الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(سؤال وجواب وعبرة لأولي الألباب)
سأل سائل (اسمه قنديل) بما جاء في أول مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي
نشرت في المنار الماضي من العبارات الثلاث إشارة إلى إعادة مجد الإسلام ، فأنكر
علينا الإشارة بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) إلى أن ما قام
به الإسلام واعتز في أول أمره ، وتركه المسلمون فسلبوا مجدهم وعزهم هو
الذي يرجع به ذلك المجد والعز إليهم ، وسمى هذه الإشارة استنباطًا وقال: إنه
(غير مُسلَّم بل باطل وحرام) .
وقال في الإشارة الثانية ، وهي حديث (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ)
أن الحديث صريح في أن لا إعادة ، وأن رجوع الإسلام كما بدأ من علامات الساعة ،
وهو إنما يكون في آخر الزمان ، وقد جزم السائل بأن هذا الزمن هو آخر أزمان
الدنيا ، فيستحيل بمقتضى الحديث على رأيه وفهمه أن يعود للإسلام مجده ، ولذلك
رتب عليه الاعتراض على المنار في دعوة المسلمين إلى الاتحاد والسعي في إعادة
مجد الملة ، وقال في العبارة الثالثة التي أوردناها في صدر تلك المقالة وهي: (إن
التاريخ يعيد نفسه) أنها استعارة ، والعلاقة فيها بعيدة ، وقد طلب إجراءها للإيضاح
معللاً ذلك بأن الذين يطالعون المنار في البلاد لا يعرفون البلاغة فيفهموا إشاراته
الدقيقة.
ثم اعترض السائل على قولنا: إن ناموس الشريعة الإسلامية لا يتزلزل
ولا يزول؛ بأن الدليل الذي أوردناه عليه (وهو موافقة سنن الله في خلقه التي
أخبر بأنها لا تبدل ولا تحول) غير سديد ، قال: (إذ إخبار الله جل شأنه بأنها لا
تبدل ولا تحول لا ينفي زوالها بالكلية ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء إلى
آخره كما تقولون) وعقب هذا بالإنكار الشديد على التصريح بازدراء العلماء ،
وعدم فهمهم معنى كتاب الله مع أنه لم يستدل أحد منهم بآية كاستدلالنا بالآية التي
تقدمت إلخ- هذا ملخص ما كتبه إلينا السائل من (نكلا العنب) وقد طلب منا نشره
حرفيًّا ، والعذر في عدم إجابة طلبه هذا ما في عبارته من الركاكة والغلط الذي
نتحاماه في المنار ، وإننا نجيبه عن مسائله بما يأتي ، فعسى أن يصادف إنصافًا
وقبولاً.
(1)
إننا قلنا بعد إيراد الآية الكريمة والحديث الشريف والعبارة التي قالها
أحد علماء العمران ما نصه: (ولنوضح هذه الإشارات) ولا يجهل السائل فيما
نظن أن ما يؤخذ من القرآن الكريم بطريق الإشارة لا يسمى استنباطًا ولا تفسيرًا
ولا استدلالاً ، ولم يكن إيراد الآية في كلامنا على سبيل الاستدلال ، وإنما جاء في
جواب من سأل (كيف يعود للإٍسلام مجده إلخ) وقد أردنا به أن مجد الإسلام إنما
يعود كما بدأ أي أن الأصول والأعمال التي أخذ بها المسلمون عند ظهور الإٍسلام
فكان لهم بها ذلك المجد العظيم وزال مجدهم بإهمالها هي التي يعود المجد بالأخذ
بها، وهذا معنًى صحيح ، والأسباب تتصل دائمًا بمسبباتها ، والعلل لا تنفك عن
معلولاتها ، واحتمال الخوارق لا يخل بالقواعد الثوابث ، وقول السائل: إن هذا
باطل بل حرام ، فيه من الجرأة على الفتوى والتحريم ما ليس لمثله أن يقدم عليه ،
وقد ورد في ذلك من القرآن ما ورد.
