الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثلاثون في ذكر صفات أهل النار وأصنافهم وأقسامهم
قد سبق قول ابن مسعود، أنّه لا يترك في النار سوى أربعة، وليس فيهم خير، وأخذه من قوله تعالى:{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 44 - 46].
وفي الصحيحين (1)، عن "حارثة بن وهب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم عَلَى الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟: كل عتل جواظ مستكبر".
والعتل قَالَ مجاهد وعكرمة: هو القوي.
وقال أبو رزين: هو الصحيح.
وقاله عطاء بن يسار: عن وهب الذماري، قَالَ: تبكي السماء والأرض من رجل ألم الله خلقه، وأرحب جوفه، وأعطاه معظمًا من الدُّنْيَا، ثم يكون ظلومًا غشومًا للناس، وذلك العتل الزنيم.
قَالَ إبراهيم النخعي: العتل: الفاجر، والزنيم: اللئيم في أخلاق الناس.
وروى شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم. فَقَالَ رجل من المسلمين: ما الجواظ الجعظري والعتل الزنيم"؟
فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجواظ: الَّذِي جمع ومنع، وأما الجعظري: فالفظ
(1) أخرجه البخاري (4918)، ومسلم (2853).
الغليظ، قَالَ الله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وأما العتل الزنيم: فشديد الخلق، رحيب الجوف، مصحح، أكول شروب، واجد للطعام والشراب، ظلوم للناس" (1).
وروى معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، قَالَ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم، قَالَ:"هو الفاحش اللئيم".
قَالَ معاوية: وحدثني عياض بن عبد الله الفهري، عن موسى بن عقبة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. خرّجه له ابن أبي حاتم.
وأما المستكبر، فهو الَّذِي يتعاطى التكبر عَلَى الناس والتعاظم عليهم، وقد قَالَ تعالى:{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
وقد ذكرنا فيما سبق حديث "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يساقون إِلَى سجن في النار، يقال له: بولس، نعلوهم نار الأنيار، يغشاهم الذل من كل مكان"(2).
فإن عقوبة التكبر الهوان والذل، كما قَالَ الله تعالى:{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف: 20].
وفي الحديث الصحيح، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيما يحكيه عن ربه عز وجل، قَالَ:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهن ألقيته في جهنم"(3).
وفي الصحيحين (4)، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلَاّ
(1) قَالَ الهيثمي في المجمع (10/ 393): رواه أحمد، وإسناده حسن وإلَاّ أن ابن غنم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
سبق تخريجه
(3)
أخرجه مسلم (2620) بنحوه.
(4)
أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846).
ضعفاء الناس وسقطهم، قَالَ الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي،، وقال للنار: إِنَّمَا أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع عليها رجله، فتقول قط قط، فهنالك تمتلئ، وينزوي بعضها إِلَى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا، وأما الجنة، فإن الله ينشيء لها خلقًا".
وفي رواية خرجها ابن أبي حاتم: فقالت النار: "مالي لا يدخلني إلَاّ الجبارون والمتكبرون والأشراف وأصحاب الأموال؟ ".
وخرج الإمام أحمد (1)، من حديث أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"افتخرت الجنة والنار، فقالت النار: يا رب، يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف، وقالت الجنة: أي رب، يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين" وذكر الحديث بمعنى ما تقدّم.
وسبب هذا، وإن الله عز وجل، حف الجنة بالمكاره، وحف النار بالشهوات، كما قَالَ تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].
وفي صحيح البخاري (2)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات".
وخرّجه مسلم (3)، ولفظه:"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".
وخرّجه أيضاً من حديث أنس (4)، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(1)(3/ 13، 78) قَالَ الهيثمي في "المجمع"(7/ 112): في الصحيح بعضه محالا عَلَى أبي هريرة، رواه أحمد، ورجاله ثقات، لأن حماد بن سلمة روى عن عطاء بن السائب قبل الاختلاط.
(2)
برقم (6487).
(3)
برقم (2823).
(4)
برقم (2822).
