المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مناسبة هذا الباب لما قبله: - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٩

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب التوحيد

- ‌ وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه

- ‌باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌ بيان فضل التوحيد

- ‌ فضل لا إله إلا الله

- ‌باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب

- ‌ التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌مناسبة الباب للبابين قبله:

- ‌(أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)

- ‌«من مات وهو يدعو من دون الله ندا

- ‌«من لقي الله لا يشرك به شيئا

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}

- ‌باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌ الرقى والتمائم والتولة شرك»

- ‌ التعلق بغير الله:

- ‌ قطع التميمة من إنسان

- ‌باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

- ‌باب ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌ الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره

- ‌«نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة

- ‌باب من الشرك النذر لغير الله

- ‌ نذر أن يطيع الله

- ‌باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [

- ‌باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌ الاستعاذة والاستغاثة بغير الله

- ‌ إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي

- ‌باب الشفاعة

- ‌قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ

- ‌{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

- ‌المشركون ليس لهم حظ من الشفاعة

- ‌ الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله

- ‌مناسبة هذا الباب لما قبله:

- ‌باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد اللهعند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده

- ‌ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحينيصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌سبب مجيء المؤلف بهذا الباب

- ‌{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [

- ‌باب ما جاء في السحر

- ‌قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [

- ‌«حد الساحر

- ‌باب بيان شيء من أنواع السحر

- ‌ بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها

- ‌باب ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب ما جاء في النشرة

- ‌تعريف النشرة:

- ‌ ما جاء في التطير

- ‌قوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ

- ‌قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}

- ‌«الطيرة شرك

- ‌باب ما جاء في التنجيم

- ‌ تعلم منازل القمر

- ‌«ثلاثة لا يدخلون الجنة:»

الفصل: ‌مناسبة هذا الباب لما قبله:

باب قول الله تعالى:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية.

ــ

‌مناسبة هذا الباب لما قبله:

مناسبته أنه نوع من الباب الذي قبله، فإذا كان لا أحد يستطيع أن ينفع أحدا بالشفاعة والخلاص من العذاب، كذلك لا يستطيع أحد أن يهدي أحدا؛ فيقوم بما أمر الله به.

قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحب هداية عمه أبي طالب أو من هو أعم.

فأنت يا محمد المخاطب بكاف الخطاب، وله المنزلة الرفيعة عند الله لا تستطيع أن تهدي من أحببت هدايته، ومعلوم أنه إذا أحب هدايته؛ فسوف يحرص عليه، ومع ذلك لا يتمكن من هذا الأمر؛ لأن الأمر كله بيد الله، قال تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران: 128]، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] ؛ فأتى بـ "أل" الدالة على الاستغراق؛ لأن "أل" في قوله؛ "الأمر" للاستغراق؛ فهي نائبة مناب كل؛ أي: وإليه يرجع كل الأمر، ثم جاءت مؤكدة بكل، وذلك توكيدان.

والهداية التي نفاها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم هداية التوفيق، والتي أثبتها له

ص: 340

هداية الدلالة والإرشاد، ولهذا أتت مطلقة لبيان أن الذي بيده هو هداية الدلالة فقط، لا أن يجعله متهديا، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فلم يخصص سبحانه فلانا وفلانا ليبين أن المراد: أنك تهدي هداية دلالة، فأنت تفتح الطريق أمام الناس فقط وتبين لهم وترشدهم، وأما إدخال الناس في الهداية؛ فهذا أمر ليس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو مما تفرد الله به سبحانه؛ فنحن علينا أن نبين وندعو، وأما هداية التوفيق "أي الإنسان يهتدي"؛ فهذا إلى الله سبحانه وتعالى وهذا هو الجمع بين الآيتين.

وقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا طالب؛ فكيف يؤول ذلك؟

والجواب: إما أن يقال: إنه على تقدير أن المفعول محذوف، والتقدير: من أحببت هدايته لا من أحببته هو.

أو يقال: إنه أحب عمه محبة طبيعية كمحبة الابن أباه، ولو كان كافرا.

أو يقال: إن ذلك قبل النهي عن محبة المشركين.

والأول أقرب؛ أي: من أحببت هدايته لا عينه، وهذا عام لأبي طالب وغيره.

ويجوز أن يحبه محبة قرابة، لا ينافي هذا المحبة الشرعية، وقد أحب أن يهتدي هذا الإنسان وإن كنت أبغضه شخصيا لكفره، ولكن لأني أحب أن الناس يسلكون دين الله.

ص: 341

وفي "الصحيح" عن ابن المسيب، عن أبيه؛ قال:«لما حضرت أبا طالب الوفاة؛ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله» .

ــ

قوله: " في الصحيح "، سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.

قوله: " أبا " بالألف: مفعول به منصوب بالألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و" الوفاة " يعني: الموت، فاعل حضرت.

قوله: " «فقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله» ، أتى صلى الله عليه وسلم بهذه الكنية الدالة على العطف؛ لأن العم صنو الأب؛ أي: كالغصن معه.

والصنو: الغصن الذي أصله واحد؛ فكأنه معه كالغصن.

قوله: " يا عم " فيها وجهان.

يا عم؛ بكسر الميم: على تقدير أنها مضافة إلى الياء.

ويا عم؛ بضم الميم: على تقدير قطعها عن الإضافة.

قوله: " قل: لا إله إلا الله " يجوز أنه قاله على سبيل الأمر والإلزام؛ لأنه يجب أن يأمر كل أحد أن يقول: لا إله إلا الله.

ويجوز أنه قاله على سبيل الترجي والتلطف معه، وأبو طالب والذين عنده يعرفون هذه الكلمة ويعرفون معناها، ولهذا بادر بالإنكار.

قوله: " كلمة "، منصوبة؛ لأنها بدل لا إله إلا الله، ويجوز إذا لم تكن الرواية بالنصب أن تكون بالرفع؛ أي: هي كلمة، ولكن النصب أوضح.

قول: " أحاج "، بضم الجيم وفتحها: فعلى ضم الجيم فهي صفة لكلمة،

ص: 342

«فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله» .

ــ

وإذا كانت بالفتح فهي مجزومة جوابا للأمر: " قل "؛ أي: قل أحاج.

وقال بعض المعربين: إنها جواب لشرط مقدر؛ أي: إن تقل أحاج، وبعضهم يرى أنها جواب للأمر مباشرة، وهذا والأول أسهل؛ لأن الأصل عدم التقدير.

