المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌{قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} [ - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٩

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب التوحيد

- ‌ وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه

- ‌باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌ بيان فضل التوحيد

- ‌ فضل لا إله إلا الله

- ‌باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب

- ‌ التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌مناسبة الباب للبابين قبله:

- ‌(أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)

- ‌«من مات وهو يدعو من دون الله ندا

- ‌«من لقي الله لا يشرك به شيئا

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}

- ‌باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌ الرقى والتمائم والتولة شرك»

- ‌ التعلق بغير الله:

- ‌ قطع التميمة من إنسان

- ‌باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

- ‌باب ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌ الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره

- ‌«نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة

- ‌باب من الشرك النذر لغير الله

- ‌ نذر أن يطيع الله

- ‌باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [

- ‌باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌ الاستعاذة والاستغاثة بغير الله

- ‌ إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي

- ‌باب الشفاعة

- ‌قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ

- ‌{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

- ‌المشركون ليس لهم حظ من الشفاعة

- ‌ الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله

- ‌مناسبة هذا الباب لما قبله:

- ‌باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد اللهعند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده

- ‌ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحينيصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌سبب مجيء المؤلف بهذا الباب

- ‌{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [

- ‌باب ما جاء في السحر

- ‌قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [

- ‌«حد الساحر

- ‌باب بيان شيء من أنواع السحر

- ‌ بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها

- ‌باب ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب ما جاء في النشرة

- ‌تعريف النشرة:

- ‌ ما جاء في التطير

- ‌قوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ

- ‌قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}

- ‌«الطيرة شرك

- ‌باب ما جاء في التنجيم

- ‌ تعلم منازل القمر

- ‌«ثلاثة لا يدخلون الجنة:»

الفصل: ‌{قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} [

وقوله تعالى: ‌

{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [

الكهف: 21] .

ــ

ماضيا والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود على (من) في قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} ، (الطاغوت) بفتح التاء مفعولا به.

وبهذا نعرف اختلاف الفاعل في صلة الموصول وما عطف عليه؛ لأن الفاعل في صلة الموصول هو (الله) ، والفاعل في عبد يعود على (من) .

وعلى كل حال؛ فالمراد بها عابد الطاغوت.

فالفرق بين القراءتين بالباء فقط؛ فعلى قراءة الفعل مفتوحة، وعلى قراءة الاسم مضمومة.

والطاغوت على قراءة الفعل في (عبد) تكون مفتوحة (عبد الطاغوت) ، وعلى قراءة الاسم تكون مكسورة بالإضافة (عبد الطاغوت) .

وذكر في تركيب (عبد) مع (الطاغوت) أربع وعشرون قراءة، ولكنها قراءات شاذة غير القراءتين السبعيتين (عَبَد)(عَبُد) .

الآية الثالثة قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} ، هذه الآية في سياق قصة أصحاب الكهف، وقصتهم عجيبة؛ كما قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9] ، وهم فتية آمنوا بالله وكانوا في بلاد شرك، فخرجوا منها إلى الله عز وجل، فيسر الله لهم غارا، فدخلوا فيه، وناموا فيه نومه طويلة بلغت

ص: 457

{ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] وهم نائمون لا يحتاجون إلى أكل وشرب، ومن حكمة الله أن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال حتى لا يتسرب الدم في أحد الجانبين، ولما خرجوا بعثوا بأحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاما، وآخر الأمر أن أهل المدينة اطلعوا على أمرهم، وقالوا: لا بد أن نبني على قبورهم مسجدا.

وقوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} ، المراد بهم: الحكام في ذلك الوقت قالوا مقسمين مؤكدين: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} ، وبناء المساجد على القبور من وسائل الشرك كما سبق.

فوائد الآيات السابقة:

من فوائد الآية الأولى ما يلي:

1 -

أن من العجب أن يعطى الإنسان نصيبا من الكتاب ثم يؤمن بالجبت والطاغوت.

2 -

أن العلم قد لا يعصم صاحبه من المعصية؛ لأن الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالكفر، والذي يؤمن بالكفر يؤمن بما دونه من المعاصي.

3 -

وجوب إنكار الجبت والطاغوت؛ لأن الله تعالى ساق الإيمان بهما مساق العجب والذم؛ فلا يجوز إقرار الجبت والطاغوت.

4 -

ما ساقها المؤلف من أجله أن من هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت لقوله صلى الله عليه وسلم: «لتركبن سنن من كان من قبلكم» ، فإذا وجد في بني إسرائيل من يؤمن بالجبت والطاغوت؛ فإنه سيوجد في هذه الأمة أيضا من

ص: 458

يؤمن بالجبت والطاغوت.

ومن فوائد الآية الثانية ما يلي:

1 -

تقرير الخصم والاحتجاج عليه بما لا يستطيع إنكاره، بمعنى أنك تحتج على خصمك بأمر لا يستطيع إنكاره؛ فإن اليهود يعرفون بأن فيهم قوما غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، فإذا كانوا يقرون بذلك وهم يستهزئون بالمسلمين؛ فنقول لهم: أين محل الاستهزاء؟ ! الذين حلت عليهم هذه العقوبات أم الذين سلموا منها؟

والجواب: الذين حلت بهم العقوبة أحق بالاستهزاء.

2 -

اختلاف الناس بالمنزلة عند الله؛ لقوله: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} ، ولا شك أن الناس يختلفون بزيادة الإيمان ونقصه وما يترتب عليه من الجزاء.

