المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قوله: {يؤمنون بالجبت والطاغوت} [ - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٩

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب التوحيد

- ‌ وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه

- ‌باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌ بيان فضل التوحيد

- ‌ فضل لا إله إلا الله

- ‌باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب

- ‌ التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌مناسبة الباب للبابين قبله:

- ‌(أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)

- ‌«من مات وهو يدعو من دون الله ندا

- ‌«من لقي الله لا يشرك به شيئا

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}

- ‌باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌ الرقى والتمائم والتولة شرك»

- ‌ التعلق بغير الله:

- ‌ قطع التميمة من إنسان

- ‌باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

- ‌باب ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌ الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره

- ‌«نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة

- ‌باب من الشرك النذر لغير الله

- ‌ نذر أن يطيع الله

- ‌باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [

- ‌باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌ الاستعاذة والاستغاثة بغير الله

- ‌ إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي

- ‌باب الشفاعة

- ‌قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ

- ‌{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

- ‌المشركون ليس لهم حظ من الشفاعة

- ‌ الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله

- ‌مناسبة هذا الباب لما قبله:

- ‌باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد اللهعند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده

- ‌ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحينيصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌سبب مجيء المؤلف بهذا الباب

- ‌{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [

- ‌باب ما جاء في السحر

- ‌قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [

- ‌«حد الساحر

- ‌باب بيان شيء من أنواع السحر

- ‌ بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها

- ‌باب ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب ما جاء في النشرة

- ‌تعريف النشرة:

- ‌ ما جاء في التطير

- ‌قوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ

- ‌قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}

- ‌«الطيرة شرك

- ‌باب ما جاء في التنجيم

- ‌ تعلم منازل القمر

- ‌«ثلاثة لا يدخلون الجنة:»

الفصل: ‌قوله: {يؤمنون بالجبت والطاغوت} [

وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] .

و‌

‌قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [

النساء: 51] .

ــ

نقول مناسبة الباب لكتاب التوحيد:

لأن من أقسام السحر ما لا يتأتى غالبا إلا بالشرك؛ فالشياطين لا تخدم الإنسان غالبا إلا لمصلحة، ومعلوم أن مصلحة الشيطان أن يغوي بني آدم فيدخلهم في الشرك والمعاصي.

وقد ذكر المؤلف في الباب آيتين:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} .

ضمير الفاعل يعود على متعلمي السحر، والجملة مؤكدة بالقسم واللام وقد.

ومعنى (اشتراه) ؛ أي: تعلمه.

قوله: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ؛ أي: ما له من نصيب، وكل من ليس له في الآخرة من خلاق؛ فمقتضاه أن عمله حابط باطل، لكن إما أن ينتفي النصيب انتفاء كليا فيكون العمل كفرا، أو ينتفي كمال النصيب فيكون فسقا.

الآية الثانية قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ؛ أي: اليهود. بِالْجِبْتِ؛ أي السحر كما فسرها عمر بن الخطاب.

واليهود كانوا من أكثر الناس تعلما للسحر وممارسة له، ويدعون أن سليمان عليه السلام علمهم إياه، وقد اعتدوا؛ فسحروا النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 491

قال عمر: (الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان)(1)

ــ

قوله: (الطاغوت) . أجمع ما قيل فيه: هو ما تجاوز به العبد حده؛ من معبود، أو متبوع، أو مطاع.

ومعنى (من معبود) ؛ أي: بعلمه ورضاه، هكذا قال ابن القيم رحمه الله، وقد سبق في أول الكتاب التعليق على هذا القول عند قوله:(واجتنبوا الطاغوت) .

الشاهد: قوله: (بالجبت) ، حيث فسرها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بأنها السحر.

وأما تفسير الطاغوت بالشيطان؛ فإنه من باب التفسير بالمثال.

والسلف رحمهم الله يفسرون الآية أحيانا بمثال يحتذى عليه، مثل قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] .

قال بعض المفسرين: الظالم لنفسه: الذي لا يصلي إلا بعد خروج الوقت، والمقتصد: الذي يصلي في آخر الوقت، والسابق بالخيرات: الذي يصلي في أول الوقت.

وهذا مثال من الأمثلة، وليس ما تدل عليه الآية على وجه الشمول،

(1) علقه البخاري في (الصحيح) ـ كتاب التفسير، قال الحافظ في الفتح 8/252:(إسناده قوي) .

ص: 492

وقال جابر: (الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد) . (1)

ــ

ولهذا فسرها بعضهم بأن الظالم لنفسه الذي لا يخرج الزكاة، والمقتصد من يخرج الزكاة ولا يتصدق، والسابق بالخيرات من يخرج الزكاة ويتصدق.

فتفسير عمر رضي الله عنه للطاغوت بالشيطان تفسير بالمثال؛ لأن الطاغوت أعم من الشيطان؛ فالأصنام تعتبر من الطواغيت؛ كما قال الله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] ، والعلماء والأمراء الذين يضلون الناس يعتبرون طواغيت؛ لأنهم طغوا وزادوا ما ليس لهم به حق.

قوله: (الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد) .

هذا أيضا من باب التفسير بالمثال، حيث إنه جعل من جملة الطواغيت الكهان.

والكاهن؛ قيل: هو الذي يخبر عما في الضمير.

وقيل: الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.

وكان هؤلاء الكهان تنزل عليهم الشياطين بما استرقوا من السمع من السماء، وكان كل حي من أحياء العرب لهم كاهن يستخدم الشياطين، فتسترق له السمع، فتأتي بخبر السماء إليه.

(1) علقه البخاري في (الصحيح) ـ كتاب التفسير، وقال ابن حجر في (الفتح) (8/252) :(وصله ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه) .

ص: 493

وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله! وما هن؟»

ــ

وكانوا يتحاكمون إليهم في الجاهلية.

والطواغيت ليسوا محصورين في هؤلاء؛ فتفسير جابر رضي الله عنه تفسير بالمثال كتفسير عمر رضي الله عنه.

قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات) .

النبي صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للخلق؛ فكل شيء يضر الناس في دينهم ودنياهم يحذرهم منه، ولهذا قال:(اجتنبوا)، وهي أبلغ من قوله: اتركوا؛ لأن الاجتناب معناه أن تكون في جانب وهي في جانب آخر، وهذا يستلزم البعد عنها.

و (اجتنبوا) ؛ أي: اتركوا، بل أشد من مجرد الترك؛ لأن الإنسان قد يترك الشيء وهو قريب منه، فإذا قيل: اجتنبه؛ يعني: اتركه مع البعد.

وقوله: (السبع الموبقات) . هذا لا يقتضي الحصر؛ فإن هناك موبقات أخرى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يحصر أحيانا بعض الأنواع والأجناس، ولا يعني بذلك عدم وجود غيرها.

ومن ذلك حديث: (السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) ؛ فهناك غيرهم، ومثله:

ص: 494

(ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)، ثم قال:«المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» ، وأمثلة هذا كثيرة، وإن قلنا بدلالة حديث أبي هريرة في الباب على الحصر لكونه وقع بـ (أل) المعرفة؛ فإنه حصرها؛ لأن هذه أعظم الكبائر.

قوله: (قالوا: يا رسول الله! وما هن؟) .

كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ألقى الشيء مبهما طلبوا تفسيره وتبيينه، فلما حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات قالوا ذلك لأجل أن يجتنبوهن، فأخبرهم، وعلى هذه القاعدة (أن الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم)، لكن ما كانت الحكمة في إخفائه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخبرهم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة» ، ولم يرد تبيينها عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث صحيح.

وقد حاول بعض الناس أن يصحح حديث سرد الأسماء التسعة والتسعين، ولم يصب، بل نقل شيخ الإسلام اتفاق أهل المعرفة في الحديث على أن عدها وسردها لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، (1) وصدق رحمه الله بدليل الاختلاف الكبير فيها.

فمن حاول تصحيح هذا الحديث؛ قال: إن الثواب عظيم، «من أحصاها»

(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى)(6/382) : (تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه) .

ص: 495

«دخل الجنة» ؛ فلا يمكن للصحابة أن يفوتوه، فلا يسألوا عن تعيينها فدل هذا على أنها قد عينت من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.

لكن يجاب عن ذلك بأنه ليس بلازم، ولو عينها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكانت هذه الأسماء التسع والتسعين معلومة للعالم أشد من علم الشمس، ولنقلت في (الصحيحين) وغيرهما؛ لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه، وتلح بحفظه والعناية به؛ فكيف لا يأتي إلا عن طريق واهية وعلى صور مختلفة؟ !

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبينها لحكمة بالغة، وهي أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى يعلم الحريص من غير الحريص.

كما ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ساعة الإجابة يوم الجمعة، والعلماء اختلفوا في حديث أبي موسى الذي في مسلم؛ حيث قال فيه:(إنها ما بين أن يخرج الإمام إلى أن تقضى الصلاة) ؛ فإن بعضهم صححه وبعضهم ضعفه، لكن هو عندي صحيح؛ لأن علة التضعيف فيه واهية، والحال تؤيد صحته؛ لأن الناس مجتمعون أكبر اجتماع في البلد على صلاة مفروضة؛ فيكون هذا الوقت في هذه الحال حريا بإجابة الدعاء، وكذلك ليلة القدر لم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم مع أنها من أهم ما يكون.

وقوله: (الموبقات) ؛ أي: المهلكات، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52] ؛ أي: مكان هلاك.

قوله: (قالوا: يا رسول الله! وما هن؟) . سألوا عن تبيينها، وبه تتبين الفائدة من الإجمال، وهي أن يتطلع المخاطب لبيان هذا المجمل؛ لأنه إذا جاء مبينا من أول وهلة؛ لم يمكن له التلقي والقبول كما إذا أجمل ثم بين.

ص: 496

«قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»

ــ

قوله: (وما هن) . (ما) : اسم استفهام مبتدأ، و (هن) : خبر المبتدأ.

وقيل: بالعكس، (ما) : خبر مقدم وجوبا؛ لأن الاستفهام له الصدارة، و (هن) : مبتدأ مؤخر.

لأن (هن) ضمير معرفة، و (ما) نكرة، والقاعدة المتبعة أنه يخبر بالنكرة عن المعرفة والعكس.

قوله: (قال: الشرك بالله) . قدمه لأنه أعظم الموبقات؛ فإن أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك.

والشرك بالله يتناول الشرك بربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه أو صفاته.

فمن اعتقد أن مع الله خالقا أو معينا؛ فهو مشرك، أو أن أحدا سوى الله يستحق أن يعبد؛ فهو مشرك وإن لم يعبده، فإن عبده؛ فهو أعظم، أو أن لله مثيلا في أسمائه؛ فهو مشرك، أو أن الله استوى على العرش كاستواء الملك على عرش مملكته؛ فهو مشرك، أو أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزول الإنسان إلى أسفل بيته من أعلى؛ فهو مشرك.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

ص: 497

[النساء: 48]، وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] .

وبين صلى الله عليه وسلم أن الشرك أعظم ما يكون من الجناية والجرم بقوله حين سئل: أي الذنب أعظم: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك) .

فالذي خلقك وأوجدك وأمدك وأعدك ورزقك كيف تجعل له ندا؟ فلو أن أحدا من الناس أحسن إليك بما دون ذلك، فجعلت له نظيرا؛ لكان هذا الأمر بالنسبة إليه كفرا وجحودا.

قوله: (والسحر) ؛ أي: من الموبقات، وظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا فرق بين أن يكون ذلك بواسطة الشياطين، أو بواسطة الأدوية والعقاقير.

لأنه إن كان بواسطة الشياطين؛ فالذي لا يأتي إلا بالإشراك بهم؛ فهو داخل في الشرك بالله.

وإن كان دون ذلك؛ فهو أيضا جرم عظيم؛ لأن السحر من أعظم ما يكون في الجناية على بني آدم؛ فهو يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه، ويقلقه فيصبح كالبهائم، بل أسوأ من ذلك؛ لأن البهيمة خلقت هكذا على طبيعتها، أما الآدمي؛ فإنه إذا صرف عن طبيعته وفطرته لحقه من الضيق والقلق ما لا يعلمه إلا رب العباد، ولهذا كان السحر يلي الشرك بالله عز وجل.

قوله: (وقتل النفس) ؛ القتل: إزهاق الروح، والمراد بالنفس: البدن الذي فيه الروح، والمراد بالنفس هنا: نفس الآدمي وليس البعير والحمار وما أشبهها.

ص: 498

وقوله: (التي حرم الله) . مفعول (حرم) محذوف تقديره: حرم قتلها؛ فالعائد على الموصول محذوف.

وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ؛ أي: بالعدل؛ لأن هذا حكم، والحق إذا ذكر بإزاء الأحكام؛ فالمراد به العدل، وإذا ذكر بإزاء الأخبار؛ فالمراد به الصدق، والعدل: هو ما أمر الله به ورسوله، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] .

والنفس المحرمة أربعة أنفس، هي: نفس المؤمن، والذمي، والمعاهد، والمستأمن؛ بكسر الميم: طالب الأمان.