والمعنى: أذكرها حجة لك عند الله، وليس أخاصم وأجادل لك بها عند الله، وإن كان بعض أهل العلم قال: إن معناها أجادل الله بها، ولكن الذي يظهر لي أن المعنى: أحاج لك بها عند الله؛ أي: أذكرها حجة لك كما جاء في بعض الروايات: «أشهد لك بها عند الله» .

قوله: «فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟» ، القائلان هما: عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل، والاستفهام للإنكار عليه؛ لأنهما عرفا أنه إذا قالها -أي كلمة الإخلاص- وحد، وملة عبد المطلب الشرك، وذكرا له ما تهيج به نعرته، وهي ملة عبد المطلب حتى لا يخرج عن ملة آبائه.

وقد مات أبو جهل على ملة عبد المطلب، أما عبد الله بن أبي أمية والمسيب الذي روى الحديث، فأسلما؛ فأسلم من هؤلاء الثلاثة رجلان رضي الله عنهما.

قوله: " ملة عبد المطلب "، أي: دين عبد المطلب.

قوله: " فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم "، أي: قوله: قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج

ص: 343

«فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك".

فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} » [التوبة: 113] .

ــ

لك بها عند الله.

قوله: " فأعادا عليه "، أي قولهما: أترغب عن ملة عبد المطلب.

قوله: " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك

إلخ" جملة " لأستغفرن لك " مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم، واللام، ونون التوكيد الثقيلة.

والاستغفار: طلب المغفرة، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه شيء من القلق، حيث قال:" ما لم أنه عنك "؛ فوقع الأمر كما توقع ونهى عنه.

قوله: " ما لم أنه عنك "، فعل مضارع مبني للمجهول، والناهي عنه هو الله.

قوله " ما كان "، ما: نافية، وكان فعل ماض ناقص.

قوله: " {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا} "، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم كان مؤخر.

قوله: " للنبي "، خبر مقدم؛ أي: ما كان استغفاره.

واعلم أن ما كان أو ما ينبغي أو لا ينبغي ونحوها، إذا جاءت في القرآن والحديث؛ فالمراد أن ذلك ممتنع غاية الامتناع؛ كقوله تعالى:{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35]، وقوله:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]، وقوله:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» .

ص: 344

«وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} » [القصص: 56] .

ــ

وقوله: {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا} أي: يطلبوا المغفرة للمشركين.

قوله: {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} ، أي: حتى ولو كانوا أقارب لهم، ولهذا «لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ومر بقبر أمه استأذن الله أن يستغفر لها فما أذن الله له، فاستأذنه أن يزور قبرها فأذن له؛ فزاره للاعتبار وبكى وأبكى من حوله من الصحابة» .

فالله منعه من طلب المغفرة للمشركين؛ لأن هؤلاء المشركين ليسوا أهلا للمغفرة؛ لأنك إذا دعوت الله أن يفعل ما لا يليق؛ فهو اعتداء في الدعاء.

قوله: "وأنزل الله في أبي طالب "، أي: في شأنه.

قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أي لا توفق من أحببت للهداية.

قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، أي يهدي هداية التوفيق من يشاء، واعلم أن كل فعل يضاف إلى مشيئة الله تعالى؛ فهو مقرون بالحكمة؛ أي: من اقتضت حكمته أن يهديه فإنه يهتدي، ومن اقتضت حكمته أن يضله أضله.

وهذا الحديث يقطع وسائل الشرك بالرسول وغيره؛ فالذين يلجئون إليه صلى الله عليه وسلم ويستنجدون به مشركون، فلا ينفعهم ذلك؛ لأنه لم يؤذن له أن يستغفر

ص: 345

لعمه، مع أنه قد قام معه قياما عظيما، ناصره وآزره في دعوته؛ فكيف بغيره ممن يشركون بالله؟

الإشكالات الواردة في الحديث:

الإشكال الأول: الإثبات والنفي في الهداية، وقد سبق بيان ذلك.

الإشكال الثاني: قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة يشكل مع قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] ، وظاهر الحديث قبول توبته.

والجواب عن ذلك من أحد وجهين:

الأول: أن يقال لما حضرت أبا طالب الوفاة، أي ظهر عليه علامات الموت ولم ينزل به، ولكن عرف موته لا محالة، وعلى هذا؛ فالوصف لا ينافي الآية.

الثاني: أن هذا خاص بأبي طالب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويستدل لذلك بوجهين:

أ- أنه قال: «كلمة أحاج لك بها عند الله» ، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: كلمة تخرجك من النار.

ب- أنه سبحانه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب.

ويضعف الوجه الأول أن المعنى ظهرت عليه علامات الموت: بأن قوله: " لما حضرت أبا طالب الوفاة " مطابقا تماما؛ لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} ، وعلى هذا يكون الأوضح في الجواب أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع

ص: 346

أبي طالب نفسه.

الإشكال الثالث: أن قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] في سورة التوبة، وهي متأخرة مدنية، وقصة أبي طالب مكية، وهذا يدل على تأخر النهي عن الاستغفار للمشركين، ولهذا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم للاستغفار لأمه وهو ذاهب للعمرة.

ولا يمكن أن يستأذن بعد نزول النهي؛ فدل على تأخر الآية، وأن المراد بيان دخولها في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، وليس المعنى أنها نزلت في ذلك الوقت.

وقيل: إن سبب نزول الآية هو استئذانه ربه في الاستغفار لأمه، ولا مانع من أن يكون للآية سببان.

الإشكال الرابع: أن أهل العلم قالوا: يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله، لكن بدون قول قل؛ لأنه ربما مع الضجر يقول: لا؛ لضيق صدره مع نزول الموت، أو يكره هذه الكلمة أو معناها، وفي هذا الحديث قال:"قل".

والجواب: إن أبا طالب كان كافرا، فإذا قيل له: قل وأبى؛ فهو باق على كفره، لم يضره التلقين بهذا؛ فإما أن يبقى على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين، وإما أن يهديه الله، بخلاف المسلم؛ فهو على خطر؛ لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه.

ص: 347

فيه مسائل:

الأولى: تفسير قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية. الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية. الثالثة: وهي المسألة الكبيرة، تفسير قوله:"لا إله إلا الله"؛ بخلاف ما عليه من يدعي العلم.

