المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب ما يقال عند من حضره الموت] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

- ‌[بَابُ الْمَوْقِفِ]

- ‌[بَابُ الْإِمَامَةِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ]

- ‌[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ]

- ‌[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[بَابُ الْوَتْرِ]

- ‌[بَابُ الْقُنُوتِ]

- ‌[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى]

- ‌[بَابُ التَّطَوُّعِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ وُجُوبِهَا]

- ‌[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

- ‌[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَتِيرَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

- ‌[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ]

- ‌[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [

- ‌بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

- ‌[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

- ‌[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

- ‌[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

الفصل: ‌[باب ما يقال عند من حضره الموت]

يَتَوَكَّلُونَ» . (فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا يَتَمَنَّ بِصِيغَةِ النَّهْيِ. (أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ أَيْ: لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ. (لِتَمَنِّيهِ) أَيْ: لِأَسْتَرِيحَ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ الَّذِي مِنْ شَأْنِ الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ تَنْفِرَ مِنْهُ وَلَا تَصْبِرَ عَلَيْهِ. (وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَمْلِكُ دِرْهَمًا) كَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ الْفُتُوحَاتِ الْعَظِيمَةَ لَمْ تَقَعْ إِلَى بَعْدُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ لَمَّا افْتَتَحَ أَفْرِيقِيَّةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ فِيهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاوُ قَسَمِيَّةٌ، وَاللَّامُ جَوَابُ الْقَسَمِ، أَقُولُ: لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ كَوْنِهَا قَسَمِيَّةٌ. قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عُلِّمْتُمْ} [البقرة: 65] اللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ قَالَهُ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا فِي حَاشِيَتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ لِلِابْتِدَاءِ، وَقَالَ عِصَامُ الدِّينِ: لَعَلَّ قَوْلَ الْبَيْضَاوِيِّ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ، وَالصَّوَابُ وَاللَّامُ بِتَقْدِيرِ الْقَسَمِ أَيْ: وَاللَّهِ، لَقَدْ عُلِّمْتُمْ ; إِذِ اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ مَا تُدْخِلُ شَرْطًا نَازَعَهُ الْقَسَمُ فِي جَزَائِهِ جَوَابًا اهـ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ} [الأحزاب: 15] يُقَدَّرُ لِذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ الْقَسَمُ، وَمِمَّا يُحْتَمَلُ جَوَابُ الْقَسَمِ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَدَّرَ الْوَاوُ عَاطِفَةً عَلَى ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ وَمَا قَبْلَهُ أَجْوِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68] وَهَذَا مُرَادُ ابْنِ عَطِيَّةَ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ قَسَمٌ وَالْوَاوُ تَقْتَضِيهِ أَيْ: هُوَ جَوَابُ قَسَمٍ، وَالْوَاوُ هِيَ الْمُحَصِّلَةُ لِذَلِكَ لِأَنَّهَا عَطَفَتْ وَتَوَهَّمَ أَبُو حَيَّانَ عَلَيْهِ مَالَا يُتَوَهَّمُ عَلَى صِغَارِ الطَّلَبَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاوَ جَوَابُ قَسَمٍ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَذْفُ الْمَجْرُورِ، وَبَقَاءُ الْجَارِّ وَحَذْفُ الْقَسَمِ مَعَ كَوْنِ الْجَوَابِ مَنْفِيًّا بِأَنْ. (وَإِنَّ فِي جَانِبِ بَيْتِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا. (الْآنَ لَأَرْبَعِينَ) اللَّامُ زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. (أَلْفَ دِرْهَمٍ قَالَ) أَيْ: حَارِثَةُ. (ثُمَّ أُتِيَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. (بِكَفَنِهِ فَلَمَّا رَآهُ) أَيْ: مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ. (بَكَى) قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى تَمَنِّي الْمَوْتِ، إِمَّا مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ اكْتَوَى بِسَبَبِهِ، أَوْ غِنًى خَافَ مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِالْجُمْلَةِ الْقَسَمِيَّةِ، وَبَيَّنَ فِيهَا تَغَيُّرَ حَالَتَيْهِ حَالَةِ صُحْبَتِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَالَتِهِ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَاسَ حَالَهُ فِي جَوْدَةِ الْكَفَنِ عَلَى حَالِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَكْفِينِهِ. (وَقَالَ: لَكِنَّ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَكِنْ. (حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلَّا بُرْدَةٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ. (مَلْحَاءُ) أَيْ: فِيهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ. (إِذَا جُعِلَتْ) أَيِ: الْبُرْدَةُ. (عَلَى رَأْسِهِ قَلَصَتْ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: قَصُرَتْ وَانْكَشَفَتْ. (عَنْ قَدَمَيْهِ وَإِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ) أَيِ: اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِيمَا يَكُونُ إِلَى فَوْقٍ. (عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى مُدَّتْ) أَيْ: وُضِعَتْ مَمْدُودَةً. (عَلَى رَأْسِهِ، وَجُعِلَ عَلَى قَدَمِهِ الْإِذْخِرُ) وَهُوَ حَشِيشَةٌ طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ يُسْقَفُ بِهَا الْبُيُوتُ فَوْقَ الْخَشَبِ، وَهَمْزَتُهَا زَائِدَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ لَكِنْ تَسْتَدْعِي الْمُخَالَفَةَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى فَأَيْنَ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: الْمَعْنَى إِنْ تَرَكْتُ مُتَابَعَةَ أُولَئِكَ السَّادَةِ الْكِرَامِ، وَمَا اقْتَفَيْتُ أَثَرَهُمْ حَيْثُ هَيَّأْتُ لِكَفَنِي مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ، لَكِنَّ حَمْزَةَ سَارَ بِسَيْرِهِمْ فَمَا وَجَدَ مَا يُوَارِيهِ حَيْثُ جُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، حَيْثُ تَأَسَّفَ سَعْدٌ مَعَ كَمَالِ سَعَادَتِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا فَخْرَ إِلَّا فِي الْفَقْرِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْقُوتِ وَالسُّتْرَةِ بِالْأَمْرِ الضَّرُورِيِّ لَا غَيْرَ وَإِنَّ خِلَافَ ذَلِكَ كَحَالَتِهِ الْآنَ غَيْرُ كَامِلٍ عِنْدَهُمْ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ. (لَمْ يَذْكُرْ: ثُمَّ أُتِيَ بِكَفَنِهِ إِلَى آخِرِهِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.

ص: 1165

[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

ص: 1165

بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1616 -

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، " «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

(بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ)

أَيْ: عَلَامَتُهُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1616 -

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) أَيْ: ذَكِّرُوا مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ مِنْكُمْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ أَوْ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، بِأَنْ تَتَلَفَّظُوا بِهَا أَوْ بِهِمَا عِنْدَهُ لَا أَنْ تَأْمُرُوهُ بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَنْ قَرُبَ مِنْكُمْ مِنَ الْمَوْتِ سَمَّاهُ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مَجَازًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» ، وَسَيَجِيءُ ذِكْرُ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَسُورَةِ يس بُعَيْدَ هَذَا اهـ. قِيلَ: وَيُمْكِنُ الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ يس بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَكَذَا التَّلْقِينُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الدَّفْنِ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ التَّلْقِينِ عَلَيْهِ أَحَقُّ مِنَ الْمُحْتَضَرِ ; لِأَنَّهُ فِي الْمُحْتَضَرِ لَا يَخْلُو عَنِ الْمَجَازِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الدَّفْنِ، وَلَا بَأْسَ إِطْلَاقُ كِلَيْهِمَا نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَوْلُهُ: إِطْلَاقُ التَّلْقِينِ إِلَخْ فِيهِ أَنَّ التَّلْقِينَ الْمُتَعَارَفَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي السَّلَفِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام مَعَ أَنَّ التَّلْقِينَ اللُّغَوِيَّ حَقِيقَةٌ فِي الْمُحْتَضَرِ مَجَازٌ فِي الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى السَّمَاعِ، وَأَوْجَبُ إِلَى الِانْتِفَاعِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "«اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» أَرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«افْتَحُوا عَلَى صِبْيَانِكُمْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَقِّنُوهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ أَوَّلُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ مَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ وَاحِدٌ» ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: غَرِيبٌ كَذَا فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَسَيَأْتِي حَدِيثُ «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ هَذَا التَّلْقِينُ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ بَلْ نَقَلَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

ص: 1166

1617 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا: خَيْرًا ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1617 -

(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ» ) أَيِ: الْحُكْمِيَّ فَأَوْ لِلشَّكِّ، أَوِ الْحَقِيقِيَّ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهَا لِلشَّكِّ، وَالْمُرَادُ مِنَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ. (فَقُولُوا خَيْرًا) أَيْ: لِلْمَرِيضِ اشْفِهِ، وَلِلْمَيِّتِ اغْفِرْ لَهُ ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ أَوْ لَكُمْ بِالْخَيْرِ، أَوْ قُولُوا لِلْمُحْتَضَرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا يُقَالُ لَهُ اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يَقُولُونَ آمِينَ. (عَلَى مَا تَقُولُونَ) أَيْ: مِنَ الدُّعَاءِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مِنَ الْأَدْعِيَةِ الصَّالِحَةِ فَعَلَيْهِ تَرْغِيبٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ زِيَادَةُ تَرْهِيبٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ.

ص: 1166

1618 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَوَّلُ بَيْتِ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1618 -

(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ) بِالتَّأْنِيثِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّذْكِيرِ. (مُصِيبَةٌ) عَظِيمَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ مِنْ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ. (فَيَقُولُ: مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ إِنَّا) بَدَلٌ مِنْ مَا أَيْ: إِنَّ ذَوَاتَنَا وَجَمِيعَ مَا يُنْسَبُ إِلَيْنَا. (لِلَّهِ) مِلْكًا وَخَلْقًا. (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ؟ قُلْتُ: لَمَّا أَمَرَهُ بِالْبِشَارَةِ وَأَطْلَقَهَا لِيَعُمَّ كُلَّ مُبَشَّرٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لِيَعُمَّ كُلَّ أَحَدٍ، نَبَّهَ عَلَى تَفْخِيمِ الْأَمْرِ، وَتَعْظِيمِ شَأْنِ هَذَا الْقَوْلِ، فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الْقَوْلِ مَطْلُوبًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ إِلَّا طَلَبَ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا لِلَّهِ تَسْلِيمٌ وَإِقْرَارٌ، بِأَنَّهُ وَمَا يَمْلِكُهُ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ عَارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، وَمِنْهُ الْبَدْءُ وَإِلَيْهِ الرُّجُوعُ وَالْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَصَبَرَ عَلَى مَا

ص: 1166

أَصَابَهُ، سَهُلَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَةُ، وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِذَلِكَ مَعَ الْجَزَعِ فَقَبِيحٌ، وَسُخْطٌ لِلْقَضَاءِ اهـ. وَالْأَقْرَبُ أَنَّ كُلَّ مَا مَدَحَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ خَصْلَةٍ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِهَا كَمَا أَنَّ الْمَذْمُومَةَ فِيهِ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: التَّلَفُّظُ بِذَلِكَ مَعَ الْجَزَعِ قَبِيحٌ فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ خَلْطِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالْعَمَلِ السُّوءِ كَالِاسْتِغْفَارِ مَعَ الْإِصْرَارِ قَالَ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102] . (اللَّهُمَّ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَفِيهِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقُ الدُّعَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ الدُّعَاءُ الْخَاصُّ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مَحْذُوفٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَلِّمَ أَمَتَهُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِخُصُوصِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ مَا ذَكَرَ فِيهِمَا اهـ. وَالِاحْتِمَالُ مُسَلَّمٌ وَالظَّاهِرُ مَمْنُوعٌ. (آجِرْنِي) بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَبِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْجِيمِ. (فِي مُصِيبَتِي) الظَّاهِرُ أَنَّ فِي بِمَعْنَى بَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهَا بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] فَغَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَجَرَهُ يُؤْجِرُهُ إِذَا أَثَابَهُ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَكَذَلِكَ آجَرَهُ يَأْجُرُهُ اهـ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهَا يَعْنِي مُجَرَّدَهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْقَامُوسِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الزَّيْنُ: آجَرَهُ اللَّهُ يَأْجُرُهُ وَيَأْجِرُهُ أَثَابَهُ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ لَكِنَّ الْكَسْرَ مَعَ الْقَصْرِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النُّسَخِ. قَالَ مِيرَكُ: رُوِيَ بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْجِيمِ، وَبِالْقَصْرِ وَضَمِّهَا، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مَقْصُورٌ لَا يُمَدُّ وَمَعْنَى أَجَرَهُ اللَّهُ أَعْطَاهُ أَجْرَهُ وَجَزَاءَ صَبْرِهِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ بِهَمْزِ الْوَصْلِ. قُلْتُ: هَذَا سَهْوٌ مِنْهُ ; لِأَنَّ الْهَمْزَةَ الْمَوْجُودَةَ إِنَّمَا هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ، وَهَمْزَةُ الْوَصْلِ سَقَطَتْ فِي الدَّرْجِ. (وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا) أَيِ: اجْعَلْ لِي خَلَفًا مِمَّا فَاتَ عَنِّي فِي هَذِهِ الْمُصِيبَةِ. (إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا) قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ يُقَالُ: لِمَنْ ذَهَبَ مَا لَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُ مِثْلِهِ بِأَنْ ذَهَبَ وَالِدُهُ خَلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْهُ بِغَيْرِ أَلْفٍ أَيْ: كَانَ اللَّهُ خَلِيفَةً مِنْهُ عَلَيْكَ، وَيُقَالُ لِمَنْ ذَهَبَ لَهُ مَالٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ مَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُ مِثْلِهِ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ، أَيْ: رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ مِثْلَهُ. (فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ) تَعْنِي زَوْجَهَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ عَلَى الْأَصَحِّ لِانْتِفَاضِ جُرْحِهِ الَّذِي جُرِحَ بِأُحُدٍ، وَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، أَسْلَمَ بَعْدَ عَشْرَةِ أَنْفُسٍ. (قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْجَبُ مِنْ تَنْزِيلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا عَلَى مُصِيبَتِهَا فِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي فِيمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بِالظَّعِينَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَخَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَابْنَ عَمَّتِهِ، اسْتِعْظَامًا لِأَبِي سَلَمَةَ اهـ. يَعْنِي عَلَى زَعْمِهَا. (أَوَّلُ بَيْتٍ) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ بَيَانٌ لِلتَّعَجُّبِ وَتَعْلِيلٌ لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ فَإِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ أَيْ: أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتٍ. (هَاجَرَ) أَيْ: مَعَ عِيَالِهِ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - بِنَاءً عَلَى الْمُتَابَعَةِ. (ثُمَّ أَنِّي قُلْتُهَا) أَيْ: كَلِمَةَ الِاسْتِرْجَاعِ، وَالدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ بَعْدَهَا. (فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - أَيْ: بِأَنْ جَعَلَنِي زَوْجَتَهُ، وَكَانَ عِوَضَ خَيْرٍ لِي مِنْ زَوْجِي أَبِي سَلَمَةَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

ص: 1167

1619 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرَهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ ; فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ: " لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ ; فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ": ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1619 -

(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. (قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرَهُ) بِفَتْحِ الشِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ إِذَا نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ، وَضَمُّ الشِّينِ مِنْهُ غَيْرُ مُخْتَارٍ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ عَنِ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: شَقَّ بَصَرُهُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ: بَقِيَ بَصَرُهُ مَفْتُوحًا هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَالشِّينُ مَفْتُوحَةٌ بِلَا خِلَافٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: أَنَّهُ يُقَالُ: شَقَّ بَصَرُ الْمَيِّتِ وَلَا يُقَالُ: شَقَّ الْمَيِّتُ بَصَرَهُ، وَهُوَ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَصَارَ يَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ وَلَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ، ذَكَرَهُ

ص: 1167

الْجَزَرِيُّ وَكَذَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ. (فَأَغْمَضَهُ) أَيْ: غَمَّضَ عَيْنَيْهِ صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا يَقْبُحَ مَنْظَرُهُ، وَالْإِغْمَاضُ بِمَعْنَى التَّغْمِيضِ وَالتَّغْطِيَةِ. (ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عِلَّةٌ لِلْإِغْمَاضِ ; لِأَنَّ الرُّوحَ إِذَا فَارَقَ. (تَبِعَهُ الْبَصَرُ) أَيْ: فِي الذِّهَابِ فَلَمْ يَبْقَ لِانْفِتَاحِ بَصَرِهِ فَائِدَةٌ أَوْ عِلَّةٌ لِلشَّقِّ أَيِ: الْمُحْتَضَرُ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ الْمُتَوَلِّي لِرُوحِهِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ شَزْرًا وَلَا يَرْتَدُّ طَرْفُهُ حَتَّى تُفَارِقَهُ الرُّوحُ، أَوْ تَضْمَحِلَّ بَقَايَا قُوَى الْبَصَرِ، وَيَبْقَى الْحَصْرُ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ شَخُصَ بَصَرُهُ ". قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " فَذَلِكَ حَتَّى يَتْبَعَ بَصَرُهُ نَفْسَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُ الْغِطَاءَ سَاعَتَئِذٍ حَتَّى يُبْصِرَ، قُلْتُ: يُؤَيِّدُهُ: {فَكَشْفنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] . (فَضَجَّ) بِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: رَفَعَ الصَّوْتَ بِالْبُكَاءِ، وَصَاحَ بِالنَّاسِ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ:(لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ) وَفِي رِوَايَةٍ نُسْكِتُهُمْ، بِالنُّونِ وَالتَّاءِ، فَقَالَ: إِلَخْ قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: لَا تَقُولُوا شَرًّا وَوَائِلًا أَوِ الْوَيْلَ لِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُمْ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يُرْجِعَ تَبِعَتَهُ إِلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ دَعَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِشَرٍّ وَيَكُونُ الْمَدَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيْ: بَعْضُكُمْ بَعْضًا اهـ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ) أَيْ: فِي دُعَائِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْأُولَى أَيِ: الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ سَابِقًا وَالْهِجْرَةِ إِلَى خَيْرِ الْأَنَامِ. (وَاخْلُفْهُ) بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَضَمِّ اللَّامِ مِنْ خَلَفَ يَخْلُفُ إِذَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ بَعْدَهُ فِي رِعَايَةِ أَمْرِهِ، وَحِفْظِ مَصَالِحِهِ أَيْ: كُنْ خَلَفًا أَوْ خَلِيفَةً لَهُ. (فِي عَقِبِهِ) بِكَسْرِ الْقَافِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فِي أَوْلَادِهِ وَإِلَّا ظَهَرَ مَنْ يَعْقُبُهُ وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ مِنْ وَلَدٍ وَغَيْرِهِ، وَلِذَا أَبْدَلَ عَنْ عَقِبِهِ لِقَوْلِهِ:(فِي الْغَابِرِينَ) بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ: الْبَاقِينَ فِي الْأَحْيَاءِ مِنَ النَّاسِ) ، فَقَوْلُهُ فِي الْغَابِرِينَ حَالٌ مِنْ عَقِبِهِ، أَيْ: أَوْقِعْ خِلَافَتَكَ فِي عَقِبِهِ كَائِنِينَ فِي جُمْلَةِ الْبَاقِينَ مِنَ النَّاسِ. (وَاغْفِرْ لَنَا) يَصِحُّ أَنَّهَا لِتَعْظِيمِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ الْأُمَّةِ. (وَلَهُ) أَيْ: أَبِي سَلَمَةَ خُصُوصًا، وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ تَأْكِيدًا. (يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْسِحْ لَهُ) أَيْ: وَسِّعْ. (فِي قَبْرِهِ) دُعَاءٌ بِعَدَمِ الضَّغْطَةِ. (وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ) أَيْ: فِي قَبْرِهِ، أَرَادَ بِهِ دَفْعَ الظُّلْمَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) الْأَخْصَرُ أَنَّهُ كَانَ يُجْمِلُ وَيَقُولُ: رَوَى الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ مُسْلِمٌ.

ص: 1168

1620 -

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدَةٍ حِبَرَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1620 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ: (سُجِّيَ) أَيْ: غُطِّيَ وَسُتِرَ. (بِبُرْدَةٍ حِبَرَةٍ) بِالْإِضَافَةِ وَتَرْكِهَا، وَالْحِبَرَةُ بِوَزْنِ الْعِنَبَةِ بُرْدٌ يَمَانٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ الْحِبَرُ مِنَ الْبُرُودِ مَا كَانَ مُوشًّى مُخَطَّطًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: إِلَّا أَنَّ مُسْلِمًا قَالَ: بِثَوْبِ حِبَرَةٍ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.

ص: 1168

الْفَصْلُ الثَّانِي

1621 -

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

(الْفَصْلُ الثَّانِي)

1621 -

(عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ) بِرَفْعِ آخِرِهِ وَقِيلَ بِنَصْبِهِ. (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مَحَلُّهُ النَّصْبُ أَوِ الرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ أَوِ الِاسْمِيَّةِ. قَالَ مِيرَكُ: الْمُرَادُ بِهِ قَرِينَتُهُ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عَلَمٍ لِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْخَاتِمَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ) قَوْلُهُ: الْمُرَادُ مَعَ قَرِينَتِهِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِلْمِ الظَّاهِرِ، أَوْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِلْمٍ فَيَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ لَفْظًا وَإِنْ كَانَ يُرَادُ قَرِينَتُهُ مَعْنًى، وَهُوَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ. (دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَمَّا قَبْلَ الْعَذَابِ

ص: 1168

دُخُولًا، أَوْ بَعْدَ أَنْ عُذِّبَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ، وَالْأَوَّلُ الْأَظْهَرُ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِمْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَثِيرٌ مِنَ الْمُخَالِفِينَ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَتَكَلَّمُونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فَلَابُّدَ مِنْ ذِكْرِ قَرِينَتِهَا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قُلْتُ: إِنَّ الْقَرِينَةَ صُدُورُهُ عَنْ صَدْرِ الرِّسَالَةِ اهـ. وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُهُ فَالْأَوْجَهُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْقَرِينَةِ فِي مُتَجَدِّدِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمَشْحُونُ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَاعْتِرَافِهِ بِنَبُّوتِهِ عليه الصلاة والسلام فَيُكْتَفَى عَنْهُ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الْمُتَضَمِّنِ لِلنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَغَيْرِهَا فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْمُرَادِ. مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِهِ الشَّهَادَتَانِ، وَأَنَّهُ عَلَمٌ لَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ شَامِلٌ لِلِّسَانِيِّ وَالنَّفْسَانِيِّ لِرِوَايَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَفْضَلُ، وَالْمُرَادُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

ص: 1169

1622 -

وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اقْرَءُوا سُورَةَ يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1622 -

(وَعَنْ مَعْقِلٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ. (بْنِ يَسَارٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اقْرَءُوا سُورَةَ يس عَلَى مَوْتَاكُمْ» ) أَيِ: الَّذِينَ حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي قِرَاءَتِهَا أَنْ يَسْتَأْنِسَ الْمُحْتَضَرُ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَيِّتِ الَّذِي حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَكَأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْأَمْوَاتِ، وَأَنْ يُرَادَ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ أَوْ دُونَ مَدْفَنِهِ. قَالَ الْإِمَامُ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ: الْأَمْرُ بِقِرَاءَةِ يس عَلَى مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ مَعَ وُرُودِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ " يس» إِيذَانًا بِأَنَّ اللِّسَانَ حِينَئِذٍ ضَعِيفُ الْقُوَّةِ، وَسَاقِطُ الْمِنَّةِ، لَكِنَّ الْقَلْبَ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ مَا يَزْدَادُ قُوَّةً قَلْبُهُ وَيَسْتَمِدُّ تَصْدِيقَهُ بِالْأُصُولِ فَهُوَ إِذَنْ عَمَلُهُ وَمَهَامُّهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - أَنَّ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ إِلَى خَاتِمَتِهَا مَشْحُونَةٌ بِتَقْرِيرِ أُمَّهَاتِ الْأُصُولِ، وَجَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْمُعْتَبَرَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْعُلَمَاءُ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَكَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ، وَإِثْبَاتِ الْقَدَرِ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَنَفْيِ الضِّدِّ وَالنِّدِّ وَأَمَارَاتِ السَّاعَةِ، وَبَيَانِ الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ وَحُضُورِ الْعَرَصَاتِ وَالْحِسَابِ، وَالْجَزَاءِ وَالْمَرْجِعِ وَالْمَآبِ، فَحَقُّهَا أَنْ تُقْرَأَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَ رَأْسِهِ سُورَةُ " يس " إِلَّا هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ» اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْضًا «يس قَلْبُ الْقُرْآنِ، لَا يَقْرَؤُهَا عَبْدٌ يُرِيدُ الدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ; فَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» . قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْمُرَادُ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ «مَا مِنْ مَيِّتٍ يُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إِلَّا هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، وَخَالَفَهُ بَعْضُ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ، فَقَالَ: بَلْ يُقْرَأُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ مُسَجًّى، وَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّهُ يُقْرَأُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ ابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ:«مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَقَرَأَ عِنْدَهُمَا يس غُفِرَ لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا» .

