الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الخوف من الشرك
وقول الله غز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116.]
ــ
مناسبة الباب للبابين قبله:
في الباب الأول ذكر المؤلف رحمه الله تحقيق التوحيد، وفي الباب الثاني ذكر أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث بهذا الباب رحمه الله تعالى؛ لأن الإنسان يرى أنه قد حقق التوحيد وهو لم يحققه، ولهذا قال بعض السلف:(ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص) ، وذلك أن النفس متعلقة بالدنيا تريد حظوظها من مال أو جاه أو رئاسة، وقد تريد بعمل الآخرة الدنيا، وهذا نقص في الإخلاص، وقل من يكون غرضه الآخرة في كل عمله، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله ما سبق من البابين بهذا الباب، وهو الخوف من الشرك، وذكر فيه آيتين:
الأولى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} .
لا: نافية، أن يشرك به: فعل مضارع مقرون بان المصدرية؛ فيحول إلى مصدر تقدره: إن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكا به؛ فالشرك لا يغفره الله أبدا؛ لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد.
أما المعاصي؛ كالزنا والسرقة؛ فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال
وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] .
ــ
من شهوة، أما الشرك؛ فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قال الله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13.] .
وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟
قال بعض العلماء: إنه مطلق يشمل كل شرك ولو أصغر؛ كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب؛ كالسرقة والخمر؛ فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة؛ فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال؛ فيجب الحذر من الشرك مطلقا؛ لأن العموم يحتمل أن يكون داخلا فيه الأصغر؛ لأن قوله:{أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره: إشراكا به؛ فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} المراد بالدون هنا: ما هو أقل من الشرك وليس ما سوى الشرك.
الآية الثانية: قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . قيل: المراد ببنيه: بنوه لصلبه، ولا نعلم له من صلبه سوى إسماعيل وإسحاق، وقيل: المراد ذريته وما توالد من صلبه، وهو الأرجح، وذلك
للآيات التي دلت على دعوته للناس من ذريته، ولكن كان من حكمة الله أن لا تجاب دعوته في بعضهم، كما «أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم» ?فلم يجب الله دعاه.
وأيضا يمنع من الأول أن الآية بصيغة الجمع، وليس لإبراهيم من الأبناء سوى إسحاق وإسماعيل.
ومعنى: واجنبني؛ أي: اجعلني في جانب والأصنام في جانب، وهذا أبلغ مما لو قال: امنعني وبني من عبادة الأصنام؛ لأنه إذا كان في جانب عنها كان أبعد.
فإبراهيم عليه السلام يخاف الشرك على نفسه، وهو خليل الرحمن وإمام الحنفاء؛ فما بالك بنا نحن إذًا؟!
فلا تأمن الشرك، ولا تأمن النفاق؛ إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، ولهذا قال ابن أبي ملكية:(أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه) .
وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاف على نفسه النفاق؛ فقال لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء أناس من المنافقين فقال له عمر رضي الله عنه: (أنشدك الله؛ هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من سمى من المنافقين؟ . فقال حذيفة رضي الله عنه: لا، ولا أزكي بعدك أحدا)(1) أراد عمر بذلك زيادة الطمأنينة، وإلا؛ فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
(1) انظر ك (طريق الهجرتين) لابن القيم آخر الطبقة الخامسة عشرة.
ولا يقال: إن عمر رضي الله عنه أراد حث الناس على الخوف من النفاق ولم يخفه على نفسه؛ لأن ذلك خلاف ظاهر اللفظ، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، ومثل هذا القول يقوله بعض العلماء فيما يضيفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه في بعض الأشياء، يقولون: هذا قصد به التعليم، وقصد به أن يبين لغيره، كما قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: رب اغفر لي لأن له ذنبا، ولكن لأجل أن يعلم الناس الاستغفار، وهذا خلاف الأصل، وقال بعضهم: إنه جهر بالذكر عقب الفريضة ليعلم الناس الذكر، لا لأن الجهر بذلك من السنة ونحو ذلك.
قوله: {أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . أن والفعل بعدها في تأويل مصدر: مفعول ثان لقوله: اجنبني.
والأصنام: جمع صنم، وهو ما جعل على صورة إنسان أو غيره يعبد من دون الله.
أما الوثن؛ فهو ما عبد من دون الله على أي وجه كان، وفي الحديث:«لا تجعل قبري وثنا يعبد» (1) فالوثن أعم من الصنم.
ولا شك أن إبراهيم سأل ربه الثبات على التوحيد؛ لأنه إذا جنبه عبادة الأصنام صار باقيا على التوحيد.
الشاهد من هذه الآية:
أن إبراهيم خاف الشرك، وهو إمام الحنفاء، وهو سيدهم ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) موطأ الإمام مالك (1/172)