ــ

فيه مسائل:

الأولي: تفسير قوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، أي: من أحببت هدايته، وسبق تفسيرها، وبينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان لا يستطيع أن يهدي أحدا وهو حي؛ فكيف يستطيع أن يهدي أحدا وهو ميت؟ وأنه كما قال الله تعالى في حقه:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21] .

الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} الآية، وقد سبق تفسيرها، وبيان تحريم استغفار المسلمين للمشركين، ولو كانوا أولي قربى.

والخطر من قول بعض الناس لبعض زعماء الكفر إذا مات: المرحوم؛ فإنه حرام؛ لأن هذا مضادة لله سبحانه وتعالى وكذلك يحرم إظهار الجزع والحزن على موتهم بالإحداد أو غيره؛ لأن المؤمنين يفرحون بموتهم، بل لو كان عندهم القدرة والقوة لقاتلوهم حتى يكون الدين كله لله.

الثالثة: وهي المسألة الكبيرة، أي: الكبيرة من هذا الباب، «وقوله "أي النبي صلى الله عليه وسلم" لعمه: " قل: لا إله إلا الله» ، وعمه المعنى أنه التبرؤ من كل إله سوى الله، ولهذا أبى أن يقولها؛ لأنه يعرف معناها ومقتضاها وملزوماتها.

وقوله: " بخلاف ما عليه من يدعي العلم " كأنه يشير إلى تفسير المتكلمين

ص: 348

الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل قال للرجل قل: "لا إله إلا الله"؛ فقبح الله أبا جهل، من أعلم منه بأصل الإسلام.

ــ

لمعنى لا إله إلا الله، حيث يقولون: إن الإله هو القادر على الاختراع، وإنه لا قادر على الاختراع والإيجاد والإبداع إلا الله، وهذا تفسير باطل.

نعم، هو حق لا قادر على الاختراع إلا الله، لكن ليس هذا معنى لا إله إلا الله، ولكن المعنى: لا معبود حق إلا الله؛ لأننا لو قلنا: إن معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله؛ صار المشركون الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم واستباح نساءهم وذريتهم وأموالهم مسلمين؛ فالظاهر من كلامه رحمه الله أنه أراد أهل الكلام الذين يفسرون لا إله إلا الله بتوحيد الربوبية، وكذلك الذين يعبدون الرسول والأولياء، ويقولون: نحن نقول: لا إله إلا الله.

الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم، أبو جهل ومن معه يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بقول: لا إله إلا الله، ولذا ثاروا وقالوا له:"أترغب عن ملة عبد المطلب؟ "، وهو أيضا أبى أن يقولها؛ لأنه يعرف مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، قال الله تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36] .

فالحاصل أن الذين يدعون أن معنى لا إله إلا الله؛ أي: لا قادر على الاختراع إلا هو، أو يقولونها وهم يعبدون غيره كالأولياء، هم أجهل من أبي جهل.

ص: 349

الخامسة: جده صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه. السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.

ــ

واحترز المؤلف في عدم ذكر من مع أبي جهل لأنهم أسلموا، وبذلك صاروا أعلم ممن بعدهم، خاصة من هم في العصور المتأخرة في زمن المؤلف رحمه الله.

الخامسة: جده ومبالغته في إسلام عمه، حرصه صلى الله عليه وسلم وكونه يتحمل أن يحاج بالكلمة عند الله واضح من نص الحديث؛ لسببين هما:

1 -

القرابة.

2 -

لما أسدى للرسول والإسلام من المعروف، فهو على هذا مشكور، وإن كان على كفره مأزورا وفي النار، ومن مناصرة أبي طالب أنه هجر قومه من أجل معاضدة النبي صلى الله عليه وسلم ومناصرته، وكان يعلن على الملأ صدقه ويقول قصائد في ذلك ويمدحه، ويصبر على الأذى من أجله، وهذا جدير بأن يحرص على هدايته، لكن الأمر بيد مقلب القلوب كما في الحديث:«إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء» ، ثم قال صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث:«اللهم، مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك» .

السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب، بدليل قولهما:"أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله؛ فدل على أن ملة عبد المطلب الكفر والشرك.

وفي الحديث رد على من قال بإسلام أبي طالب أو نبوته كما تزعمه

ص: 350

السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.

الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.

ــ

الرافضة، قبحهم الله؛ لأن آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.

السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب الناس أن يجيب الله دعاءه، ومع ذلك اقتضت حكمة الله أن لا يجيب دعاءه لعمه أبي طالب؛ لأن الأمر بيد الله لا بيد الرسول ولا غيره، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، وقال تعالى:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] ليس لأحد تصرف في هذا الكون إلا رب الكون.

وكذا أمه صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في الاستغفار لها؛ فدل على أن أهل الكفر ليسوا أهلا للمغفرة بأي حال، ولا يجاب لنا فيهم، ولا يحل الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإنما يدعى لهم بالهداية وهم أحياء.

الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان، المعنى أنه لولا هذان الرجلان؛ لربما وفق أبو طالب إلى قبول ما عرضه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هؤلاء -والعياذ بالله- ذكراه نعرة الجاهلية ومضرة رفقاء السوء، ليس خاصا بالشرك، ولكن في جميع سلوك الإنسان، وقد «شبه النبي صلى الله عليه وسلم جليس السوء بنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه رائحة كريهة» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«فأبواه يهودانه أو»

ص: 351

التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.

ــ

«ينصرانه أو يمجسانه» ، وذلك لما بينهما من الصحبة والاختلاط، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند لا بأس به:«المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل» (1) ؛ فالمهم أنه يجب على الإنسان أن يفكر في أصحابه: هل هم أصحاب سوء؟ فليبعد عنهم؛ لأنهم أشد عداء من الجرب، أو هم أصحاب خير: يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر، ويفتحون له أبواب الخير؛ فعليه بهم.

التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر؛ لأن أبا طالب اختار أن يكون على ملة عبد المطلب حين ذكروه بأسلافه مع مخالفته لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا ليس على إطلاقه؛ فتعظيمهم إن كانوا أهلا لذلك فلا يضر، بل هو خير؛ فأسلافنا من صدر هذه الأمة لا شك أن تعظيمهم وإنزالهم منازلهم خير لا ضرر فيه.

