الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا على الواحد قليل أيضا، فعلم أن المراد بالسبق من الآية عرفى أو إضافى شامل للجماعة الكثيرة لا حقيقي بدليل أن الآية الأخرى {السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} والقرآن يفسر بعضه بعضا. وأيضا ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن أول من آمن حقيقة خديجة - رضي الله تعالى عنه -، (1) فلو كان مجرد السبق بالإيمان موجبا لصحة الإمامة لزم أن تكون سيدتنا المذكورة حرية بالإمامة، وهو باطل بالإجماع.
وإن قيل إن المانع كان متحققا في خديجة وهو الأنوثة قلنا كذلك في الأمير فقد كان المانع متحققا قبل وصول وقت إمامته، ولما ارتفع المانع صار إماما بالفعل، وذلك المانع هو إما وجود الخلفاء الثلاثة الذين كانوا أصلح في حق الرياسة بالنسبة إلى جنابه عند جمهور أهل السنة، أو إبقاؤه بعد الخلفاء الثلاثة وموتهم قبله عند التفضيلية فإنهم قالوا: لو كان إماما عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينل أحد من الخلفاء الإمامة وماتوا في عهده وقد سبق في علم الله تعالى أن الخلفاء أربعة فلزم الترتيب على الموت. وبالجملة تمسكات الشيعة بالآيات من هذا القبيل.
(الأدلة الحديثية)
وأما الأحاديث التي تمسك بها الشيعة على هذا المدعى فهي اثنا عشر حديثا:
الأول: حديث غدير خم المذكور عندهم بشأن عظيم ويحسبونه نصا قطعيا في هذا المدعى، حاصله أن بريدة بن الحصيب الأسلمي روى أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل بغديرخم حين المراجعة عن حجة الوداع - وهو موضوع بين مكة والمدينة - أخذ بيد علي وخاطب جماعة المسلمين الحاضرين فقال: يا معشر المسلمين ألست أولى من انفسكم؟ قالوا بلى. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. (2) قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذا الحديث: إن المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وكونه أولى بالتصرف عين الإمامة. (3)
ولا يخفى أن أول الغلط في الاستدلال هو إنكار أهل العربية قاطبة ثبوت ورود المولى بمعنى الأولى. بل قالوا لم يجئ قط المفعل بمعنى أفعل في موضع ومادة أصلا فضلا عن هذه المادة بالخصوص، إلا أن أبا زيد اللغوي جوز هذا متمسكا فيه بقول أبي عبيدة (4) في تفسير {هي مولاكم} أولى بكم. (5) لكن جمهور أهل العربية خطاؤه في هذا التجويز
(1) كما قال ابن إسحاق وغيره. ابن هشام، السيرة النبوية: 2/ 77؛ ابن حجر، الإصابة: 7/ 600. وعند الإمامية أيضا فقال ابن طاوس: «كان أول من آمنت خديجة بنت خويلد فواسته بمالها ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ابن سبع سنين
…
». الطرائف: 1/ 275، وقال الأربلي: «وكان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة
…
». كشف الغمة: 1/ 177.
(2)
والحديث بهذا اللفظ ضعيف جدا كما حقق ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/ 17؛ والعجلوني في كشف الخفاء: 2/ 361؛ والكناني في مصباح الزجاجة: 1/ 19. وقال ابن تيمية: «حديث الموالاة قد رواه الترمذي وأحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال من كنت مولاه فعلى مولاه، وأما الزيادة وهي قوله: اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه
…
الخ، فلا ريب انه كذب». منهاج السنة النبوية: 7/ 319 ..
(3)
ابن المطهر الحلي، نهج الحق: ص 173.
(4)
معمر بن المثنى التميمي، توفي سنة 211هـ. تاريخ بغداد: 13/ 252؛ تذكرة الحفاظ: 1/ 371؛ تهذيب التهذيب: 10/ 221.
(5)
ابن الجوزي، زاد المسير: 8/ 167.
والتمسك قائلين بأن هذا القول لو صح لزم أن يقال مكان فلان أولى منك مولى منك، وهو باطل منكر بالإجماع. وأيضا قالوا: إن تفسير أبي عبيدة بيان الحاصل لمعنى يعني النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم، لا أن اللفظ المولى ثمة بمعنى الأولى. (1) الثاني أن المولى لو كان بمعنى الأولى أيضا لا يلزم أن تكون صلته بالتصرف، كيف تقرر الصلة ومن أية لغة؟ إذ يحتمل أن يكون المراد: أولى بالتصرف، كما في قوله تعالى {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} وظاهر أن أتباع إبراهيم لم يكونوا أولى بالتصرف في جنابه المعظم. الثالث أن القرينة البعدية تدل صراحة على أن المراد من الولاية المفهومة من لفظ «المولى» أو «الأولى» المحبة، وهي قوله «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه» ، ولو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف فقال: اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك، وذكر المحبة والعداوة دليل صريح على أن المقصود إيجاب محبته والتحذير عن عداوته، لا التصرف وعدمه. وظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الناس ولقنهم أدنى الواجبات بل السنن والآداب بحيث يفهم المعاني المقصودة من ألفاظها الواردة في قوله الشريف كل من كان حاضرا أو غائبا بعد معرفته بلغة العرب من غير تكلف، وهذا في الحقيقة هو كمال البلاغة، وهو المقتضى لمنصب الإرشاد والهداية أيضا. ولو اكتفى في مثل هذه المقدمة العمدة بنحو هذا الكلام الذي لا يحصل المعنى المقصود أصلا بطبق القاعدة اللغوية ووفقها لثبت في حق النبي صلى الله عليه وسلم قصور البلاغة في الكلام بل المساهمة في التبليغ والهداية وهو محال والعياذ بالله تعالى، فعلم أن مقصوده صلى الله عليه وسلم بهذا يعني محبة علي فرض كمحبته عليه السلام، وعداوته حرام كعداوته عليه السلام، وهذا هو مذهب أهل السنة ومطابق لفهم أهل البيت في ذلك، كما أورد أبو نعيم عن الحسن
(1) قال القرطبي: «أي النار تملك أمرهم» . الجامع لأحكام القرآن: 17/ 248.
المثنى ابن الحسن السبط الأكبر سألوه عن حديث «من كنت مولاه» هل هو نص على خلافة علي؟ قال لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد خلافته بذلك الحديث لقال هكذا: يا أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم من بعدي فاسمعوا وأطيعوا. ثم قال الحسن: أقسم بالله أن الله تعالى ورسوله لو آثرا عليا لأجل هذا الأمر ولم يمتثل علي لأمر الله ورسوله به ولم يقدم على هذا الأمر لكان أعظم الناس خطأ بترك امتثال ما أمر الله ورسوله به.
