المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب التحريض على قيام الليل] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

- ‌[بَابُ الْمَوْقِفِ]

- ‌[بَابُ الْإِمَامَةِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ]

- ‌[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ]

- ‌[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[بَابُ الْوَتْرِ]

- ‌[بَابُ الْقُنُوتِ]

- ‌[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى]

- ‌[بَابُ التَّطَوُّعِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ وُجُوبِهَا]

- ‌[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

- ‌[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَتِيرَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

- ‌[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ]

- ‌[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [

- ‌بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

- ‌[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

- ‌[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

- ‌[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

الفصل: ‌[باب التحريض على قيام الليل]

كُلُّ مُتَمَرِّدٍ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِشُطُونِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَيْ تَبَاعُدِهِ، فَالنُّونُ أَصْلِيَّةٌ، أَوْ لِشَيْطِهِ، أَيْ: هَلَاكِهِ، فَهِيَ زَائِدَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجِيمُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ لِرَجْمِهِ الْغَيْرَ بِوَسْوَسَتِهِ بِتَبْعِيدِهِ عَنْ قُرْبِ رَبِّهِ وَحَضْرَتِهِ، (" مَنْ هَمْزِهِ ")، أَيْ: نَخْزِهِ يَعْنِي وَسْوَسَتُهُ وَإِغْوَاءَهُ، أَوْ سِحْرَهُ، وَفُسِّرَ أَيْضًا بِالْجُنُونِ، (" وَنَفْخِهِ ")، أَيْ: كِبْرِهِ وَعُجْبِهِ (" وَنَفْثِهِ ") : سِحْرِهِ أَوْ شِعْرِهِ، وَفِي الْحِصْنِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، قَالَ مِيرَكُ: ضَعَّفَ الْبَيْهَقِيُّ إِسْنَادَهُ.

(وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " غَيْرُكَ " ثُمَّ يَقُولُ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " ثَلَاثًا. وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ)، أَيْ: بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ (ثُمَّ يَقْرَأُ)، أَيِ: الْقِرَاءَةَ أَوِ الْفَاتِحَةَ، وَالْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ مَنْ يُرَجِّحُ أَنَّ أَفْضَلَ صِيَغِ الِاسْتِعَاذَةِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ أَفْضَلَهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَتُهَا مِنْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَلِّمُ نَبِيَّهُ وَأُمَّتَهُ إِلَّا الْأَفْضَلَ.

ص: 920

1218 -

وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: " سُبْحَانَ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الْهَوِيِّ، ثُمَّ يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " الْهَوِيِّ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ــ

1218 -

(وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ) : كَانَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَيُقَالُ: كَانَ خَادِمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ) ، أَيْ: أَكُونُ فِي اللَّيْلِ (عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ)، أَيْ: حُجْرَةٌ فِيهَا صلى الله عليه وسلم، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ:" سُبْحَانَ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الْهَوِيَّ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَنَصْبِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحِينُ الطَّوِيلُ مِنَ الزَّمَانِ وَقِيلَ مُخْتَصٌّ بِاللَّيْلِ وَالتَّعْرِيفُ هُنَا لِاسْتِغْرَاقِ الْحِينِ الطَّوِيلِ بِالذِّكْرِ بِحَيْثُ لَا يَفْتُرُ عَنْهُ بَعْضُهُ وَالتَّنْكِيرُ لَا يُفِيدُهُ نَصًّا، كَمَا تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ الْيَوْمَ كُلَّهُ، أَيْ بَعْضَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، أَيْ: بَعْضًا مِنْهُ. (ثُمَّ يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " الْهَوِيَّ) : فَالْأَوَّلُ تَنْزِيهٌ مُجَرَّدٌ، وَالثَّانِي تَنْزِيهٌ مَمْزُوجٌ بِالْحَمْدِ، إِشَارَةٌ إِلَى تَقْدِيمِ التَّخْلِيَةِ عَلَى التَّحْلِيَةِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ)، أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ، (وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ)، أَيْ: بِمَعْنَاهُ (وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .

ص: 920

[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1219 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ ; وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ، كَسْلَانَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[33]

بَابُ التَّحْرِيضِ، أَيِ: التَّرْغِيبِ. وَالتَّحْرِيضُ: التَّحْثِيثُ وَالتَّحْضِيضُ، (عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ)، أَيْ: عَلَى الْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ فِي اللَّيْلِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1219 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " يَعْقِدُ ") : بِكَسْرِ الْقَافِ، أَيْ: يَشُدُّ (" الشَّيْطَانُ ")، أَيْ:

ص: 920

إِبْلِيسُ أَوْ بَعْضُ جُنْدِهِ (" عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ")، أَيْ: قَفَاهُ وَمُؤَخَّرِهِ، وَقِيلَ: وَسَطُهُ (" إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ ") : جَمْعُ عُقْدَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا عُقَدُ الْكَسَلِ، أَيْ: يَحْمِلُهُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ تَثْقِيلَهُ وَإِطَالَتَهُ، فَكَأَنَّهُ قَدْ شَدَّ عَلَيْهِ شَدًّا وَعَقَدَهُ ثَلَاثَ عُقَدٍ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: الْقَافِيَةُ الْقَفَا، وَقَفَا كُلِّ شَيْءٍ وَقَافِيَتُهُ آخِرُهُ، وَعَقْدُ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَتِهِ اسْتِعَارَةٌ عَنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَتَحْبِيبِهِ النَّوْمَ إِلَيْهِ وَالدَّعَةَ وَالِاسْتِرَاحَةَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالثَّلَاثِ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ لِأَنَّ الَّذِي يَنْحَلُّ بِهِ عُقْدَتُهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الذِكْرُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ مَنَعَهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِعُقْدَةٍ عَقَدَهَا عَلَى قَافِيَتِهِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْقَفَا ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ الْوَاهِمَةِ وَمَحَلُّ تَصَرُّفِهَا، هُوَ أَطْوَعُ الْقُوَى لِلشَّيْطَانِ وَأَسْرَعُ إِجَابَةً لِدَعْوَتِهِ. (" يَضْرِبُ ")، أَيْ: بِيَدِهِ تَأْكِيدًا أَوْ إِحْكَامًا (" عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ ") : مُتَعَلِّقٌ بِـ (يَضْرِبُ) ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مَفْعُولُ (يَضْرِبُ) غَيْرُ ظَاهِرٍ، قِيلَ: مَعْنَى يَضْرِبُ: يَحْجُبُ الْحِسَّ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى لَا يَسْتَيْقِظَ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف: 11]، أَيْ: أَنَمْنَاهُمْ، قَالَ مِيرَكُ: وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْعَقْدِ، فَقِيلَ: عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا يَعْقِدُ السَّاحِرُ مَنْ يَسْحَرُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ:«إِنَّ عَلَى رَأْسِ كُلِّ آدَمِيٍّ حَبْلًا فِيهِ ثَلَاثُ عُقَدٍ» ، وَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَنَحْوُهُ لِأَحْمَدَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ، وَقِيلَ: عَلَى الْمَجَازِ كَأَنَّهُ شَبَّهَ فِعْلَ الشَّيْطَانِ بِالنَّائِمِ مِنْ مَنْعِهِ مِنَ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ بِفِعْلِ السَّاحِرِ بِالْمَسْحُورِ مِنْ مَنْعِهِ عَنْ مُرَادِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَهُ عَقْدُ الْقَلْبِ وَتَصْمِيمُهُ عَلَى الشَّيْءِ فَكَأَنَّهُ يُوَسْوِسُ بِأَنَّ عَلَيْكَ لَيْلًا طَوِيلًا، فَيَتَأَخَّرُ عَنِ الْقِيَامِ. وَقِيلَ: مَجَازٌ عَنْ تَثْبِيطِ الشَّيْطَانِ وَتَعْوِيقِهِ لِلنَّائِمِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. (" عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ ") : قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ (لَيْلٌ) بِالرَّفْعِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ عَنْ مُسْلِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْإِغْرَاءِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ مَعَ مَا بَعْدَهُ، أَيْ قَوْلُهُ:(" فَارْقُدْ ") : مَفْعُولٌ لِلْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، أَيْ: يُلْقِي الشَّيْطَانُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ يَعْقِدُهَا هَذَا الْقَوْلَ وَهُوَ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، أَيْ: طَوِيلٌ، قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: يُقَالُ: ضَرَبَ الشَّبَكَةَ عَلَى الطَّائِرِ: أَلْقَاهَا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:(عَلَيْكَ) إِمَّا خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: لَيْلٌ طَوِيلٌ، أَيْ: لَيْلٌ طَوِيلٌ بَاقٍ عَلَيْكَ، أَوْ إِغْرَاءٌ، أَيْ: عَلَيْكَ بِالنَّوْمِ أَمَامَكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ وَالثَّانِيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَالتَّعْلِيلِ. (" فَإِنِ اسْتَيْقَظَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ")، أَيْ: عُقْدَةُ الْكَسَالَةِ وَالْبِطَالَةِ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَعَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: وَفِي الْمُوَطَّأِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ. اهـ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمِشْكَاةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي فَتْحِ الْبَارِي: وَقَعَ لِبَعْضِ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ بِالْإِفْرَادِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا سَيَأْتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ: عُقَدُهُ كُلُّهَا، وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ: انْحَلَّتِ الْعُقَدُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعُقَدَ تَنْحَلُّ كُلُّهَا بِالصَّلَاةِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الطِّهَارَةِ كَمَنْ نَامَ مُتَمَكِّنًا مَثَلًا، ثُمَّ انْتَبَهَ فَصَلَّى مِنْ قَبْلِ أَنْ يَذْكُرَ أَوْ يَتَطَهَّرَ، أَوْ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَتَضَمَّنُ الطَّهَارَةَ وَالذِّكْرَ. (" فَأَصْبَحَ ")، أَيْ: دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ أَوْ صَارَ (" نَشِيطًا ")، أَيْ: لِلْعِبَادَةِ (" طَيِّبَ النَّفْسِ ")، أَيْ: ذَاتَ فَرَحٍ ; لِأَنَّهُ تَخَلَّصَ عَنْ وِثَاقِ الشَّيْطَانِ وَتَخَفَّفَ عَنْهُ أَعْبَاءُ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ وَحَصَلَ لَهُ رِضَا الرَّحْمَنِ (" وَإِلَّا ")، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَلِكَ بَلْ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَنَامَ حَتَّى تَفُوتَهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَالظَّاهِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ. (" أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ ") : مَحْزُونَ الْقَلْبِ كَثِيرَ الْهَمِّ مُتَحَيِّرًا فِي أَمْرِهِ (" كَسْلَانَ ") : لَا يُحَصِّلُ مُرَادَهُ فِيمَا يَقْصِدُهُ مِنْ أُمُورِهِ ; لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الشَّيْطَانِ وَمُبْعَدٌ عَنْ قُرْبِ الرَّحْمَنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ. اهـ. وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَلَى مَا سَبَقَ.