3 -

سوء حال اليهود الذي حلت بهم هذه العقوبات من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.

4 -

إثبات أفعال الله الاختيارية، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء؛ لقوله:{لَعَنَهُ اللَّهُ} ؛ فإن اللعن من صفات الأفعال.

5 -

إثبات الغضب لله؛ لقوله: {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} .

6 -

إثبات القدرة لله؛ لقوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} .

وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة؟

والجواب: لا؛ لما ثبت في (صحيح مسلم) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن كل أمة مسخت لا يبقى لها نسل» ، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك، وعلى هذا

ص: 459

فليس هذا الموجود من القردة والخنازير هو بقية أولئك الممسوخين.

7 -

أن العقوبات من جنس العمل؛ لأن هؤلاء الذين مسخوا قردة، والقرد أشبه ما يكون شبها بالإنسان، فعلوا فعلا ظاهره الإباحة والحل وهو محرم، وذلك أنه حرم عليهم الصيد يوم السبت ابتلاء من الله، فإذا جاء يوم السبت امتلأ البحر بالحيتان، وظهرت على سطح الماء، وفي غيره من الأيام تختفي ولا يأتي منها شيء، فلما طال عليهم الأمد صنعوا شباكا؛ فصاروا ينصبونها في يوم الجمعة ويدعون الحيتان تدخل فيها يوم السبت، فإذا أتى يوم الأحد أخذوها، وهذه حيلة ظاهرها الحل، ولكن حقيقتها ومعناها الوقوع في الإثم تماما، ولهذا مسخوا إلى حيوان يشبه الإنسان وليس بإنسان، وهو القرد، قال تعالى:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] ، وهو يفيد أن الجزاء من جنس العمل، ويدل عليه صراحة قوله تعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] .

8 -

أن هؤلاء اليهود صاروا يعبدون الطاغوت؛ لقوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، ولا شك أنهم حتى الآن يعبدونه؛ لأنهم عبدوا الشيطان وأطاعوه وعصوا الله ورسوله.

وفي الآية نكتة نحوية في قوله: (عليه) و (منهم) في قوله تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} ؛ فالضمير في (لعنه) الهاء، و (غضب عليه) مفرد، و (منهم) جمع، مع أن المرجع واحد، وهو (من) .

والجواب: أنه روعي في الإفراد اللفظ، وفي الجمع المعنى، وذلك أن (من) اسم موصول صالحة للمفرد وغيره، قال ابن مالك:

ومن وما وأل تساوي ما ذكر

ص: 460

لما ذكر الأسماء الموصولة من المفرد والمثنى والجمع من مذكر ومؤنث قال: ومن وما. . . إلخ.

وقال: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ} ، ولم يقل: وجعلهم قردة؛ لأن اللعن والغضب عام لهم جميعا، والعقوبة بمسخهم إلى قردة وخنازير خاص ببعضهم، وليس شاملا لبني إسرائيل.

ومن فوائد الآية الثالثة ما يلي:

1 -

ما تضمن سياق هذه الآية من القصة العجيبة في أصحاب الكهف وما تضمنته من الآيات الدالة على كمال قدرة الله وحكمته.

2 -

أن من أسباب بناء المساجد على القبور الغلو في أصحاب القبور؛ لأن الذين غلبوا على أمرهم بنوا عليهم المساجد؛ لأنهم صاروا عندهم محل الاحترام والإكرام فغلبوا فيهم.

3 -

أن الغلو في القبور وإن قل قد يؤدي إلى ما هو أكبر منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين بعثه:«ألا تدع قبرا مشرفا إلا سويته» .

ص: 461

عن أبي سعيد رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب؛ لدخلتموه) . قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: (فمن) » . أخرجاه. (1)

ــ

قوله في الحديث: (لتتبعن) ، اللام موطئة للقسم، والنون للتوكيد، فالكلام مؤكد بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لتتبعن.

قوله: (سنن من كان قبلكم)، فيها روايتان:(سنن) و (سنن) .

أما (سنن) ؛ بضم السين: جمع سنة، وهي الطريقة.

وأما (سنن) ؛ بالفتح: فهي مفردة بمعنى الطريق.

وفعل تأتي مفردة مثل: فنن جمعها أفنان، وسبب جمعها أسباب.

وقوله: (من كان قبلكم)، أي: من الأمم.

وقوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ليس على ظاهره؛ بل هو عام مخصوص؛ لأننا لو أخذنا بظاهره كانت جميع هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، لكننا نقول: إنه عام مخصوص؛ لأن في هذه الأمة من لا يتبع كما أخبر

(1) البخاري: كتاب الأنبياء/باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم: كتاب العلم/باب اتباع سنن اليهود والنصاري، وأما لفظ (حذو القذة بالقذة) فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند.

ص: 462

النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق، وقد يقال: إن الحديث على عمومه وأنه لا يلزم أن تتبع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سننها، بل بعض الأمة يتبعها في شيء وبعض الأمة يتبعها في شيء آخر، وحينئذ لا يقتضي خروج هذه الأمة من الإسلام، وهذا أولى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طرق من كان قبلنا ما لا يخرج من الملة، مثل: أكل الربا، والحسد، والبغي، والكذب.

ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان.

السنن: هي الطرائق، وهي متنوعة، منها ما هو اعتداء على حق الخالق، ومنها ما هو اعتداء على حق المخلوق، ولنستعرض شيئا من هذه السنن:

فمن هذه السنن: عبادة القبور والصالحين؛ فإنها موجودة في الأمم السابقة وقد وجدت في هذه الأمة، قال تعالى عن قوم نوح:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] .

ومن ذلك الغلو في الصالحين كما وجد في الأمم السابقة وجد في هذه الأمة.

ومنها: دعاء غير الله، وقد وجد في هذه الأمة.

ومنها: بناء المساجد على القبور موجود في السابقين، وقد وجد في هذه الأمة.

ومنها: وصف الله بالنقائض والعيوب؛ فقد قالت اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وقالوا:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقالوا: إن الله تعب من خلق السماوات والأرض، وقد وجد في هذه الأمة من قال بذلك أو أشد منه؛ فقد وجد من قال: ليس له يد، ومن من قال: لا يستطيع أن يفعل ما يريد فلم يستو على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا ولا يتكلم، بل وجد في هذه الأمة من يقول: بأنه ليس داخلا في العالم، وليس

ص: 463

خارجا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه؛ فوصفوه بما لا يمكن وجوده، ومنهم من قال: لا تجوز الإشارة الحسية إليه، ولا يفعل، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، وهذا مذهب الأشاعرة.

ومنها: أكل السحت؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.

ومنها: أكل الربا؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.

ومنها: التحيل على محارم الله؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.

ومنها: إقامة الحدود على الضعفاء ورفعها عن الشرفاء؛ فقد وجد في هذه الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.

ومنها: تحريف كلام الله عن مواضعه لفظا ومعنى؛ كاليهود حين قيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] ، فدخلوا على قفاهم، وقالوا: حنطة ولم يقولوا حطة، ووجد في هذه الأمة من فعل كذلك؛ فحرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وقالوا هم: الرحمن على العرش استولى.

قال ابن القيم: إن اللام في استولى مزيدة زادها أهل التحريف كما زاد اليهود النون في (حطة) فقالوا: (حنطة) .

نون اليهود ولام جهمي هما

في وحي رب العرش زائدتان

أمر اليهود بأن يقولوا حطة

فأبوا وقالوا حنطة لهوان

وكذلك الجهمي قيل له استوى

فأبى وزاد الحرف للنقصان

ووجد في الأمم السابقة من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ووجد في هذه الأمة من يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول شيخه.

ص: 464

فإذا تأملت كلام النبي صلى الله عليه وسلم وجدته مطابقا للواقع: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ، ولكن يبقى النظر: هل هذا للتحذير أو للإقرار؟

الجواب: لا شك أنه للتحذير وليس للإقرار؛ فلا أحد: سأحسد وسآكل الربا، وسأعتدي على الخلق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فمن قال ذلك؛ فإننا نقول له: أخطأت؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه للتحذير، ولهذا قال الصحابة: اليهود والنصاري؟ قال: فمن؟

ثم نقول لهم أيضا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأشياء ستقع، ومع ذلك أخبر بأنها حرام بنص القرآن.

فمن ذلك أنه «أخبر أن الرجل يكرم زوجته ويعق أمه، وأخبر أن الإنسان يعصي أباه ويدني صديقه» (1) ، وهذا ليس بجائز بنص القرآن، لكن قصد التحذير من هذا العمل.

ووجد في الأمم السابقة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون، ووجد في هده الأمة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لرجعيون.

فالمعاصي لها أصل في الأمم على حسب ما سبق، ولكن من وقفه الله للهداية اهتدى.

والحاصل: أنك لا تكاد تجد معصية في هذه الأمة إلا وجدت لها أصلا في الأمم السابقة.

ولا تجد معصية في الأمم السابقة إلا وجدت لها وارثا في هذه الأمة.

(1) الترمذي: كتاب الفتن / باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، قال الألباني:(ضعيف) السلسلة الضعيفة

ص: 465

أما مناسبة الحديث للباب:

فلأنه لما عبدت الأمم السابقة الأصنام والأوثان؛ فسيكون في هذه الأمة من يعبد الأصنام والأوثان.

قوله: «حذو القذة القذة» ، حذو بمعني: محاذيا، وهي منصوبة على الحال من فاعل تتبعن؛ أي: حال كونكم محاذين لهم حذو القذة القذة.

والقذة: هي ريشة السهم، السهم له ريش لا بد أن تكون متساوية تماما، وإلا؛ صار الرمي به مختلا.

قوله: «حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ، هذه الجملة تأكيد منه صلى الله عليه وسلم للمتابعة.

وجحر الضب من أصغر الجحور، ولو دخلوا جحر أسد من باب أولي أن ندخله؛ قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل المبالغة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين» ، ومن اقتطع ذراعا؛ فمن باب أولى.

قوله: (قالوا اليهود والنصارى) يجوز فيها وجهان:

الأول: نصب اليهود والنصارى على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: أتعني اليهود والنصارى؟

الثاني: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أهم اليهود والنصارى؟

وعلى كل تقدير؛ فالجملة إنشائية لأنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي استفهامية، والاستفهام من باب الإنشاء.

ص: 466

واليهود: أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا من أحفاد إسحاق، أو لأنهم هادوا إلى الله؛ أي: رجعوا إليه بالتوبة من عبادة العجل.

والنصارى: هم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، وسموا بذلك نسبة إلى بلدة تسمى الناصرة، وقيل من النصرة؛ كما قال الله تعالى:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] .

