الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفَثَهُمْ، أَيْ: لِيُزِيلُوا أَدْرَانَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَالِاسْتِحْدَادِ وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: قَضَاءُ التَّفَثِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ كُلُّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ وَأَخْذُ الشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وقلم الأظفار. وقيل: التفث ههنا رَمْيُ الْجِمَارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا نَعْرِفُ التَّفَثَ وَمَعْنَاهُ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ نَذْرَ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَمَا يُنْذِرُ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ أَيْ: لِيُتِمُّوهَا بِقَضَائِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْخُرُوجَ عَمَّا وجب عليه نذرا ولم يَنْذِرْ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَفَّى بِنَذْرِهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (وَلِيُوَفُّوا) بِنَصْبِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الفاء {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] أَرَادَ بِهِ الطَّوَافَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، وَالطَّوَافُ ثَلَاثَةُ، طَوَافُ الْقُدُومِ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا يَرْمُلُ ثَلَاثًا مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ وَيَمْشِي أَرْبَعًا، وَهَذَا الطَّوَافُ سُنَّةٌ لَا شيء على من تركه. وَالطَّوَافُ الثَّانِي: هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، وَهُوَ وَاجِبٌ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنَ الْإِحْرَامِ مَا لَمْ يَأْتِ به. وَالطَّوَافُ الثَّالِثُ هُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ لَا رُخْصَةَ فِيهِ لِمَنْ أَرَادَ مُفَارَقَةَ مَكَّةَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَنْ يُفَارِقَهَا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا فَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إِلَّا الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ يَجُوزُ لَهَا ترك طواف الوداع. قوله:{بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] واختلفوا في معنى العتيق، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى تَخْرِيبِهِ، فَلَمْ يَظْهَرْ عليه جبار قط. وقال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ لَمْ يُمْلَكْ قَطُّ وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ وَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، يُقَالُ دِينَارٌ عَتِيقٌ أي قديم، وقيل: سمي عتيق لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْغَرَقِ فَإِنَّهُ رُفِعَ أَيَّامَ الطُّوفَانِ.
[30]
{ذَلِكَ} [الحج: 30] أَيِ: الْأَمْرُ ذَلِكَ يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج: 30] أَيْ مَعَاصِي اللَّهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حُرُمَاتُ اللَّهِ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ وَحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أن معنى الحرمات ههنا المناسك بدليل مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وقال ابن زيد: الحرمات ههنا الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْإِحْرَامُ. {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] أَيْ: تَعْظِيمُ الْحُرُمَاتِ، خَيْرٌ لَهُ عند الله في الآخرة، {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} [الحج: 30] أَنْ تَأْكُلُوهَا إِذَا ذَبَحْتُمُوهَا وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: 30] تَحْرِيمُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المَائِدَةِ: 3] الْآيَةَ، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] أَيْ: عِبَادَتَهَا، يَقُولُ: كُونُوا عَلَى جَانِبٍ مِنْهَا فَإِنَّهَا رِجْسٌ، أَيْ: سَبَبُ الرِّجْسِ، وَهُوَ الْعَذَابُ وَالرِّجْسُ: بِمَعْنَى الرِّجْزِ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: (مِنْ) ههنا لِلتَّجْنِيسِ أَيْ: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي هِيَ رِجْسٌ، {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] يَعْنِي: الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ. وَقَالَ ابْنُ مسعود: شهادة الزور، وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تملكه وما ملك.
[قوله تعالى حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ]
بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ. . . .
