الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و
قوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19] .
ــ
قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}
. (ألا) : أداة استفتاح تفيد التنبيه والتوكيد، و (إنما) : أداة حصر.
وقوله: (طائر) مبتدأ، و {عِنْدَ اللَّهِ} خبر، والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى وقومه، ولكنه من الله، فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء -والعياذ بالله- يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع.
قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . فهم في جهل، فلا يعلمون أن هناك إلها مدبرا، وأن ما أصابهم من الله وليس من موسى وقومه.
* الآية الثانية قوله تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} .
أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ}
…
الآيات [يس: 13] .
فقالوا ذلك ردا على قول أهل القرية: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18]، أي: تشاءمنا بكم، وإننا لا نرى أنكم تدلوننا على الخير، بل على الشر وما فيه هلاكنا، فأجابهم الرسل بقولهم:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، أي: مصاحب لكم، فما يحصل لكم، فإنه منكم ومن أعمالكم، فأنتم السبب في ذلك.
ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها؛ لأن الأولى تدل على أن المقدر لهذا الشيء هو الله، والثانية تبين سببه، وهو أنه منهم، فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم؛ لأن
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر» . أخرجاه، وزاد مسلم:«ولا نوء، ولا غول» .
ــ
أعمالهم تستلزمه، كما قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] .
ويستفاد من الآيتين المذكورتين في الباب: أن التطير كان معروفا من قبل العرب وفي غير العرب؛ لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية.
وقوله: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . ينبغي أن تقف على قوله: (ذكرتم) ؛ لأنها جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: أئن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا، فلا تصلها بما بعدها.
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . (بل) هنا للإضراب الإبطالي، أي: ما أصابكم ليس منهم، بل هو من إسرافكم.
وقوله: (مسرفون) . أي: متجاوزون للحد الذي يجب أن تكونوا عليه.
* * *
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) . لا نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي
الواحد والاثنين والثلاثة؛ لأنه نفي للجنس كله، فنفى الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى كلها.
والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضا في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا «أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة» .
فقوله: (لا عدوى) يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر.
قوله: (ولا طيرة) . اسم مصدر تطير؛ لأن المصدر منه تطير، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، أي: الاختيار، أي يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله من الأمر.
واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلاما بمعنى كلمته تكليما، وسلمت عليه سلاما بمعنى سلمت عليه تسليما.
لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر، والطيرة تقدم أنها هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
قوله: (ولا هامة) . الهامة، بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين:
الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أو هي البومة، تزعم العرب أنه إذا
قتل القتيل، صارت عظامه هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه.
التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت، قالوا: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله -بلا شك- عقيدة باطلة.
قوله: (ولا صفر) . قيل: إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولا سيما في النكاح.
وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى آخر، وعلى هذا، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
وقيل: إنه نهي عن النسيئة، وكانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القاتل في شهر المحرم استحلوه، وأخروا الحرمة إلى شهر صفر، وهذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى:{فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] ، وهذا القول ضعيف، ويضعفه أن الحديث في سياق التطير، وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشئوما، أي: لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.
وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفيا للوجود؛ لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله، فما كان منها سببا معلوما، فهو سبب صحيح، وما كان منها سببا موهوما، فهو سبب باطل، ويكون نفيا لتأثيره بنفسه إن كان صحيحا، ولكونه سببا إن كان باطلا.
فقوله: (لا عدوى) : العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم:«لا»
«يورد ممرض على مصح» ، أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة، لئلا تنتقل العدوى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» .
والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه، حتى قيل: إنه الطاعون، فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمرا حتميا، بحيث تكون علة فاعلة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب بنفسها، فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سببا للبلاء، لقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ولا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى؛ لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: «لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله! الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول؟» يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله عز وجل فكذلك إذا انتقل بالعدوى، فقد انتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب الأول ليس سببه معلوما، إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب
معلوم، لكن لو شاء الله تعالى لم يجرب، ولهذا أحيانا تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون.
فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكل عليه، وقد «روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل مجذوم، فأخذ بيده وقال له: (كل) يعني من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم» (1) ، لقوة توكله صلى الله عليه وسلم، فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي.
وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ، فمنهم من قال: إن الناسخ قوله: (لا عدوى)، والمنسوخ قوله: ( «فر من المجذوم» ، و «ولا يورد ممرض على مصح» ، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ؛ لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه؛ لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما؛ لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضا الواقع يشهد أنه لا نسخ.
وقوله: (ولا صفر) . فيه ثلاثة أقوال سبقت، وبيان الراجح منها.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله عز وجل، فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة
(1) أبو داود: كتاب الطب/باب في الطيرة، والترمذي: كتاب الأطعمة/باب في الأكل مع المجذوم، وابن ماجة: كتاب الطب/ باب الجذام، والحاكم (4/139) ، وصححه ووافقه الذهبي
ببدعة، والجهل بالجهل، فهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
أما شهر رمضان، وقولنا: إنه شهر خير، فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم، بناء على أنه من الأشهر الحرم.
ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيرا إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أمام هذه الأشياء؛ لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا، وأن يكون معتمدا على الله عز وجل.
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب، فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقا، فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سببا بل نفاها، فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا.
قوله: (لا نوء) . واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان
وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة.
وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف، فلا مطر.
فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها، فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل.
ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟
ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيرا ما يكون في زمنها الأمطار.
فالنوء لا تأثير له، فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس، فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط.
وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سببا حقيقيا، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: 43]، وقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [الروم: 48] .
فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان
ولهما عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « (لا عدوى، ولا طيرة،»
ــ
عن تعلقه بربه.
فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه سبحانه وتعالى.
نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سببا لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها، فتنبه.
قوله: (ولا غول) . جمع غولة أو غولة، ونحن نسميها باللغة العامية:(الهولة) ؛ لأنها تهول الإنسان.
والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يمينا وشمالا تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لا شك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10] .
وهذا الذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو تأثيرها، وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقا بها، أما إن كان معتمدا على الله غير مبال بها، فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصده.
* * *
قوله في حديث أنس: «لا عدوى، ولا طيرة» . تقدم الكلام على ذلك.
«ويعجبني الفأل) . قالوا: وما الفأل؟ قال: (الكلمة الطيبة) » .
ــ
قوله: «ويعجبني الفأل» . أي: يسرني، والفأل بينه بقوله:(الكلمة الطيبة) . فـ (الكلمة الطيبة) تعجبه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضي قدما لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان؛ لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقداما وإقبالا.
وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء؛ لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سببا لخيرات كثيرة، حتى إنها تدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة.
وهذا الحديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه بين محذورين ومرغوب، فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوبا، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا.
قوله: (عن عقبة بن عامر) . صوابه عن عروة بن عامر، كما ذكره في (التيسير) ، وقد اختلف في نسبه وصحبته.
قوله: (ذكرت الطيرة عند رسول الله) . وهذا الذكر إما ذكر شأنها، أو ذكر أن الناس يفعلونها، والمراد: تحدث الناس بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولأبي داود -بسند صحيح- عن عقبة بن عامر، قال:«ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) » . (1)
ــ
قوله: (أحسنها الفأل) . سبق أن الفأل ليس من الطيرة، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام، فإنه يزيد الإنسان نشاطا وإقداما فيما توجه إليه، فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا، فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتا ونشاطا، فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما.
قوله: (ولا ترد مسلما) . يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته، فليس بمسلم.
قوله: (فإذا رأى أحدكم ما يكره) . فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريد، ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم دواء لذلك وقال: (فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات
…
) إلخ.
قوله: «اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت» . وهذا هو حقيقة التوكل،
(1) أبو داود (كتاب الطب، باب في الطيرة) ، والبيهقي في (السنن)(8/139) .
قال النووي في (رياض الصالحين)(ص 620) : (رواه أبو داود بإسناد صحيح) .
وقوله: (اللهم) . يعني: يا الله، ولهذا بنيت على الضم؛ لأن المنادي علم، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركا بالابتداء باسم الله سبحانه وتعالى، وصارت ميما؛ لأنها تدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله.
قوله: «لا يأتي بالحسنات إلا أنت» . أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب؛ لأن خالق هذه الأسباب هو الله، فإذا وجدت هذه الحسنات بأسباب خلقها الله، صار الموجد حقيقة هو الله.
والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه.
ويشمل ذلك الحسنات الشرعية، كالصلاة والزكاة وغيرها؛ لأنها تسر المؤمن، ويشمل الحسنات الدنيوية، كالمال والولد ونحوها، قال تعالى:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50]، وقال تعالى في آية أخرى:{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120] .
وقوله: (إلا أنت) . فاعل يأتي؛ لأن الاستثناء هنا مفرغ.
قوله: «ولا يدفع السيئات إلا أنت» . السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالا أو مآلا، ولا يدفعها إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وشاهدوا الغرق، دعوا الله مخلصين له الدين.
ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب، فمثلا لو رأى رجلا غريقا، فأنقذه، فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولو شاء الله لم ينقذه، فالسبب من الله.
فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وبمقتضى هذه العقيدة، فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات إلا من الله، ولهذا كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسألون الله الحسنات ويسألون دفع السيئات، قال تعالى عن زكريا:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]، وقال تعالى عن أيوب:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] ، وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضا.
قوله: (ولا حول ولا قوة إلا بك) . في معناها وجهان:
الأول: أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله، فالباء بمعنى في، يعني: إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة؛ لأن غير الله فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة، فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده.
الثاني: أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله، فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها، إذ إننا لا نتحول من حال إلى حال، ولا نقوى على ذلك إلا بالله، فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول والقوة.
فإن صح الحديث، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول:«اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» .
* * *