ص: 1169

1623 -

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ وَهُوَ يَبْكِي حَتَّى سَالَ دُمُوعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِ عُثْمَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1623 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ) بِالتَّشْدِيدِ. (عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَخٌ رَضَّاعِيٌّ لَهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ: نِعْمَ السَّلَفُ هُوَ لَنَا، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ عَابِدًا مُجْتَهِدًا مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ. (وَهُوَ مَيِّتٌ) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (يَبْكِي حَتَّى سَالَ دُمُوعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِ عُثْمَانَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ تَقْبِيلَ الْمُسْلِمِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْبُكَاءَ عَلَيْهِ جَائِزٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيٌّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

ص: 1169

1624 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَيِّتٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1624 -

(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَيِّتٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا مَاتَ، فَالْأَوْلَى إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا عِنْدَ أَحْمَدَ: أَنَّهُ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَحَدَرَ فَاهُ فَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَانَبِيَّاهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَحَدَرَ فَاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاصَفِيَّاهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَحَدَرَ فَاهُ، وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، وَقَالَ وَاخَلِيلَاهُ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَوَضَعَ فَاهُ عَلَى جَبِينِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُقَبِّلُهُ وَيَبْكِي وَيَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، كَذَا فِي الْمَوَاهِبِ.

ص: 1170

1625 -

وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ: «أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ الْبَرَاءِ مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَرَى طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ بِهِ الْمَوْتُ فَآذِنُونِي بِهِ وَعَجِّلُوا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1625 -

(وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ وَحْوَحٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ. (أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ الْبَرَاءِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي قَالَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا مَاتَ وَصَلَّى عَلَيْهِ " «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ وَأَنْتَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ وَيَضْحَكُ إِلَيْكَ» " عِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، رَوَى عَنْهُ حُصَيْنُ بْنُ وَحْوَحٍ. (مَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَالَ: إِنِّي لَا أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزِ أَيْ: لَا أَظُنُّ. (طَلْحَةَ إِلَّا قَدْ حَدَثَ) أَيْ: ظَهَرَ. (بِهِ الْمَوْتُ فَآذِنُونِي) بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الذَّالِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الذَّالِ أَيْ: أَعْلِمُونِي. (بِهِ) أَيْ: بِمَوْتِهِ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَعَجِّلُوا) أَيْ: غُسْلَهُ وَتَجْهِيزَهُ وَتَكْفِينَهُ وَدَفْنَهُ. (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ) أَيْ: جُثَّتُهُ. (أَنْ تُحْبَسَ) أَيْ: تُقَامَ وَتُوقَفَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِلْحُكْمِ بِعَدَمِ الْحَبْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عَزِيزٌ مُكَرَّمٌ فَإِذَا اسْتَحَالَ جِيفَةً وَنَتِنًا اسْتَقْذَرَهُ النُّفُوسُ وَتَنْبُو عَنْهُ الطِّبَاعُ ; فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْرِعَ فِيمَا يُوَارِيهُ فَيَسْتَمِرُّ عَلَى عِزَّتِهِ فَذِكْرُ الْجِيفَةِ هُنَا كَذِكْرِ السَّوْأَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيه} [المائدة: 31] السَّوْأَةُ الْفَضِيحَةُ لِقُبْحِهَا قَالَ مِيرَكُ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: جِيفَةُ مُسْلِمٍ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ كَمَا زَعَمَ. (بَيْنَ ظَهَرَانَيْ أَهْلِهِ) أَيْ: بَيْنَ أَهْلِهِ وَالظَّهْرُ مُقْحَمٌ، وَالْعَرَبُ تَضَعُ الِاثْنَيْنِ مَقَامَ الْجَمْعِ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ: يُقَالُ: هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ أَيْ: أَقَامَ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِظْهَارِ أَوِ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ بَيْنَ ظَهْرَيْهِمْ ظَهْرٌ مِنْهُمْ قُدَّامَهُ، وَظَهْرٌ وَرَاءَهُ فَهُوَ بِهِمْ مَكْفُوفٌ مِنْ جَانِبِهِ أَوْ مِنْ جَوَانِبِهِ، إِذَا قِيلَ: بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَاسْتُعْمِلَ فِي الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ مُطْلَقًا، وَالْأَلِفُ وَالنُّونُ زَائِدَتَانِ أَيْ: لَا تَتْرُكُوا الْمَيِّتَ زَمَانًا طَوِيلًا لِئَلَّا يَنْتُنَ وَيَزِيدَ حُزْنُ أَهْلِهِ عَلَيْهِ اهـ. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ الْمَعْنَوِيِّ ظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَالتَّثْنِيَةُ فِيهِ لَفْظِيَّةٌ فَقَطْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

ص: 1170

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1626 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ لِلْأَحْيَاءِ قَالَ: أَجْوَدُ وَأَجْوَدُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)

1626 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بِهَا، كَانَ جَوَادًا ظَرِيفًا، عَفِيفًا حَلِيمًا، يُسَمَّى بَحْرُ الْجُودِ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ أَسْخَى مِنْهُ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ) أَيِ: الْمُشْرِفِينَ عَلَى الْمَوْتِ. (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ) أَيِ: الَّذِي لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ. (الْكَرِيمُ) أَيِ: الَّذِي أَعْطَى قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ. (سُبْحَانَ اللَّهِ) أَيْ: مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا خَطَرَ بِبَالِكَ فَإِنَّهُ وَرَاءَ ذَلِكَ. (رَبِّ الْعَرْشِ) إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ لِتَنَزُّهِهِ عَنِ الْمَكَانِ. (الْعَظِيمِ) صِفَةٌ لِلْمُضَافِ أَوِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالثَّانِي أَبْلَغُ،

ص: 1170

وَوَصْفُهُ بِالْعَظَمَةِ ; لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمُحِيطٌ بِالْمُكَوِّنَاتِ. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ: عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ. (رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: خَالِقُهُمْ وَمُرَبِّيهِمْ. (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ) أَيْ: ذَلِكَ التَّلْقِينُ. (لِلْأَحْيَاءِ) أَيْ: لِلْأَصِحَّاءِ أَيَحْسُنُ أَمْ لَا. (قَالَ: أَجْوَدُ وَأَجْوَدُ) أَيْ: أَحْسَنُ كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّكْرَارُ لِلِاسْتِمْرَارِ أَيْ: جَوْدَةٌ مَضْمُومَةٌ إِلَى جَوْدَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى الْوَاوِ فِيهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَلِمَاتٍ مَنْ قَالَهُنَّ عِنْدَ وَفَاتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.»

ص: 1171

1627 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا قَالُوا: اخْرُجِي حَمِيدَةً أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخْرُجِي وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا تَزَالُ يُقَالُ لَهَا: ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحَ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادْخُلِي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ السُّوءُ قَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، اخْرُجِي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وَآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، فَمَا تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ. فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ، ارْجِعِي ذَمِيمَةً فَإِنَّهَا لَا تُفْتَحُ لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ; فَتُرْسَلُ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1627 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْمَيِّتُ) أَيْ: جِنْسُهُ وَالْمُرَادُ مَنْ قَرُبَ مَوْتُهُ. (تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلَائِكَةُ الْعُقُوبَةِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ اجْتِمَاعُ الطَّائِفَتَيْنِ لِإِبْهَامِ جِنْسِ الْمَيِّتِ ثُمَّ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالصَّلَاحِ وَالْفُجُورِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَيْهِ. (فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا) أَيْ: مُؤْمِنًا أَوْ قَائِمًا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَالْفَاسِقُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَكُونَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَشْيَةِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِالْكَافِرِ تُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْكَافِرِ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ السُّوءُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلصَّالِحِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ. (مُؤْمِنًا) إِلَى. (صَالِحًا) وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالرَّجُلِ السُّوءِ الْكَافِرَ ; لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفَاسِقَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} [هود: 108] الْآيَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ. (قَالُوا) أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. (اخْرُجِي) أَيْ: مِنْ جَسَدِكِ الطَّيِّبِ فَارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. (أَيَّتُهَا النَّفْسُ) أَيِ: الرُّوحُ. (الطَّيِّبَةُ) أَيِ: اعْتِقَادًا أَوْ أَخْلَاقًا، أَوِ الْمُطَمْئِنَّةُ بِذِكْرِ اللَّهِ، الْآمِنَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّفْسِ وَالرُّوحِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الصُّوفِيَّةُ فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ ; لِأَنَّهُمْ يُكَنُّونَ بِالنَّفْسِ عَنْ مَظْهَرِ الشَّرِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] وَبِالرُّوحِ عَنْ مَظْهَرِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] . (كَانَتْ) اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِلتَّعْلِيلِ (فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ) أَيْ: أَعْمَالًا أَوْ بِالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِانْقِيَادِ لِحُكْمِ اللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ كُنْتِ لِيُطَابِقَ النِّدَاءَ وَاخْرُجِي لَكِنِ اعْتَبَرَ اللَّامَ الْمَوْصُولَةَ أَيَ: النَّفْسَ الَّتِي طَابَتْ كَائِنَةً فِي الْجَسَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لِلنَّفْسِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا لَيْسَ نَفْسًا مُعَيَّنَةً بَلِ الْجِنْسُ مُطْلَقًا اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ مُنَاقَشَةٌ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لَمْ تَكُنْ مَوْصُولَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالنَّفْسُ مُعَيَّنَةٌ عِنْدَ النِّدَاءِ وَحِينَ الْخِطَابِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ إِخْبَارِهِ عليه الصلاة والسلام لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَكَانَتْ جَوَابًا عَمَّا يُقَلِّلُ مِنْ سَبَبِ طِيبِهَا، فَيُقَالُ: سَبَبُهُ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ السَّالِمِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ بَلِ الصَّوَابُ قَلْبُهُ فَإِنَّ طِيبَ الرُّوحِ سَبَبٌ لِطِيبِ الْقَالَبِ لَا عَكْسُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِ: " «إِذَا صَلُحَ الْقَلْبُ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» " الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ مَعْدِنُ التَّكْلِيفِ، وَمَنْبَعُ الْخِطَابِ فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ فِي الْأُخْرَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:(اخْرُجِي) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لَطِيفٌ يُوصَفُ بِالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَالصُّعُودِ وَالنُّزُولِ، وَهُوَ خِطَابٌ ثَانٍ، أَوْ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ:(حَمِيدَةً) أَيْ: مَحْمُودَةً جَمِيلَةً، أَوْ حَامِدَةً شَاكِرَةً. (وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: رَاحَةٍ. (وَرَيْحَانٍ) أَيْ: رِزْقٍ أَوْ مَشْمُومٍ وَالتَّنْوِينُ فِيهَا لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ. (وَرَبٍّ) أَيْ: وَبِمُلَاقَاةِ رَبٍّ. (غَيْرِ غَضْبَانَ) بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ وَفِي نُسْخَةٍ: بِالِانْصِرَافِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَدَلَ إِلَيْهِ عَنْ رَاضٍ رِعَايَةً لِلْفَاصِلَةِ أَيِ: السَّجْعِ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذَلِكَ أَبْلَغُ مِمَّا عَدَلَ عَنْهُ فَالْعَدْلُ عَنْهُ أَنْ لَا عُدُولَ

ص: 1171

فَتَأَمَّلْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: رَوْحٌ أَيِ: اسْتِرَاحَةٌ، وَلَوْ رُوِيَ بِالضَّمِّ كَانَ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ ; لِأَنَّهَا كَالرُّوحِ لِلْمَرْحُومِ. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ الْفَتْحُ أَيْضًا بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87]، وَقِيلَ: الْبَقَاءُ أَيْ: هَذَانِ لَهُ مَعًا، وَهُوَ الْخُلُودُ وَالرِّزْقُ، وَقَوْلُهُ: وَرَبٍّ. هَذَا مُقَرِّرٌ لِلْأَوَّلِ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وَنَحْوُهُ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الرُّوحَ بِضَمِّ الرَّاءِ بِمُخَالِفٍ لِلرِّوَايَةِ. (فَلَا تَزَالُ) أَيِ: النَّفْسُ. (يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ) أَيْ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِشَارَةِ زِيَادَةً فِي سُرُورِهَا بِسَمَاعِهَا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهَا. (حَتَّى تَخْرُجَ) أَيْ: بِطَيِّبَةٍ. (ثُمَّ يُعْرَجُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (بِهَا إِلَى السَّمَاءِ) أَيِ: الدُّنْيَا. (فَيُفْتَحُ لَهَا) أَيْ: بَعْدَ الِاسْتِفْتَاحِ أَوْ قَبْلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: تَطْلُبُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ مَعَهَا أَنْ يُفْتَحَ لَهَا فَلَا وَجْهَ لَهُ فَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ فَيُسْتَفْتَحُ مَكَانَ يُفْتَحُ. (فَيُقَالُ) أَيْ: يَقُولُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ. (مَنْ هَذَا فَيَقُولُونَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَيُقَالُ: أَيْ: يَقُولُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ الَّذِينَ مَعَهُ: (فُلَانٌ) أَيْ: هَذَا فُلَانٌ أَيْ: رُوحُهُ. (فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ) وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كَوْنِهِمْ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ يَعْرِفُونَ كُلَّ إِنْسَانٍ بِاسْمِهِ وَعَمَلِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى خَطَؤُهُ ; إِذِ الْعُلْوِيُّونَ مَا اطَّلَعُوا عَلَى اسْمِهِ إِلَّا بِالسُّؤَالِ مِنْ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، وَقَامُوا بِصُعُودِ رُوحِهِ، وَفَتْحِ بَابِ سَمَائِهِ عَلَى طِيبِ عَمَلِهِ. (ادْخُلِي) أَيْ: فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَا أَوْ فِي عِبَادِي أَيْ: مَحَلِّ أَرْوَاحِهِمْ. (حَمِيدَةً) أَيْ: مَحْمُودَةً أَوْ حَامِدَةً. (وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَلَا تَزَالُ) أَيْ: هِيَ. (يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَمْرِ بِالدُّخُولِ وَالْبِشَارَةِ بِالصُّعُودِ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ. (حَتَّى تَنْتَهِيَ) أَيْ: تَصِلَ. (إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللَّهُ) أَيْ: أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ أَيْ: ظُهُورُ مُلْكِهِ وَهُوَ الْعَرْشُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: رَحْمتُهُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَزَادَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} [آل عمران: 107] فَيُطَابِقُ فِي حَدِيثِ الْآيَتَيْنِ، وَهُمَا:(وَادْخُلِي جَنَّتِي) ، (وَجَنَّةَ نَعِيمٍ)، قُلْنَا: مَا فِي دُخُولِهَا الْجَنَّةَ الَّتِي هِيَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ وُصُولِهَا إِلَى الْفَلَكِ الْأَطْلَسِ، وَالْمَقَامِ الْأَقْدَسِ، وَيُنَاسِبُهُ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْجَنَّةِ فِي سَمَاءٍ بِعَيْنِهَا، لَا يُعْرَفُ لَهُ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ بَلْ قَالَ تَعَالَى:{عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] .

(فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ) بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ أَوْ نَاقِصَّةٌ. (السُّوءُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا صِفَةُ الرَّجُلِ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ ابْنِ حَجَرٍ رَفْعَ الْأَوَّلِ وَنَصْبَ الثَّانِي فَمُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ أَيْ: فَإِذَا وَجَدَ أَيْ: وَجَدَهُ أَعْنِي الْكَافِرَ أَوِ الْفَاسِقَ غَيْرَ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْآتِيَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عَادَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالسُّكُوتِ عَنْ حَالِ الْفَاجِرِ لُطْفًا وَرَحْمَةً لِيَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. (قَالَ) أَيْ: مَلَكُ الْمَوْتِ أَوْ رَئِيسُ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُطَابِقُ مَا سَبَقَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. (اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ) أَيِ: اعْتِقَادًا أَوْ أَحْوَالًا. (كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ) أَيْ: أَعْمَالًا. (اخْرُجِي ذَمِيمَةً) أَيْ: مَذْمُومَةً. (وَأَبْشِرِي) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] أَوْ عَلَى الْمُشَاكَلَةِ وَالِازْدِوَاجِ، وَحَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ مُقَابِلٌ لِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ. (بِحَمِيمٍ) أَيْ: مَاءٍ حَارٍّ غَايَةَ الْحَرَارَةِ. (وَغَسَّاقٍ) بِتَخْفِيفٍ وَتَشْدِيدٍ مَا يَغْسِقُ أَيْ: يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ: الْبَارِدُ الْمُنْتِنُ، قِيلَ: لَوْ قَطَرَتْ فِي الْمَشْرِقِ لَنَتَّنَتْ أَهْلَ الْمَغْرِبِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: الْغَسَّاقُ عَذَابٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. (وَآخَرَ) أَيْ: بِعَذَابٍ آخَرَ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: وَبِأَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنَ الْعَذَابِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: وَضُرُوبٌ أُخَرُ مَذُوقَةٌ وَيَصِحُّ فَتْحُ أَوَّلِهِ وَنَوْعٌ آخَرُ فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ ; لِأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَقُولَ: بِمَدِّ أَوَّلِهِ ثُمَّ جَعْلُهُ الْجَمْعَ أَصْلًا، وَتَجْوِيزُ الْمُفْرَدِ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ وَالنُّسَخُ الْمُصَحَّحَةُ. (مِنْ شَكْلِهِ) أَيْ: مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي الْحَرَارَةِ وَالْمَرَارَةِ. (أَزْوَاجٍ) بِالْجَرِّ أَيْ: أَصْنَافٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَأُخَرُ أَيْ: مَذُوقَاتٌ أُخَرُ مِثْلُ الْغَسَّاقِ فِي الشِّدَّةِ وَالْفَظَاعَةِ أَزْوَاجٌ أَجْنَاسٌ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا وَجْهَ لِإِرْجَاعِهِ الضَّمِيرَ إِلَى الْغَسَّاقِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَقْرَبَ مَذْكُورٍ، فَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ إِفْرَادَ

ص: 1172

الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ قَالَ: وَآخَرَ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى حَمِيمٍ. قُلْتُ: لَيْسَ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بَلْ مَجْرُورٌ بِالْفَتْحَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. قَالَ: وَأَزْوَاجٌ صِفَةٌ لِآخَرَ، وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا ; لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ الضُّرُوبِ وَالْأَصْنَافِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَعِي جِيَاعًا اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ النَّوْعِ وَالصِّنْفِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فِي الْآيَةِ أُخَرُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. (فَمَا تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ) بِالْكَرَاهَةِ (ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ) أَيْ: إِظْهَارٌ لِلْمَذَلَّةِ وَالْإِهَانَةِ (فَيُفْتَحُ لَهَا) أَيْ: يُسْتَفْتَحُ لَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] . (فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيُقَالُ: فُلَانٌ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَعْرِفُونَهُمْ بِمُجَرَّدِ اسْمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ فُلَانًا كِنَايَةٌ عَمَّا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَيُعْرَفُ بِهِ جَمِيعُ رَسْمِهِ وَأَمْرِهِ. (فَيُقَالُ: لَا مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الْخَبِيثَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْخَبِيثِ ارْجِعِي ذَمِيمَةً) أَيْ: مَذْمُومَةً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْخَلْقِ. (فَإِنَّهَا) أَيِ: الْقِصَّةَ. (لَا تُفْتَحُ) بِالتَّأْنِيثِ وَتُذَكَّرُ وَبِالتَّخْفِيفِ وَتُشَدَّدُ (لَكِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ فَتُرْسَلُ) أَيْ: تُرَدُّ وَسَيَأْتِي أَنَّهَا تُطْرَحُ. (مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَصِيرُ) أَيْ: تَرْجِعُ. (إِلَى الْقَبْرِ) وَتَكُونُ دَائِمًا مَحْبُوسَةً فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ بِخِلَافِ رُوحِ الْمُؤْمِنِ ; فَإِنَّهَا تَسِيرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَتَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِجَسَدِهِ أَيْضًا تَعَلُّقًا كُلِّيًّا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي قَبْرِهِ وَيُصَلِّي، وَيَتَنَعَّمُ وَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَنَازِلِهِ فِي الْجَنَّةِ بِحَسَبِ مُقَامِهِ وَمَرْتَبَتِهِ، فَأَمْرُ الرُّوحِ وَأَحْوَالُ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ كُلُّهَا عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَلَا يُشْكِلُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْمُؤْمِنِ بِالْآيَاتِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

ص: 1173

1628 -

وَعَنْهُ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا. قَالَ حَمَّادٌ: فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا وَذَكَرَ الْمِسْكَ. قَالَ: وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ، وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تُعَمِّرِينَهُ ; فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ.

قَالَ: وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ قَالَ حَمَّادٌ: وَذَكَرَ مِنْ نَتْنِهَا، وَذَكَرَ لَعْنًا، وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ، فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم رَيْطَةً كَانَتْ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1628 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ يُصْعِدَانِهَا» ) هَذَا تَفْصِيلٌ لِلْمُجْمَلِ السَّابِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا الْكَرِيمَانِ الْكَاتِبَانِ، وَلَا يُنَافِي الْجَمْعَ فِيمَا مَرَّ، أَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ فَالِاحْتِمَالُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ جَمْعٌ وَالْمُفَوَّضُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَالْبَقِيَّةُ أَوِ الْكُلُّ يَقُولُونَ لِرُوحِهِ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ، أَوِ الْقَائِلُ وَاحِدٌ، وَنُسِبَ إِلَى الْكُلِّ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَعَقَرُوهَا} [هود: 65] وَكَقَوْلِهِمْ: قَتَلَهُ بَنُو فُلَانٍ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الْآتِي. (قَالَ حَمَّادٌ) وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا دُونَ الْحَدِيثِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رَاوِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (فَذَكَرَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوِ الصَّحَابِيُّ وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ نِسْيَانَ رَاوِيهِ لَفْظَ النُّبُوَّةِ فِي هَذَا دُونَ مَعْنَاهُ فَذَكَرَهُ بِسِيَاقٍ يُشْعِرُ بِذَلِكَ. (مِنْ طِيبِ رِيحِهَا) أَيْ: أَوْصَافًا عَظِيمَةً مِنْ طِيبِ رِيحِهَا. (وَذَكَرَ) أَيْ: وَمِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ. (الْمِسْكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: وَذَكَرَ الْمِسْكَ، لَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كَالتَّشْبِيهِ أَوِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ اهـ. وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: وَذَكَرَ أَنَّ طِيبَ رِيحِهَا أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. (قَالَ:) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ) أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ أَيْ: كُلُّ سَمَاءٍ. (رُوحٌ طَيِّبَةٌ) مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ: هُوَ أَوْ هِيَ، وَقَوْلُهُ:(جَاءَتْ) يَعْنِي الْآنَ. (مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مِنْ جِهَتِهَا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ. (صَلَّى اللَّهُ) أَيْ: أَنْزَلَ الرَّحْمَةَ. (عَلَيْكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي عَلَيْكَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: جَاءَتْ إِلَى الْخِطَابِ، وَفَائِدَتُهُ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ لَهَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، قُلْتُ: وَلِمَزِيدِ التَّلَذُّذِ بِخِطَابِهِمْ إِيَّاهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَرَاهَةُ الصَّلَاةِ اسْتِقْلَالًا عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ مَحَلُّهَا إِنْ صَدَرَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا مِنْهُمْ لِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ فِي صَلَاتِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ مِنْ تَبَرُّعِ صَاحِبِ الْحَقِّ بِهِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَلِقَوْلِهِ عز وجل: " {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] . (وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ) بِضَمِّ الْمِيمِ يَعْنِي عَلَى ظَاهِرِكِ وَبَاطِنِكِ، وَتَقْدِيمُ الْبَاطِنِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ، وَالنَّظَرُ إِلَيْه أَتَمُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِعَارَةٌ، شَبَّهَ

ص: 1173

تَدْبِيرَهَا الْبَدَنَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِعِمَارَةِ مَنْ يَتَوَلَّى مَدِينَةً وَيُعَمِّرُهَا بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. (فَيُنْطَلَقُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَفِي رِوَايَةٍ فَيَنْطَلِقُونَ. (بِهِ إِلَى رَبِّهِ) أَيْ: إِلَى مَوْضِعِ حُكْمِهِ، أَوْ عَرْشِ رَبِّهِ، وَمَقَامِ قُرْبِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآتِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. (ثُمَّ يَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ. (انْطَلِقُوا بِهِ) أَيِ: الْآنَ، أَيْ: لِيَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي الْجَنَّةِ أَوْ عِنْدَهَا. (إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ) ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُ بِحُكْمِ الْأَزَلِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَجَلِ هُنَا مُدَّةُ الْبَرْزَخِ. قَالَ) الطِّيبِيُّ: يُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَجَلَيْنِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] أَيْ: أَجَلُ الْمَوْتِ وَأَجَلُ الْقِيَامَةِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ. قَالَ حَمَّادٌ: وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوِ الصَّحَابِيُّ. (مِنْ نَتْنِهَا) بِسُكُونِ التَّاءِ أَيْ: عَفَنِهَا. (وَذَكَرَ لَعْنًا) أَيْ: مَعَ النَّتَنِ، فَإِنَّ الْبُعْدَ مِنْ لَوَازِمِ النَّتَنِ. (وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ) مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. (رُوحٌ خَبِيثَةٌ جَاءَتْ) أَيْ: قَارَبَتِ السَّمَاءَ. (مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الْأَجَلِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ هَاهُنَا يُقَالُ، وَفِي الْأَوَّلِ يَقُولُ رِعَايَةً لِحُسْنِ الْأَدَبِ حَيْثُ نَسَبَ الرَّحْمَةَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَمْ يَنْسِبْ إِلَيْهِ الْغَضَبَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] . (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم رَيْطَةً) وَهِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ، كُلُّ مُلَاءَةٍ عَلَى طَاقَةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَتْ لُفْقَتَيْنِ أَيْ: طَرَفُ رَيْطَةٍ. (كَانَتْ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى بَدَنِهِ عليه الصلاة والسلام. (عَلَى أَنْفِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِرَدَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ عليه الصلاة والسلام كُوشِفَ بِرُوحِ الْكَافِرِ، وَشَمَّ مِنْ نَتَنِ رِيحِ رُوحِهِ. (هَكَذَا) أَيْ: كَفِعْلِي هَذَا، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى أَنْفِهِ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ، صَدَرَتْ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ أَيْ: فِيهَا مِنَ النَّتَنِ وَالْقُبْحِ مَا لَوْ ظَهَرَ لِأَحَدِكُمْ لَغَطَّى أَنْفَهُ عَنْهُ كَذَلِكَ اهـ. وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِغَيْرِ بَاعِثٍ نَقْلِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1174

1629 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللَّهِ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَأْتُوا بِهِ أَبْوَابَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ! فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ.

فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدُمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُونَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ أَمَا أَتَاكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: قَدْ ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطٌ عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عز وجل فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ إِلَى بَابِ الْأَرْضِ فَيَقُولُونَ: مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ؟ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

1629 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا قُبِضَ. (أَتَتْ) أَيْ: جَاءَتْهُ. (مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ) وَلَعَلَّ رُوحَهُ تُلَفُّ فِيهَا، وَتُرْفَعُ إِلَى السَّمَاءِ، وَالْكَفَنُ الدُّنْيَوِيُّ يَصْحَبُ الْجَسَدَ الصُّورِيَّ. (فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي) أَيْ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ. (رَاضِيَةً) عَنِ اللَّهِ سَابِقًا بِثَوَابِ اللَّهِ لَاحِقًا. (مَرْضِيًّا عَنْكِ) أَيْ: أَوَّلًا وَآخِرًا. (إِلَى رَوْحِ اللَّهِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: رَحْمَتِهِ أَوْ رَاحَةٍ مِنْهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28] . (وَرَيْحَانٍ) أَيْ: رِزْقٍ كَرِيمٍ، أَوْ مَشْمُومٍ عَظِيمٍ. (وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ) أَيْ: رَءُوفٍ رَحِيمٍ. (فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: تَخْرُجُ خُرُوجًا مِثْلَ رِيحِ مِسْكٍ بِفَتْقِ فَأْرَتِهَا، وَهُوَ قَدْ فَاقَ سَائِرَ أَرْوَاحِ الْمِسْكِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَتَخْرُجُ حَالَ كَوْنِهَا مِثْلَ أَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ، وَدَعْوَتُهُ أَنَّهُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَوْضَحُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ فَغَيْرُ وَاضِحٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْضَحَ. (حَتَّى إِنَّهُ) أَيِ: الْمُؤْمِنَ أَوْ رُوحَهُ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَوْ بِدُونِهِ فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَالْمَعْنَى حَتَّى إِنَّهُ مِنْ طِيبِ رُوحِهِ وَعَظَمَةِ رِيحِهِ. (يُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا) أَيْ: يَصْعَدُونَ بِهِ مَنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ تَكْرِيمًا، وَتَعْظِيمًا، وَتَشْرِيفًا، لَا كَسَلًا وَتَعَبًا وَتَكْلِيفًا، وَلِذَا تَنَاوَبُوهُ وَإِلَّا فَأَحَدُهُمْ لَا يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ. (حَتَّى يَأْتُوا) وَفِي رِوَايَةٍ فَيَشْتُمُونَهُ وَفِي رِوَايَةٍ فَيَشْتُمُونَهُ حَتَّى يَأْتُوا. (بِهِ أَبْوَابَ السَّمَاءِ) أَيْ: بَابًا بَعْدَ بَابٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: بَابَ السَّمَاءِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ، وَهُوَ غَايَةٌ لِلْمُنَاوَلَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: غَايَةٌ لِـ يَخْرُجُ فَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِالْغَايَةِ. (فَيَقُولُونَ) أَيْ: بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ لِبَعْضِ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ مِنْ غَايَةِ عَظَمَةِ طِيبِهِ. (مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي جَاءَتْكُمْ مِنَ الْأَرْضِ!) أَيْ: وَصَلَتْ إِلَيْكُمُ الْآنَ مِنْهَا. (فَيَأْتُونَ) وَفِي رِوَايَةٍ: كُلَّمَا أَتَوْا سَمَاءً، قَالُوا ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا أَيِ: الْمَلَائِكَةُ الْأَوَّلُونَ أَوِ الْمُسْتَقْبِلُونَ.

ص: 1174

السَّائِلُونَ. (بِهِ) أَيْ: بِرُوحِهِ. (أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: إِلَى مَقَرِّ أَرْوَاحِهِمْ فِي عِلِّيِّينَ أَوْ فِي الْجَنَّةِ، أَوْ عَلَى بَابِهَا، أَوْ تَحْتَ الْعَرْشِ بِحَسَبِ مَنْزِلَتِهِ. (فَلَهُمْ) الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ لِأَرْوَاحِهِمْ. (أَشَدُّ فَرَحًا) وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَهُمْ أَفْرَحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ مُؤَكِّدَةً نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] وَهُمْ مُبْتَدَأٌ، وَأَشَدُّ خَبَرُهُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ جَارَّةً أَيْ: لَهُمْ فَرَحٌ أَشَدُّ فَرَحًا ; فَيَكُونُ الْفَرَحُ فَرَحًا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. (بِهِ) أَيْ: بِقُدُومِهِ. (مِنْ أَحَدِكُمْ) أَيْ: مِنْ فَرَحِهِ. (بِغَائِبِهِ) أَيِ: الْمَخْصُوصِ بِهِ. (يَقْدَمُ عَلَيْهِ) أَيْ: حَالَ قُدُومِهِ. (فَيَسْأَلُونَهُ) أَيْ: بَعْضُ أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ) . (مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟) أَيْ: كَيْفَ حَالُهُ وَشَأْنُهُ؟ أَيْ: فِي الطَّاعَةِ لِيَفْرَحُوا بِهِ وَيَدْعُوا لَهُ بِالِاسْتِقَامَةِ أَوْ فِي الْمَعْصِيَةِ لِيَحْزَنُوا عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرُوا لَهُ. (مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟) تَأْكِيدٌ، أَوِ الْمُرَادُ شَخْصٌ آخَرُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (فَيَقُولُونَ) أَيْ: بَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْأَرْوَاحِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَيَقُولُ: أَيْ: بَعْضُهُمْ أَوْ أَحَدُهُمْ. (دَعُوهُ) أَيِ: اتْرُكُوهُ. (الْآنَ) وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَسْتَرِيحَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: دَعُوا الْقَادِمَ فَإِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِتَعَبِ الدُّنْيَا. (فَإِنَّهُ) أَيِ: الْقَادِمُ. (فِي غَمِّ الدُّنْيَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا فَكَانَ زَائِدَةٌ، أَوْ ضَمِيرُ فَإِنَّهُ لِلشَّأْنِ، وَكَانَ أَيِ: الْقَادِمُ فِي غَمِّ الدُّنْيَا إِلَى الْآنَ مَا اسْتَرَاحَ مِنْ هَمِّهَا. (فَيَقُولُ) أَيِ: الْقَادِمُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، وَالْجُمْلَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ. (قَدْ مَاتَ) أَيْ: فُلَانٌ الْمَسْئُولُ، أَوْ فُلَانٌ الثَّانِي، وَهُوَ الْأَقْرَبُ. (أَمَا أَتَاكُمْ) أَيْ: أَمَا جَاءَكُمْ. (فَيَقُولُونَ) وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِذَا قَالَ لَهُمْ: مَا أَتَاكُمْ فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ. يَقُولُونَ أَيْ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ: (قَدْ ذُهِبَ بِهِ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا

أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتَ: إِنَّهُ مَاتَ وَلَمْ يَلْحَقْ بِنَا فَقَدْ ذُهِبَ بِهِ اهـ.

وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ بِلَفْظِ أَوَمَا أُوتِيَ عَلَيْكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَوَقَدْ هَلَكَ. فَيَقُولُ: أَيْ وَاللَّهِ، فَيَقُولُونَ: نَرَاهُ قَدْ ذُهِبَ بِهِ. (إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ) أَيِ: النَّارِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] لِأَنَّهَا مَأْوَى الْمُجْرِمِ، وَمَقَرُّهُ كَمَا أَنَّ الْأُمَّ لِلْوَلَدِ كَذَلِكَ ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا زِيدَ فِي رِوَايَةِ: فَبِئْسَتِ الْأُمُّ الْمُرَبِّيَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأُمُّ الْمَصِيرُ، أُطْلِقَ عَلَى الْمَأْوَى عَلَى التَّشْبِيهِ ; لِأَنَّ الْأُمَّ مَأْوَى الْوَلَدِ وَمَقَرُّهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت: 25] وَالْهَاوِيَةُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَخَبَرٌ لِأُمِّهُ وَهِيَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، كَأَنَّهَا النَّارُ الْعَمِيقَةُ تُهْوِي أَهْلَ النَّارِ فِيهَا مَهْوًى بَعِيدًا. (وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ. (أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ) الْجَوْهَرِيُّ الْمِسْحُ بِالْكَسْرِ الْبِلَاسُ. (فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي سَاخِطَةً) أَيْ: كَارِهَةً غَيْرَ رَاضِيَةٍ عَنِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا. (مَسْخُوطًا) أَيْ: مَغْضُوبًا. (عَلَيْكِ) أَيْ: أَزَلًا وَأَبَدًا. (إِلَى عَذَابِ اللَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ اخْرُجِي. (عَزَّ) أَيْ: غَلَبَ كَلِمُهُ وَأَمْرُهُ. (وَجَلَّ) أَيْ: قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ. (فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ) بِإِثْبَاتِ النُّونِ وَرَفْعِهِ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ عَلَى حَدِّ: (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولُ الرَّسُولُ) فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: حَتَّى أَتَوْا يَعْنِي بِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (بَابَ الْأَرْضِ) وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى بَابِ الْأَرْضِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى بَابِ الْأَرْضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: بَابَ سَمَاءِ الْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَابِ بَابُ الْأَرْضِ فَيُرَدُّ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِمَا سَيَأْتِي صَرِيحًا فِي هَذَا الْبَابِ. (فَيَقُولُونَ) أَيْ: مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ. (مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ حَتَّى!) وَفِي رِوَايَةٍ: كُلَّمَا أَتَوْا عَلَى أَرْضٍ قَالُوا ذَلِكَ ; فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ حَتَّى غَايَةً لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ لِسَيْرِهِمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ. (يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ) وَمَحَلُّهَا سِجِّينٌ، وَهُوَ مَوْضِعُ جَهَنَّمَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالْحَاكِمُ والْبَيْهَقِيُّ اهـ. وَالرِّوَايَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هِيَ لَفْظُ الْحَاكِمِ.

ص: 1175

1630 -

وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عليه السلام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ. قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنَ السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ يَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ ; فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. يَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ يَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ. قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ. فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ وَيَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رَبِّ، أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا وَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدْعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَتَخْرُجَ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ يَقُولُونَ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ يَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَتِحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ حَرُّهَا وَسَمُومُهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ، فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ» . وَفِي رِوَايَةٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ:«إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ صَلَّى عَلَيْهِ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ مِنْ قِبَلِهِمْ، وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ يَعْنِي الْكَافِرَ مَعَ الْعُرُوقِ فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ لَا يُعْرِجَ رُوحَهُ مِنْ قِبَلِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

