‌[قوله تعالى وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا] - مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل - جـ ٥

[58]

قَوْلُهُ عز وجل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [القصص: 58] أَيْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] أَيْ فِي مَعِيشَتِهَا، أَيْ أَشَرَّتْ وَطَغَتْ، قَالَ عَطَاءٌ: عَاشُوا فِي الْبَطَرِ فَأَكَلُوا رِزْقَ اللَّهِ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ، {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص: 58] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَمْ يَسْكُنْهَا إِلَّا الْمُسَافِرُونَ وما رأوا الطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً، مَعْنَاهُ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا سُكُونًا قَلِيلًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يُعَمَّرْ مِنْهَا إِلَّا أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا خراب، {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58] كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مَرْيَمَ: 40]

[59]

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} [القصص: 59] أي القرى الكافر أَهْلُهَا، {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59] يَعْنِي فِي أَكْبَرِهَا وَأَعْظَمِهَا رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ وَخَصَّ الْأَعْظَمَ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ فِيهَا لِأَنَّ الرَّسُولَ يُبْعَثُ إِلَى الْأَشْرَافِ وَالْأَشْرَافُ يَسْكُنُونَ الْمَدَائِنَ، وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي هِيَ أُمُّ مَا حَوْلَهَا، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص: 59] قَالَ مُقَاتِلٌ: يُخْبِرُهُمُ الرَّسُولُ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] مشركون، يريد أهلكهم بظلمهم.

‌

‌[قوله تعالى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]

وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ. . . .

[60]

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} [القصص: 60] تَتَمَتَّعُونَ بِهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ ثُمَّ هِيَ إِلَى فَنَاءٍ وَانْقِضَاءٍ، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60] أَنَّ الْبَاقِيَ خَيْرٌ مِنَ الْفَانِي، قَرَأَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ:(تَعْقِلُونَ) بِالتَّاءِ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّاءِ وَالْيَاءِ.

[61]

{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} [القصص: 61] أي الجنة، {فَهُوَ لَاقِيهِ} [القصص: 61] مُصِيبُهُ وَمُدْرِكُهُ وَصَائِرٌ إِلَيْهُ، {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص: 61] وَيَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61] النَّارَ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَعْلَيٍّ وَأَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

[62]

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ شُرَكَائِي.

[63]

{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص: 63] أوجب عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَهُمْ رُءُوسُ الضَّلَالَةِ، {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} [القصص: 63] أي دعونا إِلَى الْغَيِّ وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] أَضْلَلْنَاهُمْ كَمَا ضَلَلْنَا، {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} [القصص: 63] مِنْهُمْ، {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] بَرِئَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَصَارُوا أَعْدَاءً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزُّخْرُفِ: 67]

[64]

{وَقِيلَ} [القصص: 64] للكفار، {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} [القصص: 64] أَيِ الْأَصْنَامَ لِتُخَلِّصَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص: 64] لم يُجِيبُوهُمْ، {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص: 64] وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا مَا رَأَوُا الْعَذَابَ.

[65]

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص: 65] أَيْ يَسْأَلُ اللَّهُ الْكُفَّارَ، {فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]

[66]

{فَعَمِيَتْ} [القصص: 66] خفيت واشتبهت، {عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} [القصص: 66] أَيِ الْأَخْبَارُ وَالْأَعْذَارُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الحجج، {يَوْمئِذٍ} [القصص: 66] فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا حجة، {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 66] لَا يُجِيبُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَحْتَجُّونَ، وَقِيلَ: يَسْكُتُونَ لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.

[67]

. {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] من السُّعَدَاءِ النَّاجِينَ.

[68]

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا لِلْمُشْرِكِينَ حِينَ قَالُوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ أَوْ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الرُّسُلَ بِاخْتِيَارِهِمْ. قَوْلُهُ عز وجل:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] قِيلَ: (مَا) لِلْإِثْبَاتِ، مَعْنَاهُ: وَيَخْتَارُ اللَّهُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، أَيْ يَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ وَالْخَيْرُ. وَقِيلَ: هُوَ لِلنَّفْيِ أَيْ ليس إليهم الاختيار أو ليس لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا عَلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: