المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٩

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب التوحيد

- ‌ وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه

- ‌باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌ بيان فضل التوحيد

- ‌ فضل لا إله إلا الله

- ‌باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب

- ‌ التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌مناسبة الباب للبابين قبله:

- ‌(أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)

- ‌«من مات وهو يدعو من دون الله ندا

- ‌«من لقي الله لا يشرك به شيئا

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}

- ‌باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌ الرقى والتمائم والتولة شرك»

- ‌ التعلق بغير الله:

- ‌ قطع التميمة من إنسان

- ‌باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

- ‌باب ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌ الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره

- ‌«نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة

- ‌باب من الشرك النذر لغير الله

- ‌ نذر أن يطيع الله

- ‌باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [

- ‌باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌ الاستعاذة والاستغاثة بغير الله

- ‌ إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي

- ‌باب الشفاعة

- ‌قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ

- ‌{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

- ‌المشركون ليس لهم حظ من الشفاعة

- ‌ الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله

- ‌مناسبة هذا الباب لما قبله:

- ‌باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد اللهعند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده

- ‌ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحينيصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌سبب مجيء المؤلف بهذا الباب

- ‌{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [

- ‌باب ما جاء في السحر

- ‌قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [

- ‌«حد الساحر

- ‌باب بيان شيء من أنواع السحر

- ‌ بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها

- ‌باب ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب ما جاء في النشرة

- ‌تعريف النشرة:

- ‌ ما جاء في التطير

- ‌قوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ

- ‌قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}

- ‌«الطيرة شرك

- ‌باب ما جاء في التنجيم

- ‌ تعلم منازل القمر

- ‌«ثلاثة لا يدخلون الجنة:»

الفصل: ‌ إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي

إلا أن يرفق الله بنا، ويصلحنا جميعا.

قوله: " شج "، الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.

قوله: " وكسرت رباعيته "، السنان المتوسطان يسميان ثنايا، وما يليهما يسميان رباعيتين.

قوله: «فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» ، الاستفهام يراد به الاستبعاد؛ أي: بعيد أن يفلح قوم شجوا نبيهم صلى الله عليه وسلم.

قوله: " يفلح " من الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.

قوله: " فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} "، أي: نزلت هذه الآية، والخطاب فيها للرسول صلى الله عليه وسلم.

وشيء: نكرة في سياق النفي؛ فتعم.

قوله: الأمر؛ أي: الشأن، والمراد: شأن الخلق، فشأن الخلق إلى خالقهم، حتى النبي صلى الله عليه وسلم ليس له فيهم شيء.

ففي الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، ومع ذلك ما عذره الله سبحانه في كلمة واحدة:«كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» ، فإذا كان الأمر كذلك؛ فما بالك بمن سواه؟ فليس لهم من الأمر شيء؛ كالأصنام، والأوثان، والأولياء، والأنبياء؛ فالأمر كله لله وحده، كما أنه الخالق وحده، والحمد لله الذي لم يجعل أمرنا إلى أحد سواه؛ لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا؛ فكيف يملك لغيره؟

ونستفيد من هذا الحديث أنه يجب الحذر من‌

‌ إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي

؛ فلا نستبعد رحمة الله منه، فإن الله تعالى قد يتوب عليه.

ص: 282

وفيه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر:»

ــ

فهؤلاء الذين شجوا نبيهم لما استبعد النبي صلى الله عليه وسلم فلاحهم؛ قيل له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .

«والرجل المطيع الذي يمر بالعاصي من بني إسرائيل، ويقول: "والله؛ لا يغفر الله لفلان. قال الله له: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك» ؛ فيجب على الإنسان أن يمسك اللسان؛ لأن زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قوما كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم عداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان كذلك؛ فلماذا نستبعد رحمة الله من قوم كانوا عتاة؟

وما دام الإنسان لم يمت؛ فكل شيء ممكن، كما أن المسلم -نسأل الله الحماية- قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.

فالمهم أن هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أنك لا تستبعد رحمة الله من أي إنسان كان عاصيا.

قوله: " فنزلت "، الفاء للسببية، وعليه؛ فيكون سبب نزول هذه الآية هذا الكلام:«كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟» .

قوله: " وفيه "، أي الصحيح.

قوله: " إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر "، قيد مكان

ص: 283

«"اللهم العن فلانا وفلانا" بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} »

ــ

الدعاء من الصلوات بالفجر، ومكانه من الركعات بالأخيرة، ومكانه من الركعة بما بعد الرفع من الركوع.

قوله: " يقول: اللهم العن فلانا وفلانا "، اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله؛ أي: أبعدهم عن رحمتك، واطردهم منها.

و" فلانا وفلانا ": بينه في الرواية الثانية أنهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام.

قوله: " بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد "، أي: يقول ذلك إذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.

قوله: " فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} "، هنا قال:" فأنزل "، وفي الحديث السابق قال:" فنزلت "، وكلها بالفاء، وعلى هذا يكون سبب نزول الآية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء، وقوله:«"كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟» ، ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.

وقد أسلم هؤلاء الثلاثة، وحسن إسلامهم رضي الله عنهم؛ فتأمل الآن أن العداوة قد تنقلب ولاية؛ لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، ولو أن الأمر كان على ظن النبي صلى الله عليه وسلم لبقي هؤلاء على الكفر حتى الموت، إذ لو قبلت الدعوة عليهم، وطردوا عن الرحمة؛ لم يبق إلا العذاب.

ص: 284

وفي رواية «يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} » . (1)

ــ

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء؛ فالأمر كله لله، ولهذا هدى الله هؤلاء القوم، وصاروا من أولياء الله الذابين عن دينه، بعد أن كانوا من أعداء الله القائمين ضده، والله سبحانه يمن على من يشاء من عباده.

وليس بعيدا من ذلك قصة «أصيرم بن عبد الأشهل الأنصاري، حيث كان معروفا بالعداوة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت وقعة أحد، ألقى الله الإسلام في قلبه دون أن يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من قومه، وخرج للجهاد وقتل شهيدا، فلما انتهت المعركة جعل الناس يتفقدون قتلاهم؛ فإذا هو في آخر رمق، فقالوا: ما جاء بك يا فلان؟ أحدث على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؛ فأخبروا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فقال: "هو من أهل الجنة» ؛ فهذا الرجل لم يصل لله ركعة واحدة، ومع هذا جعله الله من أهل الجنة؛ فالله حكيم يهدي من يشاء لحكمته، ويضل من يشاء لحكمة؛ فالمهم أننا لا نستبعد رحمة الله عز وجل من أي إنسان.