(2)
حديث (بدأ الإسلام غريبًا) إلخ فيه من بلاغة الإيجاز ما لا يكاد
يوجد إلا في كلام الله ورسوله ، فإنه يدل على أن أهله ينحرفون عن صراطه
بالتأويلات والتقاليد على نحو ما كان ممن قبلهم كما يفسره الحديث الصحيح:
(لتتبعن أو لتركبن (روايتان) سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع)
ومعنى الانحراف مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (وسيعود غريبًا) فإنه إذا
كان معروفًا على حقيقته معمولاً به على جليته ، وقام داعي الإصلاح يدعو إليه لا
يستغرب ، بل لا معنى لعوده غريبًا حينئذ ولا للدعوة إليه ، وقد أخطأ الذين يفهمون
من الحديث أن الإسلام يضمحل ويتلاشى ، ثم لا يعود إليه مجده وعزته لأن هذا
المعنى لا يدل عليه الحديث ، وإنما صريحه أن الإسلام سيظهر مرة ثانية مثل
ظهوره في المرة الأولى ، وظهوره في المرة الأولى كان غريبًا في العالم ، ولكنه
على غرابته استعقب مجدًا كبيرًا وعزة وشرفًا ، وكذلك يكون في الكَرَّة الأخرى إن
شاء الله تعالى رغمًا عن أنوف اليائسين الذين سجلوا على هذه الأمة الشقاء بدينها
إلى يوم الدين.
وأما ضعف الإسلام بانحراف أهله عنه - كما ذكرنا - فإنما جاء بطريق
الاستلزام لا بطريق النص ، وقوله تبعًا لغيره: إن هذا من علامات الساعة؛ لا ينافي
ما نقول، فإن ظهور الإسلام في المرة الأولى من علامات الساعة أيضًا، ونبي
الإسلام صلى الله عليه وسلم هو نبي الساعة كما ورد في أحاديث كثيرة.
هذا ما نفهمه في الحديث وعلى فهمنا هذا قمنا ندعو المسلمين في المنار إلى
إحياء مجد دينهم بالرجوع إلى ما كان عليه سلفهم الصالح ، ولا آفة ولا بلاء على
المسلمين أشد من الذين يعلمونهم ما يوقعهم في اليأس والقنوط من سعادتهم ومجد
ملتهم لسوء فهمهم وانتحالهم علم الدين ، وهم ليسوا من أهله.
ومن البلاء أن هؤلاء الجهلاء يلبسون لباس العلماء ، ويُعادون الإصلاح باسم
الدين ، وينفِّرون من الداعي إليه بدعوى أنه يحتقر علماء المسلمين! !
(3)
طلب السائل إجراء الاستعارة في كلمة من قال: (إن التاريخ يعيد
نفسه) لأجل أن يفهمها من لا يعرف علوم البلاغة ، وهذا الطلب بهذا التعليل لا
يلوح إلا في أذهان المشتغلين بالعلم على الطريقة الأزهرية.
وظاهر أن سائر المقالة شرح لهذه الكلمة ، وملخصه أن الأمم التي تنتابها
السعادة والشقاوة مرة بعد أخرى إنما تسعد في الكرة الثانية بمثل ما سعدت به في
المرة الأولى ، فيكون تاريخها الحاكي عن حالها أعاد في الكرة الثانية ما كان قصه
وحكاه في المرة الأولى.
هذا ما أراده صاحب الكلمة منها ، وهو بعض علماء أوروبا، ومن البديهي أن
الذي لا يعرف علوم البلاغة لا يكون فهمه للعبارات ببيانها باصطلاحات تلك العلوم.
(4)
قال السائل: إن إخبار الله تعالى بأن سننه لا تبدل ولا تحول، لا
ينفي زوالها بالكلية ، ورتب على زعمه هذا بطلان استدلالنا على أن ناموس الديانة
الإسلامية لا يزول ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء بكونه مبنيًّا على سنن الله
في خلقه.