ص: 921

1220 -

وَعَنِ الْمُغِيرَةِ رضي الله عنه، قَالَ:«قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: " أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1220 -

(وَعَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : وَفِي نُسْخَةٍ: مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: صَلَّى لَيْلًا طَوِيلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ قَامَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى وَجْهِ الْإِطَالَةِ وَالْإِدَامَةِ، (حَتَّى تَوَرَّمَتْ)، أَيِ: انْتَفَخَتْ كَمَا فِي الشَّمَائِلِ عَنْهُ (قَدَمَاهُ)، أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ (فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا)، أَيْ: تَتَكَلَّفُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْنَى أَتُلْزِمُ نَفْسَكَ بِهَذِهِ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَتَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ عِصَامُ الدِّينِ: الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ، (وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ:" أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ") ، أَيْ: لِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ بِغُفْرَانِ ذُنُوبِي وَسَائِرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: أَيْ أَأَتْرُكُ تِلْكَ الْكُلْفَةَ نَظَرًا إِلَى الْمَغْفِرَةِ فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَا بَلْ أَلْزَمُهَا وَإِنْ غُفِرَ لِي ; لِأَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ مُسَبَّبٌ عَنْ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَأَتْرُكُ قِيَامِي وَتَهَجُّدِي لِمَا غُفِرَ لِي فَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا. يَعْنِي أَنَّ غُفْرَانَ اللَّهِ إِيَّايَ سَبَبٌ لِأَنْ أَقْوَمَ وَأَتَهَجَّدَ شُكْرًا لَهُ فَكَيْفَ أَتْرُكُهُ؟ . اهـ.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ عِبَادَتِي لِلَّهِ مِنْ خَوْفِ الذُّنُوبِ، بَلْ لِشُكْرِ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ عَلَيَّ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَقَالَ مِيرَكُ: كَأَنَّ الْمَعْنَى كَيْفَ لَا أَشْكُرُهُ، وَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيَّ وَخَصَّنِي بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ، فَإِنَّ الشَّكُورَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ يَسْتَدْعِي نِعْمَةً خَطِيرَةً وَمِنْحَةً كَثِيرَةً، وَتَخْصِيصُ الْعَبْدِ بِالذِّكْرِ مُشْعِرٌ بِعِنَايَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ صَاحِبِ الْإِنْعَامِ، وَمِنْ ثَمَّ وَصَفَهُ بِهِ فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، وَلِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ تَقْتَضِي صِحَّةَ النِّسْبَةِ، وَلَيْسَتْ إِلَّا بِالْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ عَيْنُ الشُّكْرِ. اهـ. وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:

لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا

فَإِنَّهُ مِنْ خَيْرِ أَسْمَائِيَا.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ ظَنَّ مَنْ سَأَلَهُ عليه الصلاة والسلام عَنْ سَبَبِ تَحَمُّلِهِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعِبَادَةِ أَنَّ سَبَبَهَا إِمَّا خَوْفُ الذَّنْبِ، أَوْ رَجَاءُ الْمَغْفِرَةِ، فَأَفَادَهُمْ أَنَّ لَهَا سَبَبًا آخَرَ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَهُوَ الشُّكْرُ عَلَى التَّأَهُّلِ لَهَا مَعَ الْمَغْفِرَةِ وَإِجْزَالِ النِّعْمَةِ. اهـ.

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ قَوْمًا عَبَدُوا رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَأَنَّ قَوْمًا عَبَدُوا رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَأَنَّ قَوْمًا عَبَدُوا شُكْرًا فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ، كَذَا فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 922

1221 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ:«ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ، مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: " ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ " أَوْ قَالَ: " فِي أُذُنَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1221 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقِيلَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ تَفْسِيرٌ، أَيْ:" لَهُ " كَمَا فِي نُسْخَةٍ، أَيْ لِأَجْلِهِ، وَفِي حَقِّهِ أَوْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ عَنْهُ تَفْسِيرٌ لِمَا ذُكِرَ بِهِ. (مَا زَالَ)، أَيِ: الرَّجُلُ (نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ)، أَيْ: صَارَ أَوْ دَخَلَ فِي الصُّبْحِ (مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ)، أَيْ: صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (أَصْبَحَ) تَامَّةً، وَ (مَا قَامَ) فِي مَحَلِّ النَّصْبِ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ، أَيْ أَصْبَحَ، وَحَالُهُ أَنَّهُ غَيْرُ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً، وَ (مَا قَامَ) خَبَرُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ (مَا قَامَ) جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً مُبَيِّنَةً لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، أَوْ مُؤَكِّدَةً مُقَرِّرَةً لَهَا. (قَالَ) : صلى الله عليه وسلم (" ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ ") : بِالْإِفْرَادِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّهِ، شَبَّهَ تَثَاقُلَ أُذُنِهِ وَعَدَمَ انْتِبَاهِهِ بِصَوْتِ الْمُؤَذِّنِ بِحَالِ مَنْ يُبَالُ فِي أُذُنِهِ فَثَقُلَ سَمْعُهُ وَفَسَدَ حِسُّهُ، وَالْبَوْلُ ضَارٌّ مُفْسِدٌ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِهَانَةِ الشَّيْطَانِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُسْتَخِفِّ بِالشَّيْءِ غَايَةَ الِاسْتِخْفَافِ أَنْ يَبُولَ بِهِ، وَخَصَّ الْأُذُنَ ; لِأَنَّ الِانْتِبَاهَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِاسْتِمَاعِ الْأَصْوَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ فِي النِّهَايَةِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَلَأَ سَمْعَهُ بِالْأَبَاطِيلِ فَأَحْدَثَ فِي أُذُنِهِ وَقْرًا عَنِ اسْتِمَاعِ دَعْوَةِ الْحَقِّ، قِيلَ: خَصَّ الْأُذُنَ بِالذِّكْرِ، وَالْعَيْنُ أَنْسَبُ بِالنَّوْمِ إِشَارَةً إِلَى ثِقَلِ النُّوَّمِ، فَإِنَّ الْمَسَامِعَ مَوَارِدُ الِانْتِبَاهِ بِالْأَصْوَاتِ وَنِدَاءِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَخَصَّ الْبَوْلَ مِنَ الْأَخْبَثَيْنِ ; لِأَنَّهُ مَعَ خَبَاثَتِهِ أَسْهَلُ مَدْخَلًا فِي تَجَاوِيفِ الْخُرُوقِ وَالْعُرُوقِ وَنُفُوذِهِ فِيهَا، فَيُورِثُ الْكَسَلَ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. (أَوْ قَالَ) : أَيْ فِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (" فِي أُذُنَيْهِ ") : بِالتَّثْنِيَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ جَعَلَهُ خَبِيثًا لَا يَقْبَلُ الْخَيْرَ، وَجَعَلَهُ مُسَخَّرًا وَمُطِيعًا لِلشَّيْطَانِ يَقْبَلُ مَا يَأْمُرُهُ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَقِيلَ الْبَوْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ مِمَّنْ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ شَخْصًا أَسْوَدَ جَاءَ فَشَغَرَ بِرِجْلِهِ فَبَالَ فِي أُذُنَيْهِ. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ لَوَجَدَهَا رَطْبَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ.