قوله: (قال فمن)، من هنا: اسم استفهام، والمراد به التقرير؛ أي: فمن أعني غير هؤلاء، أو فمن هم غير هؤلاء؟ فالصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث كأنه حصل في نفوسهم بعض الغرابة، فلما سألوا قرر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اليهود والنصارى.

من فوائد الحديث:

1 -

ما أراده المؤلف بسياقه، وهو أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان؛ لأنه من سنن من قبلنا، وقد اخبر صلى الله عليه وسلم أننا سنتبعهم.

2 -

ويستفاد أيضا من فحوى الكلام التحذير من متابعة من قبلنا في معصية الله.

3 -

أنه ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره، وغالب ذلك - ولله الحمد - موجود في القرآن والسنة.

4 -

استعظام هذا الأمر عند الصحابة؛ لقولهم اليهود النصارى، فإن الاستفهام للاستعظام؛ أي: استعظام الأمر أن نتبع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى من النبي صلى الله عليه وسلم.

5 -

أنه كلما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة؛ فإنه يكون أبعد من الحق؛ لأنه أخبر عن مستقبل ولم يخبر عن الحاضر، ولأن من سنن من

ص: 467

قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] .

فإذا كان طول الأمد سببا لقسوة القلب فيمن قبلنا؛ فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في (البخاري) من حديث أنس رضي الله عنه؛ أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم» . ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد؛ فحديث أنس رضي الله عنه حديث صحيح سندا ومتنا؛ فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في (البخاري) ، والمراد به من حيث الجملة، ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين؛ فلا تيأسوا، فتقولوا: إذا لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا من سبق؛ لأننا نقول: إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة، وإذا شئتم أن يتضح الأمر؛ فانظروا إلى جنس الرجال وجنس النساء؛ أيهما خير؟

والجواب: جنس الرجال خير، قال الله تعالى:{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] ، لكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال؛ فيجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد.

فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد ولا باعتبار مكان دون مكان، فقد تكون أمة في الجهات يرتفع الناس فيها من حسن إلى أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم؛ فإنهم

ص: 468

ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض»

ــ

يكونون أحسن ممن سبقهم.

أما الصحابة؛ فلا أحد يساويهم في فضل الصحبة، حتى أفرادهم لا يمكن لأحد من التابعين أن يساويهم فيها مهما بلغ من الفضل؛ لأنه لم يدرك الصحبة.

مسألة: ما هي الحكمة من ابتلاء الأمة بهذا الأمر: (لتتبعن سنن. . .) إلخ، وأن يكون فيها من كل مساوئ من سبقها؟

الجواب: الحكمة ليتبين بذلك كمال الدين؛ فإن الدين يعارض كل هذه الأخلاق، فإذا كان يعارضها دل هذا على أن كل نقص في الأمم السابقة، فإن هذه الشريعة جاءت بتكميله؛ لأن الأشياء لا تتبين إلا بضدها؛ كما قيل:

وبضدها تتبين الأشياء.

(تنبيه) :

قوله: «حذو القذة بالقذة» لم أجده في مظانه في (الصحيحين) ؛ فليحرر. (1)

قوله: (زوى لي)، بمعنى جمع وضم؛ أي: جمع له الأرض وضمها.

(1) قوله: حذو القذة بالقذة) لم تخرج في (الصحيحين) ، وإنما هي من حديث شداد بن أوس، أخرجه الإمام أحمد في المسند.

ص: 469

قوله: (فرأيت)، أي: بعيني؛ فهي رؤية عينية، ويحتمل أن يكون رؤية منامية.

قوله: (مشارقها ومغاربها) ، وهذا ليس على الله بعزيز؛ لأنه على كل شيء قدير، فمن قدرته أن يجمع الأرض حتى يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ما سيبلغ ملك أمته منها.

وهل المراد هنا بالزوي أن الأرض جمعت، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قوي نظره حتى رأى البعيد؟

الأقرب إلى ظاهر اللفظ: أن الأرض جمعت، لا أن بصره قوي حتى رأى البعيد.

وقال بعض العلماء: المراد قوة بصر النبي صلى الله عليه وسلم: أي: أن الله أعطاه قوة بصر حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها، لكن الأقرب الأول، ونحن إذا أردنا تقريب هذا الأمر نجد أن صورة الكرة الأرضية الآن مجموعة يشاهد الإنسان فيها مشارق الأرض ومغاربها؛ فالله على كل شيء قدير؛ فهو قادر على أن يجمع له صلى الله عليه وسلم الأرض حتى تكون صغيرة فيدركها من مشارقها إلى مغاربها.

اعتراض وجوابه:

فإن قيل: هذا إن حمل على الواقع؛ فليس بموافق للواقع؛ لأنه لو حصرت الأرض بحيث يدركها بصر النبي صلى الله عليه وسلم المجرد؛ فأين يذهب الناس والبحار والجبال والصحارى؟

والجواب: بأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز أن تورد عليها كيف ولم، بل نقول: إن الله على كل شيء قدير؛ إذ قوة الله - سبحانه - أعظم من قوتنا وأعظم من أن نحيط بها، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم «أن الشيطان يجري من»

ص: 470

«ابن آدم مجرى الدم» ؛ فلا يجوز أن نقول: كيف يجري مجرى الدم؟ فالله أعلم بذلك.

وهذه المسائل التي لا ندركها يجب التسليم المحض لها، ولهذا نقول في باب الأسماء والصفات: تجرى على ظاهرها مع التنزيه عن التكييف والتمثيل، وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة.