قال رجل: أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعلي مولاه؟» قال الحسن: لا والله، إن رسول الله لو أراد الخلافة لقال واضحا وصرح بها كما صرح بالصلاة والزكاة وقال: يا أيها الناس إن عليا ولي أمركم من بعدي والقائم في الناس بأمري. (1)
وأيضا في هذا الحديث دليل صريح على اجتماع الولايتين في زمان واحد، إذ لم يقع التقييد بلفظ «بعدي» بل سوق الكلام لتسوية الولايتين في جميع الأوقات من جميع الوجوه كما هو الأظهر، وشركة الأمير للنبي صلى الله عليه وسلم في التصرف ممتنعة فهذا أدل على أن المراد وجوب محبته، إذ لا محذور في اجتماع محبتين، بل إحداهما مستلزمة للأخرى، وفي اجتماع التصرفين محذورات كثيرة كما لا يخفى. (2) وإن قيدتموه بما يدل على إمامته في المآل دون الحال فمرحبا بالوفاق، لأن أهل السنة أيضا قائلون بذلك في حين إمامته. وأما وجه تخصيص الأمير بالذكر دون غيره فلما علمه النبي عليه السلام بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته وإنكار بعض الناس لإمامته. وكذلك فسر بعض الشيعة «الأولى» الواقع في صدر الحديث بالأولى بالتصرف، وهو باطل، والمراد الأولى في المحبة، يعني ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة؟ لتتلائم أجزاء الكلام، ولفظ الأولى قد ورد في غير موضع بحيث لا يناسب أن يكون معناه الأولى بالتصرف أصلا كقوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} ، {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} فإن سوق هذا الكلام لنفي نسب الأدعياء عمن يثبتونه، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال في حقه زيد بن محمد لأن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع المسلمين كالأب الشفيق بل أزيد، وأزواجه أمهات أهل الإسلام، (3) والأقرباء
(1) أخرجه البيهقي بسنده عن فضيل بن مرزوق
…
الاعتقاد: ص 355؛ وأخرجه من الطريق نفسه ابن عساكر، تاريخ دمشق: 13/ 69
(2)
أي لا إمام آخر في حياة النبي غيره صلى الله عليه وسلم.
(3)
سورة الأحزاب: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}
في النسب أحق وأولى من غيرهم، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد، (1) ولكن مدار النسب على القرابة في الأدعياء، وهي مفقودة في الأدعياء، وحكم ذلك في كتاب الله، ولا دخل ههنا لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود أصلا. (2)
وقد أورد بعض المدققين منهم دليلا على نفي المحبة، وهو أن محبة الأمير أمر مفاد حيث كان ثابتا في ضمن آية {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا، ولا يخفى فسداه، أولم يفهموا أن بيان محبة أحد في ضمن عموم شيء وإيجاب محبته بخصوص أمر آخر فرق بينهما لا يخفى على العقلاء. مثلا لو آمن أحد بجميع أنبياء الله ورسله، ولم يتعرض لاسم محمد صلى الله عليه وسلم بخصوصه في الذكر، لم يكن إسلامه معتبرا. وفي هذا تكون محبة الأمير بشخصية مقصودة بالوجوب، وفي الآية يكون وجوبها مفادا بوصف الإيمان الذي هو عام. ولو فرضنا اتحاد مضمون الآية والحديث لا يلزم اللغو أصلا لأن وظيفة النبي أن يؤكد مضامين القرآن لإلزام الحجة وإتمام النعمة. (3) ومن تدبر الكتاب والسنة لا يتكلم بمثل هذا الكلام. وإلا فتأكيدات النبي وتقريراته في أبواب الصلاة والزكاة وتلاوة القرآن ونحو ذلك كلها تصير لغوا والعياذ بالله. وعند الشيعة أيضا دعوى التنصيص على إمامة الأمير وتأكيده ثابتة، (4) فيلزم على تقدير صحة هذا القول أن يكون ذلك كله حشوا.
وسبب هذه الخطبة الذي ذكره المؤرخون وأهل السير يدل على أن المقصود منها كان إلزام المحبة للأمير، ولأن جماعة الصحابة الذين كانوا متغيبين مع الأمير في سفر اليمن كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما من المشاهير بعد ما رجعوا من سفرهم من الأمير، فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم في حقه هكذا، وقد أورد هذه القصة محمد بن إسحق وغيره من أهل السير مفصلة.
الحديث الثاني: روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه صلى الله عليه وسلم لما استخلف الأمير في غزوة تبوك على أهل بيته من النساء وتركه فيهن وقد توجه هو إلى تلك الغزوة، قال الأمير: يا رسول الله أتخلِفني في النساء والصبيان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» . (5) قالت الشيعة: إن
(1) قال ابن الجوزي في تقرير هذا: «قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}: أي أحق فله أن يحكم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس: إذا دعاهم إلى شئ ودعتهم أنفسهم إلى شئ كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم، وهذا صحيح فإن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم والرسول يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم» . زاد المسير: 6/ 352.
(2)
في الحديث المتفق عليه: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعليَّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته»
(3)
ينظر منهاج السنة النبوية: 7/ 52 وما بعدها.
(4)
روى ابن بابويه عن موسى الكاظم أنه سأله سائل في مجلس المأمون فقال: «أليست إمامة علي عليه السلام من قبل الله عز وجل نقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقل الفرض مثل الظهر أربع ركعات وفي مائتي درهم خمسة دراهم والحج إلى مكة فقال موسى الكاظم: بلى
…
». عيون أخبار الرضا: 2/ 194.
(5)
متفق عليه
المنزلة اسم جنس مضاف إلى العلم فيعم جميع المنازل لصحة الاستثناء، وإذا استثني مرتبة النبوة فثبت للأمير جميع المنازل الثابتة لهارون، ومن جملتها صحة الإمامة، وافتراض الطاعة أيضا لو عاش هارون بعد موسى، لأن هارون كانت له هذه المرتبة في عهد موسى، فلو زالت عنه بعد وفاته لزم العزل، وعزل النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع للزومه الإهانة المستحيلة في حقه فثبتت هذه المرتبة للأمير أيضا وهي الإمامة. (1)
والجواب عن ذلك بوجوه: الأول - أن اسم الجنس المضاف إلى العلم ليس من ألفاظ العموم عند جميع الأصوليين، (2) بل هم صرحوا بأنه للعهد في غلام زيد وأمثاله، (3) لأن تعريف الإضافة المعنوية باعتبار العهد أصل، وفيما نحن فيه قرينة موجودة وهي قوله «أتخلفني في النساء والصبيان» يعني أن هارون كما كان خليفة لموسى حين توجه هو إلى الطور كذلك صار الأمير خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ توجه إلى غزوة تبوك، والاستخلاف المقيد بهذه الغيبة لا يكون باقيا بعد انقضائها كما لم يبق في حق هارون أيضا. ولا يمكن أن يقال انقطاع هذا الاستخلاف عزل موجب للإهانة في حق الخليفة لأن انقطاع العمل ليس بعزل، والقول بأنه عزل خلاف العرف واللغة، ولا تكون صحة الاستثناء دليلا للعموم إلا إذا كان متصلا، وههنا منقطع بالضرورة، لأن قوله «إنه لا نبي بعدي» جملة خبرية، وقد صارت تلك الجملة بتأويلها بالمفرد بدخول إن في حكم (إلا عدم النبوة) وظاهر أن عدم النبوة ليس من منازل هارون حتى يصح استثناؤه لأن المتصل يكون من جنس المستثنى منه وداخلا فيه والنقيض لا يكون من جنس النقيض وداخلا فيه، فثبت أن هذا المستثنى منقطع جدا، ولأن من جملة منازل هرون كونه أسن من موسى وأفصح منه لسانا وكونه شريكا معه في النبوة وكونه شقيقا له في النسب، وهذه المنازل غير ثابتة في حق الأمير بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إجماعا بالضرورة، فإن جعلنا الاستثناء متصلا وحملنا المنزلة على العموم لزم الكذب في كلام المعصوم.