ص: 922

1222 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً فَزِعًا، يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ ! وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ " - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ - " لِكَيْ يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

1222 -

(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) : أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً)، أَيْ: مِنْ لَيَالِيهَا (فَزِعًا) : بِكَسْرِ الزَّايِ حَالٌ، أَيْ: خَائِفًا مُضْطَرِبًا مِمَّا شَاهَدَهُ، (يَقُولُ:" سُبْحَانَ اللَّهِ ") : كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ وَتَعْظِيمٍ لِلشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ:(" مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ ") : كَالتَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ ; لِأَنَّ " مَا " اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّعْظِيمِ، (" وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ ") : عَبَّرَ عَنِ الرَّحْمَةِ بِالْخَزَائِنِ لِكَثْرَتِهَا وَعِزَّتِهَا، وَعَنِ الْعَذَابِ بِالْفِتَنِ ; لِأَنَّهَا أَسْبَابٌ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى الْعَذَابِ وَجَمَعَهُمَا لِسَعَتِهِمَا وَكَثْرَتِهِمَا، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ. (" مَنْ يُوقِظُ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتِفْهَامٌ، أَيْ: هَلْ أَحَدٌ يُوقِظُ (" صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ " - يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ -)، أَيْ: يَعْنِي صلى الله عليه وسلم بِصَوَاحِبِ الْحُجُرَاتِ أَزْوَاجَهُ الطَّاهِرَاتِ (" لِكَيْ يُصَلِّينَ؟ ") : لِيَجِدْنَ الرَّحْمَةَ وَيَتَخَلَّصْنَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْفِتْنَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنَ الْفِتَنِ مَا وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ صَوَاحِبِ الْحُجَرِ إِشَارَةٌ لِمَا وَقَعَ لِعَائِشَةَ مَعَ عَلِيٍّ فِي مَبَادِيهَا (" رُبَّ كَاسِيَةٍ ")، أَيِ: امْرَأَةٌ أَوْ نَفْسٌ لَابِسَةٌ (" فِي الدُّنْيَا ") : مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ وَأَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنَ الْأَسْبَابِ، (" عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ ") : مِنْ أَصْنَافِ الثَّوَابِ وَفَاضِحَةٍ عِنْدَ الْحِسَابِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي قَوْلِهِ:(عَارِيَةٍ) هِيَ مَجْرُورَةٌ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَلَى النَّعْتِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ، وَالتَّقْدِيرُ: رُبَّ كَاسِيَةٍ هِيَ عَارِيَةٌ عَرَفْتُهَا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِرُبَّ هُنَا التَّكْثِيرُ، قَالَ الْأَشْرَفُ، أَيْ كَاسِيَةٌ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ عَارِيَةٌ مِنْ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ، وَقِيلَ: عَارِيَةٌ مِنْ شُكْرِ النِّعَمِ، وَقِيلَ: هَذَا نَهْيٌ عَنْ لُبْسِ مَا يَشِفُّ مِنَ الثِّيَابِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: رُبَّ كَاسِيَةٍ كَالْبَيَانِ لِمُوجِبِ اسْتِيقَاظِ الْأَزْوَاجِ لِلصَّلَاةِ، أَيْ: لَا يَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ يَتَغَافَلْنَ عَنِ الْعِبَادَةِ وَيَعْتَمِدْنَ عَلَى كَوْنِهِنَّ أَهَالِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَاسِيَاتٍ خُلْعَةَ نِسْبَةِ أَزْوَاجِهِ مُتَشَرِّفَاتٍ فِي الدُّنْيَا بِهَا، فَهَذِهِ عَارِيَاتٌ فِي الْآخِرَةِ إِذْ لَا أَنْسَابَ فِيهَا وَالْحُكْمُ عَامٌّ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَذَكَرَ أَزْوَاجَهُ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالتِّرْمِذِيُّ.

ص: 923

1223 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» : ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَيْهِ وَيَقُولُ مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدُومٍ وَلَا ظَلُومٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ» ".

ــ

1223 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَنْزِلُ رَبُّنَا ")، أَيْ: أَمْرُهُ لِبَعْضِ مَلَائِكَتِهِ أَوْ يَنْزِلُ مُنَادِيهِ (" تَبَارَكَ ") : كَثُرَ خَيْرُهُ وَرَحْمَتُهُ وَآثَارُ جِمَالِهِ (" وَتَعَالَى ") : عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مِنَ الطُّلُوعِ وَالنُّزُولِ، وَارْتَفَعَ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ بِكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، قِيلَ: إِنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَظَرْفِهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّنْزِيهِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْنَادِ مَا هُوَ حَقِيقَتُهُ، (" كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ أَوْ مَلَائِكَتُهُ، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَيَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " «إِنَّ اللَّهَ عز وجل يُمْهِلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَيُسْتَجَابُ لَهُ» ؟ " الْحَدِيثَ، وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي، وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ أَيْضًا، أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَمَعْنَاهُ الْإِقْبَالُ عَلَى الدَّاعِي بِالْإِجَابَةِ وَاللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَقَبُولِ الْمَعْذِرَةِ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْكُرَمَاءِ، لَا سِيَّمَا الْمُلُوكَ إِذَا نَزَلُوا بِقُرْبِ مُحْتَاجِينَ مَلْهُوفِينَ مُسْتَضْعَفِينَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَشِبْهِهِ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ. فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِيمَانُ بِحَقِيقَتِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، وَأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمُتَعَارَفَ فِي حَقِّنَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَلَا نَتَكَلَّمُ فِي تَأْوِيلِهَا مَعَ اعْتِقَادِنَا تَنْزِيهَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ سَائِرِ سِمَاتِ الْحُدُوثِ. وَالثَّانِي: مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ إِنَّمَا تُتَأَوَّلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا بِحَسَبِ بَوَاطِنِهَا، فَعَلَيْهِ: الْخَبَرُ مُئَوَّلٌ بِتَأْوِيلَيْنِ، أَيِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَبِكَلَامِهِ وَبِكَلَامِ الشَّيْخِ الرَّبَّانِيِّ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ،

