الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1521 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ» " رَوَاهُ. أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1521 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ) : بِإِضَافَةِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ لِلْبَيَانِ، فَالرَّعْدُ هُوَ الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ السَّحَابِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلِكَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّافِعِيُّ، عَنِ الثِّقَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ وَالْبَرْقَ أَجْنِحَتُهُ يَسُوقُ السَّحَابَ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمَسْمُوعُ صَوْتَهُ أَوْ صَوْتَ سَوْقِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ، وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ، وَالْمَسْمُوعَ تَسْبِيحُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، وَأَنَّهُ يُحْرِزُ الْمَاءَ فِي نُقْرَةِ إِبْهَامِهِ، وَأَنَّهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ إِلَّا سَبَّحَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ الْمَطَرُ، وَرُوِيَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «بَعَثَ اللَّهُ السَّحَابَ فَنَطَقَتْ أَحْسَنَ النُّطْقِ، وَضَحِكَتْ أَحْسَنَ الضَّحِكَ، فَالرَّعْدُ نُطْقُهَا، وَالْبَرْقُ ضَحِكُهَا» ". وَقِيلَ: الْبَرْقُ لَمَعَانُ سَوْطِ الرَّعْدِ يُزْجَرُ بِهِ السَّحَابُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ الرَّعْدَ صَوْتُ اصْطِكَاكِ أَجْرَامِ السَّحَابِ، وَالْبَرْقَ مَا يُقْدَحُ مِنَ اصْطِكَاكِهَا، فَهُوَ مِنْ حَزْرِهِمْ وَتَخْمِينِهِمْ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. (وَالصَّوَاعِقَ) : بِالنَّصْبِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ وَأَحَسَّ الصَّوَاعِقَ مِنْ بَابِ.
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
أَوْ أُطْلِقَ السَّمْعُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْحِسُّ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الرَّعْدِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ الصَّاعِقَةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ: هِيَ نَارٌ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ فِي رَعْدٍ شَدِيدٍ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: الصَّاعِقَةُ صَيْحَةُ الْعَذَابِ أَيْضًا، وَتُطْلَقُ عَلَى صَوْتٍ شَدِيدٍ غَايَةَ الشِّدَّةِ يُسْمَعُ مِنَ الرَّعْدِ، وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى صَوْتِ الرَّعْدِ أَيْ: صَوْتِ السَّحَابِ، فَالْمُرَادُ بِالرَّعْدِ السَّحَابُ بِقَرِينَةِ إِضَافَةِ الصَّوْتِ إِلَيْهِ، أَوِ الرَّعْدُ صَوْتُ السَّحَابِ فَفِيهِ تَجْرِيدٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ قَعْقَعَةُ رَعْدٍ يَنْقَضُّ مَعَهَا قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ، يُقَالُ: صَعَقَتْهُ الصَّاعِقَةُ إِذَا أَهْلَكَتْهُ فَصَعِقَ أَيْ: مَاتَ إِمَّا لِشَدَّةِ الصَّوْتِ، وَإِمَّا بِالْإِحْرَاقِ. (قَالَ: " «اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ» ) : الْغَضَبُ اسْتِعَارَةٌ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمَلَكِ عِنْدَ انْفِعَالِهِ وَغَلَيَانِ دَمِهِ، ثُمَّ الِانْتِقَامُ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، وَأَكْبَرُ مَا يَنْتَقِمُ بِهِ الْقَتْلُ ; فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ، وَرَشَّحَ الِاسْتِعَارَةَ بِهِ عُرْفًا، وَأَمَّا الْإِهْلَاكُ وَالْعَذَابُ فَجَارِيَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. (وَعَافِنَا) أَيْ: أَمِتْنَا بِالْعَافِيَةِ. (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ: قَبْلَ نُزُولِ عَذَابِكَ.
(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَهُ طُرُقٌ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1522 -
عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1522 -
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ) أَيْ: صَوْتَهُ (تَرَكَ الْحَدِيثَ) أَيِ: الْكَلَامَ مَعَ الْأَنَامِ. (وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ) : وَهُوَ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ، وَالْمَعْنَى يُنَزِّهُهُ حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا. (بِحَمْدِهِ) : لَهُ تَعَالَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِسْنَادُهُ مَجَازِيٌّ ; لِأَنَّ الرَّعْدَ سَبَبٌ لِأَنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ السَّامِعُ حَامِدًا لَهُ خَائِفًا رَاجِيًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ فَنِسْبَةُ التَّسْبِيحِ إِلَيْهِ حَقِيقَةٌ. (وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: مِنْ خَوْفِ الرَّعْدِ ; فَإِنَّهُ رَئِيسُهُمْ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَأَصَابَنَا رَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَقَالَ لَنَا كَعْبٌ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الرَّعْدَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ثَلَاثًا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْنَا فَعُوفِينَا. وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ قَالَهُ فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَعَلَيَّ دِيَتُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ بِإِسْنَادٍ لَيْسَ بِثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ لَا نُتْبِعَ أَبْصَارَنَا الْكَوْكَبَ إِذَا انْقَضَّ، وَأَنْ نَقُولَ عِنْدَ ذَلِكَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ: إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ: «مَا مِنْ سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا وَالسَّمَاءُ تُمْطِرُ فِيهَا يُصَرِّفُهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ يَشَاءُ» ، وَبِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ كَعْبٍ: أَنَّ السُّيُولَ سَتَعْظُمُ آخِرَ الزَّمَانِ. قَالَ مِيرَكُ: إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [
بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]
(5)
- كِتَابُ الْجَنَائِزِ
(1)
بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1523 -
عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
(5)
كِتَابُ الْجَنَائِزِ
قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجِنَازَةُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَيُقَالُ بِالْفَتْحِ لِلْمَيِّتِ، وَبِالْكَسْرِ لِلنَّعْشِ عَلَيْهِ مَيِّتٌ، وَيُقَالُ عَكْسُهُ، وَالْجَمْعُ جَائِزٌ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ.
(بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ)
أَيْ: وُجُوبًا وَثَوَابًا. (وَثَوَابِ الْمَرَضِ) .
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1523 -
(عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَطْعِمُوا الْجَائِعَ) أَيِ: الْمُضْطَرَّ وَالْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ. (وَعُودُوا الْمَرِيضَ) : أَمْرٌ مِنَ الْعِيَادَةِ. (وَفُكُّوا الْعَانِيَ) أَيِ: الْأَسِيرَ، وَكُلُّ مَنْ ذَلَّ وَاسْتَكَانَ وَخَضَعَ فَقَدْ عَنَى كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقِيلَ: أَيْ: أَعْتِقُوا الْأَسِيرَ أَيِ: الرَّقِيقَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: خَلِّصُوا الْأَسِيرَ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ لِلْوُجُوبِ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِذَا امْتَثَلَ بَعْضٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ.
