المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب الجماعة وفضلها] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

- ‌[بَابُ الْمَوْقِفِ]

- ‌[بَابُ الْإِمَامَةِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ]

- ‌[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ]

- ‌[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[بَابُ الْوَتْرِ]

- ‌[بَابُ الْقُنُوتِ]

- ‌[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى]

- ‌[بَابُ التَّطَوُّعِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ وُجُوبِهَا]

- ‌[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

- ‌[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَتِيرَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

- ‌[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ]

- ‌[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [

- ‌بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

- ‌[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

- ‌[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

- ‌[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

الفصل: ‌[باب الجماعة وفضلها]

3 -

ص: 830

1050 -

«وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً، لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهِمَا، وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا. يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

1050 -

(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً) أَيْ: رَكْعَتَيْنِ ; فَإِنَّهُمَا أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. (لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهِمَا) أَيْ: مُطْلَقًا ; أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا فِي الْبَيْتِ لِئَلَّا يُقْتَدَى بِهِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِهِ. (وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا) أَيْ: نَهْيًا عَامًّا (يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ مُعَاوِيَةُ بِهِمَا (الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ) : قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاتِرَةً بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ عَمِلَ بِذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى يَنْصَرِفَ مِنْ صِلَاتِهِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ ضَرْبُهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْمُتَقَرِّرَ بَعْدَهُ عليه السلام عَدَمُ جَوَازِهِمَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْعُذْرُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَهُمَا جَبْرًا لِمَا فَاتَهُ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، أَوْ قَبْلَ الْعَصْرِ حِينَ شُغِلَ عَنْهُمَا، وَكَانَ عليه السلام إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ ; فَدَاوَمَ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُمَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 830

1051 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: وَقَدْ صَعِدَ عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ: مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَزِينٌ

ــ

1051 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ) أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (وَقَدْ صَعِدَ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ (قَالَ) أَيْ طَلَعَ أَبُو ذَرٍّ (عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ) : الدَّرَجَةُ بِفَتْحَتَيْنِ هِيَ الْآنَ خَشَبٌ يُلْصَقُ لِبَابِ الْكَعْبَةِ لِيَرْقَى فِيهِ إِلَيْهَا مَنْ يُرِيدُ دُخُولَهَا، فَإِذَا قُفِلَتْ حُوِّلَ لِمَحَلٍّ آخَرَ قَرِيبٍ مِنَ الطَّوَافِ بِجَنْبِ زَمْزَمَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ كَذَلِكَ، وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ بِكَيْفِيَّةٍ أُخْرَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالدَّرَجَةِ عَتَبَةَ الْكَعْبَةِ. (مَنْ عَرَفَنِي) أَيْ: بِاسْمِي (فَقَدْ عَرَفَنِي) : بِوَصْفِي أَيْ صَدَّقَ لَهْجَتِي، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ عليه السلام فِي حَقِّهِ:" «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ» ". (وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبٌ) : بِضَمِّ الدَّالِ وَيُفْتَحُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اتِّحَادُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِلْإِشْعَارِ بِشُهْرَةِ صِدْقِ لَهْجَتِهِ، وَالشَّرْطِيَّةُ الثَّانِيَةُ تَسْتَدْعِي مُقَدَّرًا أَيْ: وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَلْيَعْلَمْ أَنِّي جُنْدُبٌ. (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ) أَيْ: بَعْدَ فَرْضِ الصُّبْحِ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ) أَيْ: فَرْضُهُ (حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ، إِلَّا بِمَكَّةَ) : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمَرَّتَانِ الْأَخِيرَتَانِ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام، أَوْ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَزِينٌ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: انْقِطَاعِ مَا بَيْنَ مُجَاهِدٍ وَأَبِي ذَرٍّ، فَإِنَّهُ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ ; وَضَعْفِ ابْنِ الْمُؤَمَّلِ، وَضَعْفِ حُمَيْدٍ مَوْلَى عَفْرَاءَ، وَاضْطِرَابِ سَنَدِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَأُدْخِلَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ بَيْنَ حُمَيْدٍ هَذَا وَبَيْنَ مُجَاهِدٍ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فَأَسْقَطَهُ مِنَ الْبَيْنِ، انْتَهَى. وَاعْتَرَفَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ سَنَدَهُ ضَعِيفٌ، لَكِنْ قَالَ: إِنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِحَدِيثِ: (يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ) وَفِيهِ أَنَّ حَدِيثَهُمْ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنِ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى حَسَبِ أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ ; فَسَدَّ هَذَا الْبَابَ عَلَيْهِمْ، وَأَطْلَقَ الْحُكْمَ مِنْ جِهَتِهِمْ وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهَةً لِنَهْيِهِ عليه السلام عَنْهَا، وَلِذَا أَضَافَ الْحُكْمَ إِلَيْهِمْ، وَخَصَّهُمْ بِالْخِطَابِ عَلَى وَجْهِ الْعِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 830

[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

ص: 830

[23]

بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1052 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

[23]

بَابُ الْجَمَاعَةِ

أَيْ: أَحْكَامُهَا وَآدَابُهَا. (وَفَضْلُهَا) أَيْ: زِيَادَةُ ثَوَابِهَا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1052 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ) أَيْ: تَزِيدُ فِي الثَّوَابِ (صَلَاةَ الْفَذِّ) : بِتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: الْفَرْدِ، بِمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ، أَيْ: عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَرَكَ الْجَمَاعَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ فَذَّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَيْ: انْفَرَدَ وَشَذَّ عَنْهُمْ، انْتَهَى. فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا بِعُذْرٍ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ الْجَمَاعَةِ. (بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " «أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» "، انْتَهَى. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ شَرْطَا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَا فَرْضَ عَيْنٍ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِمَنْ صَلَّى فَذًّا دَرَجَةٌ كَذَا قَالُوا، وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا عَلَى الْمَعْذُورِ، أَوْ يَقُولَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّرْغِيبُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَرْضِيَّةِ ; أَوِ الشَّرْطِيَّةُ لَهَا دَلِيلٌ آخَرُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ هَاهُنَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنْ نَقُولَ: عَرَفْنَا مِنْ تَفَاوُتِ الْفَضْلِ أَنَّ الزَّائِدَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ النَّاقِصِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَزِيدُ عِبَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا يُنْقِصُهُمْ مِنَ الْمَوْعِدِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَشَّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا بِمِقْدَارٍ مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَمُنُّ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ، فَبَشَّرَهُمْ بِهِ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا وَجْهُ قَصْرِ الْفَضِيلَةِ عَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ تَارَةً وَعَلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أُخْرَى، فَمَرْجِعُهُ إِلَى الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الْعُقَلَاءُ إِجْمَالًا، فَضْلًا عَنِ التَّفْصِيلِ، وَلَعَلَّ الْفَائِدَةَ فِيمَا كَشَفَ بِهِ حَضْرَةُ النُّبُوَّةِ هِيَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إِظْهَارِ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: أَنْ ذِكْرَ الْقَلِيلِ لَا يَنْفِي الْكَثِيرَ وَمَفْهُومَ اللَّقَبِ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُصَلِّي وَالصَّلَاةِ، فَلِبَعْضِهِمْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَلِبَعْضِهِمْ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ، بِحَسَبِ كَمَالِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى قِيَامِهَا، وَالْخُشُوعِ فِيهَا، وَشَرَفِ الْبُقْعَةِ، وَالْإِمَامِ اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ بِمُجَرَّدِ الْجَمَاعَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا ذُكِرَ، فَإِنَّ بَعْضَ الْبُقَعِ يَزِيدُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَالدَّرَجَاتُ بَيْنَ الْمُصَلِّينَ وَالصَّلَوَاتِ مُتَبَايِنَةٌ بَعِيدَةٌ، فَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ ; وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ عَلَى سُنِّيَّةِ الْجَمَاعَةِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَنَا، وَرَجَّحَهُ كَثِيرُونَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ لِلْخَبَرِ الْآتِي:

مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَخْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَا يَقْنَعُ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَتْرُكُ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً إِلَّا غَيْرُ مُصَدِّقٍ لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ سَفِيهٌ لَا يَهْتَدِي لِطَرِيقِ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ السَّبْعَةَ وَالْعِشْرِينَ تَحْصُلُ فِي جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُضَاعَفَةً فِي مِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ الْحَاصِلَةِ لِلْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا، وَصَحَّ حَدِيثُ:" «الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً» "، وَصَحَّ أَيْضًا:" «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِذَا صَلَّاهَا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَأَتَمَّ وُضُوءَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ صِلَاتُهُ خَمْسِينَ دَرَجَةً» "، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ:" «أَنَّ مَنْ بِالْفَلَاةِ إِنْ أَقَامَ صَلَّى مَعَهُ مَلَكَاهُ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ مَا لَا يُرَى طَرَفَاهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ:" «صَلَّتْ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ مَلَكٍ، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» "، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: صَلَّى وَرَاءَهُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.

ص: 831

1053 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ.