الثاني - أنا لا نسلم أن الخلافة بعد موت موسى كانت من جملة منازل هرون، لان هرون كان نبيا مستقلا في التبليغ، ولو عاش بعد موسى أيضا لكان ولم تزل عنه
(1) الميلاني، نفحات الأزهار: 17/ 263 وما بعدها.
(2)
كذا قرر الطوسي في عدة الأصول: ص 51
(3)
شرح ابن عقيل: 1/ 178.
هذه المرتبة قط، وهي تنافي الخلافة لأنها نيابة للنبي ولا مناسبة بين الأصالة والنيابة في القدر والشرف، فقد علم أن الاستدلال على خلافة الأمير من هذا الطريق لا يصح أبدا. وأيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شبه الأمير بهارون - ومعلوم أن هارون كان خليفة في حياة موسى بعد غيبته، وصار يوشع بن نون وكالب بن يوقنا (1) خليفة له بعد موت موسى - لزم أن يكون الأمير أيضا خليفة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد غيبته لا بعد وفاته، بل يصير غيره خليفة بعد وفاته حتى يكون التشبيه على وجه الكمال، إذ حمل التشبيه في كلام الرسول على النقصان غاية عدم الديانة والعياذ بالله. ولو تنزلنا قلنا ليس في هذا الحديث دلالة على نفي إمامة الخلفاء الثلاثة، غاية ما في الباب أن استحقاق الإمامة يثبت به للأمير ولو في وقت من الأوقات، وهو عين مذهب أهل السنة، فالتقريب به أيضا غير تام. (2)
الحديث الثالث: رواه مرفوعا أنه قال «إن عليا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي» وهذا الحديث باطل، لأن في إسناده أجلح (3) وهو شيعي متهم في روايته. وأيضا غير مقيد بالوقت المتصل بزمان وفاته صلى الله عليه وسلم، ولفظ «بعدي» يحتمل الاتصال والانفصال (4) وهو مذهب أهل السنة القائلين بأن الأمير كان إماما مفترض الطاعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في وقت من الأوقات.
الحديث الرابع: رواه أنس بن مالك أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طائر قد طبخ له وأهدي إليه فقال «اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي هذا الطير» فجاءه علي. (5) وهذا الحديث قد حكم أكثر المحدثين بأنه موضوع، وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزري، (6) وكذلك الذهبي في تلخيصه. (7) ومع هذا فهو غير مفيد للمدعى أيضا، لأن القرينة تدل على أن المراد بأحب الناس إلى الله في الأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن الأمير كان أحبهم إلى الله في هذا الوصف، لأن أكل الولد ومن حكمه مع الأب يكون موجبا لتضاعف اللذة بالطعام. وإن سلمنا أن يكون المراد بأحب الناس مطلقا فإنه لا يفيد المدعى أيضا، إذ لا يلزم أن يكون أحب الخلق إلى الله صاحب الرئاسة العامة، فكأين من أولياء
(1) خليفة يوشع بن نون. تفسير الطبري: 2/ 596.
(2)
ممن رد على الإمامية في احتجاجهم بهذا الحديث ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 78 وما بعدها. وابن تيمية في منهاج السنة النبوية: 5/ 34 وما بعدها.
(3)
قال السعدي: «مفترٍ» ، وقال أحمد:«منكر الحديث» ، الكامل في ضعفاء الرجال: 1/ 427؛ الضعفاء والمتروكين: 1/ 64؛ تهذيب التهذيب: 5/ 122.
(4)
قال المباركفوري: «واستدلالهم به عن هذا باطل، فإن مداره عن صحة زيادة لفظ بعدي، وكونها صحيحة محفوظة قابلة للاحتجاج، والأمر ليس كذلك، فإنها قد تفرد بها جعفر بن سليمان، وهو شيعي، بل هو غال في التشيع، قال في تهذيب التهذيب قال الدوري: كان جعفر إذا ذكر معاوية شتمه وإذا ذكر عليا قعد يبكي .. » . تحفة الأحوذي: 10/ 146
(5)
أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير وأبو يعلى في مسنده: 7/ 105، رقم 4052؛ وأخرجه ابن عدي في ترجمة حماد بن يحيى بن المختار الكوفي، الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 251، وقال عنه:«هو ليس بمعروف» . والحديث موضوع كما حكم عليه ابن الجوزي في العلل المتناهية: 1/ 229، ونقل ابن كثير عن الذهبي:«لا والله ما صح شيء من ذلك وأنه جمع طرق الحديث في جزء أورد فيه بضعا وتسعين نفسا من اللذين أوردوه، وقال: جميعها باطلة ومظلمة» . البداية والنهاية: 11/ 355؛ وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: ص 1134.
(6)
شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن علي الدمشقي الشافعي، كان إماما في القراءات، وصفه ابن حجر بالحفظ والإتقان، توفي سنة 833هـ. ذيل تذكرة الحفاظ: ص 376؛ طبقات الحفاظ: ص 549.
(7)
التلخيص: 4/ 102.
وأنبياء كانوا أحب الخلق إلى الله ولم يكونوا ذوي رئاسة عامة، كزكريا ويحيى وشمويل الذي كان طالوت في زمنه صاحب رئاسة عامة بنص إلهي، وأيضا يحتمل أن أبا بكر لعله لم يكن في ذلك الحين حاضرا في المدينة المنورة والدعاء كان خالصا بالحاضرين دون الغائبين بدليل قوله «اللهم ائتني» لأن إحضار الغائب من مسافة بعيدة في آن قصير لا يعقل إلا طريق خرق العادة، والأنبياء لا يسألون الله خرق العادة إلا في وقت التحدي، وإلا لما احتاجوا في الحرب والقتال إلى تهيئة الأسباب الظاهرة. ويحتمل أن يراد التبعيض بذلك كما في قولهم فلان أعقل الناس وأعلمهم وأفضلهم. وعلى تقدير دلالته على المدعى لا يقاوم الأخبار الصحاح الدالة على خلافة أبي بكر وعمر، مثل «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» (1) وغير ذلك.
الحديث الخامس: رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (2) وهذا الخبر أيضا مطعون فيه، قال يحيى بن معين: لا أصل له، (3) وقال البخاري إنه منكر، وليس له وجه صحيح. (4) وقال الترمذي إنه منكر غريب. (5) وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. (6) وقال ابن دقيق العيد: لم يثبتوه. (7) وقال النووي والذهبي والجزري إنه موضوع. (8) فالتمسك بالأحاديث الموضوعة مما لا وجه له، إذ شرط الدليل اتفاق الخصمين عليه. ومع هذا ليس مفيدا لمدعاهم إذ لا يلزم أن من كان باب مدينة العلم فهو صاحب رئاسة عامة بلا فصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، غايته أن شرطا من شروط الإمامة قد تحقق فيه بوجه أتم، ولا يلزم من تحقيق شرط واحد وجود المشروط بالشروط الكثيرة، مع أن ذلك الشرط كان ثابتا في غيره أيضا أزيد منه برواية أهل السنة مثل «ما صب الله شيئا في صدرى إلا وقد صببته في صدر أبي بكر» (9) ونحو «لو كان بعدي نبي لكان عمر» (10) فإذا اعتبرت روايات أهل السنة فليتعبر كلها، وإلا فلا ينبغي أن يقصد إلزامهم برواية واحدة من رواياتهم.