وقوله: «فرأيت مشارقها ومغاربها» ، أي: أماكن الشرق والغرب منها.

قوله: «وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها» ، والمراد: أمة الإجابة التي آمنت بالرسول صلى الله عليه وسلم سيبلغ ملكها ما زوي للرسول صلى الله عليه وسلم منها، وهذا هو الواقع؛ فإن ملك هذه الأمة اتسع من المشرق ومن المغرب اتساعا بالغا، لكنه من الشمال والجنوب أقل بكثير، والأمة الإسلامية وصلت من المشرق إلى السند والهند وما وراء ذلك، ومن المغرب إلى ما وراء المحيط، وهذا يحقق ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض» ، الذي أعطاه هو الله.

والكنزان: هما الذهب والفضة كنوز كسرى وقيصر؛ فالذهب عند قيصر، والفضة عند كسرى، وكل منهما عنده ذهب وفضة، لكن الأغلب على كنوز قيصر الذهب، وعلى كنوز كسرى الفضة.

وقوله: (أعطيت) هل النبي صلى الله عليه وسلم أعطيها في حياته، أم بعد موته؟

الجواب: بعد موته أعطيت أمته ذلك، لكن ما أعطيت أمته؛ فهو

ص: 471

«وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد!»

ــ

كالمعطى له؛ لأن امتداد ملك الأمة لا لأنها أمة عربية كما يقوله الجهال، بل لأنها أمة إسلامية أخذت بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: «وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة» ، هكذا في الأصل:(بعامة) ، والمعنى بمهلكة عامة، وفي رواية في النسخ:(بسنة عامة) .

السنة: الجدب والقحط، وهو يهلك ويدمر، قال صلى الله عليه وسلم:«اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ، وقال الله تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] ، ويحتمل أن يكون المعنى بعام واحد؛ فتكون الباء للظرفية.

وعامة؛ أي: عموما تعمهم، هذه دعوة.

قوله: «وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم» ، أي: لا يسلط عليهم عدوا، والعدو: ضد الولي، وهو: المعادي المبغض الحاقد، وأعداء المسلمين هنا: هم الكفار، ولهذا قال:(من سوى أنفسهم) .

ومعنى: (يستبيح) : يستحل، والبيضة: ما يجعل على الرأس وقاية من السهام.

والمراد: يظهر عليهم ويغلبهم.

قوله: «إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد» ، اعلم أن قضاء الله نوعان:

1 -

قضاء شرعي قد يرد؛ فقد يريده الله ولا يقبلونه.

ص: 472

«إني إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم من بأقطارهم، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا» .

ــ

2 -

قضاء كوني لا يرد، ولا بد أن ينفذ.

وكلا القضاءين قضاء بالحق، وقد جمعهما قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 20] .

ومثال القضاء الشرعي: قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ؛ لأنه لو كان كونيا؛ لكان كل الناس لا يعبدون إلا الله.

ومثال القضاء الكوني: قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] ؛ لأن الله تعالى لا يقضي شرعا بالفساد، لكنه يقضي به كونا وإن كان يكرهه سبحانه؛ فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، لكنه يقضي بذلك لحكمة بالغة، كما قسم خلقه إلى مؤمنين وكافرين؛ لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة.

والمراد بالقضاء في هذا الحديث: القضاء الكوني؛ فلا أحد يستطيع رده مهما كان من الكفر والفسوق؛ فقضاء الله نافذ على أكبر الناس عتوا واستكبارا، فقد نفذ على فرعون وأغرق بالماء الذي كان يفتخر به، وعلى طواغيت بني آدم فأهلكهم الله ودمرهم.

ص: 473

وفي قوله: «إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد» من كمال سلطان الله وقدرته وربوبيته ما هو ظاهر؛ لأنه ما من ملك سوى الله إلا يمكن أن يرد ما قضى به.

واعلم أن قضاء الله كمشيئته بالحكمة؛ فهو لا يقضي قضاء إلا والحكمة تقتضيه، كما لا يشاء شيئا إلا والحكمة تقتضيه، ويدل عليه قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] ؛ فيتبين أنه لا يشاء شيئا إلا عن علم وحكمة، وليس لمجرد المشيئة.

خلافا لمن أنكر حكمة الله من الجهمية وغيرهم، فقالوا: إنه لا يفعل الأشياء إلا لمجرد المشيئة، فجعلوا على زعمهم المخلوقين أكمل تصرفا من الله؛ لأن كل عاقل من المخلوقين لا يتصرف إلا لحكمة، ولهذا كان الذي يتصرف بسفه يحجر عليه، قال تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] .

فنحن نقول: إن الله - جل وعلا - لا يفعل شيئا ولا يحكم بشيء إلا لحكمة، ولكن هل يلزم من الحكمة أن نحيط بها علما؟

الجواب: لا يلزم؛ لأننا أقصر من أن نحيط علما بحكم الله كلها، صحيح أن بعض الأشياء نعرف حكمتها، لكن بعض الأشياء تعجز العقول عن إدراكها.

والمقصود من قوله: «إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد» بيان أن من الأشياء التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعطها؛ لأنه الله قضى بعلمه وحكمته ذلك، ولا يمكن أن يرد ما قضاه الله عز وجل.

والقضاء قد يتوقف على الدعاء، بل إن كل قضاء أو أكثر القضاء له أسباب إما معلومة أو مجهولة؛ فدخول الجنة لا يمكن إلا بسبب يترتب دخول الجنة عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح.

