فيها بما ليس من موضوعها ، وإنما الغرض
تربية أولاد الفقراء ، فلو أمكننا أن نلتقطهم من الشوارع ثم نرضي أولياءهم لفعلنا.
لم تنشأ الجمعية لمقصد أعلى من هذا في مدارسها كأخذ الشهادات والاستعداد
للوظائف ، بل من أهم مقاصدها أن تنزع من النفوس اعتقاد أن التعليم لا فائدة فيه
إلا الاستخدام في الحكومة ، وهذا الفكر كان مستوليًا على الأمة ، ونحمد الله أن
كثيرًا من الناس قد انتبه لما في هذا الفكر من الخطأ والضرر ، والجمعية توطن
نفوس التلامذة في مدارسها على أن يعمل الواحد منهم عمل أبيه بإتقان ، ويعيش مع
الناس بالأمانة والاستقامة ، فولد النجار يكون نجارًا ، وولد الحداد يكون حدادًا
وولد الفراش يكون فراشًا ، والتربية والتعليم يساعدان كلاًّ على إتقان عمله
وصناعته ، فيكون أكثر كسبًا لأنه أكثر إتقانًا للعمل مع الأمانة والاستقامة. ولا شك
أن الإنسان إذا ظفر بفراش كاتب مهذب يزيد في أجره ويطول عنده مكثه. ومن
كان فيه استعداد لشيء أعلى مما كان عليه آباؤه وظهر عليه ذلك، فإنه ينبعث إليه
من نفسه ، والجمعية تساعده عليه ، وقد حصل هذا لبعض التلامذة ، والجمعية
مهتمة في إنشاء قسم صناعي في مدارسها لأنه من مقاصدها الأصلية ، ثم قال:
هذا الاحتفال بامتحان تلامذة مدارس الجمعية لم يكن بمواطأة ، ولا كان تركه
في الماضي إلى هذه السنة وهي الخامسة من سني المدارس عن قصد ، وإنما هو
شيء جاء من نفسه ، واقتضته طبيعة العمل ، فمثل الجمعية فيه كمثل الطفل الذي
يظهر فيه بعد خمس سنين ثمرة العلم. وقد ظهرت الرغبة فيه قبلاً من أعضاء
الجمعية على ثقتهم بحسن النتيجة لما فيه من ظهور ثمرة العمل التي يُسر بها العامل ،
وتكون مدعاة لمساعدة إخوانهم الآخرين له ، ومسرة من لم يستطع المساعدة ، فإن
كل مسلم يسره أن يرى إخوانه المسلمين موفقين للأعمال النافعة للأمة التي لا
يستطيعها هو ، وهذا هو السبب في دعوة حضرتكم إلى هذا الاحتفال ، وشكرنا لكم
حسن الإجابة والقبول.
ثم وقف أحد الأطفال فسأله أحد المعلمين أولاً عن وجه حاجة البشر إلى
إرسال الرسل فأجاب بأحسن جواب - أجاب بملخص ما هو مذكور في كتاب (رسالة
التوحيد) التي لم يؤلف مثلها في بيان حقيقة الإسلام ، فصفق له النادي تصفيق
استحسان ، وأعطاه فضيلة الأستاذ الرئيس جائزة مالية ، ثم وقف آخر فقرأ نبذة من
كتاب الدروس الحكمية ، واختار الأستاذ مما قرأه جملة أمره بكتابتها وإعرابها وهي
(وبلغ بهم هذا الحب المتبادل إلى حد من ثقة بعضهم ببعض أن كان أحدهم ثقة
بإخوانه ، لا يأتي أمرًا إلا بمشورتهم) فأحسن إعرابها إلا أنه توقف بكلمات ، ثم
فطن لها من السؤال ، فدل هذا على إعراب عن فهم لا عن حفظ ألفاظ
واصطلاحات [1] وعلمت أنه كان في نية المعلمين أن يلقوا عليه للإعراب قوله
تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} (الحشر: 9) الآية لما فيها من المناسبة للمقام
ثم وقف آخر ، وألقيت عليه مسألة حسابية فحلها قولاً وكتابة ، ثم آخر فسئل عن
مسألة هندسية فأحسن الجواب ، وكان موضوع المسألة بناء حوض صفته كيت
وكيت ، ثم طلب منه أن يرسمه بحسب الوصف فرسمه رسمًا حسنًا. ثم وقف آخر
وطلب منه أن يرسم قارة أسيا ففعل وسئل فيها بعض المسائل فأجاب ، ثم وقف
آخر صغير جدًّا يظهر أنه في السنة الأولى ، وأن عمره لا يتجاوز الخمس سنين ،
وقرأ في كتاب التعليم قصة المرأتين اللتين اختصمتا إلى داود وسليمان عليهما
الصلاة والسلام في الولد المتنازع فيه، فأحسن القراءة ، وسئل أن يحل المعنى بالكلام
البلدي فحله حل الحاذق الفهم ، ثم اعتذر بصغره وقصره وأنه لولا ذلك لأجاد الكلام
وأتى بما يعجب به الحاضرون ، فكانت الوجوه تتدفق سرورًا وتتلالأ بشرًا لكلامه
وبراعته ، وأخذ الجائزة المالية من فضيلة الرئيس ، وصفق له النادي كما صفق
لإخوانه من قبله ، ثم قام آخر وتلا الخطاب الآتي، ألقاه إلقاء خطيب متمرن يعطي
كل جملة حقها من الإشارات وهو:
غير خافٍ أن الإنسان محتاج بطبعه في هذه الحياة الدنيا إلى الاجتماع ببني
جنسه على هيئة يكون بها التعاون والتعاضد ليحصل بهذا الاجتماع على ما تقوم به
حياته من الغذاء واللباس والمسكن والدفاع ، ويتم ما أراده الله به من العمران.
ولهذا الاجتماع العمراني علوم وفنون جمة ولدتها الحاجات ، وحققتها التجارب
حتى صارت حقائق ثابتة يتوقف على معرفتها تمتع أفراد المجتمع الإنساني بالراحة
التامة والرفاهية الكاملة ، وعلى قدر التمسك بهذه العلوم والفنون والعمل بمقتضاها،
تكون سعادة الأمة وغناها ، وبمقدار إهمالها والتقاعد عنها يكون شقاء الأمة وعناؤها
ومن قارن بين الأمم الغربية والشرقية في هذا العصر تحقق ما قلناه ، واعتبره
مسبرًا يسبر به غور الأمم، فمتى وجد أمة ينمو بين أفرادها حب التربية والتعليم
حتى يمتزج ذلك بدمائهم ويرسخ في نفوسهم ، ويصير أسمى مطلب وأنفس مأرب
يتيقن أنها سائرة إلى مجد شامخ وشرف باذخ لا بد وأن تبلغه يومًا ما ، ومتى وجد
أمة على الضد من ذلك جزم بأنها هاوية إلى البوار ومتقهقرة إلى الدمار.
وإننا نحمد الله حيث نرى أن أمتنا المصرية قد نهضت نهضة سريعة في
الميل إلى التربية والتعليم ، واتجهت لذلك أنظارهم وتسابقت إليه همهم ، فبذلوا في
هذا السبيل أنفس النفائس ، وأسسوا كثيرًا من المدارس حتى صار هذا التقدم في
الحال مما يبشر بحسن الاستقبال.
وكان الباعث الأول لهذه النهضة الوطنية تأسيس هذه الجمعية الخيرية
الإسلامية ، وغرسها أطيب المغارس بإنشائها هاتيك المدارس لتربية أبناء الفقراء
واليتامى الذين ليس لهم أولياء مع مواساة من أخنى عليهم الزمان من بيوت كانت
من المجد بمكان. فما ظهر هذا المشروع المحمود من العدم إلى حيز الوجود إلا
وتلقته أيدي النفوس الزكية بالارتياح حيث كان أفضل عمل يوصل إلى النجاح
والفلاح.
كان تأسيس هذا العمل المبرور والفعل الحميد المشكور بهمة نخبة أصفياء من
العلماء والوجهاء. في سنة 1310 هلالية الموافق سنة 92 شمسية. مؤيدًا
بالعناية الإلهية ، ومعززًا بالرعاية الخديوية العباسية. حيث أساسه البر والتقوى ،
وغايته الترقي في معارج السعادة إلى الدرجة القصوى.
وفي مبدأ الأمر لم يبلغ عدد الأعضاء المؤسسين له سوى اثنين وعشرين ،
وما زالت سراة الأمة تحنو بالإشفاق عليه ، وتتجاذب نفوسهم إليه. حتى بلغ عدد
الأعضاء العاملين والمشتركين ما يزيد عن الستمائة والثمانين ، ولما كان روح
النجاح في الأعمال هو ملازمة الثبات لبلوغ الآمال. قد وفق الله الأعضاء العاملين
للتمسك بحبل العزم المتين والاعتصام بروابط الاتحاد والدأب على ما فيه الصالح
بكل جيد واجتهاد حتى تم في زمن غير مديد كثير من العمل المفيد.
فأول عمل ينبغي أن يذكر فيشكر ويشهر بين العاملين وينشر: إنشاء هذه
المدارس الأربع الزاهرة في أسيوط ، وطنطا والإسكندرية ، والقاهرة ، رحمة
بأبناء الفقراء وانتياشًا لهم من وهدة الشقاء وتعهدهم بالتربية الحميدة. وتثقيف عقولهم
بالعلوم المفيدة حتى يشبوا على حب العمل والاعتماد على الله ، ثم على النفس في
بلوغ الأمل. فينتفعون وينتفع بهم ، ولا يكونون عالة على غيرهم ، وقد أثمر ولله
الحمد هذا الغرس وطابت منه كل نفس. فبلغ متوسط عدد تلامذة هذه المدارس
الأربع 350 تلميذًا ، وعدد النابغين منهم منذ الإنشاء إلى سنة 1316 هجرية ثمانين
تلميذًا التحق منهم بقسم الصنائع 43 تلميذًا على نفقة الجمعية. وانتظم الباقون في
أعمال أخرى تحسنت بسببها حالتهم المعاشية. وكلهم من أبناء الفقراء المعوزين.
وإني أيها السادة الكرام والعلماء الأعلام ممن شملتهم هذه التعطفات الرحمانية،
وغمرتهم نعمة التعليم في مدرسة مصر من مدارس هذه الجمعية ، وأوصلني الحظ
الجميل إلى وقوفي هذا الموقف الجليل بين يدي الحاضرين من العلماء والفضلاء
والأعيان والوجهاء. وهو موقف كان يصعب على مثلي أن يقفه ، وأن يتلفظ فيه
ببنت شفة. فلله الحمد والمنة على جليل هذه النعمة. ومن أعمال الجمعية المشكورة ،
وآثارها الجليلة المبرورة مد يد المساعدة بالبر والإحسان لبيوت تقلبت بها
صروف الحدثان؛ فأصبحت بعد العسر في يسر ، وصارت بعد الشقاء في هناء
وهذا لعمر الحق إحساس شريف ، ومقصد سامٍ منيف يقوي دعائم الفضيلة ، ويشيد
أركان الخلال الجميلة ، ويرغب النفوس في حب السخاء وتوثيق عرى الإخاء.
هذا ولما رأت رجال الجمعية أن التربية قسمان: علمية وعملية، بدأت بالأولى
لتكون كأساس وطيد صالح لأن يرفع عليه خير بناء مشيد ، وعزمت على أن
تردفها بالثانية بقدر الاستطاعة. فتنشئ قسمًا عمليًّا لِما تمس الحاجة إليه من فنون
الصناعة؛ لتتم الفائدة للنابغين من التلامذة ، ويتيسر لهم بهذه التربية الكاملة التي
نمت بها قواهم العاقلة والعاملة أن يعيشوا عيشة راضية حائزين في هذه الشركة
الإجتماعية حظوظًا وافية. حقق الله أماني جمعيتنا الإسلامية وأعانها على تتميم
هذه المساعي الخيرية وجعلها نموذج كمال ينسج على منواله ، وتتسابق الهمم
السامية إلى الحذو على مثاله. حتى نرى الوطن العزيز رافلاً في حلل البهاء بآثار
نبل هذه الأيادي البيضاء. وفق الله الأمة للسداد ويسر لها أسباب السعادة والإسعاد.
وأيدها بالتعاضد والالتئام. حتى يبشر المبدأ بحسن الختام
آمين آمين لا أرضى بواحدة
…
حتى أبلغها آلاف آمينا
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
اهـ
وقد طلبنا هذا الخطاب ونشرناه لما فيه من الفائدة المتعلقة بتاريخ الجمعية
وثمرتها.
ثم صعد مرقى الاحتفال ثلة من التلامذة ولحنوا نشيدًا جميلاً يتضمن شكر الله
تعالى وشكر مؤسسي الجمعية ومساعديها والدعاء للحضرة الخديوية العباسية التي
جعلتها تحت رعايتها ، وأمدتها بالرفد والمساعدة ، ثم ختم الاحتفال كما افتتح بتلاوة
القرآن الكريم وشكر رئيسه للحاضرين. فانفض الجمع منشرحة صدورهم بهذا
النجاح الباهر لا سيما بما رأوا من الهدوء والسكينة والنظام التي هي من آثار كمال
التربية والتهذيب.
(رجاء)
قد ظهرت ثمرة هذه الجمعية للعيان ، وتبين أنها أحق الجمعيات بمساعدة أهل
البر والإحسان؛ لأنها سالكة أمثل الطرق في تربية أبناء فقراء المسلمين. وهو ما
يؤهلهم لاكتساب خيري الدنيا والدين ، وإن أساسها لمتين وركنها لركين
وأعضاءها من خيرة الرجال العاملين، فلا عذر لأحد بعد ظهور الثمرة ووجود الثقة
بنجاح العمل وثباته في عدم الإقبال على مساعدتها إلا العجز. فالرجاء من أصحاب
الغيرة الحقيقية على الأمة والبلاد أن يقبلوا على الاشتراك فيها ومساعدتها لتتمكن من
إتقان مدرسة الصناعة المتأهبة لها ، وتردفها بمدرسة أخرى للزراعة فإن النجاح
الحقيقي لا يكون إلا بالتربية على قرن العلم بالعمل كما هو مبدأ الجمعية ، وعسى
أن يقل بنموها واتساع نطاقها عدد المتسولين والشحاذين الذين غصت بهم الطرقات ،
وضاقت بهم الأسواق والشوارع حتى إنه يخيل لمن يجيء القاهرة من البلاد
الأجنبية أن ثلث أهلها من الشحاذين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
(1)
ذكرني هذا مجاورًا في الأزهر يطلب العلم فيه من 29 سنة ، وحضر جميع الكتب العالية ، وقد أمره فضيلة مفتي الديار المصرية من أيام أن يعرب جملة في غاية الوضوح ، فأخطأ في البديهيات. العبارة فيما أذكر (ولما كان القضاء هو المقصود
…
قدمه تقدمة للأصل) إلخ فقال: لما: حينية، وكان: فعل ماض، والقضاء: فاعل و (هو) ضمير فصل، والمقصود: فاعل إلخ ، واشتبه في كلمة (تقدمة) فقال مرة: إنها فعل ولكنه لم يعين نوعه ، فسأله الأستاذ هل هو معرب أم مبني؟ فقال: كل فعل مبني
…
ثم أنكر أنها فعل، وقال: إنها اسم، لكنه لم يعرف ما هو، ثم أنكر كونها اسمًا كما أنكر من قبل كونها فعلاً أو حرفًا إلخ! ! ! فما هذا التعليم؟ .
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية وأدبية
(ملخص خطاب مولانا الأستاذ الحكيم في ختام درس المنطق)
وعدنا بأن نأتي بما وعيناه من ذلك الخطاب البليغ، وها نحن أولاء منجزو
موعدنا، قال الأستاذ بعد ما تقدمت الإشارة إليه من ذم الإطراء ما مثاله ملخصًا:
سعادة الناس في دنياهم وأخراهم بالكسب والعمل؛ فإن الله خلق الإنسان وأناط
جميع مصالحه ومنافعه بعمله وكسبه ، والذين حصَّلوا سعادتهم بدون كسب ولا سعي
هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحدهم لا يشاركهم في هذا أحد من البشر مطلقًا ،
والكسب مهما تعددت وجوهه فإنها ترجع إلى كسب العلم؛ لأن أعمال الإنسان إنما
تصدر عن إرادته ، وإرادته إنما تنبعث عن آرائه ، وآراؤه هي نتائج علمه ، فالعلم
مصدر الأعمال كلها دنيوية وأخروية، فكما لا يسعد الناس في الدنيا إلا بأعمالهم كذلك
لا يسعدون في الآخرة إلا بأعمالهم ، وحيث كان للعلم هذا الشأن فلا شك أن الخطأ
فيه خطأ في طريق السير إلى السعادة عائق أو مانع من الوصول إليها ، فلا جرم أن
الناس في أشد الحاجة إلى ما يحفظ من هذا الخطأ ويسير بالعلم في طريقه القويم
حتى يصل السائر إلى الغاية ، وهذا هو المنطق المسمى بالميزان ، والمعيار الذي
يضبط الفكر ويعصم الذهن عن الخطأ فيه ولهذا كانت العناية به من أهم ما يتوجه
إليه طلاب السعادة.
اعتنى العلماء في كل أمة بضبط اللسان وحفظه من الخطأ في الكلام ،
ووضعوا لذلك علومًا كثيرة ، وما كان للسان هذا الشأن إلا لأنه مجلي للفكر
وترجمان له وآلة لإيصال معارفه من ذهن إلى آخر، فأجدر بهم أن تكون عنايتهم
بضبط الفكر أعظم. كما أن اللفظ مجلي الفكر هو غطاؤه أيضًا فإن الإنسان لا يقدر
على إخفاء أفكاره إلا بحجاب الكلام الكاذب حتى قال بعضهم: إن اللفظ لم يوجد إلا
ليخفي الفكر.
إنما ينتفع بالميزان الذي هو علم الفكر من كان له فكر ، والفكر إنما يكون
فكرًا له وجود صحيح إذا كان مطلقًا مستقلاًّ يجري في مجراه الذي وضعه الله تعالى
عليه إلى أن يصل إلى غايته ، وأما الفكر المقيد بالعادات المستعبد بالتقليد فهو
المرذول الذي لا شأن له وكأنه لا وجود له. وقد جاء الاسلام ليعتق الأفكار من رقها ،
ويحلها من عقلها ، ويخرجها من ذل الأسر والعبودية ، فترى القرآن ناعيًا على
المقلدين ذاكرًا لهم بأسوأ ما يذكر به المجرم ، ولذلك بنى على اليقين الذي علمتم
معناه موضحًا في درس سابق [1] لا ينبغي للإنسان أن يذل فكره لشيء سوى الحق ،
والذليل للحق عزيز. نعم يجب على كل طالب علم أن يسترشد بمن تقدمه سواء
أكانوا أحياء أم أمواتًا ، ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم فإن وجده
صحيحًا أخذ به وإن وجده فاسدًا تركه ، وحينئذ يكون ممن قال الله تعالي فيهم:
{فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ
هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) وإلا فهو كالحيوان ، والكلام كاللجام له أو
الزمام يمنع به عن كل ما يريد صاحب الكلام منعه عنه ، ويقاد إلى حيث يشاء
ذلك المتكلم أن يقاد إليه من غير عقل ولا فهم.
ما الذي يعتق الأفكار من رقها وينزع عنها السلاسل والأغلال لتكون حرةً
مطلقةً؟ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى شرح طويل لأن تخليص الأفكار من
الرق والعبودية من أصعب الأمور ، ويمكن أن نقول فيه كلمة جامعة يرجع إليها كل
ما يقال وهي (الشجاعة) .
الشجاع هو الذي لا يخاف في الحق لومة لائم، فمتى لاح له يصرح به ويجاهر
بنصرته وإن خالف في ذلك الأولين والآخرين ، ومن الناس من يلوح له نور الحق
فيبقى متمسكًا بما عليه الناس ويجتهد في إطفاء نور الفطرة ، ولكن ضميره لا
يستريح فهو يوبخه إذا خلا بنفسه ولو في فراشه. لا يرجع عن الحق أو يكتم الحق
لأجل الناس إلا الذي لم يأخذ إلا بما قال الناس ، ولا يمكن أن يأتي هذا من موقن
يعرف الحق معرفة صحيحة.
إن استعمال الفكر والبصيرة في الدين يحتاج إلى الشجاعة وقوة الجنان ، وأن
يكون طالب الحق صابرًا ثابتًا لا تزعزعه المخاوف فإن فكر الإنسان لا يستعبده إلا
الخوف من لوم الناس واحتقارهم له إذا هو خالفهم أو الخوف من الضلال إذا هو
بحث بنفسه ، وإذا كان لا بصيرة له ولا فهم فما يدريه لعل الذي هو فيه عين
الضلال. إذن (إن الخوف من الضلال هو عين الضلال) . فعلى طالب الحق أن
يتشجع حتى يكون شجاعًا، والله تعالى قد هيأ الهداية لكل شجاع في هذا السبيل ، ولم
نسمع بشجاع في فكره ضل ولم يظفر بمطلوبه.
وههنا شيء يحسبه بعضهم شجاعة وما هو بشجاعة وإنما هو وقاحة ، وذلك
كالاستهزاء بالحق وعدم المبالاة بالمحق، فترى صاحب هذه الخلة يخوض في الأئمة
ويعرض بتنقيص أكابر العلماء غرورًا وحماقة ، والسبب في ذلك أنه ليس عنده من
الصبر والاحتمال وقوة الفكر ما يسبر به أغوار كلامهم ، ويمحص به حججهم
وبراهينهم ليقبل ما يقبل عن بينة ويترك ما يترك عن بينة ، وهذا لا شك أجبن من
المقلد لأن المقلد تحمل ثقل التقليد على ما فيه ، وربما تنبع في عقله خواطر ترشده
إلى البصيرة أو تلمع في ذهنه بوارق من الاستدلال لو مشى في نورها لاهتدى
وخرج من الحيرة ، وأما المستهزئ فهو أقل احتمالاً من المقلد، فإن الهوس الذي
يعرض لفكره إنما يأتيه من عدم صبره وثباته على الأمور وعدم التأمل فيها.
والحاصل أن الفكر الصحيح يوجد بالشجاعة والشجاعة هنا (هي التي يسميها
بعض الكتاب العصريين الشجاعة الأدبية) قسمان: شجاعة في رفع القيد الذي هو
التقليد الأعمى ، وشجاعة في وضع القيد الذي هو الميزان الصحيح الذي لا ينبغي
أن يقر رأي ولا فكر إلا بعد ما يوزن به ويظهر رجحانه ، وبهذا يكون الإنسان حرًّا
خالصًا من رق الأغيار عبدًا للحق وحده. وهذه الطريقة طريقة معرفة الشيء بدليله
وبرهانه ما جاءتنا من علم المنطق ، وإنما هي طريقة القرآن الكريم الذي ما قرر
شيئًا إلا واستدل عليه وأرشد متبعيه إلى الاستدلال ، وإنما المنطق آلة لضبط
الاستدلال كما أن النحو آلة لضبط الألفاظ في الإعراب والبناء كما قلنا. ولا يمكن
أن ينتفع أحد بالمنطق ولا بغيره من العلوم مهما قرأها وراجعها إلا إذا عمل بها
وراعى أحكامها حيث ينبغي أن تراعى، فالذي يحفظ العلم حفظًا حقيقيًّا هو العمل به
وإلا فهو مَنسيّ لا محالة ، وإننا نرى المجاور يقضي السنين الطويلة في الأزهر
يدرس العلوم العربية ولا ينتفع بها بتحصيل ملكة العربية قولاً وكتابة ، وإنما ذلك
لعدم الاستعمال. فأنصح لكل من يسمع كلامي أن يستعمل ما يحصله من العلم ،
وأن يحصل لنفسه ملكة الشجاعة ، وبدون هذا لا ينتفع بعلم ولا عمل ويكون
الاشتغال بالدروس في حقه من اللغو المنهي عنه المذموم صاحبه شرعًا. بل يقضي
حياته كسائر الحيوانات العجم وربما كان أتعس منها. وأحب أن يكون كل منكم
إنسانًا كاملاً والإنسان يطلب الجميل النافع لأنه حسن في نفسه لا لأن غيره يطلبه ،
فلو كفر كل الناس لوجب عليه أن يكون أول المؤمنين ، وهذا هو الإسلام الصحيح
ثم ختم الأستاذ الخطاب بالدعاء والثناء على الله تعالى وانفض الاجتماع.
***
(قصيدة)
من القصائد التي نظمت بمناسبة الاحتفال بختم درس المنطق ، قصيدة غراء
لصديقنا الفاضل الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي قال في مطلعها يخاطب
الأستاذ:
لعلياك مجد لا يماثله مجد
…
وفضلك فضل لا يرام له حد
وأنت إمام العصر بل أنت شمسه
…
وأنت وحيد الدهر والعلم الفرد
أقمت منار الشرع فينا بهمة
…
هي الهمة العلياء والفطنة النقد
(ومنها)
فللت جموع الزيغ بالحق والهدى
…
وهابتك حتى في مرابضها الأسد
وذدتَ عن الدين الحنيفي مخلصًا
…
على حين أن القوم ليس لهم ذود
بتفسيرك الشافي كشفت سحابة
…
من الجهل قد غشت وطال بها العهد
على أمة في غفلة عن حياتها
…
وقل نصير الحق وانتشر الصد
عن المنهج الأقوى عن الخير كله
…
ولولا كتاب الله لانفرط العقد
وأحييت ألبابًا بتقريرك الذي
…
تباهت به الأقطار والسند والهند
هو الحق والعلم الصحيح بيانه
…
هو الذهب الإبريز واللؤلؤ النضد
بك اعتز دين الله من بعد فترة
…
تحكم فيها الجهل والحقد والجحد
فكنت بنصر الحق أفضل قائم
…
وليس سوى الإخلاص عون ولا جند
ومنها في نصيحة طلاب العلم:
أيا معشر الطلاب للخير سارعوا
…
ولا تهنوا في العلم فالوقت يشتد
إذا عرف الإنسان قيمة نفسه
…
... تسامى إلى العليا وطاب له السهد
وإن فتى الفتيان في العلم همه
…
طلاب المعالي لا الثراء ولا الرفد
وقال في الختام يخاطب الأستاذ:
ويا شمس هذا العصر لا زلت راقيًا
…
من المجد ما يبقى له الذكر والحمد
ودام بك النفع العميم مؤزرًا
…
وخادمك الإقبال واليمن والسعد
***
(كتاب البصائر النصرية)
نوًهنا بهذا الكتاب الجليل في ذكر الاحتفال بختامه في الجزء الماضي ، وهو
من تصنيف العلامة الجليل القاضي الزاهد زين الدين عمر بن سهلان الساوى. ألفه
باسم السيد نصير الدين بهاء الدولة كافي الملك أبي القاسم محمود بن أبي توبة
ونسبه إليه.
والكتاب جزل العبارة كبير الفائدة يمتاز على جميع الكتب المتداولة في الفن
بالتحقيق والتحرير وتحري المسائل التي يحتاج إليها من يريد استعمال الفن فيما
وضع له ، ويزيد عليها بأبواب ومسائل لا توجد فيها كالأجناس العشرة التي تسمى
بالمقولات ، وإطالة البيان فيما قصرت فيه لا سيما في باب القياس فعقد فصولاً
لاكتساب المقدمات ولتحليل القياسات ولاستقرار النتائج التابعة للمطلوب الأول ،
وللنتائج الصادقة عن مقدمات كاذبة ، وللقياسات المؤلفة من مقدمات متقابلة ،
وللمصادرة على المطلوب الأول ، وللأمور الشبيهة بالقياس وليست منه،
والقياسات المخدجة، وتكلم في هذا الفصل على الاستقراء والتمثيل والضمير
والرأي والدليل والعلامة والقياس الفراسي، بما لا نكاد نجده في غيره. وتوسع في
مواد القياس توسعًا نافعًا لا يستغني عنه طالب هذا الفن. وقد علق عليه مولانا
الأستاذ الشيخ محمد عبده تعليقًا وجيزًا تُعلم فائدته مما كتبناه في الجزء الماضي ،
وأحسن ما يقرظ به الكتاب قول الأستاذ في مقدمة هذا التعليق:
(وهو حاو مع اختصاره لما لم تحوِه المطولات التي بأيدينا من المباحث
المنطقية الحقيقية ، وخالٍ مع كثرة مسائله من المناقشات الوهمية التي لا تليق
بالمنطق ، وهو معيار العلوم من مثل ما نجده في المطالع وشروحها وسلم العلوم وما
كتب عليه (قال) : ووجدته على ترتيب حسن لم أعهده فيما وقفت عليه من كتب
المتأخرين من بعد الشيخ الرئيس ابن سينا ومن في طبقته من علماء هذا العلم) ثم
ذكر استحسانه لقراءته في الجامع الأزهر وعرضه على شيخ الجامع وأعضاء
مجلس إدارته وإعجابهم به وإقرارهم على قراءته في الأزهر لأنه من أفضل ما
يهدى إليه ثم قال:
(على أن الكتاب وإن كان جزل العبارات صحيح البيان إلا أن فيه ألفاظًا
وعبارات ومسائل اعتمد في الإتيان بها على ما كان عليه أهل زمانه من درجته في
العرفان ، وهي اليوم تحتاج إلى شيء من الإيضاح والشرح، فاستخرت الله تعالى في
وضع بعض تعاليق على ما رأيته محتاجًا إلى ذلك ، وأسأل الله أن ينفع به الطلاب
ويجزل فيه الثواب) .
والكتاب يباع في محل السيد عمر الخشاب في السكة الجديدة وثمنه عشرة
غروش أميرية ، وهي قيمة الاشتراك به قبل طبعه لم يزد عليها تسهيلاً على طلاب
العلم.
***
(طوفان نوح)
جاء في جريدة نور الإسلام المفيدة تحت هذا العنوان ما نصه:
رفع سؤال إلى مولانا الأستاذ الأكبر والعلم الأشهر حكيم الأمة وخاتمة الأئمة
الشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية، مصحوبًا هذا السؤال برسالة ألفها
الأستاذ الشيخ بكر التميمي النابلسي في مسألة الطوفان ، وهل كان عامًّا أم لا؟
يطلب رافعه من فضيلة المفتي حكمه فيما نشر في هذه الرسالة ، وبيان ما يجب
اعتقاده شرعًا في هذه المسألة التي كثر فيها الاختلاف. فأجاب -أطال الله وجوده- بما
يأتي:
الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، اطلعت على رسالة الطوفان التي حررها
حضرة الشيخ بكر التميمي النابلسي فرأيت أن حضرة الكاتب يبني رأيه فيها على
أصول مقررة تعرفها الشريعة الإسلامية ، ولا ينكرها أحد من العارفين بها إلا إذا
صدق بعضًا وأنكر بعضًا ، وهو ليس من خلائق أهل الإسلام ، أو ناقض بعض
آرائه بعضًا وهو ليس من شأن العقلاء.
وقد ورد عليّ من عدة أشهر سؤال في هذه الحادثة من أحد أهل العلم بمدينة
نابلس وفيه ذكر لما يستند إليه منكرو عموم الطوفان وعموم رسالة نوح عليه السلام.
فأجبته بجواب أكتفي بنقل صورته ، وهو يؤيد رأيي في الرسالة وهذا نصه:
(أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان ولا عموم
رسالة نوح عليه السلام ، وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد
لا يوجب اليقين ، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن إذا عُدَّ
اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما
ترجحه عنده ثقته بالراوى أو المؤرخ أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون
والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها ولا
يتخذ دليلاً قطعيًّا على معتقد ديني ، وأما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي
موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض ، وموضوع خلاف
بين مؤرخي الأمم ، فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عامًّا
لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود
بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال لأن هذه الأشياء مما لا يتكون
إلا في البحار، فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من
المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من
المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامًّا ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها غير أنه
لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامًّا لمجرد حكايات من أهل
الصين أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد
بالدين أن لا ينفي شيئًا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها
وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلى يقطع بأن الظاهر غير مراد ، والوصول
إلى ذلك في هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد وعلم غزير في طبقات
الأرض وما تحتوي عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية ، ومن هذى
برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف ، ولا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببث
جهالاته ، والله سبحانه وتعالى أعلم) .
هذا ما كنت كتبته جوابًا عن السؤال الوارد إلي ، أما وقد اطلعت على رسالة
الشيخ بكر التميمي فأرى أنه لم يخطئ الصواب فيما كتب ، ولا أجد في كلامه ما
يشم منه رائحة التطوح مع الهوى فيما وجه إليه قصده من ترجيح أحد الرأيين على
الآخر ، والله الموفق للصواب.
_________
(1)
قال الأستاذ: هو اعتقاد أن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن يكون إلا كذا لأنه مطابق للواقع وهو بمعنى قولهم: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، وأما قولهم: عن دليل، فلا معنى له لأن اليقين أكثر ما يكون في البديهيات وهي لا يدلل عليها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(الحجاج الكرام)
نحمد الله تعالى أن حجاج بيته قد أقبلوا بغاية الصحة لا يشكون إلا من قساوة
المعاملة في المحجر الصحي والمشقة في البواخر الخديوية ، وقد حظينا بلقاء
أصدقائنا الكرام الأستاذ الواعظ المؤثر الشيخ علي الجربي والأستاذ الفاضل الشيخ
سالم الرافعي وأخيه الفاضل النجيب الشيخ محمد سعيد وقد حدثنا هذا بشكوى أهل
الحجاز العامة من سيرة الشريف عون باشا أمير مكة المكرمة فوافق قوله الآخرين ،
وربما نذكر ما يفيد الوقوف عليه من ذلك.
* * *
(المولد النبوي الشريف)
أقيمت معالم الزينة والاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في صحراء
العباسية حسب العادة ، وقد زرنا تلك المعاهد في الليلة البارحة لأجل المقابلة بين
الزينة في هذا العام وفيما قبله فألفينا الازدحام أقل مما كان فيما سبق ، والسبب في
ذلك فيما يظهر إبطال كثير من البدع والقبائح كالرقص على أبواب الخيم
والسرادقات ، ولا بعد في أن يكون للانقلاب في الأفكار الذي ينمو عامًا بعد عام أثر
كبير في ذلك.
وهذه الليلة التي تستقبلنا هي ليلة الجمع الأكبر ، وسنرى ماذا يكون فيها. ولا
بد لصاحب السماحة والرجاحة السيد توفيق البكري شيخ شيوخ طرق الصوفية
ورئيس هذا الاحتفال من تجديد أمور ممدوحة ترغب الناس في العناية به والإقبال
عليه بدلاً من الأمور المذمومة التي يسعى في إبطالها. ولا شيء يرغب الناس في
ذلك كالخطابة فعسى أن ينصب في العام القابل منبر أو منبران للخطابة بما يناسب
المقام فيكون للاحتفال البهاء الصحيح والإقبال النافع، وبالله التوفيق.
* * *
(وفاة سري)
نعى البرق إلينا من أيام سليل بيت المجد والشرف السيد محمد راتب باشا ،
وافته المنية في محجر بيريه من ثغور اليونان قاصدًا الأستانة العلية للاصطياف فيها
وكان لنعيه رنة أسف في القاهرة ، وقد حنطت جثته ، وبعد ما بلغوا بها الأستانة
أعيدت إلى مصر لتدفن في مدفن أسرتها الكريمة ، واليوم موعد وصولها وغدًا
تشيع بالاحتفال اللائق. وكان الفقيد كريم السجايا طلق اليد والمحيا متمسكًا بالدين ،
تغمده الله تعالى برحمته وعزى آله أحسن العزاء على فقده.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المشروع الحميديُّ الأعظم
سكة حديد الحجاز
سرور المسلمين بالمشروع. غلط الواهم بمضرته ، غير المسلمين ممنوعون من
الحجاز رسميًّا ، استعداد الإفرنج لدخول الحجاز بالتظاهر بالإسلام ، الخطر على
الحجاز من البحر دون البر ، إمكان إماتة أوربا أهله بالجوع إذا لم توجد هذه
السكة ، مقاصد الأعداء في الكعبة والقبر الشريف. ردة الجهلاء إذا وقع بهما
سوء. وجوب مساعدة المشروع دينًا.
لقد رقصت قلوب المسلمين جذلاً وسرورًا لمشروع السكة الحديدية الحجازية ،
وهتفت ألسنتهم بالثناء والدعاء لمولانا السلطان الأعظم لتوجيه عنايته الشريفة إلى
هذا العمل المبرور الذي يرضي الله تعالى ويرضي الرسول صلى الله عليه وسلم
في ملحودة قبرة الشريف.
ولا التفات لذي نظرة حمقاء يتوهم أن في المشروع مضرة لأنه يسهل على
الأوروبيين دخول البلاد المقدسة متَّجرين، وهي الوسيلة الوحيدة لنفوذ سلطتهم فيها ،
وربما يجيء بعد ذلك يوم من الأيام يزحفون عليها بقوة عسكرية لحماية رعاياهم من
ضرر يتوقع نزوله بهم كما هو المعهود منهم في كل بلاد شرقية يعتدون عليها.
وكأن صاحب هذا الوهم يعتقد أن المانع الآن للأوروبيين من دخول البلاد الحجازية
هو حزونة الطريق وبُعد الشُّقة ، والصواب أن المعاهدات التجارية بين الدولة العلية
وسائر الدول الغير المسلمة تُستثنى منها تلك البلاد الشريفة، فهم ممنوعون من دخولها
منعًا رسميًا متفقًا عليه لأنها معتبرة معبدًا من المعابد الإسلامية كالجوامع ، ومن
دخلها مستخفيًا وسُفك دمه فالدولة العلية لا تسأل عنه مطلقًا. وهذا المنع الرسمي
هو الذي جعل المولعين بحب الاكتشاف من الأوربيين إذا أرادوا التسلل للوقوف
على شئون البلدين المكرمين وما يكتنفهما من البلاد العربية يستعدون لذلك زمنًا
طويلاً يتعلمون فيه لغة شرقية كالعربية أو التركية أو الفارسية أو الأوردية ،
ويتعلمون العبادات الإسلامية كالطهارة والصلاة ومناسك الحج ، ثم ينسلون مع
الحجاج ، ويؤدون معهم المناسك ويستخفون أشد الاستخفاء في أخذ رسوم البلاد
بالفوتغرافيا حتى إن أحدهم جعل الآلة الفوتغرافية في نوط الساعة. ولم ينس قراء
المنار ما قصصناه عليهم في المجلد الأول من خبر ذلك الأوروبي الذي أراد اكتشاف
البلاد الحجازية وغيرها من شبه جزيرة العرب فاستعد لذلك بإظهار الإسلام وتعلم
العربية وأخذ شهادة من أشراف حلب بأنه قرشي هاشمي النسب ، وصدق على نسبه
هذا في الأستانة العلية وأخذ عليه فرمانًا شاهانيًّا ، ثم كان من أمر دخوله ما كان
وكتب عن تلك البلاد ما كتب. فلو أن دخول البلاد الحجازية مباح للأوروبيين لما
احتاج مثل ذلك الرجل وغيره إلى كل ذلك العناء في التوسل إليه.
وأكثر الناس يعرفون أن الوصول إلى مكة المكرمة من جدة والمسافة بينهما
تعد بالساعات أيسر من الوصول إليها في السكة الحديدية التي تمتد إليها من الشام
حيث المسافة تعد بالأيام. هذا وإن التجار الأوربيين لا نجاح لهم في مثل دمشق
وطرابلس ونحوها من البلاد التي يغلب عليها العنصر الإسلامي، فكيف تروج
تجارتهم في مكة والمدينة والقياس على البلاد المصرية قياس مع الفارق ، فإنه
لا يوجد في الدنيا كلها بلاد تعظم الإفرنج وتحترمهم كهذه البلاد ، والسبب في ذلك
أمراؤهم كإسماعيل باشا وغيره.
لا ريب في أن الرغبة من الإفرنج في دخول تلك البلاد محصورة في أهل
العلم والسياسة ، وأما الحصول على هذه الرغيبة جهرًا فهو غير مطموع فيه ما دام
للدولة العلية صفة رسمية في أوربا ، وما دام الأوربيون يرون أن تهييج الرأي العام
الإسلامي مضر بهم وعاقبته وخيمة عليهم. ولكن لا نأمن أن يجيء يوم من الأيام
يفور فيه التنُّور ويؤمَن المحذور وتتصدى الدول الأوروبية كلها أو بعضها لتدمير
الكعبة المشرفة ونقل قبر المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام إلى متحف اللوفر
عملاً بنصيحة كيمون ومن على شاكلته ، ولا يمكن أن يكون زحفهم عن طريق
الشام لتكون هذه السكة الحديدية عونًا لهم لأن هذا يحتاج أولاً إلى تدمير البلاد
الشامية نفسها وإفناء أهلها ، وعندما تشتعل النار في الشام يمكن للعربان الضاربين
بين القطرين أن يقتلعوا القضبان الحديدية ، ويمحوا أثر هذه السكة الحديدية إما بعد
بعث البعوث عليها لنجدة أهل الشام ، وإما قبل ذلك ، فكيف يختار الأعداء هذا
الطريق المحفوف بالأخطار على طريق جدة القريب؟ . وإذا هم زحفوا من جدة
فسكة الحديد هي الوسيلة الوحيدة لحماية البلاد المقدسة منهم لأن الدولة العلية لا
يتسنى لها في عشرات السنين أن تنشئ لها أسطولاً كأسطول فرنسا أو إنكلترا فما
بالك إذا اتفق الدول يومئذ اتفاقهن الآن على الإيقاع بالصين.
هذا ضرب من الاستعداد للمستقبل ، ونرجو الله أن يقينا شواظ ناره ويحفظنا
من أخطاره. وثم خطر أقرب من هذا حصولاً وهو إمكان إماتة أهل البلاد
الحجازية بالجوع. من المعلوم أن تلك البلاد ليس فيها من القوت ما يقع أدنى موقع
من كفاية أهلها فمعظم أهلها من بدو وحضر يقتاتون مما يرد إليهم من الخارج ،
وأكثره الأرز الهندي الذي تفرغه البواخر الإنكليزية في مواني البحر الأحمر كجدة
وقنفذة، فإذا تسنى لإنكلترا أن تستبد بالبحر الأحمر وهي الآن صاحبة النفوذ الأكبر
فيه باحتلالها لمصر وامتلاكها لعدن فإن حياة البلاد الحجازية تكون حينئذ في قبضتها ،
وإذا كانت أوربا تحول دون هذه الأمنية الإنكليزية فهل من البعيد أن تتفق دولها
البحرية مع الإنكليز على منع البواخر العثمانية من العبور في قنال السويس. وإذا
كان هذا والعياذ بالله تعالى فهل يكون إلا لمنع الحج ومنع دخول القوت إلى بلاد
الحجاز؟ كلا إنه ليس لنا ما نتلافى به هذه الأخطار المتوقعة إلا هذه السكة الحديدية
التي تصل البلاد الحجازية ببلاد الشام الخصبة القوية ، ولذلك توجهت إليها عناية
مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى فيتحتم على كل مسلم أن يمد إليه ساعد المساعدة
لسرعة إنجازها {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسا إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا} (الطلاق: 7) .
يا أيها الذين آمنوا إن كعبتكم التي ينهدم بانهدامها - والمستغاث بالله - ركن
من أعظم أركان دينكم تستغيث بكم فأغيثوها ، وإن قبر نبيكم عليه الصلاة والسلام
يستنجد بكم لحمايته وحفظه فانجدوه ولا تقولوا: إن الله تولى حفظهما، فإن الله يحفظ
ما يريد حفظه بالناس ، ولكل شيء سبب ، وقد شُجَّ رأس النبي صلى الله عليه
وسلم وهو حيٌّ وكسرت رباعيته وهدمت الكعبة من بعده {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .
يا أيها الذين آمنوا إن صدى صوت كيمون الحاضّ على هدم الكعبة ونقل قبر
النبي صلى الله عليه وسلم إلى باريس لا يزال يرنٌ في مسامعكم ولا تزال آلامه
تدمي قلوبكم وتنفعل لها أرواحكم فليزعجكم هذا إلى مساعدة هذا المشروع العظيم إذا
كنتم نسيتم ما تمثل به المقطم الأغر إنذارًا لكم في مقالة له أيام الفتنة الأرمنية وهو:
ها مصر قد أودت وأودى أهلها
…
إلا قليلاً والحجاز على شفا
لقد أنذركم الله بطشته فلا تتماروا بالنذر {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ
الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: 10-11) .
يا أيها الذين آمنوا اسمعوا ما قال شيخ الإسلام في المجلس العالي الذي عقد
للمذاكرة في المشروع في دار السعادة، قال: (إن الدولة العلية إذا لم تتم هذا العمل
تسقط قيمتها من نظر العالم الإسلامي) ولقد قال حقًّا وكان لقوله أحسن الأثر عند
مولانا السلطان الأعظم رئيس اللجنة وسائر أعضائها.
ونحن نزيد على سماحته فنقول: إذا لم يتم هذا المشروع فإن العالم الإسلامي
كله يسقط من نظر العالم الإنساني بل ومن نظر نفسه أيضًا وييأس المسلمون من
كل عمل نافع للملة والأمة. بل يخشى أن يرتد الملايين من المسلمين إذا أصيبت
الكعبة أو القبر الشريف بسوء، وما أجدرهم باليأس إذا كان خليفتهم ورئيسهم الدنيوي
يحاول القيام بعمل يعد صغيرًا بالنسبة لأمثاله من الخطوط الحديدية ثم تعجز الدولة
والأمة الإسلامية كلها عن إتمامه! ! ! وكيف لا يرتدُّون وهم لجهلهم يعتقدون أن
تلك المواضع محفوظة بالخوارق؟ وأعوذ بالله أن يرضى مسلم يؤمن بالله واليوم
والآخر بهذه الإهانة الكبرى لأمته ، وأن يقصر في عمل عاقبته اليأس والقنوط
{وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ} (الحجر: 56) ومن آمن بالله لا يقصر في حفظ بيت الله وتسهيل
السبيل لحجاجه. ومن يؤمن برسوله يتمنى تسهيل زيارته على نفسه وعلى إخوانه
المؤمنين. ومن أفضل المجاهدة بالمال بذله في هذا العمل المبرور فمن فاته الجهاد
بالنفس لا يفوته الجهاد بالمال {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39) .
يا أيها الذين آمنوا تفكروا في ماضيكم وحاضركم واسمعوا ما تقول الأمم فيكم
اليوم، يزعمون أن المسلم يستحيل أن يقوم بمشروع نافع وأن يأتي بعمل عام مفيد ،
وأن السعادة مختصة بهم ومحصورة فيهم فكذبوهم بأعمالكم. وهذا المشروع فرصة
سانحة لتكذيبهم فاغتنموها {لِئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلَاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ
اللَّهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: 29) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدنية العرب
النبذة الثانية
الجهاد في الإسلام كان للضرورة. الميل للعلوم والفنون استفاده العرب من
القرآن. زيغ العقيدة ليس من لوازم العلوم الطبيعية. فساد الأخلاق والأعمال ليس
من لوازم الفقه. الخلاصة أن مدنية العرب من دينهم.
كان أول أثر للإسلام في العرب جمع كلمتهم وتكوين وحدتهم وتأليف قلوبهم ،
وهذه هي الغاية القصوى من المدنية التي من شأنها ألا تحصل إلا بعد ما تقضي
الأمة زمنًا طويلاً في مزاولة تعميم التربية والتعليم ، ومن هنا نقول: إن الوحدة
العربية لأول عهدها كانت بإمداد سماويّ وعناية إلهية لا بسياسة القيّم الكسبية
وبراعة الداعي الطبيعية ، ولذلك قال تعالى مخاطبًا النبي عليه الصلاة والسلام:
{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال: 63) ولقد حسدتهم الأمم على هذه النعمة ، وناوأتهم الشعوب للاختلاف في
الدين فاضطروا إلى المدافعة ، ثم أُمروا بالدعوة بالتي هي أحسن فقابلهم المدعوون
بالتي هي أسوأ لما كانت عليه جميع الأمم لذلك العهد من الفساد والإفساد والبغي في
الأرض بغير الحق فاضطروا لمكافحتهم وكتب الله لهم النصر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) ثم كان لهم ولوع بالفتوح وهي سنة
الكون: العالِم يستولي على الجاهل ، والضعيف ذو الإصلاح يغلب القوي ذا
الإفساد. فلما تمكنوا في الأرض وأمنوا المناصبة والمواثبة؛ ظهر فيهم الميل إلى
ما يرشد إليه القرآن من النظر في ملكوت السموات والأرض ورغبوا في الكمال في
هذا النظر؛ فاهتدوا بذلك إلى الاستعانة بعلم من كان قبلهم فترجموا الكتب اليونانية
وغيرها وصححوا غلطها وزادوا عليها ما شاء الله أن يزيدوا كما سيأتي تفصيله.
يظن بعض الجاهلين أن الميل في العرب إلى العلوم الرياضية والطبيعية كان
من طبيعة الملك والعمران لا من إرشاد السنة والقرآن ، ويتهم بعضهم المسلمين
بأنهم هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية اكتفاءً بالدين عن كل ما عداه. وقد جاءوا
بقولهم هذا ظلمًا وزورًا. فإن ما ورد في القرآن من الحث على النظر في ملكوت
السموات والأرض والانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من هذه الخليقة هو أكثر مما
ورد في أحكام الصلاة والصيام أو أي عبادة أخرى. ومن هؤلاء الجاهلين من يزعم
أن العلم الذي كثر الترغيب فيه في هذا الكتاب العزيز إنما هو علم الأحكام الفقهية ،
ولكن حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى قال: إن أفضل العلوم العلم بالله تعالى
وبسننه في خلقه ، وإنما كمال العلم بالله تعالى تابع لكمال العلم بأسرار صنعه وإبداع
خلقته وتدخل في هذا جميع العلوم الطبيعية ، واتلُ عليهم إن شئت قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:
27-
28) فذِكر العلماء بهذه المنقبة الجليلة بعد الاستلفات إلى إنزال المطر وإخراج
الثمرات به وإلى اختلاف ألوان الجماد والحيوان والإنسان - يدل على أن
المراد بالعلم الذي يورث الخشية هو العلم بهذه المخلوقات من جماد
ونبات وحيوان التي لها في هذا العصر أسماء كثيرة منها: التاريخ الطبيعي
والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والنبات وغير ذلك.
فإن قيل: إننا نرى المشتغلين بهذه العلوم لهذا العهد لا توجد عندهم خشية الله
تعالى، بل يقال: إن منهم من ينكر وجوده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون
علوًّا كبيرا. فالجواب أن المشتغلين بالعلم الذين يسمونه فقهًا ربما كانوا أبعد من
هؤلاء عن الخشية، فإن هؤلاء المتفقهة اتخذوا الدين حيلة للكسب وأحبولة لصيد
الحطام يحتالون على الله ، ويعلمون الناس الحيل لأكل الحقوق ، وقد فشا فيهم
الكذب والخيانة والطمع وغيرها من الصفات الخسيسة التي يتنزه عنها في الغالب
العالمون بعلوم الخليقة ، ولا يصح أن نضيف هذا الفساد لعلم الفقه كما لا يصح أن
نضيف ما عليه بعض علماء الكون من زيغ العقيدة إلى أنه من لوازم العلوم الكونية
لأنه لا دليل على وجود البارئ وكماله إلا هذه الأكوان البديعة التي خلقها في أحسن
نظام ، ولكن الفساد في الأخلاق والأعمال والزيغ في العقائد يرجعان إلى فساد
التربية التي يؤخذ بها الإنسان من نشأته الأولى. وقد صرّح الفيلسوف سبنسر بأن
العالم بأسرار الخليقة يجب أن يكون أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم تعظيمًا له، قال:
وهذا هو الدين الصحيح المرضي عنده تعالى ، وهذا القول صحيح لكن الذي قاله
هو أساس الدين لا كل الدين.
وإن تعجب فعجب قولهم: إن من يتعلم العلوم الطبيعية يفسد اعتقاده، قياسًا
على بعض فاسدي العقيدة من علمائها ، وهو قياس مع الفارق ولا يخاف على دينه
إلا من لم يكن في عقائده على يقين فإن الموقن لا يخطر على باله أن يزول اعتقاده
لأنه جازم بأنه الحق المطابق للواقع ، والواقع لا يزول. والإيمان بغير يقين لا
يقبل من أحد فقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا} (يونس: 36)
وقال تعالى حاكيًا عن الذين لا إيمان لهم: {إِن نَّظُنُّ إِلَاّ ظَنا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (الجاثية: 32) إن أكثر مسائل العلوم الطبيعية العصرية مبنية على المشاهدة
والاختبار فهي ثابتة يقينًا ، واليقين لا يناقض بعضه بعضًا فيخاف على العقيدة من
شبه فيها وأما المسائل النظرية التي تخالف بعض قضايا الدين فهي غير مقطوع بها
عند أهل العصر ويسهل علينا أن لا نُعلِّم الأحداث هذه المسائل إلا بعد معرفة
البراهين الصحيحة على عقائدهم فتكون العقيدة أقوى منها. ولو كانت هذه العلوم
في عصر العلماء المتقدمين الذين ذموا الفلسفة كما هي في هذا العصر ولها من
الفوائد مثلما لها الآن؛ لكان كلامهم فيها غير الذي كان. ولقد خضنا في هذا
الموضوع مرارًا فلا حاجة للإطالة فيه بعد ذلك.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدرسة جمعية شمس الإسلام في الفيوم
أنشأت جمعية شمس الإسلام عدة مدارس ولم يحتفل بشيء منها احتفالاً
عموميًّا إلا مدرسة فرع الفيوم. نبت هذا الفرع من عهد قريب كما يعلم قراء المنار
ولكنه نما نموًّا حسنًا وأثمر ثمرًا قريبًا بهمة أعضاء مجلس إدارته الأخيار واجتهاد
سائر أفراده الأبرار. وقد كانوا من مدة عقدوا اجتماعًا حضره صاحب السعادة مدير
الفيوم الهمام وكثير من الأعيان وجمعوا بالاكتتاب مبلغًا لشراء أدوات المدرسة وتلا
ذلك التأسيس. وفي يوم الجمعة الماضي كان الاحتفال بافتتاح المدرسة فزين بناؤها
بالرايات والأعلام وما جاءت الساعة التاسعة صباحًا حتى غص المكان بالمدعوين
من أهل العلم والوجاهة ومأموري الحكومة وبعض رؤساء وأعضاء فروع الجمعية
في سائر البلاد ، وابتدئ الاحتفال بتلاوة آي القرآن الكريم وفاقًا لسنة الجمعية في
كل أعمالها ، ثم لحن التلامذة أنشودة مناسبة للمقام مسك ختامها الدعاء لمولانا أمير
المؤمنين السلطان الأعظم عبد الحميد خان ومولانا العباس عزيز مصر المعظم. ثم
تقدم أحدهم إلى بهرة الحلقة فحيا الحاضرين بتحية الإسلام فقالوا جميعا: وعليكم
السلام. وأنشد أبياتًا في الحث على التربية والتعليم وإعانة المدرسة وتلاه ثانٍ
وثالث فعلا مثل فعله فصفق لهم القوم تصفيق الاستحسان ، وأقبل بعدهم تلميذان
فحيا وسلما ثم تحاورا محاورة لطيفة موضوعها تفضيل التعليم والكون في المدرسة
على البطالة واللعب فأحسنا الأداء وصفق لهما الحاضرون.
