المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحينيصيرها أوثانا تعبد من دون الله - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٩

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب التوحيد

- ‌ وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه

- ‌باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

- ‌ بيان فضل التوحيد

- ‌ فضل لا إله إلا الله

- ‌باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب

- ‌ التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك

- ‌باب الخوف من الشرك

- ‌مناسبة الباب للبابين قبله:

- ‌(أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)

- ‌«من مات وهو يدعو من دون الله ندا

- ‌«من لقي الله لا يشرك به شيئا

- ‌باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

- ‌قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}

- ‌باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

- ‌باب ما جاء في الرقى والتمائم

- ‌ الرقى والتمائم والتولة شرك»

- ‌ التعلق بغير الله:

- ‌ قطع التميمة من إنسان

- ‌باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

- ‌باب ما جاء في الذبح لغير الله

- ‌باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

- ‌ الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره

- ‌«نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة

- ‌باب من الشرك النذر لغير الله

- ‌ نذر أن يطيع الله

- ‌باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

- ‌قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [

- ‌باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

- ‌ الاستعاذة والاستغاثة بغير الله

- ‌ إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي

- ‌باب الشفاعة

- ‌قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ

- ‌{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

- ‌المشركون ليس لهم حظ من الشفاعة

- ‌ الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله

- ‌مناسبة هذا الباب لما قبله:

- ‌باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد اللهعند قبر رجل صالح؛ فكيف إذا عبده

- ‌ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحينيصيرها أوثانا تعبد من دون الله

- ‌باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

- ‌سبب مجيء المؤلف بهذا الباب

- ‌{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [

- ‌باب ما جاء في السحر

- ‌قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [

- ‌«حد الساحر

- ‌باب بيان شيء من أنواع السحر

- ‌ بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها

- ‌باب ما جاء في الكهان ونحوهم

- ‌باب ما جاء في النشرة

- ‌تعريف النشرة:

- ‌ ما جاء في التطير

- ‌قوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ

- ‌قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}

- ‌«الطيرة شرك

- ‌باب ما جاء في التنجيم

- ‌ تعلم منازل القمر

- ‌«ثلاثة لا يدخلون الجنة:»

الفصل: ‌ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحينيصيرها أوثانا تعبد من دون الله

باب‌

‌ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين

يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

ــ

هذا الباب له صلة بما قبله، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله.

أي: يئول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها.

والغلو: مجاوزة الحد مدحا أو ذما، والمراد هنا مدحا.

والقبور لها حق علينا من وجهين:

1 -

أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام؛ فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك.

2 -

أن لا نغلو فيها فنتجاوز الحد.

وفي (صحيح مسلم) قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» ، وفي رواية:«ولا صورة إلا طمستها» .

والقبر المشرف: هو الذي يتميز عن سائر القبور؛ فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن: إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه.

قوله: (الصالحين) ، يشمل الأنبياء والأولياء، بل ومن دونهم.

ص: 416

روى مالك في (الموطأ) ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

ــ

قوله: (أوثانا) ، جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل؛ فيكون الوثن أعم.

ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثنا، وإن لم يكن على تمثال نصب؛ لأن القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد.

قوله: (تعبد من دون الله)، أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله؛ لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإذا قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول:«أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيره تركته وشركه» .

قوله: في (الموطأ) ، كتاب مشهور من أصح الكتب؛ لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن

ص: 417

الصحابة، وفيه أيضا كلام وبحث للإمام مالك نفسه.

وقد شرحه كثير من أهل العلم، ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية:(التمهيد) لابن عبد البر، وهذا - أعني (التمهيد) - فيه علم كثير.

قوله: (اللهم)، أصلها: يا الله! فحذفت يا النداء لأجل البداءة باسم الله، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع؛ فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله.

قوله: «لا تجعل قبري وثنا يعبد» ، لا: للدعاء؛ لأنها طلب من الله، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها:(قبري)، والثاني:(وثنا) .

وقوله: (يعبد) ، صفة لوثن، وهي صفة كاشفة؛ لأنه الوثن هو الذي يعبد من دون الله.

وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد؛ لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك.

قوله: (اشتد)، أي: عظم.

قوله: (غضب الله)، صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل لا تماثل غضب المخلوق لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.

وهذا تحريف للكلام عن مواضعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلق وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه؛ لأنه لو أتى بذلك لكان ملبسا، وحاشاه أن يكون

ص: 418

ــ

كذلك؛ فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام؛ فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.

وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق، منها:

1 -

غضب المخلوق حقيقة هو: غليان دم القلب، وجمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق؛ فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .

2 -

أن غضب الآدمي يؤثر آثارا غير محمودة؛ فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله؛ فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم، فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله.

فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك؛ فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان؛ لأن الغضب يدل على قدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه؛ فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.

ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] .

فإن معنى آسَفُونَا: أغضبونا؛ فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثرا مترتبا عليه؛ فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.

واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله؛ فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة؛ فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به

ص: 419

ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] .

ــ

الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل.

قوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، أي: جعلوها مساجد؛ إما بالبناء عليها، أو بالصلاة عندها؛ فالصلاة عند القبور من اتخاذها مساجد، والبناء عليها من اتخاذها مساجد.