ص: 923

وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَذْهَبَيْنِ مُتَّفِقَانِ عَلَى صَرْفِ تِلْكَ الظَّوَاهِرِ، كَالْمَجِيءِ، وَالصُّورَةِ، وَالشَّخْصِ، وَالرِّجْلِ، وَالْقَدَمِ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَالْغَضَبِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَالْكَوْنِ فِي السَّمَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْهِمُهُ ظَاهِرُهَا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ مَجَالَاتٍ قَطْعِيَّةِ الْبُطْلَانِ تَسْتَلْزِمُ أَشْيَاءَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَاضْطَرَّ ذَلِكَ جَمِيعَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ نَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ مُعْتَقِدِينَ اتِّصَافَهُ سُبْحَانَهُ بِمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نُئَوِّلَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ السَّلَفِ، وَفِيهِ تَأْوِيلٌ إِجْمَالِيٌّ أَوْ مَعَ تَأْوِيلِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْخَلَفِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ، وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ فِي أَزْمِنَتِهِمْ لِذَلِكَ ; لِكَثْرَةِ الْمُجَسِّمَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ فِرَقِ الضَّلَالَةِ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى عُقُولِ الْعَامَّةِ، فَقَصَدُوا بِذَلِكَ رَدْعَهُمْ وَبُطْلَانَ قَوْلِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ اعْتَذَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَقَالُوا: لَوْ كُنَّا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ صَفَاءِ الْعَقَائِدِ وَعَدَمِ الْمُبْطِلِينَ فِي زَمَنِهِمْ لَمْ نَخُضْ فِي تَأْوِيلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَالِكًا وَالْأَوْزَاعِيَّ، وَهُمَا مِنْ كِبَارِ السَّلَفِ أَوَّلَا الْحَدِيثَ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا، وَكَذَلِكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَوَّلَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ بِقَصْدِ أَمْرِهِ، وَنَظِيرُهُ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] ، أَيْ: قَصَدَ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، بَلْ قَالَ جَمْعٌ مِنْهُمْ وَمِنَ الْخَلَفِ: إِنَّ مُعْتَقِدَ الْجِهَةِ كَافِرٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعِرَاقِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَوْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَشْعَرِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ. وَقَدِ اتَّفَقَ سَائِرُ الْفِرَقِ عَلَى تَأْوِيلِ نَحْوِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الْآيَةَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ، وَ " «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» "، " «وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» " وَهَذَا الِاتِّفَاقُ يُبَيِّنُ لَكَ صِحَّةَ مَا اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى (الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ) لَا الْجَلَالَةِ.

قُلْتُ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى (إِلَّا اللَّهُ) وَعْدٌ، وَأَوْقَفَهُ وَقْفًا لَازَمًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَعْنَاهُ الَّذِي أَرَادَهُ تَعَالَى وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جل جلاله وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ جَزْمًا، فَفِي التَّحْقِيقِ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَلِهَذَا اخْتَارَ كَثِيرُونَ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ عَدَمَ تَعْيِينِ التَّأْوِيلِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَلِيقُ بِاللَّفْظِ، وَيَكِلُونَ تَعْيِينَ الْمُرَادِ بِهَا إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، وَهَذَا تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَتَلَذُّذٌ بَيْنَ الْمَشْرَبَيْنِ، وَاخْتَارَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ تَوَسُّطًا آخَرَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنَ الْمَجَازِ الْبَيِّنِ الشَّائِعِ، فَالْحَقُّ سُلُوكُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ أَوْ مِنَ الْمَجَازِ الْبَعِيدِ الشَّاذِّ فَالْحَقُّ تَرْكُهُ، وَإِنِ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَالِاخْتِلَافُ فِي جَوَازِهِ وَعَدَمِهِ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْأَمْرُ فِيهَا لَيْسَ بِالْخَطَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ.

قُلْتُ: التَّوَقُّفُ فِيهَا لِعَدَمِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، مَعَ أَنَّ التَّوَقُّفَ مُؤَيَّدٌ بِقَوْلِ السَّلَفِ، وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ بِنُزُولِهِ: دُنُوُّ رَحْمَتِهِ وَمَزِيدُ لُطْفِهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِمْ، وَقَبُولُ مَعْذِرَتِهِمْ، كَمَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُلُوكِ الْكُرَمَاءِ وَالسَّادَةِ الرُّحَمَاءِ إِذَا نَزَلُوا بِقُرْبِ قَوْمٍ مَلْهُوفِينَ مُحْتَاجِينَ مُسْتَضْعَفِينَ، وَقَدْ رُوِيَ:«يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» ، أَيْ: يَنْتَقِلُ مِنْ مُقْتَضَى صِفَاتِ الْجَلَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْأَنَفَةَ مِنَ الْأَرْذَالِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَقَهْرِ الْعُدَاةِ، وَالِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ إِلَى مُقْتَضَى صِفَاتِ الْجَمَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَقَبُولِ الْمَعْذِرَةِ وَالتَّلَطُّفِ بِالْمُحْتَاجِ، وَاسْتِقْرَاضِ الْحَوَائِجِ، وَالْمُسَاهَلَةِ، وَالتَّخْفِيفِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْإِغْضَاءِ عَمَّا يَبْدُو مِنَ الْمَعَاصِي، وَلِهَذَا قِيلَ: هَذَا تَجَلٍّ صُورِيٌّ لَا نُزُولٌ حَقِيقِيٌّ، فَارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (" حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ ") : بِضَمِّ لَامِ ثُلُثٍ وَسُكُونِهِ (" الْآخِرُ ") : بِالرَّفْعِ صِفَةُ ثُلُثٍ.

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ مُتَشَابِهٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَيَنْتَقِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ إِلَى صِفَاتِ الرَّحْمَةِ وَالْجَمَالِ، قُلْتُ: التَّعْبِيرُ بِالِانْتِقَالِ لَا يَرْتَضِيهِ أَهْلُ الْكَمَالِ لِتَوَهُّمِ النَّقْصِ وَالزَّوَالِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الظُّهُورَ وَالتَّجَلِّيَ بِصِفَةِ الْجَمَالِ.

ص: 924

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: تَخْصِيصُ الثُّلُثِ الْآخِرِ ; لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّهَجُّدِ، وَغَفْلَةِ النَّاسِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ النِّيَّةُ خَالِصَةً وَالرَّغْبَةُ وَافِرَةً، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِيلَ الْمُرَادُ نُزُولُ الرَّحْمَةِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَالْأَلْطَافِ السُّبُحَانِيَّةِ، وَقُرْبُهُ مِنَ الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى الصِّفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ نُزُولُ مَلَكٍ مِنْ خَوَاصِّ مَلَائِكَتِهِ، فَيَنْقُلُ حِكَايَةَ كَلَامِ الرَّبِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تُنَافِي مَا وَرَدَ: حَتَّى يَمْضِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، وَفِي رِوَايَةٍ:«إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ» ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي هَكَذَا، وَفِي بَعْضِهَا هَكَذَا - كَذَا قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ - وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَكَرَّرَ النُّزُولُ عِنْدَ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ الْآخِرِ، وَاخْتُصَّ بِزِيَادَةِ الْفَضْلِ لِحَثِّهِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ، وَلِاتِّفَاقِ الصَّحِيحَيْنِ عَلَى رِوَايَتِهِ. اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا نُزُولُ تَجَلٍّ فَلَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِحَسَبِ أَزْمِنَةِ الْقَائِمِينَ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَمُجْمَلُهُ: أَنَّ مُطْلَقَ اللَّيْلِ مَحَلُّ التَّنَزُّلِ الْإِلَهِيِّ مِنْ مَقَامِ الْجَلَالِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْجَمَالِ، دَاعِيًا عِبَادَهُ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ الْكَمَالِ إِلَى مِنَصَّةِ الْوِصَالِ حَالَ غَفْلَةِ عَامَّةِ الْخَلْقِ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ. (" يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ (أَنْ) فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَأُعْطِيَهُ، فَأَغْفِرَ لَهُ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. (" مَنْ سَأَلَنِي فَأُعْطِيَهُ ") : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَبِسُكُونِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ (" مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ") : قِيلَ: مَقْصُودُ الْحَدِيثِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْثِيثُ وَتَخْصِيصُ هَذَا الْوَقْتِ بِمَزِيدِ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ أَنْفَعُ وَأَرْجَى وَبِالْقَبُولِ أَحْرَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَيْهِ ")، أَيْ: لُطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: عَنْ مَظْهَرَيْهِمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالتَّجَلِّي الصُّورِيِّ لِتَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنِ الْجَارِحَةِ وَالنُّزُولِ الْحِسِّيِّ. (" يَقُولُ ") : وَفِي نُسْخَةٍ: وَيَقُولُ، أَيْ بِذَاتِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ مِنْ خَوَاصِّ مَلَائِكَتِهِ (" مَنْ يُقْرِضُ ")، أَيْ: يُعْطِي الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ أَوِ الْمَالِيَّةَ عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ وَأَخْذِ الْعِوَضِ، (" غَيْرَ عَدُومٍ ")، أَيْ: رَبًّا غَنِيًّا غَيْرَ فَقِيرٍ عَاجِزٍ عَنِ الْعَطَاءِ، (" وَلَا ظَلُومٍ ") : بِعَدَمِ الْوَفَاءِ أَوْ بِنَقْصٍ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ يَعْنِي: مَنْ يَعْمَلُ فِي الْعَاجِلَةِ رَجَاءَ الثَّوَابِ فِي الْآجِلَةِ لِغَنِيٍّ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهِ، وَعَادِلٍ لَا يَظْلِمُ الْمُقْرِضَ بِنَقْصِ مَا أَخَذَ، بَلْ يُضَاعِفُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَإِنَّمَا وَصَفَ ذَاتَهُ تَعَالَى بِنَفْيِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا الْمَانِعَانِ غَالِبًا عَنِ الْإِقْرَاضِ، فَالْمَعْنَى مَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا يَجِدْ جَزَاءَهُ كَامِلًا عِنْدِي فِي الْعُقْبَى، (" حَتَّى ") : غَايَةٌ لِلْبَسْطِ وَالْقَوْلِ، أَيْ: لَا يَزَالُ يَقُولُ ذَلِكَ طَلَبًا لِإِقْبَالِ قُلُوبِ طَالِبِيهِ إِلَيْهِ، (" يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ")، أَيْ: يَنْشَقُّ أَوْ يَطْلُعُ، وَيَظْهَرُ الصُّبُحُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ ذَلِكَ اللُّطْفِ.

