الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بلقيس، فَقَرَأَتِ الْكِتَابَ وَتَأَخَّرَ الْهُدْهُدُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَجَاءَتْ حَتَّى قَعَدَتْ عَلَى سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها.
[29]
{قَالَتْ} [النمل: 29] لَهُمْ بِلْقِيسُ، {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [النمل: 29] وَهُمْ أَشْرَافُ النَّاسِ وَكُبَرَاؤُهُمْ {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] قَالَ عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ: سَمَّتْهُ كَرِيمًا لأنه كان مختوما، وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: كِتَابٌ كَرِيمٌ أي حسن، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَرِيمٌ أَيْ شَرِيفٌ لِشَرَفِ صَاحِبِهِ، وَقِيلَ: سَمَّتْهُ كَرِيمًا لِأَنَّهُ كَانَ مُصَدَّرًا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ بينت الْكِتَابُ.
[30]
فَقَالَتْ: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] وَبَيَّنَتِ الْمَكْتُوبَ فَقَالَتْ {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]
[31]
{أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا تَتَكَبَّرُوا عَلَيَّ. وَقِيلَ: لَا تَتَعَظَّمُوا ولا تترفعوا علي. وقيل: معناه لا تمتنعوا علي مِنَ الْإِجَابَةِ، فَإِنَّ تَرْكَ الْإِجَابَةِ مِنَ الْعُلُوِّ وَالتَّكَبُّرِ، {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ. قِيلَ: هُوَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الِاسْتِسْلَامِ.
[32]
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} [النمل: 32] أَشِيرُوا عَلَيَّ فِيمَا عَرَضَ لِي وَأَجِيبُونِي فِيمَا أُشَاوِرُكُمْ فِيهِ، {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً} [النمل: 32] قَاضِيَةً وَفَاصِلَةً، {أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32] أي تحضرون.
[33]
{قَالُوا} [النمل: 33] مُجِيبِينَ لَهَا، {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ} [النمل: 33] فِي الْقِتَالِ، {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل: 33] عِنْدَ الْحَرْبِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادُوا بِالْقُوَّةِ كَثْرَةَ الْعَدَدِ وَبِالْبَأْسِ الشَّدِيدِ الشَّجَاعَةَ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ مِنْهُمْ بِالْقِتَالِ إِنْ أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالُوا، {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل: 33] أَيَّتُهَا الْمَلِكَةُ فِي الْقِتَالِ وَتَرْكِهِ، {فَانْظُرِي} [النمل: 33] من الرأي، {مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] تجدين لأمرك مطيعين.
[34]
{قَالَتْ} [النمل: 34] بِلْقِيسُ مُجِيبَةً لَهُمْ عَنِ التَّعْرِيضِ لِلْقِتَالِ، {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} [النمل: 34] عنوة، {أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] خَرَّبُوهَا، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] أَيْ أَهَانُوا أَشْرَافَهَا وَكُبَرَاءَهَا، كَيْ يَسْتَقِيمَ لَهُمُ الْأَمْرُ تُحَذِّرُهُمْ مَسِيرَ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِمْ وَدُخُولَهُ بِلَادَهُمْ، وَتَنَاهَى الْخَبَرُ عَنْهَا هَاهُنَا، فَصَدَّقَ اللَّهُ قولها فقال:{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] أَيْ كَمَا قَالَتْ هِيَ يَفْعَلُونَ.
[35]
ثُمَّ قَالَتْ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل: 35] وَالْهَدِيَّةُ هِيَ الْعَطِيَّةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُلَاطَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ بِلْقِيسَ كَانَتِ امْرَأَةً لَبِيبَةً قَدْ سَيِسَتْ وَسَاسَتْ، فَقَالَتْ لِلْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهَا: إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ أَيْ إِلَى سُلَيْمَانَ وَقَوْمِهِ بِهَدِيَّةٍ أُصَانِعُهُ بِهَا عَنْ مُلْكِي وَأَخْتَبِرُهُ بِهَا أَمَلِكٌ هُوَ أَمْ نَبِيٌّ؟ فَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا قَبِلَ الْهَدِيَّةَ وَانْصَرَفَ، وَإِنْ كَانَ نَبيًا لَمْ يَقْبَلِ الْهَدِيَّةَ وَلَمْ يُرْضِهِ مِنَّا إِلَّا أَنْ نَتَّبِعَهُ عَلَى دِينِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] فأهدت إليه، فَانْطَلَقَ الرَّسُولُ بِالْهَدَايَا، وَأَقْبَلَ الْهُدْهُدُ مُسْرِعًا إِلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ كله، ثم رد سليمان الهدية.