ــ

1053 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسِي) أَيْ: ذَاتِي أَوْ رُوحِي، يَعْنِي إِيجَادَهَا وَإِمْدَادَهَا (بِيَدِهِ) أَيْ: بِقَبْضَةِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ (لَقَدْ هَمَمْتُ) أَيْ: قَصَدْتُ وَأَرَدْتُ (أَنْ آمُرَ) أَيْ: بَعْضَ الْخَدَمِ لِمَا فِي رِوَايَةِ " فِتْيَتِي "(بِحَطَبٍ) أَيْ: يُجْمَعُ حَطَبٌ عَظِيمٌ (فَيُحْطَبُ) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ، وَفِي الْمَصَابِيحِ، فَيُحْتَطَبُ، أَيْ: فَيُجْمَعُ الْحَطَبُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: حَطَبْتُ الْحَطَبَ وَاحْتَطَبْتُهُ أَيْ: جَمَعْتُهُ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: فَيُحْطَبُ كَذَا وَجَدْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَالْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَشُعَبِ الْإِيمَانِ (ثُمَّ آمُرَ) : بِالنَّصْبِ (بِالصَّلَاةِ) أَيِ الْعِشَاءِ لِمَا يَقْتَضِيهِ آخِرُ الْحَدِيثِ، وَالتَّصْرِيحُ بِهِ الْآتِي فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ، وَيَحْتَمِلُ بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ إِنْ تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ، (فَيُؤَذَّنَ) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ (لَهَا، ثُمَّ آمُرَ) : بِالنَّصْبِ (رَجُلًا) : فِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ وَانْصِرَافِهِ لِعُذْرٍ (فَيَؤُمَّ) : بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (النَّاسَ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ فِي الْجَمَاعَةِ لَا فِي الْجُمُعَةِ، وَإِنْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِهِمَا وَهُمَا صَحِيحَتَانِ. (ثُمَّ أُخَالِفَ) : بِالنَّصْبِ، أَيْ: أَذْهَبَ (إِلَى رِجَالٍ) أَيْ آتِيهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: أُخَالِفُ مَا أَظْهَرْتُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَاشْتِغَالِ بَعْضِ النَّاسِ، وَأَقْصِدُ إِلَى بُيُوتِ مَنْ أَمَرْتُهُمْ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا لِلصَّلَاةِ، فَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْهَا فَأُحَرِّقُهَا عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ خَالَفْتُ إِلَى كَذَا إِذَا قَصَدْتَهُ وَأَنْتَ مُوَلِّ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] . (وَفِي رِوَايَةٍ: " لَا يَشْهَدُونَ) أَيْ: لَا يَحْضُرُونَ (الصَّلَاةَ) : مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: " لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ " بَلْ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ جَعَلَ الرِّوَايَتَيْنِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَفِي رِوَايَةٍ:" «يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ» "، فَيَكُونُ الْوَعِيدُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ (فَأُحَرِّقَ) : بِالتَّشْدِيدِ (عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ) : بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا. قِيلَ: هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُ عَامًّا فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ فِي زَمَانِهِ، نَقَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي إِذْ مَا كَانَ أَحَدٌ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي زَمَانِهِ عليه السلام إِلَّا مُنَافِقٌ ظَاهِرُ النِّفَاقِ، أَوِ الشَّاكُّ فِي دِينِهِ، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ كَانَتْ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ بِإِحْرَاقِ الْمَالِ، وَقِيلَ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ الْعُقُوبَةِ بِالتَّحْرِيقِ فِي غَيْرِ الْمُتَخَلِّفَةِ عَنِ الصَّلَاةِ وَالْغَالِّ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ تَحْرِيقِ مَتَاعِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا دَلِيلَ فِيهِ لِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ عَيْنًا، الَّذِي قَالَ بِهِ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ ; لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي قَوْمٍ مُنَافِقِينَ. اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَيُؤَيِّدُ التَّعْمِيمَ قَوْلُهُ:(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) : تَأْكِيدٌ لِقَسَمٍ سَابِقٍ، أَوِ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَاحِقٍ (لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ) أَيِ: الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ مَعَ فَضِيلَتِهَا فِي الدُّنْيَا وَثَوَابِهَا فِي الْعُقْبَى (أَنَّهُ يَجِدُ) أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ (عَرْقًا) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، أَيْ: عَظْمًا عَلَيْهِ لَحْمٌ (سَمِينًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرْقُ بِالسُّكُونِ الْعَظْمُ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ اللَّحْمُ، أَيْ: مُعْظَمُهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مَصْدَرُ عَرَقْتُ الْعَظْمَ إِذَا أَكَلْتَهُ، أَوْ أَخَذْتَ أَكْثَرَ مَا عَلَيْهِ مِنَ اللَّحْمِ، وَوَصَفَهُ بِالسَّمِينِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ اللَّحْمِ، وَهُوَ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ سَمِينًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قُيِّدَ بِهِ لِأَنَّ الْعَظْمَ السَّمِينَ فِيهِ دُسُومَةٌ قَدْ يُرْغَبُ فِي مَضْغِهِ لِأَجْلِهَا. (أَوْ مِرْمَاتَيْنِ) : بِكَسْرِ مِيمِهِ وَتُفْتَحُ: ظِلْفُ الشَّاةِ، وَ " أَوْ " بِمَعْنَى " بَلْ ". وَقِيلَ: لَحْمُ مَا بَيْنَ ظِلْفَيْهَا لِأَنَّهُ مِمَّا يُرْمَى، وَقِيلَ: هِيَ الْعَظْمُ الَّذِي لَا لَحْمَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: بِكَسْرِ الْمِيمِ: السَّهْمُ الصَّغِيرُ الَّذِي يُتَعَلَّمُ الرَّمْيُ بِهِ، أَوْ يُرْمَى بِهِ فِي السَّبْقِ، وَهُوَ أَحْقَرُ السِّهَامِ وَأَرْذَلُهَا. (حَسَنَتَيْنِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ جَيِّدَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا وَصَفَهُمَا بِالْحَسَنَتَيْنِ لِيَكُونَ مُشْعِرًا بِبَقَاءِ الرَّغْبَةِ فِيهِمَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْحُسْنُ وَالْحَسَنُ: الْعَظْمُ الَّذِي فِي الْمِرْفَقِ مِمَّا يَلِي الْبَطْنَ، وَالْقُبْحُ وَالْقَبِيحُ: الْعَظْمُ الَّذِي فِي

ص: 832

الْمِرْفَقِ مِمَّا يَلِي الْكَتِفَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَسَنَتَيْنِ بَدَلٌ مِنْ: الْمِرْمَاتَيْنِ إِذَا أُرِيدَ بِهِمَا الْعَظْمُ الَّذِي لَا لَحْمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا السَّهْمَانِ الصَّغِيرَانِ، فَالْحَسَنَتَيْنِ بِمَعْنَى الْجَيِّدَتَيْنِ صِفَةٌ لِمِرْمَاتَيْنِ. (لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ التَّوْبِيخُ، أَيْ: لَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنْ لَوْ حَضَرَ وَقْتَ الْعِشَاءِ أَوْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِشَاءِ الصَّلَاةُ لَحَصَلَ لَهُ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ لَحَضَرَهَا، وَإِنْ كَانَ خَسِيسًا صَغِيرًا، وَمَا يَحْضُرُ الصَّلَاةَ وَمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ.

قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ، وَظَاهِرُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كِفَايَةً لَمَا اسْتَحَقَّ بَعْضُ التَّارِكِينَ التَّعْذِيبَ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ الْقَائِلُ بِالْكِفَايَةِ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الِافْتِرَاضِ إِظْهَارُ الشِّعَارِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ; إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ تُقَامُ عَلَى عَهْدِهِ فِي مَسْجِدِهِ عليه السلام، وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مَا قَالَ، وَهَمَّ بِتَحْرِيقِهِمْ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِثْلُهُ عَنْهُ فِيمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَنَائِزِ مَعَ إِقَامَتِهَا بِغَيْرِهِمْ.

قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ، قَالَ: وَلِقَوْلِهِ عليه السلام: " «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» "، أَيْ: الشَّاةَ الْبَعِيدَةَ مِنَ الرَّاعِي. وَاسْتِحْوَاذُ الشَّيْطَانِ وَهُوَ غَلَبَتُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَكُونُ مَعْصِيَةً، كَتَرْكِ الْوَاجِبِ دُونَ السُّنَّةِ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ، أَوْ وَاجِبٌ عَلَى مُخْتَارِ مَذْهَبِنَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ كَمَالِ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، قَالَ: وَذَهَبَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ ; وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَتَمَسَّكُوا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، أَيْ: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْبَابِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ أَكْثَرَ مِنْ ثُبُوتِ صِحَّةِ مَا فِي الْبَيْتِ وَالسُّوقِ فِي الْجُمْلَةِ بِلَا جَمَاعَةٍ، وَلَا شَكَّ فِيهِ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، فَالْمَعْنَى: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مُقْتَضَاهُ الصِّحَّةَ مُطْلَقًا بِلَا جَمَاعَةٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى سُنِّيَّتِهَا، لِجَوَازِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ تَرْكُهَا مُؤَثِّمًا لَا مُفْسِدًا، قَالَ: وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ التَّحْرِيقَ لِاسْتِهَانَتِهِمْ وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِمْ بِهَا إِلَّا بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، قُلْتُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّرْكِ، وَلِمُشَابَهَتِهِمْ بِالْمُنَافِقِينَ وَالشَّاكِّينَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ، وَدَاوُدُ: إِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ: بِوُجُوبِهَا وَاشْتِرَاطِهَا فِي الصِّحَّةِ اهـ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَدَاوُدَ، وَعَطَاءٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَقِيلَ: عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفِي الْغَايَةِ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَفِي الْمُفِيدِ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ; وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةٌ لِوُجُوبِهَا بِالسُّنَّةِ، وَفِي الْبَدَائِعِ: تَجِبُ عَلَى الْعُقَلَاءِ، الْبَالِغِينَ، الْأَحْرَارِ، الْقَادِرِينَ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَإِذَا فَاتَتْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ فِي الْمَسَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ أَصْحَابِنَا، بَلْ إِنْ أَتَى مَسْجِدًا آخَرَ لِلْجَمَاعَةِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ مُنْفَرِدًا فَحَسَنٌ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ يَجْمَعُ بِأَهْلِهِ أَحْيَانًا هَلْ يَنَالُ ثَوَابَ الْجَمَاعَةِ؟ فَقَالَ: لَا، وَيَكُونُ بِدْعَةً وَمَكْرُوهًا بِلَا عُذْرٍ، فَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْمَرَضُ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، وَكَوْنُهُ مَقْطُوعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ مَفْلُوجًا، أَوْ مُسْتَخْفِيًا مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ مِنْ غَرِيمٍ وَهُوَ مُعْسِرٌ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ كَالشَّيْخِ الْعَاجِزِ وَغَيْرِهِ. وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَالْأَعْمَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ، وَالْخِلَافُ فِي الْجُمُعَةِ لَا الْجَمَاعَةِ، فَفِي الدِّرَايَةِ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْأَعْمَى، وَبِالْمَطَرِ، وَالطِّينِ، وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَالظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الصُّبْحِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ) .

ص: 833

1054 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: " هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَأَجِبْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1054 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى) : هُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ) أَيْ: عَبْدٌ أَوْ خَادِمٌ (يَقُودُنِي) أَيْ: يُمْسِكُنِي وَيَأْتِي مَعِي (إِلَى الْمَسْجِدِ) : لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ (فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: طَلَبَ مِنْهُ (أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ) أَيْ: فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ (فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ) : إِمَّا جَمَاعَةً أَوْ مُنْفَرِدًا (فَرَخَّصَ لَهُ) أَيْ: رَخَّصَ أَوَّلًا (فَلَمَّا وَلَّى) أَيْ: رَجَعَ وَأَدْبَرَ (دَعَاهُ، فَقَالَ: " هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ) أَيِ: الْإِعْلَامَ وَالتَّأْذِينَ (بِالصَّلَاةِ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَأَجِبْ) أَيْ: فَأْتِ الْجَمَاعَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ، وَقِيلَ: حَثٌّ وَمُبَالَغَةٌ فِي الْأَفْضَلِ الْأَلْيَقِ بِحَالِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ فُضَلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، رَخَّصَ أَوَّلًا ; ثُمَّ رَدَّهُ ; إِمَّا بِوَحْيٍ أَوْ بِتَغْيِيرِ اجْتِهَادٍ اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَهُ الْجَوَابَ، ثُمَّ قَيَّدَهُ بِقَيْدِ عَدَمِ السَّمَاعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ مَعَ عَدَمِ وُجْدَانِهِ قَائِدًا لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْحُضُورِ بِلَا قَائِدٍ ; أَوْ لِلتَّأْكِيدِ فِي الْجَمَاعَةِ، قَالَ: وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ عَلَى وُجُوبِ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا رُوِيَ «عَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ أَيْ بَعِيدُهَا، وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي، فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ: " أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمْ، وَمَعْنَاهُ لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً تُحَصِّلُ لَكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِهَا، لَا الْإِيجَابُ عَلَى الْأَعْمَى، فَإِنَّهُ عليه السلام رَخَّصَ لِعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ فِي تَرْكِهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْعَيْنِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَلِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ عليه السلام رَخَّصَ لِعِتْبَانِ حَيْثُ شَكَا بَصَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَا ادَّعَى أَحَدٌ أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ أَيْضًا فَتَدَبَّرْ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا " «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» "، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثَانِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمَا ضَعِيفَانِ " «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، "«وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ» "، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَئِمَّتُنَا بِفَرْضِيَّتِهِ بَلْ بِوُجُوبِهِ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ ظَنِّيٌّ.

ص: 834

1055 -

«وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُولُ: " أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1055 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ أَذَّنَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، قِيلَ عِبَارَةُ الْبُخَارِيِّ هُنَا عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ (بِالصَّلَاةِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: لِلصَّلَاةِ (فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ) : وَفِي بَابِ الْأَذَانِ: (أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ) يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ أَذَّنَ صِيغَةُ الْمَعْرُوفِ اهـ. وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذَّنَ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ بِالتَّأْذِينِ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِ الْأَذَانِ (أَلَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (صَلُّوا فِي الرِّحَالِ) أَيْ فِي الْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيِ: الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ، رَحْلُ الرَّجُلِ مَنْزِلُهُ وَمَسْكَنُهُ. (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ) أَيْ: وَقَعَتْ (لَيْلَةٌ) : بِالرَّفْعِ (ذَاتُ بَرْدٍ) : صِفَتُهَا أَيْ: صَاحِبَةُ بَرْدٍ شَدِيدٍ (وَمَطَرٍ) أَيْ كَثِيرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ زِيَادَةُ وَرِيحٍ (يَقُولُ:" أَلَا صَلُّوا) : أَمْرُ إِبَاحَةٍ (فِي الرِّحَالِ) : لِلْعُذْرِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ، أَيْ: وَحْلٍ كَثِيرٍ؟ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ تَرْكَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ: الْحَدِيثُ رُخْصَةٌ يَعْنِي قَوْلَهُ عليه السلام: "«إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ» ". (مُتَّفَقٌ عَلْيِهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمُطِرْنَا، فَقَالَ: " لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ فِي رَحْلِهِ» "، وَصَحَّ:«كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَصَابَنَا مَطَرٌ قَلِيلٌ لَمْ يَبُلَّ أَسْفَلَ نِعَالِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» .

ص: 834

1056 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَأُوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ» ". وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلَاةُ، فَلَا يَأْتِيهَا حِينَ يَفْرُغُ مِنْهُ، وَإِنَّهُ لِيَسْمَعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1056 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مَا يُؤْكَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: مَا يُؤْكَلُ بَعْدَ الزَّوَالِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ مِثَالٌ، وَالْمُرَادُ طَعَامٌ تَتُوقُ نَفْسُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَشَاءً (وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَأُوا بِالْعَشَاءِ) أَيْ: بِأَكْلِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (وَلَا يَعْجَلْ) أَيْ: أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ (حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ) : عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، أَيْ: مِنَ الْعَشَاءِ بِالْفَتْحِ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ ; حَيْثُ قَالُوا: إِنَّمَا يَأْكُلُ لُقَيْمَاتٍ تَكْسِرُ سَوْرَتَهُ، وَالَّذِي صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنْ يُكْمِلَ حَاجَتَهُ مِنَ الْأَكْلِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ فَابْدَأُوا أَنْتُمْ بِالْعَشَاءِ. وَلَا يَعْجَلْ هُوَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَالْأَمْرُ بِالْجَمْعِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ وَبِالْأَفْرَادِ إِلَى الْأَحَدِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ.

قُلْتُ: هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ فَابْدَأُوا بِالْعِشَاءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ ; وَالنُّسَخُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى الْفَتْحِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِإِفَادَةِ عُمُومِ الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْمُوَافَقَةُ مَعَهُ، ثُمَّ أَدَاءُ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً لِيَنَالَ الْفَضِيلَةَ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَهَذَا إِذَا كَانَ جَائِعًا وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى الْأَكْلِ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، وَمَا أَحْسَنَ مَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لِأَنْ يَكُونَ أَكْلِي كُلُّهُ صَلَاةً أَحَبُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاتِي كُلُّهَا أَكْلًا. (وَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَكَانَ (ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ) أَيْ طَعَامُ أَحَدِ الْعَشَاءَيْنِ بِقَرِينَةِ سَمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ (وَتُقَامُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَيَذْكُرُ (الصَّلَاةَ) أَيْ: جَمَاعَةً (فَلَا يَأْتِيهَا) أَيِ: الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ (حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَكْلِهِ (وَإِنَّهُ) أَيْ: مِنْ قُرْبِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ) : وَالْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 835

1057 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1057 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَا صَلَاةَ) أَيْ: كَامِلَةً (بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، أَيْ: بِحُضُورِ طَعَامٍ يُرِيدُ أَكْلَهُ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَيَسِّرَ حُضُورُهُ عَنْ قُرْبٍ كَالْحَاضِرِ. (وَلَا هُوَ) أَيْ: مُرِيدُ الصَّلَاةِ (يُدَافِعُهُ) أَيْ: يُطَالِبُهُ وَيَدْفَعُ حُضُورَ صَلَاتِهِ (الْأَخْبَثَانِ) أَيِ: الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، وَفِي مَعْنَاهُ الرِّيحُ وَالْقَيْءُ وَالْمَذْيُ، وَقِيلَ:(هُوَ) عَائِدٌ إِلَى الشَّخْصِ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، وَيُدَافِعُهُ حَالٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَا الشَّخْصُ مُصَلٍّ صَلَاةً كَامِلَةً حَالَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ:" وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ " فَالْوَاوُ: لِلْحَالِ مِنْ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَا صَلَاةَ كَامِلَةٌ حَاصِلَةٌ، وَالشَّخْصُ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ، أَيْ: مُقَارِنَةٌ لِمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ (وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْجُمْلَةُ وَقَعَتْ حَالًا بِلَا " وَاوٍ " وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: وَلَا صَلَاةَ حَاصِلَةٌ لِلْمُصَلِّي فِي حَالٍ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ عَنْهَا، فَاسْمُ لَا الثَّانِيَةِ وَخَبَرُهَا مَحْذُوفَانِ، وَقَوْلُهُ:(هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ) حَالٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ النِّهَايَةِ:" «لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ» "، إِذْ لَا صَلَاةَ حِينَ هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ، وَالْمُدَافَعَةُ إِمَّا عَلَى حَقِيقَتِهَا، أَيْ: يَدْفَعُهُ الْأَخْبَثَانِ عَنْهَا وَهُوَ يَدْفَعُهُمَا، وَإِمَّا بِمَعْنَى الدَّفْعِ مُبَالَغَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ: كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ الَّذِي يُرِيدُ أَكْلَهُ لِمَا فِيهِ مِنِ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ وَذَهَابِ كَمَالِ الْخُشُوعِ، وَكَذَلِكَ كَرَاهَتُهَا مَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ، فَلَوْ تَضَيَّقَ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ عَلَى حَالِهِ حُرْمَةً لِلْوَقْتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُ أَخَذَ أَكْثَرُ أَئِمَّتِنَا كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَإِنْ خَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ.

وَقَالَ جَمْعٌ مِنْهُمْ: وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ وَفَسَادِ الصَّلَاةِ إِنْ أَدَّى إِلَى ذَهَابِ خُشُوعِهِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: " «لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَاقِنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ» "، وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُونَ عَلَى مَا إِذَا اشْتَدَّ بِهِ الْحَالُ، وَظَنَّ أَنْ يَضُرَّهُ فَحَبْسُهُ حِينَئِذٍ حَرَامٌ.

ص: 835

1058 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1058 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) أَيْ: نَادَى الْمُؤَذِّنُ بِالْإِقَامَةِ، وَفِيهِ إِقَامَةُ الْمُسَبَّبِ مَقَامَ السَّبَبِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (فَلَا صَلَاةَ) أَيْ: كَامِلَةٌ (إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ بِالنَّصْبِ، أَيْ تِلْكَ الْمَكْتُوبَةُ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَى إِطْلَاقِهَا لِيَشْمَلَ الْفَائِتَةَ لِصَاحِبِ التَّرْتِيبِ، قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيْ: إِذَا أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ سُنَّةَ الْفَجْرِ، بَلْ يُوَافِقُ الْإِمَامَ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ عَلِمَ الْمُصَلِّي أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ صَلَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: سُنَّةُ الْفَجْرِ مَخْصُوصَةٌ مِنْ هَذَا بِقَوْلِهِ عليه السلام: " «صَلُّوهَا وَإِنْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْلُ» ". فَقُلْنَا: يُصَلِّي سُنَّةَ الْفَجْرِ مَا لَمْ يَخْشَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَيَتْرُكُهَا حِينَ خَشِيَ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ اهـ. وَحَدِيثُهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ:" «لَا تَدَعُوهَا وَإِنْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْلُ» ".

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: سُنَّةُ الْفَجْرِ أَقْوَى السُّنَنِ، حَتَّى رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ صَلَّاهَا قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ، وَقَالُوا: الْعَالِمُ إِذَا صَارَ مَرْجِعًا لِلْفَتْوَى جَازَ لَهُ تَرْكُ سَائِرِ السُّنَنِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَّا سُنَّةَ الْفَجْرِ ; لِأَنَّهَا أَقْوَى السُّنَنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ ارْتَكَبَ، وَالْأَرْجَحُ فَضِيلَةُ الْفَرْضِ بِجَمَاعَةٍ أَعْظَمُ مِنْ فَضِيلَةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ; لِأَنَّهَا تَفْضُلُ الْفَرْضَ مُنْفَرِدًا بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، لَا تَبْلُغُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ ضِعْفًا وَاحِدًا مِنْهَا ; لِأَنَّهَا أَضْعَافُ الْفَرْضِ، وَالْوَعِيدُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ أَلْزَمُ مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ يَرْجُو إِدْرَاكَهُ فِي التَّشَهُّدِ، قِيلَ: هُوَ كَإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ عِنْدَهَا، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَا اعْتِبَارَ بِهِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَالْوَجْهُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ هُنَا، وَمَا رُوِيَ عَنِ الْفَقِيهِ إِسْمَاعِيلَ الزَّاهِدِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَقْطَعَهُمَا، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ فَيَتَمَكَّنُ مِنَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، دَفَعَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالشُّرُوعِ لَيْسَ أَقْوَى مِمَّا وَجَبَ بِالنَّذْرِ، وَنَصُّ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَنْذُورَ لَا يُؤَدَّى بَعْدَ الْفَجْرِ قَبْلَ الطُّلُوعِ، وَأَيْضًا هُوَ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ بِقَصْدِ الْإِفْسَادِ، فَإِنْ قِيلَ: لِيُؤَدِّيَهَا مَرَّةً أُخْرَى. قُلْنَا: إِبْطَالُ الْعَمَلِ قَصْدًا مَنْهِيٌّ، وَدَرْءُ الْمَفْسَدَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 836

1059 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعَنَّهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1059 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ) أَيْ: زَوْجَهَا فِي الذَّهَابِ (إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعَنَّهَا) : بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ الْمُؤَكِّدَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهِنَّ عَنِ الْخُرُوجِ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَضِيَّةُ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي تَحْقِيقِهِ، وَالزَّرْكَشِيِّ فِي أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ، أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ فِي خُرُوجِهِنَّ اخْتِلَاطٌ بِالرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ طَرِيقِهِ، أَوْ قَوِيَتْ خَشْيَةُ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِنَّ لِتَزَيُّنِهِنَّ وَتَبَرُّجِهِنَّ حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ الْخُرُوجُ، وَعَلَى الْحَلِيلِ الْإِذْنُ لَهُنَّ، وَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ مَنْعُهُنَّ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ، لَكِنْ فِي زَمَانِنَا مَكْرُوهٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِلْفِتْنَةِ.

قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الشَّيْخَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ: لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَخَبَرُ الْبَيْهَقِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: نَهَى النِّسَاءَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَّا عَجُوزًا فِي مَنْقَلِهَا، أَيْ: ثِيَابِ بَذْلَتِهَا، وَأَصْلُ الْمَنْقَلِ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْأَشْهَرِ الْخُفُّ، وَقِيلَ: الْخُفُّ الْخَلَقُ ; وَهَذَا مِنَ الصَّحَابِيِّ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ فَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ النَّفْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ:" «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» " عَلَى أَنَّ أَبَا دَاوُدَ عَقَّبَهُ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ( «وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ ثَفِلَاتٌ غَيْرُ عَطِرَاتٍ» ) وَثَفِلَاتٌ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ تَارِكَاتٌ لِلطِّيبِ، وَخَبَرُ مُسْلِمٍ:" «إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 836

1060 -

وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ ; فَلَا تَمَسَّ طِيبًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1060 -

(وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ» "، أَيْ أَرَادَتْ حُضُورَ الْمَسْجِدِ (فَلَا تَمَسَّ) : بِالْفَتْحِ (طِيبًا) : لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْفِتْنَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 837

1061 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا ; فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1061 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "، أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا) : بِالْفَتْحِ مَا يُتَبَخَّرُ بِهِ وَيُتَعَطَّرُ كَالسَّحُورِ وَالْفَطُورِ، (فَلَا تَشْهَدْ) أَيْ: لَا تَحْضُرْ (مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ) : احْتِرَازٌ مِنَ الْمَغْرِبِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا خُصَّتْ بِالنَّهْيِ لِأَنَّهَا وَقْتُ الظُّلْمَةِ وَخُلُوُّ الطَّرِيقِ، وَالْعِطْرُ يُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ، فَلَا تَأْمَنُ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ كَمَالِ الْفِتْنَةِ، بِخِلَافِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُمَا وَقْتٌ فَاضِحٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَسَّ الطِّيبِ يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنْ حُضُورِ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 837

الْفَصْلُ الثَّانِي

1062 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1062 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ (وَبُيُوتُهُنَّ) أَيْ: عِبَادَتُهُنَّ فِيهَا (خَيْرٌ لَهُنَّ) : مُطْلَقًا، وَيُسْتَثْنَى طَوَافُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، أَوْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ يُضَعِّفْهُ هُوَ وَلَا الْمُنْذِرِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

ص: 837

1063 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1063 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا) أَيِ الدَّاخِلَانِيُّ لِكَمَالِ سَتْرِهَا (أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا) أَيْ: صَحْنِ الدَّارِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ بِالْحُجْرَةِ مَا تَكُونُ أَبْوَابُ الْبُيُوتِ إِلَيْهَا، وَهِيَ أَدْنَى حَالًا مِنَ الْبَيْتِ، (وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتُفْتَحُ وَتُكْسَرُ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَكُونُ دَاخِلَ الْبَيْتِ الْكَبِيرِ يُحْفَظُ فِيهِ الْأَمْتِعَةُ النَّفِيسَةُ، مِنَ الْخُدَعِ، وَهُوَ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ، أَيْ: فِي خِزَانَتِهَا (أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا) : لِأَنَّ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى التَّسَتُّرِ، وَلِذَا قِيلَ: نِعْمَ الصِّهْرُ الْقَبْرُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

ص: 837

1064 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لِلْمَسْجِدِ حَتَّى تَغْتَسِلَ غُسْلَهَا مِنَ الْجَنَابَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ.

ــ

1064 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي) : بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ مَحْبُوبِي (أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَا تُقْبَلُ) أَيْ: قَبُولًا كَامِلًا (صَلَاةُ امْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لِلْمَسْجِدِ) أَيْ: لِلْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: لِهَذَا الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الْمَسْجِدِ لَا إِلَى مَسْجِدٍ مَخْصُوصٍ (حَتَّى تَغْتَسِلَ غُسْلَهَا) أَيْ: مِثْلَ غُسْلِهَا (مِنَ الْجَنَابَةِ) : بِأَنْ تَعُمَّ جَمِيعَ بَدَنِهَا بِالْمَاءِ إِنْ كَانَتْ طَيَّبَتْ جَمِيعَ بَدَنِهَا لِيَزُولَ عَنْهَا الطِّيبُ، وَأَمَّا إِذَا أَصَابَ مَوْضِعًا مَخْصُوصًا فَتَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَإِنْ طَيَّبَتْ ثِيَابَهَا تُبَدِّلُ تِلْكَ الثِّيَابَ أَوْ تُزِيلُهُ، وَهَذَا إِذَا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ وَإِلَّا فَلَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الزَّجْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُهَيِّجُ الرَّغَبَاتِ وَيَفْتَحُ بَابَ الْفِتَنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي إِسْنَادِهِ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ: وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ (وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) .

ص: 837

1065 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ ; «وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ، فَهِيَ كَذَا وَكَذَا " يَعْنِي زَانِيَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ.

ــ

1065 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ عَيْنٍ) أَيْ: نَظَرَتْ إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ شَهْوَةٍ (زَانِيَةٌ) : لِأَنَّ زِنَاهَا النَّظَرُ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الزِّنَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ كُلُّ عَيْنٍ مَرْكُوزٌ فِيهَا قُوَّةُ التَّطَلُّعِ إِلَى الصُّوَرِ الْحَسَنَةِ، لَا سِيَّمَا إِنْ صَحِبَهَا مِنَ الطِّيبِ وَنَحْوِهِ مَا يَزِيدُ هَيَجَانَهَا مِمَّا يُفْضِي إِلَى الزِّنَا غَالِبًا مَا لَمْ تُسْتَأْصَلْ تِلْكَ الْقُوَّةُ مِنْ أَصْلِهَا مِنَ النَّفْسِ بِرِيَاضَةٍ، أَوْ مُجَاهَدَةٍ أَوْ بِجَذْبَةٍ وَعِنَايَةٍ، (وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ) أَيْ: تَطَيَّبَتْ أَوْ تَبَخَّرَتْ (فَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ) أَيْ: الَّذِي فِيهِ الرِّجَالُ الْمُسْتَلْزِمِ عَادَةً بُرُوزَهَا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَسْجِدِ، فِي نُسْخَةٍ: بِالْمَسْجِدِ (فَهِيَ كَذَا وَكَذَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدَدِ يَعْنِي عَدَّ عَلَيْهَا خِصَالًا ذَمِيمَةً تَسْتَلْزِمُ الزِّنَا. (يَعْنِي زَانِيَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ يَعْنِي، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ يَعْنِي هِيَ زَانِيَةٌ ; لِأَنَّهَا قَدْ هَيَّجَتْ شَهْوَةَ الرِّجَالِ بِعِطْرِهَا وَحَمَلَتْهُمْ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا فَقَدْ زَنَى بِعَيْنِهِ، وَيَحْصُلُ لَهَا إِثْمٌ بِأَنْ حَمَلَتْهُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا وَشَوَّشَتْ قَلْبَهُ، فَإِذَا هِيَ سَبَبُ زِنَاهُ بِالْعَيْنِ، فَتَكُونُ هِيَ أَيْضًا زَانِيَةً أَوْ كَأَنَّهَا هِيَ زَانِيَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ تَشْدِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي مَنْعِ النِّسْوَةِ عَنْ خُرُوجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إِذَا تَعَطَّرْنَ، وَإِلَّا فَبَعْضُ الْأَعْيُنِ قَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الزِّنَا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَلِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ نَحْوُهُ) .

ص: 838

1066 -

وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، قَالَ:«صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا الصُّبْحَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: " أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: " أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: " إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ، وَإِنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا فَضِيلَتُهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ، وَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتَهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

1066 -

(وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَيْ: مُلْتَبِسًا بِنَا أَوْ أَمَّنَا فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَوْ جَعَلَنَا مُصَلِّينَ خَلْفَهُ (يَوْمًا، أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ (الصُّبْحَ) أَيْ: صَلَاتَهُ (فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: " أَشَاهِدٌ) أَيْ: أَحَاضِرٌ صَلَاتَنَا هَذِهِ (فُلَانٌ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: " أَشَاهِدٌ فُلَانٌ "؟) أَيْ: آخَرُ (قَالُوا: لَا، قَالَ: " إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ) أَيْ: صَلَاةَ الصُّبْحِ وَمُقَابِلَتَهَا بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، يَعْنِي الصُّبْحَ وَالْعِشَاءَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَشَارَ إِلَى الْعِشَاءِ لِحُضُورِهَا بِالْقُوَّةِ ; لِأَنَّ الصُّبْحَ مُذَكِّرَةٌ بِهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ هَذِهِ مُبْتَدَأُ النَّوْمِ وَتِلْكَ مُنْتَهَاهُ اهـ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَرْضُ الصُّبْحِ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْفَجْرِ (أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ) : لِغَلَبَةِ الْكَسَلِ فِيهِمَا، وَلِقِلَّةِ تَحْصِيلِ الرِّيَاءِ لَهُمَا (وَلَوْ تَعْلَمُونَ) : أَنْتُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (مَا فِيهِمَا) : مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الزَّائِدِ ; لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْغَيْبَةِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَغْلِيبًا (لَأَتَيْتُمُوهَا وَلَوْ حَبْوًا) أَيْ: زَحْفًا وَمَشْيًا (عَلَى الرُّكَبِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَبْوًا خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ، أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْإِتْيَانُ حَبْوًا وَهُوَ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ أَوْ إِسْتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَتَيْتُمُوهُمَا حَبْوًا، أَيْ حَابِينَ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةً (وَإِنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ) أَيْ: فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبُعْدِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ) : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ فِي قُرْبِهِمْ مِنَ الْإِمَامِ بِصَفِّ الْمَلَائِكَةِ فِي قُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ إِنَّ، وَالْمُتَعَلِّقُ كَائِنٌ أَوْ مُقَاسٌ، (وَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا فَضِيلَتُهُ) أَيْ: الصَّفُّ الْأَوَّلُ (لَابْتَدَرْتُمُوهُ) أَيْ: سَبَقْتُمْ إِلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: " وَلَوْ تَعْلَمُونَ " فِيهِمَا مُبَالَغَةٌ مِنْ حَيْثُ عَدَلَ مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ إِشْعَارًا بِالِاسْتِمْرَارِ، ذَكَرَ أَوَّلًا فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ تَنَزَّلَ مِنْهُ إِلَى بَيَانِ فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِلَى بَيَانِ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ:(وَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ) : إِلَخْ. لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا تَرَقٍّ لَا تَنَزُّلٌ (أَزْكَى) أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا (مِنْ صِلَاتِهِ وَحْدَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنَ الزَّكَاةِ بِمَعْنَى النُّمُوِّ، أَوِ الشَّخْصُ آمِنٌ مِنْ رِجْسِ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ مِنَ الزَّكَاةِ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ. (وَصَلَاتَهُ) : بِالنَّصْبِ أَوْ بِالرَّفْعِ (مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى) أَيْ: أَفْضَلُ (مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ) أَيِ: الْوَاحِدِ (وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " مَا " هَذِهِ مَوْصُولَةٌ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهَا وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، أَيْ: الصَّلَاةُ الَّتِي كَثُرَ الْمُصَلُّونَ فِيهَا فَهُوَ أَحَبُّ، وَتَذْكِيرُ (هُوَ) بِاعْتِبَارِ لَفْظِ مَا، انْتَهَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ كَثُرَ فِيهِ الْمُصَلُّونَ، فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَفْضَلُ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الصَّلَاةُ فِي الْجَامِعِ أَفْضَلُ، ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْحَيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حِينَ يُنَادَى بِهِنَّ» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، أَيْضًا.

ص: 838

1067 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ، إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ. فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

1067 -

(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ) أَيْ: رِجَالٍ ; لِأَنَّ جَمَاعَةَ النِّسَاءِ وَإِمَامُهُنَّ مِنْهُنَّ مَكْرُوهَةٌ وَتَقْيِيدُهُ بِالثَّلَاثَةِ الْمُفِيدُ مَا فَوْقَهُمْ بِالْأَوْلَى نَظَرًا إِلَى أَقَلِّ أَهْلِ الْقَرْيَةِ غَالِبًا، وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَأَنَّهُ أَكْمَلُ صُوَرِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ بِاثْنَيْنِ. (فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ) أَيْ: بَادِيَةٍ، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ لِلْمُسَافِرِينَ، أَيْضًا، لَكِنَّ حَالَ نُزُولِهِمْ لِلْحَرَجِ فِي حَالِ سَيْرِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ بِشَرْطِ سُكْنَاهُمْ بِهَا وَإِلَّا لَمْ تَلْزَمْهُمُ الْجَمَاعَةُ عِنْدَنَا. (لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ) أَيْ: الْجَمَاعَةُ كَمَا فِي رِوَايَةِ (إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ) أَيْ: اسْتَوْلَى وَغَلَبَ (عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) : فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ تَرْكَ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مُتَابَعَةٌ لِلشَّيْطَانِ، (فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ) أَيْ: الْزَمْهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بَعِيدٌ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَيَسْتَوْلِي عَلَى مَنْ فَارَقَهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَقَوْلُهُ: فَعَلَيْكَ مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ تَفْخِيمًا لِلْأَمْرِ وَالْفَاءُ مُسَبَّبَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: قَدِ اسْتَحْوَذَ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ:(فَإِنَّمَا) : مُسَبَّبَةٌ عَنِ الْجَمِيعِ يَعْنِي: إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ فَاعْرِفْ مِثَالَهُ فِي الشَّاهِدِ فَإِنَّمَا (يَأْكُلُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ (الذِّئْبُ) : بِالْهَمْزِ وَالْيَاءِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيِ: الشَّيْطَانُ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ كَمَا لَا يَخْفَى (الْقَاصِيَةَ) أَيِ: الشَّاةَ الْبَعِيدَةَ عَنِ الْأَغْنَامِ لِبُعْدِهَا عَنْ رَاعِيهَا، فَإِنَّ عَيْنَ الرَّاعِي تَحْمِي الْغَنَمَ الْمُجْتَمِعَةَ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم " «يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ» "، أَيْ: نُصْرَتُهُ، وَنَظَرُ عِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ (وَالنَّسَائِيُّ) .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَمَّا إِفْتَاءُ الْغَزَالِيِّ فِيمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَخْشَعُ فِي جَمِيعِ صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا دُونَ مَا إِذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ لِتَشَتُّتِ هَمِّهِ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْجَمْعُ يَمْنَعُهُ الْخُشُوعَ فِي أَكْثَرِ صَلَاتِهِ فَالِانْفِرَادُ لَهُ أَوْلَى فَرَدُّوهُ، وَإِنْ تَبِعَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْمُخْتَارَ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ أَوْلَى كَمَا هُوَ ظَاهِرُ السُّنَّةِ وَبِأَنَّ فِي ذَلِكَ فَتْحُ بَابٍ عَظِيمٍ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ فِي بَرَكَةِ الْجَمَاعَةِ مَا يُلِمُّ شَعَثَ التَّفْرِقَةِ.

ص: 839

1068 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِي فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنِ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ ". قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: " خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ.

ــ

1068 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ) أَيْ: نِدَاءَ الْمُؤَذِّنِ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ (فَلَمْ يَمْنَعْهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ حَذْفٌ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ: فَلَمْ يَتْبَعْهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ (مِنِ اتِّبَاعِهِ) : بِحُضُورِ الْمَسْجِدِ لِلْجَمَاعَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: مِنْ إِتْيَانِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي دُعِيَ إِلَيْهَا، وَالتَّقْيِيدُ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ وَبِالْجَمَاعَةِ الَّتِي يَسْمَعُ مُؤَذِّنَهَا جَرَى عَلَى الْغَالِبِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الْجَمَاعَةِ الَّتِي يَسْمَعُ مُؤَذِّنَهَا، وَإِلَّا فَلَوْ ذَهَبَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَسْمَعْ مُؤَذِّنَهَا فَقَدْ أَتَى بِالْفَرْضِ، وَلَوْ لَمْ يَسْمَعِ الْمُؤَذِّنَ وَلَا عُذْرَ لَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ ; إِذْ عَدَمُ سَمَاعِهِ الْمُؤَذِّنَ لَيْسَ مِنَ الْأَعْذَارِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْمَجِيءِ إِلَيْهَا (عُذْرٌ) أَيْ: نَوْعٌ مِنَ الْأَعْذَارِ. (قَالُوا) أَيْ: لِابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ ذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ (وَمَا الْعُذْرُ؟) أَيِ: الَّذِي عَنَاهُ عليه السلام (قَالَ) أَيْ: ابْنُ عَبَّاسٍ (خَوْفٌ) أَيْ: هُوَ خَشْيَةٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عِرْضِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ خَوْفُ ظُلْمَةٍ، أَوْ غَرِيمٍ وَكَانَ مُفْلِسًا، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمَطَرُ، وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ، وَحُضُورُ الطَّعَامِ، وَمُدَافَعَةُ الْخَبَثِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ السِّمَنَ الْمُفْرِطَ عُذْرٌ (أَوْ مَرَضٌ) أَيْ: يُبِيحُ لَهُ التَّيَمُّمَ، كَذَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ (لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ) أَيْ: قَبُولًا

ص: 839

كَامِلًا، قَالَ الطِّيبِيُّ:" مَنْ سَمِعَ " مُبْتَدَأٌ، وَ " لَمْ تُقْبَلْ " خَبَرُهُ، يَعْنِي وَقَعَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مُعْتَرِضَيْنِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ (الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى) قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَكِتَابِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: صَلَّاهَا، وَكَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِأَحَدٍ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ الَّذِي سَبَقَ. وَلِقَوْلِهِ عليه السلام لِابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ: (فَأَجِبْ) قَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً عَلَيْهِ لَمْ يُطِعْهَا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا طَاعَةَ لِلْوَالِدِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ ; سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي حَدِيثِ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِ: مَعْنَى عَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ أَنْ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ تُسْقِطُ الْفَرْضَ وَلَا ثَوَابَ فِيهَا اهـ. وَكَذَا الْحَجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو خَبَّابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ الْكَلْبِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ أَيْضًا لَكِنْ بِلَفْظِ:«مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذِرَ» ، قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.

ص: 840

1069 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، وَوَجَدَ أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلَاءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ.

ــ

1069 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَوَجَدَ أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ) أَيِ: احْتِيَاجُهُ (فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلَاءِ) : وَجَازَ لَهُ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ لِهَذَا الْعُذْرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. (وَرَوَى مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ.

ص: 840

1070 -

وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «ثَلَاثٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ: لَا يَؤُمَّنَّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَانَهُمْ، وَلَا يَنْظُرْ فِي قَعْرِ بَيْتٍ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَانَهُمْ. وَلَا يُصَلِّ وَهُوَ حَقِنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ.

ــ

1070 -

(وَعَنْ ثَوْبَانَ) : هُوَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ثَلَاثٌ) أَيْ: خِصَالٌ (لَا يَحِلُّ) أَيْ: لَا يَجُوزُ (لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ) : جَمْعًا وَفَرْدًا (لَا يَؤُمَّنَّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصَّ) : بِالنَّصْبِ (نَفْسَهُ) : مَفْعُولُهُ (بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ) أَيْ: دُونَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي دُعَائِهِ وَلَوْ مَرَّةً (فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَانَهُمْ، وَلَا يَنْظُرْ) : بِالْجَزْمِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (فِي قَعْرِ بَيْتٍ) أَيْ: دَاخِلَ مَكَانٍ مَسْتُورٍ لِلْغَيْرِ (قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْذِنَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: أَهْلَهُ، وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يُقَدَّرُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: احْتِرَازًا عَنْ أَنْ يَقَعَ نَظَرُهُ عَلَى الْعَوْرَةِ (فَإِنْ فَعَلَ) أَيْ: ذَلِكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَقَدْ خَانَهُمْ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَقَدْ دَخَلَ، أَيْ: فَكَأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ حَتَّى أَثِمَ. (وَلَا يُصَلِّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَا يُصَلِّي بِالنَّفْيِ (وَهُوَ حَقِنٌ) : بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَيْ: وَهُوَ يُؤْذِيهِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَاقِنُ الَّذِي حَبَسَ بَوْلَهُ، وَالْحَاقِبُ هُوَ الْحَابِسُ لِلْغَائِطِ، وَقِيلَ: الْحَازِقُ هُوَ الْحَابِسُ لِلرِّيحِ (حَتَّى يَتَخَفَّفَ) أَيْ: يُزِيلَ مَا يُؤْذِيهِ مِنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَانَ نَفْسَهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ خَانَهُمْ أَوَّلًا نَسَبَ الْخِيَانَةَ إِلَى الْإِمَامِ ; لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْجَمَاعَةِ لِيُفِيضَ كُلٌّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ الْخَيْرَ عَلَى صَاحِبِهِ بِبَرَكَةِ قُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ خَصَّ نَفْسَهُ فَقَدْ خَانَ صَاحِبَهُ. قُلْتُ: وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَانَةِ، فَإِنَّهُ صَاحِبُ الدُّعَاءِ وَإِلَّا فَقَدَ تَكُونُ الْخِيَانَةُ مِنْ جَانِبِ الْمَأْمُومِ، قَالَ: وَشَرْعِيَّةُ الِاسْتِئْذَانِ لِئَلَّا يَهْجُمَ قَاصِدٌ عَلَى عَوْرَاتِ الْبَيْتِ، فَالنَّظَرُ فِي قَعْرِ الْبَيْتِ خِيَانَةٌ، وَالصَّلَاةُ مُنَاجَاةٌ وَتَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَاشْتِغَالٌ عَنِ الْغَيْرِ، وَالْحَاقِنُ كَأَنَّهُ يَخُونُ نَفْسَهُ فِي حَقِّهَا، وَلَعَلَّ تَوْسِيطَ الِاسْتِئْذَانِ بَيْنَ حَالَتَيِ الصَّلَاةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعِبَادِ، وَخَصَّ الِاسْتِئْذَانَ، أَيْ: مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ مَنْ رَاعَى هَذِهِ الدَّقِيقَةَ فَهُوَ بِمُرَاعَاةِ مَا فَوْقَهَا أَحْرَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ (وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فَقَطْ.

ص: 840

1071 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ لِطَعَامٍ وَلَا لِغَيْرِهِ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".

ــ

1071 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ) أَيْ: عَنْ وَقْتِهَا (لِطَعَامٍ وَلَا لِغَيْرِهِ) : كَالْحَقِنِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، أَيْ لَا تُؤَخِّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه السلام:" إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ " الْحَدِيثَ، فَلَا مُنَافَاةَ. قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى، لَا تُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ لِغَرَضِ الطَّعَامِ، لَكِنْ إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ أَخِّرُوهَا لِلطَّعَامِ، قُدِّمَتْ لِلِاشْتِغَالِ بِهَا تَبْجِيلًا لَهَا، وَأُخِّرَتْ تَفْرِيغًا لِلْقَلْبِ عَنِ الْغَيْرِ تَعْظِيمًا لَهَا، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمُورِ بِالذَّاتِ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ بَعْضَ الْأُمُورِ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا لِتَحْصِيلِ كَمَالِهَا إِذَا وَسِعَ الْوَقْتُ، وَأَمَّا عِنْدُ ضِيقِ الزَّمَانِ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهَا، فَيَكُونُ فِي تَقْدِيمِ الْأُمُورِ وَتَأْخِيرِهَا تَقْدِيمٌ لِأَمْرِ الصَّلَاةِ تَبْجِيلًا لَهَا، قَالَ: وَالْأَوْجَهُ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ عَلَى إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَالْمُلَابَسَةِ بِغَيْرِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، أَيْ: لَا تَتَعَرَّضُوا لِمَا إِنْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تُؤَخِّرُوهَا لِأَجْلِهِ ; مِنْ إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْإِحْضَارِ، بَلْ تَوَقَانُ النَّفْسِ وَاضْطِرَابُهَا إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهُوَ أَمْرٌ اضْطِرَارِيٌّ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، كَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ، عَلَى مَا إِذَا كَانَ مُتَمَاسِكًا فِي نَفْسِهِ لَا يُزْعِجُهُ الْجُوعُ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا يَخَافُ فَوْتَهُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. (رَوَاهُ) أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِيهِ.

ص: 841

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1072 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ ; إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ. حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلَاةَ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى غَدًا مُسْلِمًا ; فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ ; إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1072 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا) أَيْ: مَعْشَرَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ اتِّحَادَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إِنَّمَا يَسُوغُ فِي أَفْعَالِ الْقُلُوبِ، وَأَنَّهَا مِنْ دَاخِلِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ هَاهُنَا وَسَدَّ قَوْلُهُ:(وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ) أَيْ: بِالْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَوْ لِوَصْفِ الدَّوَامِ، وَهُوَ حَالٌّ مَسَدَّهُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَكِنْ فِي كَوْنِ اتِّحَادِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ هُنَا بَحْثٌ ; إِذِ الْمُرَادُ بِالْفَاعِلِ الْمُتَكَلِّمُ وَحْدَهُ، وَبِالْمَفْعُولِ هُوَ وَغَيْرُهُ. (إِلَّا مُنَافِقٌ) : قَالَ الشَّمَنِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُنَافِقِ هَاهُنَا مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَإِلَّا لَكَانَتِ الْجَمَاعَةُ فَرِيضَةً ; لِأَنَّ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ كَافِرٌ، وَلَكَانَ آخِرُ الْكَلَامِ مُنَاقِضًا لِأَوَّلِهِ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ النِّفَاقَ سَبَبُ التَّخَلُّفِ لَا عَكْسُهُ، وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ لَا فَرِيضَةٌ لِلدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَأَنَّ الْمُنَاقَضَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ. (قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنْ قُلْتَ: كَيْفَ مَعَ عِلْمِ نِفَاقِهِ يُقِرُّ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: لِمَصْلَحَةِ أَنْ لَا يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَرُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ النِّفَاقَ فِي أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَظُنُّونَهُ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الظَّنِّ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي أَنَّ وَصْفَ النِّفَاقِ يَتَسَبَّبُ عَنِ التَّخَلُّفِ لَا إِخْبَارِ أَنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ التَّخَلُّفُ لَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَخَلَّفُ كَسَلًا مَعَ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيَقِينِ التَّوْحِيدِ، وَعَدَمِ النِّفَاقِ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الْوَاقِعَ إِذْ ذَاكَ أَنْ لَا يَقَعَ التَّخَلُّفُ إِلَّا مِنْ مُنَافِقٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى صِحَّةِ مَا سَبَقَ تَأْوِيلُهُ فِي الَّذِينَ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَحْرِيقِ بُيُوتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ. (أَوْ مَرِيضٌ) أَيْ: مَرِيضٌ كَامِلٌ فِي مَرَضِهِ (إِنْ كَانَ) : إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ (الْمَرِيضُ) أَيْ: خَفِيفُ الْمَرَضِ أَوْ قَوِيُّهُ، لَكِنْ لِحِرْصِهِ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:(لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ) أَيْ: يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِمَا لِشِدَّةِ مَا بِهِ

ص: 841

قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِ الْبَدَنِ (حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ) أَيْ: ابْنُ مَسْعُودٍ (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى) : بِضَمِّ السِّينِ، وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أَيْ: طَرِيقُ الْهُدَى وَالصَّوَابِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. (وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلَاةَ) أَيْ: بِالْجَمَاعَةِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ السِّيَاقِ (فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ) : لِأَنَّهُ لَا يُؤَذَّنُ إِلَّا لِإِمَامٍ فِيهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كِلَاهُمَا قَيْدٌ غَالِبِيٌّ، أَوْ شَرْطٌ لِلْأَكْمَلِ لِسُقُوطِ طَلَبِ الْجَمَاعَةِ يَفْعَلُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا، وَفِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ اهـ.