[31]
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج: 31] مُخْلِصِينَ لَهُ، {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا فِي الشِّرْكِ يَحُجُّونَ وَيُحْرِمُونَ الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ حُنَفَاءَ، فَنَزَلَتْ:{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 31] أَيْ: حُجَّاجًا لِلَّهِ مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ يَعْنِي: مَنْ أَشْرَكَ لَا يَكُونُ حَنِيفًا. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ} [الحج: 31] أي: سقط، {مِنَ السَّمَاءِ} [الحج: 31] إلى الأرض،
{فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج: 31] أَيْ: تَسْتَلِبُهُ الطَّيْرُ وَتَذْهَبُ بِهِ، وَالْخَطْفُ وَالِاخْتِطَافُ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَتَخَطَّفُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ يَتَخَطَّفُهُ، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} [الحج: 31] أَيْ: تَمِيلُ وَتَذْهَبُ بِهِ، {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] أي: بعيد معناه أن بعد من أشرك بالحق كَبُعْدِ مَنْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ فَذَهَبَتْ بِهِ الطَّيْرُ، أَوْ هَوَتْ به الريح، فلا يصل بِحَالٍ. وَقِيلَ: شَبَّهَ حَالَ الْمُشْرِكِ بِحَالِ الْهَاوِي مِنَ السَّمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ حِيلَةً حَتَّى يَقَعَ بِحَيْثُ تُسْقِطُهُ الرِّيحُ، فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ إِمَّا بِاسْتِلَابِ الطَّيْرِ لَحْمَهُ وَإِمَّا بِسُقُوطِهِ إِلَى الْمَكَانِ السَّحِيقِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَ أَعْمَالَ الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الْحَالِ فِي أَنَّهَا تَذْهَبُ وَتَبْطُلُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
[32]
{ذَلِكَ} [الحج: 32] يَعْنِي: الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ اجْتِنَابِ الرِّجْسِ وَقَوْلِ الزُّورِ، {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَعَائِرُ اللَّهِ الْبُدْنُ وَالْهَدْيُ وَأَصْلُهَا مِنَ الْإِشْعَارِ وهو إعلامها ليعلم أَنَّهَا هَدْيٌ وَتَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا، وَقِيلَ: شَعَائِرُ اللَّهِ أَعْلَامُ دِينِهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، أَيْ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.
[33]
{لَكُمْ فِيهَا} [الحج: 33] أَيْ: فِي الْبُدْنِ قَبْلَ تَسْمِيَتِهَا للهدى، {مَنَافِعُ} [الحج: 33] فِي دَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَرُكُوبِ ظُهُورِهَا، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] وَهُوَ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَيُوجِبَهَا هَدْيًا فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَرَوَاهُ مُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَكُمْ فِي الْهَدَايَا مَنَافِعُ بَعْدَ إِيجَابِهَا وَتَسْمِيَتِهَا هَدْيًا بِأَنْ تَرْكَبُوهَا وَتَشْرَبُوا أَلْبَانَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، يَعْنِي إِلَى أَنْ تَنْحَرُوهَا وَهُوَ قَوْلُ عطاء ابن أبي رباح. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِالشَّعَائِرِ الْمَنَاسِكَ وَمُشَاهَدَةَ مَكَّةَ، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ بِالتِّجَارَةِ وَالْأَسْوَاقِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ. لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ بِالْأَجْرِ وَالثَّوَابِ فِي قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، أَيْ: إِلَى انْقِضَاءِ أَيَّامِ الحج، {ثُمَّ مَحِلُّهَا} [الحج: 33] أَيْ: مَنْحَرُهَا، {إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] أَيْ: مَنْحَرُهَا عِنْدَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، يُرِيدُ أَرْضَ الْحَرَمِ كُلَّهَا، كَمَا قَالَ:{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التَّوْبَةِ: 28] أَيِ: الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَحَرْتُ ههنا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ» (1) . وَمَنْ قَالَ: الشَّعَائِرُ الْمَنَاسِكُ قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] أَيْ: مَحِلُّ النَّاسِ مِنْ إِحْرَامِهِمْ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أَيْ: أَنْ يَطُوفُوا بِهِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النحر.
[34]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} [الحج: 34] يعني جَمَاعَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلَفَتْ قَبْلَكُمْ، {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 34] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ ههنا وَفِي آخِرِ السُّورَةِ، عَلَى مَعْنَى الاسم مثل المسجد والمطلع، يعني مَذْبَحًا وَهُوَ مَوْضِعُ الْقُرْبَانِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى الْمَصْدَرِ، مثل المدخل والمخرج يعني إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ وَذَبْحُ الْقَرَابِينَ، {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] عِنْدَ نَحْرِهَا وَذَبْحِهَا وَسَمَّاهَا بَهِيمَةً لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ، وَقَالَ:{بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34] وَقَيَّدَهَا بِالنَّعَمِ لِأَنَّ مِنَ الْبَهَائِمِ مَا لَيْسَ مِنَ الْأَنْعَامِ كَالْخَيْلِ والبغال والحمير، لا يجوز ذبحها فِي الْقَرَابِينَ. {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الحج: 34] أَيْ: سَمُّوا عَلَى الذَّبَائِحِ اسْمَ اللَّهِ وَحْدَهُ فَإِنَّ إِلَهَكُمْ إِلَهٌ واحد، {فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج: 34] انقادوا وأطيعوا، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: الْمُتَوَاضِعِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُطْمَئِنِّينَ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَالْخَبْتُ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْخَاشِعِينَ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الْمُخْلِصِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمر بْنُ أَوْسٍ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ وَإِذَا ظُلِمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا.