1524 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: " رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1524 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ) أَيْ: خِصَالٌ كُلُّهُنَّ فُرُوضُ كِفَايَةٍ. (رَدُّ السَّلَامِ) أَيْ: جَوَابُهُ، وَأَمَّا السَّلَامُ فَسُنَّةٌ، وَهُوَ سُنَّةٌ أَفْضَلُ مِنَ الْفَرْضِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالتَّسَبُّبِ لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ. (وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ) : وَيُسْتَثْنَى مِنْهُمَا أَهْلُ الْبِدَعِ. (وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ) لِلْمُعَاوَنَةِ، وَقِيلَ لِلضِّيَافَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْصِيَةٌ. (وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُرْوَى بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ: جَوَابُهُ: بِيَرْحَمُكَ اللَّهُ إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فِي النِّهَايَةِ: التَّشْمِيتُ بِالشِّينِ وَالسِّينِ الدُّعَاءُ لِلْعَاطِسِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَالْمُعْجَمَةُ أَعْلَاهُمَا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الشَّوَامِتِ، وَهِيَ الْقَوَائِمُ، كَأَنَّهُ دَعَا لِلْعَاطِسِ بِالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَبْعَدَكَ اللَّهُ عَنِ الشَّمَاتَةِ بِكَ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذِهِ كُلُّهَا فِي حَقِّ الْإِسْلَامِ يَسْتَوِي فِيهَا جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ غَيْرَ أَنْ يَخُصَّ الْبَرَّ بِالْبَشَاشَةِ وَالْمُسَاءَلَةِ وَالْمُصَافَحَةِ دُونَ الْفَاجِرِ الْمُظْهِرِ لِفُجُورِهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِذَا دَعَا الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ إِلَى الضِّيَافَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فِي دِينِهِ مِنَ الْمَلَاهِي وَمَفَارِشِ الْحَرِيرِ، وَرَدُّ السَّلَامِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَأَمَّا تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ فَسُنَّةٌ إِذَا كَانَ لَهُ مُتَعَهِّدٌ، وَإِلَّا فَوَاجِبٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْطِفَ السُّنَّةَ عَلَى الْوَاجِبِ إِنْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ كَمَا يُقَالُ: صُمْ رَمَضَانَ وَسِتَّةً مِنْ شَوَّالٍ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1525 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ " قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1525 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ) أَيْ: خِصَالٌ. (قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ) أَيِ: ابْتِدَاءً وَجَوَابًا. (وَإِذَا دَعَاكَ) أَيْ: لِلْإِعَانَةِ وَالدَّعْوَةِ. (فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ) أَيْ: طَلَبَ مِنْكَ النَّصِيحَةَ. (فَانْصَحْ لَهُ) : وَالنَّصِيحَةُ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: النُّصْحُ تَحَرِّي فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فِيهِ إِصْلَاحُ صَاحِبِهِ. (وَإِذَا عَطَسَ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُكْسَرُ. (فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: عَلَى نِعْمَتِهِ ; لِأَنَّ الْعُطَاسَ حَيْثُ لَا عَارِضَ مِنْ زُكَامٍ وَنَحْوِهِ إِنَّمَا
يَنْشَأُ عَنْ خِفَّةِ الْبَدَنِ، وَخُلُوِّهِ عَنِ الْأَخْلَاطِ الْمُثْقِلَةِ لَهُ عَنِ الطَّاعَةِ، بِخِلَافِ التَّثَاؤُبِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ ; وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ» . (فَشَمِّتْهُ) أَيْ: قُلْ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. (وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ) : وَلَوْ مَرَّةً، وَمَا اشْتُهِرَ فِي مَكَّةَ أَنَّ بَعْضَ الْأَيَّامِ لَا يُعَادُ الْمَرِيضُ فِيهَا فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَيُبْطِلُهُ مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعِبَادَةُ وَنَحْوُهَا، وَزَعَمَ أَنَّ السَّبْتَ لَا يُعَادُ فِيهِ مِمَّا أَدْخَلَهُ يَهُودِيٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ مَلِكًا فَأَمَرَهُ بِالْمَجِيءِ إِلَيْهِ يَوْمَ سَبْتِهِ فَخَشِيَ مِنْ قَطْعِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ دُخُولَ الطَّبِيبِ عَلَى الْمَرِيضِ يَوْمَ السَّبْتِ لَا يَصْلُحُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: تُسْتَحَبُّ فِي الشِّتَاءِ لَيْلًا، وَفِي الصَّيْفِ نَهَارًا غَرِيبٌ اهـ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِيَادَةِ حُصُولُ التَّسَلِّي وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَصْحَابِ وَالْأَحْبَابِ حَالَةَ التَّخَلِّي، فَإِنَّ لِقَاءَ الْخَلِيلِ شِفَاءُ الْعَلِيلِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْجَنَابِ الْعَلِيِّ، وَالتَّضَرُّعِ بِالدُّعَاءِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَلَمَّا كَانَ لَيْلُ الشِّتَاءِ وَنَهَارُ الصَّيْفِ طَوِيلًا نَاسَبَ أَنْ يَشْغَلُوهُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ، وَيُخَفِّفُوا عَنْهُ حِمْلَ السَّقَمِ بِالْحُضُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالتَّأَنُّسِ بِالْكَلَامِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّنْفِيسِ لَدَيْهِ. وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَنِ ابْتُلِيَ بِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ. (وَإِذَا مَاتَ تَبِعْتَهُ) أَيْ: جِنَازَتَهُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلِلدَّفْنِ أكْمَلُ. قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ فِي الْعَدَدِ، فَإِنَّ هَذَا زَائِدٌ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَمْسَ مُقَدَّمٌ فِي الصُّدُورِ، وَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ: عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ أَوْ كَانَتْ سِتَّةً كَانَ صَادِقًا، لَوْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى لِفُلَانٍ: عَلَى سِتَّةِ دَرَاهِمَ كَانَ أَيْضًا صَادِقًا، وَالْأَمْرُ لِلتَّسْلِيمِ، وَالْعِيَادَةُ لِلنَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَلَامُ فَانْصَحُ لَهُ زَائِدَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَمْ يُسْتَحَبَّ التَّشْمِيتُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، كَذَا قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
1526 -
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ. أَمَرَنَا: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَنَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الْحَرِيرِ، والْإِسْتَبْرَقِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ وَالْقَسِّيِّ» ، وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ - وَفِي رِوَايَةٍ: - وَعَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ ; فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1526 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ) أَيِ: الْحَالِفِ يَعْنِي: جَعْلَهُ بَارًّا، صَادِقًا فِي قَسَمِهِ، أَوْ جَعْلَ يَمِينِهِ صَادِقَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى تَصْدِيقِ يَمِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْصِيَةٌ، كَمَا لَوْ أَقْسَمَ أَنْ لَا يُفَارِقَكَ حَتَّى تَفْعَلَ كَذَا، وَأَنْتَ تَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ، فَافْعَلْ كَيْلَا يَحْنَثَ. وَقِيلَ: هُوَ إِبْرَارُهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ، لَتَفْعَلَنَّ، كَذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: هُوَ تَصْدِيقُ مَنْ أَقْسَمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ مَا سَأَلَهُ الْمُلْتَمِسُ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ يُقَالُ: بَرَّ وَأَبَرَّ الْقَسَمَ إِذَا صَدَّقَهُ. (وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ) : قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هُوَ وَاجِبٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَبِكَفِّهِ عَنِ الظُّلْمِ.
(وَنَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: عَنْ لُبْسِهِ. (وَعَنِ الْحَرِيرِ) أَيِ: الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ اللِّينِ. (وَالْإِسْتَبْرَقِ) : الْمَنْسُوجِ مِنَ الْغَلِيظِ. (وَالدِّيبَاجِ) : الرَّقِيقِ، وَقِيلَ: الْحَرِيرُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْإِبْرَيْسَمِ وَغَيْرِهِ مَعَ غَلَبَةِ الْإِبْرَيْسَمِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَنْوَاعُ وَالتَّفْصِيلُ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ. (وَالْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ) : بِالْيَاءِ، الْوِطَاءُ عَلَى السَّرْجِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا مَا كَانَتْ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ، وَلَعَلَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَمْرَاءِ كَذَلِكَ، لَكِنْ مَا كَانَ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ دِيبَاجٍ فَحَرَامٌ عَلَى أَيِّ لَوْنٍ كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا، وَكَانَتْ حَمْرَاءَ فَمَكْرُوهٌ لِرُعُونَتِهَا، كَذَا حَرَّرَهُ السَّيِّدُ، وَقِيلَ: الْمِيثَرَةُ مَا غَشِيَتِ السُّرُوجَ تُتَّخَذُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَقِيلَ: هِيَ سُرُوجٌ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَهِيَ وِسَادَةٌ تُجْعَلُ أَوْ تُوضَعُ فِي السَّرْجِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ مِنَ الْحَرِيرِ فِي النِّهَايَةِ: الْمِيثَرَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَلَةٌ مِنَ الْوَثَارِ، يُقَالُ: وَثَرَ وَثَارَةً فَهُوَ وَثِيرٌ أَيْ: وَطِئٌ لَيِّنٌ، وَأَصْلُهَا مِوْثَرَةٌ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ الْمِيمِ، وَهِيَ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَجَمِ تُعْمَلُ مِنْ حَرِيرٍ أَوْ دِيبَاجٍ، وَتُتَّخَذُ كَالْفِرَاشِ الصَّغِيرِ، وَتُحْشَى بِقُطْنٍ أَوْ صُوفٍ يَجْعَلُهَا الرَّاكِبُ تَحْتَهُ عَلَى الرِّحَالِ وَالسُّرُوجِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَفَهَا بِالْحَمْرَاءِ ; لِأَنَّهَا كَانَتِ الْأَغْلَبَ فِي مَرَاكِبِ الْأَعَاجِمِ، يَتَّخِذُونَهَا
رُعُونَةً. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِنْ كَانَتِ الْمِيثَرَةُ مِنْ دِيبَاجٍ فَحَرَامٌ، وَإِلَّا فَالْحَمْرَاءُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ مِيثَرَةِ الْأُرْجُوَانِ. وَقَالَ الْقَاضِي: تَوْصِيفُهَا بِالْحُمْرَةِ لِأَنَّهَا كَانَتِ الْأَغْلَبَ فِي مَرَاكِبِ الْأَعَاجِمِ، يَتَّخِذُونَهَا رُعُونَةً. (وَالْقَسِّيِّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَالْيَاءِ. فِي الْفَائِقِ: الْقَسِّيُّ ضَرْبٌ مِنْ ثِيَابٍ كِتَّانٍ مَخْلُوطٍ بِحَرِيرٍ يُؤْتَى بِهِ مِنْ مِصْرَ، نُسِبَ إِلَى قَرْيَةٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا: الْقَسُّ، وَقِيلَ الْقَسُّ: الْقَزُّ، وَهِيَ رَدِيءُ الْحَرِيرِ، أُبْدِلَتِ الزَّايُ: سِينًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالنَّهْيُ إِمَّا لِغَلَبَةِ الْحَرِيرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا ثِيَابًا حَمْرَاءَ.
قَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ؟ قُلْتَ: الْحَرِيرُ اسْمٌ عَامٌّ، وَالدِّيبَاجُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَالْإِسْتَبْرَقُ نَوْعٌ مِنَ الدِّيبَاجِ، والْقَسِّيُّ مَا يُخَالِطُهُ الْحَرِيرُ أَوْ رَدِيءُ الْحَرِيرِ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ بَيَانًا لِاهْتِمَامٍ بِحُكْمِهِ، وَدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ تَخْصِيصَهُ بِاسْمٍ مُسْتَقِلٍّ يُنَافِي دُخُولَهُ تَحْتَ الْحُكْمِ الْعَامِّ، وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ غَيْرُ الْحَرِيرِ نَظَرًا إِلَى الْعُرْفِ، وَكَوْنُهَا ذَوَاتُ أَسْمَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ مُقْتَضِيَةً لِاخْتِلَافِ مُسَمَّيَاتِهَا. (وَآنِيَةِ الْفِضَّةِ) : وَالَّذِي أَوْلَى، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذِهِ الْخِصَالُ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ فِي حُكْمِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْوُجُوبِ، فَتَحْرِيمُ خَاتَمِ الذَّهَبِ وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ خَاصٌّ لِلرِّجَالِ، وَتَحْرِيمُ آنِيَةِ الْفِضَّةِ عَامٌّ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْمَخِيلَةِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَنِ الشُّرْبِ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَبِفَتْحٍ وَفِي مَعْنَاهُ الْأَكْلُ. (فِي الْفِضَّةِ) : وَالذَّهَبِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. (مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا) أَيْ: ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ. (لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: مَنِ اعْتَقَدَ حِلَّهَا وَمَاتَ عَلَيْهِ) ; فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ خِلَافُ ذَلِكَ: فَإِنَّهُ ذَنْبٌ صَغِيرٌ غَلُظَ وَشُدِّدَ لِلرَّدِّ وَالِارْتِدَاعِ اهـ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ عَنْ كَوْنِهِ جَهَنَّمِيًّا ; فَإِنَّ الشُّرْبَ مِنْ أَوَانِي الْفِضَّةِ مِنْ دَأْبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 15] ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا دَأْبُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَكُونُ جَهَنَّمِيًّا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ فِي الْآخِرَةِ مُدَّةَ عَذَابِهِ، أَوْ وَقْتَ وُقُوفِهِ وَحِسَابِهِ، أَوْ فِي الْجَنَّةِ مُدَّةً يَنْسَى مُدَّةَ شَرَابِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا صَحَّ فِي الْحَرِيرِ:" مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ " وَفِي الْخَمْرِ: " مَنْ شَرِبَهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ " قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ آنِيَةً وَلُبَاسًا وَشَرَابًا غَيْرَ مَا ذُكِرَ لِمَنْ حَرَّمَهُ، وَيَكُونُ نَقْصًا فِي مَرْتَبَتِهِ لَا عِقَابًا فِي حَقِّهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَقَالَ مُسْلِمٌ:" «وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ» ". وَهُوَ يَحْتَمِلُ السَّلَامَ، وَرَدَّهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
1527 -
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1527 -
(وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ» ) : مِنَ ابْتِدَاءِ شُرُوعِ الْعِيَادَةِ. (فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ) : بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: فِي رَوْضَتِهَا، أَوْ فِي الْتِقَاطِ فَوَاكِهِ الْجَنَّةِ وَمُجْتَنَاهَا. فِي النِّهَايَةِ: خَرَفَ الثَّمَرَةَ جَنَاهَا، وَالْخُرْفَةُ: اسْمُ مَا يُخْرَفُ مِنَ النَّخِيلِ حِينَ يُدْرِكُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ:" «عَائِدُ الْمَرِيضِ عَلَى مَخَارِفِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» ) وَالْمَخَارِفُ: جَمْعُ مَخْرَفٍ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ الْحَائِطُ مِنَ النَّخِيلِ، يَعْنِي أَنَّ الْعَائِدَ فِيمَا يُحْرِزُهُ مِنَ الثَّوَابِ كَأَنَّهُ عَلَى نَخِيلِ الْجَنَّةِ يَخْرِفُ ثِمَارَهَا. قَالَ الْقَاضِي: الْخُرْفَةُ مَا يُجْتَنَى مِنَ الثِّمَارِ، وَقَدْ تَجُوزُ بِهَا الْبُسْتَانُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَحَلُّهَا وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِهَا بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَلَى مَخَارِفِ الْجَنَّةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ: فِي مَوَاضِعِ خُرْفَتِهَا. (حَتَّى يَرْجِعَ ": قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: شُبِّهَ مَا يَحُوزُهُ عَائِدُ الْمَرِيضِ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يَحُوزُ الْمُخْتَرِفُ مِنَ الثِّمَارِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ بِسَعْيِهِ إِلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ الْجَنَّةَ وَمَخَارِفَهَا بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.