وَقَوْلُهُ: فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَدَارِسِ فِيهِ نَظَرٌ، حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِالْكِفَايَةِ فِي مَذْهَبِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ) أَيْ: ابْنُ مَسْعُودٍ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا ;) أَيْ: كَامِلًا (فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ) أَيْ: مَعَ الْجَمَاعَةِ (حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ) : مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَيُوجَدُ لَهُنَّ إِمَامٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، (وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ) أَيِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِالْجَمَاعَةِ (مِنْ سُنَنِ الْهُدَى) : بَلْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: " «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ» ". (وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) : يَعْنِي: وَلَوْ جَمَاعَةً (كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحْقِيرٌ لِلْمُتَخَلِّفِ وَتَبْعِيدٌ مِنْ مَظَانِّ الزُّلْفَى (فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ: سُنَنَ نَبِيِّكُمْ (وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ الْعَزِيمَةُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَتَسْمِيَتُهَا سُنَّةٌ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَائِلِينَ بِالسُّنِّيَّةِ ; إِذْ لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ سُنَنَ الْهُدَى أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ لُغَةً كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَقَوْلُهُ: لَضَلَلْتُمْ يُعْطِي الْوُجُوبَ ظَاهِرًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ: لَكَفَرْتُمْ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: " «الْجَفَاءُ كُلُّ الْجَفَاءِ الْكُفْرُ، وَالنِّفَاقُ مَنْ سَمِعَ مُنَادِيَ اللَّهِ يُنَادِي إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُجِيبُهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، فَيُفِيدُ الْوَعِيدُ مِنْهُ عليه السلام عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ لِهَذَا الْوَاجِبِ سُنَّةٌ لِكَوْنِهِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَيِ الْحَدِيثِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُفِيدُ تَعْلِيقَ الْوُجُوبِ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ، وَيَتَوَقَّفُ الْوَعِيدُ فِي حَدِيثِ التَّحْرِيقِ عَلَى كَوْنِهِ لِتَرْكِ الْحُضُورِ دَائِمًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ " لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ " وَقَوْلِهِ الْآخَرِ: يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ، كَمَا يُعْطِهِ ظَاهِرُ إِسْنَادِهِ بِالْمُضَارِعِ فِي مِثْلِهِ نَحْوَ: بَنُو فُلَانٍ يَأْكُلُونَ الْبُرَّ، أَيْ: عَادَتُهُمْ. (وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ) : بِوُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ (فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ) : بِضَمِّ الطَّاءِ، أَيْ: يَأْتِي بِوَاجِبَاتِهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ. (ثُمَّ يَعْمِدُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، أَيْ يَتَوَجَّهُ وَيَقْصِدُ (إِلَى مَسْجِدٍ) وَفِي نُسْخَةٍ: الْمَسْجِدِ (مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ) أَيْ: مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ (إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ أَوْ ضَمِّهَا (يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَرَفَعَهُ، وَهُوَ أَنْسَبُ بِالسَّابِقِ وَاللَّاحِقِ (وَحَطَّ) أَيْ: وَضَعَ وَمَحَا (عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا) أَيْ: نَحْنُ مُعَاشِرَ الصَّحَابَةِ أَوْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ (وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا) أَيْ: عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ (إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ) أَيْ: ظَاهِرُهُ (وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ) أَيِ: الْمَرِيضُ (يُؤْتَى بِهِ) : إِلَى الصَّلَاةِ (يُهَادَى) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يَمْشِي وَيَتَمَايَلُ (بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ) : مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا مِنْ ضَعْفِهِ وَتَمَايُلِهِ، مِنْ تَهَادَتِ الْمَرْأَةُ فِي مِشْيَتِهَا: إِذَا تَمَايَلَتْ (حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 842

1073 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:" «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، أَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحْرِقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

1073 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ) أَيِ: الصِّغَارِ، وَفِي مَعْنَاهَا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ:(مِنْ) بَيَانُ " مَا " إِمَّا لِإِرَادَةِ الْوَصْفِيَّةِ وَبَيَانِ أَنَّ النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَعْقِلُ، وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الْبُيُوتَ مُحْتَوِيَةٌ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْأَمْتِعَةِ وَالْأَثَاثِ، فَخُصَّتَا بِالذِّكْرِ لِلِاعْتِنَاءِ اهـ. وَيَرُدُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ آخِرُ الْحَدِيثِ: يُحْرِقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا فِي الْبُيُوتِ. بِمَعْنَى " مَنْ " وَالْمُرَادُ الْمُتَخَلِّفُ. (أَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ "، أَيْ: أَمَرْتُ بِإِقَامَةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ لِلْجَمَاعَةِ، وَتَخْصِيصُهَا لِكَثْرَةِ تَخَلُّفِ الْمُتَخَلِّفِينَ فِيهَا. (وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي) : وَفِي رِوَايَةٍ: فِتْيَتِي، أَيْ: غِلْمَانِي وَخَدَمِي، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَقْوِيَاءُ أَصْحَابِي (يُحَرِّقُونَ) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ (مَا فِي الْبُيُوتِ) : فِيهِ تَغْلِيبُ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ، أَوْ تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ لَمَا تَخَلَّفُوا (بِالنَّارِ) : فِيهِ تَأْكِيدٌ وَوَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 843

1074 -

وَعَنْهُ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

1074 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: بِأَمْرٍ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (إِذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ) أَيْ: أُذِّنَ أَوْ أُقِيمَ (بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَأْمُورُ بِهِ مَحْذُوفٌ، وَقَوْلُهُ: إِذَا كُنْتُمْ إِلَخْ. مَقُولٌ لِلْقَوْلِ، وَهُوَ حَالٌ بَيَانٌ لِلْمَحْذُوفِ، وَالْمَعْنَى أُمِرْنَا أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِذَا كُنَّا فِيهِ وَسَمِعْنَا الْأَذَانَ حَتَّى نُصَلِّيَ " قَائِلًا إِذَا كُنْتُمْ " اهـ.

وَفِيهِ تَكَلُّفٌ بَلْ تَعَسُّفٌ، لَكِنْ يُوَضِّحُهُ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا نَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ سَمَاعِ أَذَانِهِ، لَكِنْ لَيْسَ بِصِيغَةِ أَمْرٍ بَلْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذَا كُنْتُمْ إِلَخْ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: يُكْرَهُ لَهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ صَلَّى وَلَيْسَ مِمَّنْ يَنْتَظِمُ بِهِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى، مِمَّنْ كَانَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ قَيْدٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدَ حَيِّهِ، أَوْ قَدْ صَلَّوْا فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ، فَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَخْرُجَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 843

1075 -

وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا أُذِّنَ فِيهِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1075 -

(وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا أُذِّنَ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم : قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: وَأَمَّا مَنْ ثَبَتَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ فِيهِ فَقَدْ أَطَاعَ أَبَا الْقَاسِمِ، يَعْنِي: أَمَّا التَّفْصِيلِيَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِشَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ وَزَادَ: ثُمَّ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ» " وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلْعَصْرِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ، وَمِثْلُ هَذَا مَوْقُوفٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ فِيهِ، وَفِي نَظَائِرِهِ: مُسْنَدٌ، كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ وَقَالَ: لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ.

ص: 843

1076 -

وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ، فَهُوَ مُنَافِقٌ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1076 -

(وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ مِنَ الْعِفَّةِ وَقِيلَ: مُنْصَرِفٌ مِنَ الْعُفُونَةِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ، لَمْ يَخْرُجْ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ (لِحَاجَةٍ، وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا، أَيِ: الرُّجُوعَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَهُوَ مُنَافِقٌ) أَيْ: عَاصٍ، أَوْ فَهُوَ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ كَالْمُنَافِقِ فَهُوَ جَوَابٌ أَوْ خَبَرُ " مَنْ ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 844

1077 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:" «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

ــ

1077 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ) أَيِ: الْأَذَانَ لِلْمَكْتُوبَةِ (فَلَمْ يُجِبْهُ) : بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الثَّانِي (فَلَا صَلَاةَ) : كَامِلَةٌ أَوْ مَقْبُولَةٌ (لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ) : اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عَدَمِ الْإِجَابَةِ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي كِتَابِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا.