ص: 925

1224 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1224 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً ")، أَيْ: مُبْهَمَةً (" لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ ") قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِسَاعَةٍ (" يَسْأَلُ اللَّهَ ")، أَيْ: فِيهَا، كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ (" خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ")، أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا (" وَذَلِكَ ")، أَيِ: الْمَذْكُورُ مِنْ سَاعَةِ الْإِجَابَةِ (" كُلَّ لَيْلَةٍ ") : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ خَبَرُ (ذَلِكَ) أَيْ: ثَابِتٌ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَا يَتَقَيَّدُ بِلَيْلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَيَنْبَغِي تَحَرِّي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا أَمْكَنَ كُلَّ لَيْلَةٍ كَمَا قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَإِنَّ جَذْبَةً مِنْ جَذَبَاتِ الْحَقِّ تُوَازِي عَمَلَ الثَّقَلَيْنِ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يُفَضِّلُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ; لِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ فِيهَا سَاعَةُ إِجَابَةٍ مَوْعُودَةٌ، وَلَيْسَ بِذَلِكَ فِي النَّهَارِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةَ، فَلْيَجْتَهِدِ الرَّجُلُ أَنْ يُحْيِيَ كُلَّ لَيْلَةٍ أَوْ بَعْضَهَا لَعَلَّهُ يَجِدُ تِلْكَ السَّاعَةَ، وَالْحِكْمَةُ فِي إِبْهَامِ سَاعَةِ اللَّيْلِ كَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَصَلَاةِ الْوُسْطَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاجْتِهَادِ لِتَحْصِيلِ الْمُرَادِ، وَعَدَمِ الْيَأْسِ مِنَ الْفَوْتِ، وَعَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَتَخْلِيصِ الْقَلْبِ مِنَ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ، وَكَوْنِ الْعَبْدِ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 925

1225 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1225 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَحَبُّ الصَّلَاةِ ")، أَيْ: مِنْ جِهَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ وَزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ (" إِلَى اللَّهِ ")، أَيْ: مِنَ النَّوَافِلِ (" «صَلَاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ» ") ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ، وَهُوَ زُبْدَةُ عَيْنِ الْعِبَادَةِ، (" كَانَ ") : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ بِالْوَاوِ (" يَنَامُ ")، أَيْ: دَاوُدُ (" نِصْفَ اللَّيْلِ ")، أَيْ: نِصْفَهُ الْأَوَّلَ (" وَيَقُومُ ")، أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ (" ثُلُثَهُ ") : بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهِ، وَهُوَ السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ (" وَيَنَامُ سُدُسَهُ ") : بِضَمِّ الدَّالِّ وَيُسَكَّنُ، أَيْ: سُدُسُهُ الْأَخِيرُ، ثُمَّ يَقُومُ عِنْدَ الصُّبْحِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ أَحَبُّ لِأَنَّ النَّفْسَ إِذَا نَامَتْ فِي الثُّلُثَيْنِ مِنَ اللَّيْلِ تَكُونُ أَخَفَّ وَأَنْشَطَ فِي الْعِبَادَةِ. اهـ. وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا الْتَزَمَ هَذَا النَّوْمَ لِيَكُونَ قِيَامُهُ جَامِعًا لِمَقَامِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِيُهَوِّنَ عَلَى أُمَّتِهِ فِي الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الْأَحْيَاءِ (" وَيَصُومُ ")، أَيْ: دَاوُدُ (يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ ; لِأَنَّهَا تُصَادِفُ مَأْلُوفَهَا فِي وَقْتٍ، وَتُفَارِقُهُ فِي وَقْتٍ. اهـ.

وَلَعَلَّ هَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنْ أُلْفَةِ النَّفْسِ فِي الْجُمْلَةِ مَا الْتَزَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْوَصْفَ فِي صِيَامِهِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام " كَانَ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَرَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ، وَيُفْطِرُ مِنْهُ حَتَّى نَرَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكُنْتَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ فَكَانَ عليه الصلاة والسلام أَبَا الْوَقْتِ وَغَيْرَ ابْنِ الْوَقْتِ، فَهُوَ حَاكِمٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ، فَكَانَ يَفْعَلُ الْعِبَادَاتِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي أَوْقَاتِ الطَّاعَاتِ دُونَ الْحَالَاتِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْعَادَاتِ وَإِنْ كَانَتْ عَادَاتُ السَّادَاتِ سَادَاتِ الْعَادَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 926

1226 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيُحْيِي آخِرَهُ، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ يَنَامُ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ جُنُبًا، وَثَبَ فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1226 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ - تَعْنِي) : تَفْسِيرٌ لِضَمِيرِ كَانَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ: تُرِيدُ عَائِشَةُ بِذَلِكَ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : بِالنَّصْبِ وَهُوَ مَفْعُولُ (تَعْنِي) فِي الظَّاهِرِ، وَاسْمُ (كَانَ) فِي الْمَعْنَى (يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيُحْيِي آخِرَهُ، ثُمَّ) : قِيلَ: يُمْكِنُ إِنَّ (ثُمَّ) هُنَا لِتَرَاخِي الْأَخْبَارِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عَلَى بَابِهَا، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: وَبَعْدَ صَلَاتِهِ وَفَرَاغِهِ مِنْ وِرْدِهِ، (وَإِنْ كَانَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: كَانَ (لَهُ حَاجَةٌ)، أَيْ: بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّيْلَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (إِلَى أَهْلِهِ) : الْمُرَادُ مُبَاشَرَةُ زَوْجَتِهِ (قَضَى حَاجَتَهُ)، أَيْ: فَعَلَهَا (ثُمَّ يَنَامُ)، أَيْ: لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْعِبَادَةِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ نُكْتَةٌ لَا تَخْفَى، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَتْ لَفْظَةَ (ثُمَّ) لِيُعْلَمَ أَنَّ الْجَدِيرَ بِهِ عليه الصلاة والسلام تَقْدِيمُ الْعِبَادَةِ عَلَى الشَّهْوَةِ وَأُمُورِ الْعَادَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَأْخِيرُ الْوَطْءِ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ أَوْلَى ; لِأَنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ قَدْ يَكُونُ مُمْتَلِئًا، وَالْجِمَاعُ عَلَى الِامْتِلَاءِ مُضِرٌّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ الْغُسْلُ فَيَنَامُ عَلَى جَنَابَةٍ وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَنَوْمُهُ عليه الصلاة والسلام بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ الْغُسْلِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ الَّذِي لَوْلَاهُ لَفُهِمَ مِنْ نَهْيِ الْجُنُبِ عَنِ النَّوْمِ قَبْلَ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ حُرْمَتُهُ. اهـ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَقَدَ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ، وَالْأَوْلَى حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى الْكَمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (فَإِنْ كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ) : قِيلَ، أَيْ: أَذَانُ بِلَالٍ إِذَا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ، وَالنِّدَاءُ الثَّانِي أَذَانُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عِنْدَ الصُّبْحِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ الْأَذَانُ، وَبِالثَّانِي الْإِقَامَةُ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ نَسَبَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ إِلَى غَلَطٍ فَاحِشٍ (جُنُبًا)، أَيْ: مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَوْ آخِرِهِ (وَثَبَ)، أَيْ: قَامَ بِسُرْعَةٍ مِنَ النَّوْمِ (فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ)، أَيِ: اغْتَسَلَ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ) : وَإِمَّا لِلتَّجْدِيدِ أَوْ لِسَبَبٍ آخَرَ (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: سُنَّةَ الْفَجْرِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ يَبْتَدِئُ بِهِمَا كَمَا ذُكِرَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَهُوَ يُنَاقِضُ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ أَعْنِي بَعْدَ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْإِحْيَاءَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا سُنَّةُ الْوُضُوءِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَذْهَبِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

قُلْتُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ مُفَصَّلًا عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى تَمَامِ نِصْفِهِ الْأَوَّلِ» ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ يَقُومُ، أَيِ: السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ لِلتَّهَجُّدِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَوْتَرَ ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، أَيْ: لِلنَّوْمِ فَإِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فِي السُّدُسِ السَّادِسِ لِيَقْوَى بِهِ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ وَظَائِفِ الطَّاعَاتِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ، أَيْ: قَرُبَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ، فَإِنْ سَمِعَ الْأَذَانَ، ظَاهِرُهُ الْأَذَانُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ تَبَيُّنِ الصُّبْحِ، وَثَبَ فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ مُلَّا حَنَفِي: وَهَذَا بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. اهـ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 926

الْفَصْلُ الثَّانِي

1227 -

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1227 -

(عَنْ أَبِي أُمَامَةُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؟ ")، أَيِ: الْزَمُوا الْقِيَامَ بِالْعِبَادَةِ فِي اللَّيْلِ، (" فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ ") : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ وَيُحَرَّكُ، أَيْ: عَادَتُهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالشَّأْنُ وَقَدْ يُحَرَّكُ، وَأَصْلُهُ مِنْ دَأَبَ فِي الْعَمَلِ: إِذَا جَدَّ وَتَعِبَ. اهـ. وَهُوَ مَا يُوَاظِبُونَ عَلَيْهِ وَيَأْتُونَ بِهِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّ آلَ دَاوُدَ كَانُوا يَقُومُونَ بِاللَّيْلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّكُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَإِنَّكُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَا يَقُومُ اللَّيْلَ لَيْسَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكَامِلِينَ، بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْمُزَكَّى عَلَنًا لَا سِرًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْأَنْبِيَاءُ الْمَاضُونَ. (" قَبْلَكُمْ ")، أَيْ: وَهِيَ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ (" وَهُوَ ")، أَيْ: مَعَ كَوْنِهِ اقْتِدَاءً بِسِيرَةِ الصَّالِحِينَ (" قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ")، أَيْ: مَحَبَّةُ مَوْلَاكُمْ مِمَّا تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ:" «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» . (" وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ ") : مَصْدَرَانِ مِيمِيَّانِ كَالْمَحْمَدَةِ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ: سَاتِرَةٌ لِلذُّنُوبِ وَمَاحِيَةٌ لِلْعُيُوبِ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَنَاهِيَةٌ (" عَنِ الْإِثْمِ ")، أَيِ: ارْتِكَابِ مَا يُوجِبُهُ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ، وَالشَّيْخُ مُحْيِي السُّنَّةِ كِلَاهُمَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ يَرْفَعُهُ بِزِيَادَةٍ:" وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ مِنَ الْجَسَدِ "، وَفِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ قَالَ:«أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ رَكْعَةً» . اهـ. يَعْنِي: وَلَوْ وَقَعَتْ رَكْعَةٌ فِي اللَّيْلِ.

ص: 927

1228 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «ثَلَاثَةٌ يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ: الرَّجُلُ إِذَا قَامَ بِاللَّيْلِ يُصَلِّي، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا فِي الصَّلَاةِ، وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".

ــ

1228 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ثَلَاثَةٌ ")، أَيْ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَالْأَوْلَى أَشْخَاصٌ، وَيُرَادُ بِهَا الْأَنْوَاعُ، أَوَّلًا ثُمَّ الْقَوْمُ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَصْنَافٌ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: ثَلَاثَةٌ، أَيْ: ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ، قَالَهُ فِي الْمَفَاتِيحِ. (" يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ ")، أَيْ: يَرْضَى عَنْهُمْ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ نَظَرَ عِنَايَةٍ بَالِغَةٍ وَيَرْحَمُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً سَابِغَةً. (" الرَّجُلُ ") : خَصَّ ذِكْرَهُ نَظَرًا لِغَالِبِ الْحَالِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ عَمَلُ الرِّجَالِ (" إِذَا قَامَ بِاللَّيْلِ يُصَلِّي ") : وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلِ الْقَوْمَ إِذَا قَامُوا مَعَ أَنَّهُ الْمُطَابِقُ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْمُتَعَاطِفِينَ، لِئَلَّا يُوهِمَ قَيْدَ الْجَمَاعَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، وَهُوَ بَدَلٌ عَنِ الرَّجُلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} [مريم: 16] . اهـ. وَفِي كَوْنِهِ بَدَلًا نَظَرٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ (" وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا فِي الصَّلَاةِ ") : لِلْجِهَادِ الْأَكْبَرِ (" وَالْقَوْمُ إِذَا صَفُّوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ ") : لِلْجِهَادِ الْأَصْغَرِ، وَالتَّرْتِيبُ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى فَضِيلَةً وَمَشَقَّةً ; لِأَنَّ الْجِهَادَ أَفْضَلُ، ثُمَّ الْجَمَاعَةُ لِلِاخْتِلَافِ فِي فَرْضِيَّتِهَا (رَوَاهُ)، أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَعَ بَعْضِ تَغْيِيرٍ فِي اللَّفْظِ.

ص: 927

1229 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَكُنْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.

ــ

1229 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ) : بِالْحَرَكَاتِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ ")، أَيْ: رِضَاهُ (" مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ") : خَبَرُ أَقْرَبُ، أَيْ: أَقْرَبِيَّتُهُ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ كَائِنَةٌ فِي اللَّيْلِ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ التَّجَلِّي الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّزُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا حَالٌ مِنَ الرَّبِّ، أَيْ: قَائِلًا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ: (مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ) : الْحَدِيثَ. سَدَّتْ مَسَدَّ الْخَبَرِ، أَوْ مِنَ الْعَبْدِ، أَيْ: قَائِمًا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ دَاعِيًا مُسْتَغْفِرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ الْأَقْرَبِ، وَمَعْنَاهُ سَبَقَ فِي بَابِ السَّجْدَةِ مُسْتَقْصًى.

فَإِنْ قُلْتَ: الْمَذْكُورُ هَاهُنَا أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ وَهُنَاكَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ؟ أُجِيبَ: بِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَخْ. أَنَّ رَحْمَتَهُ سَابِقَةٌ، فَقُرْبُ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ سَابِقٌ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، فَإِذَا سَجَدُوا قَرُبُوا مِنْ رَبِّهِمْ بِإِحْسَانِهِمْ، كَمَا قَالَ:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وَفِيهِ أَنَّ لُطْفَ اللَّهِ وَتَوْفِيقَهُ سَابِقٌ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ وَسَبَبٌ لَهُ، وَلَوْلَاهُ، لَمْ يَصْدُرْ مِنَ الْعَبْدِ خَيْرٌ قَطُّ. اهـ.

وَقَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ السُّجُودِ:«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» ؟ قُلْتُ: الْمُرَادُ هَاهُنَا بَيَانُ وَقْتِ كَوْنِ الرَّبِّ أَقْرَبَ مِنَ الْعَبْدِ، وَهُوَ جَوْفُ اللَّيْلِ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَيَانُ أَقْرَبِيَّةِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ وَهُوَ حَالُ السُّجُودِ. تَأَمَّلْ. اهـ. يَعْنِي فَإِنَّهُ دَقِيقٌ وَبِالتَّأَمُّلِ حَقِيقٌ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا وَقْتُ تَجَلٍّ خَاصٌّ بِوَقْتٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْعَبْدِ لِوُجُودِهِ لَا عَنْ سَبَبٍ، ثُمَّ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَهُ أَدْرَكَ ثَمَرَتَهُ، وَمَنْ لَا فَلَا. غَايَتُهُ أَنَّهُ مَعَ الْعِبَادَةِ أَتَمُّ مَنْفَعَةً وَنَتِيجَةً، وَأَمَّا الْقُرْبُ النَّاشِئُ مِنَ السُّجُودِ فَمُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ الْعَبْدِ وَخَاصٌّ بِهِ، فَنَاسَبَ كُلَّ مَحَلٍّ مَا ذُكِرَ فِيهِ. (" الْآخِرِ ") : صِفَةٌ لِجَوْفِ اللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ يُنَصِّفُ اللَّيْلَ، وَيَجْعَلُ لِكُلِّ نِصْفٍ جَوْفًا، وَالْقُرْبُ يَحْصُلُ فِي جَوْفِ النِّصْفِ الثَّانِي، فَابْتِدَاؤُهُ يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ وَهُوَ وَقْتُ الْقِيَامِ لِلتَّهَجُّدِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ. (" فَإِنِ اسْتَطَعْتَ ")، أَيْ: قَدَرْتَ وَوُفِّقْتَ (" أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ ") : فِي ضِمْنِ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا (" فِي تِلْكَ السَّاعَةِ ") : إِشَارَةٌ إِلَى لُطْفِهَا (" فَكُنْ ")، أَيِ: اجْتَهِدْ أَنْ تَكُونَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، فَلَعَلَّكَ تَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِبَرَكَتِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ مِمَّنْ نُظِمَ فِي سِلْكِ الذَّاكِرِينَ لِتَقَدُّمِهِمْ، وَيُفَاضُ عَلَيْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لِمَنِ الصَّالِحِينَ أَبْلَغُ مِنْ إِنَّهُ لِصَالِحٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادُهُ) : تَمْيِيزٌ عَنِ الْغَرِيبِ، أَيْ: غَرِيبٌ إِسْنَادُهُ لَا مَتْنُهُ، وَيُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْغَرَابَةِ وَالصِّحَّةِ.