ص: 474

كذلك حصول المطلوب، قد يكون الله عز وجل منعه حتى نسأل، لكن من الأشياء ما لا تقتضي الحكمة وجوده، وحينئذ يجازى الداعي بما هو أكمل، أو يؤخر له ويدخر له عند الله عز وجل، أو يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، والدعاء إذا تمت فيه شروط القبول ولم يجب؛ فإننا نجزم بأنه ادخر له.

وقوله: «وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة» هذه واحدة.

والثانية: قوله: «أن لا أسلط عليهم من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا» .

وهذه الإجابة قيدت بقوله: «حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا» إذا وقع ذلك منهم؛ فقد يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم؛ فكأن إجابة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الجملة الأولى بدون استثناء، وفي الجملة الثانية باستثناء (حتى يكون بعضهم) .

وهذه هي الحكمة من تقديم قوله: «إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد» ؛ فصارت إجابة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مقيدة.

ومن نعمة الله أن هذه الأمة لن تهلك بسنة بعامة أبدا؛ فكل من يدين بدين الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لن يهلك، وإن هلك قوم في جهة بسنة؛ فإنه لا يهلك الآخرون.

فإذا صار بعضهم يقتل بعضا، ويسبي بعضهم بعضا؛ فإنه يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وهذا هو الواقع؛ فالأمة الإسلامية حين كانت أمة واحدة عونا في الحق ضد الباطل كانت أمة مهيبة، ولما تفرقت وصار بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا؛ سلط الله عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وأعظم

ص: 475

ورواه البرقاني في (صحيحه)، وزاد:«وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف؛ لم يرفع إلى يوم القيامة،»

ــ

من سلط عليهم فيما أعلم التتار، فقد سلطوا على المسلمين تسليطا لا نظير له؛ فيقال: إنهم قتلوا في بغداد وحدها أكثر من خمسمائة عالم في يوم واحد، وهذا شيء عظيم، وقتلوا الخليفة، وجعلوا الكتب الإسلامية جسرا على نهر دجلة يطئونها بأقدامهم ويفسدونها، وكانوا يأتون إلى الحوامل ويبقرون بطونهن ويخرجون أولادهن يتحركون أمامهم فيقتلونهم، وهي حية تشاهد ثم تموت.

قال ابن الأثير في (الكامل) : (لقد بقيتُ عدة سنين مُعرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها، فأنا أقدم رجلا وأوخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ ! فيا ليت أمي لم تلدني! ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا! إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ذلك لا يجدي. . .) ، وذكر كلاما طويلا ووقائع مفجعة، ومن أراد مزيدا من ذلك؛ فليرجع إلى حوادث سنة 617 من الكتاب المذكور.

وفي الحديث دليل على تحريم القتال بين المسلمين، وإهلاك بعضهم بعضا، وسبي بعضهم بعضا، وأنه يجب أن يكونوا أمة واحدة حتى تبقى هيبتهم بين الناس وتخشاهم الأمم.

قوله: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» ، بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يخاف على الأمة إلا الأئمة المضلين.

والأئمة: جمع إمام، والإمام قد يكون إماما في الخير أو الشر، قال

ص: 476

«ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم»

ــ

تعالى في أئمة الخير: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] .

وقال تعالى عن آل فرعون أئمة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} [القصص:41] .

والذي في الحديث الباب: (الأئمة المضلين) ، أئمة الشر، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون؛ كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم.

والمراد بقوله: «الأئمة المضلين» : الذين يقودون الناس باسم الشرع، والذين يأخذون الناس بالقهر والسلطان؛ فيشمل الحكام الفاسدين، والعلماء المضلين، الذين يدعون أن ما هم عليه شرع الله، وهم أشد الناس عداوة له.

قال الإمام أحمد رحمه الله: لو كان لي دعوة مستجابة؛ لصرفتها للسلطان؛ فإن بصلاحه صلاح الأمة.

قوله: «إذا وقع عليهم السيف» . . .) إلخ، هذا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حق واقع؛ فإنه لما وقع السيف في هذه الأمة لم يرفع، فما زال بينهم القتال منذ قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وصارت الأمة يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضا بعضا.

قوله: «ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين» ، الحي: بمعنى القبيلة.

ص: 477

وهل المراد باللحوق هنا اللحوق البدني، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم، أو اللحوق الحكمي، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين أو الأمران معا؟ الظاهر أن المراد جميع ذلك.

وأما الحي؛ فالظاهر أن المراد به الجنس، وليس واحد الأحياء، وإن قيل: إن المراد واحد الأحياء؛ فلا بد أن يكون لهذا الحي أثره وقيمته في الأمة الإسلامية، بحيث يتبين ويظهر، وربما يكون لهذا الحي إمام يزيغ - والعياذ بالله - ويفسد؛ فيتبعه كل الحي، ويتبين ويظهر أمره.

قوله: «وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان» ، الفئام؛ أي: الجماعات، وهذا وقع؛ ففي كل جهة من جهات المسلمين من يعبدون القبور ويعظمون أصحابها ويسألونهم الحاجات والرغبات ويلتجئون إليهم، وفئام؛ أي: ليسوا أحياء؛ فقد يكون بعضهم من قبيلة، والبعض الآخر من قبيلة؛ فيجتمعون.

