المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث في ذكر الدعوات المذكورة في هذا الحديث - مجموع رسائل ابن رجب - جـ ٤

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول في ذكر الكفَّارات

- ‌السبب الثاني من مكفّرات الذنوب: المشيُ عَلَى الأقدام إِلَى الجماعات وإلى الجُمُعات

- ‌السبب الثالث من مكفرات الذنوب الجلوس في المساجد بعد الصلوات

- ‌الفصل الثاني في ذكر الدرجات المذكورة في حديث معاذ

- ‌الفصل الثالث في ذكر الدعوات المذكورة في هذا الحديث

- ‌ومحبة الله عَلَى درجتين:

- ‌أقل ثمن المحبة بذل الروح:

- ‌الباب الأول في ذكر الإنذار بالنار والتحذير منها

- ‌الباب الثاني في ذكر الخوف من النار وأحوال الخائفين

- ‌فصل [الخوف من عذاب جهنم لا يخرج عنه أحد]

- ‌فصل [في القدر الواجب من الخوف]

- ‌فصل [من السَّلف من كان إذا رأى النار اضطرب وتغيرت حاله]

- ‌فصل من الخائفين من منعه خوف جهنم من النوم

- ‌فصل ومنهم من منعه خوف النار من الضحك

- ‌فصل ومنهم من حديث له من خوفه من النار مرض، ومنهم من مات من ذلك

- ‌فصل أحوال بعض الخائفين

- ‌الباب الثالث في ذكر تخويف جميع أصناف الخلق بالنار وخوفهم منها

- ‌فصل وهذه النار التي في الدُّنْيَا تخاف من نار جهنم:

- ‌الباب الرابع في أن البكاء من خشية النار ينجي منها وأن التعوذ بالله من النار يوجب الإعاذة منها

- ‌فصل[التعوذ من النار]

- ‌الباب الخامس في ذكر مكان جهنم

- ‌فصل [البحار تسجر يوم القيامة]

- ‌الباب السادس في ذكر طبقاتها وأدراكها وصفتها

- ‌الباب السابع في ذكر قعرها وعمقها

- ‌فصل سعة جهنم طولا وعرضًا

- ‌الباب الثامن في ذكر أبوابها وسرادقها

- ‌فصل وقد وصف الله أبوابها أنها مغلقة عَلَى أهلها

- ‌فصل [إحاطة سرادق جهنم بالكافرين]

- ‌فصل وأبواب جهنم قبل دخول أهلها إليها يوم القيامة مغلقة

- ‌الباب التاسع في ذكر ظلمتها وشدة سوادها

- ‌الباب العاشر في شدة حرها وزمهريرها

- ‌فصل [في زمهرير جهنم بيت يتميز فيه الكافر من برده]

- ‌الباب الحادي عشر في ذكر سجر جهنم وتسعيرها

- ‌فصل وجهنم تسجر كل يوم نصف النهار

- ‌فصل وتسجر أحيانًا في غير نصف النهار

- ‌فصل وتسجر أيضاً يو القيامة

- ‌فصل وتسجر عَلَى أهلها بعد دخولهم إليها

- ‌الباب الثاني عشر في ذكر تغيظها وزفيرها

- ‌الباب الثالث عشر في ذكر فى دخانها وشررها ولهبها

- ‌الباب الرابع عشر في ذكر أوديتها وجبالها وآبارها وجبابها وعيونها وأنهارها

- ‌فصل [في تفسير قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}]

- ‌فصل [في أودية جهنم]

- ‌فصل في جهنم واد هو: جب الحزن

- ‌الباب الخامس عشر - في ذكر سلاسلها وأغلالها وأنكالها

- ‌فصل في تفسير قوله تعالى: ولهم مقامع من حديد

- ‌الباب السادس عشر - في ذكر حجارتها

- ‌الباب السابع عشر - في ذكر حياتها وعقاربها

- ‌الباب الثامن عشر - في ذكر طعام أهل النار وشرابهم فيها

- ‌فصل في تفسير قوله تعالى: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ}

- ‌فصل في شراب أهل النار

- ‌فصل في تنغص السَّلف عَلَى عند ذكر طعام أهل النار

- ‌الباب التاسع عشر في ذكر كسوة أهل النار ولباسهم

- ‌فصل في أن سرابيل أهل النار من قطران

- ‌فصل تفسير قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ

- ‌الباب العشرون في ذكر عظم خلق أهل النار فيها وقبح صورهم وهيئاتهم

- ‌فصل في تفسير قوله تعالى: تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون

- ‌فصل في تفسير قوله تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها

- ‌فصل في تسويد وجوه أهل النار ومد جسومهم

- ‌فصلذو الوجهين في الدُّنْيَا له وجهان من نار يوم القيامة

- ‌فصل ومنهم من تمسخ صورته عَلَى صورة قبيحة

- ‌فصل في نتن ريح أهل النار

- ‌الباب الحادي والعشرون في ذكر أنواع عذاب أهل النار فيها وتفاوتهم في العذاب بحسب أعمالهم

- ‌فصل ومن عذاب أهل النار: الصهر

- ‌فصل في تفسير قوله تعالى: التي تطلع عَلَى الأفئدة

- ‌فصل ومن أنواع عذابهم سحبهم في النار عَلَى وجوههم

- ‌فصل

- ‌فصل ومنهم من يدور في النار ويجر معه أمعاءه

- ‌فصل ومن أهل النار من يلقى في مكان ضيق لا يتمكن فيه من الحركة

- ‌فصل

- ‌فصل ومن أهل النار من يتأذى بعذابه أهل النار، إما من نتن ريحه، أو غيره:

- ‌فصل في تفسير قوله تعالى: ويأتيه الموت من كل مكان

- ‌فصل وعذاب الكفار في النار، لا يفتر عنهم، ولا ينقطع، ولا يخفف، بل هو متواصل أبدًا

- ‌فصل

- ‌فصل فيما يتحف به أهل النار عند دخولهم إليها -أجارنا الله منها

- ‌الباب الثاني والعشرون في ذكر بكاء أهل النار وزفيرهم وشهيقهم وصراخهم ودعائهم الَّذِي لا يستجاب لهم

- ‌فصل في طلب أهل النار الخروج منها

- ‌فصل

- ‌فصل وأما عصاة الموحدين، فربما ينفعهم الدعاء في النار

- ‌الباب الثالث والعشرون في ذكر نداء أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار وكلام بعضهم بعضًا

- ‌الباب الرابع والعشرون في ذكر خزنة جهنم وزبانيتها

- ‌فصل وقد وصف الله الملائكة الذين عَلَى النار، بالغلظة والشدة

- ‌فصل في تفسير قوله تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ

- ‌فصل تفسير قوله تعالى فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ

- ‌الباب الخامس والعشرون في ذكر مجيء النار يوم القيامة وخروج عنق منها يتكلم

- ‌الباب السادس والعشرون في ضرب الصراط عَلَى متن جهنم وهو جسر جهنم ومرور الموحدين عليه

- ‌الباب السابع والعشرون - في ذكر ورود النار نجانا الله منها بفضله ورحمته

- ‌فصل إذا وقف العبد بين يدي الله تستقبله النار

- ‌الباب الثامن والعشرون في ذكر حال الموحدين في النار وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين

- ‌فصل حسن الظن بالله تعالى

- ‌الباب التاسع والعشرون في ذكر أكثر أهل النار

- ‌الباب الثلاثون في ذكر صفات أهل النار وأصنافهم وأقسامهم

- ‌فصل في ذكر أول من يدخل النار من عصاة الموحدين

- ‌الأصل العظيم

- ‌بيان معنى الباء في الآية والحديث

- ‌الحمد لله ثمن كل نعمة

- ‌بيان معنى النعم وأنّ الحمد منها

- ‌الجنة والعمل من فضل الله تعالى

- ‌الشقاء والسعادة بعدله ورحمته جلَّ وعلا

- ‌ما يجب عَلَى العبد معرفته

- ‌الاشتغال بالشكر أعظم النعم

- ‌العمل لا يوجب النجاة

- ‌الاعتراف بفضل الله عز وجل

- ‌ما عَلَى العبد للفوز والنجاة

- ‌بيان أَحَبِّ الأعمال إِلَى الله

- ‌معنى سدِّدوا وقاربوا

- ‌بيان ما تفوَّق به الصحابة

- ‌قاعدة جليلة

- ‌بيان جملة من التيسير في التشريع

- ‌معنى الغدوة والروحة وأوقاتها وفضائلها

- ‌معنى القصد في السير

- ‌سلوك صراط الله عز وجل

- ‌الأعمال بالخواتيم

- ‌فضل تقرب العبد إِلَى الله عز وجل

- ‌أنواع الوصول إِلَى الله تعالى

- ‌حال من التزم الإِسلام أو الإِيمان أو الإِحسان

- ‌فضل وَقْتَي الغَدّاة والعَشِي والمقصود بهما

- ‌حال من ركن إِلَى الآخرة ومن ركن إِلَى الدُّنْيَا

- ‌فصل في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]

- ‌بيان ما يصير هباء منثورًا من الأعمال

- ‌النوع الأول:

- ‌النوع الثاني:

- ‌النوع الثالث:

- ‌النوع الرابع:

- ‌النوع الخامس

- ‌النوع السادس

- ‌النوع السابع

- ‌هم الدُّنْيَا وشقاء الآخرة

- ‌الحذر…الحذر

الفصل: ‌الفصل الثالث في ذكر الدعوات المذكورة في هذا الحديث

‌الفصل الثالث في ذكر الدعوات المذكورة في هذا الحديث

وهي: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الَّذِي يبلغني حبك".

فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق".

هذا دعاء عظيم من أجمع الأدعية وأكملها، فقوله:"أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات"، يتضمن طلب كل خير وترك كل شر، فإن الخيرات تجمع كل ما يحبه الله تعالى ويقرب منه من الأعمال والأقوال من الواجبات والمستحبات، والمنكرات تشمل كل ما يكرهه الله تعالى ويباعد منه من الأقوال والأعمال، فمن حصل له هذا المطلوب حصل له خير الدُّنْيَا والآخرة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب مثل هذه الأدعية الجامعة، قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك. خرَّجه أبو داود (1).

وقوله: "وحب المساكين"، هذا قد يُقال أنَّه من جملة فعل الخيرات،

وأفرده بالذكر لشرفه وقوة الاهتمام به، كما أفرد أيضاً ذكر حب الله تعالى وحب من يحبه وحب عمل يبلغه إِلَى حبه، وذلك أصل فعل الخيرات كلها، وقد يقال أنَّه طلب من الله عز وجل أن يرزقه أعمال الطاعات بالجوارح وترك المنكرات بالجوارح، وأن يرزقه ما يوجب له ذلك، وهو حبه وحب من يحبه وحب عمل يبلغه حبه، فهذه المحبة بالقلب موجبة لفعل الخيرات بالجوارح ولترك المنكرات بالجوارح، وسأل الله تعالى أن يرزقه المحبة فيه.

(1) برقم (1482).

ص: 53

فقد تضمن هذا الدعاء سؤال حب الله عز وجل وحب أحبابه وحب الأعمال التي تقرب من حبه والحب فيه، وذلك مقتض فعل الخيرات كلها.

وتضمن ترك المنكرات والسلامة من الفتن، وذلك يتضمن اجتناب الشر كله، فجمع هذا الدعاء طلب خير الدُّنْيَا، وتضمن سؤال المغفرة والرحمة، وذلك يجمع خير الآخرة كله، فجمع هذا الدعاء خير الدُّنْيَا والآخرة.

والمقصود أن حب المساكين أصل الحب في الله تعالى؛ لأنّ المساكين ليس عندهم من الدُّنْيَا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا لله عز وجل، والحب في الله من أوثق عرى الإيمان.

ومن علامات ذوق حلاوة الإيمان، وهو صريح الإيمان، وهو أفضل الإيمان، وهذا كله مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه وصف به الحب في الله تعالى (1).

(1) منها حديث: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله".

أخرجه أحمد (4/ 286) عن البراء بن عازب، وأخرجه أحمد (5/ 247) وغيره عن معاذ، وأخرجه أحمد (5/ 146) وأبو داود (4599) عن أبي ذر.

وأخرجه الطيالسي (378) والطبراني في الكبير (10/ 10357، 10531)، والصغير (1/ 223 - 224) والحاكم (2/ 480) عن ابن مسعود.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي قائلا: ليس بصحيح، فإن الصعق وإن كان موثقًا، فإن شيخه منكر الحديث، قاله البخاري.

وقال الهيثمي في المجمع (1/ 90، 163): وفيه عقيل بن الجعد قال البخاري: منكر الحديث.

وقال الهيثمي (7/ 260 - 261): رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير بكير بن معروف، وثقه أحمد وغيره، وفيه ضعف.

ومنها حديث: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" وذكر منها: "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله".

أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43) عن أنس.

ومنها حديث: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى

" الحديث.

أخرجه أحمد (3/ 430) عن عمرو بن الجموح.

ومنها حديث معاذ بن أنس أنَّه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان. قال: "أن تحب لله وتبغض لله". أخرجه أحمد (5/ 247).

ص: 54

ورُوي عن ابن عباس أنَّه قال: "به تنال ولاية الله، وبه يوجد طعم الإيمان"(1).

وحب المساكين قد وصى به النبي صلى الله عليه وسلم غير واحد من أصحابه، قال أبو ذر: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أَحَبّ المساكين، وأن أدنو منهم. خرَّجه الإمام أحمد (2).

وخرَّج الترمذي (3) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة! أحبي المساكين وقرِّبيهم فإن الله يقربك يوم القيامة".

ويروى أن داود عليه السلام كان يجالس المساكين، ويقول: يا رب مسكين بين مساكين.

ولم يزل السَّلف الصالح يوصون بحب المساكين، كتب سفيان الثوري إِلَى بعض إخوانه:"عليك بالفقراء والمساكين والدنو منهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه حب المساكين".

وحب المساكين مستلزم لإخلاص العمل لله تعالى، والإخلاص هو أساس الأعمال الَّذِي لا تثبت الأعمال إلا عليه، فإن حب المساكين يقتضي إسداء النفع إليهم بما يمكن من منافع الدين والدنيا، فَإِذَا حصل إسداء النفع إليهم حبًّا لهم والإحسان إليهم كان هذا العمل خالصًا، وقد دلّ القرآن عَلَى ذلك، قال عز وجل:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9]، وقال عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ

(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (353).

(2)

(5/ 159) وقال الهيثمي (10/ 263): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، وأحد إسنادي أحمد ثقات".

(3)

برقم (2352) وقال: هذا حديث غريب. وقال الحافظ في التلخيص (3/ 109): "إسناده ضعيف".

ص: 55

{وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، وقال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28].

قال سعد بن أبي وقاص: نزلت هذه الآية في ستة: فيَّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال، قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعًا لهم فاطردهم عنك. فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآية (1).

وقال خباب بن الأرت في هذه الآية: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وعمار وبلال وخباب قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقَّروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وجوه العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبُد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال:"نعم". قالوا: فاكتب لنا عليك كتابًا. قال: فدعا بصحيفة، ودعا عليًّا ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل عليه السلام فَقَالَ:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] ثم قال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا عَلَى ركبتيه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزله الله عز وجل:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} وتجالس الأشراف {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] يعني: عيينة والأقرع. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا

(1) أخرجه ابن ماجه (4128).

ص: 56

بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم. خرجه ابن ماجه (1) وغيره (2).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المرضى من مساكين أهل الدينة ويشيِّع جنائزهم، "وكان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين حتى يقضي حاجتهما"(3)، وعلى هذا الهدي كان أصحابه من بعده والتابعون لهم بإحسان.

ورُوي عن أبي هريرة قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكنيه: أبا المساكين (4).

وفي رواية: أنَّه كان يطعمهم، وربما أخرج لهم عكَّة (5) العسل فشقوها ولعقوها (6).

وكانت زينب بنت خزيمة أم المؤمنين تسمى أم المساكين لكثرة إحسانها إليهم، وتوفيت في حياه النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ضرار بن مرة في وصف علي بن أبي طالب في أيام خلافته: كان

(1) برقم (4127).

(2)

وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير - كما في تفسير ابن كثير (2/ 134 - 135)، وابن جرير في تفسيره (7/ 127 - 128) قال ابن كثير في تفسيره (2/ 135):"هذا حديث غريب، فإن هذه الآية مكية، والأقرع بن حابس وعيينة وإنَّما أسلما بعد الهجرة بدهر".

(3)

أخرجه الدارمي (1/ 35) والنسائي (3/ 109)، والحاكم (2/ 614) عن عبد الله ابن أبي أوفى وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وأخرجه الحاكم (2/ 614) عن أبي سعيد الخدري. وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

(4)

أخرجه الترمذي (3766) وقال: هذا حديث غريب. وأبو إسحاق المخزومي هو إبراهيم بن الفضل المدني، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه وله غرائب. وابن ماجه (4125).

(5)

وعاء من جلد مستدير يختص بالسمن والعسل. (النهاية: 3/ 284).

(6)

أخرجها البخاري (5432) من حديث أبي هريرة بنحوه.

ص: 57

يُعظم أهل الدين، ويحب المساكين.

ومرَّ ابنه الحسن عَلَى مساكين يأكلون، فدعوه فأجابهم وأكل معهم، وتلا:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] ثم دعاهم إِلَى منزله فأطعمهم وأكرمهم.