الحديث السادس: وهو ما رواه الإمامية مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم قال «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في بطشه، وإلى
(1) أخرجه الترمذي من حديث حذيفة، السنن، كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر وعمر: 5/ 609، رقم 3662؛ وابن ماجة، السنن، كتاب المقدمة، باب فضل أبي بكر: 1/ 37، رقم 98؛ أحمد، المسند: 5/ 382؛ الحاكم، المستدرك: 3/ 80؛ وصححه في صحيح الجامع: رقم 1142.
(2)
قال العجلوني في هذا الحديث: «قال الترمذي: منكر، وقال البخاري: إنه كذب لا أصل له، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات» ، وقال أبو زرعة:«كم من خلق افتضحوا فيه» ، وقال أبو حاتم ويحيى بن سعد: «لا أصل له
…
»، وقال ابن دقيق العيد: «لم يثبتوه، وقيل إنه باطل
…
». كشف الخفاء: 1/ 236. ووضعه السيوطي في اللآلئ المصنوعة: 1/ 329؛ الزركشي، التذكرة: ص 163؛ والألبانى؛ ضعيف الجامع: 1/ 1322.
(3)
كشف الخفاء: 1/ 236.
(4)
كشف الخفاء: 1/ 236.
(5)
سنن الترمذي: 5/ 637.
(6)
قال: «والحديث لا أصل له» . الموضوعات: 1/ 355.
(7)
كشف الخفاء: 1/ 236.
(8)
ترتيب الموضوعات: ص 286.
(9)
ليس في كتب الحديث المعتمدة، وأورده ابن القيم في المنار المنيف تحت عنوان:«ومما وضعه جهلة المنتسبين إلى أهل السنة في فضائل الصديق رضي الله عنه»
(10)
أخرجه الترمذي عن عقبة بن عامر في كتاب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب: 5/ 619، رقم 3686؛ وأحمد في المسند: 4/ 154؛ الطبراني في الكبير: 17/ 298؛ الحاكم في المستدرك: 3/ 92، رقم 4495؛ وحسنه في صحيح الجامع، رقم 5284.
عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب». (1) وجه التمسك بهذا الحديث أن مساواة الأمير للأنبياء في صفات قد علمت به، والأنبياء أفضل من غيرهم، والمساوي للأفضل أفضل فكان علي أفضل من غيره، والأفضل متعين للإمامة دون غيره.
ولا يخفى فساد هذه المقدمات والمبادئ الواقعة في الاستدلال من وجوه:
الأول - أن هذا الحديث أورده الحلي في كتبه وقد نسبه إلى البيهقي مرة إلى البغوي أخرى وليس في تصانيفهما أثر منه. ولا يتأتى إلزام أهل السنة بالافتراء. مع أن عند أهل السنة أن الأحاديث التي تذكر في كتبهم إذا لم يصرح بصحتها لا يحتج بها.
الثاني - أن ما ذكر محض تشبيه لبعض صفات الأمير ببعض صفات أولئك الأنبياء، والتشبيه كما يكون بأدواته المتعارفة كالكاف وكأن ومثل ونحوها، وكذلك يكون بهذا الأسلوب كما تقرر في علم البيان أن من أراد أن ينظر القمر ليلة البدر فلينظر إلى وجه فلان. فهذا القسم داخل أيضا في التشبيه ولو تجاوزنا عن ذلك لكان استعارة مبناها على التشبيه، وفهم المساواة بين المشبه والمشبه به من كمال السفاهة. وقد روي في الأحاديث الصحيحة لأهل السنة تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى وتشبيه عمر بنوح وتشبيه أبي ذر بعيسى ولكن لما كان لأهل السنة حظ عظيم من العقل لم يحملوا ذلك التشبيه على المساواة أصلا بل أعطوا كلا مرتبته.
الثالث - أن المساواة بالأفضل في صفة لا تكون موجبة لأفضلية المساوي لأن ذلك الأفضل له صفات أخر قد صار بسببها أفضل. وأيضا ليست الأفضلية موجبة للزعامة الكبرى كما مر.
الرابع - إن تفضيل الأمير على الخلفاء الثلاثة من هذا الحديث يثبت إذا لم يكن أولئك الخلفاء مساوين للأنبياء المذكورين في الصفات المذكورة أو في مثلها ودون هذا خرط القتاد. ولو تتبعنا الأحاديث الدالة على تشبيه الشيخين بالأنبياء لبلغت مبلغا لم يثبت مثله لمعاصريهما. ولهذا ذكر المحققون من أهل التصوف أن الشيخين كانا حاملين لكمالات
(1) ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 2/ 429؛ ابن المطهر الحلي في نهج الحق: 237. وعزاه الأول إلى مسند أحمد، والثاني إلى وسنن البيهقي، وليس فيهما.
النبوة وكان الأمير حاملا لكمالات الولاية ومن ثمة صدر من الشيخين الأمور التي تصدر من الأنبياء من الجهاد بالكفار وترويج أحكام الشريعة وإصلاح أمور الدين بأحسن أسلوب وتدبير، وظهر من الأمير ما يتعلق بالأولياء من تعليم الطريقة والإرشاد لأحوال السالكين ومقاماتهم والتنبيه على غوائل النفس والترغيب بالزهد في الدنيا ونحوها أكثر من غيره. وقد دل على هذه التفرقة حديث رواه الشيعة في كتبهم وهو قوله صلى الله عليه وسلم «إنك يا علي تقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلتهم على تنزيله» لأن مقاتلات الشيخين كلها كانت على تنزيل القرآن فكان عهدهما من بقية زمان النبوة وزمن خلافة الأمير كان مبدأ لدورة الولاية وإليه تنتهي سلاسل جميع الفرق من أولياء الله تعالى كما تصل سلاسل الفقهاء والمجتهدين في الشريعة بالشيخين ونوابهما كعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأمثالهم - رضي الله تعالى عنهم - ويكون فقه أولئك الفقهاء رشحة من بحار علومهم. وكان معنى الإمامة التي بقيت في أولاد الإمام وجعل بعضهم بعضا وصيا له فيها هي قطبية الإرشاد ولهذا لم يرو إلزام هذا الأمر من الأئمة الأطهار على كافة الخلائق بل جعلوا بعض أصحابهم الممتازين المنتخبين مشرفين بذلك الفيض الخاص ووهبوا لكل واحد منهم هذه الكرامة العظيمة بقدر استعداده. وهذه الفرقة السفيهة قد أنزلوا تلك الإشارات كلها على الرئاسة العامة واستحقاق التصرف في أمور الملك والمال فوقعوا في ورطة الضلال، ومن أجل ما قلنا يعتقد كل الأمة الأمير وذريته الطاهرة كالشيوخ والمرشدين.