ثم قام العاجز كاتب هذه السطور فألقى خطابًا مطولاً في وجه الحاجة إلى
التربية والتعليم لسعادة الدنيا والآخرة ، وأننا لا نظفر بفائدتهما إلا إذا كانا على
الطريقة الدينية التي هي أقرب الطرق للغاية المقصودة. ثم رغب سعادة رئيس
الجمعية على حضرة العالم الفاضل والخطيب المفوَّه أحمد لطفي أفندي السيد وكيل
النيابة في محكمة الفيوم في أن يقول شيئًا فأجاب الدعوة وحقق الرغيبة وألقي خطابًا
وجيزًا أنبأ عن أفكار عالية وآراء سامية وتدقيق في فلسفة الأخلاق والآداب ،
والقطب الذي كان يدور عليه الكلام أن العلم يجب أن يطلب لتكميل النفس لا
لتحصيل الرزق وابتغاء عرض الدنيا لأن طلب العلم لهذا الغرض الخسيس إهانة له ،
ومن الفوائد التي اشتمل عليها خطابه قوله نقلاً عن أحد فلاسفة الإنكليز: إن حب
الذات هو علة لجميع الفضائل ، وقد شرح هذا الكلام شرحًا وجيزًا ومثل له بالحب
وبين أن الإنسان لا يمكن أن يحب أحدًا إلا إذا كان في ذلك الحب فائدة لنفسه ، وأن
قول بعض الناس: إنني أحب فلانًا لوجه الله، غير صحيح لأنهم يقصدون به أنني
أحبه لغير سبب ولا فائدة تعود على نفسي ، وبعد ما أتم كلامه انبرى هذا الفقير
فأثنى عليه بما هو أهله ، ثم أوضحت من كلامه ما تراءى لي أنه يعلو على بعض
الأفهام فقلت ما ملخصه:
المشهور عند علماء الأخلاق أن حب الذات علة العلل لجميع الرذائل ، وقد
سكتوا على هذا القول إلا المحققين فإنهم قالوا: إنه علة العلل لجميع الفضائل أيضًا
يكون علة للفضائل إذا كان واقفًا عند حد الاعتدال ومتى خرج عنه إلى إفراط أو
تفريط تولّدت منه الرذائل. ومن المعروف عن الحكماء من عهد اليونان إلى اليوم
أن الإنسان لم يحب إلا نفسه وما كان له اتصال بها أو لها فائدة منه؛ فالوالد يجب
ولده لأنه بضعة منه ويتوهم أن في بقاءه بقاء له في الجملة ، والولد يحب والده لأنه
هو منه ولولاه لما وجد ولأنه تعاهده بالتربية والتغذية حتى نما وشب ، ويحب
الإنسان صديقه لأنه يأنس به ويطمئن إليه ويستعين به على مهماته ، ويحب أستاذه
لأنه يهذبه ويكمله ، ويحب وطنه لأنه ينسب إليه فيشرف بشرفه ويهان بإهانته إلخ
وكل حب يكون سببه شرعيًّا وعلته مرضية لله تعالى يطلق عليه عند الصوفية
الحب في الله أو الحب لوجه الله أي للوجه الذي شرعه ويرتضيه لا أن معناه أنه
حب لغير علة ولا فائدة كما يتوهم بعض العامة ، وربما أقسم أحدهم الأيمان المغلظة
بأنه يحب فلانًا لوجه الله لا لعلة مطلقًا. وكل من يفهم معنى الإنسان يمكنه أن
يستفتي نفسه في هذا الحب وهي تفتيه بأنه لا وجود له وأن مدعيه كاذب وهذا هو
الذي عناه بالنفي الخطيب الفاضل.
ثم خطب بعض أفراد الجمعية فحث الناس على مساعدة الجمعية وتعضيدها
في عملها ، وتلاه تلامذة المدرسة بإعادة الترنم والأنشودة اللطيفة.
ثم وقف هذا الفقير منشئ المنار ثالثة ، وتضرع إلى الله عز وجل بأن يؤيد
بالنصر والتوفيق مولانا الخليفة والسلطان الأعظم أمير المؤمنين عبد الحميد الثاني ،
وأن يؤيد عزيز مصر عباس باشا حلمي الثاني ويوفقه لما فيه سعادة هذه البلاد.
وأن يمطر سحائب الرحمة على مؤسسي هذه الجمعية النافعة ، ويأخذ بأيدي القائمين
بشئونها. وختم الاحتفال كما بدئ بتلاوة القرآن العزيز ، ثم وقف سعادة الرئيس
العام فأثنى على فرع الفيوم وشكر لهم هذه الهمة والغيرة الملية ولمن حضر
الاحتفال عنايتهم بحضوره وانفض الجمع.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حِكم الفلاسفة ونوادرهم
(ا)
قال أفلاطون: لا تصحبوا الأشرار فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم. وقال:
لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال: إذا أقبلت
الدولة خدمت الشهواتُ العقولَ ، وإذا أدبرت خدمت العقولُ الشهواتِ. وقال: لا
يضبط الكثير من لم يضبط نفسه الواحدة. وقال: موت الصالح راحة لنفسه وموت
الطالح راحة للناس. وقال: إذا قويت نفس الإنسان انقطع إلى الرأي وإذا ضعفت
انقطع للبخت. وقال: إذا أردت أن تعرف طبقتك من الناس فانظر إلى من تحبه
لغير علة. يريد أن الإنسان لا يحب هذا الحب إلا من يشاكله مشاكلة روحية
وظاهر أنه يريد بالعلة المنفعة الخارجية ، وإلا فالمشاكلة علة لا تنكر. وسئل بماذا
ينتقم الإنسان من عدوه؟ فقال: بأن يتزيد فضلاً في نفسه. وقال: الأشرار
يتقربون إلى الملوك بمساوي الناس والأخيار يتقربون إليهم بمحاسنهم. وقال: لا
تقبلنَّ في الاستخدام إلا شفاعة الأمانة والكفاءة. ويقال: إن أفلاطون رأى فتى ورث
مالاً كثيرًا وضياعًا فأتلفها فقال: رأيت الأرضين تبلع الناس وهذا الإنسان بلع
الأرضين. أقول: إن أكثر أولاد الأغنياء في مصر كهذا الفتى ، ولقد جاء فتى منهم
إلي أحد الوجهاء يطلب شفاعته في وظيفة ولو حقيرة وقال: أرجو أن تجعلني خادمًا
في البيت إلى أن تتيسر الوظيفة وما ذلك إلا لأجل القوت الضروري. وهذا الفتى
مات والده وترك له خمسة آلاف فدان فابتلعها كما قال أفلاطون، بل ابتلعتها حانات
الخمور ومواخير الفجور وبيوت القمار وصحبة الأشرار. ومن البلاء أن كلامنا
هذا لا يقرأه إلا الأفاضل ، وأما أولئك الفتيان السفهاء فأوقاتهم مصروفة في تخريب
بيوتهم وتضييع أوطانهم.
وقال أفلاطون: لا ينبغي للأديب أن يخاطب من لا أدب له كما لا ينبغي
للصاحي أن ينازع السكران. وقيل له: كيف يغم الإنسان عدوه؟ فقال: بأن يصلح
نفسه. أقول: وإن شأن الأمم في هذا كشأن الأفراد سواء بسواء فلا تنكي الأمة
عدوها إلا بإصلاح شئونها. وقال: إذا صادقت رجلاً وجب عليك أن تكون
صديق صديقه ، ولا يجب عليك أن تكون عدوَّ عدوه لأن هذا إنما يجب على خادمه
ولا يجب على مماثل له. وقال: الحر من وفى بما يجب عليه ، وتسمّح بكثير مما
يجب له ، وصبر من عشيره على ما لا يصبر منه على مثله وكانت حرمة القصد
عنده توازي حرمة النسب وذمام المودة له يجوز ذمام الإفضال عليه. وقال: ينبغي
لمن طال لسانه وحسن بيانه أن لا يحدث بغرائب ما سمع فإن الحسد لحسن ما
يظهر منه يحملهم على تكذيبه ، وأن يترك الخوض في الشريعة وإلا حملتهم
المنافسة على تكفيره. أقول: إن شواهد هذه الحكمة واقعة في كل زمان وجد فيه
صاحب علم وبيان. وقال: أضرُّ الأشياء عليك أن يعلم رئيسك أنك أحسن حالاً منه
أقول: وهذا أصل بلاء العظماء الذين مكانهم في الاجتماع دون مكانتهم في العلم
والفضل. وقال: إذا حاكمت رجلاً فليكن فكرك في حجته عليك أقوى من فكرك في
حجتك عليه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القديم في الحديث والأول في الآخر
ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي كله
ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام ، وحتى صرنا نعد وجود مثل
سعادة محمود سامي باشا من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة، كأن السليقة العربية
رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها ، والظاهر
أن بلاد العراق لا تزال أقرب إلى السليقة العربية من أهل هذه البلاد وأن النابغين
فيها أكثر منهم في غيرها. ولقد وافى هذه البلاد من أشْهُرٍ رجل فاضل جدير بلقب
(الأديب) وقل الجدير به في هذا العصر ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن
الكاظمي (نسبة لكاظم بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح
والأخلاق الحسنة من الشاعر المفلق العذب المنطق الذي ناهز المقدمين ، وخاطر
المقرمين. ومن السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس حتى إنك لا تشعر
في أول عهدك به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة. قال
صاحب السعادة إسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب في مصر:
إنني عندما لقيته أول مرة ظننت أنه لا تطيب معاشرته فلما خبرته علمت أنه لا
تطيب مفارقته. وما أجدره بقول شاعرنا أحمد بن مفلح المشهور بابن منير
الطرابلسي:
إِباء فارس في لين الشآم مع
…
الظرف العراقي واللفظ الحجازي
…
أما شعره فعلى الطريقة العراقية العذبة القديمة: طريقة الشريف ومهيار ،
وأما إنشاده فهو يناسب شعره في التأثير الذي هو المقصود ، الأهم من بلاغة القول
ولقد طلبنا منه شيئًا من شعره فوعدنا بذلك ، ونشرت جريدة المؤيد الغراء
منذ يومين قصديته العينية التي نظمها في مصر فرأينا أن نتحف قراء المنار
بنشرها تباعًا ، وهى:
إلى كم تجيل الطرف والدار بلقع
…
أما شغلت عينيك بالجزع أدمع
أأنت معيري عبرة كلما ونت
…
يحفزِها برح الغرام فتسرع
وهل عريت أرض كسوتُ أديمَها
…
بماء شئوني فهي زهراء ممرع
فمن حرّ أنفاسي وفيض محاجري
…
مصيف تراءى في ثراها ومربع
ألم تر جرعاء الحمى كيف روضت [1]
…
وسال بمحمرّ الشقائق أجرع
فهاتيك من دمعي وهذاك من دمي
…
فللعين ذا مبكى وللقلب مجزع
جرى ماء جفني عن سويداء مهجتي
…
فمن أجل ذا وشيُ الرياض مجزّع [2]
أفي كل دار أنت ماتح عبرة
…
إذا غاض منها مدمع فاض مدمع
كأنك فيها ناظر رسم منزل
…
حمته عن النظارة نكباء زعزع
تذكرت شعبًا في رباها ولعلعًا
…
فهاج لكل البرحاء شعب ولعلع
كأن على عينيك عارض مزنة
…
تصوب عزاليها ولا تتقشع
كأن بها خرقاء أوهت مزادها
…
وليس لوهى سال واديه مرقع
تتبع تجد ما يغمر القلب سلوة
…
وهل عدم السلوان من يتتبع
وهيهات تسلى الدار وهي فجيعة
…
ويسلو أسير الدار وهو مفجع
وأفدح خطب شفني بصروفه
…
وجرعني ما لم أكن أتجرع
وقوفي على تلك الديار وقد عفت
…
معالم كانت زاهيات وأربع
معالم أعفاها البلى فتوزعت
…
وما هي إلا أكبد تتوزع
وقفت عليها آخر الليل وقفة
…
أودع من أطلالها ما أودع
ولا مسعد إلا الدموع وكيف بي
…
إذا جف ما عندي من الدمع أجمع
أيا بانة الوعساء من أعلم الذوى
…
بفرعك حتى اجتُث من حيث يفرع
ويا غفلات الجزع هل بعد عالج
…
معاد لأيام الغميم ومرجع
فكم ليلة بتنا نَشَاوى ولا طلا
…
وصرعى وما غير الأحاديث تصرع
يطير بنا الشوق ارتياحًا وكلنا
…
رذايا [3] هوى في ندوة الحي وقع
فمن مغرم يصبو لنجواه مغرم
…
ومن مولع يرثي لشكواه مولع
ويا حبذا بالجزع فرع أراكة
…
تميل وفي أفنانها الوُرق تسجع
ورب حمامات مع الصبح أقبلت
…
تردد في ألحانها وترجع
تهيج تباريح الغرام ولم تُبل [4]
…
تذوب قلوب أو تقصف أضلع
نصبت لها أذني وقلت إصاخة
…
عسى نبأ من ذي هوى يتسمع
فأعرضن عن ذي لوعة وروين لي
…
أحاديث مجراها الجوى والتولع
فقلت: فظيع من نوى الدار حل بي
…
فقالت: وما بالدار بعدك أفظع
أحن إلى النائي حنين موله
…
وهل يُرجع النائيَ الحنينُ المرجع
وعندي وما عندي هل هي غُلَّة
…
إذا عللوها بالتذكر تنقع
ولم أنس يوم الجزع والساعة التي
…
وقفنا بها نبكي الديار ونجزع
وقفنا عليها برهة ويد الأسى
…
تقطع من أحشائنا ما تقطع
ونادى المنادي حين أزمعت للسرى
…
إلى أين يا حامي الحقيقة مُزمِع
فوسع من قلبي الأسى كل ضيق
…
وضاق بعيني الفضاءُ الموسع
فلله ما فََتَّ الوداعُ من الحشا
…
ولله ما قاسى الخليط المودع
سرينا نجوب البيد في غلس الدجا
…
وصارت مطايانا تخب وتوضع
تعوج بنا شرقًا وغربًا كأنها
…
تقيس بمسراها القفار وتذرع
كأنا وقد مالت بنا سنة الكرى
…
سجود على أكوارهن وركع
نقطع من أعراض كل تنوفة [5]
…
سماوية الأعلام ما ليس يقطع
ونعتام [6] تيار الدجى بعزائم
…
تلوح بآفاق البلاد وتلمع
ويا مألف الآرام رد وديعتي
…
فإن فؤادي عند سربك مودع
أقول وقد شَبَّت بقلبي جذوة
…
تعلمني جمر الغضا كيف يلذع
أحباي هل من عطفة في رباعنا
…
يطيب بها المصطاف والمتربع
وهل تنثني الأيام ثانية لنا
…
ويجمعنا بعد التفرق مجمع
تهب صبا حتى تكاد من الصبا
…
نزعًا إلى واديكم الروح تنزع
كأنكمو مني بمرأى ومسمع
…
على حين لا مرأى هناك ومسمع
_________
(1)
روضت: يقال: روض إذ لزم الرياض.
(2)
المجزع: ما فيه سواد وبياض وأصله إرطاب البسر إلى نصفه، ومراده هنا مطلق اختلاف
الألوان.
(3)
الرذايا: جمع رذي كعلي، وهو مَن أَثقَلَه المرض، والضعيف من كل شيء.
(4)
لم تبل: بمعنى لم تبال.
(5)
التنوفة: الصحراء.
(6)
نعتام: معناه - فيما أعرف - نختار، أي نأخذ العيمة وهي بالكسر خيار الشيء، وليس بظاهر هنا ولعل له معنى آخر كالعوم وليس معي الآن قاموس.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهدايا والتقاريظ
(المحاماة)
سِفر جليل ظهر في هذه الأيام من تأليف القاضي الفاضل والكاتب البارع
صاحب العزة أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر الأهلية. والذي أدهش
الناس من أمر مؤلفه أنه على كثرة أعماله في المحكمة يتحف قراء العربية في كل
عام بكتاب من أنفع الكتب إما من تأليفه وإما من ترجمته ، وقد قلنا هذه الكلمة من
قبل كما قالها غيرنا وإنما نعيدها الآن لنقرن بها ما يلي:
ذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى أن من أنواع الكرامات كثرة
التآليف في الزمن القليل ، وضرب المثل على هذا بكثيرين منهم والده قاضي القضاة
تقي الدين السبكي (رحمهما الله تعالى) فإنه ألف كتبًا كثيرة مع اشتغاله بالقضاء
والتدريس بحيث لا يكون له من أوقات الفراغ ما يفي بنسخها. ولكننا نقول: إنها
همة الرجال تجعل الوقت كالمادة المرنة القابلة للتمدد أضعاف مساحتها ، على أن
أكثر تآليف العلماء في تلك القرون المتوسطة كانت من قبيل النسخ لأن كل واحد
ينقل عمن قبله فيختصر أو يطيل ويضيف إلى القول أقوالاً ولو من غير الفن الذي
يؤلف فيه ، وليس بين أيدينا من الكتب العربية التي يصح أن يقال: إن ما فيها نابع
من صدور مؤلفيها وفائض من سماء عقولهم، إلا العدد القليل كإحياء العلوم
وكالموافقات والاعتصام للعلامة الشاطبي ومقدمة ابن خلدون وغيرها ، والأكثر ما
بين منسوخ وممسوخ. وهذا النسخ والمسخ لا يحتاج إلى زمن طويل. وقد كان
العلماء المشتغلون بالعلوم النقدية يستعينون بتلامذتهم وبالكتاب المستأجَرين على
التأليف فيدلونهم على ما يرون نقله وهم ينقلونه لهم ، وإنني أعرف رجلاً من
المعاصرين ينسب له من المؤلفات ما يزيد على ثلاثين كتابًا ورسالة كتبت في مدة لا
تزيد على العشرين سنة إلا قليلاً مع أن له بغيرها شغلاً كثيرًا ، ولكن هذه الكتب
الكثيرة ليست له فيها إلا الدلالة على الكتب والإيماء إلى المقاصد المطلوبة له وليس
فيها شيء من العلم الحقيقي يصح أن ينسب للمؤلف فيعد من بنات فكره أو من
استنباطه.
أما مثل كتاب المحاماة فهو كتاب لم يسبق المؤلف أحد للكتابة في موضوعه
فهو مبتكر، وأما استمداده فليس من كتب موجودة بين الأيدي قد سبق أنه طالعها
فسهل عليه أن يراجعها ، ولكنه استمد من أوراق الحكومة ودفاترها الرسمية فاحتاج
إلى زمن طويل في التنقيب والتفتيش يعزّ على من ليس له مثل همته أن يختلسه من
أيدي الشواغل الكثيرة المنوطة به ، وليس شأن القضاء في هذا العصر كشأنه في
الزمن الماضي فإنه لم يكن أمام حكم القاضي في الغالب إلا طلب البينة أو اليمين
عند فقدها ، وأما الآن فرب قضية واحدة لا يتأتى للقاضي أن يحكم فيها إلا بعد
قراءة مئات من الصحائف، فهل يسهُل على الإنسان أن يؤلف كتابًا من هذه الكتب
الملفقة قبل أن يقرأها ويفهمها؟ ناهيك بالأعمال الإدارية المطلوبة من رئيس محكمة
مصر. فنسأل الله مع السائلين أن يكثر من أمثال مؤلف كتاب المحاماة في الأمة إذ لا
يمكن أن تجاري الأمم الحية إلا بأمثال هؤلاء الرجال العاملين. وسنعود إلى تقريظ
الكتاب بعد ما تتسنى لنا مطالعة كله أو جّله.
***
(خريطة الكرة السماوية)
أتحفتنا جريدة المبشر الغراء بنسخة من خريطة الكرة السماوية مطبوعة باللغة
العربية جاءت ملحقة بالجريدة ، وقد سررنا بهذا الأثر النافع بقدر حاجتنا إليه فإننا
لم نظفر بهذه الضالة بالعربية قبل الآن ويا حبذا لو كان طبعها على ورق نظيف
متين ليطول زمن الانتفاع بها بطول مكثها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
السؤال والجواب
عن حل طعام أهل الكتاب
سيدي الأستاذ الفاضل الشيخ رشيد أفندي رضا منشئ المنار الأغر. السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإننا لعلمنا بما أعطاكم الله جل شأنه من بسطة العلم
بما في كتابنا الكريم وسنتنا المحمدية نرجو التفضل بالجواب عن السؤال الآتي وهو:
(هل يجوز لمسلم أن يتناول طعامًا وشرابًا من يد نصراني أو يهودي وهو
مباشرهما؟ وهل يجوز الأكل من ذبح اليهود بعد قوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ} (التوبة: 28) الآية) راجين إدراجه مع السؤال في أول عدد صادر ولكم منا
مزيد الشكر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
أحد مشتركي المنار
(جواب المنار)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ
الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28) لا يدل على عدم حلّ طعام أهل الكتاب
ولا يصح أن يكون ناسخًا لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} (المائدة: 5) والآية نزلت في منع مشركي العرب من الحج ،
ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
بقراءتها في عرفة، والمراد بالنجاسة هنا النجاسة المعنوبة، وهي الشرك وعبادة غير
الله تعالى لا نجاسة الجسد؛ لأن الجسد إذا كان نجس العين لا يطهر بالإيمان
والاستحالة ههنا ممنوعة كما تستحيل الخمر خلاًّ. وإن كان المراد النجاسة العارضة
أي: أنهم لا يتطهرون من النجاسة ولا يغتسلون من الجنابة كما قال بعض
العلماء - فيقتضي أن يزول المنع بزوالها ، ولم يقل أحد من الأئمة المجتهدين بأن
المشرك يمكَّن من الطواف إذا اغتسل وتنظف حتى عند من لم يشترط النية في
غسل الجنابة. ولو صح هذا لم يكن فيه دليل على تحريم طعام المشرك فضلاً عن
الكتابي ، وأما النزاهة والاحتياط فهما يتبعان حال الأشخاص فرب مشرك أشد عناية
بالنظافة من مسلم ، وإن نفس من تربى على النظافة لتأنف أن تأكل من طعام أكثر
الفلاحين في الأرياف لا سيما بعد اختبارهم ومشاهدة تساهلهم في النجاسة والقذارة.
لم يرِد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة عليهم
الرضوان أن الكفار أعيانهم نجسة فيكون ما يلمسونه مع الرطوبة نجسًا. وما نقل عن
ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك فلا أراه يصح فهو اجتهاد أو فهم نخالفه فيه اتباعًا
للسواد الأعظم من الصحابة والأئمة وعمل الصدر الأول ، وإن أخذ به منا بعض فرق
الشيعة ، وأما حديث مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام فهو إن
صح لا يدل على النجاسة؛ لأن للملائكة شؤونًا خاصة ، ولو كان يجب علينا أن نمتنع
عن كل ما يمتنع عنه جبريل لامتنع علينا أن ندخل بيتًا فيه كلب أو صورة ولا قائل
بهذا.
إن الله تعالى ما شرع لنا الدين ليبعدنا عن الناس ويجعله سببًا للنفور بين
الآخذين به وبين سائر الملل والنحل بل شرعه ليزيل به الخلاف ويستبدل بالنفور
الائتلاف لا سيما أهل الكتاب الذين احترم أديانهم وهداهم إلى أن رفض الابتداع
والتقاليد التي أحدثها التأويل والتحريف والرجوع إلى الأصول الأولى هما اللذان
يسهلان عليهم الاتفاق معنا في الدين واعتباره واحدًا لا ينبغي التفرق فيه. وقد سهل
علينا أسباب التآلف مع أهل الكتاب بحل المؤاكلة والمناكحة فقال تعالى في آخر
سورة أنزلت من القرآن وهي التي صرح فيها بإكمال الدين: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (المائدة: 5) الآية. فمن فطن لهذا يعرف أنه هو الموافق لغرض الدين وحكمته ،
ومن جمد على التقليد الأعمى فلا علاج له ، وفي المقام كلام كثير ، وفيما ذكرناه
مقنع لمن يريد الحق، والله أعلم وأحكم.
***
(شمس مكارم الأخلاق)
جمعية في الزقازيق من أحسن الجمعيات الإسلامية التي تألفت في القطر
المصري في هذا العهد فإنها بهمة مؤسسيها الأفاضل قد قامت بأعمال نافعة قبل أن
يأتي على تأسيسها شهران. رتبت مدرسين في ثلاثة مساجد يعلمون الناس الأخلاق
والآداب الدينية وجعلت لهم أجورًا شهرية. وأنشأت ناديًا علميًّا لمطالعة الكتب
ورتبت معاشًا لأسرة فقيرة توفي عائلها عن صِبية صغار ونساء ضعاف ، وأنشأت
مدرسة لتعليم خمسين تلميذًا من أولاد الفقراء مجانًا، استأجرت لها محلاًّ فسيحًا بأربعة
وعشرين جنيهًا في السنة. وكانت عينت شيخًا للوعظ في ليالي الاجتماع الأسبوعية
فتبين لها أنه لا يحسن الوعظ ولا يصلح له ففصلته ، وطلبت من صاحبي الفضيلة
مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر انتخاب واعظ لها يكون كفؤًا لهذا العمل
بعلمه وأدبه. ولها أعمال من دون ذلك تعملها كتجهيز الموتى من الفقراء وغير ذلك.
ومن أعضائها العاملين صاحبا مجلة نور الإسلام النافعة التي تدل قيمتها الزهيدة
أنها ما أنشئت إلا لتعميم الفائدة ، ويصح أن نقرن هذه الحسنة بحسنات الجمعية وإن
كانا صاحباها الكريمان ينفقان عليها من مالهما الخاص لأنهما لم يوفقا لهذا العمل
الشريف إلا بعد الدخول في الجمعية. ويقال: إنه لا يشتكي شيء من هذه الجمعية إلا
وجود بعض أفراد فيها ليسوا من أهلها فعسى أن يوفق مجلس إدارتها لقطع
الأعضاء الفاسدة قبل انتشار العدوى منهم إلى غيرهم والله الموفق.
***
(دودة القطن)
استُلفتنا إلى مقالة مهمة في دودة القطن وكيفية تلافي ضررها نشرت في
جريدة الإخلاص الغراء وقد أردنا أن نراجعها لننبه على ما فيها فألفينا أن العدد التي
هي فيه قد اختزل فرأينا أن لا نترك التنبيه عليها بالإجمال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
هانوتو والإصلاح الإسلامي
ألم المسلمين من مقالات هانوتو ، عظمة أمر فريضة الحج، رأيُ كيمون في
نسف الكعبة ونقل القبر المعظم عليه كثيرون من الأوربيين ، حاجتنا إلى معرفة
رأي الأوروبيين فينا، وفاء كتاب الإسلام الذي عربه فتحي بك زغلول بهذا
الغرض ، أوربا والإسلام، خطأ الأوربيين في اتهامهم إيانا بالسعي في أن يكون لنا
حاكم واحد، قولهم: إن الدين الإسلامي يحول دون تقدم المسلمين، مناقشة هانوتو
في رده على كيمون، الفصل بين السلطتين السياسية والدينية، سيرة فرنسا في
الجزائر وتونس ، النسبة بين الصلاة والحج، المساواة في الإسلام، حقيقة أثر
الإسلام في التقدم والتأخر، الرأي في إزالة سوء التفاهم بين أوربا والمسلمين.
نشرت مقالات هانوتو في (الإسلام) فما بلغت البلاد الإسلامية إلا وقامت لها
وقعدت ، وأشد ما أمضَّها منها وجرح وجدانها هو ما نقله عن (كيمون) من
التحريض على نسف الكعبة المكرمة ونقل القبر المعظم إلى متحف اللوفر ، ومن
وصف الإسلام بالأوصاف القبيحة الشائنة ، وما صرح هو به من رغبة أوربا في
الحيلولة بين المسلمين وبين أداء فريضة الحج التي هي من أركان الدين الإسلامي لا
من أعماله المندوبة أو المستحبة ولا من الواجبات المخيَّر بها المكلف. ولو أن ما
جاء في تلك المقالات هو رأي كيمون وحده أو رأيه ورأي هانوتو معًا، لما كان لنا أن
نلقي إليه بالاً أو نعده بلاء ووبالاً ولكنه رأي الكثيرين من الكتاب والسياسين. ومن
البلاء الأكبر أننا نجهل هذا وهو من أسوأ أنواع الجهل وأقبحها وأشدها ضررًا
ووخامة عاقبة لأن بغض الأمم الأوربية واحتقارهم لنا ما جاء إلا من الكتاب
والسياسيين القابضين على أزِمَّة النفوس والمتصرفين في الوجدانات والعقول. وقد
ذقنا مرارة هذا البغض والاحتقار ، وربما كان ما سنلاقيه من الألاقي (الدواهي)
أشد مما لاقيناه في الماضي.
علم عقلاؤنا شدة حاجتنا إلى الوقوف على اعتقاد الأوربيين فينا فقام صاحب
الهمة العلية والغيرة الملية أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر بترجمة كتاب
من الكتب التي ألفوها في الإسلام [1] ليكون عبرةً لنا وباعثًا لعلمائنا وكتابنا على
الدفاع عن حقيقتنا ببيان حقيقة الإسلام لهم ليزول سوء التفاهم ، وبإصلاح شئوننا
حتى لا يكون لهم حجة علينا، فلم يكن من بعض أصحاب الأنظار القصيرة والآراء
الأفينة إلا أن نَفَرُوا ونَفَّرُوا من قراءة الكتاب المذكور زعمًا منهم أن تعظيم الدين
ومن جاء به إنما يكون بجهل ما يقوله خصماؤه فيه وما يريدونه من السوء به ،
ومن هؤلاء الاغرار من خطأ المؤيد بنشر ترجمة مقالات هانوتو الأخيرة.
دع هؤلاء الغافلين في جهلهم الذي سموه تعظيمًا وهلم بنا للبحث في هذا
الموضوع الذي هو أهم مصالح الإسلام والمسلمين - موضوع العلاقة بين أوربا
والإسلام وما يريده القوم منا وما نريده منهم وما نريده من أنفسنا تجاههم. تتهم
أوربا كتاب المسلمين بأنهم قاموا في هذه السنوات الأخيرة يطالبون إخوانهم في
جميع أقطار الأرض بالاتحاد والاجتماع تحت راية واحدة والسعي في أن يكون
حاكمهم كلهم واحدًا منهم فحزبها هذا الأمر وأهمها لأن غايته نزع المستعمرات
الإسلامية من مخالب الدول المسيحية ، وقد كتبنا في الجزء الحادي عشر من هذه
السنة مقالة عنوانها (أوربا والإصلاح والإسلامي) بينا فيها أن كتاب المسلمين لا
يطالبونهم في هذه الأيام إلا بمجاراة الأمم الحية في العلوم والأعمال وما خطر على
بال أحد منهم أن يحضهم على السعي في أن يكون لهم حاكم واحد ، وكل يعتقد أنه
لا سبيل إلى ذلك. والآن نعيد القول بمناسبة ما جرى بين موسيو هانوتو وسعادة
بشارة باشا تقلا ونشر في جريدة الأهرام منذ أيام ، وأهم ما في تلك المذاكرة أمور:
(أحدها) قول هانوتو للباشا: (أنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسويين ،
ولم أستشهد بكيمون وهو يوناني الجنس إلا لأفنّد أقواله التي لم ينفرد بها ، فإن
كثيرين من الكتاب الألمانيين والفرنسويين والإنكليز وغيرهم حذوا حذوه وقالوا
قوله ، وخلاصة كتاباتهم أن تقدم المسلمين مستحيل ونجاحهم بعيد لأن الإسلام
معتقدهم يحول دون ذلك ، وحجة هؤلاء واحدة وهي أنه كلما تقدمت أوربا تأخر
الشرق لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي ، وأن كل حكومة انفصلت عن
الشرق سارت على منهاج أوروبا علمًا ومدنية فنجحت مع أن العثمانية وأفغانستان
ومراكش والعجم لا تزال على ما كانت عليه في السنين الغابرة ، وأنا ذكرت من
هؤلاء الكتاب كيمون وحده ليعرف المسلمون ما يقال عنهم ، ولأفند مزاعم هذا
الرجل وغيره من الكتاب الذين على رأيه لاعتقادي أن الإسلام لا يحول دون
الإصلاح والمدنية ، واستشهدت على صحة معتقدي هذا بتونس فذكرتها مثالاً أؤيد
به أقوالي وسياستي ، هذه هي روح كتابتي السابقة ، وإنها ستكون روح اللاحقة) ثم
ذكر أن مغزى كتابة هؤلاء لا تخرج عن إعادة الكَرَّات الصليبية. ونحن نقول: إنه
لا يفند رأي كيمون إلا من هذه الجهة - جهة التحريض على الحرب الصليبية - لما
في ذلك من الخطر على العالم كله فإن مناوأة ثلاثمائة مليون مسلم (أو مجنون كما
يقول كيمون) يتمنون الموت في سبيل الدين، ليس بالأمر الهين والسهل ، ولكن
فلسفته في عقائد الدين الإسلامي كان من معناها أن المسلمين أو الساميين عامةً لا
يمكن أن يجاروا المسيحيين أو الآريين؛ لأن طبيعة عقائدهم لا سيما القضاء والقدر
تحول دون ذلك ، وذكر أن تمسك المسلمين بدينهم المقتضي للتأخر يسهل على أوربا
أن تحل رابطته وتفصم عروته ، واستشهد على هذا بأن فرنسا تمكنت من فصل
تونس عن مكة وذلك بمنع أهلها من أداء فريضة الحج الشريف.
(ثانيها) مسألة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسة وهي أهم
المسائل التي تطلبها أوربا من المسلمين ، والجرائد التي تدعو الشرقيين أو المسلمين
إلى مدنية أوربا تجتهد في في إقامة الحجج على أن النجاح موقوف على هذا الفصل ،
وربما كان فيهم من يعتقد ذلك حقيقة ، وقد كتبنا في هذا غير مرة ومن ذلك مقالة
عنوانها (الدين والدولة والخلافة والسلطنة) بلغنا أن قناصل الدول في القاهرة
ترجموها وأرسلوها إلى أوربا ، وليس من غرضنا الآن إلا مناقشة موسيو هانوتو
للوقوف على حقيقة مراده ، قال في حديثه مع تقلا باشا بعد كلام في المسألة:
(وهذا ما نريد تأييده نحن الفرنسويين في مستعمراتنا بأن يكون الأمر المطلق
للسلطة الحاكمة مع احترام عقائد الشعوب الذين تحت حكمنا وسلطتنا ، وهو ماسرنا
عليه في الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسوية) ونحن نقول:
إن المسلمين يكتفون من الفرنسوين وغيرهم من المتسلطين عليهم من الأوروبيين
بأن لا يتعرضوا لشيء من أمور دينهم ، ولكن الفرنسويين منعوا الحج من
القطرين واستولوا على الأوقاف ومنعوا حقوق الحرمين الشريفين منها ، وذكر
العلامة الشيخ محمد بيرم في رحلته (صفوة الاعتبار) أنه لم يبق في مدينة
الجزائر إلا أربعة جوامع ، ولقد عارض الباشا هانوتو مذكرًا له بأن أهل الجزائر
غير راضين عن فرنسا فاعترف بذلك ووعد بالكتابة فيه ، وأكد القول بأن أهل
تونس راضون بإصلاح فرنسا بلادهم لاحترامها جوامعهم وعقائدهم وأحوالهم
الشخصية وهي راضية منهم باحترام سلطتها السياسية وإذا كان هذا القول صحيحًا
فما هو إلا لأنهم يعتقدون أن منع الحج أمر عرضي مؤقت، الغرض منه المحافظة
على الصحة وأنهم يتوقعون في كل عام الإذن لهم بإقامة هذا الركن الإسلامي العظيم ،
فإذا علموا بعد ذلك بأن الغاية منه فصل تونس من مكة فلا يمكن أن يرضى منهم واحد
بذلك ، ولا بد أن تظهر آثار السخط عليهم أجمعين إذ لا فرق عندهم بين أن يمنعوا من
دخول المساجد لأداء الصلاة وبين أن يمنعوا من دخول الحرم الشريف لأداء الحج ،
بل المنع الأخير أشد جناية على الدين لأن الصلاة يصح أن تؤدى في البيوت والطرق
وكل مكان ، وأما الحج فلا يصح إلا في مكة المكرمة. فإذا كان ما يقوله موسيو
هانوتو حقًّا فما على حكومته إلا أن تثبته بإزالة المنع من الحج وبدون هذا لا يمكن أن
يصدق هذه الأقوال أحد من قارئيها على أنهم أقل القليل ، إن الأمة الإسلامية أصبحت
أسوأ اعتقادًا بفرنسا من سائر الدول بسبب منع الحج لأن لأهل الجزائر وتونس شئونًا
خاصة في بلاد الحجاز تستلفت إليهم جميع الشعوب الإسلامية ، وذلك في اجتماعهم
ومدافعة بعضهم عن بعض وكلامهم وعاداتهم ، وقد نقل إلينا أنهم افتقدوا بعد المنع في
عرفات لا سيما في هذه السنة ، وكان حديث الحجاج أن فرنسا منعتهم من أداء فرضهم
غلوًّا في التعصب على الإسلام.
يسهل على هانوتو وغيره أن يقنع بعض من يقرأ كلامه من المسلمين بالأدلة
النظرية على حسن قصد فرنسا بمنع الحج في هذه السنين ، ويتعذر عليه وعلى كل
أحد أن يقنع العالم الإسلامي بذلك ، ولكن يسهل على فرنسا هذا الإقناع بإزالة المانع
كما قلنا.
(ثالثها) قول موسيو هانوتو: إن أوربا لا تسعى إلا لمصلحتها السياسية
وأنها ستتفق على المسائل الشرقية اتفاقها الآن على دولة الصين، وأن مِن جَهْل كُتَّابنا
التحيز للألمانيين لنكاية الإنكليز والانتصار للفرنسويين على الألمانيين (مثلاً)
وهذا القول صحيح وهو موضع العبرة لمن يعتبر والعظة لمن يعقل ، وقد بالغ
هانوتو في تبرئة أوربا من التعصب الديني علي المسلمين وخطَّأ الذين يدَّعون هذا
محتجًّا بحرب القريم وغيرها ، فإذا سلَّم له المسلمون احتجاجه وقالوا: إننا لا ثقة
لنا بأوربا ، ولا يمكن أن نأمن لها ونطمئن بوعودها لأنها طامعة في بلادنا وعاملة
على نزع استقلالنا بعامل المصلحة والسياسة لا بعامل الاعتقاد والدين ، فهل يمكن
لهانوتو أن يزيل هذا العذر بفصاحته بعد ما أثبت أسبابه بصريح قوله؟ ؟
(رابعها) قول تقلا باشا لهانوتو: (المسلمون يعتقدون أن مصلحة أوربا
المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية ولذلك لا يأمنون على أنفسهم من سياسة الدول
المسيحية ، وقد أدى بهم فقدان هذه الثقة إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا ولو
أخلص لهم الخدمة وصدق معهم) قوله هذا مبالغ فيه فإن المسلمين كانوا ولا
يزالون يقلدون المسيحيين المناصب العالية ، ويثقون بمن يصدق ويسير بالأمانة ،
وانظر كيف كان رستم باشا موضع ثقة الأمة الإسلامية وإمامها الأعظم السلطان عبد
الحميد وانظر إلى كثرة الموظفين في الدولة العلية من الأرمن على خيانتهم
وثوراتهم المتعددة ، وانظر إلى الحكومة المصرية كيف كانت تقدم المسيحيين ولو
غرباء على المسلمين المصريين أصحاب البلاد ، ولكن تكرار الخيانة يعلم البليد
الحذر.
(خامسها) قول موسيو هانوتو: إنه كان يجب على المسلمين الذين
عركتهم حوادث السنين أو الذين درسوا في أوربا أن يهتموا بنشر العلوم العصرية
في بلادهم وأن يسعوا في إزالة سوء التفاهم بين الشرق والغرب بأن يتلوا تلو أوربا
في الاجتهاد والإقدام كما فعلت اليابان ، ومن الأسف أن هذا الرجل على سعة
معارفه بأحوال عصره لما يدرِ بأن عقلاء المسلمين وكُتابهم قد جعلوا كل عنايتهم في
هذا الأمر النافع ، وقد صدق في قوله: إن التعليم لا يفيد إذا لم يصحبه التهذيب ،
وفى قوله: إن المتعلمين في أوربا منا ربما كانوا أكثر من الذين تعلموا فيها من
اليابان ، ولكن ظهرت في اليابان نتيجة لم يظهر مثلها عندنا.
(سادسها) ما ختم به قوله من أن النجاح مشروط بخدمة الوطن خدمة
منزهة عن كل غاية شخصية أو مذهبية (قال) : لأن الوطن الواحد قد يجمع أكثر
من عنصر ومعتقد ولكن الاعتقاد وحده لا يجمع إلا عنصرًا واحدًا إلى أن قال: لهذا كانت الرابطة الوطنية أعم وأشد من الرابطة الدينية وهي التي كانت قاعدة
أوربا وبها تقدمت وتمدنت ونجحت ، ونحن نقول: إن هذا القول لا يصدق على
الدين الإسلامي فإن الرابطة الإسلامية لها طرفان: طرف روحي يضم أبناء الدين
ويجعلهم إخوة بعضهم أولياء بعض في الدين ، وطرف مادي اجتماعي يضم مع
المسلمين غيرهم من العناصر ما عدا المحاربين الذين لا عهد لهم، ويجعل الجميع
سواءً في الحقوق لا يفضل المسلم مهما كان عظيمًا على غير المسلم مهما كان حقيرًا ،
وبهذا يمكن أن تعمر البلاد وتسعد العباد ، وقد أوضحنا هذا المبحث في مقالة
نشرت في المجلد الثاني من المنار عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) ونوهنا به في
مقالات أخرى كثيرة.
ولا يمكن لكتاب المسلمين أن يجعل كل واحد منهم إرشاده لأهل بلاده خاصة
لأن تأخرهم لم ينسب إلى بلادهم وإنما هو منسوب إلى دينهم وهو يوافقون كُتَّاب
أوربا على قولهم: إن للدين أقوى الأثر في هذا التأخر ، ولكنهم يخالفونهم في وجهه
فأولئك يزعمون أن طبيعة الدين تقتضي هذا ونحن نوقن أن طبيعته تقتضي التقدم
وأن التأخر ما جاء إلا من الانحراف عن سننه ولبسه كما يلبس الفرو مقلوبًا (كما
قال الإمام علي كرم الله وجهه) وقد بينا هذا من قبل في مقالات كثيرة ولكن صوتنا
لا يصل إلى هانوتو وأمثاله من السياسيين والكتاب الأوربيين ، ولا ينقل لهم
الوسطاء بيننا وبينهم إلا أقوالاً مقتضبة مختزلة يستثيرون بها إحنتهم علينا ، ولو
نقلوا إليهم كتابة من يعتد بكلامهم ويوثق بمعرفتهم للإسلام لقبله المنصفون وزال
سوء التفاهم الذي نتمناه كما تمناه هانوتو وغيره من العقلاء أو أشد تمنيًا ، وربما
كان فيه الخير للفريقين ، فعسى أن نصل إلى هذه الأمنية بالجرائد الشرقية التي
تنشر باللغات الأوربية كالمؤيد الفرنسوي في مصر ومحمدان ومسلم كرونكل في
الهند ، وغيرها من الجرائد المسيحية المنصفة والله يجزي المحسنين.
_________
(1)
هو كتاب عنوانه (الإسلام خواطر وسوانح) من تأليف الكونت هنري دي كاستري وهو من أحسن الأوربيين الذين كتبوا في الإسلام رأيًا وأحسنهم عنه دفاعًا ولكنه يعرفنا جميع خطأ المخطئين وعيب العائبين.
الكاتب: عبد العزيز محمد
من كتاب
أميل القرن التاسع عشر
(باب الولد)
(10)
من أراسم إلى هيلانة في 3 يونية - 185
إن معظم من كتبوا في علم التربية يغالون بأصول علم الأخلاق ويرفعون من
شأنها ، وأنا مثلهم أعتقد أن المواعظ الحسنة وقواعد التهذيب المفيدة قد تبعث العزائم
في بعض الأحوال على القيام بصالح الأعمال ولكني لا أعتقد أن ما يلقفه الناشئون
منها من أفواه معلميهم في دروسهم يغير طباعهم تغييرًا حقيقيًّا ، وهيهات أن أعول
عليها في ذلك فإننا نرى كل يوم في المجتمع الإنساني أناسًا من الظرفاء الأكياس
جُفاةً غُلف القلوب على أنهم لم يحرموا من النصائح العامة الداعية إلى التحابِّ
والتراحم المرغبة في لذة الاتصاف بهما ، فما من فاسق أو شرير أو بخيل إلا وقد
سمع ألف مرة من ألسنة الوعاظ قولهم: (كن حكيمًا مهذبًا تكن عزيزًا مغتبطًا)[1]
(لا تفعل بغيرك ما لا ترضى أن يفعله بك)[2] (لا تجعل لحطام الدنيا حظًّا من
قلبك) [3] إلى غير ذلك من النصائح والحكم.
الإنجيل كله مواعظ رائقة وأمثال شائقة فليت شعري من ذا الذي يراعيها.
هل تجدين كثيرًا من الأغنياء أنفقوا جميع أموالهم على الفقراء بعد سماعهم آية (إن
دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني في ملكوت السموات؟) [4] هل
تلاقين ولو في القسيسين أنفسهم عددًا كبيرًا ممن يفضلون عبادة الله (سبحانه) على
عبادة الدنيا والدرهم؟ هل يرضى أوائل الناس أو الذين يعتبرون أنفسهم كذلك أن
يعاملوا معاملة الأواخر؟ هل يسهل على الحاكمين أن ينقلبوا محكومين؟ كلا إننا
نرى علماء الدين يغالطون في فهم نصوص الكتاب مخادعين وجدانهم غاشين
ضمائرهم وما أكثر ما يؤوّلونه منها تخلصًا من قضائها عليهم وفرارًا من عواقب
الأخذ بصريحها.
جاء المسيح يدعو إلى السلام في كل قول من أقواله، فهل رأيتِ الممالك
أصبحت أقل قتالاً؟ ندب إلى التآخي بقوله الجليل: (كلكم إخوان)[5] فهل هدم
هذا القول دعائم الاستعباد ومحا من النفوس ميلها إلى التسلط؟ توعد من يصلت
سفيه بغيًا وعدوانًا بالهلاك، فقال ما معناه:(من سل سيف البغي به قتل)[6] فهل
ردع هذا الوعيد من كان بيدهم الحول والقوة عن انتهاك حرمة القانون بالبغي
والفساد في الأرض. قال (من أخذ قميصك فأعطه رداءك)[7] فلو أن أحدًا منا
معشر الفرنساويين المتشددين في التمسك بالدين اتبع هذا الأمر وجرى على نصه
حرفيًّا لسجن في شارنتون [8] خصوصًا إذا كان له من أقاربه وارثون.
لم يختص المسيحيون بهذه المواعظ الحسنة فإن لليهود أيضًا والصينيين
والفرس كتبًا فيها حكمة بالغة وكلم نابغة ، ولكنهم لم يصيروا بها أحسن منا حالاً
فإنه لو كان يكفي في تحسين أحوال الناس وتهذيب نفوسهم وجود كتاب مفيد في علم
الأخلاق لكانت الدنيا قد بلغت غاية الكمال من زمن طويل لأنها والحمد لله لم تخل
من علماء الأخلاق يومًا، على أننا لا نسمع في جميع أرجائها إلا أصوات آلام
المنكوبين والمكروبين وتحريق الأرَّم من المقهورين المتغيظين.
أرى أنه لا ارتباط بين مذهب المرء وبين عمله غالبًا إلا في الخيال والوهم
فلو أن الخير كله والشر كله كان كل منهما بمعزل عن الآخر في مجرى الحياة
وسياق أعمالها لسهل على الناس الحكم فيما اختلفوا فيه من آرائهم ومذاهبهم ،
ولانقطع من بينهم سبب الخلاف بأسرع ما يكون ، ولكن هيهات أن يكون الأمر
كذلك وقد علمت أنه لا يعمل منهم بعلمه إلا الشذّاذ! انظري إلى أصول الأخلاق
الإنجيلية - مثلاً - تجدي أن من لا يؤمنون بألوهية المسيح هم في الغالب أكثر اتباعًا
ورعاية ممن اتخذوا الإيمان بتلك الألوهية مهنة لهم.
أنا لا أعني بجميع ما قلته هنا أن علم الأخلاق لا فائدة له في التربية وإنما
الذي أريده بهذا الكلام هو أن أحسن ما يوجد بهذا العلم من الأصول في الدنيا بأسرها
لا ينشئ رجالاً كملة مهذبين ، وقد فهم ذلك حق الفهم واضعو الشرائع فعززوا ما
دوّن من تلك الأصول في الكتاب بأوضاع تامة للثواب والعقاب.
ثم إن الطفل لا يستفيد مما يلقى عليه من دروس الأخلاق إلا إذا كان من
الاستعداد والكفاءة بحيث يقدر أسباب أعماله وعواقبها، فأنَّى له إذن أن يفهم هذا
الأصل الوجداني وقد حجبه عنه إدراك مشاعره الظاهرة واشتداد أهوائه وشرّة
غرائزه؟ وأنَّى له أيضًا بأن يكون جميع ما يراه من الأسى والأمثال من شأنه أن
يأخذ بزمام عزيمته إلى الخير ويصرفه عن الشر؟ وليت شعري هل تجري أمة
دائمًا على مقتضى ما ترشده إليه من صالح الأخلاق وجميل الصفات؟ إن الوالد
ليلقي على ولده خطبة طويلة في وجوب مواساة الفقراء والإحسان إلى المساكين ثم
لا يلبث هو نفسه أن يلومه إذا أعطى لفقير درهمًا من الفضة، فهو بذلك يبذر بإحدى
يديه في ذاكرته أصول الإنجيل وينقش بيده الأخرى على قلبه صور النفاق والرياء
اهـ[*] .
(13)
من أراسم إلى هيلانة في 4 يونيه سنة -185:
يُعوِّل علماء الأخلاق كثيرًا في تربية الأطفال على قوة القدوة وتأثير الأسوة،
وأنا في هذا موافق لهم ولكن أيّ والد يصح له أن يتبجح بأنه على الدوام قدوة
صالحة لولده.
نحن في الجملة نسعى في غش الأطفال وخداعهم بما نتزين به لهم من لباس
الرياء الذي يجعلنا في أعينهم أحسن مما نحن عليه في الحقيقة والواقع وبما يصدر
عنا كثيرًا أمامهم من الأقوال والآداب المغايرة كل المغايرة لمعتقداتنا وآرائنا الذاتية
وحقيقة الأمر أننا نقصد أن نربي طباعهم على ما نشأنا عليه؛ موافقة لحسن رأينا
في أنفسنا ، ورغبة في تحقيق غيرنا بهذا الرأي ، وأن نكسوهم من الفضائل ما
نتظاهر لهم بأننا متحلُّون به ، ولكن هيهات أن ينخدعوا بهذه الحيل ، ومن ظن بهم
ذلك فقد أخطأ في فهم معنى سذاجتهم وصفاء قلوبهم خطأً بينًا. الأطفال يعرفون
كمال المعرفة ما يعتمدون عليه في كشف مقاصد آبائهم والوقوف على شئونهم وهم
يدركون بالحدس والتخمين ما يجتهد هؤلاء في كتمانه عنهم ، وإني لفي شك من أن
هذا الكتمان وإن حمدت أسبابه يزيدهم في نفوسهم إجلالاً وتعظيمًا.
عاقب والد ابنًا صغيرًا له لم يتجاوز الخامسة من عمره على أكذوبة قالها ولم
يكد ينتهي من عقابه حتى دخل عليه خادمه مخبرًا له بأن زائرًا ثقيلاً ينتظره في
الخارج ، فقال له ذلك الرجل الوقور: أخبره بأني لست هنا. فيا له من درس
يستفيد منه الطفل الصدق والإخلاص! .
أنا على يقين من أن (أميل) لن يجد فيك إلا أحسن أسوة وأكمل قدوة ، وهذا
هو الذي يملأ قلبي اطمئنانًا عليه. ولكن أقول لك الحق غير مُداجٍ فيه ولا مُدارٍ
وهو أن غرضي من تربيته أن يكون ذا طبع مستقل لا مفرغ في قالب طبع آخر
مهما كان لهذا الطبع من الكمال. وأذكر لك هنا واقعة حضرتني الآن تدلك على أني
محق في قصدي وهي أني رأيت ذات يوم طفلاً في السادسة من عمره راجعًا مع
والدته من تشييع جنازة وهو من الأطفال الناجحين المتقدمين جدًّا على حسب اعتقاد
الناس ، وكان يبكي أو يتباكى فارتبت في أمره وظننت أنه مخطئ في معرفة من
فجع به لأن المتوفى لم يكن إلا ابن عم بعيد له (على أن الأطفال لا يفهمون حقيقة
الموت كما تعلمين) فسألته عن سبب بكائه وكدره العظيم فكان جوابه لي أن قال:
(لا سبب سوى أني رأيت الآن والدتي تمسح عينيها بمنديلها فبكيت) فأضحكني منه
هذا التأثر التقليدي وإن كان صادرًا بلا شك عن طبع ساذج وقلب سليم ، فلا أريد
أن يكون (أميل) مثل هذا الغلام في تأثره بل أودُّ أنه متى بلغ السن الذي يرقُّ فيه
لمن تصيبه مصيبة ويعطف عليه يكون ذلك منه ناشئًا عن غم كارث ألم بنفسه
وحزن ممض يضطرم في قلبه.
يجب أن يلحق ما يرى من أعمال الحيوانات وسيرها في حياتها بما للقدوة من
التأثير في التربية. وكيف لا ونحن نرى كتاب الأمثال عندنا على بعد مجتمعاتنا من
معاهد الفطرة تزدان تآليفهم وتزدهي دروسهم بما يودعونها من سير الحيوانات
وأخلاقها ، وأن الطفل من أولادنا لا يكاد يقدر على النطق المفهوم والحفظ حتى
يحمل على حفظ أسطورة من أساطير لافونتين [9] كأسطورة الصرصار والنملة مثلاً
أنا لا أنكر أن في حياة الحيوانات عبرًا كثيرة وعلومًا شتى يجب علينا تعلمها ،
ولكني أقول: ألا ينبغي لهذا العالم الصغير الذي يحفظ سير هذه المخلوقات الممثِّلة
رواية الكون الكبرى في مشهده الأعظم أن يعرفها ليهتم بشأنها اهتمامًا حقيقيًّا؟ . فكم
نرى من الأطفال الذين نشأوا في حواضرنا الكبرى وقرأوا أساطير ذلك الكاتب
الشهير من لم ير في حياته تلك المخلوقات التي يحكى لهم قصصها ويمثل لهم
أحوالها إلا قليلاً، فهم على جهل تام بأخلاقها وعوائدها. وفي رأيي أن سليمان
عليه السلام أعقل من واضعي التعليم الحديث إذ قال للكسلان: عليك بالتعلم في
مدرسة النملة [10] فإنه دله بهذا الإرشاد على ينابيع علم الأخلاق الفياضة لا على
حياضه التي لبعدها عن تلك الينابيع لا توجد فيها إلا صُبابة لا تروي ظمأ ولا تبرد
غُلة اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الحكمة واردة في أمثال سليمان عليه السلام في التوراة بهذا النص وهو: (الرجل الحكيم في عز)[وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ](البقرة: 129) .
(2)
نص الكتاب المقدس في هذا المعنى هو: (وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضًا بهم هكذا) راجع من إنجيل لوقا الإصحاح السادس العدد 31.
(3)
نص الكتاب في هذا المعنى هو (لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون ، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ) راجع العدد 16 و19و21 من الإصحاح السادس من إنجيل متَّى.
(4)
راجع العدد 24 من الإصحاح 19 من إنجيل متَّى.
(5)
نص ما ورد في الكتاب المقدس في هذا المعنى هو: (وأما أنتم فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد هو المسيح وأنتم جميعًا إخوة) راجع الإصحاح 23 والعدد 98 من إنجيل متَّى.
(6)
عبارة الكتاب في هذا المعنى هي: فقال يسوع: (رد سيفك إلى مكانه لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون) راجع الإصحاح 26 والعدد 52 من إنجيل متى.
(7)
عبارة الكتاب هى: (ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضًا) راجع الإصحاح 6 والعدد 49 من إنجيل متى.
(8)
شارنتون اسم لقريتين من قرى فرنسا إحداهما تدعى شارنتون لويون وهي أشهر قرية في إقليم السين بقضاء سو واقعة على نهر مارن، والثانية تسمى شارنتون سور لوشير وهي أشهر قرية في إقليم شير بقضاء سانت أمندمونت روند، يظهر أن إحداهما فيها سجن للمجانين.
(*) المنار: محصل كلامه أن تعليم الأخلاق والآداب قليل الجدوى إذا لم يتربَّ الإنسان عليها عملاً وهذا صحيح ، ولم توضع أصول التهذيب لأجل الدراسة وإنما وضعت ليجري عليها المربون فعلاً. اقرأ قوله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم:[وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]
(البقرة: 129) فلم يكتف بالتعليم بل أضاف إليه التزكية وهي التربية العلمية على أصول الخير والفضائل.
(9)
لافونتين واسمه جان دول فونتين من أشهر كتاب الأساطير في فرنسا ولد في ساتوتيري سنة 1621 ومات سنة 1695.
(10)
عبارة الأمثال في هذا المعنى هي: اذهب إلى النملة أيها الكسلان تأمل طرقها وكن حكيمًا (هي) التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط وتعد في الصيف طعامها وتجمع في الحصاد أكلها. راجع الباب 6 من أمثال سليمان والأعداد 6 و7 و8.
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية وأدبية
(حكم الفلاسفة ونوادرهم)
(2)
قال أرسطوطاليس: من عُدم العقل لم يزده السلطان عزًّا ومن عُدم القناعة لم
يزده المال غنًى ، ومن عدم الإيمان لم تزده الرواية فقهًا. أقول: نسب هذا الكلام
لهذا الفيلسوف صاحب كتاب (الكلم الروحانية في الحكم اليونانية) وهو ليس له
وإنما هو لأحد حكماء الإسلام لأن أخذ الفقه من الرواية من وضع المسلمين
واصطلاحهم وظاهر أن المراد بالرواية رواية الحديث ، ولم يكن عند فلاسفة
اليونان فقه يستمد من رواية ، وكثيرًا ما راجت الأكاذيب والموضوعات على أهل
النقل لعدم المعرفة التامة بتاريخ اللغة، فكم من خبر وأثر فيه ألفاظ لم تكن تستعمل
في عصر من نسبت إليهم بالمعنى الذي تروى به.
وقال: الحُسْنُ رديء لصاحبه جيدٌ لغيره ، وقيل له: لم تناقض صديقك
أفلاطون فقال: أفلاطون صديقي والحق أولى بالصداقة منه. وقال له رجل:
أخْبَرني ثقة عنك بما يوحش، فقال: الثقة لا ينمُّ ، وسئل: أي شيء ينبغي للفاضل
أن يقتنيه؟ فقال: الأشياء التي إذا غرقت به سفينة تنجو معه إذا نجا، يعني العلوم
والمعارف الحقة. وقال: ظاهر العتاب خير من مكتوم الحقد ، وقال: ضربة الناصح
خير من تحية الشانئ (العائب) وقال: العقل عقلان: مطبوع ومسموع. أقول: إن
هذه الحكمة تؤثَر عن الإمام علي كرم الله وجهه ولم يكن وصل إلى العرب شىء من
علم اليونان. وقال: قوت الأجساد المطعم، وقوت العقول الحكم فإذا فقدت العقول
الحكمة ماتت موت الأجساد عند فقد الطعام. وقال: المعلم الرفيق يربي المتعلم بصغار
الحكمة قبل كبارها كما تربي الوالدة ولدها بالرضاع قبل الطعام. وقال: العاقل لا
يجزع من جفاء الولاة إيّاه وتقريبهم للجهال دونه لعلمه بأن الأقسام لم توضع على قدر
الأخطار (أي ليست الحظوظ عندهم بحسب مراتب الشرف الحقيقية فيرى أن خطره
وشرفه لم يقدر قدره) وقال: الحكيم الصالح لا يخدع أحدًا والعاقل الكامل لا يخدعه
أحد. يريد أنه لا ينجح في خداعه ليقظته وانتباهه. ويتوهم بعض من يقرأ كتب
الأدب أن المخدوع ممدوح لما في ذلك من الآثار والأشعار المسطورة فيها كأثر (من
خادعنا في الله انخدعنا له) وكقول الشاعر:
خادع خليفتنا عنها بمسألة
…
إن الخليفة للسؤَّال ينخدع
وكقول عبد الباقي في أمير المؤمنين رضي الله عنه:
قد خادعوا منك في صفين ذا كرم
…
إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وهذا الانخداع هو الإغضاء عن الذنب في موضعه والتغافل عنه من باب
(تجاهل العارف) ولقد نزه الله نفسه والمؤمنين عن أثر خديعة المنافقين فقال:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) .
وقال أرسطوطاليس: نصيحة العاقل مبذولة للعامة، وسرُّه مكتوم إلا عن
الخاصة. وقال: أيّ ملك جاوز سرُّه وزيره فهو في حد ضعفاء السوقة. وقال
للإسكندر: كن رحيمًا من غير أن تكون رحمتك فسادًا ، وقال له: اعتبر بمن
مضى قبلك ولا تكن عبرة لمن يأتي بعدك ، وقال له أيضًا: يا إسكندر اعلم أن
عيوب عمالك عيوبك ، وقال له: إذا فرضت لجندك فلا تفرض لمن لا تعرف والده
ومن وُلد على العبودية؛ فإن الناس يقاتلون بالأنفة والحمية. أقول: لا مندوحة عن
مراعاة عزة النفس ومعرفة البيوت في الضباط والقوَّاد حتى في هذا العصر ، وقال
له: لا يكن لجائزتك حد فإن هذا أبسط للأمل فيك ، وقال له: اعمر ما خرب مما
أنشأه مَن قبلك يُعِّمر ما تبنيه من يتبعك ، وقال له: تفقد أمر عدوك قبل أن يطول
باعه ، وارتق الفتق قبل أن يتجاوز اتساعه ، وقال له: امنع أن يظهر في عسكرك
الفجور والسكر فإنهما مفتاح الوهن ، وقال: أيُّ ملك نازع السوقة هتك شرفه ،
وأيّ ملك تصدّى للمحقرات فالموت أكرم له. وكلمه رجل بكلام طويل جدًّا فقال له:
أما أول كلامك فقد أنسيته لطول عهده وأما آخره فلم أفهمه لتفلّت أوله ، وقال: قد
استحسنت قول (لا أدري) حتى أقوله فيما أدري.
***
(القسم الثاني من عينية الكاظمي)
وهو ما يتعلق بمصر
ولما نقلنا للبواخر رحلنا
…
وعفنا المطايا وهي حسرى وضلع
هجمنا على جيش من الموج ضارب
…
بزخاره نحو السما يترفع
يطالعنا من كل فج كأنه
…
جبال شرورى أصبحت تتقلع
ولما تبينت (السويس) وسار بي
…
إلى (النيل) سيار من البرق أسرع
هرعت إليه عاطفًا من حشاشتي
…
وقلت لصحبي هذه مصر فاهرعوا
سقى الله دارًا تيم الصب نشرها
…
وأخرى بها داريَّة تتضوع
لقد صرت في هذي وقلبي معلق
…
بتلك إذن ماذا أنا اليوم أصنع
وأصبحت أسوانًا فلا أنا ميت فأسلو ولا حي يرجى فأطمع
أنادي فلا (شمعون) يسمع دعوتي فيدنو ولا ينأى بوجدي (يوشع)
وما لي منه يعلم الله لو دنا سوى نظرة تدنو إلي فأقنع
ذر الدمع يدمي ناظريّ فإنني رأيت بعيني طرف (شمعون) يدمع
ويا أهل هذا الحي خلوا لنا الجوى نقضي به ليل الصبابة واهجعوا
على داركم شق الجيوب ودارنا يشق وريد في ثراها وأخدع
فلو أن مثلي في سراة قبيلكم من الحب مضنى أو من البين موجع
لأعلنت بالشكوى وصرحت بالجوى وقلت: اسعدوني أيها الصحب أو دعوا
تمكنت الأوجاع من كل مفصل وليس لهذا الصب من يتوجع
وآيسني طول النوى من طماعتي ولا يأس إلا حين لم يبق مطمع
تكلفني عيناي في الحي هجعة فأغمض علمًا أنني لست أهجع
وآمل من نومي المشرّد رجعة وأكبر ظني أنه ليس يرجع
أقول لجيران لهم بين أضلعي مراح وفي الأحشاء مرعى ومرتع
أيا جيرتي جف الرقاد فعاذر إذا رحت في كأس من السهد أكرع
ملكتم فؤادي بالتودد خدعة وكل كريم بالتودد يخدع
تعسفتموا ما كان مني شيمة وأين من المطبوع من يتطبع
وكيف أرجى منكمو ذا حفيظة وأكثر شيء في الأنام التصنع
إلا أن دهري موجعات فعاله وأفعال أهليه أمض وأوجع
أمثل (فلان) يحفظ الناس وده ومثلي في هذي البلاد يضيع؟
فوالله ما أدري وقد خامر الحشا هوى أوشكت منه الحشا تتصدع
أأترك مصرًا أم أقيم بجوها وما جوها إلا جوى يتدفع
تساومني خفض الجناح ظباؤها وما شيمتي إلا العلا والترفع
أصد فتثنيني إلى الحي لفتة ويقتادني داعي الغرام فأتبع
وأغضي فتلويني إلى الغيد نظرة ترد غرامي كلما بان برقع
فينزعن في قلبي سهامًا مريشة وأطرب إما قيل في القوس منزع
تعدت صروف الدهر مصر وأهلها ولا زال في أرجائها البِشر يسطع
نعم أهل مصر أنتمو خير أمة وما الخير إلا منكمو يتفرع
لقد شاع عنكم كل فضل وسودد وسوف نرى للفخر ما هو أشيع
فما سرني منكم تجمل أنفس كما ساءني قصد العدا المتشنع
خذوا حذركم فالكاشحون بمرصد وأنتم كما شاء الكواشح هجّع
أرى اليوم موسومًا بكل شنيعة وأخشى غدًا يأتي بما هو أشنع
ولكنني أرجو انتباهة حازم تصرف عنا هول ما نتوقع
دعوا عنكم مرّ الهوان وعرجوا إلى جنبات العز من حيث تنصع
وعودوا بها شم الأنوف تواركًا أنوف الأعادي دونكم وهي جُدَّعُ
ولا تشبعوهم غير يأس فإنهم إلى أكلكم - أخزاهم الله - جوَّع
وشدوا عُرى أوطانكم بمثقف من الرأي تخشاه الظبى وهي قطع
وكونوا لها أطواد عز منيعة يكن لكمو فيها الفخار الممنع
***
(الخزانة)
مجلة شهرية في السياسة والأدب أصدرها في أول يوليو حضرة الوجيه
الفاضل يوسف أفندي الخازن، استعاض بها عن جريدته (الأخبار) اليومية ، وذكر
في فاتحتها أنه ليس القصد منها بث العلوم وعضد الصناعة وترقية الزراعة،
وإنما غرضها الأساسي تفكهة القراء وتسلية الخواطر بمباحث جديدة ذات طلاوة
وفكاهة تلذ مطالعتها ، ومن ذلك أنه ينشر في كل عدد حكاية (رواية) وجيزة ،
وفي العدد الأول منها مقالة سياسية في الشؤون الحاضرة ، ومقالة أخرى في ترجمة
الوزير الكبير صاحب الدولة رياض باشا مأخوذة عن كُتاب أوربا المشهورين ،
ومقالة في زيارة سمو الخديوي لملكة الإنكليز واستحسان سياسة الوفاق والمسالمة
بين مصر والمحتلين، وتقريظ كتاب المحاماة، وشذرات بعض مشاهير الرجال.
وقيمة الاشتراك في المجلة 100 غرش مصري فنرجو لها الرواج والنجاح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المشروع الحميدي الأعظم
لم يكن للمسلمين من شبهة في فائدة مشروع سكة حديد الحجاز إلا أنها وسيلة
لدخول الأجانب في أرض الحرمين الشريفين وقد أزلنا هذه الشبهة بالمقالة التي
نشرناها في فاتحة الجزء الماضي ونشرتها عنا جريدة المؤيد الغراء لتعم فائدتها
جميع الأرجاء. وأما ما يوسوس به بعض الناس من أن الدولة العلية لا تقدر على
إتمام هذا العمل لقلة مالها ، وما ينصح به الناس بناء على هذا الإيهام آمرا لهم
بالحرص على مالهم وعدم بذله في إعانتها على العمل - فلا قيمة له في نظر المسلمين
لا سيما وهو لم يظهر إلا على صفحات جريدة المقطم التي يسيئون بها الظن في كل
ما يتعلق بالإسلام والدولة العلية. على أن الوسواس إذا صح فهو يقتضي الإعانة لا
عدمها ، إذ من البديهي أن الإعانة تزيل العجز فيتم المطلوب. ومهما كان العاقل
سيئ الظن بالدولة العلية والأمة الإسلامية فإنه لا يتصور أنهما لا يقدران على إتمام
مشروع كهذا مع التضافر والتعاون ، ولا أن الدولة تجمع المال من الأقطار
الإسلامية بهذا الاسم ثم تنفقه في شيء آخر إلا إذا دهمها من أوربا خطر عظيم على
حياتها التي هي حياة المسلمين اضطرها إلى صرفه في المدافعة، وهذا أمر لا يمنع
المسلمين من بذل المال لأنهم يعتقدون أن الإنفاق على هذه المدافعة هو أفضل ما
ينفق فيه المال. وأجل منافع هذه السكة الحديدية هو كونها تستهل الدفاع عن
الحرمين الشريفين في الاستقبال فما بالك إذا اضطررنا إلى المدافعة في الحال. ولا
شك أن مولانا السلطان عبد الحميد كان ولا يزال صارفًا سياسته الحكيمة إلى تأييد
السلام، وأوربا الآن مشغولة بالصين فلنا فرصة يجب أن تنتهز لإتمام هذا المشروع
العظيم.
***
(المقطم والمشروع)
لجريدة المقطم مزية لا تشاركها فيها جريدة في القطر المصري وهذه المزية
تفيد خاصةَ المسلمين في المشروعات والمصالح الإسلامية، وربما أضرت ببعض
العامة وهي أنها تنشر الآراء الشاذة والأقوال التي تنافي المصلحة وإن كانت لا
تعتقد ذلك، وكثيرًا ما تصرح بعدم اعتقاد ما تنشر وتعتذر عنه بحرية النشر. وهي
لا تكاد تنشر ما ينافي خطتها الخصوصية في السياسة كسائر الجرائد السياسية في
العالم. ومن غريب الآراء السخيفة التي نشرتها في التنفير عن سكة الحديد
الحجازية رأي بعض المحرفين والمؤولين لكتاب الله تعالى بآرآئهم الزاعم أن القرآن
الكريم يدل على عدم وجود هذه السكة بقوله تعالى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ
رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27) وليس في الآية ما
يدل على حصر الإتيان بالمشي وركوب الضمّر، وإلا فالحصر منتفٍ بإتيان بعضهم
على غير الضُمّر من الإبل والبغال والحمير بل والخيل أيضًا وبما حكاه الله تعالى
من دعاء إبراهيم بأن يجعل الله الحرم آمنًا ويرزق أهله من الثمرات ويجعل الأفئدة
تهوي إليهم ، وما أبعد فهم من يستدل بهذا على عدم وجود السكة الحديدية! !
والأقرب أنها تدل على وجودها ليكون دعاء إبراهيم مستجابًا على ممر السنين
وعلى أكمل الوجوه إذ لا خلاف في أن هذه السكة من أسباب الأمن وكثرة الثمرات
في البلاد الحجازية حيث تنقل إليهم عليها من الشام فانظر إلى هؤلاء المسلمين
الذين يؤولون القرآن بأهوائهم ويحرفون معانيه ليصرفوا المسلمين بجهلهم عن هذا
العمل النافع.
هذا ما قاله الهزاع وتلاه المذاع (الذي لقبه المقطم بالعالم الفاضل) فكتب
مقالة في المقطم سلك فيها مسلكًا آخر من التنفير عن المشروع النافع فزعم أن
المرغب فيه والمعظم لشأنه يبغض السلطان لأن المشروع بحسب زعمه لا يتم
ومتى انقطع الأمل منه تكون كراهة الناس للسلطان بقدر اعتقادهم بعظمة المشروع
فعلى هذا تكون محبة السلطان بالإخلاص محصورة بمن يقبح المشروع ويحقره
وينفر عنه، وهُم الهزاع والمذاع والمقطم وجريدة أخرى لا نذكر اسمها.
ومن عجيب أمر المذاع أنه زعم أن المسلمين يعتقدون أن بلاد الحرمين
محفوظة بالملائكة فلا يجب الاستعداد للمدافعة عنها. قال هذا غشًّا للمسلمين ، وهو
لا يعتقده لأنه قرأ قولنا أن الكعبة هدمت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم
أيضًا أكثر من ذلك ، ومنه أخْذ القرامطة للحجر الأسود وبقاؤه عندهم زيادة عن
عشرين سنة وربط الخيول في الحرم النبوي الشريف وغير ذلك. وتعبير المقطم
عن صاحب الآراء بالعالم الفاضل يوهم العامة أنه من علماء الدين الإسلامي وليس
منهم في شيء ولو صرح باسمه لانهالت عليه الشتائم واللعنات كما قال المقطم إذ
ينضم إلى سوء قوله معرفة الناس بسوء نيته وخبث طويته على أنهما ظاهران من
قوله.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
***
(الأمانة)
لا يزال الناس بخير ما وجد فيهم الصدق والأمانة والمروءة. وإننا نسر أن
نرى هذه الصفات الجليلة من الطبقات الوسطى والدنيا من أمتنا، فقد سقط من منشئ
هذه المجلة حافظة ورق (جزدان) فيها أوراق مالية بمبلغ يزيد على عشرين جنيهًا
وأوراق مهمة أخرى فوقعت في يد أحمد أفندي موسى ، وهو تلميذ في المحافظة
الآن ومتعلم في المدرسة العثمانية ، ومحمد علي البيطار في باب الخلق، فلما وجد
الأفندي المذكور اسمي على الأوراق سعى هو ورفيقه إلي من ساعتهما وأعطياني
الحافظة فشكرًا لهما وأكثر الله في الأمة من أمثالهما.
***
(أمنية)
لو أن مولانا السلطان الأعظم يجعل كل نجل من أنجاله الكرام ريئسًا للجنة
إعانة السكة الحديدية الحجازية في قطر من الأقطار الإسلامية لكان هذا من الأسباب
التي تنمو بها التبرعات نموًّا عظيمًا لا سيما إذا سافر أولئك الأمراء العظام إلى تلك
الأقطار ، ولا شك أن تشريف واحد منهم إلى مصر يجعل التبرعات فيها أضعاف ما
ننتظر الآن.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
محبة الله ورسوله
في إعانة السكة الحديدية الحجازية
حب الله ورسوله - معناه ودليله وعلامته: بذل المال والنفس في سبيل الله.
سخط الله على من يبخل بذلك. سكة حديد الحجاز: المدافعة في الجهاد أشد وجوبًا
من المهاجمة.
بعض فوائد السكة: هي سنة حسنة سنها السلطان ومن أعان عليها فهو
شريكه في الأجر. {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) للحب أنواع كثيرة وضروب شتى أعلاها حب
الله ورسوله لأنه غاية كمال الإيمان الذي هو مشرق أنوار التهذيب ومنبع مكارم
الأخلاق وروح الفضائل الصورية والمعنوية، أرأيت كيف جعل الله سبحانه وتعالى
شدة حبه مقرونة بالإيمان الذي هو مصدرها حيث قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ
حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) .
وإن ترتيب الحكم على المشتق يؤذِن - كما قالوا - بعلية الاشتقاق. وقد
ورد في الحديث المشهور (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممن
عداهما) وفي حديث آخر: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله
ومن نفسه التي بين جنبيه) أو كما ورد.
فما هو حب الله ورسوله؟ وما علامته وما دليله وبرهانه؟ الجواب عن
السؤال الأول هو ما يرشدنا إليه قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31) وفي هذا
المعنى قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
…
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
وأما علامة هذا الحب ودليله فهو الاهتمام بما يرضي الله ورسوله من جميع
الطاعات ، فكيف بالطاعة التي هي مختصة بحفظ بيت الله وقبر رسوله عليه أفضل
الصلاة والسلام؟ فكيف بالطاعة التي تسهل على عباد الله تعالى حج بيته وزيارة
رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فكيف بالطاعة التي يتفرع عنها من الطاعات
والحسنات ما لا يحصى ولا يحصي ثوابه إلا الله سبحانه وتعالى وهو الذي بجزي
عليه الجزاء الأوفى؟
وأكبر علامات حب الله ورسوله بذل المال والنفس في طاعتهما ومرضاتهما
لأن المال والنفس أعز الأشياء على صاحبهما في حياته الدنيا فهو بالطبع لا يبذلهما
إلا فيما هو أعلى عنده منهما شأنًا وأرفع مكانةً ، فمن يبخل بماله أو بنفسه في سبيل
الله فهو مفضل لهما على الله ورسوله ومهدد بالسخط والمقت والعقوبة وحرمان
الجنة والنعيم لأن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة ، وأمر من
قبل هذا الشراء بالوفاء ، ولا شك أن كل مؤمن يقبله بل هو عنده أعز الأشياء
وأنفسها.
نحن الآن لا ندعو إلى بذل الأنفس وإنما ندعو إلى بذل شيء مما أنعم الله به
من المال في حب الله ورسوله وخدمة حرميهما مهبطي الوحي ومعهدي الدين القويم
فأي مؤمن يبخل بماله في سبيل الله؟ {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ
وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) .
أي مؤمن يبخل ببعض ما أنعم الله عليه في سبيله ويتعرض لسخطه وعقوبته
في قوله عز من قائل: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24) ولا شك
أن إعانة مشروع السكة الحديدية الحجازية من أسباب سهولة الدفاع عن الحرمين
الشريفين إذا أراد العدوّ بهما سوءًا، ولا فرق في الجهاد بين أن يكون مهاجمة أو
مدافعة إلا بما تكون به المدافعة أشد وجوبًا وأقدس عملاً. ومن يقول أن دفع الخطر
وابتغاء الخطر (هذا بمعنى الشرف) في مرتبة واحدة ، والشرع والعقل متفقان على
أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟
هذا وليست منفعة السكة الحجازية محصورة في الاستعداد لدفع الخطر ودرء
المفاسد ، بل إن فيها من المصالح والمنافع الكثير الجم ، وناهيكم بتسهيل أداء
فريضة الحج على إخواننا المسلمين الذين يقاسون من سوء معاملة الإفرنج في
السفن البحرية والمحاجر الصحية ما يقاسون. ويلاقون من تعدي العربان في البر
ما يلاقون ، وهذه السكة تذهب بهذه النكبات وتزيل هذه المضرات.
الساعي بالخير كفاعله ، وقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره:
(من سن سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن
سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهذه السكة الحديدية
سنة سنها مولانا الخليفة والسلطان الأعظم وكل من أعان عليها فهو من أسباب
وجودها لأنها لا تتم إلا به فهو شريك في ثوابها فبادروا رحمكم الله إلى هذا الخير
العظيم والأجر الكبير {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً
وَأَعْظَمَ أَجْراً} (المزمل: 20) .
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيد رضا
_________
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
الشعر العربي
لحضرة الأديب اللوذعي مصطفى أفندي الرافعي
ضربت العرب في الشعر كل بسهمه فمخطئ ومصيب حتى ملأوا بقاع
الأذهان حكمة وغرسوا في الأفكار فسيلة الخيال فإذا هي شجرة طيبة أصلها ثابت
في الجنان وفرعها في اللسان تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ظلُّوا سائرين بعد
ذلك في أنجاد وأغوار بين إرقال وإيضاع حتى إذا أخذت الأفكار زخرفها من تلك
الوهاد وأصبح أهلها قادرين عليها ارتفعوا بشعرهم. فمن باسط يده لشهب السماء ،
ومن قابض بأنامله على كواكب الجوزاء ، ومن سابح في البحار إلى سائح في القفار
وفي كل ذلك منهم قاصر ومجيد.
لقد صح للعرب وذلك مبلغهم من العلم أن يقولوا: إن الشعر يرفع ويضع
ويضر وينفع. وليس بعيدًا أن يعلو بقوم وينزل بآخرين ما دامت الأسماع على
الأفواه تلتقط الكلمة يطرحها الشاعر من بين شفتيه فإذا هي في أنحاء البلاد جارية
على ألسن العرب مجرى الماء العذب.
روى لنا التاريخ في أصل ضعة بني أنف الناقة وخمول ذِكْرهم ونَبْزهم بهذا
اللقب أن أبا أنف الناقة كان له جملة من الولد مختلفات أمهاتهم وكان أنف الناقة
واحدَ أمِّه فنحر يومًا ناقة وقال لولده: اذهبوا فاقتسموها فتباطأ أنف الناقة حتى لم
يبق منها إلا رأسها فذهب ليأخذه وأدخل ذراعه في أنفه واحتمله فقيل له: أنف
الناقة ، وعير بذلك فلما قال في مدحهم الحُطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
…
ومن يسَوي بأنف الناقة الذنبا
علا قدرهم وارتفع ذكرهم وصار اللقب مفخرهم بعد أن كانوا ينتسبون إلى
مختلفين من الأجداد مخافة أن يعيروا بذلك اللقب الشنيع.
وكانت نمير من أعز القبائل حتى اشتهرت بجمرة العرب لقصر أنسابهم عليهم
إذ ليس فيهم دخيل فهم لا يُخْرِجُون من نسائهم لغيرهم ، ولا يُدْخِلُون من رجال
غيرهم على نسائهم وحتى كانوا إذا قيل لأحدهم: ممن الرجل؟ قال: نميري
مفخمة يملأ بها فاه ، فلما قال جرير يهجو الراعي:
فغُض الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
ذل هذا الاسم واتضع وانتسبوا بعد ذلك لجد أعلى منه ، فكان واحدهم يقول
إذا سئل الانتساب: (عامري) تاركًا منتسبه الأول من ورائه ظهريًّا.
تلك حالة الشعر والشاعر أيام كان الأول تارة كالنجم الزاهر ، وآونة كالسيف
الباتر ، ومرة كالعقاب الكاسر وطورًا كالليث الخادر، وأيام كان الثاني في رصانة
النظم عالي الذكر جليل القدر يثور بمقوله كالأسد بمخلبه فتخشاه القبائل وتخافه
العشائر.
بهذه الثياب الطبيعية التي كان يلبسها الشاعر حينًا فحينًا وبذلك الباتر العضب
الذي ابتز به تلك الثياب لم يغادر الشعراء من متردم. فخلف من بعدهم خلف
أضاعوا المقصد وأضلوا المورد فظلعوا كالضبع على بعد المزار حتى بلغوا من
البحر نجعة فلزموها يرددونها في أفواههم ترديد الصبي لعابه حتى انقلبت فقاقع
يغرهم فيها قول الناس: إنها الماء الزلال أو السحر الحلال.
ذلك مورد الشعر في عصوره الأولى بل والوسطى أيام كان يفيض عن ألسنة
الفرزدق وجرير وأبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء والشريف ومهيار
ومن كان من هذه الطبقة. أما وقد حملت الأرجل بعدهم أناسًا لا ألسنة لهم إلا
صحف أسلافهم يقطعون من مشتجرها أشجارًا ويجنون من حدائقها ثمارًا زاعمين
أن الغراس بأيديهم والمراس بأنفسهم والشجرة لم تثمر إلا بعد أن سقوها من عرقهم
كالسيل المنهمر فاهتزت أرضها وربت وأنبتت من كل زوج بهيج- فليس الشعر إلا
شعيرًا وليس الشاعر إلا ناعرًا.
أولئك الزعانف الذين جعلوا الشعر تجارة وليتها لم تكن بائرة واتخذوا النظم
صفقة ولكنها خاسرة، قد ركبوا من المقت سفنًا ، وقذفوا بأنفسهم في بطونها كما يقذف
بالطير في القفص مجذوذًا جناحه فلا طير ولا ارتياش حتى انكدرت نجوم الشعر
وكسفت شموس أهله.
حسبوا أن الزمان من صباه إلى هرمه لم يكن في عمرانه غير الطلل البالي
والمنزل الخالي، فهم يسلمون عليه ويبكون لديه حتى تسيل المحاجر السود على
الخدود الصفر فتجري الشئون الحمر كالأنهار على ظهر القفار كل ذلك والشاعر
يقول: إنه غرق بدمعه وعميت عليه غياهب القضاء حتى ضاق بعينيه الفضاء وأنه
استبسل للمقدور واستسلم للمحذور ، وفي كل هذه المصائب التي يذكرها تجد قلمه
في يديه وقرطاسه أمام عينيه وهو يفكر ويسطر ولا طلل ولا بكاء ولا محذور ولا
قضاء ولا قفار ولا أنهار ولا جبال ولا تلال ولا ظباء نافرة ولا أسود كاسرة ولكنه
الخيال يدع الأرض سائرة والجبال مائرة والأمور تتقلب في الأفكار كتقلب الليل
والنهار على حين لا طائل تحت ذلك ولا جدوى من ورائه. وحسبوا أن ليس في
الأرض غير العقيق والجزع والمفازة والدهماء والأجرع والجرعاء والهوجاء
والهيجاء والبان والسلم والكثبان والعلم، وهم يرون بأعينهم القصور الشامخة
والمصانع الباذخة والعمران في نضارته والإنسان في غضارته والبحار وما فيها
والبخار وما يعمله والكهرباء وما تصنعه. وكل هذه الآيات البينات لا تثنيهم عن
تلك الرسوم الدارسات.
قال ابن رشيق: خولفت العرب في كثير من الشعر إلى ما هو أليق منه
وأمس بالوقت وأليق بأهله؛ فإن القينة الجميلة لم ترض أن تشبه نفسها بالذباب كما
قال أبو محجن:
ترجع الصوت أحيانًا وتخفضه
…
كما يطير ذباب الروضة الغرد
وطرز قوله ذلك ابن حجة بقوله: والعرب عذرها واضح في ذلك فإنه لم
يسعها أن تذكر غير ما وجدته في المهامه المقفرة من الذباب والأساريع وشجر
الأسحل وما أشبه ذلك ومن أين للعرب أن تقول كقول ابن المعتز في الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
وهي عن الزورق والعنبر وعن كثير من ذلك بمعزل.
وأين وصف عنترة لروضته بالذباب والزناد الأجذم في قوله من المعلقة:
وخلا الذباب بها فليس بنازح
…
غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذارعه
…
قدح المكب على الزناد الأجذم
من وصف العلامة يحيى بن هذيل المغربي لروضته الأريضة حيث أتى
ببديع الغريب وقال:
نام طفل النبت في حجر النعامى
…
لاهتزاز الطل في مهد الخزامى
وسقى الوسمي أغصان النقا
…
فهوت تلثم أفواه الندامى
أما تشبيه عنترة فإنه معدود من التشابيه العُقم، غير أن عقادة التركيب في تقديم
الألفاظ وتأخيرها أسفرت عن أقطع يحك ذراعه بذراعه.
وأين قول امرئ القيس في تشبيه الأنامل
وتعطو برخص غير شثن كأنه
…
أساريع ظبي أو مساويك أسحل
من قول الراضي بالله:
قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها
…
في خدها وقد اعتقلن خضابا
فكأنها بأنامل من فضة
…
غرست بأرض بنفسج عنابا
ولو شئنا لأتينا على كثير للعرب مما يجب أن يرغب عنه ولكنه قتل للوقت
فيما لا طائل تحته وفي هذا بلاغ.
يقول الخليل: إن الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف شاءوا، جائز لهم
فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تسهيل اللفظ وتعقيده. ليت
شعري أين كان الخليل وأين كان ذكاء الخليل؟ ولكن عذره أن عصر العرب
القدماء كانت رنته تجول في أفكاره فسكر بسلافتهم وأخذ بما أخذوا به من تسهيل
وتعقيد وإطلاق وتقييد حتى وضع العروض على طول كلامهم واختط البحور من
مواردهم ومصادرهم ، فعذره عذر من وصف الحسناء بالذباب، والأنامل بالأساريع
ومساويك الأسحل. ولكني أقول: إن الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف
شاءوا جائز لهم في النظم ما لا يجوز لغيرهم في النثر ما دام كلامهم لم يتجافَ عن
مضاجع الرقة جنبه حتى يكون سهلاً ممتنعًا كالماء السلسل يتجرعه الشارب فيسيغه.
وفيما أرى أن سالك تلك السبيل الأولى والناسج على ذلك المنوال القديم الذي
حطمته الأزمان لا حظ له في اسم الشاعر ما دام قلمه مغزلاً وغزله كالعهن المنفوش.
دخل أبو العتاهية على عمرو بن العلاء فأنشده بعد قليل من أبيات الغزل:
إني أمنت من الزمان وصرفه
…
لما علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله
…
تخذوا له حر الخدود نعالا
إن المطايا تشتكيك لأنها
…
قطعت إليك سباسبًا ورمالا
فإذا وردن بنا وردن خفائفًا
…
وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا
فأعطاه سبعين ألفًا وخلع عليه حتى لا يقدر أن يقوم فغار الشعراء لذلك
فجمعهم ثم قال: يا معشر الشعراء عجبًا لكم ما أشد حسدكم بعضكم بعضًا إن أحدكم
يأتينا ليمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقته بخمسين بيتًا فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة
مدحه ورونق شعره وقد أتانا أبو العتاهية فشبب بأبيات يسيرة ثم قال
…
وأنشد
الأبيات المذكورة فما لكم منه تغارون؟
وجماع القول في الشعراء أن لا يخرج الشاعر عما يعهده القوم حتى يصادق
الخُبرُ الخَبر. فإنه من العبث أن يسير الإنسان قابضًا بيده على زمام بعيره ناظرًا
إلى مناسمه ونسوعه وما يسير فيه من السباسب والفدافد والضحاضح وما يتبع ذلك
من الجنان وانصداع الفجر والتهجر والآل إلخ آخذًا في ذلك بأزِمّة الخيال يصف
كيف شاء سائرًا في أي طريق فبينما هو على بعيره في نجد إذا هو أمامه في تهامة
إذا هو خلفه في العقيق إذا هو في الحصيب. أمكنة لا يعرفها ولم يكن رآها حتى
يكاد شعره يكون عند قومه من اللغات الأجنبية.
ذكر صاحب الأغاني: قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر
الناس؟ قال: من إذا شئت لعب ، ومن إذا شئت جد ، فإذا لعب أطمعك لعبه فيه ،
وإذا رمته بعد عليك وإذا جد فيما قصد له آيسك من نفسه ، قال: مثل من؟ قال:
مثل جرير حيث يقول إذا لعب:
إن الذين غدوا بلبك غادروا
…
وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي
…
ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ثم قال حين جد:
إن الذي حرم المكارم تغلبًا
…
جعل النبوة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم
…
يا خزر تغلب من أب كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة
…
لو شئت ساقكم إلَي قطينا
مثل هذا يكون أشعر الناس في عصرنا لو تبع جده ولعبه في وصفيهما باقي
شعره في مذاهب الشعر العربي وعلى هذا المنوال فلينسج الشاعرون.
للكلام بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: الكاظمي
القسم الثالث من قصيدة الكاظمي
في الفخر
تخلى لكم من لو عصفتم بحده
…
رأيتم إذن عضب الشباكيف يقطع [1]
وحل بكم من لو علمتم محله
…
علمتم إذن بدر السما أين يطلع
فإن الذي في الكون عنه مفرق
…
وإن الذي في الكون فيه مجمع
فلا يملك العلياء إلا سميذع
…
وها أنا ذاك الأريحي السميذع [2]
نزعزع أبطال الوغى لو تحركت
…
يراعة فكري لا الوشيج المزعزع [3]
ويسكرني والبيض تعسف بالطلا
…
نجيع الهوادي لا العقار المشعشع [4]
وكيف أخاف الخطب يسود ليله
…
وأسياف عزمي في دجى الخطب لمع
فكم غمة كشفتها وعظيمة
…
تسنمتها والليل أسود أسفع
وحادثة قصرتها بعصابة
…
تطول لهم في الروع بوع وأذرع
تطلعت منها كل دهياء أزمة
…
كأني فيها الأرقم المتطلع
فقل للعِدا تختر لها أي ميتة
…
فسيفي بألوان المنون مرصع
وهاك لسيفي الذكر في كل وقعة
…
وهل يخلُ من آثار سيفي موقع [5]
ورُب سعاة أسرعت خطواتهم
…
ففات مساعيها المشيح السرعرع [6]
ترنا لدى التمثيل سيين خلقة
…
ولكن حفظنا المكرمات وضيعوا
لئن يرثوا أو يعجلوا لي سجية
…
فلا تتوانى بي ولا تتسرع
ولي من وراء الغيب عين تدلني
…
على المنهل العذب الذي ليس يشرع [7]
أرى كل تلعاء متى شئت جزتها
…
وخلفت دوني كل من يتتلع [8]
ويا رب قوم غرهم نوم جمعنا
…
وأغراهمو ذاك العديد المجمع
يخالون أن الطود يؤلمه الحصا
…
وأن السبنتى بالنباح يروَّع [9]
وما علموا إذ يمموا الغاب خدعة
…
يكون وراء الغاب ليث مخدع [10]
فجاءوا إلى الإسلام يعترضونه
…
سفاهًا فشاموا أن واديه مسبع
سعوا بضلالات فخيب سعيهم
…
أخو الرشد محمود النقيبة أروع [11]
فردُّوا عن الإسلام ميلاً رقابهم
…
وجيد بني الإسلام أجيد أتلع [12]
وأقسم أني لو شحذت مقالتي
…
لراح بها هانوت وهو مبضع [13]
ولكنني أغضي احتشامًا وقدرة
…
وعندي من القول الطرير الملمع [14]
ونحن بنوا لبيض المصاليت في اللقا
…
إذا مصقع منا جثا قام مصقع [15]
دعوا كل هياب يحكك نفسه
…
بكل شجاع عله يتشجع
وخلوه ينهض بالذي لا يطيقه
…
كما ناء بالعبء الأجب الموقع [16]
ولا تحسبوا نوم الشريف على القذا
…
يدوم ويهنا في الزمان الموضع
فإن أسود الغاب تغضي ملاوة
…
فتعسل سِيد في الفلاة وأضبع [17]
وإن هي هبت لا تدع من ورائها
…
مهبأ ولا قدامها من يجعجع
فبشرى لنا والبشر للدار بعدنا
…
إذا ما بها قام العماد المرفع
_________
(1)
عصفت الحرب بالقوم: أهلكتهم ، وعصف الدهر بهم: أبادهم ، وليس بظاهر في البيت، والشبا جمع شباة وهي الحد.
(2)
الأريحي بفتح وسكون: الواسع الخلق ، والسميذع بفتح السين والميم والذال المعجمة: السيد الكريم والشجاع والرجل الخفيف في حوائجه.
(3)
الوشج: الاشتباك ، والوشيج اسم منه يطلق على عروق الشجرة المشتبكه كعروق القنا وعلى اشتباك القرابة ، ثم انتقلوا من إطلاقه على شجر الرماح لإطلاقه على الرماح نفسها يقال:(تطاعنوا بالوشيج) والمزعزع بفتح الزاي: المحرك تحريكًا شديدًا.
(4)
الطُلى بالضم: الأعناق واحده طلية وقيل: طلاة ، والنجيع: الدم الضارب إلى السواد ، وقيل: دم الجوف خاصة ، والهوادي: الأعناق واحده هادية ، والعقار بالضم: الخمر ، والمشعشع: الممزوج، وأما عسف السيوف بالطلى فلم أره في ثلاثي هذه المادة.
(5)
سيأتي الكلام على هذا البيت وغيره في الملاحظة التي ننشرها في العدد الآتي.
(6)
المشيح اسم فاعل من أشاح بمعنى جد واجتهد والمقبل عليك ، والسرعرع: الشاب اللدن الناعم.
(7)
يُشرَع: ماض مجهول من أشرع فلانًا الماء: أورده إياه وأخاضه فيه ، ويقال: أشرعه فيه.
(8)
التلعاء: المرأة الطويلة القامة أو العنق ، ويظهر أن مراد الشاعر التلعة وهي ما علا من الأرض ، ولا أعرف أنهم سموها تلعاء ، ويتتلع يمد عنقه للقيام.
(9)
السبنتى: لم أجد هذه الكلمة ولا أذكر أنني رأيتها في غير هذه القصيدة ، والمسبنتى والمسبنتأ: من كان رأسه طويلاً كالكوخ.
(10)
المخدّع: المجرب لأنه خدع مرارًا.
(11)
النقيبة: النفس والطبيعة والعقل ونفاذ الرأي ، والأروع: من يروعك بشجاعته أو بجماله ، ولا يصدق هذا إلا على ذلك الإمام العظيم الذي رد على هانوتو ذلك الرد الحكيم.
(12)
الأتلع: الطويل.
(13)
المبضع: المقطع، وما كان أحوجنا إلى تلك المقالة وشحذها فعسى أن يبرزها الشاعر.
(14)
الطرير: ذو المنظر والرواء وسنان طرير أي محدد ولعل التجوز فيه.
(15)
المصاليت: الشجعان ، والمصقع: البليغ أو من لا يرتج عليه إذا خطب ولا يتتعتع إذا تكلم.
(16)
الأجب: البعير المقطوع السنام ، والموقع: البعير الذي تكثر عليه آثار الدير وهي (بالتحريك) القروح التي تحدث في الدواب من الرحل ونحوه.
(17)
الملاوة: البرهة من الوقت ، والسيد بكسر المهملة وسكون الياء الذئب ، والأضبع: جمع ضبع يقال: عسل الذئب (كنصر) إذا اضطرب في مشيه وهز رأسه من مضائه.
الكاتب: كمال الدين المرغناني
قصيدة الجزائر
أومأنا في جزء مضى إلى أنه جاءنا قصيدة من بعض أدباء الجزائر في مديح
فضيلة مولانا الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية ،
وصاحب القصيدة هو الفاضل السيد كمال الدين مصطفى المرغناني وهاؤم نموذجًا
منها:
هل من طريق إلى مصر وأزهرها
…
أم هل وصول إلى الأستاذ مفتيها
محمد عبده فذ المشارق بل
…
شيخ المغارب دانيها وقاصيها
ركن الحنيفية البيضاء حجتها
…
صدر الشريعة كهفها وحاميها
حكيم أمتنا العظمى ومرشدها
…
إلى سبيل الهدى حقًّا وداعيها
وملجم السفهاء من حواسدها
…
ومفحم الخصماء من أعاديها
أحسن برد له شفت قواطعه
…
وأين منه الدراري في مساريها
تصنيف توحيده لله منزعه
…
أغنى عن الكسب ماضيها وآتيها
ونهج تقريره كم فيه من حكم
…
بها المحاكم قد نالت أمانيها
ثم نوه بفصاحة الممدوح وبتفسيره للقرآن الكريم وختم القصيدة بقوله:
مواهب خص من دون الفحول بها
…
سبحان مانحها سبحان موليها
بشرى لكم معشر الإسلام فابتهجوا
…
بطب أدوائنا طرًّا وشافيها
والله والله والله لرؤيتُه
…
أشهى إلي من الدنيا وما فيها
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاحتفال الثاني عشر
بمدرسة ديروط الخيرية
احتفل في 27 ربيع الأول (24 يوليه) بهذه المدرسة تحت رئاسة صاحب
العزة مصطفى بك ماهر وكيل مديرية أسيوط وكان الاحتفال حافلاً حضره حكام
المركز ووجهاؤه ، وكان رئيس لجنة الامتحان حضرة الفاضل محمد بك أمين ناظر
مدرسة أسيوط الأميرية ، وقد بدئ الاحتفال بتلاوة آي القرآن العزيز وتليت فيه
الخطب وأنشدت القصائد. ثم سئل التلامذة في علوم اللغتين العربية والإنكليزية
وسئلوا في التوحيد والتاريخ والحساب وتقويم البلدان والأشياء (المحسوسات من
العلوم الطبيعية) فسمع الحاضرون من حسن الجواب ما سر به أولو الألباب.
وقد استلفت الأنظار واسترعى الأسماع التلميذ النجيب عثمان أفندي فريد نجل
الفاضل أحمد أفندي فريد مهندس المركز حيث فاه بخطاب أحسن فيه الأداء ما شاء
الإحسان ، حتى صفق له النادي، ولو أمسك أهله لصفقت الجدران ، ثم تلاه تلميذ
آخر فألقى خطبة مفيدة تلقتها النفوس بالقبول- ذكر فيها أنه كان تلميذًا في مدرسة
الأميركان وكانوا يجبرونه على تعلم الديانة النصرانية لأن تعليمها إلزامي ، وقال:
إن الذي اضطره وأمثاله للدخول في هذه المدرسة وغيرها من المدارس الأجنبية إنما
هو تضييق الحكومة على مريدي الوصول في مدارسها. قال: (يضيق صدري
ولا ينطلق لساني فإن التعليم في المدارس الأميركانية والقبطية والفرنساوية ظاهره
التهذيب لأبناء الوطن وباطنه صبغ أبناء المسلمين (وبناتهم أيضًا) بصفة دينهم ،
ولكن لاضطراري أنا وأمثالي ولتقاعس المسلمين والحكومة عن تعليمنا الواجب
ننتظم في سلكها. والحمد لله على نجاتي من ورطة الزيغ إلى عالم الإيمان والنور
على يد حضرة الفاضل سيدي محمد عارف أفندي مدير هذه المدرسة- فلحضرته
الفضل ولحضرة الفاضل محمود بك شاهين رئيس الجمعية ، وليست هذه بأولى
فضائلهما بل أخرجا كثيرًا من أمثالي من عدة مدارس قبطية، وأميركانية - إلى أن
قال -: ولعدم تعصب هذه المدرسة قد أقبل عليها جميع الطوائف من كل مكان)
إلخ.
ثم مثل التلامذة رواية مبتكرة اسمها (نصر الوطن) ثم ختم الاحتفال بتلاوة
القرآن الكريم والدعاء لمولانا السلطان الأعظم وعزيز مصرنا الخديوي المعظم
فجزى الله مؤسسي هذه المدرسة ومديرها وأساتذتها أفضل الجزاء وكثر في الأمة
من أمثالهم. ولولا ضيق نطاق الصحيفة لنشرنا قصيدة الأستاذ الشيخ سيد فرج أحد
أساتذة المدرسة ومكاتبنا، أو ملخص خطبة حضرة الفاضل الشيخ محمد حافظ
عارف الارتجالية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهدايا والتقاريظ
(الدليل الصادق على وجود الخالق وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري
الخوارق) لمؤلفه الفاضل الشيخ عبد العزيز جاب الله.
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب ويشتمل على 341 صفحة مطبوعًا طبعًا
حسنًا وفيه ستة مباحث:
(1)
النظر في الحيوان.
(2)
النظر في النبات.
(3)
النظر في الأفلاك.
(4)
الرياح.
(5)
السحاب والمطر وما يتبعهما.
(6)
الأرض وما فيها.
وفي كل مبحث من هذه المباحث مطلبان أحدهما في كيفية النظر في هذه
الكائنات للاستدلال بها على الصانع المختار ، والثاني في كيفية التفكر فيها على
مقتضى ما تدل عليه الآيات القرآنية، إلا مبحث الأفلاك والكواكب فإن فيه أربعة
مطالب بزيادة مبحث في كيفية ترتيب الأفلاك والكواكب وصورها وحركاتها،ومطلب
في النظر، والتفكر في الليل والنهار ، والكتاب يباع في مكتبة (دار الترقي) وغيرها
وثمنه عشرة غروش ، فنحث القراء على اقتنائه ومطالعته.
***
(نهضة الأسد)
أهدانا صديقنا الكاتب الفاضل فرح أفندي أنطون منشئ الجامعة جزءًا من
قصة بهذا الاسم معربة بقلمه ، وهي من تأليف القصاص الشهير إسكندر دوماس
الفرنساوي. وهذه القصة تشرح الحركة الفكرية الذي كانت سارية في الأمة
الفرنسوية قبل الثورة وروح الاستياء والانتقام من الحكام الظالمين والملوك الجائرين
الذين كانوا مستعبدين لها ، وتذكر مبادئ الثورة الهائلة التي كانت مبدأ الانقلاب
العظيم في أوربا ، وقد كانت تنشر في الجامعة ولا نقرأها فلما قرأنا الجزء الذي
جمع وطبع على حدته استحببنا تتبع القصة في المجلة. فنحث الذين يحبون
الاعتبار بأحوال الأمم مع الفكاهة واللذة أن يقرأوا هذه القصة وثمنها عشرة غروش
أميرية.
****
(رسالة البيان)
في رد جناية اليد واللسان عن مقام مولانا السلطان
وهي جواب عن سؤال يتعلق بحزب تركيا الفتاة ودعوته للإصلاح تأليف
حضرة داغستلي شمخان زاده عبد الله بك الشهير. صدرت هذه الرسالة وأهديت
إلينا نسخة منها فتصفحناها فإذا هي عذبة العبارة لطيفة الإشارة حسنة البيان قوية
البرهان. وقد سرني جدًّا أنني رأيت نحو نصف الرسالة منقولاً من (المنار) باللفظ
والمعنى ، ولكن المؤلف لم ينسب إلى المنار شيئًا من ذلك ولا نعتقد أنه يقصد بذلك
هضم حقنا ، ولكن نقول: لعل له عذرًا، فإن للمنار أعداء يسمون مدحه للسلطان
الأعظم ذمًّا ونصيحته غشًّا وخديعة ، وحسب المنار شعور صاحبه بالإخلاص وشهادة
قارئيه له من أفاضل الأمة بالخدمة الصادقة اقرأ من (رسالة البيان) ما بين الصفحة
44و89 تعلم أن جميع ما هنالك مأخوذ من المنار بحروفه ، واقرأ الخاتمة التي بحثت
عن الداء والدواء للأمة تجد ما بين الصفة 96 والصفحة 107 مأخوذ من المنار
بحروفه. وفيما عدا هذه وتلك كثير من كلام المنار مدغم في الكلام أو متضمن فيه
والرسالة كلها 116 صفحة.
فالحمد لله الذي جعل المنار موردًا للمدافعين عن الأمة وإمامها الأعظم السلطان
عبد الحميد أيده الله بنصره. وحسبنا هذا جزاءً في الدنيا على صدق الخدمة {وَمَا
عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(الأمنية)
تمنينا في الجزء الماضي لو جعل مولانا السلطان الأعظم أنجاله الكرام
رؤساء اللجان إعانة سكة الحديد الحجازية في الأقطار الإسلامية. وهي أمنية صادرة
عن قلب مخلص يهمه نجاح هذا العمل الشريف ويهمه أن يكون له أحسن الأثر في
تعلق قلوب إخوانه المؤمنين بخليفتهم وأميرهم الأكبر نصره الله تعالى. ولقد أصاب
ذكر الأمنية موقع الاستحسان من نفوس المصريين الصادقين والعثمانيين المخلصين
للدولة العلية فلهجت به ألسنتهم. ولكن الجواسيس السعاة الوشاة المحَّالين القتاتين
النمامين المذّاعين الكذابين الذين اعتادوا على قلب الحقائق وجعل الحق باطلاً
والحالي عاطلاً - قدروا على أن يستنبطوا من الأمنية سعاية غريبة الشكل والوضع
فكتب بعضهم إلى الأستانة شرحًا لها، واستخرج بزعمه مقاصد صاحبها وسيكون
جزاء هذا المحَّال المذاع كجزاء ذلك المحال الذي زعم أنه أبطل المنار ونسخ آيته من
الوجود
…
فإن حبل السعاية مع الكذب والاختلاق قصير ، وثوب الرياء والغش يشف
عما وراءه وستكون عاقبة الذين أساؤوا السوءى والعاقبة الحسنى للمتقين.
أين هذا مما كتبه رصيفنا العثماني الغيور صاحب جريدة الإخلاص الغراء من
التنويه بهذه الأمنية والاستدلال بها على إخلاص صاحبها للسلطان الأعظم ومن
موافقتنا عليها وجعل الأمنية اقتراحًا فهكذا يكون الذين يأخذون الأشياء بحقيقتها
ويقدرون الخدمة الصحيحة قدرها فجزاه الله خيرًا.