(1) البخاري: كتاب المغازي/باب (ليس لك من الأمر شيء) مرسلاً، ووصله الإمام أحمد في (المسند) 2/93.

ص: 285

وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ؛ فقال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم؛ لا أغني عنكم من الله شيئا.

»

ــ

قوله: " قام "، أي: خطيبا.

قوله: "أنزل عليه"، أي: أنزل عليه بواسطة جبريل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} [الشعراء: 214] .

قوله: " أنذر "، أي: حذر وخوف، والإنذار: الإعلام المقرون بتخويف.

قوله: " عشيرتك "، العشيرة: قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون.

قوله: " الأقربين "، أي: الأقرب فالأقرب؛ فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده، ثم آباؤه، ثم إخوانه، ثم أعمامه، وهكذا.

ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار؛ لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين؛ كان الحكم فيه أظهر وأبين.

وقوله: " حين أنزل عليه " يفيد أنه لم يتأخر صلى الله عليه وسلم، بل قام، فقال:" يا معشر قريش "؛ أي: يا جماعة قريش.

وقريش: هو فهر بن النضر بن مالك، أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: " أو كلمة نحوها "، أي: أو قال كلمة نحوها، أي شبهها، وهذا من احتراز الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا: أو كما قال، أو كلمة نحوها، وما أشبه ذلك، وعليه فـ "أو": للشك والتردد.

قوله: " اشتروا أنفسكم "، أي: أنقذوها؛ لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من

ص: 286

«يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئا» .

ــ

هلاك، والمشتري راغب، ولهذا عبر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.

وفي قوله: " اشتروا أنفسكم " من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر؛ لأن المشتري يكون راغبا.

قوله: " لا أغني عنكم من الله شيئا "، هذا هو الشاهد؛ أي: لا أدفع أو لا أنفع، أي: لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم؛ لأن الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيه بذلك؛ فقال:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21-22] .

قوله: " شيئا "، نكرة في سياق النفي؛ فتعم أي شيء.

قوله: " يا عباس بن عبد المطلب "، هو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وعباس؛ بالضم؛ لأن المنادى إذا كان معرفة يبنى على الضم، ونعته إذا كان مضافا ينصب، وهنا ابن عبد المطلب مضاف، ولهذا نصب.

فإن قيل: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: عبد المطلب مع أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله عز وجل؟

ص: 287

فالجواب: إن هذا ليس إنشاء، بل هو خبر؛ فاسمه عبد المطلب، ولم يسمه النبي صلى الله عليه وسلم لكن اشتهر بعبد المطلب، ولهذا انتمى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقال:

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

فلو فرض أن لك أبا يسمى عبد المطلب، أو عبد العزى؛ فإنك تنتسب إليه، ولا يعد هذا إقرارا، ولكنه خبر عن أمر واقع؛ كما لو قلت: كفر فلان، ونافق فلان، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان موجودا غيرنا اسمه إذا كان لا يجوز.

قوله: " لا أغني عنك من الله شيئا "، أي: لا أنفعك بشيء دون الله، ولا أمنعك من شيء أراده الله لك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن أحد شيئا حتى عن أبيه وأمه.

قوله: " يا صفية عمة رسول الله "، يقال في إعرابها كما قيل في عباس بن عبد المطلب.

قوله: «يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت» ، أي: اطلبي من مالي ما شئت؛ فلن أمنعك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مالك لماله، ولكن بالنسبة لحق الله قال:«لا أغني عنك من الله شيئا» .

فهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأقاربه الأقربين: عمه، وعمته، وابنته؛ فما بالك بمن هم أبعد؟ فعدم إغنائه عنهم شيئا من باب أولى؛ فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم ويلوذون به ويستجيرون به الموجودون في هذا الزمن، وقبله قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق الحق؛ لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق؛ إذ

ص: 288

فيه مسائل:

الأولى: تفسير الآيتين.

الثانية: قصة أحد.

الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.

ــ

الذي ينفع بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيمان به واتباعه.

أما دعاؤه والتعلق به ورجاؤه فيما يؤمل، وخشيته فيما يخاف منه؛ فهذا شرك بالله، وهو مما يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن النجاة من عذاب الله.

ففي الحديث امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ} [الشعراء: 214] ، فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام؛ فدعا وعم وخصص، وبين أنه لا ينجي أحدا من عذاب الله بأي وسيلة، بل الذي ينجي هو الإيمان به واتباع ما جاء به.

وإذا كان القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن القريب شيئا؛ دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.

فيه مسائل:

الأولى: تفسير الآيتين، وهما آيتا الأعراف، ويتفق ذلك في أول الباب، والاستفهام فيهما للتوبيخ والإنكار، وكذلك سبق تفسير الآية الثالثة آية فاطر.

الثانية: قصة أحد، يعني: حيث شج النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث.

الثالثة: قنوت سيد المرسلين

إلخ، أراد المؤلف بهذه المسألة أن النبي

ص: 289

الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.

ــ

صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وأصحابه سادت الأولياء، ومع هذا ما أنقذوا أنفسهم؛ فكيف ينقذون غيرهم؟ وليس مراده رحمه الله مجرد إثبات القنوت والتأمين عليه؛ ولهذا جاءت العبارات بسيد وسادات؛ فلا أحد من هذه الأمة أقرب إلى الله من الرسول وأصحابه، ومع ذلك يلجئون إلى الله سبحانه في كشف الكربات، ومن كانت هذه حاله؛ فكيف يمكن أن يلجأ إليه في كشف الكربات؟ فليس مراد المؤلف إثبات مسألة فقهية.

الرابعة: أن المدعو عليهم كفار، تؤخذ من قوله تعالى:{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ؛ فهذا دليل على أنهم الآن ليسوا على حال مرضية، ومن المعلوم أن صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام وقت الدعاء عليهم كانوا كفارا.

وهذه المسألة -أي أن المدعو عليهم كفار- ترمي إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يرى أنه دعا عليهم بحق؛ فقد قطع الله سبحانه وتعالى أن يكون له من الأمر شيء؛ لأنه قد يقول قائل: إذا كانوا كفارا؛ أليس يملك الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم؟

نقول: حتى في هذه الحال لا يملك من أمرهم شيئا، هذا وجه قول المؤلف أن المدعو عليهم كفار، وليس مراده الإعلام بكفرهم؛ لأن هذا معلوم لا يستحق أن يعنون له، بل المراد في هذه الحال الذي كان هؤلاء كفارا لم يملك النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بالنسبة إليهم.