وإن كان تعظيم الأكابر لما هم عليه من العلم والسن؛ فليس فيه مضرة وإن كان تعظيمهم لما هم عليه من الباطل؛ فهو ضرر عظيم على دين المرء، فمثلا: من يعظم أبا جهل؛ لأنه سيد أهل الوادي، وكذلك عبد المطلب وغيره؛ فهو ضرر عليه، ولا يجوز أن يرى الإنسان في نفسه لهؤلاء أي قدر؛ لأنهم أعداء الله عز وجل، وكذلك لا يعظم الرؤساء من الكفار في زمانه؛ فإن

(1) مسند الإمام أحمد (2/303)، والترمذي: كتاب الزهد / باب الرجل على دين خليله) ـ وقال: (حسن غريب) ـ، والحاكم (4/188) ـ وقال:(صحيح ووافقه الذهبي) ـ.

ص: 352

العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك؛ لاستدلال أبي جهل بذلك.

ــ

فيه مضرة؛ لأنه قد يورث ما يضاد الإسلام، فيجب أن يكون التعظيم حسب ما تقتضيه الأدلة من الكتاب والسنة.

العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك لاستدلال أبي جهل بذلك، شبه المبطلين في تعظيم الأسلاف هي استدلال أبي جهل بذلك في قوله:"أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " وهذه الشبهة ذكرها الله في القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] .

فالمبطلون يقولون في شبهتهم: إن أسلافهم على الحق وسيقتدون بهم، ويقولون: كيف نسفه أحلامهم، ونضلل ما هم عليه؟

وهذا يوجد في المتعصبين لمشايخهم وكبرائهم ومذاهبهم، حيث لا يقبلون قرآنا ولا سنة في معارضة الشيخ أو الإمام، حتى إن بعضهم يجعلهم معصومين؛ كالرافضة، والتيجانية، والقاديانية، وغيرهم؛ فهم يرون أن إمامهم لا يخطئ، والكتاب والسنة يمكن أن يخطئا.

والواجب على المرء أن يكون تابعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما من خالفه من الكبراء والأئمة؛ فإنهم لا يحتج بهم على الكتاب والسنة، لكن يعتذر لهم عن مخالفة الكتاب والسنة إن كانوا أهلا للاعتذار، بحيث لم يعرف عنهم معارضة للنصوص، فيعتذر لهم بما ذكره أهل العلم، ومن أحسن ما ألف كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية:"رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، أما من يعرف بمعارضة الكتاب والسنة؛ فلا يعتذر له.

ص: 353

الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو كان قالها لنفعته. الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في القلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره؛ فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.

ــ

الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، وهذا مبني على القول بأن معنى حضرته الوفاة؛ أي: ظهرت عليه علاماتها، ولم ينزل به كما سبق.

الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين

إلخ، وهذه الشبهة هي تعظيم الأسلاف والأكابر.

ص: 354

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم

هو الغلو في الصالحين

ــ

قوله: " سبب كفر بني آدم "، السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} [الحج: 15] ؛ أي: بشيء يوصله إلى السماء.

ومنه أيضا سمي الحبل سببا؛ لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر.

وأما في الاصطلاح عند أهل الأصول؛ فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.

أي: إذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا عدم عدم المسبب؛ إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب.

قوله: " بني آدم "، يشمل الرجال والنساء؛ لأنه إذا قيل: بنو فلان، وهم قبيلة: شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل: بنو فلان، أي رجل معين؛ فالمراد بهم الذكور.

قوله: " وتركهم "، يعني: وسبب تركهم.

قوله: " دينهم "، مفعول ترك؛ لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، و"دينهم" يكون مفعولا به.

قوله: " هو الغلو "، هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهو من أدوات التوكيد، والغلو: خبر؛ لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب.

ص: 355

وقول الله عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] .

ــ

والغلو: هو مجاوزة الحد في الثناء مدحا أو قدحا.

والقدح: يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شرا.

والغلو هنا: مجاوزة الحد في الثناء مدحا.

قوله: " الصالحين "، الصالح: هو الذي قام بحق الله وحق العباد، وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله:" أن سبب كفر بني آدم، وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين "، وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحا، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع.

وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل من النار» ؛ يعني: عمه أبا طالب.

قوله: " وقول الله عز وجل"، يعني: وباب قول الله عز وجل.

قوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ} ، نداء، وهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى.

قوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ، أي: لا تتجاوزوا الحد مدحا أو قدحا، والأمر واقع كذلك بالنسبة لأهل الكتاب عموما؛ فإنهم غلوا في عيسى ابن

ص: 356

مريم عليه السلام مدحا وقدحا، حيث قال النصارى: إنه ابن الله، وجعلوه ثالث ثلاثة.

واليهود غلوا فيه قدحا، وقالوا: إن أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله؛ فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط أو تفريط.

قوله: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ، وهو ما قاله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه: إله واحد، أحد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.

قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} ، هذه صيغة حصر، وطريقه "إنما"؛ فيكون المعنى: ما المسيح عيسى ابن مريم إلا رسول الله، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذي يضيفونه إلى الله.

وفي قوله: رسول الله إبطال لقول اليهود: إنه كذاب، ولقول النصارى: إنه إله.

وفي قوله: " وكلمته " إبطال لقول اليهود: إنه ابن زنا.

{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} : أن قال له: كن فكان.

قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} ، أي: إنه عز وجل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بني آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إليه تشريفا وتكريما؛ كما في قوله تعالى في آدم:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 72] ؛ فهذا للتشريف والتكريم.

قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ، الخطاب لأهل الكتاب، ومن رسله محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آخرهم وخاتمهم وأفضلهم.

قوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} ، أي: إن الله ثالث ثلاثة.

قوله: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} ، " خيرا ": خبر ليكن المحذوفة؛ أي: انتهوا

ص: 357

يكن خيرا لكم.

قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ، أي: تنزيها له أن يكون له ولد؛ لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض، ومن جملتهم عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ فهو من جملة المملوكين المربوبين؛ فكيف يكون إلها مع الله أو ولدا لله؟

"تنبيه":

لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، ونرجو أن يكون في إكمالنا لها فائدة.

قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} ، أي: كفى الله تعالى أن يكون حفيظا على عباده، مدبرا لأحوالهم، عالما بأعمالهم.

والشاهد من هذه الآية قوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ؛ فنهى عن الغلو في الدين؛ لأنه يتضمن مفاسد كثيرة؛ منها:

1 -

أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحا، وتحتها إن كان قدحا.

2 -

أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو.

3 -

أنه يصد عن تعظيم الله سبحانه وتعالى؛ لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق، فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه؛ تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق.