* * *
(بدعة قبيحة)
ما كان يخطر على بال أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن الاستهانة بالدين تصل
بأهله إلى أن يتعمد المنتسبون للإسلام تنجيس الجوامع التي تسمى بيوت الله تعالى
تشريفًا لها وتكريمًا وأن يبولوا بلا مبالاة على جدران المساجد التي أذن الله أن ترفع
ويذكر فيها اسمه. ولكن هذه الغاية من الضلال والاستهانة بالدين قد وصل إليها
بعض سفهاء المصريين، فإذا مر الإنسان بجانب جامع المرداني الذي يجدر بمصر
أن تفتخر به وتباهي غيرها من الأمصار الإسلامية يجد أن جدرانه لا سيما القبلي
منها تكاد تبلى من البول ، ولا يسكن تلك الناحية إلا المسلمون فيما أعلم. هذا
الجامع العظيم الذي بعد ما كادت تندرس أطلاله حملت لجنة الآثار القديمة ديوان
الأوقاف على إصلاحه فخصص له اثني عشر ألف جنيه وهي لا تكاد تفي
بالإصلاح المطلوب ، وقبل أن يتم تجديده أبلى البوالون ما تجدد منه ببولهم.
وليست هذه الشناعة مقصورة على هذا الجامع بل تتعداه إلى غيره من الجوامع
والمساجد المنحرفة عن الأسواق الغاصة بالناس ، وقد خصصناه بالذكر لما له من
الشأن المخصوص وقد استلفتنا إليه بعض جيرانه من فضلاء المسلمين الذين
يحترمون دينهم أشد الاحترام.
ألا يعلم الذين يقترفون هذا المنكر القبيح بأن الفقهاء قد صرحوا بأن من يلطخ
المسجد بالنجاسة يحكم عليه بالردة والخروج من دين الإسلام ، وأن المرتد تطلق
امرأته حتى إنه إذا تاب مما أوقعه في الردة وجدد إسلامه يجب عليه تجديد عقد
النكاح مطلقًا عند الحنفية وبشرط انقضاء العدة عند الشافعية؟ وإذا لم يجدد إسلامه
بالتوبة النصوح يموت على كفره، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في
مقابر المسلمين؟ وإذا كان هؤلاء لا حظ لهم من الإسلام، ولا قيمة لمعاهد الدين
عندهم، فيجب على الحكومة أن تردهم عن فعلتهم الشنعاء، وتعاقب من يرتكبها؛
لأن الله - تعالى - يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما ورد ، ونستلفت إلى هذا
سعادة محافظ العاصمة الفاضل الهمام، ونرجو أن تبعثه غيرته الملية على أمر
الشرطة (البوليس) والحراس بمراقبة أولئك الفاعلين، والقبض عليهم ليكونوا
عبرةً لغيرهم.
* * *
(حكم عادل)
حكمت محكمة عابدين في جلستها المنعقدة في 26 ربيع الأول (23 يوليو)
تحت رئاسة القاضي الفاضل محمد بك عفت رئيسها حكمًا غيابيًّا على عبد الحليم
أفندي حلمي مراد وزوجته أم صلاح الدين باختلاس أعداد من المنار ملك صاحب
هذه المجلة محمد رشيد رضا وألزمتهما بإحضار النسخ المختلسة أو بثمنها المقدر
بخمسين جنيهًا مصريًّا وبالمصاريف وأجرة المحاماة.
* * *
(سخاء حاتمي)
تبرع الجواد السخي علي بك التونسي أحد عظماء تجار الطرابيش في
الأستانة العلية بمبلغ 110 ليرات لكل كيلو متر من سكة حديد الحجاز فيكون
مجموع ما تبرع به مائتي ألف وتسعة آلاف ليرة ، وهذا هو الكرم الحميد ، وقد
أنعمت عليه الحضرة السلطانية بالرتبة الأولى من الصنف الثاني فلمثله فلتكن
الرتب أكثر الله في الأمة من أمثاله.
* * *
(وفاة وتعزية)
توفي في أوائل هذا الشهر الطبيب النطاسي البعيد الصيت في البراعة
بالأعمال الجراحية الدكتور محمد دري باشا عن سبعين عامًا فأسف جميع الفضلاء
على فقده وعدُّوه خسارة وطنية كبيرة لما كان له من المكانة بحسن سلوكه ومكارم
أخلاقه فنسأل الله - تعالى - أن يحسن عزاء أنجاله ويجعلهم خير خلف له وأن
يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جنته.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدنية العرب
نبذة ثالثة
السبب في تأخر الاشتغال بالعلم الدنيوي عن زمن الراشدين. العلم في الدولة
العباسية. من عضده في الشرق من دونهم. العلم في الأندلس وفي مصر. العلوم
الفلكية عند العرب. التنجيم والكهانة. السبب في اشتغال المسلمين بالتنجيم مع نهي
الدين عنه. العلم قبل الإسلام. الساعة الدقاقة. أخذ العلم للعمل. التحول بالعلم عن
العمل إلى النظريات وسببه. مشاهير الفلكيين. الاكتشافات والاختراعات
الإسلامية.
***
لا يظهر شيء في الكون إلا إذا وجد المقتضي لوجوده مع عدم المانع منه
والدين الإسلامي أعظم مقتضٍ للمدنية الحقة علومها وفنونها وأعمالها المادية والأدبية،
فأما آثاره الأدبية فقد وجدت بوجوده على أكمل الوجوه حتى إن المنتهين إلى
غايات المدنية الحاضرة لا يساوون بل ولا يقاربون أهل القرن الأول الإسلامي في
آدابهم الشخصية ولا الاجتماعية. وأما العلوم الرياضية والطبيعية واكتشاف أسرار
الكون وما يتبع ذلك من الأعمال المادية فلم تظهر في المسلمين إلا بعد تحقق الشرط
الآخر (عدم المانع) فإن المسلمين كانوا في أول ظهور الإسلام خصماء العالم
البشري الذين تصدوا لتهذيبه وترقيته وكانوا مهددين على حياتهم وجلين من انطفاء
نور دعوتهم، فلما أمن الخائف واطمأن الواجف واستقرت من الإسلام دعوته وعلت
كلمته ونفذت شوكته، انفتقت أرض العقول عن نبات ما بذره القرآن من بذور العلم
والعرفان. وقد سبق التنويه بهذا فلا نطيل به.
قام أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يستنهض الهمم ويستنزل الديم ،
ويبعث النفوس إلى إظهار استعدادها بكشف الحجاب عن وجوه مخدرات الطبيعة
وإفشاء أسرار الخليقة ، واقتدى به الخلفاء من بعده إلى أن جاء المأمون فكان قطب
الرحا لتلك الحركة بل كان مدار فلك العلم ومطلع كواكبه ومشرق شمسه ، وجرى
من بعده من العباسيين على آثاره ولكن بهمة أنزل من همته وحرارة أوطا من
حرارته ولم يضر هذا بالعلم لأن روحه فائضة من الإسلام نفسه ، ولذلك بقي قائمًا
على صراطه بعد ما صاح صائح الفتنة بالدولة العباسية وزلزل الخارجون عليهم
ملكهم زلزالاً. نعم إنه كان تارة يسير الوجيف وتارة يتخزل تخزلاً بحسب ضعف
الفتن وشدتها. وكان طاهر بن عبد الله رابع ملوك الطاهرية الذين كانوا أول بلاء
على العباسيين وعضد الدولة وشرف الدولة من البويهية كل يأخذ بعضد العلم
ويمد إليه ساعد المساعدة. وكان شرف الدولة يتلو تلو المأمون في تأليف الجميعات
العلمية لترقية الفنون. ولا ننسى فضل ملكشاه ومحمد شاه من السلجوقيين وأشد ما
مر بالعلم الذي أنار مصابيحه العباسيون عاصفة فتنة التتار فهي التي تداعت لها
أركان مدرسة بغداد وكادت تطفئ كل هاتيك الأنوار. وما كان مثل العلم في الإسلام
إلا كمثل الماء الغمر المتحدر إذا غاض في مكان فاض في آخر ، وإذا سدله مجرى
تحول إلى مجرى غيره، فلا تزول بالمرة أثباجه (مجاريه) ولا تنقطع أمواجه.
تحولت قوته من بغداد فأخذت ذات اليمين وذات الشمال وظهرت في دمشق الشام
وفي شيراز وسمرقند وغيرها من الأمصار الإسلامية حتى عم العرب والعجم فكان
من أنصاره التتار أنفسهم ولا ننسى أن العرب ينبوعه الأول ومنهم استقى واستمد
الآخرون.
تلك إشارة إلى شأنه في الشرق وما كان مغرب العالم الإسلامي بأقل من
مشرقه بهاء ، ولا فيضانه أقل رِيًّا ورواء فإن العرب وخلفاءهم الأمويين في
الأندلس فجروا أرض الأندلس بالعلوم عيونًا وأنهارًا. ورفعوا للمعارف صرحًا
عاليًا ومنارًا. وأفاضوا على أوربا من شموسهم أنوارًا. فكانت أشبيليه وقرطبه
وغرناطه ومرسيه وطليطله مهبط أسرار الحكمة ومهد الآداب والصنائع. ولقد علا
مد العلوم ثمة ففاض على بلاد البربر فكان في طنجه وفاس ومراكش وسبته من
معاهد العلم ما سامى أصحابه علماء عواصم الأندلس.
وأما مصر وهي صدر البلاد الإسلامية في القديم والحديث فلم يكن حظها من
العلم بعيدًا من حظ الجناحين، فإن العبيديين فيها نصروا العلم نصرًا مؤزرًا فإذا كانت
دار الحكمة قد طفئت أنوارها وعفت آثارها فهذا الأزهر قد صابر الأيام وغالب
الأحوال والأعوام وبقي شاهدًا عدلاً وحكمًا فصلاً ينشد بلسان المعز.
تلك آثارنا تدل علينا
…
فانظروا بعدنا إلى الآثار
هذا مجمل من خبر مدنية العرب وإن أبيت إلا التفصيل فدونك منه جملاً.
***
العلوم الفلكية
كان عند العرب رشاش من معرفة الظواهر الفلكية مشوبًا بخرافات التنجيم
الموروث عن الأقدمين فحكم الإسلام بمحو ضلالة التنجيم فيما محاه من ضلالات
الكهانة والعرافة وأجاز ما عدا ذلك واستلفت الأنظار إلى الاعتبار به والاستدلال
على حكمة مبدعه ومدبره ، ولكن التعليم إذا لم تتربَّ عليه الأمة بالعمل لا يقوى
بمجرد القول على استئصال الأهواء لا سيما إذا كانت موروثةً ، وحب الإشراف
على ما في ضمير الغيب من الأسرار وما يجيء به المستقبل من الحوادث من أقوى
الأهواء البشرية وهو الذي فتن الناس بالكهان والدجالين واستعبدهم للعرافين
والمنجمين. لهذا ظل التنجيم في الإسلام مقرونًا بعلم الهيئة الفلكية ومن أسباب
ارتقائه على كثرة ما ورد في التنفير عنه. ومن أسباب تقدمه الحقيقية الاستعانة به
على معرفة سمت القبلة ومواقيت الصلاة ، وقد جعل العرب كل واحد من هذين
علمًا مستقلاًّ بذاته عن سائر العلوم الرياضية.
لما ظهر الإسلام كانت العلوم والمعارف متلاشية عند جميع الأمم وكان في
النصارى بقية استعان بهم العرب على ترجمة كتب فلاسفة اليونان كأرسطوطاليس
وسقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم، وقد أحسن المهدي والرشيد
صلة هؤلاء المترجمين وأفاضا عليهم النعم ، ثم وجد في المسلمين من يحسن
الترجمة ولم يكن أولئك المترجمون متمكنين من العلوم التي نقلوها إلى العربية ،
ولذلك وقع فيها الغلط الكثير فصححه بعد ذلك الراسخون في العلم من العرب كما
صححوا كثيرًا من غلط اليونانيين أنفسهم، وسنُلِّم ببعض ذلك في تضاعيف الكلام.
أول من نعرفه من النابغين في ذلك العصر من المسلمين (ما شاء الله) الفلكي
المؤلف في الإصطرلاب ودائرته النحاسية وأحمد بن محمد النهاوندي وأول من
أحسن الترجمة حجازي بن يوسف معرب كتاب إقليدس. تناول العرب هذه الكتب
من قوم كان حظهم منها حفظها على أنها من أعلاق الذخائر ومآثر الجيل الغابر ،
ومن كان عنده أثارة من علم فإنما هي لوك الكلمات وترديد العبارات ، فكان من
بصيرة العرب أن يأخذوا العلم للعمل عملاً بالحديث الشريف: (من عمل بما علم
ورثة الله علم ما لم يعلم) ولذلك ظهر أثر العمل في عصر الرشيد وناهيك بالساعة
الدقاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شرلمان ملك فرنسا ومصلحها وعظيم
أوربا لعهده ، ففزع الأوربيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت
فيها الشياطين وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع.
ولو استقام العرب على هذه الطريقة لبارك الله لهم في ثمرة العلم وكان ذلك داعيًا
لاستمرار الترقي فيه ، ولكن صدفت دون ذلك الصوادف وأهمها: مزج الدين بالعلم
وما تبع ذلك من المجادلات والمناظرات التي جعلت وجهة العلم نظرية محضة
فعقمت بعد النتاج وتحول كمالها إلى خداج.
واتل عليهم نبأ المأمون ورقيه بهذه العلوم والفنون. استخرج هذا الإمام لقومه
العلم من أثينا والقسطنطينية بما أحسن من الصلة بينه وبين ملوكها من اليونانيين
وأنفق بسعة على ترجمة الكتب التي اجتلبها من بلاد اليونان ومن بقاياهم في مصر
والإسكندرية فترجمت في عهده هندسة إقليدس، وتيودوس ، وأبولوينوس
وإيسيقليس ومينيلوس ، وشرحت مؤلفات أرشميه في الكرة والأسطوانة وغيرها ،
وألف يحيى بن أبي منصور زيجًا فلكيًّا مع سند بن علي ، وكان هذا قد ألف أرصادًا
مع خالد بن عبد الملك المروزي في سنتي 217 و218هـ، وهذان هما اللذان
قاسا مع علي بن عيسى وعلي بن البحتري خط نصف النهار بين الرقة وتدمر ،
وألف أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب، وحسبوا
الخسوف والكسوف وذوات الأذناب وغيرها والسوادات التي بقرص الشمس
ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي وقدروا ميل منطقة فلك البروج وأصلحوا بأمر
المأمون غلط كتاب المجسطي لبطليموس الذي ترجم على عهد أبيه الرشيد ، ورصد
أحمد بن محمد النهاوندي السماويات وألف أزياجًا جديدة ولخص محمد بن موسى
الخوارزمي للمأمون الأزياج الفلكية الهندية ، ثم توالى البحث في الشرق مصحوبًا
بالاكتشاف والاختراع ، وبرع في الفلك خلق كثيرون منهم محمد وأحمد وحسن أبناء
موسى بن شاكر الذين كملوا الزيج المصحح ، وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس
في السنة الفارسية وحددوا ميل وسط منطقة البروج في مرصدهم (رصدخانه)
المبني على قنطرة بغداد ، وعرفوا فيه فروق حساب العرض الأكبر من عروض
القمر ، وعمل كبيرهم محمد تقويمات لمواضع الكواكب السيارة استعملت إلى ما بعد
زمنه وعرب تلميذه ثابت بن قرة (المتوفى سنة 287هـ) كتاب المجسطي ثانية ،
وبين تصحيحات من تقدمه من عهد الرشيد لأغلاط بطليموس وزاد عليها ملاحظات
مفيدة ، وممن ألف في الأرصاد والأزياج أبو العباس فضل بن حاتم النيريزي شارح
المجسطي، وقد صحح هذا أغلاطًا في أرصاد الفلكيين المتداولة إلى زمن المأمون ،
وبين في أزياجه الخسوف والكسوف ومحاق الكواكب السيارة وعمل بأزياجه من
بعده مدة قرن واحد ، ومن أشهر فلكيي المشرق محمد بن عيسى المهاني ،
والبتناني الذي سماه الإفرنج بطليموس المسلمين (المتوفى سنة 317هـ) .
وهو الذي جمع كليات المعارف المكتسبة في عصره ، وألف أربعة أرصاد
في الشمس والقمر ورسالة في الفلك ورصد السماء بالرقة ، ومنهم علي بن
أماجور وأخوه، اللذان رصدا السماء وأَلَّفَا زيْجًا عجبيًا وبَيَّنَا طريقة جديدة
لاكتشافات فلكية وفروقًا ظاهرة في حساب حركات القمر كما حسبها اليونان والعرب
من قبل كما بينا أن حدود أكبر عروض القمر ليست واحدة دائمًا ثم جاء من بعدهما
أبو القاسم علي بن الحسين الملقب بابن الأعلم وعبد الرحمن الصوفي اللذين تعلم
منهما الفلك الملك عضد الدولة البويهي ونبغ في عصره وعصر أخيه شرف الدولة
(وقد مر ذكرهما) كثيرون لما كان لهما من العناية بتعضيد الفنون.
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: مصطفى صادق الرافعي
الشعر العربي
تتمة
لحضرة الأديب اللوذعي مصطفى صادق أفندي الرافعي
أما فنون الشعر فما زالت الأيام تلد أخًا بعد أخ من لدن امرئ القيس حتى
وقف أبو تمام في طريق أبنائها فقبض على عشر بأصابعه وقام عليها بحماسته
يعرفها الشعراء فلا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إلا ومنها في أذهانهم ما يفعله
شؤبوب الغادية بالروضة القحلاء وهنالك ضرب بينهم وبين معشش الأبناء (كذا)
بسد فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا.
بينما كان الشعراء في هذا القيد يهيمون في كل واد بين حماسة ومراثٍ وأدب
وتشبيب وهجاء وإضافات وصفات وسير ومُلح ومذمة الجنس اللطيف - كان عبد
العزيز بن أبي الأصبع يستنزل الفنون من شعف القلال إلى سهل الخيال حتى مثلت
لديه ثمانية عشر ليس وراءها مطلع لناظر. فجعلها غزلاً ووصفًا وفخرًا ومدحًا
وهجاءً وعتابًا واعتذارًا وأدبًا وخمريات وزهدًا ومراثي وبشارة وتهانيَ ووعيدًا
وتحذيرًا وتحريضًا ومُلحًا وبابًا مفردًا للسؤال والجواب. على أنه في ذلك لم يخل
من خطل في الرأي ، أما وإن لكل من تلك المنازع طريقًا لا يجوزه الشاعر حتى
يتزود بعد إجادة الصناعة مع الأدب الحقيقي قول ابن رشيق المتقدم.
وإن لنكوص العمران على عقبيه تأثيرًا في أذهان الشعراء، فقد وجد منذ عنَّ
قريب فيما جاور البلاد العربية كبغداد والموصل وديار بكر وغيرها، شعراء لا
يميزهم عن أهل الجوابي والبضيع وحومل إلا ضعف الأسلوب، هذا ديوان الشيخ عبد
الغفار الأخرس لو بسط فيه النظر جناحيه حتى يجمع إلى أوله آخره ما خرج الفكر
بمعنى جديد على كثرة ما فيه من الأبيات.
ولقد بقي ذلك البرق يلمع حتى انخدع بخلبه شعراء اليوم في تلك الجهات
وأمثالها. وعجيب أن ينطق بلسانهم المصريون وأمامهم الغور الذي لا يدرك
والبحر الذي لا يخاض ، وفي بلادهم ما يأخذ بمعاقد البيان ويغنيهم عن جرعاء
الحمى وحسك السعدان. انتشر في مصر الشعراء كالجراد المنتشر حتى لم تكن
سهمة أكثرهم (قسمته وحظه) من الشعر إلا كالهباءة في الأجواء الثائرة وكيف لا
يكون أكثرهم عالة على الشعر وأهليه والأدب ومنتحليه ما دامت البلاغة (خاوية
الوفاض بادية الانفضاض) .
أذكر أن ليلة جمعتني بعالم يدرس البلاغة فأخبرني أن له في الشعر يدًا وأن
هذا الفن من السهولة بحيث لا يعتبر كغيره من الفنون فحدا بي الشوق أن أرى ما
وراء كلامه فقلت له: إن رأى الأستاذ أن يجيز (ورد الخدود ودونه شوك القنا [1] )
فما هي إلا هنيهة جال فيها بخاطره ثم استرعى الأسماع واستفرغ الأفكار وظهر
عليه الطرب حتى خِلت أن مِن وراء استرعائه ما يُخجل أبا تمام وحزبه، فإذا هو
يقول:
ورد الخدود ودونه شوك القنا
…
فذِ يا أخيّ فارحما
فوالله ما تصيب القنافذ بأشواكها
…
ما أصاب منا شوك قنافذه
هذه نادرة لم يظفر ابن الأعرابي بمثلها ولم يكن في تاريخ الشعر العربي كله أحسن منها.
ولشد ما لقي الأدب من أولئك! فإنه أكثر مما لقي البازي عند المرأة العجوز [2] .
ألم تر كيف زعم الغربيون ومن يتعصب لهم من أبناء الشرق أن العرب لم
تذق ألسنتهم من البلاغة إلا كما تذوق الأعين من النوم غرارًا ومضمضة. وإن لهم
لعذرًا في ذلك ما دام شعراؤنا بمعزل عما يقوله الشاعرون ، وربما ركب هواه من
ليس يعرف مبلغ العرب من الحكمة فارتفع بشكسبير وروبرت وألفرد ده موسييه
وجايتي وأضرابهم إلى الذروة ونزل بامرئ القيس وزهير والمتنبي وأمثالهم إلى
الحضيض واستدرج بأبي العلاء - الذي يلقبه الإفرنج بحكيم المشرق- وعلاء
الدين الوداعي وأنداد هؤلاء من سالفيهم، ولكنه كدم في غير مكدم واستسمن ذا ورم.
لعمري - وما عمري علي بهين - لو كان الملك الضليل [2] في عصر الإفرنج
الذي ينطق الأبكم ويحل عقدة البيان من اللسان، لتهافتوا على أقدامه تهافت الذباب
على الشراب ، وما وجدوا إلى شق غباره من سبيل.
هذا الشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي جاء في زجله المجرد من الإعراب
تجريد السيف من القراب بما يضارع أعظم خيالات الإفرنج قاطبة وهو من
المتأخرين لم ينسم من عرف المدنية ما نسموه، حيث يقول في وصف خياط سأله
أن يصفه:
صف جبيني وشعري من تفصيل
…
نظمك المبتكر
قلت: خيط الصباح يستفتح
…
ذيل الدجى في السحر
قال لي قصرت بل هو ستر الله
…
حين علي أسبلوا
حابك الزرقا فاتق الخضرا
…
بالهلال كللوا
ولست أرى فيما ينم عن فضل العرب في شعرهم أطيب من قول النعمان وقد
حاجه كسرى في قومه: (وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق
كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالإشارة وضرب الأمثال وإبلاغهم في
الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس) .
إنما العبء على عاتق شعرائنا اليوم. كيف يضيء المغرب ويظلم المشرق؟
فما لنا وللجزع اليماني وهذا اللؤلؤ والمرجان ، وما لنا ولحصباء العقيق وهذا العقيق
والعقيان ، وما لنا ولماء الغدران ينساب كالحيات وهذه سحب النعيم غاديات
رائحات وأمام العين ما يذكر الجنان ويعلم الإنسان ، كيف يكون الشعر في الشعراء
ولا أخال أطروفة ابن الجهم تخفى على أديب.
بقي أن الناس يقولون: إن الشعر العربي كشجرة الدفلى، إذا أكلها مغتر
برونقها أودت به إلى حيث لا يردد أنفاسه وضربت أسدادها بينه وبين السعادة.
ولقد يصيب هذا القول غرضه من الحق ما دامت الدلاء ينهز بها الناس مع الغواة
وما دامت الأمة لا توقظ الأفئدة من سباتها العميق.
هذه حالة أولئك يعدون ما كان من هذا القبيل كأنه حماسة العصر تركها أبو
تمامه. وغير أمتنا جرى شأوًا مغربًا لا يرغبون من الشعراء إلا أن يلقوا بين
أعينهم مجد البلاد وفخر العباد فلا ينظمون غير منثور الآثار ولا يدَعون لسوء
الأحدوثه من قرار وكل منهم كما قال شاعرنا أبو النجم البُستي:
له قلم حده لا يكل
…
إذا كان في الحرب سيف يكل
فيوجز لكنه لا يخل
…
ويطنب لكنه لا يمل
وهل سبقهم لذلك إلا نابغة بنى ذبيان؟ حُصر أربعين يومًا فانتصر قومه فأخذه
الطرب لمجدهم حتى قال الشعر ونبغ فيه؟
يستشف الناس معائب شعر العرب القديم في عصر التمدن الجديد فلا يجدون
من الشعر ما كان يجده القائلون من قبل وهيهات أن يكون منه في شيء قول امرئ
القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
إذا أنشد الناس في الأزبكية مثلاً حيث لا تكركره صبا نجد ، ولا تهتف به أجلاف
العرب في سقط اللوى بين الدخول فحومل. وما أحسن الشعر إذا كان ملبسه يشوق
ومنظره يروق لا تلج به الصلابة ولا تملؤه الصبابة يتناول المعنى دونه النجم علوًّا
والنسيم رقة ولطافة ، وحبذا أن يكون للشاعر غير البلج والدعج إلخ مما يعيد مجد
بلاده ويرفع ما تأود من عمادها ، وأسلوب الشعر المتين أن يكون اللفظ بقدر المعنى
لا زائدًا فيفرط، ولا ناقصًا فيفرّط.
قال خلاد لبشار بن برد: إنك لتجيء بالشيء المتفاوت ، فقال: وما ذاك؟
قال: بينما تجيء بالشعر يثير النقع ويخلب القلوب مثل قولك:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة
…
ذرى منبر صلى علينا وسلما
إلى أن تقول:
ربابة ربة البيت
…
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
…
وديك حسن الصوت
فقال: لكل شيء وجه وموضع ، وهذا قلته في جاريتي ربابة وهو من قولي
عندها أحسن من (قفا نبك) من ذكرى حبيب ومنزل.
وفيما قدمناه ما يكفل للمتأمل أن يمر به في المجلة البيضاء حتى يجيء من
البيان بالسحر ومن الشعر بالحكمة.
_________
(1)
صدر بيت لناصح الدين الأرجاني الفقيه المشهور القائل:
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع بالعصر أو أنا أفقه الشعراء
وتمامه (فمن المحدث نفسه أن يجتني) أصلها فيما قيل أنه كان لبعض الملوك باز وكان به مغرمًا فأطلقه يومًا على صيد فذهب ولم يعد وكان قد نزل في بيت عجوز فلما رأت منقاره ظنت أن شكله بدونه يكون جميلاً فقطعته ثم ارتأت ذلك في مخالبه فألحقتها بالمنقار وجزت جناحيه وبينما أتباع الملك يبحثون عنه وجدوه عندها فلما رآه سيدهم أمرهم أن ينادوا عليه أمام الأعين: هذا جزاء من رمى بنفسه عند من لا يعرف مقداره.
(2)
هو امرئ القيس لقبه بهذا الإمام علي عليه السلام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أمالي دينية [*]
(الدرس العاشر)
م (31) صفات الكمال:
ثبت منا في الدروس السابقة أن هذا الوجود الممكن الذي نشاهده صادر عن
وجود واجب ، وأن واجب الوجود منزه عن مشابهة الممكنات وأنه واحد لا شريك
له وأن هذا الواجب هو إله الخلق المستحق لعبادتهم المسمى بلسان الشرع: (الله -
جل جلاله وأنه ليس لغيره سلطة ولا تأثير فيما وراء الأسباب التي يتعلق بها
كسب العباد ، بل له وحده السلطان الغيبي المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأن
الخضوع الذي يبنى على الاعتقاد بهذا السلطان وهو روح (العبادة) وسرها مهما
تعددت مظاهرها واختلفت أشكالها لا يكون إلا له. وهذا هو التوحيد الحقيقي والدين
الخالص الذي بعث الأنبياء عليهم الصلاة لتقريره عندما فشت الوثنية في الناس.