وكان ابن عمر لا يأكل غالبًا إلا مع المساكين، ويقول: لعلَّ بعض هؤلاء أن يكون ملكًا يوم القيامة.

وجاء مسكين أعمى إِلَى ابن مسعود -وقد ازدحم الناس عنده- فناداه: يا أبا عبد الرحمن! آويت أرياب الخزِّ واليمنية (1) وأقصيتني لأجل أني مسكين. فَقَالَ له: أدنه. فلم يزل يدنيه حتى أجلسه إِلَى جانبه أو بقربه.

وكان مطرف بن عبد الله يلبس الثياب الحسنة ثم يأتي المساكين ويُجالسهم.

وكان سفيان الثوري يعظم المساكين ويجفو أهل الدُّنْيَا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء.

وقال سليمان التيمي: كنا إذا طلبنا علية أصحابنا وجدناهم عند الفقراء والمساكين.

وقال الفضيل: من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين.

ومن فضائل المساكين أنهم أكثر أهل الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قُمت عَلَى باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين"(2).

وقال صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين"(3).

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الجنة، فَقَالَ:"كل ضعيف متضعف"(4).

(1) أي أصحاب الثياب الفاخرة، يكني بذلك عن أهل الغنى والسعة.

(2)

قطعة من حديث أخرجه البخاري (6547)، ومسلم (2736) من حديث أسامة بن زيد.

(3)

أخرجه مسلم (2846/ 34).

(4)

أخرجه البخاري (4918) ومسلم (2853) عن حارثة بن وهب الخزاعي.

ص: 58

وهم أول الناس دخولاً الجنة كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الفقراء يسبقون الأغنياء إِلَى الجنة بأربعين عامًا"(1).

وفي رواية: "أنهم يدخلون الجنة بنصف يوم، وهو خمسمائة سنة"(2).

وهم أول الناس إجازة عَلَى الصراط كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل: من أول الناس إجازة عَلَى الصراط؟. فَقَالَ: "فقراء المهاجرين"(3).

وهم أول الناس ورودًا الحوض كما قال صلى الله عليه وسلم: "أول الناس ورودًا عليه: فقراء المهاجرين، [الدنس ثيابًا والشعث رؤوسًا] (4)، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد (5) "(6).

وهم أتباع الرسل كما أخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام أن قومه عيَّروه باتباع الضعفاء له فقالوا: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، وكذلك قال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم: وهل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فَقَالَ: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: هم أتباع الرسل (7).

(1) أخرجه مسلم (2979) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إِلَى الجنة بأربعين خريفًا

".

(2)

أخرجها أحمد (2/ 343، 451) والترمذي (2353، 2354) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وفي الرواية الأخرى: صحيح والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (11/ 6) وابن ماجه (4122) من حديث أبي هريرة.

(3)

قطعة من حديث أخرجه مسلم (315) عن ثوبان.

(4)

جاء في الأصول: (الدنسة رؤوسهم، الشعثة ثيابهم) وهو خطأ، والمثبت من مصادر التخريج.

(5)

الأبواب، جمع سدَّة. (النهاية: 2/ 353).

(6)

أخرجه أحمد (5/ 275 - 276) والترمذي (2444) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقد روى هذا الحديث عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سلام الحبشي اسمه ممطور، وهو شامي. وابن ماجه (4303) والحاكم (4/ 184) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه من طريق أبي سلام ممطور عن ثوبان.

(7)

أخرجه البخاري (7) ومسلم (1773) من حديث ابن عباس عن أبي سفيان،

ص: 59

وهم أفضل من الأغنياء عند كثير من العُلَمَاء أو أكثرهم، وقد دلَّ عَلَى ذلك أدلة كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مرَّ به الغني والمسكين في المسجد:"هذا - يعني: المسكين- خير من ملء الأرض من مثل هذا -يعني: الغني" وقد خرجه البخاري (1) وغيره (2).

ومنهم من لو أقسم عَلَى الله لأبره كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في أهل الجنة: "كل ضعيف متضعف لو أقسم عَلَى الله لأبره"(3).

وفي رواية: "أشعث ذو طمرين"(4)، وفي رواية خرَّجها ابن ماجه:"أنهم ملوك الجنة"(5)، وفي الحديث المشهور:"رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم عَلَى الله لأبره" خرّجه الحاكم (6) وغيره (7).

(1) أخرجه البخاري (6447) عن سهل بن سعد.

(2)

وأخرجه ابن ماجه (4120).

(3)

تقدم.

(4)

أخرجه أحمد (3/ 145) من حديث أنس، وقال الهيثمي (10/ 264):"وفيه ابن لهيعة وحديثه يعتضد".

وأخرجه ابن ماجه (4115) والطبراني في الكبير (20/ 84) من حديث معاذ بن جبل مرفوعًا: "ألا أخبرك عن ملوك الجنة؟ قلت: بلى. قال: "ورجل ضعيف مستضعف ذو طمرين

".

قال العراقي في تخريج الإحياء (4/ 197): "سنده جيد". ا. هـ وانظر: روايات أخرى في ذكر ذي طمرين في المجمع (10/ 264 - 265).

(5)

برقم (4115).

(6)

أخرجه الحاكم (4/ 328) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، أظن مسلمًا أخرجه من حديث حفص بن عبد الله بن أنس.

(7)

وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 7) من حديث أبي هريرة وعندهما: "تنبو عنه أعن الناس".

وأخرجه الطبراني في الأوسط (861) وقال: لم يرو هذا الحديث عن حفص إلا أسامة. وقال الهيثمي في المجمع (10/ 264): " وفيه عبد الله بن موسى التيمي وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح غير جارية بن هرم، وقد وثقه ابن حبان عَلَى=

ص: 60

رب ذي طمرين نضوٍ (1)

يأمن العالم شره

لا يُرى إلا غنيًّا

وهو لا يملك ذره

ثم لو أقسم في شيء

عَلَى الله أبره

قال ابن مسعود: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، سرج الليل، مصابيح الظلام، تُعرفون في أهل السماء، وتخفون عَلَى أهل الأرض.

طوبى لعبدٍ بحبلِ الله مُعْتَصَمُه

على صراطٍ سَويٍّ ثابتٍ قدمُه

رثّ اللباس جديدِ القلب مُستترٍ

في الأرض مشتهرٍ فوقَ السما سمُه

ما زال (يستحقرُ)(*) الأُولَى بِهمَّته

حتى ترقّت إلى الأخرى به هِمَمُه

فذاك أعظمُ من التاج مُتّكئاً

على النمارق مُحتفّاً به خَدَمُه

واعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة، منها: أنها توجب إخلاص العمل لله عز وجل؛ لأنّ الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون إلا لله عز وجل؛ لأنّ نفعهم في الدُّنْيَا لا يرجى غالبًا، فأما من أحسن إليهم ليمدح بذلك فما أحسن إليهم حبًّا لهم بل حبًّا لأهل الدُّنْيَا، وطلبًا لمدحهم له بحب المساكين.

ومنها: أنَّها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين كما سبق عن رؤساء قريش والأعراب ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبّه بهم، حتى أن بعض علماء السوء كان لا يشهد الصلاة في جماعة خشية أن تزاحمه المساكين في الصف.

ويمتنع بسبب هذا الكبر خير كثير جدًّا، فإن مجالس الذكر والعلم يقعُ فيها كثيرًا مجالسة المساكين، فإنهم أكثر هذه المجالس، فيمتنع المتكبر من هذه المجالس بتكبره، وربما كان المسموع منه الذكر والعلم من جملة المساكين، فيأنف

= ضعفه".

وأخرجه البزار في البحر الزخار (2035) من حديث ابن مسعود، وقال: وهذا الكلام لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد.

(1)

أي: ذو ثياب خلقة بالية. (اللسان: 15/ 329).

(*) يحتقر: "نسخة".

ص: 61

أهل الكبر من التردد إِلَى مجلسه لذلك فيفوتهم خير كثير.

وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم قالوا: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يشيرون إِلَى عظماء مكة والطائف كعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ونحوهما من صناديد قريش وثقيف ذوي الأموال والشَّرفِ فيهم ممن كان أكثر مالاً من محمد صلى الله عليه وسلم وأعظم رياسة عندهم، ورد عليهم سبحانه بأنه يقسم رحمته كما يشاء، وأنه كما رفع درجات بعضهم عَلَى بعض في الدُّنْيَا فكذلك يرفعها في الآخرة، وأن رحمته بالنبوة والعلم والإيمان خير مما يجمعونه من الأموال التي تفنى، فهو سبحانه يختص بهذه الرحمة الدينية من يشاء ويرفعه عَلَى أهل النعم الدنيوية، وقد خص محمدًا صلى الله عليه وسلم بما لم يشركه فيه غيره من هذه النعم كما قال تعالى له:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

وقد كان علي بن الحسين يجلس في مجلس زيد بن أسلم فيُعاتب عَلَى ذلك فيقول: إِنَّمَا يجلس المرءُ حيث يكون له فيه نفعٌ. أو كما قال، يشير إِلَى أنَّه ينتفع بسماع ما لم يسمعه من العِلْم والحكمة، وزيد بن أسلم أبوه مولى لعمر، وعلي ابن الحسن سيد بني هاشم وشريفهم.