4 -

أن المغلو فيه إن كان موجودا؛ فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحا، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا، وإن كانت قدحا.

قوله: في دينكم، الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا: العمل.

ص: 358

وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] .

ــ

والمعنى: لا تجعلوا عبادتكم غلوا في المخلوقين وغيرهم.

وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات؟

الجواب: نعم، يدخل الغلو في العبادات، مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلا للوارد أو غير هذا؛ فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه.

قوله: " وفي الصحيح "، أي: في "صحيح البخاري "، وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.

قوله: " وقالوا "، أي: قال بعضهم لبعض.

قوله: " لا تذرن "، أي: لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون.

قوله: " آلهتكم "، هل المراد: لا تذروا عبادتها أو تمكنوا أحدا من إهانتها؟

ص: 359

قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم؛ عبدت.".

ــ

الجواب: المعنيان؛ أي: انتصروا لآلهتكم، ولا تمكنوا أحدا من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضا، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق.

قوله: {وَلَا سُوَاعًا} ، لا: زائدة للتوكيد، مثلها في قوله تعالى:{وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر؛ فهما دون مرتبة من سبقهما.

قوله تعالى: {وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها؛ لأن قوله:" آلهتكم " عام يشمل كل ما يعبدون، وكأنها كبار آلهتهم؛ فخصوها بالذكر.

والآلهة: جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله؛ فهو حق، وإن كان غير الله؛ فهو باطل.

قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ".

ص: 360

وفي هذا التفسير إشكال، حيث قال:" هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح "، وظاهر القرآن أنها قبل نوح، قال تعالى:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح: 21-23] ؛ ظاهر الآية الكريمة: أن قوم نوح كانوا يعبدونها، ثم نهاهم نوح عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله وحده، ولكنهم أبوا وقالوا:{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، وهذا "أعني: القول بأنهم قبل نوح " قول محمد بن كعب ومحمد بن قيس، وهو الراجح لموافقته ظاهر القرآن.

ويحتمل -وهو بعيد- أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى من سياق الأثر عن ابن عباس.

فالمهم أن تفسير الآية أن يقال: هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالا صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم.

قوله: " أوحى الشيطان "، أي: وحي وسوسة، وليس وحي إلهام.

قوله: " أن انصبوا إلى مجالسهم "، الأنصاب: جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيره.

قوله: " وسموها بأسمائهم "، أي: ضعوا أنصابا في مجالسهم، وقولوا: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر؛ لأجل إذا رأيتوهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لآدم:{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120] .

وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء؛ فهذه عبادة

ص: 361

قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".

ــ

قاصرة أو معدومة.

قوله: " ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم؛ عبدت من دون الله "، ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، حتى إذا طال عليهم الأمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين؛ كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] .

هذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، وهل تفسيره حجة؟

الجواب: يرجع في التفسير أولا إلى القرآن؛ فالقرآن يفسر بعضه بعضا، مثل قوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} تفسيرها: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10، 11] ، فإن لم نجد في القرآن؛ فإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد؛ فإلى تفسير الصحابة، وتفسير الصحابي حجة بلا شك؛ لأنهم أدرى بالقرآن حيث نزل بعصرهم وبلغتهم، ويعرفون عنه أكثر من غيرهم، حتى قال بعض العلماء: إن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، وهذا ليس بصحيح، لكنه لا شك أنه حجة على من بعدهم، فإن اختلف الصحابة في التفسير أخذنا بما يرجحه سياق الآية، والآية تدل على ما ذكره ابن عباس؛ إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح صلى الله عليه وسلم وقد عرفت القول الراجح.

قوله: " الأمد "، الزمن.

وهذا كتفسير ابن عباس؛ إلا أن ابن عباس يقول: "إنهم جعلوا الأنصاب

ص: 362

وعن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» . أخرجاه.

ــ

في مجالسهم"، وهنا يقول: "عكفوا على قبورهم"، ولا يبعد أنهم فعلوا هذا وهذا، أو أنهم قبروا في مجالسهم؛ فتكون هي محل القبور.

والشاهد قوله: " ثم طال عليهم الأمد؛ فعبدوهم "؛ فسبب العبادة إذا الغلو في هؤلاء الصالحين حتى عبدوهم.

قوله: «لا تطروني» ، الإطراء: المبالغة في المدح.

وهذا النهي يحتمل أنه منصب على هذا التشبيه، وهو قوله:«كما أطرت النصارى ابن مريم» ، حيث جعلوه إلها أو ابنا لله، وبهذا يوحي قول البوصيري:

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم

أي: دع ما قاله النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أو ثالث ثلاثة، والباقي املأ فمك في مدحه ولو بما لا يرضيه.

ويحتمل أن النهي عام؛ فيشمل ما يشابه غلو النصارى في عيسى ابن مريم وما دونه، ويكون قوله:" كما أطرت " لمطلق التشبيه لا للتشبيه المطلق؛ لأن إطراء النصارى عيسى ابن مريم سببه الغلو في هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث جعلوه ابنا لله وثالث ثلاثة، والدليل على أن المراد هذا قوله:«إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» .

ص: 363

قوله: «إنما أنا عبد» ، أي: ليس لي حق من الربوبية، ولا مما يختص به الله عز وجل أبدا.

قوله: «فقولوا عبد الله ورسوله» ، هذان الوصفان أصدق وصف وأشرفه في الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله، قال تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] ؛ فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم، لكن كونهم عبادا لله عز وجل أشرف وأعظم، وأشرف وصف له وأحق وصف به، ولهذا يقول الشاعر في محبوبته:

لا تدعني إلا بيا عبدهم

فإنه أشرف أسمائي

أي: أنت إذا أردت أن تكلمني قل: يا عبد فلانة؛ لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل.

فمحمد صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولهذا نقول في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ فهذا أفضل وصف اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه.

واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام، وهي:

الأول: حق لله لا يشرك فيه غيره: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.

الثاني: حق خاص للرسل، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون.

الثالث: حق مشترك، وهو الإيمان بالله ورسله، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى:{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ؛ فهذا حق

ص: 364

مشترك، {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] هذا خاص بالله سبحانه وتعالى.

والذين يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم يجعلون حق الله له؛ فيقولون: " وتسبحوه "؛ أي: الرسول، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله، ولا شك أنه شرك؛ لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به، بخلاف الإيمان؛ فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله.

ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة والسلام: «كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» ؛ لأن الإطراء والغلو يؤدي إلى عبادته كما هو واقع الآن؛ فيوجد عند قبره في المدينة من يسأل، فيقول: يا رسول الله، المدد، المدد، يا رسول الله، أغثنا، يا رسول الله، بلادنا يابسة، وهكذا، ورأيت بعيني رجلا يدعو الله تحت ميزاب الكعبة موليا ظهره البيت مستقبلا المدينة؛ لأن استقبال القبر عنده أشرف من استقبال الكعبة والعياذ بالله.

ويقول بعض المغالين: الكعبة أفضل من الحجرة، فأما والنبي صلى الله عليه وسلم فيها؛ فلا والله، ولا الكعبة، ولا العرش وحملته، ولا الجنة.

فهو يريد أن يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة لا يرضاها النبي صلى الله عليه وسلم لنا ولا لنفسه.

وصحيح أن جسده صلى الله عليه وسلم أفضل، ولكن كونه يقول: إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها هذا خطأ عظيم، نسأل الله السلامة من ذلك.

قوله: " إياكم "، للتحذير.

ص: 365

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» . (1)

ــ

قوله: " والغلو "، معطوف على إياكم، وقد اضطرب فيه المعربون اضطرابا كثيرا، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفا: أن إيا منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أحذر؛ أي: احذر نفسك أن تغرك، والغلو معطوف على إياك؛ أي: واحذر الغلو.

والغلو كما سبق: هو مجاوزة الحد مدحا أو ذما، وقد يشمل ما هو أكثر من ذلك أيضا؛ فيقال: مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل؛ لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات، حيث «روى ابن عباس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: "القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف؛ فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين» . هذا لفظ ابن ماجه.

والغلو: فاعل أهلك.

قوله: " من كان قبلكم "، مفعول مقدم.

قوله: " فإنما "، أداة حصر، والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.

قوله: " أهلك "، يحتمل معنيين:

الأول: أن المراد هلاك الدين، وعليه يكون الهلاك واقعا مباشرة من

(1) مسند الإمام أحمد (1/215،347)، وابن ماجة: كتاب المناسك / باب قدر الحصى، 2/1008، والحاكم (1/466) ـ وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي ـ.

ص: 366

الغلو؛ لأن مجرد الغلو هلاك.

الثاني: أنه هلاك الأجسام وعليه يكون الغلو سببا للهلاك؛ أي: إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله.

وهل الحصر في قوله: «فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» حقيقي أو إضافي؟

الجواب: إن قيل: إنه حقيقي؛ حصل إشكال، وهو أن هناك أحاديث أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد» ؛ فهنا حصران متقابلان، فإذا قلنا: إنه حقيقي بمعنى أنه لا هلاك إلا بهذا حقيقة؛ صار بين الحديثين تناقص.

وإن قيل: إن الحصر إضافي؛ أي: باعتبار عمل معين؛ فإنه لا يحصل تناقص بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر؛ لئلا يكون في حديثه صلى الله عليه وسلم تناقض، وحينئذ يكون إضافيا، فيقال: أهلك من كان قبلكم الغلو هذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول، وفي الآخر يقال: أهلك من كان قبلكم باعتبار الحكم، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف.

وفي هذا الحديث يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك؛ لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة؛ فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:

ص: 367

الوجه الأول: تحذيره صلى الله عليه وسلم، والتحذير نهي وزيادة.

الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما من قبلنا، وما كان سببا للهلاك كان محرما.

أقسام الناس في العبادة:

والناس في العبادة طرفان ووسط؛ فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط.

فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا، هذا هو الواجب؛ فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطا بين هذا وهذا.

والغلو له أقسام كثيرة؛ منها: الغلو في العقيدة، ومنها: الغلو في العبادة، ومنها: الغلو في المعاملة، ومنها: الغلو في العادات.

والأمثلة عليها كما يلي: أما الغلو في العقيدة؛ فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعا، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين:

إما التمثيل، أو التعطيل.

إما أنهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: هذا معنى إثبات الصفات، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفي الله عن نفسه، أو عطلوه وقالوا: هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه؛ فنفوا ما أثبته الله لنفسه.

لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك؛ فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه؛ فأخذوا بظواهر اللفظ، وقالوا: ليس لنا أن نزيد على ذلك؛ فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم

ص: 368

وغيرهم في الدين؛ صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبدا؛ حتى ضاعوا، نسأل الله السلامة.

وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط.

أما الغلو في العبادات؛ فهو التشدد فيها، بحيث يرى أن الإخلاص بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام؛ كغلو الخوارج والمعتزلة، حيث قالوا: إن من فعل كبيرة من الكبائر؛ فهو خارج عن الإسلام، وحل دمه وماله، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء، وكذا المعتزلة، حيث قالوا: من فعل كبيرة؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر؛ فهذا تشدد أدى إلى الهلاك، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة، فقالوا: إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر، ونحوها من الكبائر، لا تخرج من الإيمان، ولا تنقص من الإيمان شيئا، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يختلف الناس في الإيمان، حتى إنهم ليقولون: إن إبليس مؤمن؛ لأنه مقر، وإذا قيل: إن الله كفره؛ قالوا: إذن إقراره ليس بصادق، بل هو كاذب.

هؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان، ولا شك أن هذا تطرف بالتساهل، والأول تطرف بالتشدد، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر.

وأما الغلو في المعاملات؛ فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية، وهذا مسلك سلكه الصوفية، حيث قالوا: من اشتغل بالدنيا؛ فهو غير مريد

ص: 369

للآخرة، وقالوا: لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية، وما أشبه ذلك.

وقابل هذا التشدد تساهل من قال: يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد؛ حتى الربا والغش وغير ذلك.

فهؤلاء -والعياذ بالله- متطرفون بالتساهل؛ فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلسا أو فلسين، وهذا لا شك أنه تطرف.

والتوسط أن يقال: تحل المعاملات وفق ما جاءت به النصوص، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ؛ فليس كل شيء حراما؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى، والصحابة رضي الله عنهم يبيعون ويشترون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم.

وأما الغلو في العادات؛ فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة؛ فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها، ولا يتحول إلى عادة جديدة، أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى؛ فهذا من الغلو المنهي عنه، فلو أن أحدا تمسك بعادته في أمر حدث من عادته التي هو عليها نقول: هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة.