1630 -

(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتُكْسَرُ. (مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا) أَيْ: وَصَلْنَا. (إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ قَبْلَ أَنْ يُلْحَدَ، وَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ، وَفِيهِ تَوَقُّعٌ. (فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَكَأَنَّ. (عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنْ إِطْرَاقِهِمْ رُءُوسَهُمْ، وَسُكُوتِهِمْ، وَعَدَمِ الْتِفَاتِهِمْ يَمِينًا وَشِمَالًا. قَالَ مِيرَكُ: وَالطَّيْرَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَأَنَّ أَيْ عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ الطَّيْرُ يُرِيدُ صَيْدَهُ فَلَا يَتَحَرَّكُ، وَهَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَسْكُتُونَ فَلَا يَتَكَلَّمُونَ وَالطَّيْرُ لَا يَسْقُطُ إِلَّا عَلَى سَاكِنٍ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَوْلُهُمْ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرَ إِذَا سَكَنُوا مِنْ هَيْبَتِهِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْغُرَابَ إِذَا وَقَعَ عَلَى رَأْسِ الْبَعِيرِ فَيَلْتَقِطُ مِنْهُ الْحَمْلَةَ وَالْحَمْلَتَيْنِ، فَلَا يُحَرِّكُ الْبَعِيرُ رَأْسَهُ لِئَلَّا يَنْفُرَ عَنْهُ الْغُرَابُ. (وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ) بِضَمِّ الْكَافِ. (بِهِ فِي الْأَرْضِ) أَيْ: يُؤَثِّرُ بِطَرَفِ الْعُودِ الْأَرْضَ فِعْلَ الْمُتَفَكِّرِ الْمَهْمُومِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ) ظَرْفٌ لِقَالَ. (أَوْ ثَلَاثًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ) أَيْ: إِدْبَارٍ. (مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ) أَيِ: اتِّصَالٍ بِهَا. (نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ) إِظْهَارًا لِلِّطُفِ وَالْعِنَايَةِ، أَوِ انْعِكَاسًا مِنْ أَنْوَارِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ. (كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ) أَيْ: وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالشَّمْسِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَخْبَرَ بِهَا عَنِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فِي الْأَصْلِ فَقَوْلٌ مَنْطِقِيٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. (مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ حَرِيرِهَا. (وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِسْكِهَا وَعَنْبَرِهَا وَعَبِيرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَنُوطُ مَا يُخْلَطُ مِنَ الطِّيبِ لِأَكْفَانِ الْمَوْتَى وَأَجْسَادِهِمْ. (حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ) أَيْ: قَرِيبًا مِنْهُ مَعَ كَمَالِ الْأَدَبِ، يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الرُّوحِ مِنْهُ. (ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عليه السلام) كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. (حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لَا يُنَافِي ظَاهِرُهُ مَا مَرَّ أَنَّ الْقَائِلَ غَيْرُهُ ; لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنَّهُ وَمَلَائِكَةٌ أُخَرُ بِهَا يَقُولُونَ ذَلِكَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَا مَرَّ أَنَّ الْقَائِلَ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا مَرَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُونَ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْقَائِلَ رَئِيسُهُمْ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ لَاحِقًا. ( «أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ» ) وَفِي رِوَايَةٍ. (الْمُطْمَئِنَّةُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، أَيْ: لَيْسَ أَمَامَكِ إِلَّا الْمَغْفِرَةُ وَالرِّضْوَانُ وَفِيهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ دَفْعِ الْعَذَابِ، وَكَمَالِ الثَّوَابِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ إِلَى مَحَلِّهِمَا وَهُوَ الْجَنَّةُ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَتَخْرُجُ) أَيْ: رُوحُهُ. (تَسِيلُ) حَالٌ. (كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ) أَيْ: كَسَيَلَانِ الْقَطْرَةِ فِي السُّهُولَةِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَنِ الرُّوحِ أَنَّهَا جِسْمٌ لَطِيفٌ سَارَ فِي الْبَدَنِ كَسَرَيَانِ مَاءِ الْوَرْدِ فِي الْوَرْدِ. (مِنَ السِّقَاءِ) أَيِ: الْقِرْبَةِ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْ: مِنَ الشَّدَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ اضْطِرَابِ الْجَسَدِ وَسَهُولَةِ خُرُوجِ الرُّوحِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِلثَّانِي كَمَا أَنَّ رِيَاضَةَ النَّفْسِ، وَتَضْعِيفَ الْبَدَنِ عِنْدَ السَّادَةِ الصَّفِيَّةِ الصُّوفِيَّةِ مُوجِبٌ لِقُوَّةِ الرُّوحِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا مَرَّ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُشَدَّدُ عَلَيْهِ عِنْدَ النَّزْعِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا قَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ; لِأَنَّ حَالَةَ النَّزْعِ هُوَ وَقْتُ خُرُوجِ الرُّوحِ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ. (فَيَأْخُذُهَا) أَيْ: مَلَكُ الْمَوْتِ. (فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا) بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: لَمْ يَتْرُكُوهَا. (فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ) أَدَبًا مَعَهُ أَوِ اشْتِيَاقًا إِلَيْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا قَبَضَ رُوحَ

ص: 1176

الْعَبْدِ سَلَّمَهَا إِلَى أَعْوَانِهِ الَّذِينَ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ. (حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ) مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ. (وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ) أَيِ: الْجَنِّيِّ. (وَيَخْرُجُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الرُّوحِ رِيحٌ أَوْ شَيْءٌ. (كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ) أَيْ: مِثْلِ أَطْيَبِهَا فَالْكَافُ مَثَلِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ هُوَ فَاعِلُ يَخْرُجُ، أَيْ: يَخْرُجُ مِنْهَا رَائِحَةٌ كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ. (وُجِدَتْ) أَيْ: تِلْكَ النَّفْحَةُ. (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) أَيْ: جَمِيعِهَا مُنْذُ خُلِقَتِ الدُّنْيَا إِلَى فَنَائِهَا. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (فَيَصْعَدُونَ) أَيْ: أَعْوَانُ مَلَكِ الْمَوْتِ، أَوْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ. (بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا) هَذَا مِنْ كَلَامِ الصَّحَابِيِّ أَوِ الرَّاوِي، وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي رِوَايَةِ السُّيُوطِيِّ. (عَلَى مَلَأٍ) أَيْ: جَمْعٍ عَظِيمٍ. (مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيِ: الَّذِينَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. (إِلَّا قَالُوا) أَيِ: الْمَلَأُ. (مَا هَذَا الرَّوْحُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيِ: الرِّيحُ وَضَمِّهَا. (الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ) أَيْ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. (فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ) أَيْ: رُوحُهُ أَوْ رَوْحُهُ. (بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ) أَيْ: أَلْقَابِهِ وَأَوْصَافِهِ. (الَّتِي كَانُوا) أَيْ: أَهْلُ الدُّنْيَا. (يُسَمُّونَهُ) أَيْ: يَذْكُرُونَهُ. (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ. (فِي الدُّنْيَا حَتَّى) لَا يَزَالُ الْمَلَائِكَةُ يَسْأَلُونَ وَيُجَابُونَ كَذَلِكَ حَتَّى (يَنْتَهُوا بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الرُّوحِ. (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُنِّثَ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ، وَذُكِّرَ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ اهـ.

الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ فَفِي الْقَامُوسِ الرُّوحُ بِالضَّمِّ مَا بِهِ حَيَاةُ الْأَنْفُسِ وَيُؤَنَّثُ. (فَتُفْتَحُ) بِالتَّأْنِيثِ أَيِ: السَّمَاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُذكَّرَ فَالْجَارُّ نَائِبُ الْفَاعِلِ. (لَهُمْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أُفْرِدَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِفْتَاحِ، ثُمَّ جُمِعَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُ بَلْ يَسْتَمِرُّونَ مَعَهُ اهـ. وَهُوَ خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ لَهُمْ لِلْمُسْتَفْتِحِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ قَوْلُهُ لَهُ عِلَّةً وَصِلَةً لِلْفِعْلِ، وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الْمَقْصُودِ ; فَالْمُطَابَقَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ التَّغْلِيبُ فَيُرَاعَى الِاسْتِخْدَامُ حِينَئِذٍ فِي قَوْلِهِ. (فَيُشَيِّعُهُ) أَيْ: يَسْتَقْبِلُهُ وَيَصْحَبُهُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي السَّمَاءِ (مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا) أَيْ: تَقْرُبُهَا وَتَدْنُو مِنْهَا وَهَكَذَا. (حَتَّى يُنْتَهَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ لَفْظُ بِهِ سَاقِطٌ، وَيَنْتَهِي بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ. (إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ) أَيِ: الْجَنَّةِ إِذْ هِيَ مُجَاوِرَةٌ لَهَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نِهَايَةُ السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، وَالِاقْتِرَابُ إِلَى عَرْشِ الرَّحْمَنِ أَيْ: سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. (فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا) أَيْ: أَثْبِتُوا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اكْتُبُوا الْآنَ، وَإِنْ كُتِبَ فِي سَابِقِ الزَّمَانِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ صَحِيحٍ وَنَقْلٍ صَرِيحٍ. (كِتَابَ عَبْدِي) بِالْإِضَافَةِ لِلتَّشْرِيفِ ; وَلِذَا قَالَ فِي الْكَافِرِ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ أَيِ: اجْعَلُوا كِتَابَةَ عَبْدِي بِكِتَابَةِ اسْمِهِ. (فِي عِلِّيِّينَ) أَيْ: فِي دَفْتَرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدِيوَانِ الْمُقَرَّبِينَ، وَقِيلَ: هُوَ مَوْضِعٌ فِيهِ كِتَابُ الْأَبْرَارِ، فَالْمُرَادُ بِكِتَابِ الْعَبْدِ صَحِيفَةُ أَعْمَالِهِ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: أَيْ: فِي كِتَابِ عَبْدِي يَعْنِي أَنَّهُ فِي عِلِّيِّينَ، أَوْ فِي عَوَالٍ، أَوْ غُرَفٍ مِنَ الْجَنَّةِ مَآلًا، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عِلِّيِّينَ، وَأَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فِي سِجِّينٍ، وَلِكُلِّ رُوحٍ بِجَسَدِهَا اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ لَا يُشْبِهُ الِاتِّصَالَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بَلْ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِهِ حَالُ النَّائِمِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَشَدَّ مِنْ حَالِ النَّائِمِ اتِّصَالًا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَرَدَ أَنَّ مَقَرَّهَا فِي عِلِّيِّينَ أَوْ سِجِّينٍ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا عِنْدَ أَفَنِيَةِ قُبُورِهَا. قَالَ: وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ مَأْذُونٌ لَهَا فِي التَّصَرُّفِ، وَتَأْوِي إِلَى مَحَلِّهَا مِنْ عِلِّيِّينَ أَوْ سِجِّينٍ. قَالَ: وَإِذَا نُقِلَ الْمَيِّتُ مِنْ قَبْرٍ إِلَى قَبْرٍ فَالِاتِّصَالُ الْمَذْكُورُ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَا لَوْ تَفَرَّقَتِ الْأَجْزَاءُ اهـ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الرُّوحُ مِنْ سُرْعَةِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ الَّذِي كَلَمْحِ الْبَصَرِ، مَا يَقْتَضِي عُرُوجَهَا مِنَ الْقَبْرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي أَدْنَى لَحْظَةٍ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ رُوحُ النَّائِمِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رُوحَ النَّائِمِ تَصْعَدُ حَتَّى تَخْتَرِقَ الطِّبَاقَ، وَتَسْجُدُ لِلَّهِ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى جَسَدِهِ فِي أَيْسَرِ زَمَانٍ؛ انْتَهَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: اكْتُبُوا كِتَابَ مَقَرِّ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ. (وَأَعِيدُوهُ) الْآنَ (إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ: لِيَتَعَلَّقَ بِالْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَيَتَهَيَّأَ لِجَوَابِ السُّؤَالِ (فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ) أَيْ: أَجْسَادَ بَنِي آدَمَ. (وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ) أَيْ: أَجْسَادَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ.