الحديث السابع: روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال «من ناصب عليا في الخلافة فهو كافر» (1)
وهذا الحديث لا أثر له بوجه في كتب أهل السنة أصلا بل نسب ابن المطهر الحلي روايته إلى الأخطب الخوارزمي. والحلي خوان في النقل، والأخطب كان من الغلاة الزيدية. ومع هذا لم يرو هذا الحديث في كتابه المؤلف في مناقب أمير المؤمنين. (2) ولو فرضنا كونه في كتابه فلا اعتبار له لكونه مخالفا للأحاديث الصحاح الموجودة في كتب الإمامية. منها قوله عليه السلام في نهج البلاغة «أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من
(1) ليس في كتب أهل السنة، ورواه من الإمامية: ابن بابويه، الأمالي: 673؛ ابن طاوس، الطرائف: 1/ 23؛ ابن البطريق، العمدة: ص 91؛ ابن المطهر الحلي، كشف اليقين: ص 293.
(2)
ليس في كتاب المناقب للخوارزمي كما ادعى الحلي.
الزيغ والاعوجاج». (1) ولئن اعتبرنا هذا الحديث لا يتحقق مضمونه أيضا إلا إذا طلب الأمير الخلافة وانتزعها الآخر من يده. وهذا المعنى لم يقع في عهد قط، لأن الأمير لم يطلب الخلافة في زمن الخلفاء الثلاثة، كما ذكر في كتب الإمامية أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وصى الأمير بالسكوت ما لم يجد أعوانا فسكت الأمير في عهد الخلفاء الثلاثة لأجل هذه الوصية! وحين صار طالبا لها لم يقصد أحد - من أم المؤمنين والزبير وطلحة - نزع الخلافة من يده أصلا، بل إنما سأل هؤلاء الأمير تنفيذ حكم القصاص على قتلة عثمان - رضي الله تعالى عنه - ثم انجر الأمر إلى القتال كما تشهد بذلك كتب السير (2) وخطب الأمير - رضي الله تعالى عنه -. سلمنا، ولكن المراد من " الكافر " كفران النعمة، إذ خلافة أمير المؤمنين كانت نعمة في زمنها يدل عليه لفظ «الخلافة» إذ هي بالإجماع مشروطة بالتصرف في الأرض، وذلك لم يكن للأمير في زمن الخلفاء الثلاثة ولهذا لم يقع في الحديث لفظ الإمامة. سلمنا، ولكن الله تعالى قال في كتابه لمنكر خلافة الخلفاء الثلاثة في آية الاستخلاف كافر أيضا كقوله تعالى {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} والمعنى أن من أنكر خلافة أولئك المستخلفين بعد استماع هذه الآية الكريمة والعلم باستخلافهم الصادر من الله تعالى فأولئك هم الكاملون في الفسق، والكامل فيه هو الكافر كما لا يخفى. مع أن روايات الأخطب الزيدي عند أهل السنة كلها ضعيفة وكثير منها موضوعة فكيف يحتج بها؟ (3)
الحديث الثامن: رواه الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أنا وعلي بن أبي طالب نورا بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين: فجزء أنا، وجزء علي بن أبي طالب» . (4)
وهذا الحديث موضوع قطعا بإجماع أهل السنة، وفي إسناده محمد بن خلف المروزي (5) قال يحيى بن معين: هو كذاب. وقال الدارقطني: متروك ولم يختلف أحد في كذبه. ويروي من طريق آخر وفيه جعفر بن أحمد (6) وكان رافضيا غاليا كذابا وضاعا، وكان أكثر ما يضع في مدح الصحابة وسبهم.
وعلى
(1) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 7/ 121.
(2)
انظر (العواصم من القواصم)
(3)
لو كانت فيه كما ادعى الحلي.
(4)
أورده ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2/ 430؛ الحلي، نهج الحق: ص 212؛ المجلسي، بحار الأنوار: 35/ 24. وعزاه الحلي إلى مسند الإمام أحمد وليس فيه أو في كتب الحديث المعتبرة عند أهل السنة، لكن رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق: 42/ 62، من رواية الحسن بن علي بن صالح أبو سعيد العدوي البصري الملقب بالذئب (ت 319هـ). قال الدارقطني عنه: «متروك» ، وقال ابن عدي:«يضع الحديث» . انظر ميزان الاعتدال: 2/ 258؛ لسان الميزان: 2/ 229. وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي في الموضوعات: 1/ 340؛ والسيوطي في اللآلئ المصنوعة: 1/ 320؛ والشوكاني في الفوائد المجموعة: ص 1078.
(5)
كذبه يحيى بن معين والدارقطني، وذكر ابن الجوزي حديثا يرويه في فضائل علي:«أنا وهارون ويحيى وعلي من طينة واحدة» . ميزان الاعتدال: 6/ 154؛ لسان الميزان: 5/ 157؛ الكشف الحثيث: 225.
(6)
جعفر بن أحمد بن علي بيان بن زيد، أبو الفضل الغافقي الماسح المصري المعروف بابن أبي العلاء (ت 299هـ)، قال ابن يونس:«كان رافضيا كذابا يضع الحديث في سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وقال ابن عدي:«كان يحدث بأحاديث موضوعة نتهمه بوضعها» . الكامل في ضعفاء الرجال: 3/ 156؛ ابن الجوزي، الضعفاء والمتروكين: 1/ 170؛ ميزان الاعتدال: 2/ 126؛ لسان الميزان: 2/ 108.
تقدير صحته معارض بالأخبار الأخر نحو قوله «أول من خلق الله نوري» (1) وقوله «أنا من نور الله وكل شيء من نوري» (2) فإنه إن كان الأمير من نوره فلا وجه للتخصيص وإن كان مستقلا مثله فيلزم التكذيب. ومع هذا فقد ثبت اشتراك الخلفاء الثلاثة معه صلى الله عليه وسلم في عالم الأرواح بالرواية الأخرى التي هي أحسن من تلك الرواية إذ ليس في إسنادها متهمون بالكذب والوضع. وهي ما روى الشافعي بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألف عام فلما خلق أسكننا ظهره ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة حتى نقلني إلى صلب عبد الله ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة ونقل عمر إلى صلب الخطاب ونقل عثمان إلى صلب عفان ونقل عليا إلى صلب أبي طالب» (3) ويؤيد هذه الرواية حديث «الأرواح جنود مجندة: ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (4)
وبعد اللتيا والتي لا يدل حديثهم على المدعي أصلا لأن اشتراك الأمير في نور النبي لا يكون مستلزما لوجوب إمامته بلا فصل وأية ملازمة بينهما فليبينوها بحيث لا يتوجه إليه المنع ودونه خرط القتاد. ولا بحث لنا في قرب النسب وإلا لكان العباس أولى بالإمامة لكونه عم النبي والعم أقرب من ابن العم عرفا وشرعا. فإن قالوا إن العباس لحرمانه من اتحاد النور لم يحصل له لياقة للإمامة لأن نور عبد المطلب انقسم في عبد الله وأبي طالب ولم يصب أبناؤه الآخرون، قلنا: إن كان مدار التقدم في الإمامة على قوة النور وكثرته فالحسنان أحق بالإمامة من الأمير للقوة والكثرة معا. أما القوة فلأن النور لما انقسم وصلت حصة الرسول إلى جنابه فانشعب من تلك الحصة السبطان الكريمان بخلاف الأمير فإنه كان شريكا في أصل النور لا في حصة النبي صلى الله عليه وسلم وحصة النبي صلى الله عليه وسلم من النور كانت أقوى من حصة غيره. وأما الكثرة فلأن الحسنين كانا جامعين لنوري النبي صلى الله عليه وسلم والأمير معا والاثنان أكثر من الواحد قطعا.