ص: 290

الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار؛ منها: شجهم نبيهم، وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.

السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .

السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} ، فتاب عليهم؛ فآمنوا.

ــ

الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، أي: إنهم مع كفرهم كانوا معتدين، ومع ذلك قيل له في حقهم:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، وإلا فهم شجوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومثلوا بالقتلى مثل حمزة بن عبد المطلب، وكذلك أيضا حرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن كل هؤلاء فيهم من بني عمهم، وفيهم من الأنصار.

السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، أي: مع ما تقدم من الأمور التي تقتضي أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم حق بأن يدعو عليهم أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ؛ فالأمر لله وحده، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قطع عنه هذا الشيء؛ فغيره من باب أولى.

السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} ، فتاب عليهم، فآمنوا، وهذا دليل على كمال سلطان الله وقدرته؛ فهؤلاء الذين جرى منهم ما جرى، تاب الله عليهم وآمنوا؛ لأن الأمر كله بيده سبحانه، وهو الذي يذل من يشاء ويعز من يشاء، ومن ذلك ما جرى من عمر رضي الله عنه قبل إسلامه من العداوة الظاهرة للإسلام، وما جرى منه بعد إسلامه من الولاية والنصرة لدين الله تعالى؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دونه لا يستطيعون أن يغيروا شيئا من أمر الله.

ص: 291

الثامنة: القنوت في النوازل.

ــ

الثامنة: القنوت في النوازل، وهذه هي المسألة الفقهية، فإذا نزل بالمسلمين نازلة؛ فإنه ينبغي أن يُدعى لهم حتى تنكشف.

وهذا القنوت مشروع في كل الصلوات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أحمد وغيره (1) ؛ إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا الطاعون، وقالوا: لا يقنت له لعدم ورود ذلك، وقد وقع في عهد عمر رضي الله عنه ولم يقنت، ولأنه شهادة؛ فلا ينبغي الدعاء برفع سبب الشهادة.

وظاهر السنة أن القنوت إنما يشرع في النوازل التي تكون من غير الله، مثل: إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، أما ما كان من فعل الله؛ فإنه يشرع له ما جاءت به السنة، مثل الكسوف؛ فيشرع له صلاة الكسوف، والزلازل شرع لها صلاة الكسوف كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذه صلاة الآيات، والجدب يشرع له الاستسقاء، وهكذا.

وما علمت لساعتي هذه أن القنوت شرع لأمر نزل من الله، بل يدعى له بالأدعية الواردة الخاصة، لكن إذا ضيق على المسلمين وأوذوا وما أشبه ذلك؛ فإنه يقنت اتباعا للسنة في هذا الأمر.

ثم من الذي يقنت: الإمام الأعظم، أو إمام كل مسجد، أو كل مصل؟

(1) مسند الإمام أحمد (1/301) ، والحاكم (1/255) ، وصححه ووافقه الذهبي.

ص: 292

التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.

ــ

المذهب: أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم فقط الذي هو الرئيس الأعلى للدولة.

وقيل: يقنت كل إمام مسجد.

وقيل: يقنت كل مصل، وهو الصحيح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وهذا يتناول قنوته صلى الله عليه وسلم عند النوازل.

التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام؛ فسماهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، لكن هل هذا مشروع أو جائز؟

الجواب: هذا جائز، وعليه، فإذا كان في تسمية المدعو عليهم مصلحة؛ كانت التسمية أولى، ولو دعا إنسان لأناس معينين في الصلاة جاز؛ لأنه لا يعد من كلام الناس، بل هو دعاء، والدعاء مخاطبة الله تعالى، ولا يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» .

مسألة: هل الذي نهي عنه الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء أو لعن المعينين؟

الجواب: المنهي عنه هو لعن الكفار في الدعاء على وجه التعيين، أما لعنهم عموما؛ فلا بأس به، وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت ويلعن الكفرة عموما، ولفظ ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال:«لأقربن»

ص: 293

«صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر، وصلاة العشاء، وصلاة الصبح، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده؛ فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار» ، ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم، أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك.

أما الدعاء بالهلاك لعموم الكفار؛ فإنه محل نظر، ولهذا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بالهلاك، بل قال:«اللهم، عليك بهم، اللهم، اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ، وهذا دعاء عليهم بالتضييق، والتضييق قد يكون من مصلحة الظالم بحيث يرجع إلى الله من ظلمه.

فالمهم أن الدعاء بالهلاك لجميع الكفار عندي تردد فيه.

وقد يستدل بدعاء خبيب حيث قال: «اللهم أحصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا» على جواز ذلك؛ لأنه وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولأن الأمر وقع كما دعا؛ فإنه ما بقي منهم أحد على رأس الحول، ولم ينكر الله تعالى ذلك، ولا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن إجابة الله دعاءه يدل على رضاه به وإقراره عليه.

فهذا قد يستدل به على جواز الدعاء على الكفار بالهلاك، لكن يحتاج أن ينظر في القصة؛ فقد يكون لها أسباب خاصة لا تتأتى في كل شيء.

ص: 294

العاشرة: لعن المعين في القنوت.

الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} .

الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.

ــ

ثم إن خبيبا دعا بالهلاك لفئة محصورة من الكفار لا لجميع الكفار.

وفيه أيضا إن صح الحديث: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب: «اللهم، سلط عليه كلبا من كلابك» (1) فيه دليل على الدعاء بالهلاك، لكن هذا على شخص معين لا على جميع الكفار.

العاشرة: لعن المعين في القنوت، هذا غريب، فإن أراد المؤلف رحمه الله أن هذا أمر وقع، ثم نهي عنه؛ فلا إشكال، وإن أراد أنه يستفاد من هذا جواز لعن المعين في القنوت أبدا؛ فهذا فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.

الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، وهي أنه لما نزلت عليه الآية نادى قريشا؛ فعم، ثم خصص، فامتثل أمر الله في هذه الآية.

الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، أي: اجتهاده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث قالوا: إن محمدا جن، كيف يجمعنا وينادينا هذا النداء؟

(1) الحاكم في (المستدرك)(كتاب التفسير، تفسير سورة أبي لهب، 2/539)، وقال:(صحيح الإسناد) ، ولم يخرجاه) ، ووافقه الذهبي.

ص: 295

الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: «لا أغني عنك من الله شيئا» ، حتى قال:«يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا» . فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم؛ تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.