1528 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ ! قَالَ: أَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ ! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ ! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1528 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : عَلَى لِسَانِ مَلَكٍ أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ بِالْوَحْيِ الْعَامِّ، أَوْ بِالْإِلْهَامِ فِي قُلُوبِ الْأَنَامِ، أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ مُعَاتِبًا لِابْنِ آدَمَ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِمَا قَصَّرَ فِي حَقِّ أَوْلِيَائِهِ بِالْأَفْضَالِ. ( «يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي» ) : أَرَادَ بِهِ مَرِضَ عَبْدُهُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لِذَلِكَ الْعَبْدِ، فَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ ذَاتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ عَادَ مَرِيضًا لِلَّهِ فَكَأَنَّهُ زَارَ اللَّهَ. ( «قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ» ؟ !) : حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ. (كَيْفَ) أَيِ: الْمَرَضُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْمَرِيضِ الْعَاجِزِ، وَأَنْتَ الْقَاهِرُ الْقَوِيُّ الْمَالِكُ. فَإِنْ قِيلَ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ تَمْرَضُ مَكَانَ كَيْفَ أَعُودُكَ؟ ! قُلْنَا: عَدَلَ عَنْهُ مُعْتَذِرًا إِلَى مَا عُوتِبَ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْمَرَضِ. ( «قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي» ) أَيْ: لَوَجَدْتَ رِضَائِي (عِنْدَهُ؟) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْعَجْزِ وَالِانْكِسَارِ عِنْدَهُ تَعَالَى مِقْدَارًا وَاعْتِبَارًا، كَمَا رُوِيَ: أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْعِبَارَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِيَادَةَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْإِطْعَامِ وَالْإِسْقَاءِ الْآتِيَيْنِ، حَيْثُ خَصَّ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ: وَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ فَإِنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْرَبُ إِلَى الْمُنْكَسِرِ الْمِسْكِينِ اهـ.
وَقِيلَ: الْعَجْزُ وَالِانْكِسَارُ أَلْصَقُ وَأَلْزَمُ هُنَاكَ. وَالْعِيَادَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَإِنْ كَانَتَا فِي الصُّورَةِ وَاحِدَةً، فَالْعِيَادَةُ أَزْيَدُ إِمَّا بِنُقْطَةٍ وَهِيَ دَرَجَةٌ، أَوْ بِثَمَانِ مَرَاتِبَ. فَإِنَّ الْبَاءَ اثْنَانِ وَالْيَاءَ عَشْرَةٌ، هَذَا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حَدِيثِ:" لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ " إِلَخْ، وَقَدْ قِيلَ: لَمْ يَرِدْ فِي الثَّوَابِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. (يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ) أَيْ: طَلَبْتُ مِنْكَ الطَّعَامَ. (فَلَمْ تُطْعِمْنِي؟ . قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ !) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّكَ تُطْعِمُ وَلَا تُطْعَمُ، وَأَنْتَ غَنِيٌّ قَوِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا الْعَاجِزُ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِنْفَاقِ. (قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. ( «اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ» ) أَيْ: ثَوَابَ إِطْعَامِهِ. (عِنْدِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ) أَيْ: طَلَبْتُ مِنْكَ الْمَاءَ. (فَلَمْ تَسْقِنِي) : بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ فِي أَوَّلِهِ. (قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ) : بِالْوَجْهَيْنِ. (وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ !) أَيْ: مُرَبِّيهِمْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَضْلًا عَنِ الطَّعَامِ وَالْمَاءِ. (قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِيهِ، أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ. (إِنَّكَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ:" أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. (لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ) : بِلَا لَامٍ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ حَذْفِهَا. (ذَلِكَ عِنْدِي؟) : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْكَائِنَاتِ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ الْجُزْئِيَّاتُ وَالْكُلِّيَّاتُ، وَأَنَّهُ مُبْتَلٍ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ، لِيَكُونَ كَفَّارَةً لِلذُّنُوبِ، وَرَفْعًا لِلدَّرَجَاتِ الْعَالِيَاتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
1529 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ يَعُودُهُ قَالَ: " لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ".
فقال لَهُ: " «لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ". قَالَ: كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَعَمْ إِذًا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1529 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ) أَيْ: وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ. (يَعُودُهُ) : فِيهِ كَمَالُ تَوَاضُعِهِ عليه الصلاة والسلام الْمُتَضَمِّنِ لِرَأْفَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَتَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ. (وَكَانَ) أَيْ: مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: " لَا بَأْسَ) : بِالْهَمْزِ وَإِبْدَالِهِ. (طَهُورٌ) " أَيْ: لَا مَشَقَّةَ وَلَا تَعَبَ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْمَرَضِ بِالْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّهُ مُطَهِّرُكَ مِنَ الذُّنُوبِ. (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) : لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِلتَّفْوِيضِ أَوْ لِلتَّعْلِيقِ، فَإِنَّ
كَوْنَهُ طَهُورًا مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِ صَبُورًا شَكُورًا. (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَهُ) أَيْ: لِلْأَعْرَابِيِّ. (لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " قَالَ) أَيِ: الْأَعْرَابِيُّ مِنْ جَفَاوَتِهِ، وَعَدَمِ فَطَانَتِهِ. (كَلَّا) أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتَ، أَوْ لَا تَقُلْ هَذَا فَإِنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا مُحْتَمِلٌ لِلْكُفْرِ وَعَدَمِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُهُ أَعْرَابِيًّا جِلْفًا، فَلَمْ يَقْصِدْ حَقِيقَةَ الرَّدِّ وَالتَّكْذِيبِ، وَلَا بَلَغَ حَدَّ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ. (بَلْ حُمَّى تَفُورُ) أَيْ: تَغْلِي فِي بَدَنٍ كَغَلْيِ الْقُدُورِ. (عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ) أَيْ: بِعَقْلٍ قَصِيرٍ أَيِسَ مِنْ قُدْرَةِ الْقَدِيرِ. (تُزِيرُهُ الْقُبُورَ) أَيْ: تَحْمِلُهُ الْحُمَّى عَلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَتَجْعَلُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ. (فَقَالَ النَّبِيُّ -) صلى الله عليه وسلم أَيْ: غَضَبًا عَلَيْهِ. (فَنَعَمْ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا. (إِذًا) وَفِي نُسْخَةٍ " إِذَنْ " أَيْ: إِذَنْ هَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ بِمُطَهِّرِكَ كَمَا قُلْتَ، أَوْ ضَخْمٌ إِذَا أَبَيْتَ إِلَّا الْيَأْسَ وَكُفْرَانَ النِّعْمَةِ، فَنَعَمْ إِذًا يَحْصُلُ لَكَ مَا قُلْتَ إِذْ لَيْسَ جَزَاءُ كُفْرَانِ النِّعْمَةَ إِلَّا حِرْمَانَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَنَعَمْ تَقْرِيرٌ لِمَا قَالَ: يَعْنِي: أَرْشَدْتُكَ بِقَوْلِي: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّ الْحُمَّى تُطَهِّرُكَ مِنْ ذُنُوبِكَ ; فَاصْبِرْ وَاشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى، فَأَبَيْتَ إِلَّا الْيَأْسَ وَالْكُفْرَانَ، فَكَانَ كَمَا زَعَمْتَ، وَمَا اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ، بَلْ رَدَدْتَ نِعْمَةَ اللَّهِ وَأَنْتَ مُسَجَّعٌ بِهِ قَالَهُ غَضَبًا عَلَيْهِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.