ص: 1177

(وَمِنْهَا أُخْرِجْهُمْ) أَيْ: كُمَّلًا. (تَارَّةً) أَيْ مَرَّةً. (أُخْرَى قَالَ:) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَعَلَّ إِعَادَةَ قَالَ لِطُولِ الْكَلَامِ أَوْ لِفَصْلِهِ بِكَلَامِ غَيْرِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْمَوَاضِعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. (فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ عَوْدَ الرُّوحِ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ الْبَعْضِ بِأَنَّ الْعَوْدَ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى الْبَعْضِ، وَلَا إِلَى قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ إِلَى نِصْفِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِ الْعَقْلِ بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ. (يَأْتِيهِ مَلَكَانِ) أَيِ: الْمُنْكَرُ وَالنَّكِيرُ لَكِنْ فِي صُورَةِ مُبَشِّرٍ وَبَشِيرٍ. (فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولُونَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينَيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ) ؟ أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَفِي الْعِبَارَةِ فِتْنَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَامْتِحَانٌ لِلْمُوقِنِ حَيْثُ أَتَيَا بِصِيغَةِ الْجَهَالَةِ، وَلَمْ يُذَكِّرَاهُ بِصِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ إِذْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ (فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ: مُحَمَّدٌ نَبِيٌّ. (فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟) أَيْ: بِمَا قُلْتَ: أَوْ مَا سَبَبُ عِلْمِكَ بِرِسَالَتِهِ، أَوْ مَا سَبَبُ إِقْرَارِكَ، أَمُجَرَّدُ التَّقْلِيدِ فِي التَّصْدِيقِ، أَوِ الْبُرْهَانُ وَالتَّحْقِيقُ؟ (فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ) أَيْ: بِالْكِتَابِ، أَوْ بِالرَّسُولِ، أَوْ بِمَا فِيهِ، وَعَلِمْتُ جَمِيعَ مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَعَانِيهِ (وَصَدَّقْتُ) أَيْ: تَصْدِيقًا قَلْبِيًّا، وَمَا اكْتَفَيْتُ بِالْإِيمَانِ اللِّسَانِيِّ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجْرٍ أَوْ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ عِنْدَ أَرْبَابِ التَّأْيِيدِ. (فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ: عَلَى لِسَانِ الْحَقِّ (أَنْ صَدَقَ عَبْدِي) أَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ ; لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَجَعْلُهَا مَصْدَرِيَّةً يُخِلُّ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِأَنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ بِصِدْقِ عَبْدِي. (فَأَفْرِشُوهُ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَعْطُوهُ فِرَاشًا أَوْ أَفْرِشُوا لَهُ فِرَاشًا، فَالْهَمْزَةُ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ أَفْرَشَ فُلَانًا بِسَاطًا بَسَطَهُ لَهُ كَفَرَشَهُ فَرْشًا، وَفَرَّشَهُ تَفْرِيشًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: أَفْرِشُوا قَبْرَهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِمَا فِي الْقَامُوسِ أَيْضًا فَرَشَهُ فَرْشًا وَفِرَاشًا أَيْ: بَسَطَهُ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَفْرُوشَ لَا يَكُونُ إِلَّا الْبِسَاطَ، وَالْقَبْرُ لَيْسَ إِلَّا مَفْرُوشًا فِيهِ، وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي لِسَانِ أَهْلِ الزَّمَانِ مِنَ الْعَرَبِ أَفْرَشَوا الْبَيْتَ فَاتِّسَاعٌ فِي الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُمُ الْمَيِّتُ مَفْرُوشٌ أَيْ: مَفْرُوشٌ فِيهِ. (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ فُرُشِهَا. (وَأَلْبِسُوهُ) بِهَمْزَةِ الْقَطْعِ أَيِ: (اكْسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ ثِيَابِهَا. (وَافْتَحُوا لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ. (بَابًا) أَيْ: مِنَ الْقَبْرِ. (إِلَى الْجَنَّةِ) أَيْ: جِهَتِهَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ مِنَ الْجَنَّةِ فَمِنْ سَهْوِ الْقَلَمِ. (قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: نَسِيمِهَا. (وَطِيبِهَا) أَيْ: رَائِحَتِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: رَوْحُهَا مَرَّ بَيَانُهُ فَمُوهِمٌ جَوَازَ ضَمِّ الرَّاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ:(وَطِيبِهَا) تَأْكِيدٌ، فَغَفْلَةٌ عَنِ التَّحْقِيقِ الثَّابِتِ بِالتَّأْيِيدِ. (فَيُفْسَحُ) بِالتَّخْفِيفِ وَتُشَدَّدُ أَيْ: يُوَسَّعُ (لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ) وَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْبَصَرِ الْمُرَتَّبِ عَلَى اخْتِلَافِ الْبَصِيرَةِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (وَيَأْتِيهِ) أَيِ: الْمُؤْمِنَ. (رَجُلٌ) أَيْ: شَيْءٌ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ. (حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ) كِنَايَةٌ عَنْ حُسْنِ عَمَلِهِ وَخُلُقِهِ، (فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ) أَيْ: بِمَا يَجْعَلُكَ مَسْرُورًا، يَعْنِي بِمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ بِبَالِ بَشَرٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] وَأَمَّا تَقْدِيرُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: يَسُرُّكَ رَبُّكَ فَغَفْلَةٌ عَنْ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى تَقْدِيرِ " بِهِ " أَيْضًا، وَإِذَا صَحَّ الْكَلَامُ بِلَا تَقْدِيرٍ فَلَا يُقَدَّرُ، وَالنِّسْبَةُ الْمَجَازِيَّةُ غَيْرُ عَزِيزَةٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.} [البقرة: 69](هَذَا) أَيُ: الْوَقْتُ. (يَوْمُكَ) أَيْ: زَمَانُكَ الْمَحْمُودُ. (الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ) أَيْ: بِهِ فِي الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] . (فَيَقُولُ) أَيِ: الْمُؤْمِنُ. (لَهُ مَنْ أَنْتَ) حَيْثُ أَنَّسْتَ الْغَرِيبَ، وَبَشَّرْتَ بِالْخَيْرِ الْعَجِيبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا سَرَّهُ بِالْبِشَارَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي لَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ حَتَّى أُجَازِيَكَ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ: مَنْ أَنْتَ؟ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْمَدْحِ مُجْمَلًا وَفِيهِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ

ص: 1178

وَقَرِينَةُ الْحَالَةِ ثُمَّ قَالَ: وَالْفَاءُ فِي. (فَوَجْهُكَ) لِتَعْقِيبِ الْبَيَانِ بِالْمُجْمَلِ عَلَى عَكْسِ قَوْلِ الشَّقِيِّ لِلْمَلَكِ: مَنْ أَنْتَ؟ (الْوَجْهُ) أَيْ: وَجْهُكَ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالنِّهَايَةِ فِي الْكَمَالِ، وَحَقٌّ لِمِثْلِ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَجِيءَ بِالْخَيْرِ وَيُبَشِّرَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ وَقَوْلُهُ:(يَجِيءُ بِالْخَيْرِ) جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَقِيلَ: الْمَوْصُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: وَجْهُكَ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ. (فَيَقُولُ) أَيِ: الْمُصَوَّرَةُ بِصُورَةِ الرَّجُلِ. (أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ) . فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ التَّكْرَارُ لِلْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ. (حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي) أَيْ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْخَدَمِ. (وَمَالِي) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً أَيْ: مَالِي مِنَ الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَغَيْرِهَا مِنْ حُسْنِ الْمَالِ، وَمِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ أَقَارِبُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبِمَالِي مَا يَشْمَلُ الْحُورَ وَالْقُصُورَ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: يَعْنِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ إِحْيَائِهِ لِكَيْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَيَزِيدَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَزِيدَ ثَوَابًا وَيُرْفَعَ فِي دَرَجَاتِهِ اهـ.

وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ أَنَّ حَمْلَ السَّاعَةِ عَلَى غَيْرِ الْقِيَامَةِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْغَرَابَةِ. وَقَالَ مِيرَكُ: الْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ: طَلَبَ إِقَامَةَ الْقِيَامَةِ لِكَيْ يَصِلَ إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِرِ حِكَايَةً عَنْهُ رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ لِكَيْ يَهْرَبَ بِهِ عَمَّا يُعَدُّ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ. (قَالَ) يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النُّسَخِ كُلِّهَا، وَفِي الرِّوَايَاتِ جَمِيعِهَا ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْقِصَّةِ الثَّانِيَةِ. (وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ) أَيْ: مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. (سُودُ الْوُجُوهِ) إِظْهَارًا لِلْغَضَبِ بِمَا يُنَاسِبُ عِلْمَهُ، أَوِ انْعِكَاسًا مِنْ قِبَلِهِ. (مَعَهُمُ الْمُسُوحُ) جَمْعُ الْمِسْحِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ الْخَشِنُ. (فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ انْتِظَارًا لِخُرُوجِ رُوحِهِ. (ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ) أَيْ: خَبِيثَةُ الْخِصَالِ غَيْرُ مَرَضِيَّةِ الْأَعْمَالِ. (اخْرُجِي فِي سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) أَيْ: إِلَى آثَارِ غَضَبِ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ عِقَابِهِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (فَتَفَرَّقُ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ أَيِ: الرُّوحُ. (فِي جَسَدِهِ قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: كَرَاهَةَ الْخُرُوجِ إِلَى مَا يُسَخِّنُ عَيْنَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، كَمَا أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَخْرُجُ وَتَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنَ السِّقَاءِ فَرَحًا إِلَى مَا تَمُرُّ بِهِ عَيْنُهُ مِنَ الْكَرَامَةِ اهـ. وَتَسْخِيرُ الْعَيْنِ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَوْهَرِ كَمَا أَنَّ قُرَّةَ الْعَيْنِ عِبَارَةٌ عَنِ السُّرُورِ، وَلِذَا قَالُوا: دَمْعُ الْحُزْنِ وَدَمْعُ الْفَرَحِ بَارِدٌ. (فَيَنْتَزِعُهَا) أَيْ: مَلَكُ الْمَوْتِ يَسْتَخْرِجُ رُوحَهُ بِعُنْفٍ وَشَدَّةٍ وَمُعَالَجَةٍ. (كَمَا يُنْزَعُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَفِي رِوَايَةٍ كَمَا يُنْتَزَعُ. (السَّفُّودُ) كَتَنُّورٍ أَيِ: الشَّوْكُ أَوِ الْحَدِيدُ الَّتِي يُشْوَى بِهَا اللَّحْمُ. (مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ نَزْعَ رُوحِ الْكَافِرِ مِنْ أَقْصَى عُرُوقِهِ بِحَيْثُ يَصْحَبُهُ الْعُرُوقُ كَمَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: وَتُنْزَعُ نَفْسُهُ مَعَ الْعُرُوقِ نَزْعَ السَّفُّودِ وَهُوَ الْحَدِيدُ الَّتِي يُشْوَى بِهَا اللَّحْمُ فَيَبْقَى مَعَهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَحْرُوقِ، فَيَسْتَصْحِبُ عِنْدَ الْجَذْبِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الصُّوفِ مَعَ قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ وَبِعَكْسِهِ شَبَّهَ خُرُوجَ رُوحِ الْمُؤْمِنِ مِنْ جَسَدِهِ بِتَرْشِيحِ الْمَاءِ وَسَيَلَانِهِ مِنَ الْقِرْبَةِ الْمَمْلُوءَةِ مَاءً مَعَ سُهُولَةٍ وَلُطْفٍ. (فَيَأْخُذُهَا) أَيْ: مَلَكُ الْمَوْتِ. (فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدْعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ) أَيْ: مُبَادَرَةً إِلَى الْأَمْرِ. (حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجَ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ. (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ رُوحِ الْكَافِرِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ جَسَدِهِ. (كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا) افْتِضَاحًا لَهَا، وَإِظْهَارًا لِرَدَاءَتِهَا. (فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ: فُلَانٌ ابْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ) أَيْ: يَذْكُرُونَهُ بِأَشْنَعِ أَوْصَافِهِ. (الَّتِي كَانَ يُسَمَّى) وَفِي نُسْخَةٍ: كَانُوا أَيْ: أَهْلُ السَّمَاءِ يُسَمُّونَ أَيْ: يُسَمُّونَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ السَّيِّدِ بِفَتْحِ الْمِيمِ فَالضَّمِيرَانِ إِلَى الْكَافِرِ. (بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ

ص: 1179

الْأَسْمَاءِ. (فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) أَيِ: الْقُرْبَى. (فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيِ: اسْتِشْهَادًا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} [الأعراف: 40] . (لَا تُفَتَّحُ) بِالتَّأْنِيثِ مَعَ التَّشْدِيدِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَمَعَ التَّخْفِيفِ قِرَاءَةُ الْبَصْرِيِّ، وَبِالتَّذْكِيرِ وَالتَّخْفِيفِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. (لَهُمْ) أَيْ: لِلْكُفَّارِ. (أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أَيْ: شَيْءٌ مِنْهَا. {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ} [الأعراف: 40] أَيْ: يَدْخُلَ. {الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] أَيْ: خَرْقَهُ وَثَقْبَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: سَمُّ الْإِبْرَةِ مَثَلٌ فِي ضِيقِ الْمَسْلَكِ وَالْجَمَلُ مَثَلٌ فِي عِظَمِ الْجِرْمِ فَهُوَ تَعْلِيقٌ بِالْمُحَالِ اهـ.

وَذَلِكَ بِأَنَّ دُخُولَ الْجِرْمِ الْعَظِيمِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى عَظَمَتِهِ فِي ذَلِكَ الْخَرْقِ الضَّيِّقِ جِدًّا مَعَ بَقَائِهِ عَلَى ضِيقِهِ مُحَالٌ عَقْلًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَكَذَلِكَ دُخُولُهُمُ الْجَنَّةَ مُحَالٌ لِذَلِكَ اهـ.

وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ لَيْسَ مُحَالًا لِذَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَلَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ الْجَنَّةَ أَبَدًا، وَأَمَّا الْعَقْلُ فَيُجَوِّزُهُ لَوْلَا النَّقْلُ، نَعَمِ الْعَقْلُ الْكَامِلُ أَيْضًا، لَا يُجَوِّزُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَلِذَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] الْآيَةَ، وَبِقَوْلِهِ عز وجل {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] . (فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ) قِيلَ: هُوَ مَوْضِعٌ فِيهِ كِتَابُ الْفُجَّارِ مِنْ قَعْرِ النَّارِ (فِي الْأَرْضِ) حَالٌ لَازِمَةٌ أَوْ بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ. (السُّفْلَى) أَيِ: السَّابِعَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَحَلِّ جَهَنَّمَ وَهُوَ الْأَشْهَرُ مِنْ خِلَافٍ طَوِيلٍ فِيهِ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ: لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَيَنْبَغِي لَنَا الْإِمْسَاكُ عَنْهُ. (فَتُطْرَحُ) أَيْ: تُرْمَى. (رُوحُهُ) طَرْحًا أَيْ: رَمْيًا شَدِيدًا. (ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيِ: اعْتِضَادٌ لِلْمُبَالَغَةِ.: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي} [الحج: 31] أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ فِي التَّمْثِيلِ أَيْ: تَرْمِي. {بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] أَيْ: بَعِيدٌ أَوْ عَمِيقٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ أَيْ: هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَطَارِحِ الْبَعِيدَةِ وَهَذَا اسْتِشْهَادٌ مُجَرَّدٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى فَتَطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا لَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِحَالِ الْكَافِرِ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ شَبَّهَ فِي الْآيَةِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْأَهْوَاءَ الَّتِي تُوَزِّعُ أَفْكَارَهُ بِالطَّيْرِ الْمُخْتَطِفَةِ، وَالشَّيْطَانَ الَّذِي يُغْوِيهِ وَيَطْرَحُ بِهِ فِي وَادِي الضَّلَالَةِ بِالرِّيحِ الَّذِي هُوَ يَهْوِي بِمَا عُصِفَ بِهِ فِي بَعْضِ الْمُهَاوِي الْمُتْلِفَةِ. (فَتُعَادُ رُوحُهُ) فِي جَسَدِهِ. (وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ) بِسُكُونِ الْهَاءِ الْأَخِيرَةِ فِيهِمَا، وَهُوَ كَلَامُ الْمَبْهُوتِ الْمُتَحَيِّرِ فِي الْجَوَابِ، وَلِذَا صَرَّحَ وَقَالَ:(لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ) : أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ) ؟ أَيْ: أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ. (فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ) أَيْ: كَذَبَ فِي نَفْيِ الدِّرَايَةِ عَنْهُ مُطْلَقًا، بَلْ عَرَفَ اللَّهَ وَأَشْرَكَ بِهِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الدِّينُ، وَمَا تَدَيَّنَ بِهِ، وَظَهَرَتْ رِسَالَةُ النَّبِيِّ بِالْمُعْجِزَاتِ عِنْدَهُ، وَمَا أَطَاعَهُ، أَوِ الْكَذِبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْنَى: لَا أَدْرِي لَمْ يَكُنْ لِي قَابِلِيَّةُ دِرَايَةٍ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَهَذَا كَذِبٌ مَحْضٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا هَذَا الْعِلْمَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ) وَفِي رِوَايَةِ السُّيُوطِيِّ: وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ. (وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا) أَيْ: يَأْتِيهِ بَعْضُ حَرِّهَا فِي قَبْرِهِ، وَأَمَّا تَمَامُهُ فَفِي الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى:{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 127] وَقَالَ عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَيَأْتِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَتَقْدِيرٌ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيرٍ وَتَقْرِيرٍ. (وَسَمُومِهَا) أَيْ: شِدَّةِ حَرَارَتِهَا، وَظَاهِرُ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ سَمُومَهَا مَمْزُوجٌ بِالنَّتَنِ وَالْعُفُونَةِ. (وَيُضَيَّقُ) بِالتَّشْدِيدِ. (عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ) أَيْ: فِي قَبْرِهِ وَفِي بَدَنِهِ. (أَضْلَاعُهُ)

ص: 1180

أَيْ: عِظَامَ جَنْبَيْهِ، وَأَمَّا ضَغْطَةُ الْقَبْرِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ بَلِ الْأَكَابِرِ الْمُوَحِّدِينَ كَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَيِّدِ الْأَنْصَارِ الَّذِي حَمَلَ جَنَازَتَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَاهْتَزَّ لِمَوْتِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّمَا هُوَ ضَمَّةٌ لِلْأَرْضِ كَمُعَانَقَةِ الْأُمِّ الْمُشْتَاقَةِ لِوَلَدِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: دَائِمًا أَوْ غَالِبًا أَوْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّيقِ وَالضَّمِّ مِنْ خَصَائِصِ الْكُفَّارِ فَعَنِ التَّحْقِيقِ بَعِيدٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَكَابِرِ غَيْرُ سَدِيدٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ) أَيْ: لَهُ، قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ:(أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُكَ) أَيِ: الْيَوْمُ. (الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا كَمَا مَرَّ. (فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ) أَيِ: الْكَامِلُ فِي الْقُبْحِ. (يَجِيءُ بِالشَّرِّ) وَفِي رِوَايَةٍ: الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّرِّ. (فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ) أَيِ: الْمُرَكَّبُ مِنْ خُبْثِ عَقَائِدِكَ وَأَعْمَالِكَ وَأَخْلَاقِكَ، فَالْمَعَانِي تَتَجَسَّدُ وَتَتَصَوَّرُ فِي قَوَالِبِ الْمَبَانِي. (فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ نَحْوَهُ) أَيْ: مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ. (وَزَادَ) أَيِ: الرَّاوِي: (فِيهِ) أَيْ: فِي نَحْوِهِ. (إِذَا خَرَجَ رُوحُهُ) أَيْ: رُوحُ الْمُؤْمِنِ. (صَلَّى عَلَيْهِ) أَيْ: دَعَا لَهُ. (كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ) أُرِيدَ بِهَا الْجِنِّيُّ. (وَفُتِحَتْ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: لَهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ) أَيْ: مِنْ أَبْوَابِ كُلِّ سَمَاءٍ. (إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُعْرَجَ بِرُوحِهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: يَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ بِهِ وَيَصِحُّ كَوْنُهُ بِنَاءً لِلْفَاعِلِ أَيْ: يُعْرِجُ اللَّهُ أَيْ: يَأْمُرُ بِعُرُوجِهِ. (مِنْ قِبَلِهِمْ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ: مِنْ جِهَتِهِمْ أَيْ: لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَيَتَشَرَّفُوا بِمُشَايَعَتِهِ، وَنَاهِيكَ جِدًّا تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا، وَجَزَاءً وَتَكْرِيمًا. (وَتُنْزَعُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (نَفْسُهُ) أَيْ: رُوحُهُ. (يَعْنِي الْكَافِرَ مَعَ الْعُرُوقِ) إِشَارَةً إِلَى كَرَاهَةِ خُرُوجِهِ، وَشِدَّةِ الْجَذْبِ فِي نَزْعِ رُوحِهِ، وَكَمَالِ تَعَلُّقِهِ بِجِيفَةِ بَدَنِهِ. (فَيَلْعَنُهُ كُلُّ مَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَكُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ) أَيْ: سَمَاءِ الدُّنْيَا. (وَتُغْلَقُ) أَيْ: دُونَهُ. (أَبْوَابُ السَّمَاءِ) أَيْ: جَمِيعُهَا (لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَابٍ) أَيْ: مِنْ أَبْوَابِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ أَهْلِ سَمَاءٍ فَسَهْوُ قَلَمٍ. (إِلَّا وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ لَا يُعْرَجَ رُوحُهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلْفَاعِلِ أَيْ: أَنْ لَا يُصْعِدَ رُوحَهُ. (مِنْ قِبَلِهِمْ) كَرَاهَةً لِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمَرَّ فِي الْمُؤْمِنِ بِرُوحِهِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ إِلَّا جِهَةَ الْمَعْنَى دُونَ طَرِيقَةِ الْمَبْنَى إِلَّا إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى وَحْدَتِهِ، وَفِي الْمُؤْمِنِ إِيمَاءٌ إِلَى جَمْعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُحْبَتِهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَالطَّيَالِسِيُّ، وَعَبْدٌ فِي مَسْنَدَيْهِمَا، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ اهـ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: عَبْدٌ. عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ فِي التَّفْسِيرِ.

ص: 1181

1631 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«لَمَّا حَضَرَتْ كَعْبًا الْوَفَاةُ أَتَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنْ لَقِيتَ فُلَانًا فَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ بِشْرٍ، نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَهُوَ ذَاكَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ.

ــ

1631 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَعْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمَازِنِيُّ الْأَنْصَارِيُّ شَهِدَ بَدْرًا. (قَالَ) أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ. (لَمَّا حَضَرَتْ كَعْبًا الْوَفَاةُ أَتَتْهُ) أَيْ: كَعْبًا. (أُمُّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ) أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ، وَمَعْرُورٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمِلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ الْأُولَى. (فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) ، كُنْيَةُ كَعْبٍ. (إِنْ لَقِيتَ) أَيْ: بَعْدَ مَوْتِكَ. (فُلَانًا)

ص: 1181

أَيْ: رُوحُهُ الظَّاهِرُ أَنَّهَا تَعْنِي أَبَاهَا الْبَرَاءَ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَلَدُهَا بِشْرٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي لَبِيبَةَ قَالَ:«لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَجَدَتْ أُمُّهُ وَجْدًا شَدِيدًا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يَزَالُ الْهَالِكُ يَهْلِكُ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَهَلْ تَتَعَارَفُ الْمَوْتَى فَأُرْسِلَ إِلَى بِشْرٍ بِالسَّلَامِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ يَتَعَارَفُونَ كَمَا يَتَعَارَفُ الطَّيْرُ فِي رُءُوسِ الْأَشْجَارِ» ، وَكَانَ لَا يَهْلِكُ هَالِكٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ إِلَّا جَاءَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ فَقَالَتْ: يَا فُلَانُ، عَلَيْكَ السَّلَامُ. فَيَقُولُ: وَعَلَيْكِ، فَتَقُولُ: اقْرَأْ عَلَى بِشْرٍ مِنِّي السَّلَامَ. (فَاقْرَأْ عليه السلام وَفِي رِوَايَةٍ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. (فَقَالَ) أَيْ لَهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ: (غَفَرَ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ بِشْرٍ، نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ» ) ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ عَنِ اعْتِذَارِهِ بِقَوْلِهِ: نَحْنُ أَشْغَلُ أَيْ: لَسْتُ مَنْ يُشْغَلُ عَمَّا كَلَّفْتُكَ، بَلْ أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْتَ وَكَيْتَ. (تَعْلُقُ) بِضَمِّ اللَّامِ. (بِشَجَرِ الْجَنَّةِ) أَيْ: تَتَعَلَّقُ بِأَشْجَارِهَا، وَتُمَتَّعُ بِأَثْمَارِهَا، وَفِي حَدِيثٍ:«إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرْعَى فِي الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَشْرَبُ مِنْ مِيَاهِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْعَرْشِ.» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَعْنِي أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالشُّهَدَاءِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَنَّةَ الْمَأْوَى ; لِأَنَّهَا تَأْوِي إِلَيْهَا الْأَرْوَاحُ وَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَعَّمُونَ بِنَعِيمِهَا، وَيَشُمُّونَ بِطَيِّبِ رِيحِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَوْهَرِيُّ عَلَقَتِ الْإِبِلُ الْعِضَاةَ تَعَلُقُ بِالضَّمِّ إِذَا تَشَبَّثَتْهَا وَتَنَاوَلَتْهَا بِأَفْوَاهِهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» اهـ كَلَامُهُ، وَلَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ: تَعْلُقُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ تُفِيدُ الِاتِّصَالَ لَعَلَّهُ كَنَّى بِهِ عَنِ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا اتَّصَلَتْ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ، وَتَشَبَّثَتْ لَهَا أَكَلَتْ مِنْ ثَمَرِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَفِيهِ أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ لَا تَفْنَى فَيُنَعَّمُ الْمُحْسِنُ، وَيُعَذَّبُ الْمُسِيءُ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْآثَارُ اهـ.

وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ «نَسَمَةَ الْمُؤْمِنِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَنَسَمَةُ الْكَافِرِ فِي سِجِّينٍ؟» (قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَهُوَ ذَاكَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَهُوَ ذَلِكَ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

ص: 1182

1632 -

وَعَنْهُ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ تَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ.

ــ

1632 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: كَعْبٍ. (أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ)، قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّسَمَةُ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الْإِنْسَانِ جِسْمًا وَرُوحًا، وَعَلَى الرُّوحِ مُفْرَدَةً، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِقَوْلِهِ: حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ. (طَيْرٍ) وَفِي رِوَايَةٍ: طَائِرٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، وَفِي أُخْرَى كَطَيْرٍ خُضْرٍ، وَفِي أُخْرَى فِي صُوَرِ طَيْرٍ، وَفِي أُخْرَى فِي صُورَةِ طَيْرٍ بِيضٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَالْأَشْبَهُ أَوِ الْأَصَحُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ طَيْرًا أَوْ صُورَةَ طَيْرٍ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ لَاسِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ عليه السلام إِذْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ:«وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ» ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُسْتَبْعِدٍ إِذْ لَيْسَ لِلْأَقْيِسَةِ وَالْعُقُولِ فِيهِ حُكْمٌ، وَمَجَالُ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُنَعَّمَ وَالْمُعَذَّبَ جُزْءٌ مِنَ الْبَدَنِ يَبْقَى فِيهِ الرُّوحُ، فَهُوَ الَّذِي يُؤْلَمُ وَيُعَذَّبُ وَيَتَلَذَّذُ وَيُنَعَّمُ، وَيَقُولُ: رَبِّ ارْجِعُونِ، وَيَسْرَحُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ فِي جَوْفِ طَيْرٍ أَوْ فِي صُورَتِهِ، وَفِي قَنَادِيلَ تَحْتَ الْعَرْشِ كُلُّ ذَلِكَ

ص: 1182