الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب الثالث من مكفرات الذنوب الجلوس في المساجد بعد الصلوات
والمراد بهذا الجلوس انتظارُ صلاةٍ أخرى كما في حديث أبي هريرة: "
…
وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" (1) فجعل هذا من الرباط في سبيل الله عز وجل، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتطاره، بخلاف من صلّى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول، فإن كان كلما صلّى صلاة جلس ينتظر ما بعدها فقد استغرق عمره بالطاعة، وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل.
وفي "المسند"(2) وسنن ابن ماجه (3) عن عبد الله بن عمرو قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا قد حفزه النفس، قد حسر عن ركبيته فَقَالَ:"أبشروا! هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: أنظروا إِلَى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى".
وفي "المسند"(4) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "منتظر الصلاة من بعد
(1) تقدم تخريجه.
(2)
(2/ 186، 208).
(3)
برقم (801) قال المنذري في "الترغيب"(1/ 282): رواته ثقات وأبو أيوب هو المراغي العتكي ثقة ما أراه سمع عبد الله والله أعلم ا. هـ.
وقال البوصيري في الزوائد (1/ 102): رجاله ثقات.
(4)
(2/ 352) قال المنذري في الترغيب (1/ 284) إسناد أحمد صالح وقال الهيثمي في المجمع (2/ 36): وفيه نافع بن سليمان القرشي وثقه أبو حاتم وبقية رجاله رجال الصحيح.
الصلاة كفارس اشتدَّ به فرسه في سبيل الله عَلَى كشحه (1) تُصلِّي عليه ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر".
ويدخل في قوله: "والجلوس في المساجد بعد الصلوات": الجلوس للذكر والقراءة وسماع العِلْم وتعليمه ونحو ذلك، لاسيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فإنَّ النصوص قد وردت بفضل ذلك، وهو شبيه بمن جلس ينتظر صلاة أخرى؛ لأنّه قد قضى ما جاء إِلَى المسجد لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى.
وفي "الصحيح"(2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".
وأما الجالس قبل الصلاة في المسجد لانتظار تلك الصلاة خاصة فهو في صلاة حتى يصلي، وفي "الصحيحين" (3) عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه لما أخر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلى بهم: قال لهم: "إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة".
وفيهما أيضاً (4) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الملائكة تصلي عَلَى أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إِلَى أهله إلا الصلاة".
وفي رواية لمسلم (5): "ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه".
وهذا يدل عَلَى أن المراد بالحدث: حدث اللسان ونحوه من الأذى، وفسره
(1) قال ابن الأثير: الكاشح: العدو الَّذِي يُضمر عدواته ويطوي عليها كشحه، أى: باطنه. والكشح: الخصر.
(2)
أخرجه مسلم (2699).
(3)
أخرجه البخاري (572)، ومسلم (640).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
برقم (649).
أبو هريرة بحدث الفرج، وقيل: إنه يشمل الحدثين.
وفي "المسند"(1) عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إِلَيْهِ".
وفي رواية له (2): "فَإِذَا صلّى في المسجد ثم قَعد فيه كان كالصائم القانت حتى يرجع". وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وبالجملة فالجلوس في المسجد للطاعات له فضلٌ عظيمٌ، وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يوطِّنُ رجلٌ المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله عز وجل به كما يتبشبش أهل الغائب إذا قَدِمَ عليهم غائبهم"(3).
وروى درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ألف المسجد ألفه الله"(4).
وقال سعيد بن المسيب: من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه عدَّ من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إِلَيْهِ"(5).
وإنَّما كان ملازمة المسجد للطاعات مكفرًا للذنوب لأنّ فيه مجاهدة النفس، وكفًا لها عن أهوائها فإنها لا تميل إلا إِلَى الانتشار في الأرض لابتغاء الكسب أو لمجالسة الناس لمحادثتهم أو للتنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة ومواطن النَّزه ونحو ذلك، فمن حبس نفسه في المساجد عَلَى الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله، مخالف لهواها وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد.
(1، 2) أخرجهما أحمد (4/ 159).
(3)
أخرجه أحمد (2/ 328، 453)، وابن ماجه (800) وقال البوصيري في الزوائد (1/ 102): هذا إسناد صحيح.
(4)
أخرجه ابن عدي (4/ 152)، والطبراني في الأوسط (6383).
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن دراج إلا ابن لهيعة، تفرد به عمرو بن خالد.
وقال الهيثمي (2/ 23): وفيه ابن لهيعة وفيه كلام.
(5)
أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).
وهذا الجنس -أعني ما يؤلم النفس ويخالف هواها- فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع فيه للعبد كالمرض ونحوه، فكيف بما كان حاصلا عن فعل العبد واختياره إذا قصد به التقرب إِلَى الله عز وجل؟!
فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الَّذِي يقتضي تكفير الذنوب كلها.
ولهذا المعنى كان المشيُ إِلَى المساجد كفارة للذنوب أيضًا، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله أيضاً، كما خرّجه الطبراني (1) من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الغدو والرَّواح إِلَى المساجد من الجهاد في سبيل الله".
كان زياد مولى ابن عباس أحد العباد الصالحين، وكان يلازم مسجد المدينة، فسمعوه يومًا يعاتب نفسه ويقول لها:"أين تريدين أن تذهبي؟! إِلَى أحسن من هذا المسجد!! تريدين أن تُبصري دار فلان ودار فلان".
لما كانت المساجد في الأرض بيوت الله أضافها الله إِلَى نفسه تشريفًا لها،
وتعلّقت قلوب المحبين لله عز وجل بها، لنسبتها إِلَى محبوبهم، وارتاحوا إِلَى ملازمتها لإظهار ذكره فيها {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36 - 37].
أين يذهب المحبون عن بيوت مولاهم؟!
قلوبُ المحبين ببيوت محبوبهم متعلقة، وأقدام العابدين إِلَى بيوت معبودهم مترددة:
يا حبّذا العرعرُ النجدي والبان
…
ودارُ قومٍ بأكناف الحِمى بانوا
وأطيبُ الأرض ما للقلبِ فيه هوى
…
سَمُّ الخَياط مع المحبوبِ ميدانُ
لا يُذكرُ الرَّملُ إلا حَنَّ مُغتربٌ
…
له بذي الرمل أوطارٌ وأوطانُ
يهفو إلى البان من قلبي نوازعُه
…
وما بيَ البانُ بل مَن دارهُ البانُ
(1) في "المعجم الكبير"(8/ 7739)، وفي "مسند الشاميين" (879) قال الهيثمي في المجمع (2/ 29 - 30): وفيه القاسم بن عبد الرحمن وفيه اختلاف.
وذكر الدارقطني في العلل (8/ 141) برقم (1460) اختلافًا في الحديث في الرفع والوقف ثم قال: والموقوف أولى.