1530 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ، مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1530 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى) أَيْ: مَرِضَ (مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ) أَيِ: النَّبِيُّ ذَلِكَ الْمَرِيضَ. (بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ) أَيْ: دَاعِيًا. (أَذْهِبِ الْبَاسَ) أَيْ: أَزِلْ شِدَّةَ الْمَرَضِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: اللَّهُمَّ أَذْهِبِ الْبَاسَ، وَهُوَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزِ هُنَا مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ فِي قَوْلِهِ ". (رَبَّ النَّاسِ) : نَصْبًا بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْعَسْقَلَانِيَّ قَالَ: الْبَاسُ بِغَيْرِ هَمْزٍ لِلِازْدِوَاجِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ الْهَمْزَةُ. (وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي) : وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْتَ الْمُمْرِضُ أَدَبًا، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وَلَمَّا لَمْ يَفْهَمْ كُلُّ أَحَدٍ هَذَا الْمَعْنَى صَرَّحَ الصِّدِّيقُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ: الَّذِي أَمْرَضَنِي يَشْفِينِي) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالْوَاوِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِحَذْفِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي اشْفِهِ لِلْعَلِيلِ أَوْ هِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا يُوهِمُ نَقْصًا، وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . ( «وَلَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ» ) : هَذَا مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: أَنْتَ الشَّافِي. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَوْلُهُ: لَا شِفَاءَ بِالْمَدِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَنَا أَوَّلُهُ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا شِفَاؤُكَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا شِفَاءَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ مِنَ الدَّوَاءِ وَالتَّدَاوِي لَا يَنْجَعُ إِنْ لَمْ يُصَادِفْ تَقْدِيرَ اللَّهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: لَا شِفَاءَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحَصْرِ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: أَنْتَ الشَّافِي ; لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ إِذَا كَانَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ أَفَادَ الْحَصْرَ ; لِأَنَّ تَدْبِيرَ الطَّبِيبِ، وَدَفْعِ الدَّوَاءِ لَا يَنْجَعُ فِي الْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ الشِّفَاءَ، وَقَوْلُهُ:( «شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» ) : تَكْمِيلٌ لِقَوْلِهِ: اشْفِ. وَالْجُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، وَقَوْلُهُ: لَا يُغَادِرُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَا يَتْرُكُ، وَسَقَمًا بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ وَسُكُونٍ مَرَضًا، وَالتَّنْكِيرُ لِلتَّقْلِيلِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهُ: (شِفَاءً) مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: اشْفِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ أَيْ: هَذَا أَوْ هُوَ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ. فَيَخْلُفُهُ مَرَضٌ آخَرُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَثَلًا، فَكَانَ يَدْعُو بِالشِّفَاءِ الْمُطْلَقِ لَا بِمُطْلَقِ الشِّفَاءِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
) .
1531 -
وَعَنْهَا قَالَتْ: كَانَ «إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُصْبُعِهِ: " بِسْمِ اللَّهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1531 -
(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: كَانَ) : إِمَّا زَائِدَةٌ أَوْ فِيهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ. (إِذَا اشْتَكَى) أَيْ: شَكَا (الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَيِ: الْعُضْوَ. (مِنْهُ) : الضَّمِيرُ إِلَى
الْإِنْسَانِ أَيْ: مِنْ جَسَدِهِ. (أَوْ كَانَتْ بِهِ) أَيْ: بِالْإِنْسَانِ. (قَرْحَةٌ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا، مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَعْضَاءِ مِثْلُ الدُّمَّلِ. (أَوْ جُرْحٌ) : بِالضَّمِّ كَالْجِرَاحَةِ بِالسَّيْفِ وَغَيْرِهِ. (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُصْبُعِهِ) أَيْ: أَشَارَ بِهَا قَائِلًا. (بِسْمِ اللَّهِ) أَيْ: أَتَبَرَّكُ بِهِ. (تُرْبَةُ أَرْضِنَا) أَيْ: هَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا مَمْزُوجَةٌ. (بِرِيقَةِ بَعْضِنَا) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتْفُلُ عِنْدَ الرُّقْيَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى مِنْ كُلِّ الْآلَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا فَاشِيًا مَعْلُومًا بَيْنَهُمْ. قَالَ: وَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابَتَهُ، وَوَضْعُهَا عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّقَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِأَرْضِهَا جُمْلَةُ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِبَرَكَتِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ، عَلَى إِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى التُّرَابِ، فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ، فَيَمْسَحُ بِهَا عَلَى الْمَوْضِعِ الْجَرِيحِ وَالْعَلِيلِ، وَيَتَلَفَّظُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي حَالِ الْمَسْحِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّقْيَةِ مَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالسِّحْرِ. وَكَلِمَةِ الْكُفْرِ اهـ.
وَمِنَ الْمَحْذُورِ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى كَلَامٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ; لِاحْتِمَالِ اشْتِمَالِهِ عَلَى كُفْرٍ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ صَنِيعِهِ ذَلِكَ، وَمِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَنَّ تُرْبَةَ أَرْضِنَا إِشَارَةٌ إِلَى فِطْرَةِ آدَمَ عليه الصلاة والسلام وَرِيقَةُ بَعْضِنَا إِشَارَةٌ إِلَى النُّطْفَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الْإِنْسَانُ فَكَأَنَّهُ يَتَضَرَّعُ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَيُعَرِّضُ بِفَحْوَى الْمَقَالِ: إِنَّكَ اخْتَرَعْتَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ أَبْدَعْتَ بَنِيهِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَهَيِّنٌ عَلَيْكَ أَنْ تَشْفِيَ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ، وَتَمُنَّ بِالْعَافِيَةِ عَلَى مَنِ اسْتَوَى فِي مِلْكِكَ حَيَاتُهُ وَمَمَاتُهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ شَهِدَتِ الْمَبَاحِثُ الطِّبِّيَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّيقَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي النُّضْجِ، وَتَبْدِيلُ الْمِزَاجِ، وَلِتُرَابِ الْوَطَنِ تَأْثِيرٌ فِي حِفْظِ الْمِزَاجِ الْأَصْلِيِّ، وَدَفْعِ نِكَايَةِ الْمَضَرَّاتِ ; وَلِذَا ذُكِرَ فِي تَيْسِيرِ الْمُسَافِرِينَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْمُسَافِرُ تُرَابَ أَرْضِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِصْحَابِ مَائِهِ، حَتَّى إِذَا وَرَدَ مَاءً غَيْرَ مَا اعْتَادَهُ جَعَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي سِقَائِهِ، وَشَرِبَ الْمَاءَ مِنْهَا ; لِيَأْمَنَ مِنْ تَغَيُّرِ مِزَاجِهِ، ثُمَّ إِنَّ الرُّقَى وَالْعَزَائِمَ لَهَا آثَارٌ عَجِيبَةٌ تَتَقَاعَدُ الْعُقُولُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كُنْهِهَا اهـ.
وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَرْشَحُ بِمَا فِيهِ، وَقَوْلُهُ: بِأُصْبُعِهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعِلٍ قَالَ، وَتُرْبَةُ أَرْضِنَا: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هَذِهِ، وَالْبَاءُ فِي (بِرِيقَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ أَوْ حَالٌ، وَالْعَامِلُ مِنَ الْإِشَارَةِ، أَيْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُشِيرًا بِأُصْبُعِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، هَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا مَعْجُونَةٌ بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، قُلْنَا بِهَذَا الْقَوْلِ، أَوْ صَنَعْنَا هَذَا الصَّنِيعَ. (لِيُشْفَى سَقِيمُنَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا بِسْمِ اللَّهِ مَقُولُ الْقَوْلِ صَرِيحًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِسْمِ اللَّهِ حَالًا أُخْرَى مُتَدَاخِلَةً أَوْ مُتَرَادِفَةً عَلَى تَقْدِيرِ: قَالَ مُتَبَرِّكًا: بِسْمِ اللَّهِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا، وَالْمَقُولُ الصَّرِيحُ قَوْلُهُ: تُرْبَةُ أَرْضِنَا، وَإِضَافَةُ تُرْبَةِ أَرْضِنَا وَرِيقَةِ بَعْضِنَا، تَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَأَنَّ تِلْكَ التُّرْبَةَ وَالرِّيقَةَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ شَرِيفٍ، بَلْ بِذِي نَفْسِ شَرِيفَةٍ قُدْسِيَّةٍ طَاهِرَةٍ عَنِ الْأَوْزَارِ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ: وَرِيقَةُ بَعْضِنَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ مُزِجَتْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ضَبْطُ لِيُشْفَى بِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وسَقِيمُنَا بِالرَّفْعِ وَيُفْتَحُ أَوَّلُهُ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ مُقَدَّرٌ، سَقِيمَنَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. (بِإِذْنِ رَبِّنَا) أَيْ: بِأَمْرِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِسَبَبِ دُعَاءٍ، أَوْ دَوَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: بِإِذْنِ رَبِّنَا. فِي رِوَايَةِ لَهُ: بِإِذْنِ اللَّهِ. قُلْتَ: وَلِهَذَا نُسِبَ الْحَدِيثُ فِي الْحِصْنِ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَطْ.
1532 -
وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: «كَانَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ» .