[قوله تَعَالَى فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ]
فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. . . .
[36]
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِ اللَّهُ} [النمل: 36] أَعْطَانِيَ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدِّينِ والحكمة والملك، {خَيْرٌ} [النمل: 36] أَفْضَلُ، {مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] لِأَنَّكُمْ أَهْلُ مُفَاخَرَةٍ فِي الدُّنْيَا وَمُكَاثَرَةٍ بِهَا تَفْرَحُونَ بِإِهْدَاءِ بَعْضِكُمْ إلى بعض، فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَفْرَحُ بِهَا وَلَيْسَتِ الدُّنْيَا مِنْ حَاجَتِي لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ مَكَّنَنِي فِيهَا وَأَعْطَانِي مِنْهَا مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا، وَمَعَ ذَلِكَ أَكْرَمَنِي بِالدِّينِ وَالنُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو وَأَمِيرِ الْوَفْدِ.
[37]
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 37] بِالْهَدِيَّةِ {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ} [النمل: 37] لَا طَاقَةَ لَهُمْ، {بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} [النمل: 37] أَيْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَهِيَ سبأ، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] ذَلِيلُونَ إِنْ لَمْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ وَهْبٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ: فَلَمَّا رَجَعَتْ رُسُلُ بِلْقِيسَ إِلَيْهَا مِنْ عِنْدِ سُلَيْمَانَ قَالَتْ: قَدْ عَرَفْتُ وَاللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ وَمَا لَنَا بِهِ طَاقَةٌ، فَبَعَثَتْ إِلَى سُلَيْمَانَ: إِنِّي قَادِمَةٌ عَلَيْكَ بِمُلُوكِ قَوْمِي حَتَّى أَنْظُرَ مَا أَمَرُكَ وَمَا
تدعو إليه من دينك فَأَقْبَلَ سُلَيْمَانُ حِينَئِذٍ عَلَى جُنُودِهِ.
[38]
{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] أَيْ مُؤْمِنِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَائِعِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ سُلَيْمَانُ بِإِحْضَارِ عَرْشِهَا، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لِأَنَّ سُلَيْمَانَ عَلِمَ أَنَّهَا إِنْ أَسْلَمَتْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مالها فأراد يَأْخُذَ سَرِيرَهَا قَبْلَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ بِإِسْلَامِهَا، وَقِيلَ: لِيُرِيَهَا قدرة الله وَعِظَمَ سُلْطَانِهِ فِي مُعْجِزَةٍ يَأْتِي بِهَا فِي عَرْشِهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: لِأَنَّهُ أَعْجَبَتْهُ صِفَتُهُ لَمَّا وَصَفَهُ الْهُدْهُدُ فَأَحَبَّ أَنْ يَرَاهُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ بتنكره وَتَغْيِيرِهِ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ عَقْلَهَا.
[39]
{قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ} [النمل: 39] وهو المارد القوي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعِفْرِيتُ الدَّاهِيَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ - هُوَ الْخَبِيثُ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الْغَلِيظُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ، وَقِيلَ. هُوَ صَخْرَةُ الْجِنِّيِّ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ جَبَلٍ يَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل: 39] أَيْ مِنْ مَجْلِسِكَ الَّذِي تَقْضِي فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ لَهُ كُلَّ غَدَاةٍ مَجْلِسٌ يَقْضِي فيه إلى متسع النهار، {وَإِنِّي عَلَيْهِ} [النمل: 39] أَيْ عَلَى حَمْلِهِ {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ هذا.
[40]
فـ {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40] وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جِبْرِيلُ. وَقِيلَ: هُوَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ سليمان. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ آصَفُ بن برخيا، وَكَانَ صَدِيقًا يَعْلَمُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّمَا هُوَ سُلَيْمَانُ، قَالَ لَهُ عَالِمٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَفَهْمًا:{أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] قَالَ سُلَيْمَانُ: هَاتِ، قَالَ أَنْتَ النَّبِيُّ ابْنُ النَّبِيِّ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَوْجَهَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْكَ فَإِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ وَطَلَبْتَ إِلَيْهِ كَانَ عِنْدَكَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَجِيءَ بِالْعَرْشِ فِي الْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. يَعْنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْكَ أَقْصَى مَنْ تَرَى، وَهُوَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ مَنْ كَانَ مِنْكَ عَلَى مَدِّ بَصَرِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ الشَّخْصُ مِنْ مَدِّ الْبَصَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي إِدَامَةَ النَّظَرِ حَتَّى يَرْتَدَّ الطَّرْفُ خاسئا. قال وَهَبٌ: تَمُدُّ عَيْنَيْكَ فَلَا يَنْتَهِي طَرْفُكَ إِلَى مَدَاهُ، حَتَّى أُمَثِّلَهُ بين يديك {فَلَمَّا رَآهُ} [النمل: 40] يَعْنِي رَأَى سُلَيْمَانُ الْعَرْشَ، {مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل: 40] مَحْمُولًا إِلَيْهِ مِنْ مَأْرِبَ إِلَى الشَّامِ فِي قَدْرِ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ، {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ} [النمل: 40] نعمه، {أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] فَلَا أَشْكُرُهَا، {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40] أَيْ يُعُودُ نَفْعُ شُكْرِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْجِبَ بِهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ وَدَوَامَهَا، لِأَنَّ الشُّكْرَ قَيْدُ النِّعْمَةِ الْمَوْجُودَةِ وَصَيْدُ النِّعْمَةِ الْمَفْقُودَةِ، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} [النمل: 40] عن شكره {كَرِيمٌ} [النمل: 40] بأفضال على من يكفر نعمه.
[41]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] يَقُولُ: غَيَّرُوا سَرِيرَهَا إِلَى حَالٍ تُنْكِرُهُ إِذَا رَأَتْهُ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ أَنْ يُزَادَ فِيهِ وينقص منه، وَرُوِيَ أَنَّهُ جَعَلَ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ وَأَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَ الْجَوْهَرِ الْأَحْمَرِ أَخْضَرَ وَمَكَانَ الْأَخْضَرِ أَحْمَرَ، {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي} [النمل: 41] إِلَى عَرْشِهَا فَتَعْرِفُهُ، {أَمْ تَكُونُ مِنَ} [النمل: 41] الجاهلين، {الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] إليه، إنما حَمَلَ سُلَيْمَانُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ وَهْبٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ الشَّيَاطِينَ خَافَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا سُلَيْمَانُ فَتُفْشِي إِلَيْهِ أَسْرَارَ الْجِنِّ وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهَا كَانَتْ جِنِّيَّةً، وَإِذَا وَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ تَسْخِيرِ سُلَيْمَانَ وذريته من بعده، فأساؤوا الثَّنَاءَ عَلَيْهَا لِيُزَهِّدُوهُ فِيهَا وَقَالُوا: إِنَّ فِي عَقْلِهَا شَيْئًا وَإِنَّ رِجْلَهَا كَحَافِرِ الْحِمَارِ وَأَنَّهَا شَعْرَاءُ السَّاقَيْنِ فَأَرَادَ سُلَيْمَانُ أَنْ يَخْتَبِرَ عَقْلَهَا بِتَنْكِيرِ عَرْشِهَا، وَيَنْظُرَ إِلَى قَدَمَيْهَا بِبِنَاءِ الصَّرْحِ.