ــ

وقول: " وكذلك لو يفعله مسلم الآن "، أي لو أن إنسانا جمع الناس، ثم قام يحذرهم كتحذير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقالوا: مجنون، إلا إذا كان معتادا عند الناس، قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، وقال تعالى:{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور: 44] ؛ فهذا يختلف باختلاف البلاد والزمان، ثم إنه يجب على الإنسان أن يبذل جهده واجتهاده في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قام بهذا الأمر ولم يبال بما رمي به من الجنون.

الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: «لا أغني عنك من الله شيئا» ، صدق رحمه الله فيما قال؛ فإنه إذا كان هذا القائل سيد المرسلين، وقاله لسيدة نساء العالمين، ثم نحن نؤمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وأنه لا يغني عن ابنته شيئا؛ تبين لنا الآن أن ما يفعله خواص الناس ترك للتوحيد؛ لأنه يوجد أناس خواص يرون أنفسهم علماء، ويراهم من حولهم علماء وأهلا للتقليد، يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم لكشف الضر وجلب النفع دعوة صريحة، ويرددون:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

وغير ذلك من الشرك، وإذا أنكر عليهم ذلك ردوا إلى المنكر بأنه لا

ص: 296

يعرف حق الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه عند الله، وأنه سيد الكون، وما خلقت الجن والإنس إلا من أجله، وأنه خلق من نور العرش، ويلبسون بذلك على العامة، فيصدقهم البعض لجهلهم، ولو جاءهم من يدعوهم إلى التوحيد لم يستجيبوا له؛ لأن سيدهم وعالمهم على خلاف التوحيد، {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] ، ثم إن المؤمن عاطفته وميله للرسول صلى الله عليه وسلم أمر لا ينكر، لكن الإنسان لا ينبغي له أن يحكم العاطفة، بل يجب عليه أن يتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأيده العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات.

ولهذا نعى الله سبحانه على الكفار الذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم بأنهم لا يعقلون، وكلام المؤلف حق؛ فإن من تأمل ما عليه الناس اليوم في كثير من البلدان الإسلامية تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.

ص: 297

باب قول الله تعالى:

{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] .

ــ

مناسبة الترجمة:

أن هذا من البراهين الدالة على أنه لا يستحق أحد أن يكون شريكا مع الله؛ لأن الملائكة وهم أقرب ما يكون من الخلق لله عز وجل، ما عدا خواص بني آدم يحصل منهم عند كلام الله سبحانه الفزع.

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، قال ذلك ولم يقل:"فزعت قلوبهم"، إذ "عن" تفيد المجاوزة، والمعنى: جاوز الفزع قلوبهم؛ أي: أزيل الفزع عن قلوبهم.

والفزع: الخوف المفاجئ؛ لأن الخوف المستمر لا يسمى فزعا.

وأصله: النهوض من الخوف.

وقوله تعالى: {عَنْ قُلُوبِهِمْ} ؛ أي: قلوب الملائكة؛ لأن الضمير يعود عليهم بدليل ما سيأتي من حديث أبي هريرة، ولا أحد من الخلق أعلم بتفسير القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} جواب الشرط، والمعنى: قال بعضهم لبعض: وإنما قلنا ذلك لأن الكلام قائلا ومقولا له، فلو جعلنا الضمير في

ص: 298

قالوا عائدا على الجميع؛ فأين المقول له؟ والمعنى: أي شيء قال ربكم؟

وإعراب ماذا على أوجه:

1 -

ما: اسم استفهام مبتدأ، وذا: اسم موصول خبر؛ أي: ما الذي.

2 -

ماذا: اسم استفهام مركب من ما وذا.

3 -

ما اسم استفهام، وذا زائدة، قال ابن مالك:

ومثل ماذا بعدما استفهام

أو من إذا لم تلغ في الكلام

وقوله: {قَالُوا الْحَقَّ} ، أي: قال المسئولون.

والحق: صفة لمصدر محذوف مع عامله، والتقدير: قال القول الحق.

والمعنى: أن الله سبحانه قال القول الحق؛ لأنه سبحانه هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق، ولا يقول ولا يفعل إلا الحق.

والحق في الكلام هو الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام؛ كما قال الله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] .

ولا يفهم من قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} أنه قد يكون قوله باطلا، بل هو بيان للواقع، فإن قيل: ما دام بيانا للواقع ومعروفا عند الملائكة أنه لا يقول إلا الحق؛ فلماذا الاستفهام؟

أجيب: أن هذا من باب الثناء على الله بما قال، وأنه سبحانه لا يقول إلا الحق.

قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، أي: العلي في ذاته وصفاته، والكبير: ذو الكبرياء، وهي العظمة التي لا يداينها شيء، أي العظيم الذي لا أعظم منه.

مناسبة الآية للتوحيد: أنه إذا كان منفردا في العظمة والكبرياء؛ فيجب أن يكون منفردا في العبادة.

ص: 299

والعلو قسمان:

الأول: علو الصفات، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم.

الثاني: علو الذات، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام، مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم؛ فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات.

وعلوه لا ينافي كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم؛ لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته.

وفي الآية فوائد:

1 -

أن الملائكة يخافون الله؛ كما قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] .

2 -

إثبات القلوب للملائكة؛ لقوله: " {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ".

3 -

إثبات أنهم أجسام وليسوا أرواحا مجردة من الجسمية، وهو أمر معلوم بالضرورة، قال تعالى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1] ، وقد «رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح قد سد الأفق» ؛ فالقول بأنهم أرواح فقط إنكار لهم في الواقع، وهو قول باطل.

لكنهم لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أكلهم وشربهم التسبيح بدليل قوله تعالى:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ؛ ففي هذا دليل على أن ليلهم ونهارهم مملؤان بذلك، ولهذا جاء:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ} ، ولم

ص: 300

يقل يسبحون في الليل؛ أي: أن تسبيحهم دائم، والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.

4 -

أن لهم عقولا؛ إذ إن القلوب هي محل العقول خلافا لمن قال: إنهم لا يعقلون، ولأنهم يسبحون الله، ويطوفون بالبيت المعمور.

5 -

إثبات القول لله سبحانه وتعالى، وأنه متعلق بمشيئته؛ لأنه جاء بالشرط:{إِذَا فُزِّعَ} ، وإذا الشرطية تدل على حدوث الشرط والمشروط، خلافا للأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بمشيئة، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه؛ فهو قائم بالله أزلي أبدي؛ كقيام العلم والقدرة والسمع والبصر.

ولا ريب أن هذا باطل، وأن حقيقته إنكار كلام الله، ولهذا يقولون: أن الله يتكلم بكلام نفسي أزلي أبدي، كما يقولون: هذا الكلام الذي سمعه موسى، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم شيء مخلوق للتعبير عن كلام الله القائم بنفسه.