ــ
1532 -
(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَى) أَيْ: مَرِضَ وَهُوَ لَازِمٌ، وَقَدْ يَأْتِي مُتَعَدِّيًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَجَعًا (نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ) فِي النِّهَايَةِ: النَّفْثُ بِالْفَمِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِالنَّفْخِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ ; لِأَنَّ التَّفْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ. (بِالْمُعَوِّذَاتِ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا أَيْ:
قَرَأَهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَنَفَثَ الرِّيقَ عَلَى بَدَنِهِ، وَأَرَادَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَكُلَّ آيَةٍ تُشْبِهُهُمَا مِثْلُ: وَإِنْ يَكَادُ، وَإِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ أَطْلَقَ الْجَمْعَ عَلَى التَّثْنِيَةِ مَجَازًا، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوِ الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَوْ هُمَا وَالْإِخْلَاصُ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقِيلَ: الْكَافِرُونَ أَيْضًا. (وَمَسَحَ) أَيْ: عَلَيْهِ وَعَلَى أَعْضَائِهِ. (بِيَدِهِ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَجَسَدَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي عَنْهُ رَاجِعٌ إِلَى ذَلِكَ النَّفْثِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالٌ، أَيْ: نَفَثَ عَلَى بَعْضِ جَسَدِهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ مُتَجَاوِزًا عَنْ ذَلِكَ النَّفْثِ إِلَى سَائِرِ أَعْضَائِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرُّقْيَةَ وَالنَّفْثَ بِكَلَامِ اللَّهِ سُنَّةٌ. (فَلَمَّا اشْتَكَى) أَيْ: شَكَا (وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قِيلَ: لَعَلَّهُ تَرَكَ عليه الصلاة والسلام النَّفْثَ بِهِمَا عَلَى نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَرَضِ ; لِعِلْمِهِ أَنَّهُ آخِرُ مَرَضِهِ اهـ. وَفِيهِ مَا فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: كَانَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ) : لَمْ يَذْكُرِ الْمَسْحَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ وَتَرَكْتُ ذِكْرَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنَ النَّفْثِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُهُ أَحْيَانًا اكْتِفَاءً بِالنَّفْثِ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَالْجَمْعُ أَفْضَلُ.
1533 -
ــ
1533 -
( «وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ» ) أَيْ: فِي بَدَنِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ نَدْبُ شِكَايَةِ مَا بِالْإِنْسَانِ لِمَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ رَجَاءً لِبَرَكَةِ دُعَائِهِ. (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ضَعْ) : أَمْرٌ مِنَ الْوَضْعِ. (يَدَكَ عَلَى الَّذِي) أَيْ: عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَأْلَمُ، أَيْ: يُوجِعُ. (مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ) أَيْ: بِغَلَبَتِهِ وَعَظَمَتِهِ. (وَقُدْرَتِهِ) أَيْ: بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. (مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ) أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ. (وَأُحَاذِرُ) أَيْ: أَخَافُ وَأَحْتَرِزُ، وَهُوَ مُبَالَغَةُ أَحْذَرُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعَوَّذَ مِنْ وَجَعٍ هُوَ فِيهِ وَمِمَّا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْحَزَنِ وَالْخَوْفِ، فَإِنَّ الْحَذَرَ هُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَخُوفٍ. (قَالَ) أَيْ: عُثْمَانُ. (فَفَعَلْتُ) أَيْ: مَا قَالَ لِي. (فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي) أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ وَالْحَزَنِ بِبَرَكَةِ صِدْقِ التَّوَجُّعِ وَالِامْتِثَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَرْبَعَةُ.
1534 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: «أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1534 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ جِبْرِيلَ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا. (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: لِلزِّيَارَةِ أَوْ لِلْعِيَادَةِ. (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَحَذْفِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، وَقِيلَ بِالْمَدِّ عَلَى إِثْبَاتِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَإِبْدَالِهَا أَلِفًا، وَقِيلَ بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ (: " نَعَمْ) : وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: الِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ فِيهِ لِلتَّقْرِيرِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلتَّقْرِيرِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى جَوَابٍ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِتْيَانِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ اطِّلَاعُهُ عَلَى مَا لَدَيْهِ عليه الصلاة والسلام (قَالَ) أَيْ: جِبْرِيلُ. (بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ مَأْخُوذٌ مِنَ الرُّقْيَةِ. (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ عَنْهُ. (مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ) أَيْ: خَبِيثَةٍ. (أَوْ عَيْنٍ) : بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا، وَقِيلَ بِالْإِضَافَةِ. (حَاسِدٍ) : وَأَوْ تَحْتَمِلُ الشَّكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلتَّنْوِيعِ، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنَّفْسِ
نَفْسَ الْآدَمِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَيْنُ ; فَإِنَّ النَّفْسَ تُطْلَقُ عَلَى الْعَيْنِ، يُقَالُ: رَجُلٌ مَنْفُوسٌ إِذَا كَانَ يُصِيبُهُ النَّاسُ بِعَيْنِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: أَوْ مِنْ عَيْنِ حَاسِدٍ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ بِلَفْظٍ مُخْتَلِفٍ، أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ. ( «اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ» ) : كَرَّرَهُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَبَدَأَ بِهِ وَخَتَمَ بِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا نَافِعَ إِلَّا هُوَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، أَقُولُ: وَزَادَ فِي الْحِصْنِ: التِّرْمِذِيُّ.
1535 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ: " أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ "، وَيَقُولُ: " إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ ":" بِهِمَا " عَلَى لَفْظِ الثَّنْيَةِ.
ــ
1535 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ: " أُعِيذُكُمَا) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِيُعَوِّذَ. (بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْكَلِمَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تَقَعُ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ اسْمًا كَانَ أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا، وَتَقَعُ عَلَى الْأَلْفَاظِ الْمَبْسُوطَةِ وَعَلَى الْمَعَانِي الْمَجْمُوعَةِ، وَالْكَلِمَاتُ هَاهُنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ ; لِأَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِهَا، وَوَصْفُهَا بِالتَّامَّةِ لِخُلُوِّهَا عَنِ النَّوَاقِضِ وَالْعَوَارِضِ، بِخِلَافِ كَلِمَاتِ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَاللَّهْجَةِ وَأَسَالِيبِ الْقَوْلِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ يُوجَدُ فَوْقَهُ آخَرُ، إِمَّا فِي مَعْنًى أَوْ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَهُمْ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ مُعَارَضَةٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ نِسْيَانٍ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ، وَأَعْظَمُ النَّقَائِصِ الَّتِي هِيَ مُقْتَرِنَةٌ بِهَا أَنَّهَا كَلِمَاتٌ مَخْلُوقَةٌ تَكَلَّمَ بِهَا مَخْلُوقٌ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْأَدَوَاتِ وَالْجَوَارِحِ، وَهَذِهِ نَقِيصَةٌ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا كَلَامٌ مَخْلُوقٌ، وَكَلِمَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَالِيَةٌ عَنْ هَذِهِ الْقَوَادِحِ، فَهِيَ لَا يَسَعُهَا نَقْصٌ، وَلَا يَعْتَرِيهَا اخْتِلَالٌ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَا عَلَى الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ مَخْلُوقَةً لَمْ يَعُذْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقٍ. (مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ) أَيْ: جِنٍّ وَإِنْسٍ. (وَهَامَّةٍ) أَيْ: مِنْ شَرِّهِمَا، وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ كُلُّ دَابَّةٍ ذَاتِ سُمٍّ يَقْتُلُ، وَالْجَمْعُ الْهَوَامُّ، وَأَمَّا مَا لَهُ سُمٌّ وَلَا يَقْتُلُ فَهُوَ السَّامَّةُ كَالْعَقْرَبِ وَالزُّنْبُورِ، وَقَدْ يَقَعُ الْهَوَامُّ عَلَى مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ مُطْلَقًا كَالْحَشَرَاتِ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ عَنِ النِّهَايَةِ. (وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: جَامِعَةٍ لِلشَّرِّ عَلَى الْمَعْيُونِ، مِنْ لَمَّهُ إِذَا جَمَعَهُ، أَوْ تَكُونُ بِمَعْنَى مُلِمَّةٍ أَيْ: مُنْزِلَةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي الصِّحَاحِ: الْعَيْنُ اللَّامَّةُ هِيَ الَّتِي تُصِيبُ بِسُوءٍ، وَاللَّمَمُ طَرَفٌ مِنَ الْجُنُونِ، وَلَامَّةٌ أَيْ: ذَاتُ لَمَمٍ، وَأَصْلُهَا مِنْ أَلَمَّتْ بِالشَّيْءِ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ، وَقِيلَ: لَامَّةٌ لِازْدِوَاجِ هَامَّةٍ، وَالْأَصْلُ مُلِمَّةٌ ; لِأَنَّهَا فَاعِلُ أَلْمَمَتْ اهـ.