وخرّجه الإمام أحمد (1) وأبو داود (2) والترمذي (3) من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبريل إِلَى الجنة"، فَقَالَ: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قَالَ: فجاءها، فنظر إليها وإلى ما أعد لأهلها، قَالَ فرجع إِلَيْهِ، فَقَالَ: وعزتك، لا يسمع بها أحد إلَاّ دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فَقَالَ: ارجع إليها، فانظر إِلَى ما أعددت لأهلها، قَالَ: فرجع إليها، فَإِذَا هي قد حفت بالمكاره فرجع إِلَيْهِ، فَقَالَ: وعزتك، لقد خفت إلا يدخلها أحد، قَالَ: فاذهب إِلَى النار فانظر إِلَى ما أعددت لأهلها، قَالَ: فجاءها فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إِلَيْه فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فَقَالَ: ارجع إليها فرجع إليها فَقَالَ: وعزتك، لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلَاّ دخلها".
فتبين بهذا، أن صحة الجسد وقوته وكثرة المال والتنعم بشهوات الدُّنْيَا والتكبر والتعاظم عَلَى الخلق، وهي صفات أهل النار التي ذكرت في حديث حارثة بن وهب، هي جماع الطغيان والبغي، كما قَالَ تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7].
والطغيان وإيثار الحياة الدُّنْيَا وشهواتها من موجبات النار، كما قَالَ تعالى:{وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 38 - 40].
وأما الضعيف في البدن، والاستضعاف في الدُّنْيَا من قلة المال والسلطان، مع الإيمان فهو جماع كل خير، ولهذا يقال: من العصمة أن لا تجد، فهذه صفات أهل الجنة، التي ذكرت في حديث حارثة.
وقد رُوي نحو حديث حارثة، من وجوه متعددة، وفي بعضها زيادات.
خرج الإمام أحمد (4) من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:
(1)(2/ 332 - 333، 354).
(2)
برقم (4744).
(3)
برقم (2560).
(4)
(2/ 508).
ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قَالَ: الضعفاء المغلوبون، ألا أنبئكم بأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قَالَ: كل شديد جعظري، هم الذين لا يألمون رؤوسهم".
ومن حديث سراقة بن مالك بن جعشم، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ له:"يا سراقة، ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ قَالَ: بلى يا رسول الله، قَالَ: أما أهل النار فكل جعظري جواظ مستكبر، وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون"(1).
ومن حديث عبد الله بن عمر، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون"(2).
ومن حديث أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار؟ أما أهل الجنة، فكل ضعيف متضعف أشعث، ذو طمرين لو أقسم عَلَى الله لأبره، وأما أهل النار، فكل جعظري جواظ جماع مناع ذي تبع (3) ".
وقد سبق تفسير الجعظري بالفظ الغليظ الجافي.
وخرج الطبراني (4) من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ألا أخبركم بصفة أهل النار وأهل الجنة"؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قَالَ: "كل ضعيف متضاعف، ذي طمرين، لو أقسم عَلَى الله لأبره، ألا أنبئكم بصفة أهل النار"؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قَالَ:"كل جظ جعظ مستكبر. قَالَ: فسألته ما الجظ؟ قَالَ: الضخم، أما الجعظر قَالَ: العظيم في نفسه".
(1) أخرجه أحمد (4/ 175) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 393): ورجاله رجال الصحيح، إلَاّ أن فيه روا لم يسم.
(2)
أخرجه أحمد (2/ 214) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 393): ورجاله رجال الصحيح.
(3)
أخرجه أحمد (3/ 145): وقال الهيثمي في المجمع (10/ 264): وفيه ابن لهيعة، وحديثه يعتضد
(4)
في "المعجم الأوسط"(4263) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 265): رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه عبد الله بن محمد بن أبي مريم، وهو ضعيف.
وروى عثمان بن أبي العاتكة، عن أبي جعفر الحنفي، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"ألا أنبئكم بأهل النار"؟ قالوا: بلى، قَالَ: كل سمين ليس طيب الريح".
وروى سليم بن عامر، عن فرات البهراني، عن أبي عامر الأشعري، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل النار؟ فَقَالَ:"لقد سألت عن عظيم، كل شديد قعبري" فَقَالَ: وما القعبري يا رسول الله؟ قَالَ: "الشديد عَلَى العشيرة، الشديد عَلَى الأهل، الشديد عَلَى الصاحب، قَالَ: فمن أهل الجنة يا رسول الله؟ فَقَالَ: "سبحان الله! لقد سألت عن عظيم، كل ضعيف مزهد" (1).
وفي المعنى أحاديث أخر.
وفي صحيح مسلم (2) عن عياض بن حمار، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ في خطبته:"وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال، وأهل النار خمسة: الضعيف الَّذِي لا زَبْرَ له (3) الذين هم فيكم تبع لا يغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الَّذِي لا يخفى له طمع وإن دق إلَاّ خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلَاّ وهو يخادعك عن أهلك ومالك" وذكر البخل والكذب والشنظير الفاحش.