وهذا في الحقيقة قوله الجهمية؛ كما قال بعض المحققين من الأشاعرة: ليس بيننا وبين الجمهية فرق، فإننا اتفقنا على أن هذا الذي بين دفتي المصحف مخلوق، لكن نحن قلنا عبارة عن كلام الله، وهم قالوا: هو كلام الله.

6 -

إثبات أن قول الله حق، وهذا جاء في القرآن:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، وقال:{فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84] ؛ فالله تعالى لا يقول إلا حقا؛ لأنه هو الحق، ولا يصدر عن الحق إلا الحق.

ص: 301

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء؛ ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا؛ لقوله كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} » [سبأ: 23] .

ــ

قوله: " وفي الصحيح "، سبق الكلام عليها.

قوله: «قضي الله الأمر في السماء» ، المراد بالأمر الشأن، ويكون القضاء بالقول؛ لقوله تعالى:{إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] .

قوله: " خضعانا "، أي: خضوعا؛ لقوله: " كأنه "؛ أي: صوت القول في وقعه على قلوبهم.

قوله: " صفوان " هو الحجر الأملس الصلب، والسلسلة عليه يكون لها صوت عظيم.

وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، بل المراد تشبيه ما يحصل لهم من الفزع عندما يسمعون كلامه بفزع من يسمع سلسلة على صفوان.

قوله: " ينفذهم ذلك "، النفوذ: هو الدخول في الشيء، ومنه: نفذ السهم في الرمية؛ أي: دخل فيها، والمعنى: إن هذا الصوت يبلغ منهم كل مبلغ.

قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ، أي: أزيل عنها الفزع.

قوله: قالوا، أي: قال بعضهم لبعض.

قوله: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} ، أي: قالوا: قال الحق؛ أي: قال

ص: 302

القول الحق؛ فالحق صفة لمصدر محذوف مع عامله، تقديره: قال القول الحق، وهذا الجواب الذي يقولونه هل هم يقولونه لأنهم سمعوا ما قال وعلموا أنه حق، وأنهم كانوا يعلمون أنه لا يقول إلا الحق؟

يحتمل أن يكونوا قد علموا ما قال، وقالوا: إنه الحق؛ فيكون هذا عائدا إلى الوحي الذي تكلم الله به.

ويحتمل أنهم قالوا ذلك لعلمهم أن الله سبحانه لا يقول إلا الحق؛ فلذلك قالوا هذا لأن ذلك صفته سبحانه وتعالى.

وهذا الحديث مطابق للآية تماما، وعلى هذا يجب أن يكون هذا تفسير الآية، ولا يقبل لأي قائل أن يفسرها بغيره؛ لأن تفسير القرآن إذا كان بالقرآن أو السنة؛ فإنه نص لا يمكن لأحد أن يتجاوزه.

وأما تفسير الصحابي؛ فإنه حجة عند أكثر المفسرين، وأما التابعين؛ فإن أكثر العلماء يقول: إنه ليس بحجة إلا من اختص منهم بشيء؛ كمجاهد؛ فإنه عرض المصحف على ابن عباس عشرين مرة أو أكثر، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها، وأما من بعد التابعين؛ فليس تفسيره حجة على غيره، لكن إن أيده سياق القرآن كان العمدة سياق القرآن.

فلا يقبل أن يقال: إذا فزع عن قلوب الناس يوم القيامة، بل نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الآية بتفسير غيبي لا مجال للاجتهاد فيه، وما كان غيبيا وجاء به النص؛ فالواجب علينا قبوله، ولهذا نقول في مسألة ما يعذر فيه بالاجتهاد وما لا يعذر: إنه ليس عائدا على أن هذا من الأصول، وهذا من الفروع؛ كما قال بعض العلماء: الأصول لا مجال للاجتهاد فيها، ويخطئ المخالف مطلقا، بخلاف الفروع.

ص: 303

«فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته»

ــ

لكن شيخ الإسلام ابن تيمية أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ويدل على بطلان هذا التقسيم: أن الصلاة عند الذين يقسمون من الفروع، مع أنها من أجل الأصول.

والصواب: أن مدار الإنكار على ما للاجتهاد فيه مجال وما لا مجال فيه؛ فالأمور الغيبية ينكر على المخالف فيها ولا يعذر، سواء كانت تتعلق بصفات الله أو اليوم الآخر أو غير ذلك؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيها.

أما الأمور العملية التي للاجتهاد فيها مجال؛ فلا ينكر على المخالف فيها إلا إذا خالف نصا صريحا، وإن كان يصح تضليله بهذه المخالفة؛ كقول ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت:"للبنت النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت"؛ وذكر له قسمة أبي موسى: "للابنة النصف، وللأخت النصف "، وقوله:"ائت ابن مسعود؛ فسيتابعني"؛ فأخبر ابن مسعود بذلك، فقال:"قد ضللت إذا، وما أنا من المهتدين".

قوله: «فيسمعها مسترق السمع» ، أي: هذه الكلمة التي تكلمت بها الملائكة.

و" مسترق ": مفرد مضاف؛ فيعم جميع المسترقين.

وتأمل كلمة "مسترق"؛ ففيها دليل على أنه يبادر، فكأنه يختلسها اختلاسا بسرعة، ويؤيده قوله:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}

ص: 304

«ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن،»

ــ

[الصافات: 10] .

قوله: " ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض "، يحتمل أن يكون هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم، أو من كلام أبي هريرة، أو من كلام سفيان.

قوله: " وصفه سفيان بكفه "، أي: أنها واحد فوق الثاني، أي الأصابع: فالجن يتراكبون واحدا فوق الآخر، إلى أن يصلوا إلى السماء، فيقعدون لكل واحد مقعد خاص، قال تعالى:{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] .

قوله: " فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته "، أي: سمع أعلى المسترقين الكلمة، فيلقيها إلى من تحته؛ أي: يخبره بها، و"من": اسم موصول، وقوله:"تحته " شبه جملة صلة الموصول؛ لأنه ظرف.

قوله: «ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها» ، أي: يلقي الكلمة آخرهم الذي في الأرض على لسان الساحر أو الكاهن.

والسحر: عزائم ورقى وتعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره.

والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.

وقد التبس على بعض طلبة العلم؛ فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى؛ فهو كاهن، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيبا مطلقا، بل هو غيب نسبي، مثل ما يقع في المسجد يعد غيبا بالنسبة لمن في الشارع، وليس غيبا بالنسبة لمن في المسجد.

وقد يتصل الإنسان بجني، فيخبره عما حدث في الأرض ولو كان بعيدا؛

ص: 305

«فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه،»

ــ

فيستخدم الجن، لكن ليس على وجه محرم؛ فلا يسمى كاهنا؛ لأن الكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل.

وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وهو نوع من الكهانة في الواقع، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استنادا إلى فراسة؛ فإنه ليس من الكهانة في شيء؛ لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتمادا على أسارير وجهه ولمحاته، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل، لكن يعلمه على سبيل الإجمال.

فمن يخبر عما وقع في الأرض ليس من الكهان، ولكن ينظر في حاله، فإذا كان غير موثوق في دينه؛ فإننا لا نصدقه؛ لأن الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] .

وإن كان موثوقا في دينه، ونعلم أنه لا يتوصل إلى ذلك بمحرم من شرك أو غيره؛ فإننا لا ندخله في الكهان الذين يحرم الرجوع إلى قولهم، ومن يخبر بأشياء وقعت في مكان ولم يطلع عليها أحد دون أن يكون موجودا فيه؛ فلا يسمى كاهنا؛ لأنه لم يخبر عن مغيب مستقبل يمكن أن يكون عنده جني يخبره، والجني قد يخدم بني آدم بغير المحرم؛ إما محبة لله عز وجل، أو لعلم يحصله منه، أو لغير ذلك من الأغراض المباحة.

والسحرة قد يكون لهم من الجن من يسترق لهم السمع.

ولا يصل هؤلاء المسترقون إلا إلى السماء الدنيا؛ لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] ؛ فلا يمكن نفوذه إلى ما فوقه.

ص: 306

«فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء»

ــ

قوله: " فربما أدركه الشهاب

إلخ"، الشهاب: جزء منفصل من النجوم، ثاقب، قوي، ينفذ فيما يصطدم به.

قال العلماء في التفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] ؛ أي: جعلنا شهابها الذي ينطلق منها؛ فهذا من باب عود الضمير إلى الجزء لا إلى الكل.

فالشهب: نيازك تنطلق من النجوم.

وهي كما قال أهل الفلك: تنزل إلى الأرض، وقد تحدث تصدعا فيها، أما النجم، فلو وصل إلى الأرض؛ لأحرقها.

واختلف العلماء: هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد، أو انقطعوا في وقته فقط؟

والثاني هو الأقرب: أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا.

قوله: " فيكذب معها مائة كذبة "، هل هذا على سبيل التحديد، أو المراد المبالغة، أي أنه يكذب معها كذبات كثيرة؟

الثاني هو الأقرب، وقد تزيد عن ذلك وقد تنقص؛ فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟

ص: 307

والناس في هذه الأمور الغريبة على حسب ما أخبر به المخبر يأخذون كل ما يقوله صدقا، فإذا أخبر بشيء فوقع، ثم أخبر بشيء ثان؛ قالوا: إذن لا بد أن يصدق.

فوائد الحديث:

1 -

إثبات القول لله عز وجل.

2 -

عظمة الله سبحانه وتعالى.

3 -

إثبات الأجنحة للملائكة.

4 -

خوف الملائكة من الله عز وجل وخضوعهم له.

5 -

أن الملائكة يتكلمون ويعقلون.

6 -

أنه لا يصدر عن الله إلا الحق.

7 -

أن الله سبحانه يمكن هؤلاء الجن من الوصول إلى السماء فتنة للناس، وهي ما يلقونه على الكهان، فيحصل بذلك فتنة، والله عز وجل حكيم.

وقد يوجد الله أشياء تكون ضلالا لبعض الناس، لكنها لبعضهم هدى امتحانا وابتلاء.

8 -

كثرة الجن؛ لأنهم يترادفون إلى السماء، ومعنى ذلك أنهم كثيرون جدا، وأجسامهم خفيفة يطيرون طيرانا.

وذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في السحرة الذين يستخدمون الجن وتطير بهم: أنهم يصبحون يوم عرفة في بلادهم ويقفون مع الناس في عرفة، وهذا ممكن الآن في الطائرات، لكن في ذلك الوقت ليس هناك طائرات؛ فتحملهم الشياطين، ويجعلون للناس المكانس التي تكنس بها

ص: 308

وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي؛ أخذت السماوات منه رجفة -أو قال: رعدة شديدة- خوفا من الله عز وجل» .

ــ

البيوت، ويقول: أنا أركب المكنسة وأطير بها إلى مكة؛ فيفعلون هذا، وشيخ الإسلام يقول: إن هؤلاء كذبة ومستخدمون للشياطين، ويسيئون حتى من الناحية العملية؛ لأنهم يمرون الميقات ولا يحرمون منه.

9 -

أن الكهان من أكذب الناس، ولهذا يضيفون إلى ما سمعوا كذبات كثيرة يضللون بها الناس، ويتوصلون بها إلى باطلهم تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، كأن يقولوا: ستقوم القيامة يوم كذا وكذا، وسيجري عليك كذا من موت أو سرقة مال ونحو ذلك.

10 -

أن الساحر يصور للمسحور غير الواقع، وفي هذا تحذير من أهل التمويه والتلبيس، وأنهم إن صدقوا في شيء؛ فيجب الحذر منهم بكل حال.

قوله: " وعن النواس

"، هذا الحديث لم يخرجه المؤلف، لكن قد ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وذكر فيه علة؛ وهي أن في سنده الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وقد رواه عن شيخه بالعنعنة؛ فيكون في الحديث ضعف، إلا أنه قد روى مسلم وأحمد من حديث ابن عباس حديثا قد يكون شاهدا له، حيث أخبر أن الله إذا تكلم بالوحي سمعه حملة العرش، فسبحوا،

ص: 309

«فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء؛ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟» .

ــ

ثم سمعه أهل كل سماء، فيسبحون كما سبح أهل السماء السابعة، حتى يصل إلى السماء الدنيا، فتخطفه الجن أو الشياطين.

وهذا وإن لم يكن فيه ذكر رجفة السماء أو السجود؛ لكن يدل على أن له أصلا.

قوله: «إذا أراد أن يوحي بالأمر» ، أي: بالشأن.

قوله: " تكلم بالوحي "، جملة شرطية تقتضي تأخر المشروط عن الشرط؛ فالإرادة سابقة، والكلام لاحق؛ فيكون فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بإرادة، وإن كلامه أزلي؛ كالسمع والبصر؛ ففيه إثبات الكلام الحادث، ولا ينقص كمال الله إذا قلنا: إنه يتكلم بما شاء، كيف شاء، متى شاء، بل هذا صفة كمال، لكن النقص أن يقال: إنه يتكلم بحرف وصوت، إنما الكلام معنى قائم بنفسه.