قوله: «وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون» ، حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدد، وكلهم يزعم أنه نبي أوحي إليه، وهم كذابون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، فمن زعم أنه نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو كاذب كافر حلال الدم والمال، ومن صدقه في ذلك؛ فهو كافر حلال الدم والمال، وليس من المسلمين ولا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن زعم أنه أفضل من محمد، وأنه يتلقى من الله مباشرة ومحمد صلى الله عليه وسلم يتلقى منه بواسطة الملك؛ فهو كاذب كافر حلال الدم والمال.

وقوله: (كذابون ثلاثون) هل ظهروا أم لا؟

الجواب: ظهر بعضهم، وبعضهم ينتظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصرهم في

ص: 478

«يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى» . (1)

ــ

زمن معين، وما دامت الساعة لم تقم؛ فهم ينتظرون.

قوله: (كلهم يزعم)، أي: يدعي.

قوله: «وأنا خاتم النبيين» ، أي: آخرهم، وأكد ذلك بقوله:«لا نبي بعدي» ، فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؛ فالجواب: إن نبوته سابقة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؛ فليس تشريعا جديدا ينسخ قبول الجزية، بل هو تشريع من محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر به مقررا له.

قوله: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة» ، المعنى: أنهم يبقون إلى آخر وجودهم منصورين.

هذا من نعمة الله، فلما ذكر أن حيا من الأحياء يلتحقون بالمشركين، وأن فئاما يعبدون الأصنام، وأن أناسا يدعون النبوة؛ فيكون هنا الإخلال بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك، وأن محمدا رسول الله بادعاء النبوة، وذلك أصل التوحيد، بل أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن

(1) مسند الإمام أحمد (5/278) وأبو داود (4252) ، وابن ماجة (4100) .

ص: 479

محمدا رسول الله.

فلما بين ذلك لم يجعل الناس ييأسون، فقال:«لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة» .

والطائفة: الجماعة.

وقوله: (على الحق) ، جار ومجرور خبر تزال.

قوله: (منصورة) ، خبر ثان، ويجوز أن يكون حالا، والمعنى: لا تزال على الحق، وهي كذلك أيضا منصورة.

قوله: (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم)، خذلهم؛ أي: لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه، وفي هذا دليل على أنه سيوجد من يخذلهم، لكنه لا يضرهم؛ لأن الأمور بيد الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك» ، وكذلك لا يضرهم من خالفهم؛ لأنهم منصورون بنصر الله؛ فالله عز وجل إذا نصر أحدا فلن يستطيع أحد أن يذله.

قوله: «حتى يأتي أمر الله» ، أي: الكوني، وذلك عند قيام الساعة عندما يأتي أمره سبحانه وتعالى بأن تقبض نفس كل مؤمن، حتى لا يبقى إلا شرار الخلق؛ فعليهم تقوم الساعة.

الشاهد من هذا الحديث: قوله في رواية البرقاني: «حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ويعبد فئام من أمتي الأوثان» .

ص: 480

وقوله: ( «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة» هذه لم يحدد مكانها؛ فتشمل جميع بقاع الأرض في الحرمين والعراق وغيرهما.

فالمهم أن هذه الطائفة مهما نأت بهم الديار، فهي طائفة واحدة منصورة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.

مسألة: قال بعض السلف: إن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث؛ فما مدى صحة هذا القول؟

الجواب: هذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لا بد من التفصيل، فإن أريد بذلك أهل الحديث المصطلح عليه، الذين يأخذون الحديث رواية ودراية وأخرج منهم الفقهاء وعلماء التفسير وما أشبه ذلك؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن علماء التفسير والفقهاء الذين يتحرون البناء على الدليل هم في الحقيقة من أهل الحديث، ولا يختص بأهل الحديث صناعة؛ لأن العلوم الشرعية تفسير، وحديث، وفقه. . . إلخ.

فالمقصود: إن كل من تحاكم إلى الكتاب والسنة؛ فهو من أهل الحديث بالمعنى العام.

وأهل الحديث هم: كل من يتحرى العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيشمل الفقهاء الذين يتحرون العمل بالسنة، وإن لم يكونوا من أهل الحديث اصطلاحا.

فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلا لا يعتبر اصطلاحا من المحدثين، ومع ذلك فهو رافع لراية الحديث.

والإمام أحمد رحمه الله تنازعه طائفتان: أهل الفقه قالوا: إنه فقيه، وأهل الحديث قالوا: إنه محدث.

ص: 481

فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية النساء. الثانية: تفسير آية المائدة. الثالثة: تفسير آية الكهف.

ــ

وهو إمام في الفقه والحديث والتفسير، ولا شك أن أقرب الناس تمسكا بالحديث هم الذين يعتنون به.

ويخشى من التعبير بأن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث أن يظن أنهم أهل الحديث الذين يعتنون به اصطلاحا، فيخرج غيرهم.

فإذا قيل: أهل الحديث بالمعنى الأعم الذين يأخذون بالحديث، سواء انتسبوا إليه اصطلاحا واعتنوا به أو لم يعتنوا، لكنهم أخذوا به؛ فحينئذ يكون صحيحا.

فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية النساء، وهي قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ، وقد سبق ذلك.

الثانية: تفسير آية المائدة، وهي قوله تعالى:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، وقد سبق تفسيرها، والشاهد منها هنا قوله:{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}

الثالثة: تفسير آية الكهف، يعني: قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} ، وقد سبق بيان معناها.