(1) أخرجه مسلم في الحج رقم (1218) 2 / 893 والمصنف في شرح السنة 7 / 150.
[35]
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج: 35] مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمَصَائِبِ، {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الحج: 35] أَيِ: الْمُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 35] أي: يتصدقون.
[36]
{وَالْبُدْنَ} [الحج: 36] جَمْعُ بَدَنَةٍ سُمِّيَتْ بَدَنَةً لِعِظَمِهَا وَضَخَامَتِهَا يُرِيدُ الْإِبِلَ الْعِظَامَ الصِّحَاحَ الْأَجْسَامِ، يُقَالُ: بَدُنَ الرَّجُلُ بُدْنًا وَبَدَانَةً إِذَا ضَخُمَ، فَأَمَّا إِذَا سن وَاسْتَرْخَى يُقَالُ: بَدَنَ تَبْدِينًا. قَالَ عطاء والسدي: البُدن البقر أَمَّا الْغَنَمُ فَلَا تُسَمَّى بَدَنَةً.
{جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] مِنْ أَعْلَامِ دِينِهِ، سُمِّيَتْ شَعَائِرَ لِأَنَّهَا تُشْعِرُ، وَهُوَ أَنْ تُطعن بِحَدِيدَةٍ فِي سَنَامِهَا فَيُعْلَمَ أَنَّهَا هدي، {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] النَّفْعُ فِي الدُّنْيَا وَالْأَجْرُ فِي الْعُقْبَى، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج: 36] أي: عند نحرها، {صَوَافَّ} [الحج: 36] أَيْ: قِيَامًا عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ قد صفت رجلها وَإِحْدَى يَدَيْهَا وَيَدُهَا الْيُسْرَى مَعْقُولَةٌ فينحرها كذلك. وقرأ أبي الحسن وَمُجَاهِدٌ (صَوَافِي) بِالْيَاءِ أَيْ صَافِيَةً خَالِصَةً لِلَّهِ لَا شَرِيكَ لَهُ فيها، {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] يعني: سَقَطَتْ بَعْدَ النَّحْرِ فَوَقَعَتْ جُنُوبُهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَأَصِلُ الْوُجُوبِ: الْوُقُوعُ. يُقَالُ: وَجَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا سَقَطَتْ للمغيب، {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] أَمْرُ إِبَاحَةٍ، {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُمَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ: الْقَانِعُ الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ الْمُتَعَفِّفُ يَقْنَعُ بِمَا يُعطى ولا يسأل، والمعترّ الَّذِي يَسْأَلُ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَانِعُ الَّذِي لَا يعترض وَلَا يَسْأَلُ، فَعَلَى هَذَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ الْقَانِعُ مِنَ الْقَنَاعَةِ يُقَالُ: قنع قانعة إِذَا رَضِيَ بِمَا قُسم لَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: الْقَانِعُ الَّذِي يَسْأَلُ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ، فَيَكُونُ القانع من قنع قنوعًا إذا سأل. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْقَانِعُ الْمِسْكِينُ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي لَيْسَ بِمِسْكِينٍ، وَلَا يَكُونُ لَهُ ذَبِيحَةٌ يَجِيءُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَتَعَرَّضُ لَهُمْ لِأَجْلِ لَحْمِهِمْ. {كَذَلِكَ} [الحج: 36] يعني: مِثْلُ مَا وَصَفْنَا مِنْ نَحْرِهَا قيامًا {سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ} [الحج: 36] نِعْمَةً مِنَّا لِتَتَمَكَّنُوا مِنْ نَحْرِهَا، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36] لكي تشكروا إنعامي عَلَيْكُمْ.
[37]
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] وذلك أن الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا نَحَرُوا الْبُدْنَ لَطَّخُوا الْكَعْبَةَ بِدِمَائِهَا قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] قَرَأَ يَعْقُوبُ (تَنَالُ وَتَنَالُهُ) بِالتَّاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالْيَاءِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: لَنْ يُرفع إِلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] وَلَكِنْ تُرَفَعُ إِلَيْهِ مِنْكُمُ الْأَعْمَالُ الصالحة والتقوى، والإخلاص وما أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج: 37] يَعْنِي: الْبُدْنَ، {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] أَرْشَدَكُمْ لِمَعَالِمِ دِينِهِ وَمَنَاسِكِ حَجِّهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى