الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلُهُ عز وجل: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وَفِي حَرْفِ أُبَيّ (وَأَزْوَاجُهُ وَأُمَّهَاتُهُمْ) ، وهو لَهُمْ وَهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَعْظِيمِ حَقِّهِنَّ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِهِنَّ عَلَى التَّأْبِيدِ، لَا فِي النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ وَالْخَلْوَةِ بِهِنَّ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي حَقِّهِنَّ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ النَّاسِ، فَكَانَ يُؤَاخِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الْآخَرُ دُونَ عَصَبَتِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] في حكم الله و {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6] الَّذِينَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، {وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] يَعْنِي ذَوِي الْقَرَابَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ مِنْ أَنْ يَرِثَ بالإيمان والهجرة، نسخت هذه الآية الموارثة بالمآخاة والهجرة وصارت القرابة. قَوْلُهُ:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] أَرَادَ بِالْمَعْرُوفِ الْوَصِيَّةَ لِلَّذِينِ يَتَوَلَّوْنَهُ مِنَ الْمُعَاقِدَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا نَسَخَ التَّوَارُثَ بِالْحَلِفِ وَالْهِجْرَةِ أَبَاحَ أَنْ يُوصِيَ الرَّجُلُ لِمَنْ يَتَوَلَّاهُ بِمَا أَحَبَّ مِنْ ثُلُثِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْمَعْرُوفِ النُّصْرَةَ وحفظ الحرمة لحق الإيمان بالهجرة. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْآيَةِ إِثْبَاتَ الْمِيرَاثِ بالإيمان والهجرة، يعني وأولو الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ، أَيْ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَلَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَغَيْرِ الْمُهَاجِرِ إِلَّا أَنْ تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يعني إِلَّا أَنْ تُوصُوا لِذَوِي قَرَابَاتِكُمْ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ. {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] أي كان الذي ذكر مِنْ أَنَّ أُولِي الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَسْطُورًا مَكْتُوبًا. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: فِي التوراة.
[قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ]
وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا. . .
[7]
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا حَمَلُوا وَأَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُبَشِّرَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَخَذَ مِيثَاقَهَمْ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَيَدْعُوا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَيُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَنْصَحُوا لِقَوْمِهِمْ، {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] خَصَّ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةَ بِالذِّكْرِ مِنْ النَّبِيِّينَ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ وأولوا العزم من الرسل {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] عَهْدًا شَدِيدًا عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا حُمِّلُوا.
[8]
{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8] يقول: أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين يَعْنِي النَّبِيِّينَ عَنْ تَبْلِيغِهِمِ الرِّسَالَةَ وَالْحِكْمَةُ فِي سُؤَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ أنهم صادقون لتبكيت مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لِيَسْأَلَ الصادقين عن علمهم لِلَّهِ عز وجل. وَقِيلَ: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ بِأَفْوَاهِهِمْ عَنْ صِدْقِهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ. {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب: 8]
[9]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 9] وَذَلِكَ حِينَ حُوصِرَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّامَ الْخَنْدَقِ، {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] يَعْنِي الْأَحْزَابَ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَيَهُودُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9] وهي الصَّبَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» (1) .
قَوْلُهُ تعالى: {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رِيحًا بَارِدَةً فَقَلَعَتِ الْأَوْتَادَ وَقَطَعَتْ أَطْنَابَ الْفَسَاطِيطِ وَأَطْفَأَتِ النِّيرَانَ وَأَكْفَأَتِ الْقُدُورَ، وَجَالَتِ الْخَيْلُ بَعْضُهَا في بعض فَانْهَزَمُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ. {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]
[10]
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب: 10] أي من فوق
(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء 2 / 52 ومسلم في الاستسقاء رقم (900) 2 / 617.
الْوَادِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَهُمْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَعَلَيْهِمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي أَلْفٍ مِنْ غَطَفَانَ وَمَعَهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ فِي بَنِي أَسَدٍ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ، {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 10] يَعْنِي مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مِنْ قبل الغرب، وَهُمْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي قُرَيْشٍ ومن تبعه، وأبو الأعور بْنُ سُفْيَانَ السُّلَمِيُّ مِنْ قِبَلِ الخندق، وكان السبب الَّذِي جَرَّ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ فِيمَا قِيلَ إِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ ، {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} [الأحزاب: 10] مَالَتْ وَشَخَصَتْ مِنَ الرُّعْبِ، وَقِيلَ: مالت عن الشيء فَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى عَدُوِّهَا، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] فَزَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا حَتَّى بَلَغَتِ الحلوق مات الْفَزَعِ، وَالْحَنْجَرَةُ جَوْفُ الْحُلْقُومِ وَهَذَا عَلَى التَّمْثِيلِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَبُنُوا وَسَبِيلُ الْجَبَانِ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُ أَنْ تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فَإِذَا انْتَفَخَتِ الرِّئَةُ رَفَعَتِ الْقَلْبَ إِلَى الْحَنْجَرَةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْجَبَانِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] أَيْ اخْتَلَفَتِ الظُّنُونُ فَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ اسْتِئْصَالَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، وَظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ لَهُمْ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَأَبُو بكر: الظنونا والرسولا والسبيلا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَصْلًا وَوَقْفًا لِأَنَّهَا مثبتة في المصاحف بالألف، وَقَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ بِغَيْرِ الْأَلْفِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ لِمُوَافَقَةِ رُءُوسِ الْآيِ.
[11]
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ} [الأحزاب: 11] أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ اخْتُبِرَ، {الْمُؤْمِنُونَ} [الأحزاب: 11] بِالْحَصْرِ وَالْقِتَالِ لِيَتَبَيَّنَ الْمُخْلِصُ مِنَ المنافق، {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] حُرِّكُوا حَرَكَةً شَدِيدَةً.
[12]
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 12] مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 12] شَكٌّ وَضَعْفُ اعْتِقَادٍ، {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ النِّفَاقِ: يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ فَتْحَ قُصُورِ الشَّامِ وَفَارِسَ وَأَحَدُنَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُجَاوِزَ رَحْلَهُ، هَذَا وَاللَّهِ الْغُرُورُ.
[13]
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب: 13] أَيْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13] يَعْنِي الْمَدِينَةَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يثرب، وقال: هي مَدِينَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُسَمَّى الْمَدِينَةُ يَثْرِبَ، وَقَالَ:"هِيَ طابة"، كأنه كره هذا اللفظ {لَا مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] قَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ لَا مَكَانَ لَكُمْ تَنْزِلُونَ وَتُقِيمُونَ فِيهِ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَحَفْصٌ بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ لا إقامة لكم، {فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13] إِلَى مَنَازِلِكُمْ عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: عَنِ الْقِتَالِ إِلَى مَسَاكِنِكُمْ، {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} [الأحزاب: 13]