قوله: «أخذت السماوات منه رجفة» ، السماوات: مفعول به جمع مؤنث سالم، أو ملحق به؛ فيكون منصوبا بالكسرة، ورجفة: فاعل.

قوله: " أو قال: رعدة شديدة "، شك من الراوي، وإنما تأخذ السماوات الرجفة أو الرعدة؛ لأنه سبحانه عظيم يخافه كل شيء، حتى السماوات التي ليس فيها روح.

قوله: «فإذا سمع ذلك أهل السماوات؛ صعقوا وخروا لله سجدا» .

ص: 310

«فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل» . (1)

ــ

فإن قيل: كيف يمكن أن يصعقوا ويخروا سجدا؟

فالجواب: أن الصعق هنا -والله أعلم- يكون قبل السجود، فإذا أفاقوا سجدوا.

قوله: " فيكون أول من يرفع رأسه جبريل "، أول: بالنصب على أنها خبر مقدم، وجبريل بالرفع على أنها اسم يكون مؤخرا.

قوله: " بما أراد "، أي: بما شاء؛ لأن الله تعالى يتكلم بمشيئة.

قوله: " ثم يمر جبريل على الملائكة "؛ لأنه يريد النزول من عند الله إلى حيث أمره الله أن ينتهي إليه بالوحي.

قوله: " قال الحق وهو العلي الكبير "، سبق في تفسير ذلك أنه يحتمل قال الحق في هذه القضية المعينة، أو قال الحق؛ لأن من عادته سبحانه ألا يقول إلا الحق، وأيا كان؛ فإن جبريل لا يخبر الملائكة بما أوحى الله إليه، بل يقول: قال الحق مبهما، ولهذا سمي عليه السلام بالأمين، والأمين: هو الذي لا يبوح بالسر.

قوله: " وهو العلي الكبير "، تقدم الكلام عليه.

قوله: " فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل "، أي: قال الحق، وهو العلي الكبير.

قوله: «فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل» -"، أي: يصل بالوحي إلى حيث أمره الله من الأنبياء والرسل.

من فوائد الحديث:

(1) تفسير ابن جرير الطبري (22/91) ، وابن كثير في تفسيره (6/504) .

ص: 311

1 -

إثبات الإرادة لقوله: " إذا أراد الله " وهي قسمان: شرعية وكونية.

والفرق بينهما أولا: من حيث المتعلق؛ فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله عز وجل، سواء وقع أو لم يقع، وأما الكونية؛ فتتعلق بما يقع، سواء كان يحبه الله أو مما لا يحبه.

ثانيا: الفرق بينهما من حيث الحكم، أي حصول المراد؛ فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، أما الكونية؛ فيلزم منها وقوع المراد.

فقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] هذه إرادة شرعية؛ لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس، وأيضا متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة.

وقوله: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] هذه كونية؛ لأن الله لا يريد الإغواء شرعا، أما كونا وقدرا؛ فقد يريده.

وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26] هذه كونية، لكنها في الأصل شرعية؛ لأنه قال:{وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26] .

وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] هذه شرعية؛ لأن قوله: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لا يمكن أن تكون كونية؛ إذ إن العسر يقع ولو كان الله لا يريده قدرا وكونا؛ لم يقع.

2 -

أن المخلوقات وإن كانت جمادا تحس بعظمة الخالق، قال تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] .

3 -

إثبات أن الملائكة يتكلمون ويفهمون ويعقلون لأنهم يسألون: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ؟ ويجابون: قال الحق، خلافا لمن قال: إنهم لا يوصفون

ص: 312

بذلك؛ فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب.

4 -

إثبات تعدد السماوات؛ لقوله: " كلما مر بسماء ".

5 -

أن لكل سماء ملائكة مخصصين؛ لقوله: " سأله ملائكتها ".

6 -

فضيلة جبريل عليه السلام حيث إنه المعروف بأمانة الوحي، ولهذا قال ورقة بن نوفل:"هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى "، والناموس بالعبرية بمعنى صاحب السر.

7 -

أمانة جبريل عليه السلام، حيث ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل؛ فيكون فيه رد على الرافضة الكفرة الذين يقولون: بأن جبريل أمر أن يوحي إلى علي فأوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون:

خان الأمين فصدها عن حيدرة

وحيدرة لقب لعلي بن أبي طالب؛ لأنه كان يقول في غزوة خيبر:

أنا الذي سمتني أمي حيدرة.

وفي هذا تناقض منهم؛ لأن وصفه بالأمانة يقتضي عدم الخيانة.

8 -

إثبات العزة والجلال لله عز وجل؛ لقوله: " عز وجل "، والعزة بمعنى الغلبة والقوة، وللعزيز ثلاثة معان:

1 -

عزيز: بمعنى ممتنع أن يناله أحد بسوء.

2 -

عزيز: بمعنى ذي قدر لا يشاركه فيه أحد.

3 -

عزيز: بمعنى غالب قاهر.

ص: 313

فيه مسائل:

الأولى: تفسير الآية.

الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.

ــ

قال ابن القيم في النونية:

وهو العزيز فلن يرام جنابه

أنى يرام جناب ذي السلطان

وهو العزيز القاهر الغلاب لم

يغلبه شيء هذه صفتان

وهو العزيز بقوة هي وصفه

فالعز حينئذ ثلاث معان

وأما جل: فالجلال بمعنى العظمة التي ليس فوقها عظمة.

فيها مسائل:

الأولى: تفسير الآية، أي قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} الآية، وقد سبق تفسيرها.

الثانية: ما فيه من الحجة على إبطال الشرك، وذلك أن الملائكة وهم من هم في القوة والعظمة يصعقون ويفزعون من تعظيم الله؛ فكيف بالأصنام التي تعبد من دون الله وهي أقل منهم بكثير؛ فكيف يتعلق الإنسان بها؟

ولذلك قيل: إن هذه الآية هي التي تقطع عروق الشرك من القلب؛ لأن الإنسان إذا عرف عظمة الرب سبحانه حيث ترتجف السماوات ويصعق أهلها بمجرد تكلمه بالوحي؛ فكيف يمكن للإنسان أن يشرك بالله شيئا مخلوقا، ربما يصنعه بيده

ص: 314

الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .

الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: " قال كذا وكذا ".

السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل. السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه. الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.

ــ

حتى كان جهال العرب يصنعون آلهة من التمر، إذا جاع أحدهم أكلها؟!

وينزل أحدهم بالوادي فيأخذ أربعة أحجار: ثلاثة يجعله تحت القدر، والرابع -وهو أحسنها- يجعلها إلها له.

الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، وسبق تفسيرها.

الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك، فالسؤال: ماذا قال ربكم؟ وسببه شدة خوفهم منه وفزعهم خوفا من أن يكون قد قال فيهم ما لا يطيقونه من التعذيب.

الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: قال كذا وكذا؛ أي: يقول: قال الحق.

السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل، لحديث النواس بن سمعان، وفيه فضيلة جبريل.

السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه، وفي هذا دليل على عظمته بينهم.

الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم، تؤخذ من قوله:«فإذا سمع ذلك أهل السماوات؛ صعقوا وخروا لله سجدا» .

ص: 315

التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله. العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين. الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا. الثالثة عشرة: إرسال الشهب. الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.

ــ

التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله؛ لقوله: «أخذت السماوات منه رجفة» ؛ أي: لأجله تعظيما لله.

أي: لا أحد يتولى إيصال الوحي غير جبريل حتى يوصله إلى حيث أمره به؛ لأنه الأمين على الوحي.

الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين، أي: الذين يسترقون ما يسمع في السماوات، فيلقونه على الكهان، فيزيد فيه الكهان وينقصون. الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا، وصفها سفيان رحمه الله بأن حرف يده وبدد بين أصابعه الثالثة عشرة: إرسال الشهب، يعني: التي تحرق مسترقي السمع، قال تعالى:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18] .

الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.

ص: 316

الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان. السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة. السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.

ــ

الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان؛ لأنه يأتي بما سمع من السماء ويزيد عليه، وإذا وقع ما في السماء؛ صار صادقا.

اعتراض وجوابه:

كيف يسمع المسترقون الكلمة وعندما يسأل الملائكة جبريل يجابون بقال الحق فقط؟

والجواب: إن الوحي لا يعلمه أهل السماء، بل هو من الله إلى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الأمور القدرية التي يتكلم الله بها؛ فليست خاصة بجبريل، بل ربما يعلمها أهل السماء مفصلة، ثم يسمعها مسترقو السمع.

السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة، أي: يكذب مع الكلمة التي تلقاها من المسترق.

وقوله: " مائة كذبة " هذا على سبيل المبالغة كما سبق وليس على سبيل التحديد.

السابعة عشرة: أنه لم يصدق إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء، وأما ما قاله من عنده؛ فهو تخرص؛ فالكلمة التي سمعها تصدق، والذي يضيفه كله كذب يموه به على الناس.

ص: 317

الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟! التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها. العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة.

ــ

الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟ وهذا صحيح، وليس صفة عامة لعامة الناس، بل لأهل الجهل والسفه؛ فهم يتعلقون بالكاهن من أجل صدقه مرة واحدة، وأما مائة كذبة؛ فلا يعتبرون بها، ولا شك أن بعض السفهاء يغترون بالصالح المغمور بالمفاسد، ولكن لا يغتر به أهل العقل والإيمان، ولهذا لما نزل قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، تركهما كثير من الصحابة اعتبارا بالموازنة، والعاقل لا يمكن إذا وازن بين الأشياء أن يرجح جانب المفسدة؛ فهو وإن لم يأت الشرع بالتعيين يعرف ويميز بين المضار والمنافع.

التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها.. إلخ، الكلمة: هي الصدق؛ لأنها هي التي تروج بضاعتهم، ولو كانت بضاعتهم كلها كذبا ما راجت بين الناس

العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة، الأشعرية: هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، وسموا معطلة؛ لأنهم يعطلون النصوص عن المعنى المراد بها، ويعطلون ما وصف الله به نفسه، والمراد تعطيل أكثر ذلك

ص: 318

فإنهم يعطلون أكثر الصفات ولا يعطلون جميعها، بخلاف المعتزلة؛ فالمعتزلة ينكرون الصفات ويؤمنون بالأسماء، هؤلاء عامتهم، وإلا؛ فغلاتهم ينكرون حتى الأسماء، وأما الأشاعرة؛ فهم معطلة اعتبارا بالأكثر؛ لأنهم لا يثبتون من الصفات إلا سبعا، وصفاته تعالى لا تحصى، وإثباتهم لهذه السبع ليس كإثبات السلف؛ فمثلا: الكلام عند أهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته بصوت وحرف.

والأشاعرة قالوا: الكلام لازم لذاته كلزومه الحياة والعلم، ولا يتكلم بمشيئته، وهذا الذي يسمع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، بل هو مخلوق؛ فحقيقة الأمر أنهم لم يثبتوا الكلام، ولهذا قال بعضهم: إنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله؛ لأننا أجمعنا على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق، وحجتهم في إثبات الصفات السبع: أن العقل دل عليها.

وشبهتهم في إنكار البقية: زعموا أن العقل لا يدل عليها.

والرد عليهم بما يلي:

1 -

أن كون العقل يدل على الصفات السبع لا يدل على انتفاء ما سواها؛ فإن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول؛ فهب أن العقل لا يدل على بقية الصفات، لكن السمع دل عليها؛ فنثبتها بالدليل السمعي.

2 -

أنها ثابتة بالدليل العقلي بنظير ما أثبتم هذه السبع؛ فمثلا: الإرادة ثابتة لله عندهم بدليل التخصيص، حيث إن الله جعل الشمس شمسا، والقمر قمرا، والسماء سماء، والأرض أرضا، وكونه يميز بين ذلك معناه أنه سبحانه وتعالى يريد؛ إذ لولا الإرادة؛ لكانت الدنيا كلها سواء، فأثبتوها لأن العقل دل عليها.

فنقول لهم: الرحمة لا تمضي لحظة على الخلق إلا وهم في نعمة من

ص: 319

الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عز وجل. الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.

ــ

الله؛ فهذه النعم العظيمة من الله تدل على رحمته لخلقه أدل من التخصيص على الإرادة.

والانتقام من العصاة يدل على بغضه لهم، وإثابة الطائعين ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة يدل على محبته لهم أدل على التخصيص من الإرادة، وعلى هذا فقس؛ فالمؤلف رحمه الله لما كان الأشعرية لا يثبتون إلا سبع صفات على خلاف في إثباتها مع أهل السنة جعلهم معطلة على سبيل الإطلاق، وإلا فالحقيقة أنهم ليسوا معطلة على سبيل الإطلاق.

الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عز وجل، فيدل على عظمة الخالق جل وعلا، حيث بلغ خوف الملائكة منه هذا المبلغ.

الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا، أي: تعظيما لله واتقاء لما يخشونه؛ فتفيد تعظيم الله عز وجل كالتي قبلها.

ص: 320