الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني عشر في ذكر تغيظها وزفيرها
قَالَ الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102].
وقال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12].
وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 6 - 8].
والشهيق: الصوت الَّذِي يخرج من الجوف بشدة كصوت الحمار.
قَالَ الربيع بن أنس: الشهيق في الصدر.
وقال مجاهد في قوله {وَهِيَ تَفُورُ} قَالَ: تغلي بهم كما تغلي القدورة.
وقال ابن عباس: تتميز: تفرق، وعنه قَالَ: يكاد يفارق بعضها بعضًا وتتفطر.
وعن الضحاك: تتميز: تتفطر.
وقال ابن زيد: التميز: التفرق من شدة الغيظ عَلَى أهل معاصي الله عز وجل، غضبًا لله، وانتقامًا له.
وخرج ابن أبي حاتم (1)، من حديث خالد بن دريك، عن رجل من الصحابة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تقول علي ما لم أقل، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدًا.
قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل لها عينان؟
قَالَ: نعم، أو لم تسمع قول الله عز وجل:{ذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12].
(1) كما في "تفسير ابن كثير"(6/ 62 - دار الإيمان).
وروى أبو يحيى القتاتُ، عن مجاهد عن ابنِ عباسٍ قالَ: إن العبدَ ليجرُّ إلى النارِ، فتشهقُ إليه شهقةَ البغلةِ إلى الشعير، ثم تزفرُ زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا خافَ. خرَّجهُ ابنُ أبي حاتمٍ (1).
وقال كعب: ما خلقَ اللَّهُ من شيءٍ، إلا وهوَ يسمعُ زفيرَ جهنم غدوةً وعشيةً، إلا الثقلينِ، اللذينِ عليهما الحسابُ والعذابُ. خرَّجَه الجوزجانيّ.
وفي كتابِ "الزهدِ" لهنادِ بنِ السريِّ (2)، عن مغيثِ بنِ سمي، قالَ: إنَّ لجهنمَ كلَّ يومٍ زفرتين، يسمعُهما كلُّ شيءٍ إلا الثقلينِ اللذينِ عليهما الحسابُ والعذابُ.
وعن الضحاك قالَ: إن لجهنَّمَ زفرة يومَ القيامة، لا يبقى ملكٌ مقرَّبٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ، إلا خرَّ ساجدًا يقولُ: رب نفسي نفسِي.
وعن عبيدِ بنِ عميرٍ، قالَ: تزفرُ جهنمُ زفرةً، فلا يبقى ملكٌ، ولا نبيٌّ، إلا وقعَ لركبتيه، ترعدُ فرائصُهُ، يقولُ: ربِّ نفسي نفسي.
وروى ابنُ أبي الدُّنيا وغيرُه، عن الضحاكِ، قالَ: ينزلُ الملكُ الأعلَى في بهائه وملكِهِ، مجنبته اليسرى جهنمُ، فيسمعونَ شهيقها وزفيرهَا فيندُّون.
وعن وهبِ بنِ مُنَبِّه، قالَ: إذا سيرتِ الجبالُ، فسمعتْ حسيسَ النارِ وتغيظَها وزفيرَها وشهيقَها، صرختِ الجبالُ كما تصرخُ النساءُ، ثم يرجعُ أوائلُها على أواخرِهَا، يدقُ بعضُها بعضًا. خرَّجهُ الإمامُ أحمد (3).
وفي تفسيرِ آدمَ بنِ أبي إياس عن محمدِ بنِ الفضلِ، عن عليِّ بنِ زيدِ بن جدعان، عن أبي الضُّحى، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: تزفرُ جهنمُ زفرةً، لا يبْقَى ملكٌ
(1) كما في تفسير ابن كثير (3/ 312) ثم قَالَ ابن كثير: هكذا رواه ابن أبي حاتم بإسناده مختصراً، وقد رواه الإمام أبو جعفر الطبري ثم ساق سنده، ثم قَالَ: وهذا إسناد صحيح.
(2)
برقم (255).
(3)
في "الزهد"(373، 374 - علمية).
مقرب، ولا نبيٌّ مرسلٌ، إلا جثا على ركبتيهِ حولَ جهنَّم، فتطيشُ عقولهُم، فيقولُ اللَّهُ عز وجل: ماذا أجبتُمُ؟
قالُوا: لا علمَ لنا.
ثم تُردُّ عليهم عقولُهم، فينطقونَ بحجتِهِم، وينطقونَ بعذرِهِم.
محمدُ بنُ الفضلِ، هو ابنُ عطيةَ، متروكٌ.
قال آدمُ بن أبي إياس: وحدثنا أبو صفوانَ، عن عاصم بنِ سليمانَ الكوزيِّ، عن ابنِ جريج، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ {إِذَا رَأَتْهم مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] من مسيرة مائة عامٍ، وذلكَ أنه إذا أُتيَ بجهنمَ، تقادُ بسبعينَ ألف زمام، يشدّد بكلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ ملكٍ، لو تركتْ لأتتْ على كُلِّ برٍ وفاجر {سَمِعوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] ثمَّ تَزفرُ زفرة، لا يبقى قطرةٌ من دمع إلا بدرت، ثم تزفرُ الثانيةُ، فَتقطع القلوبُ من أماكنها، تقطع اللهواتِ والحناجرَ، وهو قولُه:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] وعاصم الكوزيُّ ضعيف جدًّا.
وقال الليث بن سعد، عن عبيد الله بن أبي جعفر: إن جهنم لتزفر زفرة، (تنشق)(*) منها قلوب الظلمة، ثم تزفر أخرى، فيطيرون من الأرض، حتى يقعوا عَلَى رءوسهم. خرّجه عبد الله بن الإمام أحمد (1).
ورَوى أسدُ بنُ موسى، عن إبراهيمَ بنِ محمد، عن صفوانَ بنِ سليم، عن عطاءِ بنِ يسارِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بن العاصِ، مثلَه.
وخرجَ أبو نعيم (2)، وغيره، من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ حاطبٍ، قالَ قالَ عمرُ رضي الله عنه لكعبِ: خَوِّفْنَا، قالَ: والذي نفسِي بيده؛ إن النارَ لتقربُ يومَ القيامة، لها زفيرٌ وشهيقٌ، حتى إذا أدنيت وقربت، زفرت زفرةً، فما خلقَ اللَّهُ من نبي ولا شهيدٍ، إلا وجبَ لركبتيهِ ساقطًا، حتى يقولَ كل نبي، وكلُّ صدِّيق، وكلُّ
(*) في الأصل: "تشهق" والمثبت من حاشية الأصل.
(1)
في "الزهد" ص 368 - علمية.
(2)
في "الحلية"(5/ 371).
شهيدٍ: اللهمَّ لا أكلفُكَ اليومَ إلا نفسِي، ولو كانَ لكَ يا ابنَ الخطابِ عملُ سبعينَ نبيًّا لظننتَ أن لا تنجُو، قالَ عمرُ: واللَّه إن الأمرَ لشديد.
ومن روايةِ شريح بنِ عبيدٍ قالَ: قالَ عمرُ لكعب: خَوِّفنا، قالَ: واللهِ لتزفرنَّ جهنمُ زفرةً، لا يبقَى ملك مقرَّب، ولا غيرُهُ، إلا خرَّ جاثيًا على ركبتيهِ، يقولُ: ربِّ نفسِي نفسِي، وحتى نبينا، وإبراهيمَ، وإسحاقَ - عليهمُ الصلاة والسلامُ، قال: فأبكَى (*) القوم حتى نشجوا.
وفي رواية مطرفِ بن الشخيرِ، عن كعبٍ، قالَ: كنتُ عندَ عمرَ، فقالَ: يا كعبُ، خوِّفنا، فقلتُ يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ جهنمَ لتزفرُ يومَ القيامة زفرةً، ما يبقَى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا خرَ ساجِدًا على ركبتيهِ، حتى إنً إبراهيمَ خليله عليه السلام ليخرُّ ساجِدًا، ويقولُ: نفسِي نفسِي، لا أسألكُ اليومَ إلا نفسِي، قالَ: فأطرقَ عمرُ مليًّا.
قالَ: قلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ، أولستُم تجدونَ هذا في كتابِ اللَّهِ عز وجل؟!.
قالَ عمرُ: كيفَ؟.
قلتُ: يقولُ اللَه عز وجل في هذه الآيةِ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111](1).
وكانَ سعيدُ الجرميُّ، يقولُ في موعظتِهِ، إذا وصفَ الخائفين: كأنَ زفيرَ النارِ في آذانِهِم.
وعن الحسنِ، أنه قالَ في وصفِهم: إذا مرُّوا بآية، من ذكرُ الجنة، بكوا شَوْقًا، وإذا مرُّوا بآيةٍ، من ذكر النارِ، ضجوا صُراخًا، كأنَّ زفيرَ جهنًّم عندَ أصولِ آذانِهِم.
وروى ابنُ أبي الدنيا، وغيرُه عن أبي وائلٍ، قالَ: خرجْنا معَ ابنِ مسعودٍ،
(*) في حاشية الأصل: "فبكى".
(1)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(5/ 368 - 369).
ومعنا الربيعُ بنُ خُثَيم، فأتينَا على تنورٍ على شاطئ الفراتِ، فلمَّا رآهُ عبدُ اللَّهِ والنارُ تلتهبُ في جوفهِ قرأَ هذه الآيةَ {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} إلى قوله:{ثُبُورًا} [الفرقان: 12 - 13] فصعقَ الربيعُ بنُ خثَيمٍ، فاحتملناه إلى أهلهِ، فرابطَهُ عبدُ اللَّهِ حتى صلَّى الناسُ الظهرَ، فلم يُفقْ، ثم رابطَهُ إلى العصرِ فلم يُفِقْ، ثم رابطَهُ إلى المغربِ فأفاقَ، فرجعَ عبدُ اللَّهِ إلى أهلهِ.
ومن روايةِ مسمع بنِ عاصم قالَ: بتُّ أنا وعبدُ العزيزِ بن سليمانَ وكلابُ ابنُ جريٍّ وسلمانُ الأعرجُ على ساحلٍ من بعضِ السواحلِ، فبكَى كلاب حتى خشيتُ أن يموتَ، ثم بكى عبدُ العزيزِ لبكائِهِ، ثم بكَى سلمانُ لبكائهِمَا، وبكيت والله لبكائهم، لا أدري ما أبكاهم.
فلما كانَ بعدُ، سألتُ عبدَ العزيزِ فقلتُ: يا أبا محمدٍ ما الذي أبكاك ليلتئذٍ؟.
قالَ: إنَي واللَّهِ نظرتُ إلى أمواج البحرِ، تموجُ وتجيلُ، فذكرتُ أطباقَ النيرانِ وزفراتِها، فذلكَ الذي أبكاني.
ثم سألتُ كلابًا أيضًا نحوًا مما سألتُ عبدَ العزيز فواللَّهِ لكأنّما سمعَ قصتَهُ، فقال لي مثلَ ذلكَ.
ثم سألتُ سلمانَ الأعرجَ نحوًا مما سألتُهما.
فقالَ لي: ما كانَ في القومِ شرًّا منّي، ما كانَ بُكائي إلا لبكائِهم، رحمةً لهم مما كانُوا يصنعونَ بأنفسِهِم - رحمهُمُ اللَّهُ تعالى.
* * *