ص: 928

1230 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ. رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

1230 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ ")، أَيْ: بَعْضَهُ (" فَصَلَّى ")، أَيِ: التَّهَجُّدَ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَهُوَ أَوْلَى بِالْأَدَاءِ (" وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ ") : بِالتَّنْبِيهِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ وَفِي مَعْنَاهَا مَحَارِمُهُ (" فَصَلَّتْ ") : مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهَا وَلَوْ رَكْعَتَيْنِ (" فَإِنْ أَبَتْ ")، أَيِ: امْتَنَعَتْ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ وَكَثْرَةِ الْكَسَلِ (" نَضَحَ ")، أَيْ: رَشَّ (" فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ ") : وَالْمُرَادُ التَّلَطُّفُ مَعَهَا وَالسَّعْيُ فِي قِيَامِهَا لِطَاعَةِ رَبِّهَا مَهْمَا أَمْكَنَ، قَالَ تَعَالَى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِكْرَاهَ أَحَدٍ عَلَى الْخَيْرِ يَجُوزُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ. (" رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ ")، أَيْ: وُفِّقَتْ بِالسَّبْقِ (" فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا ") : وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَفِي التَّرْتِيبِ الذَّكَرِيِّ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ لَا تَخْفَى (" فَصَلَّى ")، أَيْ: بِسَبَبِهَا (" فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ ") : وَفِيهِ بَيَانُ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَكَمَالِ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.

ص: 928

1231 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: " جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

1231 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟)، أَيْ: أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَسْمَعَهُ اللَّهُ، أَيْ يَقْبَلُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ أَرْجَى لِلْإِجَابَةِ ; لِأَنَّ الْمَسْمُوعَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا يَقْتَرِنُ بِالْقَبُولِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُقَدَّرٍ إِمَّا فِي السُّؤَالِ، أَيْ: أَيُّ أَوْقَاتِ الدُّعَاءِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ؟ وَإِمَّا فِي الْجَوَابِ، أَيْ دُعَاؤُهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ (قَالَ:" جَوْفُ اللَّيْلِ ") : رُوِيَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَقَوْلُهُ:(" الْآخِرُ ") : صِفَتُهُ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: جَوْفُ اللَّيْلِ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيِ: الدُّعَاءُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ. مَنْصُوبٌ صِفَةٌ لِلْجَوْفِ، وَالرَّفْعُ مُحْتَمَلٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، أَيْ: دُعَاءُ جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، وَهُوَ الْخَامِسُ مِنْ أَسْدَاسِ اللَّيْلِ. (" وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ") : بِنَصْبِ دُبُرٍ وَرَفْعِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: حَسَّنَهُ.

ص: 929

1232 -

وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا، يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَلَانَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

1232 -

(وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا ")، أَيْ: عَلَالِيَ فِي غَايَةٍ مِنَ اللَّطَافَةِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ الصَّفَاءِ وَالظَّرَافَةِ. (" يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا ") : وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى. (" أَعَدَّهَا اللَّهُ ")، أَيْ: هَيَّأَهَا (" لِمَنْ أَلَانَ ")، أَيْ: أَطَابَ (" الْكَلَامَ ") : كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَرُوِيَ: أَلْيَنَ كَأَجْوَدَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ لَفْظُ الْمَصَابِيحِ، وَرُوِيَ لَيِّنٌ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَالْمَعْنَى لِمَنْ لَهُ خُلُقٌ حَسَنٌ مَعَ الْأَنَامِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] فَيَكُونُ مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75](" وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ ") : بِالْكَرَمِ التَّامِّ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ (" وَتَابَعَ الصِّيَامَ ")، أَيْ: أَكْثَرَ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ بِحَيْثُ تَابَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَلَا يَقْطَعُهَا رَأْسًا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقِيلَ: أَقَلُّهُ أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّوْمِ (" وَصَلَّى بِاللَّيْلِ ")، أَيْ: لِمَنْ لَا يَنَامُ (" وَالنَّاسُ ")، أَيْ: غَالَبُهُمْ (" نِيَامٌ ") : جَمْعُ نَائِمٍ أَوْ غَافِلُونَ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا رِيَاءَ يَشُوبُ عَمَلَهُ وَلَا شُهُودَ غَيْرٍ؛ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] الْمُنْبِئُ وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ عَنْ أَنَّهُمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ نَحْوَهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَيُرَى بَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا ". فَقَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطَيْهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ نَحْوَهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، وَفِيهِ:" «أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ".

ص: 929

1233 -

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَفِي رِوَايَتِهِ:". «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ» ".

ــ

1233 -

(وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ) : وَقَالَ: غَرِيبٌ. نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَفِي رِوَايَتِهِ) ، أَيِ التِّرْمِذِيِّ، أَوْ عَلِيٍّ:(" لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ ") : قَالَ مِيرَكُ: لَفْظُ حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي التِّرْمِذِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا " فَقَامَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " هِيَ لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» ".

ص: 929

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1234 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قَالَ:«قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1234 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي)، أَيْ: خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعِيَ أَحَدٌ

(رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ ")، أَيْ: فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ الَّتِي أَذْكُرُهَا لَكَ وَهِيَ: (" أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ ")، أَيْ: بَعْضَهُ لِلتَّهَجُّدِ فِيهِ (" فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ ")، أَيْ: لَا عَنْ عُذْرٍ بَلْ دَعَةً وَرَفَاهِيَةً، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَانْتَظَمَ فِي سِلْكِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ تَارِكَ الْوِرْدِ مَلْعُونٌ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ صَاحِبَ الْوِرْدِ مَلْعُونٌ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمُرَائِي، وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ فُلَانٍ لِيَسْمَعَ هَذَا الْكَلَامَ وَيَتَنَبَّهَ مِنَ النِّيَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَرْكَ الْعِبَادَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَى الْعَادَةِ قَهْقَرَى فِي السَّيْرِ وَنُقْصَانٌ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَفِي الدُّعَاءِ:" «نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ» " إِذْ يَنْبَغِي لِلسَّالِكِ، وَالْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِلْمَزِيدِ، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي زِيَادَةٍ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَمَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَالْمُرَادُ زِيَادَةُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَهْلِ، كَمَا قَالَ، وَنِعْمَ مَنْ قَالَ:

زِيَادَةُ الْمَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانٌ

وَرِبْحُهُ غَيْرُ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ.