وفي هذا الحديث جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أهل الجنة ثلاثة أصناف:
أحدها: ذو السلطان المقسط المتصدق، وهو من كان له سلطان عَلَى الناس فسار في سلطانه بالعدل، ثم ارتقى إِلَى درجة الفضل.
والثاني: الرحيم الرقيق القلب الَّذِي لا يخص برحمته قرابته، بل يرحم
(1) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 128)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2802).
(2)
برقم (2865).
(3)
أي: لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي. وقيل: هو الَّذِي لا مال له. وقيل: الَّذِي ليس عنده ما يعتمده. "نووي".
المسلمين [عموماً](*) فهذان القسمان أهل الفضل والإحسان.
والثالث: العفيف المتعفف ذو العيال.
وهو من يحتاج إِلَى ما عند الناس وهو يتعفف عنهم، وهذا أحد نوعي الجود، أعني العفة عما في أيدي الناس، لا سيما مع الحاجة.
وقد وصف الله في كتابه أهل الجنة ببذل الندى وكف الأذى، ولو كان الأذى بحق فَقَالَ:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134].
فهذا حال معاملتهم للخلق ثم وصف قيامهم بحق الحق فَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} إِلَى آخر الآيتين [آل عمران: 135 - 136].
فوصفهم الله عند الذنوب بالاستغفار، وعدم الإصرار وهو حقيقة التوبة النصوح. وقريب من هذه الآية قوله تعالى:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11 - 18].
والعقبة قد فسرها ابن عباس بالنار، وفسرها ابن عمر بعقبة في النار كما تقدم، فأخبر سبحانه أن اقتحامها، وهو قطعها ومجاوزتها، يحصل بالإحسان إِلَى الخلق، إما بعتق الرقبة، وإما بالإطعام في المجاعة، والمُطْعَمُ إما يتيم من ذوي القربى أو مسكين قد لصق بالتراب فلم يبق له شيء، ولا بد مع الإحسان أن يكون من أهل الإيمان، والآمر لغيره بالعدل والإحسان، وهو التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة، وأخبر سبحانه أن هذه الأوصاف أوصاف أهل الميمنة.
وأما أهل النار، فقد قسمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم خمسة أصناف:
(*) من المطبوع.
الصنف الأول: الضعيف الَّذِي لا زبر له:
ويعني بالزبر القوة والحرص عَلَى ما ينتفع به في الآخرة من التقوى والعمل الصالح. وخرج العقيلي (1) من حديث أبي هريرة مرفوعًا "إن الله يبغض المؤمن الَّذِي لا زبر له". قَالَ بعض رواة الحديث: يعني الشدة في الحق.
ولما حدث مطرف بن عبد الله بحديث عياض بن حمار هذا وبلغ إِلَى قوله: "الضعيف الَّذِي لا زبر له" فقِيلَ لَهُ: أو يكون هذا؟ قَالَ: نعم، والله لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى عَلَى الحي [ماله](*) إلَاّ وليدتهم يطؤها.
وقال ابن شوذب: يقال: إن عامة أهل النار كل ضعيف لا زبر له، الذين هم من اليوم تبع لا يبغون أهلاً ولا مالاً، خرّجه عبد الله بن الإمام أحمد في الزهد.
وهذا القسم شر أقسام الناس، ونفوسهم ساقطة، لأنّه ليس لهم همم في طلب الدُّنْيَا ولا الآخرة، وإنما همة أحدهم شهوة بطنه وفرجه كيف اتفق له، وهو تبع للناس خادم لهم أو طواف عليهم سائل لهم.
الصنف الثاني: الخائن الَّذِي لا يخفى له طمع وإن دق إلَاّ خانه:
يعني لا يقدر عَلَى خيانة ولو كانت حقيرة يسيرة إلَاّ بادر إليها واغتنمها، ويدخل في ذلك التطفيف في المكيال والميزان لحقر التافه، وكذلك الخيانة في الأمانات القليلة كالودائع وأموال اليتامى وغير ذلك وهي من خصال النفاق، وربما يدخل في الخيانة من خان الله ورسوله في ارتكاب المحارم سرًّا مع إظهار اجتنابها.