ص: 844

1078 -

«وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رضي الله عنه، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ، وَأَنَا ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ؟ قَالَ: " هَلْ تَسْمَعُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَحَيَّهَلَا ". وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

1078 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) : مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْيَانًا (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ) :

أَيِ: الْمُؤْذِيَاتِ مِنَ الْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ (وَالسِّبَاعِ) : كَالذِّئَابِ أَوِ الْكِلَابِ، (وَأَنَا ضَرِيرُ الْبَصَرِ) أَيْ أَعْمَى (فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ؟) أَيْ: فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ. (قَالَ: " هَلْ تَسْمَعُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: هَلْ تَسْمَعُ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ؟) أَيِ: الْأَذَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّفْظَانِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَحَيَّهَلَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَلِمَةُ حَثٍّ وَاسْتِعْجَالٍ وُضِعَتْ مَوْضِعَ أَجِبْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَآثَرَهَا لِأَنَّ أَحْسَنَ الْجَوَابِ مَا كَانَ مُشْتَقًّا مِنَ السُّؤَالِ وَمُنْتَزَعًا مِنْهُ. (وَلَمْ يُرَخِّصْ) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ لِلْمَفْعُولِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 844

1079 -

وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنها، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَقُلْتُ: مَا أَغْضَبَكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

1079 -

(وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ) : هِيَ زَوْجَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَاسْمُهَا خَيْرَةُ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَقُلْتُ: مَا أَغْضَبَكَ؟) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْأَشْيَاءِ (إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ جَوَابًا لِقَوْلِهَا: مَا أَغْضَبَكَ، عَلَى مَعْنَى رَأَيْتُ مَا أَغْضَبَنِي مِنَ الْأَمْرِ الْمُنْكَرِ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ اهـ.

وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ مُتَكَلِّفًا، أَيْ: شَيْئًا فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا، أَيْ وَالْآنَ قَدْ تَهَاوَنُوا فِي ذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَغْضَبَتْنِي الْأُمُورُ الْمُنْكَرَةُ الْمُحْدَثَةُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ; لِأَنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِمُ الْبَاقِي عَلَى الْجَادَّةِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا، فَيَكُونُ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا وَالْمَذْكُورُ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، كَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ عِنْدَ أَكْثَرِ رُوَاتِهِ: مَا أَعْرِفُ مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، وَعَلَيْهِ شَرْحُ ابْنِ بَطَّالٍ حَيْثُ قَالَ: مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي ذَرٍّ، وَكَرِيمَةَ: مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي الْوَقْتِ: مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ وَاحِدُ الْأُمُورِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُسْتَخْرَجَيِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ، هَكَذَا سَاقَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي جَمْعِهِ، هَكَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ ابْنِ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْبُخَارِيِّ، قَالَ: وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ: مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ، أَيْ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ، وَكَانَ لَفْظُ فِيهِمْ لِمَا حُذِفَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ صَحَّفَ بَعْضُ النَّقَلَةِ أَمْرَ بِأُمَّةٍ لِيَعُودَ الضَّمِيرُ فِي أَنَّهُمْ إِلَى الْأُمَّةِ اهـ كَلَامُ الشَّيْخِ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الْبُخَارِيِّ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 844

1080 -

وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَدَ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَإِنَّ عُمَرَ غَدَا إِلَى السُّوقِ، وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ، فَمَرَّ عَلَى الشِّفَاءِ أُمِّ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ لَهَا: لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ، فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَأَنْ أَشْهَدَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً. رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

1080 -

(وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَدَ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ) أَيْ: مَا وَجَدَهُ (فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَإِنَّ عُمَرَ غَدَا) أَيْ: ذَهَبَ (إِلَى السُّوقِ، وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ) : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ) : وَالْجُمْلَةُ حَالِيَةٌ مُعْتَرِضَةٌ (فَمَرَّ) أَيْ: عُمَرُ (عَلَى الشِّفَاءِ) : مَمْدُودًا لَقَبٌ أَوِ اسْمٌ (أُمِّ سُلَيْمَانَ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (فَقَالَ لَهَا: لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ) أَيْ: فِي صَلَاتِهِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ (فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَاتَ) أَيْ: سَهِرَ (يُصَلِّي) : فِي اللَّيْلِ (فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) أَيْ: بِالنَّوْمِ آخِرَ اللَّيْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَصْلُ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَأُسْنِدَ إِلَى مَكَانِهِ مَجَازًا. (فَقَالَ عُمَرُ: لَأَنْ أَشْهَدَ) أَيْ: أَحْضُرَ (صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً) أَيْ: مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ بِالنَّوَافِلِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ جَمَاعَةَ الصُّبْحِ آكَدُ مِنْ جَمَاعَةِ غَيْرِهَا، وَكَانَ عُمَرُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ:" «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ كَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ» ". ثُمَّ قَالَ: لَكِنْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: " «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ» "، وَأَوْقَعَ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ تَفْسِيرٌ، وَبَيَانٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ، أَوِ الْأَوَّلُ لِلْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الْقِيَامَ مِنَ النَّوْمِ أَصْعَبُ مِنْ دَفْعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي نُسْخَةٍ: لَيْلَتَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ الصُّبْحِ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: كَذَا فِي نُسْخَةِ الطِّيبِيِّ، وَعَلَيْهَا شَرْحُهُ حَيْثُ قَالَ: أَضَافَ اللَّيْلَ إِلَى الصُّبْحِ ; لِأَنَّ الْمُوَازَنَةَ وَقَعَتْ بَيْنَ ذَلِكَ الصُّبْحِ وَلَيْلِهِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

ص: 845

1081 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1081 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: اثْنَانِ مُبْتَدَأٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَخَصَّصَ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلٍ، فَإِنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَالْمَعْنَى اثْنَانِ وَمَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّعَاقُبِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ يُعَدُّ جَمَاعَةً نَحْوَ قَوْلِكَ: الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) : وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ: " «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا ثُمَّ أَقِيمَا فَلْيَؤُمُّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» ".

ص: 845

1082 -

وَعَنْ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ» ". فَقَالَ بِلَالٌ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; وَتَقُولُ أَنْتَ: لَنَمْنَعُهُنَّ.

ــ

1082 -

(وَعَنْ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ حُظُوظَهُنَّ) أَيْ: ثَوَابَهُنَّ الْحَاصِلَ لَهُنَّ بِحُضُورِهِنَّ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا (مِنَ الْمَسَاجِدِ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ (فَقَالَ بِلَالٌ) : فِيهِ تَجْرِيدٌ أَوِ الْتِفَاتٌ ; إِذْ أَصْلُهُ فَقُلْتُ: (وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ) أَيْ: لِمَا ظَهَرَ مِنَ الْفِتَنِ وَحَدَثَ مِنَ الْفَسَادِ فِي الزَّمَنِ، (فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ) أَيْ: أَبُوهُ (أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: فَتُعَارِضُ هَذَا النَّصَّ بِرَأْيِكَ (وَتَقُولُ أَنْتَ: لَنَمْنَعُهُنَّ! !) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعَاتَبَةَ لِمَا فِي ظَاهِرِ الْمُقَابَلَةِ بِالْمُعَارَضَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُكَافَحَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَلِهَذَا تَبِعَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مَنْعِ خُرُوجِ النِّسَاءِ، فَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَا يَنْوِي الْإِمَامُ النِّسَاءَ فِي زَمَانِنَا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِأَنَّهُنَّ مَمْنُوعَاتٌ مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْمُظْهِرِ أَنَّ خُرُوجَهُنَّ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ فِي زَمَانِنَا مَكْرُوهٌ.

ص: 845

1083 -

وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا مَا سَمِعْتُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ! رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1083 -

(وَفِي رِوَايَةِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَيْ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ) أَيْ سَالِمٌ (فَأَقْبَلَ) أَيْ: أَبُوهُ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى بِلَالٍ (يَسُبُّهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَسَبَّهُ (سَبًّا مَا سَمِعْتُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ) : وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ لِأَبِي يُوسُفَ حِينَ رُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا مَا أُحِبُّهُ فَسَلَّ السَّيْفَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ: جَدِّدِ الْإِيمَانَ وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ. (وَقَالَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ لِبِلَالٍ (أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ بِعَدَمِ مَنْعِهِنَّ (وَتَقُولُ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ!) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي أَنَا آتِيكَ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ، وَأَنْتَ تَتَلَقَّاهُ بِالرَّأْيِ، كَأَنَّ بِلَالًا لَمَّا اجْتَهَدَ وَرَأَى مِنَ النِّسَاءِ وَمَا فِي خُرُوجِهِنَّ إِلَى الْمَسَاجِدِ مِنَ الْمُنْكَرِ أَقْسَمَ عَلَى مَنْعِهِنَّ، فَرَدَّهُ أَبُوهُ بِأَنَّ النَّصَّ لَا يُعَارَضُ بِالرَّأْيِ، وَالرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ أَبْلَغُ لِسَبِّهِ إِيَّاهُ سَبًّا بَلِيغًا، وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 846

1084 -

وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلٌ أَهْلَهُ أَنْ يَأْتُوا الْمَسَاجِدَ» ". فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: فَإِنَّا نَمْنَعُهُنَّ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ هَذَا؟ ! قَالَ: فَمَا كَلَّمَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

1084 -

(وَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلٌ أَهْلَهُ) أَيْ: نِسَاءَهُ (أَنْ يَأْتُوا الْمَسَاجِدَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ ضَمِيرَ النِّسَاءِ تَعْظِيمًا لَهُنَّ حَيْثُ قَصَدْنَ السُّلُوكَ مَسْلَكَ الرِّجَالِ الرُّكَّعِ وَالسُّجُودِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] .

وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ

(فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) : وَهُوَ بِلَالٌ (فَإِنَّا نَمْنَعُهُنَّ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقُولُ هَذَا؟ قَالَ) أَيْ: مُجَاهِدٌ (فَمَا كَلَّمَهُ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى مَاتَ) أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَجِبْتُ مِمَّنْ يَتَسَمَّى بِالسُّنِّيِّ إِذَا سَمِعَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ رَأْيٌ رَجَّحَ رَأْيَهُ عَلَيْهَا، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُبْتَدِعِ، أَمَا سَمِعَ:" «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» "، وَهَا هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهَا كَيْفَ غَضِبَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَجَرَ فَلْذَةَ كَبِدِهِ لِتِلْكَ الْهَنَةِ عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ.

قُلْتُ: يُشَمُّ مِنْ كَلَامِ الطِّيبِيِّ رَائِحَةُ الْكِنَايَةِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الرَّأْيَ عَلَى الْحَدِيثِ، وَلِذَا يُسَمَّوْنَ أَصْحَابَ الرَّأْيِ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ لِدِقَّةِ رَأْيِهِمْ وَحَذَاقَةِ عَقْلِهِمْ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ النَّاسِ عِيَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّ جَمِيعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ إِمَامِهِمْ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ

ص: 846