فيجوز عند هذا العالم النحرير أن يبقى الكون وتزول منه السنن الإلهية التي
بها قوامه ونظامه ، وغرضه من هذه السخافة إقناع الناس بزوال ناموس الدين
الإسلامي ، واليأس من رجوع عزه ومجده! ! اللهم إن هؤلاء الناس أضر على هذه
الأمة المكلومة من أعدائها شياطين الإنس والجن الأقارب منهم والأجانب ، فافصل
بينهم وبينها بالحق وأنت خير الفاصلين ، اللهم إن كتابك وما وهبتنا من العقل
يعلماننا أن الناس إذا اعتقدوا أن السعادة في ما عدا الدين الحق؛ فإنهم يأخذون بما هو
مسعد لهم في دنياهم فقد قلت: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 33) إلخ
الآيات.
وإن قومًا من المنتحلين لعلوم الدين يحاولون إقناع المسلمين بأن دينهم يسجل
عليهم الشقاء في الدنيا، فاصرف اللهم قلوب هذه الأمة المسكينة عن هذا العلم الضار،
واهد قلوب أهله لعلهم يرجعون ، ومن هنا علم من نعني بانتقاد المدعين للعلم.
مسألة فقهية
زرت في هذه الأيام مدينة الفيوم لمعاهدة جمعية شمس الإسلام التي تأسست
فيها ، فرغب إلي كثيرون من أعضاء الجمعية وغيرهم أن أخطب بالناس خطبة
الجمعة في أحسن جوامعها المسمى بجامع الروبي فأجبتهم لذلك ، وكان الذي استأذن
لي خطيبه فضيلة قاضي المديرية، واتفق أن الخطبة جاءت أطول مما اعتاد
الخطباء الذين يخطبون قراءة في الورق أو حفظًا منه ، فتوهم رجل من المشتغلين
بفقه الشافعية أن الصلاة لم تصح؛ لأن الخطبة لمن سبق إذا كانت المساجد التي
يصلى فيها الجمعة متعددة ، وذكر هذا أمام بعض الناس ، فسألوني فبينت لهم الحق
في المسألة وهو:
إن اجتماع وتعارف أهل البلد الذي تقام فيه الجمعة في بيت الله تعالى وعلى
طاعته وتلقيهم المواعظ التي ترشدهم إلى سعادتهم على طريقة واحدة هو الحكمة
الكبرى من هذه العبادة ، فإذا أمكن أن يجتمع الكل في مسجد واحد وتفرقوا في عدة
مساجد يكون تفرقهم خروجًا عن حكمة الاجتماع المقصودة ، وقد ذهب الإمام
الشافعي إلى أن الجمعة الصحيحة قطعًا هي لمن سبق بالصلاة من المتفرقين في عدة
مساجد ، معتبرًا أن الذي تأخر هو الذي عدَّد ، وأن الصلاة الأولى وقعت في محلها
وحيث لا يعلم السابق قطعًا وجب على جميع المعَدِّدين إعادة الظهر ، وأما إذا لم
يمكن اجتماع أهل البلد في مسجد واحد ، وتعددت المساجد للحاجة ولم تزد عنها،
فلا تجب إعادة الظهر على أحد ، وقد علمت أن التعدد في مدينة الفيوم للحاجة بل
إن العامر من مساجدها لا يفي بحاجة أهلها ، وعلى هذا لا تجب إعادة الظهر على
أحد فيها ، ولو فرضنا أن التعدد فيها لغير حاجة فلا يمكن لمن صلى في مسجد منها
أن يجزم بأنه سابق أو مسبوق لنحو طول خطبة أو قصرها؛ لأن ما اتفق حصوله
في هذا الجامع يمكن أن يكون حصل مثله في غيره أيضًا ، فالأمر مبني على
الاحتمال وفي الإعادة احتياط على كل حال.
_________