ولما اجتمع الزهرى وأبو حازم الزاهد بالمدينة عند بعض بني أمية -لما حج- وسمع الزهري كلام أبي حازم وحكمته أعجبه ذلك، وقال: هو جاري منذ كذا وكذا، وما جالسته ولا عرفت أن هذا العِلْم عنده!. فقال له أبو حازم: أجل إني من المساكين، ولو كنت من الأغنياء لعرفتني فوبَّخه بذلك.

وفي رواية عنه أنَّه قال له: لو أحببت الله لأحببتني، ولكنك نسيت الله فنسيتني. يشير إِلَى أنَّ من أحبَّ الله تعالى أحبَّ المساكين من أهل العِلْم والحكمة لأجل محبته لله تعالى، ومن غفل عن الله تعالى غفل عن أوليائه من المساكين فلم يرفع بهم رأسًا، ولم ينتفع بما اختصَّهم الله عز وجل به من الحكمة والعلوم النافعة التي لا توجد عند غيرهم من أهل الدُّنْيَا.

ص: 62

وقد كان علماء السَّلف يأخذون العِلْم عن أهله والغالبُ عليهم المسكنة وعدم المال والرفعة في الدُّنْيَا، ويدعون أهل الرياسات والولايات فلا يأخذون عنهم شيئًا مما عندهم من العِلْم بالكلية.

ومنها: أنَّه يوجب صلاح القلب وخشوعه، وفي "المسند" عن أبي هريرة أن رجلاً شكى إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فَقَالَ له:"إن أحببت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم"(1).

ومنها: أنَّ مجالسة المساكين تُوجب رضى من يجالسهم برزق الله عز وجل، وتعظُمُ عنده نعمة الله عز وجل عليه بنظره في الدُّنْيَا إِلَى من دونه. ومجالسة الأغنياء تُوجب التسخط بالرزق، ومدَّ العين إِلَى زينتهم وما هم فيه، وقد نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فَقَالَ تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"انظروا إِلَى من دونكم ولا تنظروا إِلَى من فوقكم، فإنّه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"(2).

قال أبو ذر أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظر إِلَى من دوني ولا أنظر إِلَى من فوقي، وأوصاني أن أحبَّ المساكين وأن أدنو منهم (3).

وكان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يجالس الأغنياء فلا يزال في غمَّ، لأنّه لا يزال يرى من هو أحسن منه لباسًا ومركبًا ومسكنًا ومطعمًا، فتركهم وجالس المساكين فاستراح من ذلك.

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّه نهى عائشة من مخالطة الأغنياء (4).

(1) أخرجه أحمد (2/ 263، 387) من طريق أبي عمران الجوني عن رجل عن أبي هريرة، وفي الرواية الثانية عند أحمد: عن أبي عمران عن أبي هريرة دون ذكر.

التابعي المبهم، قال الهيثمي في المجمع (8/ 160):"رجاله رجال الصحيح".

(2)

أخرجه مسلم (2963/ 9) من حديث أبي هريرة.

(3)

تقدم.

(4)

أخرجه الترمذي (1780) والحاكم (4/ 312)، وابن الجوزي في الموضوعات=

ص: 63

وقال عمر: إياكم والدخول عَلَى أهل السعة فإنَّه مسخطةٌ للرزق.

واعلم أن المسكين إذا أُطلق يُراد به غالبًا من لا مال له يكفيه، فإن الحاجة توجب السكون والتواضع، بخلاف الغنى فإنَّه يوجب الطغيان، ولهذا ذُمَّ الفقير المختال وعظم وعيده لأنّه عصى بما ينافي فقره، وهو الاختيال والزهو والكبر.

ولما كان المسكين عند الإطلاق لا ينصرف إلا إِلَى من لا كفاية له من المال وصى الله تعالى بإيثار المساكين وإطعامهم الطعام، ومدح من يُطعمهم، وذمَّ من لا يحف عَلَى إطعامهم، وجعل لهم حقًّا في أموال الصدقات والفيء وخُمس الغنائم وحضور قسمة الأموال.

وهؤلاء المساكين عَلَى قسمين:

أحدهما: من هو محتاج في الباطن وقد أظهر حاجته للناس.

والثاني: من يكتم حاجته ويظهر للناس أنَّه غنيٌّ فهذا أشرف القسمين، وقد مدح الله عز وجل هذا في قوله تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكين بهذا الطوَّاف الَّذِي ترده اللقمه واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين من لا يجد ما يغنيه، ولا يُفطن له فيتصدق عليه"(1). وقال بعضهم: هذا المحروم المذكور في قوله عز وجل: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].

= (3/ 139 - 140) عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدُّنْيَا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء .. " الحديث.

قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان، قال: وسمعت محمدًا يعني البخاري يقول: صالح بن حسان منكر الحديث". وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وتعقبه الذهبي قائلا: الوراق -يعني: سعيد بن محمد- عدم".

(1)

أخرجه البخاري (1476) ومسلم (1039) عن أبي هريرة بنحوه.

ص: 64

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من كتم حاجته فلم يُفطن له أحقُّ باسم المسكين من الَّذِي أظهر حاجته بالسؤال، وأنه أحقُّ بالبر منه، وهذا يدل عَلَى أنهم كانوا لا يعرفون من المساكين إلا من أظهر حاجته بالسؤال، وبهذا فرَّق طائفة من العُلَمَاء بين الفقير والمسكين، فقالوا: من أظهر حاجته فهو مسكين، ومن كتمها فهو فقير.

وفي كلام الإمام أحمد إيماء إِلَى ذلك، وإن كان المشهور عنه أن التفريق بينهما بكثرة الحاجة وقلتها كقول كثير من الفقهاء، وهذا حيث جمع بين ذكر الفقير والمسكين كما في آية الصدقات، (وأما إن)(*) أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر عند الأكثرين.

وقد كان كثير من السَّلف يكتم حاجته ويظهر الغنى تعففًا وتكرمًا، منهم: إبراهيم النخعي كان يلبس ثيابًا حسانًا، ويخرج بها إِلَى الناس وهم يرون أنَّه تحل له الميتة من الحاجة.

وكان بعض الصالحين يلبس الثياب الجميلة وفي كمه مفتاح دار كبيرة ولا مأوى له إلا المساجد.

وكان آخر لا يلبس جبة في الشتاء لفقره، ويقول: بي علة تمنعني من لبس المحشو، وإنَّما يعني به الفقر.

شعر:

إن الكريم ليُخفي عنك عُسرته

حتى تراه غنيًّا وهو مجهود

وكان بعكس هؤلاء من يلبس ثياب المساكين مع الغنى تواضعًا لله عز وجل، وبُعدًا من الكبر كما كأن يفعله الخلفاء الراشدون الأربعة وبعدهم عمر بن عبد العزيز، وكذلك كان جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما رضي الله عنهم.

ورُوي أن أبا بكر الصديق -رضى الله عنه- كان يُنشد:

(*) فإذا أفرد: "نسخة".

ص: 65

إذا أردت شريف الناس كلهم

فانظر إِلَى ملك في زي مسكين

ذاك الَّذِي حسُنت في الناس سيرته

وذاك يصلح للدنيا وللدين

وكان علي رضي الله عنه يعاتب عَلَى لباسه فيقول: هو أبعدُ من الكبر، وأجدر أن يقتدي بي المسلم (1).

وعُوتب عمر بن عبد العزيز عَلَى ذلك فَقَالَ: إن أفضل القصد عند الجدة. يعني: أفضل ما اقتصد الرجل في لباسه عقدرته ووجدانه.

وفي سنن أبي داود (2) وغيره (3) عن النبى صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "البذاذة من الإيمان" يعني: التقشف.

وفي الترمذي (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك اللباس تواضعًا لله عز وجل وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة [عَلَى رؤوس الخلائق] (5) حتى يخيره من أي حُلل الإيمان شاء يلبسها".

وخرَّجه أبو داود (6) من وجه آخر ولفظه: "من ترك ثوب جمال -أحسبه قال: تواضعًا- كساه الله حلة الكرامة".