قِيلَ: وَجْهُ إِصَابَةِ الْعَيْنِ أَنَّ الْخَاطِرَ إِذَا نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ وَاسْتَحْسَنَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَوِيَّةِ صُنْعِهِ، قَدْ يُحْدِثُ اللَّهُ فِي الْمَنْظُورِ عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ نَظَرِهِ عَلَى غَفْلَةٍ ابْتِلَاءً لِعِبَادِهِ لِيَقُولَ الْمُحِقُّ: إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِهِ. (وَيَقُولُ:" إِنَّ أَبَاكُمَا) : أَرَادَ بِهِ الْجَدَّ الْأَعْلَى، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام. (كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا) أَيْ: بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ. (إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) : وَلَدَيْهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَسَنَيْنِ رضي الله عنهما مَنْبَعُ ذُرِّيَّتِهِ عليه الصلاة والسلام كَمَا أَنَّ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ مَعْدِنُ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ. " بِهِمَا " عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ اهـ. إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ كَلِمَاتِ اللَّهِ مَجَازًا مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ، وَمِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، أَوِ الْأُولَى جُمْلَةُ الْمُسْتَعَاذِ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةُ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ.
1536 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1536 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا) : تَنْوِيهٌ لِلتَّنْوِيعِ وَالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ حَالٌ عَنْهُ، أَيْ: خَيْرًا مُلْتَبِسًا بِهِ. (يُصِبْ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَقِيلَ: عَلَى الْمَعْلُومِ، وَقَوْلُهُ:(مِنْهُ) بِمَعْنَى لِأَجْلِهِ، وَضَمِيرُهُ عَائِدٌ إِلَى الْخَيْرِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: رُوِيَ: مَجْهُولًا؛ أَيْ: يَصِيرُ ذَا مُصِيبَةٍ، وَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ
مَكْرُوهٍ، وَمَعْلُومًا أَيْ: يَجْعَلُهُ ذَا مُصِيبَةٍ لِيُطَهِّرَهُ بِهَا مِنَ الذُّنُوبِ، وَلِيَرْفَعَ بِهَا دَرَجَتَهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَتْحُ أَحْسَنُ لِلْأَدَبِ كَمَا قَالَ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وَقَالَ مِيرَكُ: يُصِبْ مَجْزُومٌ ; لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا أَوْصَلَ إِلَيْهِ مُصِيبَةً، فَمِنْ لِلتَّعْدِيَةِ يُقَالُ: أَصَابَ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو أَيْ: أَوْصَلَ إِلَيْهِ مُصِيبَةً. قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْنَى مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَوْصَلَ إِلَيْهِ مُصِيبَةً لِيُطَهِّرَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَلِرَفْعِ دَرَجَتِهِ، وَالْمُصِيبَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَكْرُوهٍ يُصِيبُ أَحَدًا. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ أَيْ: نِيلَ بِالْمَصَائِبِ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ الْفَائِقُ أَيْ: يَنَلْ مِنْهُ بِالْمَصَائِبِ، فَالضَّمِيرُ لِمَنْ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يَبْتَلِيهِ بِالْمَصَائِبِ فَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1537 -
وَعَنْهُ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا خَطَايَاهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1537 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) أَيِ: الْخِدْرِيِّ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ) : " مَا " نَافِيَةٌ، وَمِنْ زَائِدَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي قَوْلِهِ. (مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ فِيهِمَا، وَالْأَوَّلُ التَّعَبُ، وَالْأَلَمُ الَّذِي يُصِيبُ الْبَدَنَ مِنْ جِرَاحَةٍ وَغَيْرِهَا، وَالثَّانِي الْأَلَمُ اللَّازِمُ، وَالسَّقَمُ الدَّائِمُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ النِّهَايَةِ. (وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ: وَبِفَتْحِهِمَا. (وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ) : لَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي كُلِّهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَذَى كُلُّ مَا لَا يُلَائِمُ النَّفْسَ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْكُلِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَا يَتَأَذَّى الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 58] وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: " «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ» "، وَالْهَمُّ الَّذِي يُهِمُّ الرَّجُلَ أَيْ: يُذِيبُهُ، مِنْ هَمَمْتُ الشَّحْمَ إِذَا أَذَبْتُهُ، وَالْحَزَنُ هُوَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ خُشُونَةٌ يُقَالُ: مَكَانُ حُزْنٍ أَيْ: خَشِنٌ، فَالْهَمُّ أَخَصُّ، وَالْغَمُّ هُوَ الْحَزَنُ الَّذِي يَغُمُّ الرَّجُلَ أَيْ: يُصِيرُهُ بِحَيْثُ يَقْرُبُ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ، فَالْهَمُّ وَالْحَزَنُ مَا يُصِيبُ الْقَلْبَ مِنَ الْأَلَمِ بِفَوْتِ مَحْبُوبٍ، إِلَّا أَنَّ الْغَمَّ أَشَدُّهَا، وَالْحَزَنَ أَسْهَلُهَا، وَقِيلَ: الْهَمُّ يَخْتَصُّ بِمَا هُوَ آتٍ، وَالْحَزَنُ بِمَا فَاتَ. قَالَ مِيرَكُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ وَكِيعًا قَالَ: لَمْ يُسْمَعْ فِي الْهَمِّ أَنْ يَكُونَ كَفَّارَةً إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَمِنْ غَرَائِبِ فُرُوعِ الشَّافِعِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا اشْتَدَّ الْهَمُّ بِإِنْسَانٍ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ كَثِيرًا مِنْ أَعْذَارِهَا الْوَارِدَةِ فِي السُّنَّةِ كَالرِّيحِ وَالْمَطَرِ اهـ. وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ كَمَا لَا يَخْفَى مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ» ". وَلِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ. (حَتَّى الشَّوْكَةُ) : بِالرَّفْعِ، حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ الشَّوْكَةِ خَبَرُهَا، وَبِالْجَرِّ، فَحَتَّى عَاطِفَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى " إِلَى " مِمَّا بَعْدَهَا حَالٌ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: سِتٌّ يَجِدُ الشَّوْكَةَ. (يُشَاكُهَا) : الْكَشَّافِ: شَكَّتِ الرَّجُلَ شَوْكَةٌ أُدْخِلَتْ فِي جَسَدِهِ شَوْكَةٌ وَشِيكَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يُشَاكُ شَوْكًا اهـ. قِيلَ: فِيهِ ضَمِيرُ الْمُسْلِمِ أُقِيمَ مَقَامَ فَاعِلِهِ، وَهَا ضَمِيرُ الشَّوْكَةِ أَيْ: حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُ الْمُسْلِمُ تِلْكَ الشَّوْكَةَ أَيْ: تُجْرَحُ أَعْضَاؤُهُ بِشَوْكَةٍ، وَالشَّوْكَةُ هَاهُنَا الْمَرَّةُ مِنْ شَاكَهُ، وَلَوْ أَرَادَ وَاحِدَةَ النَّبَاتِ لَقَالَ: يُشَاكُ بِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا الْمَرَّةُ مِنَ الْمَصْدَرِ جَعَلَهَا غَايَةً لِلْمُعَانَةِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ الطِّيبِيِّ، وَتَابَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يُشَاكُ مَفْعُولُهُ الثَّانِي. (إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا) أَيْ: بِمُقَابَلَتِهَا أَوْ بِسَبَبِهَا. (مِنْ خَطَايَاهُ) أَيْ: بَعْضِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِيهِ تَنْبِيهُ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ السَّالِكَ إِنْ عَجَزَ عَنْ مَرْتَبَةِ الرِّضَا، وَهِيَ التَّلَذُّذُ بِحَلَاوَةِ الْبَلَاءِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ تَجَرُّعُ مَرَارَةِ الصَّبْرِ فِي حُبِّ الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ وَرَدَ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابُ.