فالمؤمن لإيمانه، والذمي لذمته، والمعاهد لعهده، والمستأمن لتأمينه.

والفرق بين الثلاثة - الذمي، والمعاهد، والمستأمن: أن الذمي هو الذي بيننا وبينه ذمة؛ أي: عهد على أن يقيم في بلادنا معصوما مع بذل الجزية.

وأما المعاهد؛ فيقيم في بلاده، لكن بيننا وبينه عهد أن لا يحاربنا ولا نحاربه.

وأما المستأمن؛ فهو الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد، لكننا أمناه في وقت محدد؛ كرجل حربي دخل إلينا بأمان للتجارة ونحوها، أو ليفهم الإسلام، قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] ، وهناك فرق آخر، وهو أن العهد يجوز من جميع الكفار، والذمة لا تجوز إلا من اليهود والنصارى والمجوس دون بقية الكفار، وهذا هو المشهور من المذهب، والصحيح: أنها تجوز من جميع الكفار.

فهذه الأنفس الأربع قتلها حرام، لكنها ليست على حد سواء في التحريم؛ فنفس المؤمن أعظم، ثم الذمي، ثم المعاهد، ثم المستأمن.

وهل المستأمن مثل المعاهد أو أعلى؟

ص: 499

أشك في ذلك؛ لأن المستأمن من له عهد خاص، بخلاف المعاهدين؛ فالمعاهدون يتولى العهد أهل الحل والعقد منهم؛ فليس بيننا عقود تأمينات خاصة، وأيا كان؛ فالحديث عام، وكل منهم معصوم الدم والمال.

وقوله: (إلا بالحق) ؛ أي: مما يوجب القتل، مثل: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.

قوله: (وأكل الربا) . الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] ؛ يعني: زادت.

وفي الشرع: تفاضل في عقد بين أشياء يجب فيها التساوي، ونسأ في عقد بين أشياء يجب فيها التناقض.

والربا: ربا فضل؛ أي: زيادة، وربا نسيئة؛ أي: تأخير، وهو يجري في ستة أموال بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:«الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح» ؛ فهذه هي الأموال الربوية بنص الحديث وإجماع المسلمين، وهذه الأصناف الستة إن بعت منها جنسا بمثله جرى فيه ربا الفضل وربا النسيئة، فلو زدت واحدا على آخر؛ فهو ربا فضل، أو سويته لكن أخرت القبض؛ فهو ربا نسيئة، وربما يجتمع النوعان كما لو بعت ذهبا بذهب متفاضلا والقبض متأخر؛ فقد اجتمع في هذا العقد ربا الفضل وربا النسيئة، وعلى هذا، فإذا بعت جنسا بجنسه؛ فلا بد من أمرين: التساوي، والتقابض في مجلس العقد.

وإذا اختلفت الأجناس واتفقت العلة؛ أي: اتفق المقصود في العوضين؛

ص: 500

فإنه يجري ربا النسيئة دون ربا الفضل؛ فذهب بفضة متفاضلا مع القبض جائز، وذهب بفضة متساويا مع التأخير ربا لتأخر القبض.

قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» .

وقولنا: اتفقا في الغرض والمقصود احترازا مما إذا اختلف الغرض منها.

فالذهب مثلا ثمن للأشياء، والفضة ثمن للأشياء، والبر قوت.

وعلى هذا يجوز بيع صاع من البر بدينار من الذهب مع التفرق وعدم التساوي لاختلاف القصد؛ لأن هذا يقصد به النقد والثمنية، وهذا يقصد به القوت.

فإن قيل: الحديث يدل على أنه لا يصح إلا بالقبض؛ فما هو الجواب؟

نقول: حقيقة إن هذا مقتضى الحديث أنك إذا بعت ذهبا ببر وجب التقابض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» .

والجواب عن هذا أن نقول: قد دلت السنة من وجه آخر على أن القبض ليس بشرط فيما إذا كان أحدهما ثمنا، قال ابن عباس:«قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» .

وعلى هذا؛ فحديث: «فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» لا عموم لمفهومه؛ فلا يشترط القبض في كل صورة من صور المخالفة، وإنما يشترط

ص: 501

القبض فيما إذا اتفقا في الغرض؛ كذهب بفضة، أو بر بشعير، وأما ذهب أو فضة بشعير ونحوه؛ فلا يشترط القبض.