ص: 482

الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد قلب؟ أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين. السادسة: وهي المقصود بالترجمة: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد. السابعة: تصريحه بوقوعها - أعني: عبادة الأوثان -.

ــ

الرابعة: - وهي أهمها -: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب، أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟

أما إيمان القلب واعتقاده؛ فهذا لا شك في دخوله في الآية.

وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها؛ فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة؛ فهذا كفر، وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة؛ فإنه لا يكفر، لكنه لا شك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله.

الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين، يعني: إن هذا القول كفر وردة؛ لأن من زعم أن الكفار الذين يعرف كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين؛ فإنه كافر لتقديمه الكفر على الإيمان

السادسة - وهي المقصودة بالترجمة: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.

السابعة: تصريحه بوقوعها؛ أعني: عبادة الأوثان، والترجمة التي أشار

ص: 483

الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة؛ مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.

ــ

إليها رحمه الله هي قوله: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)، وحديث أبي سعيد هو قوله صلى الله عليه وسلم:«لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» أخرجاه.

وهذا يتضمن التحذير من أن تقع هذه الأمة في مثل ما وقع فيه من سبقها.

الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.

والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي، خرج وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير رضي الله عنه، وأظهر محبة آل البيت، ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين؛ فتتبعهم، وقتل كثيرا ممن باشر ذلك أو أعان عليه، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه.

ولا شك أن هذه المسألة من العجب العجاب أن يدعي النبوة وهو يؤمن

ص: 484

التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.

الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة:

ــ

أن القرآن حق، وفي القرآن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين؛ فكيف يكون صادقا، وكيف يصدق مع هذا التناقض؟ ! ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة، يعني: من هذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة.

يؤخذ هذا من آخر الحديث: «لا تزال من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى» .

العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وهذه آية عظمى: أن الكثرة الكاثرة من بني آدم خلاف ذلك، ومع ذلك لا يضرونهم، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] .

الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة، وقد سبق.

الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، أي: ما في هذا الحديث من الآيات العظيمة، والآيات: جمع آية، وهي العلامة، والآيات التي يؤيد الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام هي العلامات الدالة على صدقهم.

ص: 485

منها إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر؛ بخلاف الجنوب والشمال. وإخباره بأنه أعطي الكنزين. وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين. وإخباره بأنه منع الثالثة. وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بإهلاك بعضهم بعضا، وسبي بعضهم بعضا. وخوفه على أمته من الأئمة المضلين. وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وكل هذا كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول.

ــ

فمما في هذا الحديث: إخباره بأن الله سبحانه وتعالى زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك؛ فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال، فإن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم امتدت نحو الشرق والغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب والشمال، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم عليه.

ومنها: إخباره أنه صلى الله عليه وسلم أعطي الكنزين، وهما كنزا كسرى وقيصر.

ومنها: إخباره بإجابة دعوته في الاثنتين، وهما ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا. . . إلخ، ومنع الثالثة، وهي ألا يجعل بأس هذه الأمة بينها؛ فإن هذا سوف يكون كما صرح به حديث عامر بن سعد عن أبيه:«إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية؛ فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا دعاء طويلا، وانصرف إلينا؛ فقال: (سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة؛ فأعطانيها، وسألته»

ص: 486

الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.

ــ

«ألا يهلك أمتي بالغرق؛ فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم؛ فمنعنيها» . أي: منعني إياها.

ومن هذه الآيات التي تضمنها هذا الحديث: إخباره بوقوع السيف في أمته، وأنه إذا وقع؛ فإنه لا يرفع حتى تقوم الساعة، وقد كان الأمر كذلك؛ فإنه منذ سلت السيوف على المسلمين من بعضهم على بعض بقي هذا إلى يومنا هذا.

ومنها: إخباره بإهلاك بعضهم بعضا وسبي بعضهم بعضا، هذا أيضا واقع.

ومنها: خوفه على أمته من الأئمة المضلين، والأئمة: جمع إمام، والإمام: هو من يقتدى به، إما لعلمه، وإما لسلطته، وإما لعبادته.

ومنها: إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وأنهم ثلاثون، قال ابن حجر:(هذا الحصر بالثلاثين لا يعنى انحصار المتنبئين بذلك؛ لأنهم أكثر من ذلك) .

قلت: فيكون ذكر الثلاثين لبيان الحد الأدنى؛ أي: أنهم لا ينقصون عن ذلك العدد، وإنما عدلنا عن ظاهر اللفظ للأمر الواقع، وهذا - والله أعلم - هو السر في ترك المؤلف رحمه الله العدد في مسائل الباب مع أنه صريح في الحديث.

ومنها: إخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وهذا كله وقع كما أخبر.

قال الشيخ رحمه الله: (مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول) .

الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين، ووجه هذا

ص: 487

الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.

ــ

الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام: أمراء وعلماء وعباد؛ فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنهم متبوعون؛ فالأمراء لهم السلطة والتنفيذ، والعلماء لهم التوجيه والإرشاد، والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم؛ فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم، فيخاف على الأمة منهم؛ لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس.

الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان، يعني أن عبادة الأوثان لا تختص بالركوع والسجود لها، بل تشمل اتباع المضلين الذين يحلون ما حرم الله فيحله الناس، ويحرمون ما أحله الله فيحرمه الناس.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 488