وأما إن كانت العادات متساوية المصالح، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادات التي قد تخل بالشرف أو الدين؛ فلا يتحول إلى العادة الجديدة.

ص: 370

ولمسلم عن ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون". قالها ثلاثا» .

ــ

قوله: " المتنطعون "، المتنطع: هو المتعمق المتقعر المتشدق، سواء كان في الكلام أو في الأفعال؛ فهو هالك، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة؛ فبعض الناس يكون بهذه الحال، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب، وربما يقترن به الكبر، فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال.

والتنطع بالأفعال كذلك أيضا قد يؤدي إلى الإعجاب أو إلى الكبر، ولهذا قال:"هلك المتنطعون".

والتنطع أيضا في المسائل الدينية يشبه الغلو فيها؛ فهو أيضا من أسباب الهلاك، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها، حيث يسألونه عما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصا على العلم، وفيهم رسول الله الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم.

فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو، وأنه سبب للهلاك، وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط؛ فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط.

ص: 371

فيه مسائل:

الأولي: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده؛ تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.

ــ

فيه مسائل:

الأولى: أن من فهم هذا الباب -أي: بما مر من تفسير الآية الكريمة: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} - وبابين بعده؛ تبين له غربة الإسلام.

وهذا حق؛ فإن الإسلام المبني على التوحيد الخالص غريب، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم؛ فلا تجد بلدا مسلما إلا وفيه غلو في قبور الصالحين، وقد يكون ليس قبر رجل صالح، قد يكون وهما مثل قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما؛ فأهل العراق يقولون: هو عندنا، وأهل الشام يقولون: عندنا، وأهل مصر يقولون: عندنا، وبعضهم يقول: هو في المغرب؛ فصار الحسين إما أنه أربعة رجال، أو مقطع أوصالا، وهذا كله ليس بصحيح؛ فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين.

وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد، ولكن بتوفيق الله سبحانه وتعالى أنه أعان هذا الرجل مع الإمام محمد بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد -ولله الحمد- على التوحيد الخالص.

ص: 372

الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض؛ كان بشبهة الصالحين. الثالثة: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم. الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.

ــ

الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض، وجه ذلك: أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقواما صالحين، فحدث الغلو فيهم، ثم عبدوا من دون الله؛ ففيه الحذر من الغلو في الصالحين.

الثالثة: معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم، أول شيء غير به دين الأنبياء هو الشرك، وسببه هو الغلو في الصالحين، وقوله:"مع معرفة أن الله أرسلهم"، قال الله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] ؛ أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه؛ فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم.

الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.

قوله: " قبول البدع "، أي: أن النفوس تقبلها لا؛ لأنها مشروعة، بل إن الشرائع تردها، وكذلك الفطر السليمة تردها؛ لأن الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له؛ كما قال الله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ؛ فالفطر السليمة لا تقبل تشريعا إلا ممن يملك ذلك.

ص: 373

الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل: فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا، أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.

ــ

الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين:

الأول: محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم.

الثاني: أن أهل العلم والدين أرادوا خيرا، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك، ويؤخذ منه: أن من أراد تقوية دينة ببدعة؛ فإن ضررها أكثر من نفعها.

مثال ذلك: أولئك الذين يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيرا، لكن أرادوا خيرا بهذه البدعة، فصار ضررها أكثر من نفعها؛ لأنها تعطي الإنسان نشاطا غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام.

ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم، وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها؛ فلا تزيد الإنسان إلا ضلالا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«كل بدعة ضلالة» .

ص: 374

فإن قيل: إن للاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أصلا من السنة، وهو أن «النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؛ فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل علي فيه» ، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه مع الخميس ويقول:«إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله؛ فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» . (1)

فالجواب على ذلك من وجوه:

الأول: أن الصوم ليس احتفالا بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هو صوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد؛ فاحتفالهم على العكس من ذلك.

فالمعنى: أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان؛ فهو يوم مبارك حصل فيه هذا الشيء، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم.

الثاني: أنه عمل فرض أن يكون هذا أصلا؛ فإنه يجب أن يقتصر فيه على ما ورد؛ لأن العبادات توقيفية، ولو كان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، إما بقوله، أو فعله، أو إقراره.

الثالث: أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك؛ فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر.

الرابع: أن الاحتفال بمولده على الوجه المعروف بدعة ظاهرة؛ لأنه لم

(1) الترمذي: كتاب الصوم/ باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس، 3/94، وقال:(حديث حسن غريب) .

ص: 375

السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.

ــ

يكن معروفا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.

مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال:

فائدة: كل شيء يتخذ عيدا يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعا؛ فهو من البدع، والدليل على ذلك: أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئا بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.

وليس هذا من باب العادات؛ لأنه يتكرر، ولهذا «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما؛ قال: "إن الله أبدلكما بخير منهما: عيد الأضحى، وعيد الفطر» (1) ، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم.

السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح، وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصلون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده ينمي هذا الأمر الذي هو عليه.

(1) مسند الإمام أحمد (3/103)، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة/ باب صلاة العيدين.

ص: 376

السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.

ــ

السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد، هذه العبارة تقيد من حيث كونه آدميا بقطع النظر على من يمن الله عليه من تزكية النفس؛ فإن الله يقول:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] .

قوله: " جبلة " على وزن فعلة، وهو ما يجبل المرء عليه؛ أي: يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها.

فالإنسان من حيث هو إنسان وصفه الله بوصفين؛ فقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] .

أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه يرتقي عن هذا، قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 4 - 6] ؛ فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدي؛ فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية؛ كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم.

وكذلك أهل العلم؛ كأبي الحسن الأشعري، كان معتزليا، ثم كلابيا، ثم سنيا، وابن القيم كان صوفيا، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فهداه الله على يده حتى كان ربانيا.

ص: 377

الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.

ــ

الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، وقالوا: إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئا فشيئا؛ حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:«كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» .

وقالوا أيضا: (إن المعاصي بريد الكفر، وبريد الشيء ما يوصل إلى الغاية) .

«والمعاصي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم تتراكم على القلب، وتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب؛ صقل قلبه وابيض» (1) ، وإلا فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلما.