واختلف العلماء فيما عدا هذه الأصناف الستة؛ فالظاهرية قالوا: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة؛ لأنهم لا يرون القياس، فيقتصر على ما جاء به النص، فيجوز عندهم مبادلة أرز بذرة متفاضلا مع تأخر القبض؛ لأنهما لا يدخلان في المنصوص عليه.

وأما أهل القياس من المذاهب الأربعة؛ فإنهم عدوا الحكم إلى غيرها؛ إلا أن بعضا منهم لم يعد الحكم إلى غيرها، وهو من أهل القياس، مثل ابن عقيل رحمه الله؛ فإنه قال: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة، لا لأنه لا قياس، ولكن لأن العلماء اختلفوا واضطربوا في العلة التي من أجلها كان الربا، فلما اضطربوا في العلة ألغينا جميع هذه العلل، وأبقينا النص على ما هو عليه من الحصر في المنصوص عليه.

والصحيح أن الربا يجري في غير الأصناف الستة، وأن العلة هي الكيل والادخار مع الطعم، وهو أن يكون قوتا مدخرا، وهذا بالنسبة للبر والتمر والشعير.

وبالنسبة للذهب والفضة: العلة هي الجنس والثمنية، فقولنا:(الجنس) لأجل أن يشمل الحلي إذا بيع بعضه ببعض، فيجري فيه الربا، مع أنه ليس بثمن، والثمنية مثل الدراهم والدنانير والأوراق النقدية المعروفة؛ فإنها بمنزلة الذهب والفضة، أو يقال: العلة الثمنية فقط والحلي خارج عن الثمنية خروجا طارئا؛ لأن التحلي طارئ، والأصل في الذهب والفضة الثمنية؛ لأنهما ثمن الأشياء.

وأما الملح؛ فقال شيخ الإسلام إنه يصلح به القوت؛ أي: فهو تابع له؛ فالعلة ليس أنه قوت، لكنه من ضرورياته، ولهذا لو طحنت برا ولم يكن فيه

ص: 502

ملح: لم يبق إلا أياما يسيرة، فيفسد، فإذا كان فيه الملح منعه من الفساد؛ فيقول: لما كان يصلح به القوت جعل له حكمه.

وقوله: (وأكل الربا) . ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأكل؛ لأنه أعم وجوده الانتفاع، هكذا قال أهل العلم، ولهذا قال تعالى في بني إسرائيل:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] ، ولم يقل أكلهم، والأخذ أعم من الأكل؛ فأكل الربا معناه أخذه، سواء استعمله في الأكل أو الفرش أو البناء أو المسكن أو غير ذلك.

قوله: (وأكل مال اليتيم) . اليتيم: هو الذي مات أبوه قبل بلوغه، سواء كان ذكرا أم أنثى، أما من ماتت أمه قبل بلوغه؛ فليس يتيما لا شرعا ولا لغة.

لأن اليتيم مأخوذ من اليتم، وهو الانفراد؛ أي: انفرد عن الكاسب له؛ لأن أباه هو الذي يكسب له.

وخص اليتيم؛ لأنه لا أحد يدافع عنه؛ ولأنه أولى أن يرحم، ولهذا جعل الله له حقا في الفيء، وإذا كان أحق أن يرحم؛ فكيف يسطو هذا الرجل الظالم على ماله فيأكله؟ !

ويقال في أكل مال اليتيم ما قيل في أكل الربا؛ فليس خاصا بالأكل، بل حتى لو استعمله في السكن أو الفرش أو الكتب أو غيرها؛ فهو داخل في ذلك.

وأكل مال غير اليتيم ليس من الكبائر؛ لأن اليتيم له شأن خاص، ولهذا توعد الله من يأكل أموال اليتامى، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] .

قوله: (والتولي يوم الزحف) . التولي: بمعنى الإدبار والإعراض، ويوم الزحف؛ أي: يوم تلاحم الصفين في القتال مع الكفار، وسمي يوم الزحف؛

ص: 503

لأن، الجموع إذا تقابلت تجد أن بعضها يزحف إلى بعض، كالذي يمشي زحفا كل واحد منهم يهاب الآخر، فيمشي رويدا رويدا.

والتولي يوم الزحف من كبائر الذنوب؛ لأنه يتضمن الإعراض عن الجهاد في سبيل الله، وكسر قلوب المسلمين، وتقوية أعداء الله، وهذا يؤدي إلى هزيمة المسلمين.

لكن هذا الحديث خصصته الآية، وهي قوله تعالى:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] .