قَالَ كثير من السَّلف: كنا نحدث أن صاحب النار من لا تمنعه خشية الله من
(1) في "الضعفاء الكبير"(4/ 246) وقال العقيلي عن مسمع بن محمد الأشعري: لا يتابع عليه بهذا الإسناد، ولا أحفظ هذا اللفظ إلَاّ في حديث عياض بن حمار المجاشعي قَالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أهل النار خمسة: الضعيف الَّذِي لا زبر له". ونقل ابن حجر في اللسان (7/ 96 - طبعة الفاروق الحديثة) عن العقيلي أنّه قَالَ عن مسمع: لا يتابع فيه، ولا يعرف بالنقل.
(*) في الأصل: مابه، وما نقلته من المطبوع.
شيء [خفي له](*).
الصنف الثالث: المخادع الَّذِي دأبه صباحًا ومساءً مخادعة الناس عَلَى أهليهم وأموالهم:
والخداع من أوصاف المنافقين، كما وصفهم الله تعالى بذلك، ومعناه إظهار الخير وإضمار الشر، لقصد التواصل إِلَى أموال الناس وأهاليهم والانتفاع بذلك، وهو من [جملة](*) المكر والحيل المحرمة، وفي حديث ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار"(1).
المصنف الرابع: الكذب والبخل:
ولم يحفظ الراوي ما قاله صلى الله عليه وسلم في هذا حفظًا جيِّدًا، والكذب والبخل خصلتان.
وفي مسند الإمام أحمد (2) في هذا الحديث الكذب أو البخل بالشك، وقد قيل: إنه عدهما واحدًا، كذا قاله مطر الورق وهو أحد رواة هذا الحديث.
والكذب والبخل، كلاهما ينشأ عن الشح، كما جاء في الحديث، والشح هو شدة حرص الإنسان عَلَى ما ليس له من الوجوه المحرمة، وينشأ عنه البخل، وهو إمساك الإنسان ما في يده والامتناع من إخراجه في وجوهه التي أمر بها، فالمخادع الَّذِي سبق ذكره هو الشحيح، وهذا المصنف هو البخيل، فالشحيح آخذ المال بغير حقه، والبخل منعه من حقه، كذلك رُوي تفسير الشح والبخل عن ابن مسعود وطاووس وغيرهما من السَّلف.
(*) من المطبوع.
(1)
أخرجه ابن حبان (567، 5559 - إحسان)، والطبراني في "الكبير"(10/ 10234)، وفي "الصغير" (2/ 37) برقم (738) وقال الطبراني: لم يروه عن عاصم إلَاّ الهيثم بن الجهم، ولا عنه إلَاّ ابنه عثمان.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 189) وقال: غريب من حديث عاصم، تفرد به عثمان ولم نكتبه إلَاّ من حديث الفضل بن الحباب.
(2)
(4/ 162).
وفي الأثر إن الشيطان قَالَ: مهما غلبني ابن آدم فلم يغلبني بثلاث: يأخذ المال من غير حله، أو ينفقه في غير وجهه، أو يمنعه من حقه.
وينشأ عن الشح أيضاً، الكذب والمخادعة والتحيل عَلَى ما لا يستحقه الإنسان بالطرق الباطلة المحرمة.
وفي الصحيح (1) عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إن الكذب يهدي إِلَى الفجور، والفجور يهدي إِلَى النار".
وفي "المسند"(2) عن عبد الله بن عمر، وقَالَ: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما عمل أهل النار؟
قَالَ: "الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النار".
الصنف الخامس: الشنظير:
وقد فسر بسيء الخلق، والفحاش هو الفاحش المتفحش، وفي الصحيحين (3) عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه".
وفي الترمذي (4)، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "إن الله يبغض الفاحش البذيء".
والبذيء هو الَّذِي يجري عَلَى لسانه بالسفه ونحوه من لغو الكلام.
وفي "المسند"(5) عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"بحسب امرئ من الشر أن يكون فاحشًا بذيئًا بخيلاً جبانًا".
فالفاحش هو الَّذِي يفحش في منطقه ويستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب ونحوه، ويأتي في كلامه بالسخف وما يفحش ذكره.
(1) أخرجه البخاري (694) مطولا، ومسلم (2607).
(2)
(2/ 176).
(3)
خرّجه البخاري (6034)، ومسلم (591).
(4)
برقم (1977) بلفظ: "ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذىء" وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد رُوي عن عبد الله من غير هذا الوجه.
(5)
(4/ 145، 158).