(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ص: 930

1235 -

وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «كَانَ لِدَاوُدَ عليه السلام مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ يُوقِظُ فِيهَا أَهْلَهُ يَقُولُ: يَا آلَ دَاوُدَ قُومُوا فَصَلُّوا، فَإِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ عز وجل فِيهَا الدُّعَاءَ إِلَّا لِسَاحِرٍ أَوْ عَشَّارٍ» ) : رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

1235 -

(وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " كَانَ لِدَاوُدَ عليه السلام مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةٌ ") : اسْمُ كَانَ، وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ (" يُوقِظُ فِيهَا أَهْلَهُ ") : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، أَيِ الْقَائِمُ بِاللَّيْلِ، يُنَاسِبُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] (" يَقُولُ: يَا آلَ دَاوُدَ! قُومُوا فَصَلُّوا ")، أَيْ: مِنَ اللَّيْلِ وَلَوْ قَلِيلًا (" فَإِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ عز وجل فِيهَا الدُّعَاءَ ") : وَالصَّلَاةُ نَفْسُهَا دُعَاءٌ ; لِأَنَّ الثَّنَاءَ وَالْقِيَامَ فِي خِدْمَةِ الْمَوْلَى تَعَرُّضٌ لِلْعَطَاءِ، أَوْ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الدُّعَاءِ الْمَحْفُوفِ بِالذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، (" إِلَّا لِسَاحِرٍ ")، أَيْ: لِمُخَالَفَتِهِ الْخَالِقَ (" أَوْ عَشَّارٍ ")، أَيْ: آخِذِ الْعُشُرِ وَهُوَ الْمَكَّاسُ، وَإِنْ أَخَذَ أَقَلَّ مِنَ الْعُشُرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ أَحْوَالِ الْمَكَّاسِينَ، وَذَلِكَ لِمَضِرَّتِهِ الْخَلْقَ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْعُبُودِيَّةُ هِيَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. فَـ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَثْنَى مِنْ جَمِيعِ خَلْقِ اللَّهِ السَّاحِرَ وَالْعَشَّارَ تَشْدِيدًا عَلَيْهِمْ وَتَغْلِيظًا، أَنَّهُمْ كَالْآيِسِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الْعَامَّةِ لِلْخَلَائِقِ. اهـ. يَعْنِي: فَإِنَّهُمْ وَإِنْ قَامُوا وَدَعَوْا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ لِغِلَظِ مُصِيبَتِهِمْ وَصُعُوبَةِ تَوْبَتِهِمْ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَا يُوَفَّقُونَ لِهَذَا الْخَيْرِ لِمَا ابْتُلُوا بِهِ مِنَ الشَّرِّ الْكَثِيرِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْأَوَّلِ مُتَّصِلٌ، وَعَلَى الثَّانِي مُنْفَصِلٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 930

1236 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ صَلَاةٌ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

1236 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ ")، أَيْ: وَرَوَاتِبُهَا. وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ الْمَكْتُوبَةِ فَقَالَ، أَيِ: الْمَفْرُوضَةُ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ. (" صَلَاةٌ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَفِي الْحِصْنِ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ حُجَّةٌ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، عَلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الرَّوَاتِبَ أَفْضَلُ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِنَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ مِنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ خِلَافُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ. اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: التَّهَجُّدُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةِ مَشَقَّتِهِ عَلَى النَّفْسِ وَبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ. وَالرَّوَاتِبُ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ الْآكَدِيَّةِ فِي الْمُتَابَعَةِ لِلْمَفْرُوضَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ، أَوْ يُقَالُ: صَلَاةُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْوَتْرِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.

ص: 930

1237 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ، فَقَالَ: " إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

1237 -

(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا)، أَيْ: رَجُلًا مُعَيَّنًا (يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ)، أَيْ: قَارَبَ الصُّبْحُ (سَرَقَ) : أَوْ سَرَقَ بِالنَّهَارِ وَلَوْ بِالتَّطْفِيفِ وَنَحْوِهِ، (فَقَالَ:" إِنَّهُ ") ، أَيِ: الشَّأْنُ (" سَتَنْهَاهُ ") : بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَالْفَاعِلُ إِمَّا ضَمِيرٌ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الصَّلَاةِ، أَيْ: هِيَ تَنْهَاهُ عَمَّا تَقُولُ، أَوْ مَا فِي قَوْلِهِ:(" مَا تَقُولُ ") ; لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، وَبِالتَّحْتَانِيَّةِ فَالْفَاعِلُ " مَا " وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ النُّسَخِ (مَا تَقُولُ) بِالْخِطَابِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْغَيْبَةِ، أَيِ: الرَّجُلُ الْأَوَّلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى السِّينِ لِلتَّأْكِيدِ فِي الْإِثْبَاتِ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدَمِهَا، كَمَا أَنَّ (لَنْ) لِلتَّأْكِيدِ فِي النَّفْيِ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى " لَا "، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَمِثْلُ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا مَحَالَةَ تَنْهَاهُ فَيَتُوبُ عَنِ السَّرِقَةِ قَرِيبًا، فَالسِّينُ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ التَّنْفِيسِ ; إِذْ لَا بُدَّ مِنْ مُزَاوَلَةِ الصَّلَاةِ زَمَنًا حَتَّى يَجِدَ مِنْهَا حَالَةً فِي قَلْبِهِ تَمْنَعُهُ مِنَ الْإِثْمِ. اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45](رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

ص: 931

1238 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَصَلَّيَا أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1238 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا، أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ ")، أَيِ: امْرَأَتَهُ أَوْ نِسَاءَهُ وَأَوْلَادَهُ وَأَقَارِبَهُ وَعَبِيدَهُ وَإِمَاءَهُ، (" مِنَ اللَّيْلِ ")، أَيْ: فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، (" فَصَلَّيَا ")، أَيِ: الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، أَوِ الرَّجُلُ وَأَهْلُهُ (" أَوْ صَلَّى ")، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (" رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنْ فَاعِلِ " فَصَلَّيَا " عَلَى التَّثْنِيَةِ لَا الْإِفْرَادِ ; لِأَنَّهُ تَرْدِيدٌ مِنَ الرَّاوِي، فَالتَّقْدِيرُ: فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ أَدْخَلَ أَوْ صَلَّى فِي الْبَيْنِ، فَإِذَا أُرِيدَ تَقْيِيدُهُ بِفَاعِلِهِ يُقَدَّرُ فَصَلَّى وَصَلَّتْ جَمِيعًا فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّنَازُعِ. اهـ.

وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ (جَمِيعًا) لَيْسَ بِقَيْدٍ لِقَوْلِهِ: " فَصَلَّى " مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: فَصَلَّيَا جَمِيعًا، أَوْ صَلَّى، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّكَّ إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْبَقِيَّةُ عَلَى حَالِهَا، فَيُقَالُ حِينَئِذٍ: إِنَّ (جَمِيعًا) حَالٌ مِنْ مَعْنَى ضَمِيرِ (فَصَلَّى) وَهُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: (جَمِيعًا) تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ (صَلَّيَا) أَوْ (صَلَّى) لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا وَقَعَ لِلشَّارِحِ هُنَا. (" كُتِبَا ")، أَيِ: الصِّنْفَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (" فِي الذَّاكِرِينَ ")، أَيِ: اللَّهَ كَثِيرًا، أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ (" وَالذَّاكِرَاتِ ") : كَذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35](رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ ") : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ: مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ، زَادَ النَّسَائِيُّ: جَمِيعًا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا.

ص: 931

1239 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَشْرَافُ أُمَّتَيْ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ، وَأَصْحَابُ اللَّيْلِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

1239 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَشْرَافُ أُمَّتَيْ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ ") : يَعْنِي: مَنْ حَفِظَ مَبَانِيَهُ وَعَرَفَ مَعَانِيَهُ، وَعَمِلَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَكُلُّ مَنْ حَمَلَهُ أَكْثَرَ وَبِمَقْصُودِهِ أَسْعَفَ يَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَشْرَفَ. قَالَ عليه السلام:" «مَنْ حِفْظِ الْقُرْآنَ فَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ وَحْيًا جَلِيًّا فَإِنَّهُ قَدْ يُوحَى إِلَيْهِ وَحْيًا خَفِيًّا» "، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ مَنْ حَفِظَهُ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِلَّا كَانَ فِي زُمْرَةِ مَنْ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5](" وَأَصْحَابُ اللَّيْلِ ")، أَيْ: أَصْحَابُ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ فِي الْوَقْتِ الْبَرِيءِ مِنَ الرِّيَاءِ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَاءِ، يَعْنِي الْأَشْرَافُ هُمُ الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الرَّافِعِ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَشْرَفُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ، فَالْأَوَّلُونَ أَفْضَلُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الذَّاكِرِينَ، وَالْآخِرُونَ أَفْضَلُ الْعُمَّالِ الْحَاضِرِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِضَافَةُ الْأَصْحَابِ إِلَى اللَّيْلِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَثْرَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ: ابْنُ السَّبِيلِ لِمَنْ يُوَاظِبُ عَلَى السُّلُوكِ. اهـ. يَعْنِي سُلُوكَ السَّفَرِ الظَّاهِرِ، كَمَا يُقَالُ: ابْنُ الْوَقْتِ لِمَنْ يُحَافِظُ أَوْقَاتَهُ وَيُرَاعِي سَاعَاتِهِ لِيُرَتِّبَ طَاعَاتِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

ص: 931