[42]
{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ} [النمل: 42] لها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] قَالَ مُقَاتِلٌ: عَرَفَتْهُ لَكِنَّهَا شَبَّهَتْ عَلَيْهِمْ كَمَا شَبَّهُوا عَلَيْهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ حَكِيمَةً لَمْ تَقُلْ نَعَمْ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكْذِبَ، وَلَمْ تَقُلْ لَا خَوْفًا مِنَ التَّكْذِيبِ، قَالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ كَمَالَ عَقْلِهَا حَيْثُ لَمَّ تُقِرَّ وَلَمْ تُنْكِرْ وَقِيلَ: اشْتَبَهَ عَلَيْهَا أَمْرُ الْعَرْشِ لِأَنَّهَا تَرَكَتْهُ فِي بَيْتٍ خَلْفَ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مغلقة والمفاتيح معها، قيل لَهَا فَإِنَّهُ عَرْشُكِ فَمَا أَغْنَى عنك إغلاق الأبواب، فقالت:{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} [النمل: 42] بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمَانَ بِالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَمْرِ الْهَدِيَّةِ وَالرُّسُلِ، {مِنْ قَبْلِهَا} [النمل: 42] مِنْ قَبْلِ الْآيَةِ فِي الْعَرْشِ {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42] مُنْقَادِينَ طَائِعِينَ لِأَمْرِ سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ: قَوْلُهُ: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا} [النمل: 42] قَالَهُ سُلَيْمَانُ، يَقُولُ: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِاللَّهِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بِإِسْلَامِهَا وَمَجِيئِهَا طَائِعَةً مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهَا وَكُنَّا مسلمين طائعين لله.
[43]
قَوْلُهُ عز وجل: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 43] أَيْ مَنَعَهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُوَ الشَّمْسُ أَنْ تُعْبَدَ اللَّهَ، أَيْ صَدَّهَا عِبَادَةُ الشَّمْسِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ (مَا) فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ. وَقِيلَ: معناه ما صدها عن عبادة الله نُقْصَانُ عَقْلِهَا كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ: إِنَّ فِي عَقْلِهَا شَيْئًا بَلْ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَصَدَّهَا سُلَيْمَانُ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ الله أي منعها من ذَلِكَ وَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَيَكُونُ مَحَلُّ (مَا) نَصَبًا، {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43] هَذَا اسْتِئْنَافٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، فَنَشَأَتْ بَيْنَهُمْ وَلَمْ تَعْرِفْ إلا عبادة الشمس.
[44]
قوله: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل: 44] الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى قَدَمَيْهَا وَسَاقَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهَا كَشْفَهَا لَمَّا قَالَتِ الشَّيَاطِينُ: إِنَّ رِجْلَيْهَا كَحَافِرِ الْحِمَارِ وَهِيَ شَعْرَاءُ السَّاقَيْنِ، أَمَرَ الشَّيَاطِينِ فَبَنَوْا لَهُ صَرْحًا أَيْ قَصْرًا مِنْ زُجَاجٍ، وَقِيلَ: بَيْتًا مِنْ زُجَاجٍ كَأَنَّهُ الْمَاءُ بَيَاضًا وَقِيلَ: الصَّرْحُ صَحْنُ الدَّارِ وأجرى تحته الماء فَكَانَ الْوَاحِدُ إِذَا رَآهُ ظَنَّهُ مَاءً. وَقِيلَ: إِنَّمَا بَنَى الصَّرْحَ ليختبر عقلها وفهمها، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ، {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44] وَهِيَ مُعْظَمُ الْمَاءِ، {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44] لِتَخُوضَهُ إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَظَرَ سُلَيْمَانُ فَإِذَا هِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ قَدَمًا وَسَاقًا إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ شَعْرَاءَ السَّاقَيْنِ، فَلَمَّا رَأَى سُلَيْمَانُ ذَلِكَ {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} [النمل: 44] مملس مستو، {مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] وَلَيْسَ بِمَاءٍ، ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ دَعَاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ قَدْ رَأَتْ حَالَ الْعَرْشِ وَالصَّرْحَ فَأَجَابَتْ، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] بِالْكَفْرِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا رَأَتِ السَّرِيرَ وَالصَّرْحَ عَلِمَتْ أَنَّ مُلْكَ سُلَيْمَانَ مِنَ اللَّهِ