الحديث التاسع: رواه عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه» (5)
وهذا
(1) هو في كتب الإمامية، ابن أبي جمهور، عوالي اللآلئ: 4/ 99؛ وعنه المجلسي، بحار الأنوار: 1/ 97.
(2)
ليس والذي سبقه في كتب الحديث المعتبرة عند أهل السنة.
(3)
رواه أحمد بن عبد الله الطبري (ت 694هـ) في كتابه الرياض النضرة: 1/ 248 نقلا عن الشافعي.
(4)
متفق عليه.
(5)
متفق على صحته
الحديث أصح وأقوى من غيره، ولكن مدعى الشيعة غير حاصل منه إذ لا ملازمة بين كونه محبا لله ورسوله ومحبوبا لهما وبين كونه إماما بلا فصل أصلا، على أنه لايلزم من إثباتهما له نفيا عن غيره، كيف وقد قال الله تعالى في حق أبي بكر ورفقائه {يحبهم ويحبونه} وقال في حق أهل بدر {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} ولا شك أن من يحبه الله يحبه رسوله ومن يحب الله من المؤمنين يحب رسوله، وقال في شأن أهل مسجد قبا {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ «يا معاذ إني أحبك». (1) ولما سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة» قيل: ومن الرجال؟ قال: «أبوها» . (2) وإنما نص على المحبية والمحبوبية في حق الأمير مع وجودهما في غيره لنكتة دقيقة تحصل من ضمن قوله «يفتح الله على يديه» وهي أنه لو ذكر مجرد الفتح لربما توهم أن ذلك غير موجب لفضيلته لما ورد «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (3) فأزال ذلك التوهم بإثبات هاتين الصفتين له فصار المقصود منه تخصيص مضمون «يفتح الله على يديه» وما ذكر من الصفات لإزالة ذلك التوهم.
الحديث العاشر: «رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار» (4)
وهذا الحديث يقبله أيضا أهل السنة، ولكن لا مساس له بمدعى الشيعة وهو الإمامة بلا فصل، وقد جاء في حق عمار بن ياسر «الحق مع عمار حيث دار» (5) وفي حق عمر أيضا «الحق بعدي مع عمر حيث كان» (6) بل في هذين الحديثين إخبار بملازمة الحق لعمر ولعمار، بخلاف الحديث عن الأمير فإنه دعاء في حقه، والفرق بين الإخبار والدعاء غير خاف، خصوصا على ما قرره الشيعة من أن استجابة دعاء النبي لازمة عندهم، فقد روى ابن بابويه القمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ربه أن يجمع أصحابه على محبة علي فلم يكن ذلك. وزاد في حق عمر لفظ «بعدي» ليكون دليلا على صحة إمامته وإمامة من رآه عمر إماما. وعلى مذاق الشيعة يكون هذا الحديث دليلا على عصمته، لكن مذهب أهل السنة لا يكون غير النبي معصوما. وقد تمسك بعض ظرفاء أهل السنة بحديث علي المذكور على صحة أبي بكر وعمر
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
(2)
متفق عليه
(3)
متفق عليه.
(4)
أخرجه الترمذي من حديث علي في المناقب، باب مناقب علي رضي الله عنه: 5/ 633، رقم 3714 وقال عنه:«غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» ؛ والحاكم في المستدرك: 3/ 134، رقم 4629. وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع في العلل المتناهية: 1/ 410؛ والألبانى في ضعيف الترمذي: 1/ 767.
(5)
أخرجه أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان: 2/ 419؛ والعقيلي، الضعفاء الكبير: 4/ 236؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق: 43/ 476. من طريق مبشر بن الفضيل، قال العقيلي عنه: «مجهول».
(6)
أخرجه العقيلي عن ابن عباس في الضعفاء الكبير 3/ 482؛ والحكيم الترمذي، نوادر الأصول: 2/ 21؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق: 44/ 126؛ قال الذهبي: «الحديث من رواية القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبيه، وحديثه منكر» . ميزان الاعتدال: 5/ 463. قال ابن حجر: «وأخرجه الحميدي من طريق أخرى وفي إسناده عطاء عن ابن عباس، قال علي بن المديني: هو عندي عطاء بن يسار، وليس له أصل من حديث عطاء بن أبي رباح ولا عطاء بن يسار، وأخاف أن يكون عطاء الخرساني لأنه يرسل كثيرا عن ابن عباس. قال ابن حجر: أخاف أن يكون كذبا مختلقا». لسان الميزان: 4/ 467. ولذا حكم عليه العجلوني بالوضع في كشف الخفاء: 1/ 436؛ والألبانى في ضعيف الجامع: رقم 2785.
وعثمان، لأن عليا كان معهم وبايعهم وتابعهم وصلى معهم في الجمع والجماعات ونصحهم في أمور تتعلق برئاستهم، فيصح قياس المساواة ههنا: الحق مع علي، وعلي مع أبي بكر وعمر، فالحق معهما، لأن مقارن المقارن مقارن. وهذه المقدمة الأجنبية التي هي مدار صحة النتيجة في هذا القياس صادقة لا محالة، وهذا القياس لروايات الشيعة، فإنه ثبت في (نهج البلاغة) أن عمر بن الخطاب لما أراد أن يخرج إلى دفع فتنة نهاوند استشار علي ابن أبي طالب فقال له الأمير:«إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أوعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث ما طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده. قال الله تعالى {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}. ومكان القيم من الإسلام مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع أبدا. والعرب وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا، واستدر الرحى بالعرب» إلى آخر خطبته المذكورة في نهج البلاغة. (1)
فعلم بالصراحة أن الأمير كان معينا وناصرا وناصحا أمينا لعمر بن الخطاب، ولو كان بينهما نفاق والعياذ بالله لأشار عليه بالذهاب إلى العجم، وإذا اشتغل عمر وأهل عسكره بالقتال تصرف الأمير بالحجاز التي كانت دار الإسلام واتبعه الناس طوعا أو كرها. وأيضا قد علم أن الأمير عد نفسه في زمرة أبي بكر وعمر حيث أدخل نفسه فيهم وقال «نحن على موعد من الله» .
وأيضا قد ذكر في (نهج البلاغة) أن الأمير قال لعمر بن الخطاب حين استشاره في غزوة الروم «إنك متى تسير إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم (2) وتنكب لا تكن للمسلمين كأنفة (3) دون أقصى بلادهم، وليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فأرسل إليهم رجلا مجربا (4) واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذلك ما تحمد، وإن تكن الآخرى كنت ردءا (5) للناس ومثابا للمسلمين» (6)
والعجب من الشيعة كيف يتركون مثل هذه الروايات الثابتة في أصح الكتب عندهم كأنهم لو يروها ولم يسمعوها، ويذعنون بالمخالفة فيما بينهم بما شاع عندهم من الروايات
(1) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 9/ 95.