فالله سبحانه استثنى حالتين:

الأولى: أن يكون متحرفا لقتال؛ أي: متهيئا له، كمن ينصرف ليصلح من شأنه أو يهيئ الأسلحة ويعدها، ومنه الانحراف إلى مكان آخر يأتي العدو من جهته؛ فهذا لا يعد متوليا، إنما يعد متهيئا.

الثانية: المتحيز إلى فئة كما إذا حصرت سرية للمسلمين يمكن أن يقضي عليها العدو، فانصرف من هؤلاء لينقذها؛ فهذا لا بأس به لدعاء الضرورة إليه بشرط ألا يكون على الجيش ضرر، فإن كان على الجيش ضرر وذهبت طائفة كبيرة إلى هذه السرية بحيث توهن قوة الجيش وتكسره أمام العدو؛ فإنه لا يجوز؛ لأن الضرر هنا متحقق، وإنقاذ السرية غير متحقق؛ فلا يجوز لأن المقصود إظهار دين الله، وفي هذا إذلال لدين الله، إلا إذا كان الكفار أكثر من مثلي المسلمين، فيجوز الفرار حينئذ؛ لقوله تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] ، أو كان عندهم عدة لا يمكن للمسلمين مقاومتها، كالطائرات إذا لم يكن عند المسلمين من صواريخ ما يدفعهم، فإذا علم أن

ص: 504

الصمود يستلزم الهلاك والقضاء على المسلمين، فلا يجوز لهم أن يبقوا؛ لأن مقتضى ذلك أنهم يغررون بأنفسهم.

وفي هاتين الآيتين تخصيص السنة بالكتاب، وهو قليل، ومن تخصيص السنة بالكتاب أن من الشروط التي بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين في الحديبية أن من جاء من المشركين مسلما يرد إليهم، وهذا الشرط عام يشمل الذكر والأنثى، فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] .

قوله: " وقذف المحصنات ". القذف: بمعنى الرمي، والمراد به هنا الرمي بالزنا، والمحصنات هنا الحرائر، وهو الصحيح، وقيل: العفيفات عن الزنا.

والغافلات: وهن: العفيفات عن الزنا البعيدات عنه، اللاتي لا يخطر على بالهن هذا الأمر.

والمؤمنات احترازا من الكافرات، فمن قذف امرأة هذه صفاتها، فإن ذلك من الموبقات، ومع ذلك يقام عليه الحد ثمانون جلدة، ولا تقبل شهادته ويكون فاسقا، فجعل الله عليه ثلاثة أمور، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]، ثم قال:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 5] .

وهذا الاستثناء لا يشمل أول الجمل بالاتفاق، ويشمل آخر الجمل

ص: 505

ــ

بالاتفاق، واختلف العلماء في الجملة الثانية، وهي قوله:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ؛ فقيل: إنه يعود إليها، وقيل: لا يعود.

وبناء على ذلك إذا تاب القاذف: هل تقبل شهادته أم لا؟

الجواب: اختلف في ذلك أهل العلم:

فمنهم من قال: لا تقبل شهادته أبدا ولو تاب، وأيدوا قولهم بأن الله أبد ذلك بقوله:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ، وفائدة هذا التأبيد أن الحكم لا يرتفع عنهم مطلقا.

وقال آخرون: بل تقبل؛ لأن مبنى قبول الشهادة وردها على الفسق، فإذا زال وهو المانع من قبول الشهادة، زال ما يترتب عليه.

وينبغي في مثل هذا أن يقال: إنه يرجع إلى نظر الحاكم، فإذا رأى من المصلحة عدم قبول الشهادة لردع الناس عن التهاون بأعراض المسلمين، فليفعل.

وإلا؛ فالأصل أنه إذا زال الفسق وجب قبول الشهادة، وهل قذف المحصنين الغافلين المؤمنين كقذف المحصنات من كبائر الذنوب؟

الجواب: الذي عليه جمهور أهل العلم أن قذف الرجل كقذف المرأة، وإنما خص بذلك المرأة؛ لأن الغالب أن القذف يكون للنساء أكثر، إذ البغايا كثيرات قبل الإسلام، وقذف المرأة أشد؛ لأنه يستلزم الشك في نسب أولادها من زوجها، فيلحق بهن القذف ضررا أكثر، فتخصيصه من باب التخصيص بالغالب، والقيد الأغلبي لا مفهوم له؛ لأنه لبيان الواقع.

والشاهد من هذا الحديث قوله: " السحر ".

* * *

ص: 506