وكذلك حذر من محقرات الذنوب، «وضرب لها مثلا بقوم نزلوا أرضا، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا نارا كبيرة، وهكذا المعاصي» (2) ؛ فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيرا الشهوة فهي أشد من الشبهة؛ لأن الشبهة أيسر

(1) مسند الإمام أحمد (2/297) وصححه أحمد شاكر، والترمذي: كتاب التفسير/باب (ويل للمطففين)، 9/69ـ وقال:(حسن صحيح) ـ، والحاكم (2/517) ـ وصححه ووافقه الذهبي ـ.

(2)

مسند الإمام أحمد (5/231) ، وصححه الألباني في (الصحيحة)(1/389) .

ص: 378

التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.

ــ

زوالا على من يسرها الله عليه؛ إذ إن مصدرها الجهل وهو يزول بالتعلم.

أما الشهوة، وهي إرادة الإنسان الباطل؛ فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى؛ لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت البدع غالبها شبهة، ولكن كثيرا منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهوة من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الحق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، وقالوا: هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك؛ فأبو الحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب؛ فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إماما، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إماما؛ فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله - سبحانه - ثم عند خلقه.

والخلاصة: أن البدعة سبب للكفر، ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم: إن المعاصي بريد الكفر؛ لأنه لا مانع من تعدد الأسباب.

التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل؛ لأن الشيطان هو الذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير؛ لأنه يعرف أن هذه البدعة تئول إلى الشرك.

وقوله: " ولو حسن قصد الفاعل "، أي: إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها، ويأثم إن كان عالما أنها بدعة ولو حسن قصده؛ لأنه أقدم على المعصية

ص: 379

كمن يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة، أما لو كان جاهلا فإنه لا يأثم؛ لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) ؛ فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرض، لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، ولهذا «قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية: لك الأجر مرتين» (1) ؛ لحسن قصده، ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لو أراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع؛ لم يكن له أجر؛ لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة؛ فقد «قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: (أصبت السنة» .

فإن قال: إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك.

أجيب: بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور، أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم؛ ولأن هذا لم يكن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون، أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة؛ فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله؛ لأن عمله شر حابط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» .

(1) سنن أبو داود: كتاب الطهارة/باب في المتيمم يجد الماء بعد ما صلى، والحاكم (1/179) ، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، صحيح أبي داود (1/69) .

ص: 380

العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يئول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.

ــ

وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة وغيرها؛ نقول: ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به؛ فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم.

ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغيرها من لا يعرفون عن الإسلام شيئا، فلو ماتوا لا نقول: إنهم مسلمون ونصلي عليهم ونترحم عليهم، مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة؛ فأمرهم إلى الله.

العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه، هذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغلو مجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، وقال:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] ، وقد سبق بيان ذلك.

الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، المضرة الحاصلة: هي أنها توصل إلى عبادتهم.

ومثل ذلك: ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره؛ فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد

ص: 381

الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها. الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.

الرابعة عشرة: وهي أعجب العجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى عتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.

ــ

تؤدي بصاحبها إلى عبادة هذا القبر.

الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها، التماثيل: هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله، والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك.

الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، أي: قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله؛ فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلو عظيم، ونتائجه وخيمة؛ فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لو تدبرت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية.

الرابعة عشرة - وهي أعجب العجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث.

قوله: (وأعجب)، أي: أكثر عجبا وأشد، والعجب نوعان:

ص: 382

الأول: بمعنى الاستحسان، وهو ما إذا تعلق بمحمود؛ كقول عائشة في الحديث:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله» .

الثاني: بمعنى الإنكار، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، قال تعالى:{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] .

وكلام المؤلف هنا من باب الإنكار.

وكلام المؤلف هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث، واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السيئ حسنا، قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]، وقال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] .

قوله: (واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال)، أي: من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله؛ فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه، ثم بدا لي ما لعله المراد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو؛ فلا نهي فيه، والله أعلم.

ص: 383

الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة. السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم» ، فصلوات الله وسلامه عليه، بلغ البلاغ المبين.

ــ

الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، أي: ما أرادوا إلا الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك.

السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك، أي: أرادوا أن تشفع لهم، بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة، وهذا ظن فاسد كما سبق

السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني» . . . الحديث، معنى الإطراء: الغلو في المدح، والمبالغة فيه.

وهذا الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد؛ حتى جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول النصارى: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة.

ومعنى: " بلغ "؛ أي: أوصل وبين.

ص: 384

الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده. العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.

ــ

الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:«هلك المتنطعون» ؛ فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع.

التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، أي: لم تعبد هذه التماثيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل؛ ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوده أمر ضروري للأمة؛ لأنه إذا فقد العلم؛ حل الجهل محله، وإذا حل الجهل؛ فلا تسأل عن حال الناس؛ فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله، ولا كيف يتقربون إليه.

العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء، فهذا من أكبر الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء؛ لم يبق إلا جهال الخلق يفتون بغير علم.

ومن أسباب فقده أيضا: الغفلة والإعراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به.

ثم إن العلم قد يكون موجودا وهو معدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرءون العلم ولا يعلمون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به؛ فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه، بل إن في وجوده ضررا على الأمة؛ لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتا غير عامل بما علم؛ ظنوا أن ما عليه الناس حق.

ص: 385

فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل، وإذا وجد الجهل؛ فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه.

الخلاصة للباب:

بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر، وليس هو السبب الوحيد للكفر.

وأن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة؛ فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم؛ فلا يستوي الصالح والفاسد، بل ينزل كل منزلته، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلو فيه؛ فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق، ولا يسلبه ما يستحق، وهذا هو العدل.

س1: ما الفرق بين التنطع والغلو والاجتهاد؟

الجواب: الغلو مجاوزة الحد.

والتنطع معناه: التشدق بالشيء والتعمق فيه، وهو من أنواع الغلو.

أما الاجتهاد؛ فإنه بذل الجهد لإدراك الحق، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة؛ فقد تؤدي إلى الغلو، فلو أن الإنسان مثلا أراد أن يقوم ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها؛ فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك؛ فإن هذا الغلو، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر، ولكن هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

س2: ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة؟

ص: 386

الجواب: هذا من البدع، وسواء قلنا يصل الثواب أو لا يصل؛ فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع.

وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أو غيرها من القرآن.

والصحيح أيضا أنه ليس بسنة، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت.

ص: 387