(2)
في المطبوع فتكسر والتصحيح من النهج
(3)
في النهج: (كهف). قال ابن أبي الحديد: «ويروى كأنفة: أي جهة عاصمة» . شرح نهج البلاغة: 8/ 297.
(4)
في النهج: رجلا محربا، قال ابن أبي الحديد: أي صاحب حروب.
(5)
عونا. شرح نهج البلاغة: 8/ 297.
(6)
نهج البلاغة (بشرحه): 8/ 296. وذكر ابن أبي الحديد أن هذه غزاة فلسطين التي فتح فيها بيت المقدس، وأن عمر بن الخطاب كان قد استخلف عليا عند سفره لاستلام مفاتيح بيت المقدس. شرح نهج البلاغة: 8/ 298. وينظر تاريخ الطبري: 2/ 449
الموضوعة والمفتريات، ثم يتخبطون إذ يرون هذه الروايات الصحيحة، فقد يقولون إن هذه كلها - من متابعة الأمير ومبايعته للشيخين - كانت لمحض قلة الأعوان والأنصار، ثم يفحمون فيما قالوا بروايات ثقاتهم الدالة صراحة على قوة الأمير وغلبة أعوانه وكثرة انصاره، كما روى أبان بن عياش (1) عن سليم (2) بن قيس الهلالي وغيره أن عمر قال لعلي: والله لئن لم تبايع أبا بكر لنقتلنك. قال له علي: لولا عهد عهده إلى خليلي لست أخونه لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا. (3)
فهذه الرواية تدل بالصراحة على أن سكوت الأمير كان بسبب أمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن الخلافة حق أبي بكر بلا فصل ثم حق عمر، وههنا البرهان العقلي الموافق لأصول الشيعة قائم على أن العهد المذكور كان هذا، لأن الإمامة لو كانت حق الأمير وكان النبي أوصاه بترك المنازعة للشيخين مع كثرة الأعوان والأنصار المستفادة من هذه الرواية صراحة للزم أن النبي أوصاه بتعطيل أمر الله ونحوها، معاذ الله من ذلك. كيف وقد قال الله تعالى {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} في زمان كان الواجب أن يقاتل مسلم واحد عشرة كفار، فجاهد النبي وكلف الناس بالجهاد بهذه التأكيدات مع كثرة المشقة والصعوبة، وفي زمان تم فيه الدين وكملت النعمة يأمر (4) مثل هذا الذي هو أسد الله بالجبن والخوف وترك التبليغ لأحكام الله ويجوز الفتن والفساد وتحريف كتاب الله وتبديل دينه {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} حاشاه ثم حاشاه، أولئك مبرأون مما يقولون، وشأن النبوة والرسالة مناف لهذه الوصية أشد منافاة.
وقد يقول الشيعة إن ترك الأمير للمنازعة وإظهاره الموافقة والمناصحة مع الخلفاء الثلاثة كان لمحض الاقتداء بأفعال الله تعالى وهي إمهال الجاني والتأني في المؤاخذة، وقد استخرج هذا التوجيه ابن طاوس سبط أبي جعفر الطوسي، وقد ارتضى به الآخرون من إخوانه غاية ارتضاء، مع أنه تأويل باطل، لأن الاقتداء بأفعال الله تعالى فيما يخالف الشرع غير جائز للناس فضلا عن أن يكون واجبا، إذ الباري تعالى قد ينصر الكفرة في بعض الأحيان ويخذل المسلمين ويميت الصالحين ويحيى الفساق ويرزقهم بغير حساب ويقدر الرزق على الصلحاء وغير ذلك على
(1) أبان بن أبي عياش فيروز وقيل دينار البصري، مولى أنس بن مالك، قال أحمد بن حنبل: لا يكتب عنه كان منكر الحديث ترك الناس حديثه، وقال يحيى بن معين: هو متروك ليس حديثه بشيء، وقال النسائي والرازي والدارقطني هو متروك. ابن الجوزي، الضعفاء والمتروكين: 1/ 19؛ الكامل في ضعفاء الرجال: 1/ 381؛ ميزان الاعتدال: 1/ 124. وهو الراوي الوحيد لكتاب سليم بن قيس الهلالي عند الإمامية. رجال الغضائري: 1/ 16؛ الحلي، الخلاصة: ص 207.
(2)
في المطبوع سليمان
(3)
كتاب سليم بن قيس: ص 937. وفي رواية أخرجها الكليني عن الهيثم بن التيهان: «أن أمير المؤمنين خطب الناس بالمدينة فقال:
…
ولولا عهد عهده إلي النبي الأمي صلى الله عليه وسلم لأوردت المخالفين خليج المنية ولأرسلت عليهم شابيب صواعق الموت
…
». الكافي: 8/ 31؛ المجلسي، بحار الأنوار: 28/ 242.
(4)
أي كيف يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه.
ما علِمه من المصالح والحكم، ولا يجوز لأحد من العباد نصرة الكافر وقتل المسلم بغير حق وإعانة الفاسق على فسقه وخذلان الصالح، بل لابد للعباد من الامتثال لأوامر الله تعالى ونواهيه، وهذا هو شأن العبودية أن يتلقى بالقبول حكم الله، ويعمل بالجد على وفقه، لا أنه يقتدى بأفعال المالك. وأما ما قيل «تخلقوا بأخلاق الله» (1) فبابه المكارم دون الأحكام، وإلا فمن لم يصل ولم يؤت الزكاة ولم يحج البيت مع الاستطاعة اقتداء بالله تعالى فهل يعذر في الدنيا والآخرة؟ ومن قال إن التأني وترك العجلة محمود فليس مطلقا، بل التأخير والتأني في الأمور الحسنة غير محمود البتة، لأن المالك إذا أمر رسله وعباده بتعجيل أمر فإن لم يسارعوا إلى أمره يكونوا عصاة لا محالة كما قال الله تعالى {وإن منكم لمن ليبطئن} وقال تعالى في مدح عباده المتعجلين في امتثال أوامره {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} ولهذا صار المثل المشهور «لا حاجة إلى الاستخارة في أمر الخير» و «خير الخير ما كان عاجله» . والإمام الذي له منصب هداية الخلق وإرشاد الضالين كيف يجوز له التاني إذ يفوت منه فيه واجبات كثيرة، وأيضا يكون للتأني حد، وهل يمضى أحد في التأني خمسة وعشرين عاما؟ ولو قال: إن تأني الأمير كان بأمر الله تعالى قلا يلزم ترك الواجبات، قلنا: فقد علم أن إمامة الأمير لم تكن متحققة في ذا الزمن، وإلا فنصبه للإمامة ثم أمره بالتأني وترك لوازم الإمامة متناقضان فيما بينهما، ويشبه ذلك أن السلطان قلد أحدا القضاء وأمره بالاختفاء مدة ذلك قائلا له: لا تظهر قضاءك في تلك المدة، وامتنع أن تقام قضية بحضورك، ولا تتكلم بين المتخاصمين. فهذا يدل صريحا على أن السلطان يعده القضاء، لا أنه نصبه بالفعل للقضاء. ولو حملنا على الظاهر يلزمه التناقض الصريح وتفويت الغرض من نصب القاضي، بل هو محض السفاهة. ولا يخفى قبحه، والله تعالى منزه عن ذلك. وأيضا إذا كان الأمير مأمورا من الله بالتأني وإخفاء الإمامة وترك دعواها يكون المكلفون في ترك متابعته وإطاعة الأمر معذورين، فلو خالفوا ونصبوا غيره لحفظ دينهم ودنياهم وتمشية مهماتهم في هذه المدة؛ لا يكون للعقاب والعتاب عليهم محل أصلا إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
(1) بحار الأنوار: 58/ 130.