وهنا نسأل: هل استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم بأن لا يجعل قبره وثنا يعبد، أم اقتضت حكمته غير ذلك؟

الجواب: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له؛ فلم يذكر أن قبره صلى الله عليه وسلم جعل وثنا، بل إنه حمي بثلاثة جدران؛ فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثنا يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثنا.

قال ابن القيم في (النونية) :

فأجاب رب العالمين دعاءه

وأحاطه بثلاثة الجدران

صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثنا، ولكن قد يعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له صلى الله عليه وسلم بدعائه عند قبره؛ فيكون قد اتخذه وثنا، لكن القبر نفسه لم يجعل وثنا.

قوله: (ولابن جرير) ، هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام المشهور في التفسير، توفي سنة 310 هـ.

وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر ومرجع لجميع المفسرين بالأثر، ولا

ص: 420

يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر.

فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض.

وليست جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم؛ علم ذلك.

وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائما يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب.

ومن الناحية الفقهية؛ فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع؛ فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه؛ لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف.

والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره؛ لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم بـ (تفسير الكشاف) للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون؛ لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا.

قوله: (عن سفيان) ، إما سفيان الثوري، أو ابن عيينة، وهذا مبهم،

ص: 421

قال: (كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره) .

ــ

والمبهم يمكن معرفته بمعرفة شيوخه وتلاميذه، وفي الشرح - أعني (تيسير العزيز الحميد) - يقول: الظاهر أنه الثوري.

قوله: (عن مجاهد) ، هو مجاهد بن جبر المكي، إمام المفسرين من التابعين، ذكر عنه أنه قال:(عرضت المصحف على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته؛ فما تجاوزت آية إلى وقفت عندها أسأله عن تفسيرها) .

قوله: (أفرأيتم)، الهمزة: للاستفهام، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى. . . إلخ.

لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ؛ قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ؛ أي: ما نسبة هذه الأصنام للآيات الكبيرة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.

قوله: اللَّاتِ، (كان يلت لهم. . .) إلخ، على قراءة التشديد: من لت يلت؛ فهو لات.

أما على قراءة التخفيف؛ فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام؛ أي: حذف منها التضعيف تخفيفا.

وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله.

وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات؛ عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلها، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة؛ فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذا على قراءة التخفيف أظهر من التشديد؛ فالتخفيف يرجح أنه من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق.

ص: 422

وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباس:(كان يلت السويق للحاج) .

ــ

وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه؛ فصار الغلو في القبور يصيرها أوثانا تعبد من دون الله.

وفي هذا التحذير من الغلو في القبور، ولهذا نهي عن تخصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفا من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله، «وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر إذا بعث بعثا: بأن لا يدعوا قبرا مشرفا إلا سووه» ؛ لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور؛ فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا ميزة لواحد منها عن البقية.

قوله: (السويق) ، هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل.

وقوله: (كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره)، يعني: ثم عبدوه وجعلوه إلها مع الله.

قوله: (وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج) ، والغريب أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله، ويلتون لهم السويق، وكان العباس يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذا يحليه زبيبا أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس بالعكس يستغلون الحجاج

ص: 423

وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» رواه أهل السنن. (1)

ــ

غاية الاستغلال - والعياذ بالله - حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالا بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم؛ لأن الله تعالى يقول:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ؛ فكيف بمن يفعل الإلحاد؟ !

قوله: (لعن)، اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي: دعا عليهم باللعنة.

قوله: (زائرات القبور)، زائرات: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر، وهي أنواع:

منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى.

ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك.

ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك.

وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة:«لعن»

(1) مسند الإمام أحمد (1/229)، وسنن أبو داود: كتاب الجنائز/باب في زيارة النساء القبور، 4/95، والترمزي: الصلاة/باب كراهة أن يتخذ على القبر مسجداً، 320 - وقال:(حديث حسن) ـ.

ص: 424

«رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور» (1) ؛ بتشديد الواو، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة أي كثرة الزيارة.

قوله: (والمتخذين عليها المساجد)، هذا الشاهد من حديث؛ أي: الذين يضعون عليها المساجد، وقد سبق أن اتخاذ القبور مساجد، صورتان:

1 -

أن يتخذها مصلى يصلى عندها.

2 -

بناء المساجد عليها.

قوله: (والسرج) جمع سراج، توقد عليها السرج ليلا ونهارا تعظيما وغلوا فيها.

وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، على أنه من كبائر الذنوب؛ لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعلة.

المناسبة للباب:

إن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها؛ فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.

مسألة: ما هي الصلة بين الجملة الأولى: (زائرات القبور) ، والجملة الثانية (المتخذين عليها المساجد والسرج) ؟

الصلة بينهما ظاهرة: هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفا على صاحب القبر؛ فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد والسرج.

(1) مسند الإمام أحمد (2/337)، والترمذي: الجنائز/باب ما جاء في كراهة زيارة القبور للنساء، 4/12 ـ وقال:(حسن صحيح) ـ.

ص: 425

وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها؟

الجواب: أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها، كما لو كانت المقبرة واسعة وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه؛ فلا حاجة إلى إسراجه، فلا يسرج، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله؛ فقد يقال بجوازه؛ لأنها لا تسرج إلا بالليل؛ فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر، بل اتخذ الإسراج للحاجة.

ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقا للأسباب الآتية:

1 -

أنه ليس هناك ضرورة.