ونقول الآن: إن هذا الاله الواجب الوجود يدلنا العقل والنقل على أنه متصف بما
يليق به من صفات الكمال لأنه لما كانت ذاته أكمل الذوات لا جرم كانت صفاته
أكمل الصفات. وللناس على اختلاف مللهم مذاهب في فهم الصفات الإلهية أكثرها
يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد والحكم بالممكن على الواجب وبالحادث على
القديم وإلى الأخذ بظواهر الألفاظ التي وردت في الكتب المنزلة وكلام الأنبياء
والمرسلين من غير فهم ولا عقل ، ولا يليق بصاحب البصيرة في الدين أن يأخذ
بمذهب من تلك المذاهب أو يتقيد برأي من آراء أربابها بل عليه أن ينظر بعقله؛
ليثبت له بالبرهان ما تتوقف عليه الألوهية من الصفات للواجب ثم ينظر في إثبات
الرسالة وبعد ثبوتها بالعقل يمكنه أن يفهم ما يسنده الرسول إلى الله - تعالى - من
الصفات على الوجه المطابق لما قام عليه البرهان العقلي.
م (32) يقسمون الصفات الثبوتية [1] إلى:
صفات ذات وصفات أفعال ، ويقسمونها باعتبار آخر إلى محكمات ومتشابهات
ويقسمون صفات الذات إلى نفسية ومعاني ومعنوية ، وقالوا: إن الوجود هو
الصفة النفسية وأنه لا صفة نفسية سواه وهي أغلوطة علمية صدرت من بعض
المتأخرين فتبعه عليها من لا نحصي من أسرى التقليد إلى يومنا هذا كما تبعوه في
إثبات الصفات المعنوية ولكن فضل الله تعالى لم يحرم المسلمين في عصر من
الأعصار من علماء نبهوا على أن هذا الاصطلاح ما أنزل الله به من سلطان ولم
يقم عليه في العقل حجة ولا برهان. والمشهور عن العلماء في القرون الأولى أنهم
كانوا يطلقون لفظ (الصفات) على المتشابهات فقط ، وجماهير العلماء حتى اليوم
على إثبات صفات المعاني ولهم فيها تفسير وأحكام لم تعرف عن السلف الصالح.
فلم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة السَّنية ولا في آثار التابعين شيء من هذه
الاصطلاحات (إلا المحكم والمتشابه) ولا أن الصفات عين الذات أو غير الذات أو
لا عين ولا غير أو أنه لو كشف عنا الحجاب لرأيناها. ونحن لا نطعن بعلم
واضعي هذه الاصطلاحات ولا بدينهم بل نقول كما أمرنا الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) وإنما نختار طريقة السلف الصالحين فهي باتفاق
الخلف أسلم وأحكم. ونقول أيضا: إنها أعلم، خلافًا لكثيرين يتوهمون أن هذه
الاصطلاحات في علم العقائد تعطي الباحث بصيرة وتكون أعون له على الفهم
وأقرب إلى البصيرة والبرهان لأننا نعتقد اعتقادًا يؤيده الاختبار والمشاهدة أن الذين
يأخذون عقيدتهم من هذه الاصطلاحات أكثرهم يتخبط في ظلمات الحيرة يأخذها
بالتقليد الأعمى فيضمها إلى التقليد بأصل العقيدة ويضم إليها ما يوردونه عليها من
الحجج تقليدًا على تقليد، فإذا طولب بالبرهان ممن يناقشه في تلك الألفاظ المحفوظة
أو سئل كشف شبهة غشيتها حاص حيصة الحمر واضطرب واضطراب الرشاء
في البئر البعيدة القعر.
طريقة القرآن الحكيم التي استقام عليها الصدر الأول هي الطريقة المثلى وهي
عرض المخلوقات على العقول ومطالبتها بالنظر فيها بأي وجه من الوجوه، فلنرجع
إلى هذه الطريقة ولنثبت بها الصفات التي لا تتحقق الألوهية في العقل بدونها وهي
العلم والإرادة والقدرة، وكذا الحياة على الوجه الذي جرى عليه أستاذنا (في رسالة
التوحيد) وهذا هو الذي اشترطناه في ابتداء إلقاء هذه الدروس وإنما أشرنا إلى
اصطلاحات المتأخرين في الصفات وبينا أن فهم العقيدة أقرب بدونها؛ لأن الذين
تعلموا على الطريقة الشائعة في العقائد - طريقة السنوسي رحمه الله تعالى -
يظنون أن العقيدة التي لم تذكر فيها الصفات العشرون عقيدة ناقصة وربما توهم
الغارقون في الجهل أنها غير كافية في الإيمان؛ لأن الإيمان بالله عندهم إنما يكون
بحفظ الصفات العشرين وأضدادها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وأما
المتشابهات فقد عقدنا لها فيما مضى درسًا مخصوصًا فليرجع إليه من أراد.
***
حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين
أجل وأوسع ما ألف في المعجزات الشريفة كتاب (حجة الله على العالمين في
معجزات سيد المرسلين) صلى الله عليه وسلم؛ فإن اسمه طابق مسماه، فقد جمع كثيرًا من معجزاته الشريفة وبشائر ودلائل نبوته العظمى بأوضح نقل وأشهره، فهو كتاب نافع جليل الإفادة لا نظير له في بابه ، تأليف العلامة العامل والمفضال التقي الكامل حضرة صاحب الفضيلة الشيخ يوسف النبهاني المكرم رئيس محكمة الحقوق ببيروت حفظه الله تعالى. وطبع بالمطبعة الأدبية فيها بأجمل حرف على ورق جيد وجلد تجليدًا حسنًا وهو 896 صفحة مع الرسالة الغراء التي في آخره بعد الفهرسة المسماة (خلاصة الكلام في ترجيح دين الإسلام) وهي غرر ودرر وموعظة حسنة وحكمة نافعة لكل إنسان وفقه الله إلى الهدى ، ويوجد بمصر في مكتبة الترقي وسائر المكاتب وثمنه ستة عشر قرشًا صاغًا ما عدا أجرة البريد.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد الحليم أنسي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... بالأزهر
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) الأمالي دروس كنا نمليها في جمعية شمس الإسلام ثم اقتُرح علينا أن نثبت ملخصها في المنار، وآخر درس منها نشر في الجزء الثالث من منار هذه السنة.
(1)
المراد بالصفات الثبوتية ما يقابل الصفات السلبية المستنبطة من معنى واجب الوجود وتنزيهه كالقدم والبقاء وقد تكلمنا عليها في مبحث التنزيه من الدروس السابقة، وتسميتها صفات، وضع اصطلاحي لبعض المتأخرين قلده فيه المؤلفون إلى اليوم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
العيد الفضي وعيد الجلوس السلطاني
في نهاية شهر أغسطس الحاضر يتم لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين وخليفة
المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد خان خمس وعشرون سنة على عرش
السلطنة، وقد جرت عادة الأوربيين بأن يقيموا للملك الذي يتم له هذا القدر من
السنين في المُلك احتفالاً يسمونه (اليوبيل الفضي) وستحذو الأمة العثمانية هذا
الحذو وتحتفل بهذا العيد الوطني احتفالاً عامًّا يكون بهجة للناظرين ، وقد ابتدأ
المصريون في الاجتماع للاستعداد لذلك وقد جرت العادة بأن الاحتفال بعيد الجلوس
السلطاني يفوق كل احتفال يكون في البلاد العثمانية ما عدا الأستانة العلية ، وقد
كتبت الجرائد اليومية ما يفيد أن المشتغلين بالاستعداد للاحتفال قد انقسموا قسمين
وجعلوا الجمعية جمعيتين وهذا فشل يؤدي إلى اختلال العمل، ولا بد أن يزول
قريبًا إن لم يكن مقصودًا
…
ولا نخاله إلا عارضًا يزول باتفاق العقلاء والمخلصين.
***
وعدنا بأن نكتب في هذا الجزء شيئًا على ما توقفنا فيه من الشاعر المجيد
الشيخ عبد المحسن أفندي الكاظمي ثم رأينا من الصواب أن نكتب إليه نسأله عن
ذلك وننشر ما يجيب به فلينتظر ذلك القراء إلى الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
مولد أبي العيون
كنا ذكرنا أن الحكومة أمرت بإبطال هذا المولد بناء على ما نُمي إلى سعادة
الفاضل حشمت باشا مدير أسيوط من المفاسد التي تكون فيه، ثم صرحت الحكومة
ثانيًا بالإذن بإقامته بعد ما مر وقته العادي، وأخبرنا بعض الأفاضل بأن هذا الإذن
الجديد مبني على عدم ثبوت ما أشيع سابقًا من المنكرات وأن سعادة حشمت على
بينة من هذه البراءة بعد الاختبار. وعسى أن يكتب إلينا بعض من يحضر المولد
في هذه الأيام عما يشاهده فيه لننشره خدمة للحقيقة.
تهنئة
انتخب صديقنا الفاضل العالم المؤرخ المدقق جرجي أفندي يني الطرابلسي
عضوًا في الجمعية العلمية الأسيوية في باريس بتصريح من العلامة كلرمون كاينو
وخير ما يكافأ به العالم من حيث هو عالم أن يقدر قدره ويرفع إلى ما يستحقه من
المراتب والأعمال، فنهنئ صديقنا باعتراف الغرب بفضله كما اعترف الشرق ،
ولكن الشرق على اعترافه لم يرفعه إلى ما هو جدير به بحيث ينفع بعلمه ، وهذا
هو الفرق بين الخافقين فنعزي أنفسنا على ذلك بسعي الساعين منا في ترقية الأمة
وكشف الغمة.
دودة القطن
يؤخذ من المقالة التي نشرتها جريدة الإخلاص الغراء ونوهنا بها في جزء
سابق أن الفلاحين يقطعون ورق القطن الذي يرون فيه الدودة، وأن هذا يعرض لوز
القطن للشمس والندى في وقت يضر الشجرة ذلك، على أن هذه الطريقة لتنقية الدود
غير كافية إذ لا يمكن اصطلامه بها ولو أمكن لاحتاج إلى نفقة كبيرة لا يفي بها
ربح الغلة. ثم أشار صاحب المقالة بطريقة، قال: إن الاختبار هداه إليها بعد
عشرين عامًا زاول فيها الأمر بنفسه، وهي: يوجد طير يشبه العصفور الدوري
يأوى إلى الحرث في أيام الصيف. ويختار شجر القطن وما أشبهه ليتقي الحر بظله
ويتغذى من الحشرات التي توجد فيه ومنها دودة القطن. ثم يجيء في شهر
أغسطس (الموافق مسرى القبطي) الطير المسمى عصفور النيل وهو يأكل الدودة
أيضًا ولكن الفلاحين لجهلهم يروعونه ولو بغير الصيد ليفر، فالطريقة أن تُترك هذه
الطيور وشأنها وأن يكون حرث القطن لها حرمًا آمنًا وهي تستأصل دودة القطن
فإنها تتبعها حتى عندما تتغلغل في التراب وقت الهاجرة ولو غاصت إلى بعد 25
سنتيمتر.
أهم الأخبار الخارجية
(اغتيال ملك إيطاليا)
في 30 من شهر يوليو الماضي اغتال فوضوي اسمه بريسي الملك همبرت
عظيم إيطاليا وكان عائدًا من شهود الاحتفال بالألعاب الرياضية في قرية مونزا، ومما
نقل عنه أن قرينته الملكة نهته عن السفر لشهود الاحتفال ولما علمت أنه لا بد له من
حضوره ألحت عليه بوجوب الحذر والتوقِّي من الاغتيال فصرح بأنه مستسلم
للقضاء والقدر الذي يؤمن به. وكان هذا الملك رحيمًا برعيته ومهذبًا في نفسه
ولذلك عظم وقع مقتله في أوربا حتى على كثير من الفوضويين أنفسهم.
(أوربا والصين)
ثارت طائفة من الصين تسمى البوكسر على الأوربيين فاغتالت بعض
المرسلين ثم سفير ألمانيا فاتحدت الدول الأوربية العظمى ذوات الأطماع في الصين
مع دولة اليابان وألفوا جيشًا مختلطًا للتنكيل بالصين لا سيما بعد ما علموا أن
البوكسر حصروا سفراء الدول كلهم في بكين وأشيع أنهم قتلوهم ولم يتحقق ذلك ،
وقد استولت الجيوش المتحدة على مدينة تيان تسين الصينية وهي عازمة على
الزحف على بكين عاصمة الصين ولكنها تخشى منه قتل السفراء واستئصال
الأوربيين وقد انضوت جمهورية الولايات المتحدة إلى أوربا في أمر الصين ويقال
أن الفوغفور (إمبراطور الصين) الذي يعتبر البوكسر ثائرين عليه عابثين بسلطته
طلب من الولايات المتحدة أن تسوي بينه وبين أوربا، والله أعلم بما سينتهي إليه هذا
الأمر العظيم.
(الرياض والمنار)
تنشر جريدة الرياض الهندية الزاهرة نبذًا من المنار تارة بحروفها وتارة
ملخصة تلخيصًا، فيسرنا ذلك منها ولكننا نستلفت محررها الفاضل إلى حقوق
الصحافة والعلم ، وأهمها عزو القول إلى قائله وإضافة الرأي إلى صاحبه، فقد
رأينا في آخر عدد ورد إلينا من جريدة الرياض نبذة ملخصة من مقالتنا (فرنسا
والإسلام) وخبر سرقة (الآثار النبوية الشريفة) وغير ذلك وكلها من غير عزو.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدنية العرب
نبذة رابعة
مدرسة بغداد وطريقة علمائها. اعتراف الإفرنجة لهم بالفضل. الأرصاد
المأمونية. أبو الوفاء الفلكي الميكانيكي واختراعاته ومصنفاته. التتار واهتداؤهم
ونصرهم للعلم. مرصد مراغة وامتيازه. الفلك في مصر. ابن يونس والزيج
الحاكمي ومرصد المقطم. اختراع الربع المثقوب وبندول الساعة الدقاقة. الفلك في
الأندلس والمغرب.. ..
ألمعنا في النبذة الماضية باشتغال علماء الإسلام بالفلك وما كان لهم من
الاكتشاف والتنقيح والتصنيف ألا وإن مدرسة بغداد كانت منبع هذا العلم كغيره
ومنها استمد سائر المسلمين الذين استمد من سؤرهم الغربيون بل الذين ترك أبناؤهم
تراثهم للأجانب فاستأثروا به وأنموه وصار مفخرًا لهم وحجة علينا. ولا يزال
فضلاؤهم يعترفون لنا بهذا الحق. قال بعض مؤرخي الإفرنجة: إن العرب
استقاموا عدة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد واتبعوا قواعدهم
وهي الانتقال من المعلوم إلى المجهول والوقوف على حقيقة الحوادث الفلكية
والانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب لا يعولون إلا على ما
اتضحت صحته وعرفت حقيقته ، ولهذا عَوَّلَ مَنْ بعدهم على مؤلفاتهم واعترف
ثابت بن قرة بأن ما في يده من الأرصاد الموضوعة في زمن المأمون كافية في تقدم
علم الفلك ، ومما يقضي بالعجب على الأوربيين أن العرب وصلوا إلى تلك الغاية
من المعارف الفلكية في بغداد من غير مرقب (تلسكوب) ولا إسطرلاب.
ذكرنا أن الذين نبغوا في علم الفلك على عهد عضد الدولة وأخيه كثيرون.
ومن أشهر هؤلاء أبو الوفاء محمد بن محمد الحاسب الذي اعترف بفضله المجمع
العلمي في باريس فقد أتقن هذا مع علم الفلك علم الميكانيكا ورصد ميل وسط منطقة
البروج (الأكليتيك) سنة 385هـ - 995 م برفع دائرة نصف قطرها خمسة
عشر ذراعًا وترجم لأول مرة كتاب ديوفنط وألف معادلة المركز والاختلاف القمري
السنوي أي الذي يحصل في سير القمر سنويًّا ، وأظهر في حساب سير القمر
اختلافًا ثالثًا وهو ما حسبه (تيكو براحه) الفلكي بعد ستة قرون من وفاة أبي الوفاء
الذي صحح الأرصاد القديمة حين رأى شرح بطليموس على القمر غير متقن وألف
كتبًا كثيرة أعلاها المجسطي الذي بين العلائق الغامضة بين أشكال الدوائر بما
اخترعه من قواعد الخطوط المماسة والخطوط المتقاطعة التي جرى عليها
المهندسون في حساب المثلثات واقتدى الأوربيون فيها بالعرب إلى هذا العصر ،
وكان علماء العرب قد استبدلوا الجيوب بالأوتار على عهد البتناني الذي تقدم ذكره
وعام وفاته أي قبل أبي الوفاء بقرن كامل. ومن مشاهيرهم البيروني وأبو سهل
الفلكي الذي حدد ثانيًا حركات الكواكب السبعة السيارة.
***
الفلك في أعاجم المسلمين
جلّت عناية الله في الدين الإسلامي واللغة العربية فإن التتار الوحوش الجهلاء
زحفوا على البلاد الإسلامية ليبيدوها فلم يكن بعد انتصارهم إلا ريثما مازجوا
المسلمين المغلوبين على أمرهم وعرفوا شيئًا من لغتهم حتى كشف عنهم الغطاء
فأبصروا نور الإسلام يتلألأ ويضيء الأرجاء فتنكشف به الحقائق وتستجلى الدقائق
دخلوا في الإسلام وكانوا أعوانًا للعلم وأنصارًا بل تسابق العلم والدين إلى عقولهم
فتارةً كان الأول يهدي إلى الثاني ، وطورًا كان الثاني يرشد إلى الأول ، ولا غرو
فهكذا شأن السبب مع المسبب والعلة مع المعلول. جمع هلاكو خان (وقد اختلف
المؤرخون في إسلامه) العلماء الرياضين والفلكيين وغيرهم واختار منهم نصير
الدين الطوسي فأفاض عليه الأموال فجمع الكتب الفلكية من بغداد، والشام ،
والموصل ، وخراسان ، وبنى بالمراغة المرصد المشهور وجعل في قبته ثقبًا تعرف
بأشعة الشمس النافذة منه درجات ودقائق سيرها اليومي وارتفاعها في كل فصل
فكان ذلك منه استعمالاً جديدًا للربع المثقوب الذي استعمله العرب من قبله. وجعل
في المرصد دوائر رصدية كبارًا وأرباع دوائر وكرات سماوية وأرضية وجميع
أنواع الإصطرلاب واستعمل فيه كثيرين من العلماء. وبنى ألوغ بيك مرصدًا في
دمشق ولما أتم كوبلاي خان أخو هلاكو فتح الصين نقل مؤلفات علماء بغداد إليها ،
وخلف ابنُ الشاطرِ الطوسيَّ فعمل أزياجًا اعتمد عليها العلماء بعده ، ولا ننسى أن
تيمورلنك وأولاده نصروا العلم بعد ذلك العيث والإفساد ومرصدهم في سمرقند كان
مشهورًا.
***
علم الفلك في مصر والأندلس والغرب الأقصى
قضت سنة الله - تعالى - بأن يكون نمو العلوم والفنون على حسب قوة
الدولة وسعة العمران لذلك تقلصت ظلال المعارف من بغداد بعدما أفلت شمس
العباسيين على ما بينا قبل. ولما دالت الدولة إلى الفاطميين في مصر طار
المشتغلون بالعلم في جو السماء يسامرون النجم الثاقب ويسايرون الفلك الدائب
وقد انتهت رياسة هذا الفن في القاهرة إلى ابن يونس الفلكي الشهير صاحب
الزيج الحاكمي ومرصد جبل المقطم المتوفى سنة 389هـ.
جرى ابن يونس هذا على آثار أبي الوفاء الذي نوهنا به آنفًا واتبع خطواته
ونظر في مؤلفات علماء بغداد وغيرهم وانتقد على أزياج النيريزي (الذي نوهنا به
في النبذة الثالثة) بعدم استقصائه في إصلاح أغلاط الفلكيين على أنه اعترف بفضله
واستفاد من أزياجه ، وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب وبندول الساعة الدقاقة وقد
خلف في الشرق كله المجسطي البطليموسي ورسائل علماء بغداد وظهر زيجه في
الفرس من بعده بنحو سبعين سنة. ومن مشاهير الفلكيين الأولين في مصر العتقي ،
وممن جاء بعد ابن يونس حسن بن هيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابًا ومجموعًا
في الأرصاد، وشرح المجسطي وتعاريف مبادئ إقليدس ، وقد انتفع بأزياجه
المسلمون من بعده واعتنى نصير الدين الطوسي بالزيج الحاكمي فعمل لتحقيقه
أرصادًا استغرق عملها اثنتي عشرة سنة ولو عملها على الحساب الأول لاحتاجت
إلى 30 سنة.
وأما الأندلس ، وبلاد مراكش فقد نبغ فيهما كثيرون في الفلك، وقد اقتبس
منهم الأوربيون أكثر مما اقتبسوا من عرب المشرق وكان الفيلسوف ابن رشد فلكيًّا
ألف في مساحة المثلثات الكروية وعزي إليه شرح على المجسطي، وظن أن نقطةً
سوداء في قرص الشمس يوم عرف من الحساب الفلكي زمن مرور كوكب عطارد.
ومن أشهر فلكيي الأندلس مسلمة المجريطي ، وابن أبي طلحة الذي عمل في
ثلاثين سنة أرصادًا مشهورة بالصحة واحتذى مثاله وجرى على أثره أرزاقيل الفلكي
فعمل في تحديد أوج الشمس من الأرصاد 402 وأرصاد أخرى لمبادرة حركة
الاعتدالين وألف الأزياج الطليطلية (نسبة إلى طليطلة إحدى مدائن الأندلس)
والأقوال الفرضية في تباعد الشمس عن مراكز أفلاك الكواكب السيارة ، ومنهم جابر
ابن أفلح الشبلي الذي ترجمت رسالته إلى اللغة اللاتينية.
ومن أشهر فلكيي المغرب الأقصى البتراش المعاصر لابن رشد الذي رأى
عدم انتظام دوائر المجسطي المتداخلة والمتقاطعة الدائرة حول مراكز الأفلاك
فاخترع في ترتيب الأفلاك والمراكز مذهبًا جديدًا بناه على رفض الفرضيات الفلكية
الباطلة التي كان يجهلها المتقدمون ، ومنهم أبو الحسن صاحب كتاب البدايات
والنهايات الذي طاف شبه جزيرة الأندلس وجزءًا عظيمًا من شمال أفريقية وحرر
ارتفاع القطب الشمالي في 41 مدينة أولها أفرانه على الساحل الغربي من بلاد
المغرب وآخرها القاهرة ، فأين تلك الهمم العالية في تحرير مسائل العلوم والعزيمة
الماضية في جوب الأقطار وقطع أجواز البحار؟ أواه إنني أسمع الكون الأعظم
يجاوبني قائلاً: إن هذه الروح قد انتقلت من المسلمين إلى الأوربيين والأمريكيين.
حتى صار الأولون يعجبون من الآخرين. عندما يرونهم سائحين ومؤلفين
ومخترعين ومكتشفين. وقد جهل المسلمون مآثر أسلافهم ولكن حفظها الأوربيون ،
فإنا لله وإنا إليه راجعون
وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا
…
مدى الدهر ما أبدوا من الفضل معجما
متى يذكر الأفضال فيهم خطيبهم
…
على منبر صلى علينا وسلما
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أمالي دينية
(الدرس 11)
(33)
الحياة والعلم والإرادة والقدرة
الحياة عرفوها بأنها صفة تصحح للمتصف بها أن يكون عالمًا مريدًا قادرًا
وقال أستاذنا في (رسالة التوحيد) : صفة تستتبع العلم والإرادة ولا يخفى أن هذه
العبارة آدب من الأولى والذي يتراءى أنها من الصفات السمعية التي لا يدل عليها
العقل بمجرده كما يدل على العلم والإرادة والقدرة إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن
صانعًا يقوم بصنعة بديعة منتظمة وهو لا يعلم ما يعمل أو وهو عاجز عن العمل أو أن
عمله الذي هو بغاية الإتقان والإحكام يصدر منه على سبيل المصادفة والاتفاق من غير
إرادة ولا اختيار. فهذا الكون البديع يدل مباشرة على أن مبدعه عليم حكيم مريد قدير
وأما دلالته على أنه حي فهي بالواسطة لأننا نعلم أن العالم القادر لا يكون إلا حيًّا ولكن
هذا العلم إنما جاءنا مما نعهد في أنفسنا وأمثالنا فوَصْف الله تعالى بالحياة بناء على أنه
عالم مريد قادر يشبه أن يكون من قياس الغائب على الشاهد والقديم على الحادث وهو
قياس غير منتج. ولهذا المعنى صرح من صرح من المتكلمين بأن الحياة من الصفات
السمعية التي لم نثبتها إلا لأن الله تعالى وصف نفسه بأنه (الحي القيوم) ولكن أستاذنا
سلك في الاستدلال على ثبوتها بالعقل مسلكًا لم نره لغيره على الوجه الذي قرره فنورده
ههنا وإن كان يعلو عن أفهام الكثيرين قال حفظه الله تعالى:
(الحياة - معنى الوجود وإن كان بديهيًّا عند العقل ولكنه يتمثل له بالظهور
ثم الثبات والاستقرار وكمال الوجود وقوته بكمال هذا المعنى وقوته بالبداهة) .
(كل مرتبة من مراتب الوجود تستتبع بالضرورة من الصفات الوجودية ما
هو كمال لتلك المرتبة في المعنى السابق ذكره وإلا كان الوجود لمرتبة سواها وقد
فرض لها. ما يتجلى للنفس من مثل الوجود لا ينحصر وأكمل مثال في أي مراتبه
ما كان مقرونًا بالنظام والكون على وجه ليس فيه خلل ولا تشويش فإن كان ذلك
النظام بحيث يستتبع وجودًا مستمرًّا وإنْ في النوع كان أدل على كمال المعنى
الوجودي في صاحب المثال.
فإن تجلت للنفس مرتبة من مراتب الوجود على أن تكون مصدرًا لكل نظام
كان ذلك عنوانًا على أنها أكمل المراتب وأعلاها وأرفعها وأقواها.
وجود الواجب هو مصدر كل وجود ممكن كما قلنا وظهر بالبرهان القاطع فهو
بحكم ذلك أقوى الوجودات وأعلاها فهو يستتبع من الصفات الوجودية ما يلائم تلك
المرتبة العليا وكل ما تصوره العقل كمالاً في الوجود من حيث ما يحيط به من معنى
الثبات والاستقرار والظهور وأمكن أن يكون له؛ وجب أن يثبت له. وكونه
مصدرًا للنظام وتصريف الأعمال على وجه لا اضطراب فيه يعد من كمال الوجود
كما ذكرنا فيجب أن يكون ذلك ثابتًا له فالوجود الواجب يستتبع من الصفات
الوجودية التي تقتضيها هذه المرتبة ما يمكن أن يكون له.
فما يجب أن يكون له صفة الحياة وهي صفة تستتبع العلم والإرادة وذلك أن
الحياة مما يعتبر كمالاً للوجود بداهة فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس
الحكمة وهي في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار في تلك المرتبة فهي كمال
وجودي ويمكن أن يتصف بها الواجب وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب
أن يثبت له فواجب الوجود حي وإن باينت حياته حياة الممكنات فإن ما هو كمال
للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة ، ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات
ما هو أكمل منه وجودًا وقد تقدم أنه أعلى الموجودات وأكملها فيه.
والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه فكيف لو كان فاقدًا للحياة يعطيها
فالحياة كمال له كما أنه مصدرها) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________