الحديث الحادي عشر: رواه أبو سعيد الخدري أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي «إنك تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» . (1)
ولا يخفى أن هذا الحديث لا مساس له بمدعاهم، إذ مفاده: إنك تقاتل في حين من الأحيان على تأويل القرآن. وهذا هو مذهب أهل السنة أن الأمير في مقاتلاته حين قاتل كان على الحق ومصيبا لا ريب فيه، ومخالفوه كانوا على الخطأ ولو بالاجتهاد. ولا دلالة في هذا الحديث على أن الأمير إمام بلا فصل، إذ لا ملازمة بين المقاتلة على تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه من الوجوه، فإيراد هذا الحديث في مقابلة أهل السنة غاية الجهل، بل لو استدل به على مذهب أهل السنة لأمكن، لأنه يفهم منه بالصراحة أن الأمير قد يكون إماما في عصر يقاتل فيه على تأويل القرآن ووقت قتاله معلوم متى كان، وهو من دلائل أهل السنة على أن الحق كان في جانب الأمير وكان مقاتلوه على الخطأ حيث لم يفهموا معنى القرآن وأخطأوا في اجتهادهم. وإنكار تاويل القرآن ليس بكفر إجماعا، (2) وإن أنكر أحد معنى القرآن الظاهر بسوء فهمه ففي كفره تأمل، فضلا عن أن ينكر المعنى الخفي الذي هو التأويل. (3) وعقيدة الشيعة أن محاربيه كفرة (4) كما ذكر في (تجريد العقائد) للطوسي. ولا وجه لكفرهم على أصول الشيعة أيضا.
الحديث الثاني عشر: رواه زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني تارك فيكم الثقلين، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وعترتي» (5)
وهذا الحديث أيضا كالأحاديث السابقة لا مساس له بمدعاهم، وإذ لا يلزم أن يكون المتمسك صاحب الزعامة الكبرى. سلمنا، ولكن قد صح الحديث أيضا «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنوجذ» . (6) سلمنا، ولكن العترة في لغة العرب هم الأقارب، فلو دل الحديث على الإمامة لزم أن يكون جميع أقاربه صلى الله عليه وسلم أئمة واجبي الإطاعة وهو باطل. وأيضا قال صلى الله عليه وسلم «واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد» ، (7)«وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» (8) خصوصا قوله «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» البالغ درجة الشهرة والتواتر المعنوي، فلزم من هذه الأحاديث أن يكون أولئك الأشخاص أئمة وأن يدل هذا الحديث على إمامة
(1) تقدم تخريجه
(2)
قال الآلوسي الجد في التكفير: «وألفاظ الأحاديث الظاهرة في تكفير بعض أهل البدع والأهواء من لم يكفرهم الجمهور كالقدرية والخوارج والرافضة عرضة للتأويل، فلا تعارض الأدلة القاطعة بخلافها، وقد ورد مثلها في غير الكفرة من عصاة المسلمين كالمرائين، مع القطع بعدم كفرهم إجماعا على طريق التغليظ، وكفر دون كفر وإشراك دون إشراك» . نهج السلامة: 11/أ. وقال الآشتياني من الإمامية: «إنه لا يحكم بكفر غير المستلزم بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو في الضروريات
…
وإن كان ظاهر بعض الأخبار الجحود للكفر مطلقا لكنه محمول على الإهمال بقرينة الأخبار سيما في الكتاب». بحر الفوائد: 1/ 284.
(3)
قال ابن تيمية: «التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر الله تعالى به من الجنة من الأكل والشرب
…
». مجموع الفتاوى: 5/ 36.
(4)
قال الطوسي: «إن من حارب أمير المؤمنين عندنا كافر» . بحار الأنوار: 8/ 368.
(5)
أخرجه مسلم
(6)
أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
(7)
الترمذي وصحيح الجامع: رقم 1144
(8)
أحمد والترمذي وابن ماجة. صحيح الجامع: رقم 895.
العترة، فكيف يصح الحديث المروي عن الأمير بالتواتر عند الشيعة «إنما الشورى للمهاجرين والأنصار» (1) وكذلك لا يدل حديث «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق» (2) إلا على أن الفلاح والهداية منوطان بمحبتهم ومربوطان باتباعهم والتخلف عن محبتهم وأتباعهم موجب الهلاك. وهذا المعنى بفضل الله تعالى مختص بأهل السنة، لأنهم هم المتمسكون بحبل وداد جميع أهل البيت، كالإيمان بكتاب الله كله لا يتركون حرفا منه، وبالأنبياء أجمعين بحيث لا يفرقون بين أحد من رسله وأنبيائه، ولا يخصمون بعضهم بالمحبة دون بعض، لأن الإيمان ببعض الكتاب بحكم {تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} وببعض الأنبياء بدليل {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} الآية كفر غليظ، بخلاف الشيعة لأنهم ما من فرقة منهم إلا وهي لا تحب جميع أهل البيت، بل يحبون طائفة ويبغضون أخرى.
ولبعض الشيعة ههنا تقرير عجيب حيث قال: تشبيه أهل البيت في هذا الحديث يقتضى أن محبة أهل البيت واتباعهم كلهم غير ضروري في النجاة، لأن أحدا لو تمكن من زاوية من السفينة تحصل له النجاة من الغرق بلا شبهة، بل كذلك الدوران في السفينة بأن لا يجلس في مكان واحد، فالشيعة إذا كانوا متمسكين ببعض أهل البيت ومتبعين لهم يكونون ناجين بلا شبهة فقد اندفع طعن أهل السنة عليهم بإنكارهم لبعض أهل البيت.
وأجاب عنه أهل السنة بوجهين: الأول بطريق النقض بأن الإمامية لابد لهم أن لا يعتقدوا على هذا التقرير أن الزيدية والكيسانية والناوسية والأفطحية وأمثالهم من فرق الشيعة ضالون هالكون في الآخرة، بل ينبغي أن يعتقدوا فلاحهم ونجاتهم، لأن كلا من هذه الفرق وأمثالهم آخذون زاوية من هذه السفينة الوسيعة ومتخذون فيها مكانهم، والزاوية الواحدة من تلك السفينة كافية للنجاة عن الغرق، بل التعيين بالأئمة الاثني عشر صار مخدوشا على هذا التقرير، إذ الكفاية بزاوية واحدة من السفينة في النجاة من الغرق
(1) تقدم
(2)
ضعفه ابن كثير في تفسيره وابن حجر في ذخيرة الحفاظ، ووضعه الألبانى في ضعيف الجامع: 1/ 1974.