2 -

أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك؛ فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها ويتبين لهم الأمر، ويمكنهم أن يحملوا سراجا معهم.

3 -

أنه إذا فتح هذا الباب؛ فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت؛ فمن يتولى قفل هذه الإضاءة؟

الجواب: قد تترك، ثم يبقى كأنه متخذ عليها السرج؛ فالذي نرى أنه يمنع نهائيا.

أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه؛ فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد؛ فهذا نرجو أن لا يكون به بأس.

والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعادا عظيما، ولا يقدر للزمن الذين هو فيه الآن، بل يقدر للأزمان البعيدة؛ فالمسألة ليست هينة.

ص: 426

وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، وأنها من كبائر الذنوب، والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، بل إنها من كبائر الذنوب؛ لهذا الحديث.

القول الثاني: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه؛ لحديث أم عطية:«نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا» .

القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور؛ «لحديث المرأة: التي مر النبي صلى الله عليه وسلم بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: (اتقي الله واصبري) . فقالت له: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، فقيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت إليه تعتذر؛ فلم يقبل عذرها، وقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى» ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر.

ولما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عائشة الطويل، وفيه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لهم ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج صلى الله عليه وسلم مختفيا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم»

ص: 427

«أخبرها الخبر؛ فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: (قولي: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين» . . . .) إلخ.

قالوا: فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز.

ورأيت قولا رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة» (1) ، وهذا عام للرجال والنساء.

«ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبد الله بن أبي مليكة: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك» . (2)

وهذا دليل على أنه منسوخ.

والصحيح القول الأول، ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح؛ فمن ذلك:

أولا: دعوى النسخ غير صحيحة؛ لأنها لا تقبل إلا بشرطين:

1 -

تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمعتذر لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها» للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل فيه

(1) مسند الإمام أحمد (1/145)، ومسلم بلفظ:(نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي.) ، كتاب الجنائز / باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه.

(2)

الترمذي: كتاب الجنائز / باب زيارة النساء للقبور، وذكره الهيثمي في (المجمع)، وقال: رواه الطبراني في (الكبير) ورجاله رجال الصحيح، والبغوي في (شرح السنة) .

ص: 428

النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول - وهو الصحيح - فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول: قد خص النبي صلى الله عليه وسلم النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجل فقط؛ لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات، وأيضا مما يبطل النسخ قوله:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ، ومن المعلوم أن قوله:«والمتخذين عليها المساجد والسرج» لا أحد يدعي أنه منسوخ، والحديث واحد؛ فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكما غير منسوخ.

2 -

العلم بالتأريخ، وهنا لم نعلم التأريخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل:

كنت لعنت من زار القبور، بل قال: كنت نهيتكم، والنهي دون اللعن.

وأيضا قوله: (كنت نهيتكم) خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء؛ فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذا؛ فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.

وثانيا: وأما الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة؛ أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعا، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئا عظيما لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند القبر، ولهذا أمرها صلى الله عليه وسلم أن تصبر؛ لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها

ص: 429

من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة؛ فالحديث ليس صريحا بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحا؛ فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.

وأما «حديث عائشة؛ فإنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا أقول؟ فقال: (قولي: السلام عليكم» ؛ فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل؛ فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة؛ إذ من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحا؛ فلا يعارض الصريح.

وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما؛ فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقا؛ لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور؛ لكنا ننظر بماذا ستجيبه.

فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاما، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم؛ فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم، على أنه روي عنها؛ أنها قالت:(لو شهدتك ما زرتك) ، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له؛ لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها، لكننا نبقى على الراوية الأولى الصحيحة؛ إذ ليس فيها دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسخه، وإذا فهمت هي؛ فلا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 430

فيه مسائل:

الأولى: تفسير الأوثان. الثانية: تفسير العبادة.

ــ

إشكال وجوابه:

في قوله: (زوارات القبور) ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة؛ لأن (زوارات) صيغة مبالغة؟

الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك؛ فإننا أضعنا دلالة المطلق (زائرات) .

والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لا على كثرة الفعل؛ فـ (زوارات) يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرا، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] ، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف؛ إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضا قراءة ( {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ} [الزمر: 73] ؛ فهي مثلها.

فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر، وأنها من كبائر الذنوب.

وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(343 \ 24) .

فيه مسائل:

الأولى: تفسير الأوثان، وهي: كل ما عبد من دون الله، سواء كان صنما أو قبرا أو غيره.

الثانية: تفسير العبادة، وهي: التذلل والخضوع للمعبود خوفا ورجاء ومحبة وتعظيما؛ لقوله: «لا تجعل قبري وثنا يعبد» .

ص: 431

الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله. السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان. السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.

ــ

الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه، وذلك في قوله:«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» .

الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذلك في قوله:«اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله، تؤخذ من قوله:(اشتد غضب الله) .

وفيه: إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها.

وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: «إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولا بعده»

السادسة - وهي من أهمها -: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان، وذلك في قوله:(فمات، فعكفوا على قبره) .

السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح، تؤخذ من قوله (كان يلت لهم السويق) ؛ أي للحجاج؛ لأنه معظم عندهم، والغالب لا يكون معظما إلا

ص: 432

الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. التاسعة: لعنه زوارات القبور. العاشرة: لعنه من أسرجها

ــ

صاحب دين.

الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية، وهو أنه كان يلت السويق.

التاسعة: لعنه زوارات القبور، أي: النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر رحمة الله لفظ:(زوارات القبور) مراعاة للفظ الآخر.

العاشرة: لعنه من أسرجها، وذلك في قوله:(والمتخذين عليها المساجد والسرج) .

وهنا مسألة مهمة لم تذكر، وهي: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا كما في قبر اللات، وهذه من أهم الوسائل، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات، فإذا قيل بذلك؛ فله وجه.

مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلي فيها، فالقبر قريب منها، فتقف وتسلم، ولا مانع فيه.

والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها إن المرأة يجوز لها قصد الزيارة؛ فيقع الإنسان في محذور، وتسليم المرء على النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه حيث كان.

ص: 433

باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد

وسده كل طريق يوصل إلى الشرك

ــ

قوله: (المصطفى)، أصلها: المصتفى، من الصفوة، وهو خيار الشيء؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل، والرسل هم المصطفون، المراد به: محمد صلى الله عليه وسلم، والاصطفاء على درجات أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل، ثم اصطفاء الرسل، ثم اصطفاء الأنبياء، ثم اصطفاء الصديقين، ثم اصطفاء الشهداء، ثم اصطفاء الصالحين.

قوله: (حماية) ، من حمى الشيء، إذا جعل له مانعا يمنع من يقرب حوله، ومنه حماية الأرض عن الرعي فيها، ونحو ذلك.

قوله: (جناب) ، بمعنى جانب، والتوحيد: تفعيل من الوحدة، وهو إفراد الله تعالى بما يجب له من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.

قوله: (وسده كل طريق)، أي: مع الحماية لم يدع الأبواب مفتوحة يلج إليها من شاء، ولكنه سد كل طريق يوصل إلى الشرك؛ لأن الشرك أعظم الذنوب، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك الأصغر لا يغفره الله؛ لعموم قوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ، وعلى هذا؛ فجميع الذنوب دونه لقوله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ؛ فيشمل كبائر الذنوب وصغائرها؛ فالشرك ليس بالأمر الهين الذي

ص: 434

وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] .

ــ

يتهاون به، فالشرك يفسد القلب والقصد، وإذا فسد العمل؛ إذ العمل مبناه على القصد، قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15، 16]، وقال صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات» .

إذا؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد؛ لأن من سار على الدرب وصل، والشيطان يزين للإنسان أعمال السوء شيئا فشيئا حتى يصل إلى الغاية.

قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد، وهي مؤكدة لجميع مدخولها بأنه رسول، وأنه من أنفسهم، وأنه عزيز عليه ما يشق علينا، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم؛ فالقسم منصب على كل هذه الأوصاف الأربعة.

والخطاب في قوله: جَاءَكُمْ قيل للعرب؛ لقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم من العرب، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] .

ص: 435

ويحتمل أن يكون عاما للأمة كلها، ويكون المراد بالنفس هنا الجنس؛ أي: ليس من الجن ولا الملائكة، بل هو من جنسكم؛ كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] .

وعلى الاحتمال الأول فيه إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الناس من العرب والعجم.

ولكن يقال في الجواب: إنه خوطب العرب بهذا؛ لأن منة الله عليهم به أعظم من غيرهم، حيث كان منهم، وفي هذا تشريف لهم بلا ريب.

والاحتمال الثاني أولي؛ للعموم، ولقوله:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] ، ولما كان المراد العرب، قال: مِنْهُمْ لا (من أنفسكم)، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وعلى هذا، فإذا جاءت (من أنفسهم) ؛ فالمراد: عموم الأمة، وإذا جاءت (منهم) ؛ فالمراد العرب؛ فعلى الاحتمال الثاني لا إشكال في الآية.

قوله (رسول)، أي: من الله؛ كما قال الله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} ، وفعول هنا بمعنى مفعل؛ أي: مرسل.

و (من أنفسكم) ، سبق الكلام فيها.

قوله: (عزيز)، أي: صعب؛ لأن هذه المادة العين والزاي في اللغة العربية تدل على الصلابة، ومنه:(أرض عزاز) ؛ أي: صلبة قوية، والمعنى: أنه يصعب عليه ما يشق عليكم، ولهذا بعث بالحنيفية السمحة، وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وهذا من التيسير الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 436

قوله: مَا عَنِتُّمْ، (ما) : مصدرية، وليست موصولة؛ أي: عنتكم؛ أي: مشقتكم؛ لأن العنت بمعنى المشقة، قال تعالى:{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] .

والفعل بعد: (ما) يئول إلى مصدر مرفوع، لكن بماذا هو مرفوع؟

يختلف باختلاف (عزيز) إذا قلنا: بأن (عزيز) صفة لرسول؛ صار المصدر المئول فاعلا به؛ أي: عزيز عليه عنتكم، وإن قلنا: عزيز خبر مقدم، صار عنتكم مبتدأ، والجملة حينئذ تكون كلها صفة لرسول، أو يقال: عزيز مبتدأ، وعنتكم فاعل سد مسد الخبر على رأي الكوفيين الذي أشار ابن مالك في قوله: وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد.

قوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ، الحرص: بذل الجهد لإدراك أمر مقصود، والمعنى: باذل غاية جهده في مصلحتكم؛ فهو جامع بين أمرين: دفع المكروه الذي أفاده قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ، وحصول المحبوب الذي أفاده قوله:{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم جامعا بين هذين الوصفين، وهذا من نعمة الله علينا وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون على هذا الخلق العظيم الممثل بقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .

قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ، بِالْمُؤْمِنِينَ: جار ومجرور خبر مقدم، و (رءوف) : مبتدأ مؤخر، و (رحيم) : مبتدأ ثان، وتقديم الخبر يفيد الحصر.

والرأفة: أشد الرحمة وأرقها.

والرحمة: رقة بالقلب تتضمن الحنو على المرحوم والعطف عليه بجلب الخير له ودفع الضرر عنه.

وقولنا: رقة في القلب هذا باعتبار المخلوق، أما بالنسبة لله تعالى؛ فلا

ص: 437

نفسرها بهذا التفسير؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ورحمة الله أعظم من رحمة المخلوق لا تدانيها رحمة المخلوق ولا تماثلها؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:«إن لله مائة رحمة وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلق منذ خلقوا إلى يوم القيامة، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» .

فمن يحصي هذه الرحمة التي في الخلائق منذ خلقوا إلى يوم القيامة كمية؟ ومن يستطيع أن يقدرها كيفية؟ لا أحد يستطيع إلا الله عز وجل الذي خلقها؟

فهذه رحمة واحدة، فإذا كان يوم القيامة رحم الخلق بتسع وتسعين رحمة بالإضافة إلى الرحمة الأولى، وهل هذه الرحمة تدانيها رحمة المخلوق؟

الجواب: أبدا، لا تدانيها، والقدر المشترك بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق أنها صفة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ورحمة الخالق غير مخلوقة؛ لأنها من صفاته، ورحمة المخلوق مخلوقة؛ لأنها من صفاته؛ فصفات الخالق لا يمكن أن تنفصل عنه إلى مخلوق؛ لأننا لو قلنا بذلك لقلنا بحلول صفات الخالق بالمخلوق، وهذا أمر لا يمكن؛ لأن صفات الخالق يتصف بها وحده، وصفات المخلوق يتصف بها وحده، لكن صفات الخالق لها آثار تظهر في المخلوق، وهذه الآثار هي الرحمة التي نتراحم بها.

وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ؛ أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم في غير المؤمنين ليس رءوفا ولا رحيما، بل هو شديد عليهم كما وصفه الله هو وأصحابه بذلك

ص: 438

في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .

قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، أي: أعرضوا مع هذا البيان الواضح بوصف الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن التولي مع هذا البيان مكروه، ولهذا لم يخاطبوا به؛ فلم يقل: فإن توليتم.

والبلاغيون يسمونه التفاتا، ولو قيل: إنه انتقال؛ لكان أحسن.

قوله: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل ذلك معتمدا على الله، متوكلا عليه، معتصما به: حسبي الله، وارتباط الجواب بالشرط واضح، أي: فإن أعرضوا؛ فلا يهمنك إعراضهم، بل قل بلسانك وقلبك: حسبي الله، و (حسبي) خبر مقدم، و (لفظ الجلالة) مبتدأ مؤخر، ويجور العكس بأن نجعل:(حسبي) مبتدأ و (لفظ الجلالة) خبر، لكن لما كانت حسب نكرة لا تتعرف بالإضافة؛ كان الأولى أن نجعلها هي الخبر.

قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: لا معبود حق حقيق بالعبادة سوى الله عز وجل.

قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ، عليه: جار ومجرور متعلق بتوكلت، وقدم للحصر.

والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به، وفعل الأسباب النافعة.

وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} مع قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فيها جمع بين توحيدي الربوبية والعبودية، والله تعالى يجمع بين هذين الأمرين كثيرا، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وقوله:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] .

ص: 439

قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، الضمير يعود على الله - سبحانه.

و {رَبُّ الْعَرْشِ} ؛ أي: خالقه، وإضافة الربوبية إلى العرش - وإن كانت ربوبية الله - عامة تشريفا للعرش وتعظيما له.

ومناسبة التوكل لقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ؛ لأن من كان فوق كل شيء ولا شيء فوقه؛ فإنه لا أحد يغلبه، فهو جدير بأن يتوكل عليه وحده.

وقوله: (العرش) فسره بعض الناس بالكرسي، ثم فسروا الكرسي بالعلم، وحينئذ لا يكون هناك كرسي ولا عرش، وهذا التفسير باطل، والصحيح أن العرش غير الكرسي، وأن الكرسي غير العلم، ولا يصح تفسيره بالعلم، بل الكرسي من مخلوقات الله العظيمة الذي وسع السماوات والأرض، والعرش أعظم وأعظم، ولهذا وصفه بأنه عظيم بقوله تعالى:{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]، وبأنه مجيد بقوله:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] على قراءة كسر الدال، وبأنه كريم في قوله:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] ؛ لأنه أعظم المخلوقات التي بلغنا علمها وأعلاها؛ لأن الله استوى عليه.

وفيه دليل على أن كلمة العظيم يوصف بها المخلوق؛ لأن العرض مخلوق، وكذلك الرحيم، والرءوف، والحكيم.

ولا يلزم من اتفاق الاسمين، فإذا كان الإنسان رءوفا؛ فلا يلزم أن يكون مثل الخالق، فلا تقل: إذا كان الإنسان سميعا بصيرا عليما لزم أن يكون مثل الخالق؛ لأن الله سميع بصير عليم، كما أن وجود الباري سبحانه لا يستلزم أن تكون ذاته كذوات الخلق؛ فإن أسماءه كذلك لا يستلزم أن تكون كأسماء الخلق، وهناك فرق عظيم بين هذا وهذا.

ص: 440

عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» .

ــ

وقوله: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} ؛ أي: كافيني، وهكذا يجب أن يعلن المؤمن اعتماده على ربه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يتخلى الناس عنه؛ لأنه قال:{فَإِنْ تَوَلَّوْا} .

وهذه الكلمة - كلمة الحسب - تقال في الشدائد، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيث قيل لهم:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] .

(تنبيه) :

في سياقنا للآية الثانية فوائد نسأل الله أن ينفع بها.

قوله: (لا تجعلوا) ، الجملة هنا نهي؛ فلا ناهية، والفعل مجزوم وعلامة جزمة حذف النون، والواو فاعل.

قوله: (بيوتكم) ، جمع بيت، وهو مقر الإنسان وسكنه، سواء كان من طين أو حجارة أو خيمة أو غير ذلك، وغالب ما يراد به الطين والحجارة.

قوله: (قبورا) ، مفعول ثان لتجعلوا، وهذه الجملة اختلف في معناها؛ فمنهم من قال: لا تجعلوها قبورا؛ أي: لا تدفنوا فيها، وهذا لا شك أنه ظاهر اللفظ، ولكن أورد على ذلك دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته.

وأجيب عنه بأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم دفن في بيته لسببين:

ص: 441

1 -

ما روي عن أبي بكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي يموت إلا دفن حيث قبض» ، وهذا ضعفه بعض العلماء.

2 -

ما روته عائشة رضي الله عنهما: «أنه خشي أن يتخذ مسجدا» .

وقال بعض العلماء: المراد بـ «لا تجعلوا بيوتكم قبورا» ؛ أي: لا تجعلوها مثل القبور، أي: المقبرة لا تصلون فيها، وذلك لأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها، وأيدوا هذا التفسير بأنه سبقها جملة في بعض الطرق:«اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبروا» ، وهذا يدل على أن المراد: لا تدعوا الصلاة فيها.

وكلا المعنيين صحيح؛ فلا يجوز أن يدفن الإنسان في بيته، بل يدفن مع المسلمين؛ لأن هذه هي العادة المتبعة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، ولأنه إذا دفن في بيته؛ فإنه ربما يكون وسيلة إلى الشرك، فربما يعظم هذا المكان، ولأنه يحرم من دعوات المسلمين الذين يدعون بالمغفرة لأموات المسلمين عند زيارتهم للمقابر، ولأنه يضيق على الورثة من بعده فيسأمون منه، وربما يستوحشون منه، وإذا باعوه لا يساوي إلا قليلا، ولأنه قد يحدث عنده من الصخب واللعب واللغو والأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة» .

وأما أن المعنى: لا تجعلوها قبورا؛ أي: مثل القبور في عدم الصلاة فيها؛

ص: 442

فهو دليل على أنه ينبغي إن لم نقل: يجب أن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ولا يخليه من الصلاة.

وفيه أيضا: أنه من المتقرر عندهم أن المقبرة لا يصلى فيها.

إذا فيكون هذا النهي عن ترك الصلاة في البيوت لئلا تشبه المقابر؛ فيكون دليل واضح على أن المقابر ليست محلا للصلاة، وهذا هو الشاهد من الحديث للباب؛ لأن اتخاذ المقابر مساجد سبب قريب جدا للشرك.

واتخاذها مساجد سبق أن له مرتبتين:

الأولي: أن يبني عليها مسجدا.

الثانية: أن يتخذها مصلى يقصدها ليصلي عندها.

والحديث يدل على أن الأفضل: أن المرء يجعل من صلاته في بيته وذلك جميع النوافل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة» ؛ إلا ما ورد الشرع أن يفعل في المسجد، مثل: صلاة الكسوف، وقيام الليل في رمضان، حتى ولو كنت في المدينة النبوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو في المدينة، وتكون المضاعفة بالنسبة للفرائض أو النوافل التي تسن لها الجماعة.

قوله: (عيدا) ، اسم لما يعتاد فعله، أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعاما ودعا الناس؛ فهذا يسمي عيدا لأنه جعله يعود ويتكرر.

وكذلك من العيد: أن تعتاد شيئا فتتردد إليه، مثل ما يفعل بعض الجهلة

ص: 443

في شهر رجب وهو ما يسمى بالزيارة الرجبية، حيث يذهبون من مكة إلى المدينة، ويزورون كما زعموا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أقبلوا على المدينة تسمع لهم صياحا، وكانوا سابقا يذهبون من مكة إلى المدينة على الحمير خاصة، ولما جاءت السيارات صاروا يذهبون على السيارات.

وأيهما المراد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم: الأول؛ أي العمل الذي يتكرر بتكرر العام، أو التردد إلى المكان؟

الظاهر الثاني، أي: لا تترددوا على قبري وتعتادوا ذلك، سواء قيدوه بالسنة أو بالشهر أو بالأسبوع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وإنما يزار لسبب، كما لو قدم الإنسان من سفر، فذهب إلى قبره فزاره، أو زاره ليتذكر الآخرة كغيره من القبور.

وما يفعله بعض الناس في المدينة كلما صلى الفجر ذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل السلام عليه، فيعتاد هذا كل فجر، يظنون أن هذا مثل زيارته في حياته؛ فهذا من الجهل، وما علموا أنهم إذا سلموا عليه في أي مكان؛ فإن تسليمهم يبلغه.

قوله: (وصلوا علي)، هذا أمر؛ أي: قولوا: اللهم صل على محمد، وقد أمر الله بذلك في قوله:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] .

وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم معروف، ومنه أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا.

ص: 444

والصلاة من الله على رسوله ليس معناها كما قال بعض أهل العلم: إن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء.

فهذا ليس بصحيح، بل إن الصلاة على المرء ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية وتبعه على ذلك المحققون من أهل العلم.

ويدل على بطلان القول الأول قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ؛ فعطف الرحمة على الصلوات، والأصل في العطف المغايرة، لأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا اجمع العلماء على أنه يجوز أن تقول: فلان رحمه الله، واختلفوا: هل يجوز أن تقول: فلان صلى الله عليه؟

فمن صلى على محمد صلى الله عليه وسلم مرة أثنى الله عليه في الملأ الأعلى عشر مرات، وهذه نعمة كبيرة.

قوله: «فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» ، حيث: ظرف مبني على الضم في محل نصب، ويقال فيها: حيث، وحوث، وحاث، لكنها قليلة.

كيف تبلغه الصلاة عليه؟

الجواب: نقول: إذا جاء مثل هذا النص وهو من أمور الغيب؛ فالواجب أن يقال: الكيف مجهول لا نعلم بأي وسيلة تبلغه، لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أن لله ملائكة سياحين يسيحون في الأرض يبلغون النبي صلى الله عليه وسلم سلام أمته عليه» (1) ، فإن صح؛ فهذه هي الكيفية.

(1) النسائي: كتاب السهو / باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن القيم في (جلاء الأفهام) (ص23) :(وهذا إسناد صحيح) .

ص: 445

رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات (1) .

ــ

قوله: (رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات) ، هذا التعبير من الناحية الاصطلاحية، ظاهره أن بينهما اختلافا، ولكننا نعرف أن الحسن: هو أن يكون الراوي خفيف الضبط؛ فمعناه أن فيه نوعا من الثقة، فيجمع بين كلام المؤلف رحمه الله وبين ما ذكره عن رواية أبي داود بإسناد حسن: أن المراد بالثقة ليس غاية الثقة؛ لأنه لو بلغ إلى حد الثقة الغاية لكان صحيحا؛ لأن ثقة الراوي تعود على تحقيق الوصفين فيه، وهما: العدالة والضبط، فإذا خف الضبط خفت الثقة، كما إذا خفت العدالة أيضا تخف الثقة فيه.

فيجمع بينهما على أن المراد: مطلق الثقة، ولكنه لا شك فيما أرى أنه إذا أعقب قوله:(حسن) بقوله: (رواته ثقات) أنه أعلى مما لو اقتصر على لفظ: (حسن) .

ومثل هذا ما يعبر به ابن حجر في (تقريب التهذيب) بقوله: (صدوق يهم)، وأحيانا يقول:(صدوق) ، وصدوق أقوى؛ فيكون توثيق الرجل الموصوف بصدوق أشد من توثيق الرجل الذي يوصف بأنه يهم.

لا يقول قائل: إن كلمة يهم لا تزيده ضعفا؛ لأنه ما من إنسان إلا ويهم.

فنقول: هذا لا يصح؛ لأن قولهم: (يهم) لا يعنون به الوهم الذي لا

(1) مسند الإمام أحمد (2/367)، وسنن أبي داود: كتاب المناسك / باب زيارة القبور، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) : إسناده حسن،وقال النووي (إسناده صحيح) .

ص: 446

وعن علي بن الحسين رضي الله عنه؛ أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال:

ــ

يخلو منه أحد، ولولا أن هناك غلبة في أوهامه ما وصفوه بها.

قوله: (وعن علي بن الحسين) ، هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يسمى بزين العابدين، من أفضل أهل البيت علما وزهدا وفقها.

والحسين معروف: ابن فاطمة رضي الله عنها، وأبوه: علي رضي الله عنه.

قوله: (يجيء إلى فرجة) ، هذا الرجل لا شك أنه لم يتكرر مجيئه إلى هذه الفرجة إلا لاعتقاده أن فيها فضلا ومزية، وكونه يظن أن الدعاء عند القبر له مزية فتح باب ووسيلة إلى الشرك، بل جميع العبادات إذا كانت عند القبر؛ فلا يجوز أن يعتقد أن لها مزية، سواء كانت صلاة أو دعاء أو قراءة، ولهذا نقول: تكره القراءة عند القبر إذا كان الإنسان يعتقد أن القراءة عند القبر أفضل.

قوله: (فنهاه)، أي: طلب منه الكف.

قوله: (ألا أحدثكم حديثا) ، قال أحدثكم والرجل واحد؛ لأن الظاهر أنه كان عند أصحابه يحدثهم، فجاء هذا الرجل إلى الفرجة.

و (ألا) : أداة عرض؛ أي: أعرض عليكم أن أحدثكم.

وفائدتها: تنبيه المخاطب إلى ما يريد أن يحدثه به.

قوله: (عن أبي عن جدي)، أبوه: الحسن، وجده: علي بن أبي طالب.

ص: 447

«لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم» . رواه في "المختارة". (1)

ــ

قوله: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، السند متصل وفيه عنعنة لكنها لا تضر؛ لأنها من غير مدلس، فتحمل على السماع.

قوله: «لا تتخذوا قبري عيدا» ، يقال فيه كما في الحديث السابق: أنه نهى أن تتخذ قبره عيدا يعتاد ويتكرر إليه؛ لأنه وسيلة إلى الشرك.

قوله: (ولا بيوتكم قبورا) ، سبق معناه.

قوله: «وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم» ، اللفظ هكذا، وأشك في صحته؛ لأن قوله:(صلوا علي) يقتضي أن يقال: فإن صلاتكم تبلغني؛ إلا أن يقال هذا من باب الطي والنشر.

والمعنى: صلوا علي وسلموا؛ فإن تسليمكم وصلاتكم تبلغني، وكأنه ذكر الفعلين والعلتين، لكن حذف من الأولى ما دلت عليه الثانية، ومن الثانية ما دلت عليه الأولى.

وقوله: «وصلوا علي» ، سبق معناها، المراد: صلوا علي في أي مكان كنتم، ولا حاجة إلى أن تأتوا إلى القبر وتسلموا علي وتصلوا علي عنده.

(1) البخاري في (التاريخ الكبير) ، أبو يعلى؛ كما في (مجمع الزوائد) .

وقال الهيثمي: (وفيه جعفر بن إبراهيم الجعفري، ذكره أبو حاتم ولم يذكر فيه جرحا، وبقية رجاله ثقات) .

وفيه أيضا علي بن عمر بن الحسين، مستور؛ كما في (التقريب) .

ورواه أيضا: الضياء في (المختارة) ؛ كما في (اقتضاء الصراط المستقيم)(ص322) .

ص: 448

فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية براءة. الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.

ــ

قوله: (يبلغني) ، تقدم كيف يبلغه صلى الله عليه وسلم.

قوله: (رواه في المختارة) ، الفاعل مؤلف المختارة، والمختارة: اسم الكتاب؛ أي: الأحاديث المختارة.

والمؤلف هو عبد الغني المقدسي، من الحنابلة.

وما أقل الحديث في الحنابلة، يعني المحدثين، وهذا من أغرب ما يكون، يعني أصحاب الإمام أحمد أقل الناس تحديثا بالنسبة للشافعية.

فالحنابلة غلب عليهم رحمهم الله الفقه مع الحديث؛ فصاروا محدثين وفقهاء، ولكنهم رحمهم الله بشر، فإذا أخذ من هذا العلم صار ذلك زحاما للعلم الآخر، أما الأحناف؛ فإنهم أخذوا بالفقه، لكن قلت بضاعتهم في الحديث، ولهذا يسمون أصحاب الرأي (يعني: العقل والقياس) ؛ لقلة الحديث عندهم، والشافعية أكثر الناس عناية بالحديث والتفسير، والمالكية كذلك، ثم الحنابلة وسط، وأقلهم في ذلك الأحناف مع أن لهم كتبا في الحديث.

فيه مسائل:

الأولي: تفسير آية براءة، وسبق ذلك في أول الباب.

الثانية: إبعاده صلى الله عليه وسلم أمته عن هذا الحمى غاية البعد، تؤخذ من قوله:«لا»

ص: 449

الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته. الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص مع أن زيارته من أفضل الأعمال. الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة. السادسة: حثه على النافلة في البيت. السابعة: أنه مقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.

ــ

«تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا» .

الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته، وهذا مذكور في آية براءة

الرابعة:نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص،تؤخذ من قوله:«ولا تجعلوا قبري عيدا» ؛ فقوله: (عيدا) هذا هو الوجه المخصوص.

وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال من جنسها؛ فزيارة فيها سلام عليه، وحقه صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره.

وأما من حيث التذكير بالآخرة؛ فلا فرق بين قبره وقبر غيره.

الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة، تؤخذ من قوله:«لا تجعلوا قبري عيدا» ، لكنه لا يلزم منه الإكثار؛ لأنه قد لا يأتي إلا بعد سنة، ويكون قد اتخذه عيدا؛ فإن فيه نوعا من الإكثار.

السادسة: حثه على النافلة في البيت، تؤخذ من قوله:«ولا تجعلوا بيوتكم قبورا» ، سبق أن فيها معنيين:

المعنى الأول: أن لا يقبر في البيت، وهذا ظاهر الجملة.

الثاني: الذي هو من لازم المعنى أن لا تترك الصلاة فيها.

السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلي في المقبرة، تؤخذ من قوله: " «لا»

ص: 450

الثامنة: تعليل ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد؛ فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب. التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.

ــ

«تجعلوا بيوتكم قبورا» ؛ لأن المعنى: لا تجعلوها قبورا، أي: لا تتركوا الصلاة فيها على أحد الوجهين؛ فكأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها.

الثامنة: تعليل ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد؛ فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب، أي: كونه نهى صلى الله عليه وسلم أن يجعل قبره عيدا، لعلة في ذلك: أن الصلاة تبلغه حيث كان الإنسان فلا حاجة إلى أن يأتي إلى قبره، ولهذا نسلم ونصلي عليه في أي مكان؛ فيبلغه السلام والصلاة.

ولهذا قال علي بن الحسين: (ما أنت ومن في الأندلس إلا سواء) .

التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه، أي: فقط فكل من صلى عليه أو سلم عرضت عليه صلاته وتسليمه، ويؤخذ من قوله:«فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم» .

ص: 451