وإنما يُذم من ترك اللباس مع قدرته عليه بخلا عَلَى نفسه، أو كتمانًا لنعمة الله عز وجل، وفي هذا جاء الحديث المشهور:"إن الله إذا أنعم عَلَى عبد نعمة أَحَبّ أن يرى أثر نعمته عَلَى عبده"(7).

(1) أخرجه أحمد في الزهد (ص 132) والفضائل (924) والحاكم (3/ 143) وأبو نعيم في الحلية (1/ 82 - 83) وفيه شريك القاضي صدوق سيء الحفظ. وأخرجه أحمد في الفضائل (923) وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص 131) والفضائل (893) وأبو نعيم (1/ 83).

(2)

برقم (4161).

(3)

وأخرجه ابن ماجه (4118) وغيره، وانظر الصحيحة للعلامة الألباني برقم (341).

(4)

برقم (2481) وقال: هذا حديث حسن. وقال ابن الجوزي في العلل (1129): هذا حديث لا يصح.

(5)

ما بين المعقوفتين من جامع الترمذي.

(6)

برقم (4778). قال المنذري في مختصر السنن (7/ 164): فيه رواية مجهول.

(7)

أخرجه أحمد (4/ 438)، والطبراني في الكبير (18/ 281، 418) قال الهيثمي=

ص: 66

ومن لبس لباسًا حسنًا إظهارًا لنعمة الله ولم يفعله اختيالاً كان حسنًا.

وكان كثير من الصحابة والتابعين يلبسون لباسًا حسنًا، منهم: ابن عباس، والحسن البصري.

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل عن الرجل يحب أن يكون لباسه حسنًا ونعله حسنًا؟

قال: "ليس ذلك بالكبر، إِنَّمَا الكبر بطر الحق وغمط الناس"(1).

يعني: التكبر عن قبول الحق والانقياد له، واحتقارُ الناس وازدراؤهم فهذا هو الكبر، فأما مجرد اللباس الحسن الخالي عن الخيلاء فليس بكبر، واحتقارُ الناس مع رثاثة اللباس كبر.

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه كان ماشيًا في طريق، وهناك أمة سوداء، فَقَالَ لها رجل: الطريق! الطريق! للنبي صلى الله عليه وسلم.

فقالت: الطريق يُمنةً ويُسرةً!.

فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنَّه جبارة". خرَّجه النسائي (2) وغيره (3)، وفي رواية للطبراني (4) وغيره: قالوا: يا رسول الله! إنها. يعني: مسكينة. قال:

=في المجمع (5/ 132): رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات.

(1)

أخرجه مسلم (91) بنحوه من حديث ابن مسعود.

(2)

في السنن الكبرى (6/ 143) برقم (10391) من حديث أبي بردة عن أبيه. قال النسائي: عافية بن يزيد ثقة، وسليمان الهاشمي. لا أعرفه.

(3)

وأخرجه أبو يعلى (3276)، والطبراني في الأوسط (8160)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 291) من حديث أنس.

وقال الهيثمي في المجمع (1/ 99): رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى، وفيه يحيى الحماني ضعفه أحمد، ورماه بالكذب، ورواه البزار وضعفه براوٍ آخر.

وقال البوصيري في الإتحاف (7107 - ط. دار الوطن): رواه أبو يعلى عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، وقد ضعفه الجمهور.

(4)

في المعجم الكبير كما في المجمع (1/ 99) من حديث أبي موسى بلفظ: "إن لا يكن ذلك في قدرتها، فإنَّه في قلبها". قال الهيثمي: وفيه بلال بن أبي بردة.

ص: 67

"إن ذاك قلبها".

يعني: أن الكبر في قلبها وإن كان لباسها لباس المساكين.

وقال الحسن: إن قومًا جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في صدورهم، إن أحدهم أشد كبرًا بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المنبر بمنبره. قال أحمد بن أبي الحواري: قال لي سليمان بن أبي سليمان -وكان يُعدلُ بأبيه: أي شيء أرداو بثياب الصوف؟.

قلت: التواضع. قال: وما يتكبر أحدهم إلا إذا لبس الصوف".

وقال أبو سليمان: يكون ظاهرك قطنيًّا وباطنك صوفيًّا.

قال أبو الحسن بن بشار: صوَّف قلبك، والبس القوهي عَلَى القوهي.

يعني: رفيع الثياب.

فمتى أظهر الإنسان لباس المساكين لدعوى الصلاح ليشتهر بذلك عند الناس كان ذلك كبرًا ورياء، ومن هنا ترك كثير من السَّلف المخلصين اللباس المختص بالفقراء والصالحين، وقالوا: إنه شهرة.

ولما قدم سيّار أبو الحكم البصرة لزيارة مالك بن دينار لبس ثيابًا حسنة ثم دخل المسجد فصلى صلاة حسنة، فرآه مالك -ولم يعرفه- فَقَالَ له: يا شيخ! إني أرغب بك عن هذه الثياب مع هذه الصلاة.

فَقَالَ له: يا مالك! ثيابي هذه تضعني عندك أم ترفعُني؟!

قال: بل تضعك. فَقَالَ: نعم الثوب ثوب يضع صاحبه عند الناس، ولكن انظر يا مالك لعل ثوبيك هذين -يعني: الصوف- أنزلاك عند الناس ما لم يُنزلاك من الله.

فبكى مالك وقام إِلَيْهِ واعتنقه، وقال له: أنشدك الله أنت سيار أبو الحكم؟ قال: نعم.

فلهذا كَرِه من كَرِه من السَّلف كابن سيرين وغيره لباس الصوف حيث صار شعار الزاهدين، فيكون لباسه إشهارًا للنفس، وإظهارًا للزهد، وأما النبي صلّى الله عليه وسلم

ص: 68

فكان يلبس ما وجد، فتارة يلبس لباس الأغنياء من حلل اليمن وثياب الشام ونحوها، وتارة يلبس لباس المساكين فيلبس جُبَّة من صوف أحيانًا، وأحيانًا يتزر بعباءة ويهنأ إبل الصدقة بيده، يعني أنَّه يطليها بيده ويُصلحها كما يفعل أرباب الإبل بها.

ولم يبعث الله نبيًّا من أهل الكبر، وإنَّما بعث من لا كبر عنده، ولا يتكبر عن معالجة الأشياء التي يأنف منها المتكبرون كرعاية الإبل (والغنم)(*)، وإجارة نفسه (1) عند الحاجة إِلَى الاكتساب: ومن أعطاه الله منهم مُلكًا فإنَّه يزداد به تواضعا لله عز وجل كداود وسليمان ومحمد صلى الله عليه وسلم.

وقد يطلق اسم المسكين ويُراد به من استكان قلبه لله، وانكسر له وتواضع لجلاله وكبريائه وعظمته وخشيته ومحبته ومهابته.

وعلى هذا المعنى حمل بعضهم الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "اللهم أحييني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين" خرَّجه الترمذي من حديث أنس (2)، وخرّجه ابن ماجه من حديث ابن عباس (3).

وفي حمله عَلَى ذلك نظرٌ لأنّ في تمام حديثيهما ما يدل عَلَى أن المراد به المساكين من المال؛ لأنّه ذكر سَبْقَهُم الأغنياء إِلَى الجنة، مع أن في إسناد الحديثين ضعفًا.

وقد خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا ملكًا أو عبدًا رسولاً، فأشار إِلَيْهِ جبريل أن تواضع. فَقَالَ: بل عبدًا رسولاً. وكان بعد ذلك لا يأكل متكئًا، ويقول:

(*) والبقر: "نسخة".

(1)

أي: اشتغاله أجيرًا للآخرين.

(2)

برقم (2352) وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(3)

وهم المصنف رحمه الله في عزو الحديث لابن عباس عند ابن ماجه فقد أخرجه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري برقم (4126). قال البوصيري في مصباح الزجاجة: هذا إسناد ضعيف، أبو المبارك لا يعرف اسمه وهو مجهول، ويزيد بن سنان التميمي أبو فروة ضعيف.

ص: 69

"آكل كما يأكل العبد. وأجلس كما يجلس العبد"(1).

قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأعطاني الله لذلك أن جعلني سيد ولد آدم، وأول شافع، أول مشفع، وأول من تنشق عنه الأرض". وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إِنَّمَا أنا عبد، فقولوا:

(1) ورد هذا الحديث عن عدة من الصحابة فمنهم:

أ- عائشة رضي الله عنها:

رواه عنها ابن سعد في الطبقات (1/ 381)، وأبو يعلي (4920) ومن طريق أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (ص 197) والبغوي في شرح السنة (3683)، والذهبي في السير (2/ 195).

قال الهيثمي في المجمع (9/ 19): رواه أبو يعلى وإسناده حسن.

وقال الذهبي في السير (2/ 195): هذا حديث حسن غريب.

ب- أنس رضي الله عنه:

رواه عنه ابن شاهين في ناسخ الحديث ومنسوخه (637).

ج- ابن عباس رضي الله عنه.

رواه عنه النسائي في الكبرى (6743) والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 124)، والطبراني كما في المجمع (9/ 20)، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (ص 198) ومن طريقه البغوي في شرح السنة (3684).

قال الهيثمي في المجمع (9/ 20): وفيه بقية بن الوليد وهو مدلس.

قلت: وفي السند انقطاع بين محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وبين جده عبد الله ابن عباس.

وضعف الحديث العراقي في تخريج الأحياء (3/ 340).

ورُوي الحديث مرسلاً عن الزهري وطاوس ويحيى بن أبي كثير والحسن.

فأما مرسل الزهري فأخرجه معمر في جامعه (19551 - مع المصنف).

وأما مرسل طاوس فأخرجه معمر أيضاً (19552).

وأما مرسل يحيى بن أبي كثير فأخرجه معمر (19554)، ومن طريقه البيهقي في الشعب (5975)، وابن سعد في الطبقات (1/ 371).

قال الحافظ في التلخيص الحبير (3/ 125) بعد أن ذكر الحديث، ولأبي الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر نحوه ومن حديث عائشة وإسنادهما ضعيف ولابن شاهين من طريق عطاء بن يسار مرسلاً نحوه. ثم ذكر رواية عائشة عند ابن سعد، قال: وللبيهقي في الشعب والدلائل من حديث ابن عباس في قصة قال فيها:=

ص: 70

عبد الله ورسوله" (1). فأشرف أسمائه: عبد الله ولهذا سُمِّى بهذا الاسم في القرآن في أفخر مقاماته، فلما حقق صلى الله عليه وسلم (عبوديته لربه)(*) حصلت له السيادة عَلَى جميع الخلق.

كان كثير من العارفين يقول في مناجاته لربه: كفى بي فخرًا أني لك عبدٌ، وكفى بي شرفًا أنك لي رب.

وكان بعضهم يقول: كلما ذكرت أنَّه ربي وأني عبده حصل لي من السرور ما يصلح به بدني:

شرف النفوس دخولها في رقهم

والعبد يحوي الفخر بالمتملَّك

وكان أبو يزيد البسطامي ينشد:

واليتني صرت شيئًا

من غير شيء أعد

أصبحت للكل مولى

لأنني لك عبد

فمن انكسر قلبه لله تعالى -واستكان وخشع وتواضع جبره الله عز وجل ورفعه بقدر ذلك وفي الأثر المشهور: أن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام

=فما أكل صلى الله عليه وسلم بعد تلك الكلمة طعامًا متكئًا حتى لقي الله. ورواه النسائي بلفظ "قط" بدل "حتى لقي الله"، وإسناده حسن فإنَّه من رواية بقية عن الزبيدي وقد صرح، ووافقه معمر عن الزهري أخرجه عبد الرزاق أيضًا. وذكر العجلوني في كشف الخفاء (1/ 17): الحديث "آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد" وقال: رواه ابن سعد بسند حسن وأبو يعلى عن عائشة، وفي رواية البيهقي عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً بزيادة:"فإنما أنا عبد" ورواه هناد في "الزهد"(800) عن عمرو بن مرة مرسلاً بلفظ: آكل كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده لو كانت الدُّنْيَا تزن ثم الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا كأسًا".

قلت: ولفقرات الحديث شواهد يتقوى بها انظرها في تخريج الشيخ جاسم الدوسري لهذا الحديث برقم (302) فقد أفاد وأجاد حفظه الله وقد استفدت منه في تخريج هذا الحديث وغيره، فجزاه الله خير الجزاء.

(1)

أخرجه البخاري (3445) عن عمر بن الخطاب.

(*) عبودية ربه "نسخة".

ص: 71

حين سأله: أين أجدك؟. قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم كل يوم باعًا ولولا ذلك لانهدموا (1).

ورُوي عن عبد الله بن سلام أنَّه فسره، فَقَالَ: هم المنكسرة قلوبهم بحب الله عن حب غيره.

وفي الحديث المشهور المرفوع: "إن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له، فَإِذَا تجلَّى لقلوب العارفين عظمة الله وجلاله وكبرياؤه اندكَّت قلوبهم من هيبته، وخشعت وانكسرت من محبته ومخافته"(2).

مساكين أهل الحب حتى قبورهم

عليها تراب الذل بين المقابر

فالمسكين في الحقيقة من استكان قلبه لربه وخشع من خشيته ومحبته، ولا يكون المسكين ممدوحًا بدو هذه الصفة، فإن من لم يخشع قلبه مع فقره وحاجته فهو جبار كتلك الأمة السوداء التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:"إنها جبارة".

وهو إما عائل مستكبر أو فقير مختال، وكلاهما لا ينظر الله إِلَيْهِ يوم القيامة، فالمؤمن يستكين قلبه لربه ويخشع له ويتواضع، ويظهر مسكنته وفاقته إِلَيْهِ في الشدة والرخاء، أما في حال الرضا فإظهارًا للشكر، وأما في حال الشدة فإظهارًا للذل والعبودية والفاقة والحاجة إِلَى كشف الضر، قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]، فذمّ من لا يستكين لربه عند الشدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج عند الاستسقاء متواضعًا متخشعًا

(1) أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (1/ 57) وأبو نعيم في الحلية (6/ 177) عن عمران القصير قال: قال موسى وفيه انقطاع بين عمران وموسى عليه السلام. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 364) عن مالك بن دينار قال: قال موسى عليه السلام وفيه انقطاع أيضاً.

قال القاري في الأسرار المرفوعة (ص 118): لا أصل له.

(2)

قال الشيخ جاسم: لم أقف عليه ولا أظنه إلا موضوعًا، فهو أشبه بكلام المتصوفة من كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم وغفر الله لابن رجب ما كان أغناه عن مثل هذه الأحاديث التى لا خطام لها ولا أزمة.

ص: 72

متمسكنًا (1).

وحبس لمطرف بن عبد الله قريب له فلبس خلقان ثيابه، وأخذ بيده قصبة، وقال: أتمسكن لربي لعله يُشفعني فيه.

ومما يشرع فيه التمسكن لله حال الصلاة كما في حديث الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة مثنى مثنى، تَشَهَّدُ في كل ركعتين، وتخَشَّعُ، وتَضَرَّع وتمسكن، وتقنع يديك -يقول: ترفعهما- وتقول: يا رب ثلاثًا، فمن لم يفعل ذلك (فهي خداج) (*) ". خرّجه الترمذي (2) وغيره (3).

وكذلك يشرع إظهار المسكنة في الدعاء.

خرَّج الطبراني (4) من حديث ابن عباس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة، ويداه إِلَى صدره كاستطعام المسكين.

ومن حديثه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعائه عشية عرفة: "أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ، الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ، الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذَنْبِهِ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ"(5).

(1) أخرجه أحمد (1/ 230، 269) وأبو داود (1165) والترمذي (558، 559) وقال: حسن صحيح. والنسائي (3/ 156 - 157) وابن ماجه (1266).

(*) في نسخة "الأمبروزيانا": كررت هذه العبارة "ثلاث مرات"، وفي سنن الترمذي:"فهو كذا وكذا".

قال أبو عيسى: وقال غير ابن المبارك في هذا الحديث: "من لم يفعل ذلك فهي خداج".

(2)

برقم (385) ونقل قول البخاري: وحديث الليث بن سعد هو حديث صحيح، يعني أصح من حديث شعبة.

(3)

وأخرجه أحمد (1/ 211) والنسائي في الكبرى تحفة الأشراف (8/ 264) من حديث الفضل، وأخرجه الطيالسي (1366) وأحمد (4/ 167) وأبو داود (1296) والنسائي في الكبرى في التحفة (8/ 391) وابن ماجه (1325).

(4)

في الأوسط (2892) عن ابن عباس.

قال الهيثمي في المجمع (10/ 168): "وفيه الحسين بن عبد الله بن عبيد الله، وهو ضعيف".

(5)

قطعة من حديث أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 11405) والصغير (1/ 247) والخطيب في التاريخ (6/ 163) ومن طريقه: ابن الجوزي في العلل (1412) عن ابن عباس.

قال الهيثمي في المجمع (3/ 252): "وفيه يحيى بن صالح الأبلي، قال العقيلي:=

ص: 73

وكان بعض السَّلف يجلس بالليل مطرقا رأسه، ويمد يديه وهو ساكت كحال المسكين المستعطي. وقال طاوس: دخل علي بن الحسين الحجر ليلة فصلى، فسمعته يقول في سجوده: عُبيدك بِفِنَائِكَ، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك.

قال طاوس: فحفظتهن، فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني.

وكان بعض العباد قد حج ثمانين حجة عَلَى قدميه، فبينما هو في الطواف وهو يقول: يا حبيبي! يا حبيبي! فهتف به هاتف: ليس ترضى أن تكون مسكينًا حتى تكون حبيبًا! فغشي عليه فكان بعد ذلك يقول: مسكينك مسكينك.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

أنا الفقير إِلَى رب السماوات

أنا المسكين في مجموع حالاتي

أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي

والخير إن جاءنا من عنده يأتي

قوله صلى الله عليه وسلم: "وأن تغفر لي وترحمني": المغفرة والرحمة يجمعان خير الآخرة كله؛ لأنّ المغفرة (ستر)(*) الذنب مع وقاية شره، وقد قيل: إنه لا تجتمع المغفرة مع عقوبة الذنب، حيث كانت المغفرة وقاية لشر الذنب، وهذا لا يكون مع عقوبة عليه، ولذلك سمي المِغفر مغفرًا؛ لأنّه يستر الرأس ويقيه الأذى، وهذا بخلاف العفو، فإنَّه يكون تارة قبل العقوبة وتارة بعدها.

وأما الرحمة فهي دخول الجنة وعلوّ درجاتها، وجميعُ ما في الجنة من (النعيم)(**) بالمخلوقات، ومن رضى الله وقربه ومشاهدته وزيارته فإنَّه من رحمة الله، وفي الحديث الصحيح: "إن الله عز وجل يقول للجنة: أنت رحمتي

=روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح". ا. هـ.

وقال ابن الجوزي: "حديث لا يصح" وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/ 254): "إسناده ضعيف".

(*) تستر: "نسخة".

(**) كتب في حاشية "نسخة الامبروزيانا" أنها في نسخة: "النعم".

ص: 74

أرحم بك من أشاء من عبادي" (1).

فكل ما في الجنة فهو من رحمته عز وجل، وإنَّما تنال برحمته لا بالعمل كما قال صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله".

قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!.

قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته"(2).

قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون": المقصود بهذا الدعاء سلامة العبد من فتن الدُّنْيَا مدة حياته، فإن قُدِّر الله عَلَى عباده فتنة قبض عبده إِلَيْهِ قبل وقوعها، وهذا من أم الأدعية فإن المؤمن إذا عاش سليمًا من الفتن ثم قبضه الله قبل وقوعها وحصول الناس فيها كان في ذلك نجاة له من الشر كله، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن (3).

وفي حديث آخر: "وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن"(4).

وكان يخص بعض الفتن العظيمة بالذكر، فكان يتعوَّذ في صلاته من أربع، ويأمر بالتعوذ منها:"أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"(5).

ففتنة المحيا يدخل فيها فتنُ الدين والدنيا كلها، (كالكفر)(*) والبدع

(1) تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري (6467) ومسلم (2818) من حديث عائشة.

وأخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة.

(3)

قطعة من حديث أخرجه مسلم (2867) عن زيد بن ثابت مطولاً.

(4)

قطعة من حديث أخرجه أبو داود (969)، وابن حيان (2429)، والحاكم (1/ 265) وقال: صحيح عَلَى شرط مسلم.

(5)

أخرجه البخاري (833) ومسلم (589) عن عائشة، وأخرجه مسلم (588) عن أبي هريرة وعن ابن عباس (590) بألفاظ متعددة.

(*) كالفقر: "نسخة".

ص: 75

والفسوق والعصيان. وفتنة الممات يدخل فيها سوء الخاتمة وفتنة الملكين في القبر، فإن الناس يفتنون في قبورهم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال.

ثم خصَّ فتنة الدجال بالذكر لعظم موقعها، فإنَّه لم يكن في الدُّنْيَا فتنة قبل يوم القيامة أعظم منها، وكلما قرب الزمان من الساعة كثرت الفتن.

وفي حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنه لم يبق من الدُّنْيَا إلا بلاء وفتنة"(1).

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن التي تكون كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدُّنْيَا (2).

وكان أول هذه الفتن ما حدث بعد عمر رضي الله عنه، ونشأ من تلك الفتن قتلُ عثمان رضي الله عنه، وما ترتب عليه من إراقة الدماء وتفرُّق القلوب وظهور فتن الدين كبدع الخوارج المارقين من الدين وإظهارهم ما أظهروا، ثم ظهور بدع أهل القدر والرفض ونحوهم، وهذه هي الفتنة التي تموج كموج البحر المذكورة في حديث حذيفة المشهور حين سأله عنها عمر (3)، وكان حذيفة رضي الله عنه من كثر الناس سؤالاً للنبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن خوفًا من الوقوع فيها (4). ولما حضره الموت قال: حبيب جاء عَلَى فاقة، لا أفلح من ندم! الحمد لله الَّذِي سبق بي الفتنة! قادتها وعلوجها (5)(6). وكان موته قبل قتل عثمان رضي الله عنه بنحو من أربعين يومًا، وقيل: بل مات (بعد قتل) عثمان.

(1) أخرجه أحمد (4/ 94)، وابن ماجه (4035) وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح رجاله ثقات.

(2)

أخرجه مسلم (118) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه البخاري (7096)، ومسلم (144).

(4)

أخرجه البخاري (7084)، ومسلم (1847).

(5)

العلوج جمع عِلْج، وهو الرجل من كفار العجم (اللسان مادة: علج).

(6)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 282).

ص: 76

وكان في تلك الأيام رجل من الصحابة نائمًا، فأتاه آتٍ في منامه فَقَالَ له: قم! فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فتوضأ وصلى، ثم اشتكى ومات (بعد قليل)(*).

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لرجل: "إذا مت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان فإن استطعت أن تموت فمت"(1)، وهذا إشارة إِلَى هذه الفتن التي وقعت بمقتل عثمان رضي الله عنه.

والدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين جائزٌ، وقد دعا به الصحابة والصالحون بعدهم، ولما حج عمر رضي الله عنه آخر حجة حجها استلقى بالأبطح ثم رفع يديه وقال: اللهم إنه قد كبرت سني، ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون. ثم رجع إِلَى المدينة فما انسلخ الشهر حتى قتل رضي الله عنه (2).

ودعا علي ربه أن يريحه من رعيته حيث سئم منهم فقتل عن قريب.

(*) عن قريب: "نسخة".

(1)

أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/ 165 - 166)، وابن عدي في الكامل (4/ 351 - علمية)، وابن حبان في المجروحين (1/ 341) من طريق سلم بن ميمون الخواص ثنا سليمان بن حيان حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن سهل بن أبي حثمة

فذكره.

قال العقيلي عن سلم: حدث بمناكير لا يتابع عليها ثم ذكر هذا الحديث منها.

وقال ابن حبان عنه: من عباد أهل الشام وقرائهم ممن غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فربما ذكر الشيء بعد الشيء ويقلبه توهمًا لا تعمدًا، فبطل الاحتجاج بما يروي إذا لم يوافق الثقات.

وقال ابن عدي عنه: روى عن جماعة ثقات ما لا يتابعه الثقات عليه، أسانيدها ومتونها ثم ذكر هذا الحديث وقال: ولسلم الخواص أحاديث، وهذا الحديث لا يرويه عن سليمان بن حيان غير سلم الخواص، وله غير ما ذكرت أحاديث معلومة الإسناد والمتن، وهو في عداد المتصوفة الكبار، وليس الحديث من عمله، ولعله كان يقصد أن يصيب، فيخطئ في الإسناد والمتن، لأنه لم يكن من عمله.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ (2/ 824) وأبو نعيم في الحلية (1/ 54).

ص: 77

ودعت زينب بنت جحش لما جاءها عطاءُ عمر من المال فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعدها، فماتت قبل العطاء الثاني (1).

ولما ضجر عمر بن عبد العزيز من رعيته حيث ثقل عليهم قيامه فيهم بالحق طلب من رجل كان معروفا بإجابة (الدعوة)(*) أن يدعو له بالموت، فدعا له ولنفسه بالموت فماتا. ودعي طائفة من السَّلف الصالح إِلَى ولاية القضاء، فاستمهلوا ثلاثة أيام فدعوا الله لأنفسهم بالموت فماتوا.

واطُّلع عَلَى حال بعض الصالحين ومعاملاته التي كانت سرًّا بينه وبين ربه، فسأل الله أن يقبضه إِلَيْهِ خوفًا من فتنة (الاشتهار)(**) فمات.

فإن الشهرة بالخير فتنة كما جاء في الحديث: "كفى بالمرء فتنة أن يُشار إِلَيْهِ بالأصابع، فإنها فتنة"(2).

(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 300 - 301)، (8/ 109 - 110)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 54).

(*) الدعاء: "نسخة".

(**) الدين: "نسخة".

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 210، 228) والعقيلي في الضعفاء (4/ 7) ومن طريقه ابن الجوزي في العلل (1380) وأبو نعيم في الحلية (5/ 247) والبيهقي في الشعب (6979) عن عمران بن حصين مرفوعًا: "كفى بالمرء إثمًا أن يُشار إِلَيْهِ بالأصابع". قالوا: يا رسول الله وإن كان خيرًا؟! قال: "وإن كان خيرًا فهي مزلة إلا من رحمه الله وإن كان شرًّا فهو شر".

قال ابن الجوزي: لا يصح. وضعفه العراقي في تخريج الإحياء (3/ 276).

وأخرجه البيهقي في الشعب (6977) من حديث أنس مرفوعًا: "حسب امرئ من الشر -إلا من عصمه الله- أن يشير إِلَيْهِ الناس بالأصابع في دينه ودنياه" قال المناوي في الفيض (3/ 197): "وفيه يوسف بن يعقوب، فإن كان النيسابوري فقد قال أبو علي الحافظ: ما رأيت بنيسابور من يكذب غيره. وإن كان القاضي باليمن فمجهول، وابن لهيعة وسبق ضعفه". أ. هـ.

وأخرجه البيهقي من طريق عطاء الخراساني عن أبي هريرة بهذا اللفظ، وفيه كلثوم بن محمد بن أبي سدرة، قال أبو حاتم: يتكلمون فيه. (اللسان: 4/ 489) وعطاء لم يسمع من أبي هريرة فهو منقطع. (جامع التحصيل ص 290 - 291).=

ص: 78

كان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيرًا فسئل عن ذلك، فَقَالَ: ما يدريني! لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحلّ لي، لعلي أدخل في فتنة، أكون قد مت فسبقت هذا.

واعلم أن الإنسان لا يخلوا من فتنة، قال ابن مسعود: لا يقل أحدكم: أعوذ بالله من الفتن، ولكن ليقل: أعوذ بالله من مضلات الفتن. ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15](1).

يشير إِلَى أنَّه لا يستعاذ من المال والولد وهما فتنة.

وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تقول: "اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أبقيتني"(2).

وقد جعل النبي، النساء والأموال فتنة، ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال:"ما تركت بعدي فتنة أضر عَلَى الرجال من النساء"(3).

وفيه أيضاً (4) أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدُّنْيَا كما بُسطت عَلَى من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".

=وأخرجه الطبراني في الأوسط (مجمع البحرين: ق 496) من طريق آخر عن أبي هريرة، وقال الهيثمي (10/ 297):"وفيه عبد العزيز بن حصين وهو ضعيف". أ. هـ وأشار البيهقي إِلَى هذا الطريق، وقال:"هذا إسناد ضعيف". والحديث ضعفه العراقي في تخريج الإحياء (3/ 275). قلت: وفيه عنعنة الحسن. وقد استفدت تخريج هذا من الشيخ جاسم الدوسري حفظه الله.

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير (9/ 8931).

قال الهيثمي (7/ 220): "إسناده منقطع، وفيه المسعودي وقد اختلط".

(2)

قطعه من حديث أخرجه أحمد (6/ 301 - 302) عن أم سلمة.

قال الهيثمي (7/ 211): "وفيه شهر وقد وُثِّق وفيه ضعف".

وقال أيضاً (10/ 176): "إسناده حسن".

(3)

أخرجه البخاري (5096) ومسلم (2740) عن أسامة بن زيد.

(4)

أخرجه البخاري (3158) ومسلم (2961) عن عمرو بن عوف.

ص: 79

وفي صحيح مسلم (1) عنه صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".

وفي الترمذي (2) أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال".

وقد قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20]، فالرجل فتنة للمرأة، والمرأة فتنة للرجل، والغني فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني، والفاجر فتنة للبر، والبر فتنة للفاجر، والكافر فتنة للمؤمن، والمؤمن فتنة للكافر قال تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، وقال عز وجل:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، فجعل كل ما يصيب الإنسان من شر أو خير فتنة، يعني أنَّه محنة يمتحن بها، فإن أصيب بخير امتحن به شكره، وإن أصيب بشر امتحن به صبره.

وفتنة السراء أشد من فتنة الضراء، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: بُلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر (3).

وقال بعضهم: فتنة الضراء يصبر عليها البر والفاجر، ولا يصبر عَلَى فتنة السراء إلا صديق.

ولما ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع، وقال: كانت زيادة في إيماني. فلما ابتلي بفتنة السراء جزع وتمنّى الموت صباحًا ومساء، وخشي أن يكون نقصًا في دينه.

ثم إن المؤمن لابد أن يفتن بشيء من الفتن المؤلمة الشاقة عليه ليمتحن إيمانه كما قال الله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا

(1) برقم (2742) عن أبي سعيد الخدري.

(2)

برقم (2336) وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

(3)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (519)، والترمذي (2464) وحسنه، وأبو نعيم في الحلية (1/ 100).

ص: 80

يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]، ولكن الله يلطف بعباده المؤمنين في هذه الفتن، ويصبرهم عليها، ويثيبهم فيها، ولا يلقيهم في فتنة مضلة مهلكة تذهب بدينهم، بل تمر عليهم الفتن وهم فيها في عافية.

وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن لله ضنائن (1) من عباده يغذوهم في رحمته، ويحييهم في (عافية) (*)، ويتوفاهم إِلَى جنته، أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، وهم (فيها) (**) في عافية"(2).

والفتن الصغار التي يُبتلى بها المرء في أهله وماله وولده وجاره تكفِّرها الطاعات من الصلاة والصيام والصدقة كذا جاء في حديث حذيفة (3).

ورُوي عنه أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن في لساني ذربًا، وإن عامة ذلك عَلَى أهلي. فَقَالَ له:"أين أنت من الاستغفار"؟! (4).

وأما الفتن المضلة التي يخشى منها فساد الدين فهي التي يُستعاذ منها، ويسأل الموت قبلها، فمن مات قبل وقوعه في شيء من هذه الفتن فقد حفظه الله

(1) أي: خصائص، واحدهم ضنينة من الضنِّ، وهو ما تختصه لنفسك (النهاية 3/ 104)

(*) عافيته: "نسخة".

(**) عنها: "نسخة".

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 13425) والأوسط (6369)، والعقيلي (4/ 152) وأبو نعيم في الحلية (1/ 6) عن ابن عمر، وفي إسناده مسلم بن عبد الله، قال العقيلي:"مجهول بالنقل وحديثه غير محفوظ" وقال: "والرواية في هذا الباب فيها لين".

وقال الذهبي في الميزان (4/ 105): "لا يعرف، والخبر منكر".

وقال الهيثمي (10/ 266): "وفيه مسلم بن عبد الله الحمصي، ولم أعرفه.

وقد جهله الذهبي، وبقية رجاله وثقوا" ا. هـ.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

أخرجه أحمد (5/ 394، 396، 397، 402) والدارمي (2/- 302) والنسائي في عمل اليوم والليلة (448 - 453) وابن ماجه (3817) عن حذيفة قال البوصيري في زوائده: "في إسناده أبو المغيرة البجلي مضطرب الحديث عن حذيفة، قاله الذهبي في الكاشف".

ص: 81

وحماه.

وفي "المسند" عن محمود بن لبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خيرٌ للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب"(1).

قوله صلى الله عليه وسلم: "وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الَّذِي يبلغني حبك": هذا الدعاء يجمعُ كل خير، فإن الأفعال الاختيارية من العباد إِنَّمَا تنشأ عن محبة وإرادة، فإن كانت محبة الله ثابتة في قلب العبد نشأت عنها حركات الجوارح فكانت بحسب ما يحبه الله ويرتضيه، فأحبَّ ما يحبه الله من الأعمال والأقوال كلها، ففعل حينئذ الخيرات كلها وترك المنكرات كلها، وأحب من يحبه الله من خلقه، وهذا الدعاء كانت الأنبياء عليهم السلام تدعوا به كما في الترمذي (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن داود عليه السلام كان يقول: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني ألى حبك، اللهم اجعل حبك أَحَبّ إليَّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد".

وفيه أيضاً (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: "اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إِلَى حبك، اللهم ما رزقتني مما أَحَبّ فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغًا لي فيما تحب".

وفي حديث مرسل خرَّجه ابن أبي الدُّنْيَا وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم اجعل حبك أَحَبّ الأشياء إِلَيَّ، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدُّنْيَا بالشوق إِلَى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدُّنْيَا من دنياهم

(1) أخرجه أحمد (5/ 427، 428) والبغوي في شرح السنة (14/ 267) عن محمود ابن لبيد، قال الهيثمي في المجمع (10/ 257) رواه أحمد بإسنادين، رواة أحدهما محتج بهم في الصحيح، ا. هـ.

(2)

برقم (3490) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

(3)

برقم (3491) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

ص: 82