الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
ــ
سبب مجيء المؤلف بهذا الباب
لدحض حجة من يقول: إن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة، وأنكروا أن تكون عبادة القبور والأولياء من الشرك؛ لأن هذه الأمة معصومة منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» .
والجواب عن هذا سبق عند الكلام على المسألة الثامنة عشرة من مسائل باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما.
قوله: (أن بعض هذه الأمة)، أي: لا كلها؛ لأن في هذه الأمة طائفة لا تزال منصورة على الحق إلى قيام الساعة، لكنه سيأتي في آخر الزمان ريح تقبض روح كل مسلم؛ فلا يبقى إلا شرار الناس.
وقوله: (تعبد) ؛ بفتح التاء، وفي بعض النسخ:(يعبد) ؛ بفتح الياء المثناة من تحت.
فعلى قراءة (يعبد) لا إشكال فيها؛ لأن (بعض) مذكر.
وعلى قراءة (تعبد) ؛ فإنه داخل في قول ابن مالك:
وربما أكسب ثان أولا
…
تأنيثا أن كان لحذف موهلا
ومثلوا لذلك بقولهم: قطعت بعض أصابعه؛ فالتأنيث هنا من أجل أصابعه لا من أجل بعض.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] .
ــ
فإذا صحت النسخة (تعبد) ؛ فهذا التأنيث اكتسبه المضاف من المضاف إليه.
قوله: (الأوثان) ، جمع وثن، وهو: كل ما عبد من دون الله.
ذكر المؤلف في هذا الباب عدة آيات:
الآية الأولى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ، الاستفهام هنا للتقرير والتعجيب، والرؤية بصرية بدليل أنها عديت بإلى، وإذا عديت بإلى صارت بمعنى النظر.
والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصح توجيه الخطاب إليه، أي: ألم تر أيها المخاطب؟ قوله: {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا} ، أي: أعطوا، ولم يعطوا كل الكتاب؛ لأنهم حرموا بسبب معصيتهم؛ فليس عندهم العلم الكامل بما في الكتاب.
قوله: {نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} المنزل.
والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل.
وقد ذكروا لذلك مثلا، وهو كعب بن الأشرف حين جاء إلى مكة، فاجتمع إليه المشركون، وقالوا: ما تقول في هذا الرجل (أي: النبي صلى الله عليه وسلم الذي سفه أحلامنا ورأى أنه خير منا؟ فقال لهم: أنتم: خير من محمد. ولهذا جاء في آخر الآية: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51] .
قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ، أي: يصدقون بهما، ويقرونهما لا
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60] .
ــ
ينكرونهما، فإذا أقر الإنسان هذه الأوثان؛ فقد آمن بها.
والجبت: قيل: السحر، وقيل: هو الصنم، والأصح: أنه عام لكل صنم أو سحر أو كهانة أو ما أشبه ذلك.
والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
فالمعبود كالأصنام، والمتبوع كعلماء الضلال، والمطاع كالأمراء؛ فطاعتهم في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله تعد من عبادتهم.
والمراد من كان راضيا بعبادتهم إياه، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابديه؛ لأنهم تجاوزوا به حده، حيث نزلوه فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادتهم لهذا المعبود طغيانا؛ لمجاورتهم الحد بذلك.
والطاغوت: مأخوذ من الطغيان؛ فكل شيء يتعدى به الإنسان حده يعتبر طاغوتا.
وجه المناسبة في الآية للباب لا يتبين إلا بالحديث، وهو «لتركبن سنن من كان قبلكم» ، فإذا كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، وأن من هذه الأمة من يرتكب سنن من كان قبله يلزم من هذا أن في هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت؛ فتكون الآية مطابقة للترجمة تماما.
الآية الثانية قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ردا على هؤلاء اليهود الذي اتخذا دين الإسلام هزوا ولعبا.
وقوله: (أنبئكم)، أي: أخبركم، والاستفهام هنا للتقرير والتشويق، أي: سأقرر عليكم هذا الخبر.
قوله: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} ، شر: هنا اسم تفضيل، وأصلها أشر لكن حذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال، ومثلها كلمة خير مخففة من أخير، والناس مخففة من الأناس، وكذا كلمة الله مخففة من الإله.
وقوله: ذَلِكَ المشار إليه ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإن اليهود يزعمون أنهم هم الذين على الحق، وأنهم خير من الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليسوا على الحق؛ فقال الله تعالى:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} .
قوله: {مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} ، مثوبة: تمييز لشر؛ لأن شر اسم تفضيل، وما جاء بعد أفعل التفضيل مبينا له منصوبا على التمييز.
قال ابن مالك:
اسم بمعنى من مبين نكرة
…
ينصب تمييزا بما قد فسره
إلى أن قال:
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا
…
مفضلا كأنت أعلى منزلا
والمثوبة: من ثاب يثوب إذا رجع، ويطلق على الجزاء؛ أي: بشر من ذلك جزاء عند الله.
قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} ، أي: في عمله وجزائه عقوبة أو ثوابا.
قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} ، من: اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو من لعنه الله؛ لأن الاستفهام انتهى عند قوله: {مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} ، وجواب الاستفهام:{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} .
ولعنه؛ أي: طرده وأبعده عن رحمته.
قوله: {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} ، أي: أحل عليه غضبه، والغضب: صفة من صفات الله الحقيقية تقتضي الانتقام من المغضوب عليه، ولا يصح تحريفه إلى معنى الانتقام، وقد سبق الكلام عليه (ص 418) .
والقاعدة العامة عند أهل السنة: أن آيات الصفات وأحاديثها تجرى على ظاهرها اللائق بالله عز وجل؛ فلا تجعل من جنس صفات المخلوقين، ولا تحرف فتنفى عن الله؛ فلا نغلو في الإثبات ولا في النفي.
قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} ، القردة: جمع قرد، وهو حيوان معروف أقرب ما يكون شبها بالإنسان، والخنازير: جمع خنزير، وهو ذلك الحيوان الخبيث المعروف الذي وصفه الله بأنه رجس.
والإشارة هنا إلى اليهود؛ فإنهم لعنوا كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] .
وجعلوا قردة بقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، وغضب الله عليهم بقوله:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] .
قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، فيها قراءتان في (عبد) وفي (الطاغوت) :
الأولى: بضم الباء (عبد) ، وعليها تكسر التاء في (الطاغوت) ؛ لأنه مجرور بالإضافة.
الثانية: بفتح الباء (عبد) على أنه فعل ماض معطوف على قوله؛ {لَعَنَهُ اللَّهُ} صلة الموصول، أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد (من) مع طول الفصل؛ لأن هذا ينطبق على موصوف واحد، فلو أعيدت من لأوهم أنهم جماعة آخرون وهم جماعة واحدة؛ فعلى هذه القراءة يكون (عبد) فعلا