1538 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ ". قَالَ: فَقُلْتُ: ذَلِكَ لِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ فَقَالَ: " أَجَلْ ". ثُمَّ قَالَ: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1538 -
( «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوعَكُ» ) : الْوَعَكُ: حَرَارَةُ الْحُمَّى وَأَلَمُهَا، وَقَدْ وَعَكَهُ الْمَرَضُ وَعْكًا، وَوَعْكَةً فَهُوَ مَوْعُوكٌ أَيِ: اشْتَدَّ بِهِ. (فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي) : صِحَاحٌ: مَسِسْتُ الشَّيْءَ بِالْكَسْرِ أَمَسِّهُ هِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ: مَسَسْتُ بِالْفَتْحِ أَمَسُّهُ بِالضَّمِّ. ( «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا» ) : بِسُكُونِ الْعَيْنِ. (شَدِيدًا) : وَهُوَ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنَ حَجَرٍ: كَأَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ جَوَابَ مَا انْقَدَحَ عِنْدَهُ مِنْ أَنَّ الْبَلَايَا سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَا ذَنْبَ لَهُ فَغَيْرُ مُطَابِقٍ لِقَوْلِ الرَّاوِي. فَقُلْتُ: لِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ وَمُعَارِضٌ لِكَلَامِ نَفْسِهِ هُنَاكَ أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَا انْقَدَحَ عِنْدَهُ، بِأَنَّ الْمَصَائِبَ قَدْ تَكُونُ لِمُجَرَّدِ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَعَ هَذَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِجَوَابِهِ عليه الصلاة والسلام أَيْضًا كَمَا قَالَ الرَّاوِي. - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" أَجَلْ) أَيْ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِ الرَّاوِي: وَعْكًا شَدِيدًا مَعَ زِيَادَةِ تَحْرِيرٍ بِقَوْلِهِ: (إِنِّي أُوعَكُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَأْخُذُنِي الْوَعْكُ. (كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ) : يَعْنِي مِثْلَ أَلَمِ وَعْكِ رَجُلَيْنِ. (مِنْكُمْ " قَالَ) أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ. (فَقُلْتُ: ذَلِكَ) أَيْ: وَعَكُ رَجُلَيْنِ (لِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْثِيرَ. (فَقَالَ: " أَجَلْ) أَيْ: نَعَمْ. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: صلى الله عليه وسلم ( «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِبْهُ أَذًى» ) أَيْ: مَا يُؤْذِيهِ وَيُتْعِبُهُ. (مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ) أَيْ: فَمَا دُونَهُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا تَتَأَذَّى بِهِ النَّفْسُ. ( «إِلَّا حَطَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ حَالَ الْمَرِيضِ وَإِصَابَةَ الْمَرَضِ جَسَدَهُ، ثُمَّ مَحْوَ السَّيِّئَاتِ عَنْهُ سَرِيعًا بِحَالَةِ الشَّجَرَةِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ الْخَرِيفِيَّةِ، وَتَنَاثُرِ الْأَوْرَاقِ مِنْهَا، فَهُوَ تَشْبِيهٌ تَمْثِيلِيٌّ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ الْإِزَالَةُ الْكُلِّيَّةُ عَلَى سَبِيلِ السُّرْعَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ ; لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ لَا يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ مُتَأَذِّيًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ قَالَ:«دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَحْمُومٌ، فَوَضَعْتُ يَدَيَّ مِنْ فَوْقِ الْقَطِيفَةِ فَوَجَدْتُ حَرَارَةَ الْحُمَّى فَوْقَ الْقَطِيفَةِ. فَقُلْتُ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " إِنَّا كَذَلِكَ مَعْشَرَ الْأَنْبيَاءِ يُضَاعَفُ عَلَيْنَا الْوَجَعُ لِيُضَاعَفَ لَنَا الْأَجْرُ ". قُلْتُ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ» . " وَفِي رِوَايَةٍ: "«النَّبِيُّ لِيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا الْعَبَاءَةَ فَيَجُوبُهَا فَيَلْبَسُهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ الْقَمْلُ، وَكَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَطَايَا إِلَيْكُمْ»
".
1539 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الْوَجَعُ عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1539 -
( «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الْوَجَعُ» ) : بِالرَّفْعِ. (عَلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ وَجَعِهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَجَعُ مُبْتَدَأٌ، وَأَشَدُّ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَمِنْ زَائِدَةٌ أَيْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ وَجَعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي نُسْخَتِهِ: مِنْ أَحَدٍ بَدَلُ أَحَدٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ فِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَائِدَةً، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ:«مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ وَجَعًا مِنَ الْوَجَعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ» ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
1540 -
وَعَنْهَا قَالَتْ: «مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» -. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1540 -
(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي) : بِكَسْرِ الْقَافِ فِيهِمَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْحَاقِنَةُ الْوَهْدَةُ الْمُنْخَفِضَةُ بَيْنَ التُّرْقُوَتَيْنِ، وَالذَّاقِنَةُ الذَّقْنُ، وَقِيلَ: طَرَفُ الْحُلْقُومِ، وَقِيلَ: مَا يَنَالُهُ الذَّقْنُ مِنَ الصَّدْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تُوُفِّيَ مُسْنَدًا إِلَيَّ. (فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ تَكُونُ لِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ، وَلَمَّا رَأَيْتُ شِدَّةَ وَفَاتِهِ عَلِمْتُ أَنَّ شِدَّةَ الْمَوْتِ لَيْسَتْ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ، بَلْ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، وَإِنَّ هَوْنَ الْمَوْتِ لَيْسَ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِهِ صلى الله عليه وسلم. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1541 -
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، حَتَّى يَأْتِيَ أَجَلُهُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ الَّتِي لَا يُصِيبُهَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1541 -
(وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ أَوْ مُطْلَقًا. (كَمَثَلِ الْخَامَةِ) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ. فِي النِّهَايَةِ: الْخَامَةُ الْغُصْنَةُ اللَّيِّنَةُ. (مِنَ الزَّرْعِ) وَأَلِفُهَا مُنْقَلِبَةٌ عَنِ الْوَاوِ، وَقِيلَ: الْخَامَةُ الْغُصْنَةُ الرَّطْبَةُ مِنَ النَّبَاتِ لَمْ يَشْتَدَّ بَعْدُ، وَقِيلَ: مَا لَهَا سَاقٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ: طَاقَةٌ مِنَ الزَّرْعِ فَهُوَ صِفَةٌ لِخَامَةٍ، وَقَوْلُهُ. (تُفَيِّئُهَا الرِّيَاحُ) صِفَةٌ أُخْرَى اهـ. وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَهَا أَيْ: تُمِيلُهَا يَمِينًا وَشِمَالًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ إِذَا هَبَّتْ شَمَالًا مَالَتِ الْخَامَةُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَإِذَا هَبَّتْ جَنُوبًا فَيَأْتِ فِي جَانِبِ الشَّمَالِ، وَقِيلَ: فَيَأَتِ الشَّجَرَةُ أَلْقَتْ فَيْأَهَا، فَالرِّيحُ إِذَا أَمَالَتْهُ إِلَى جَانِبٍ أُلْقِيَ ظِلُّهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى حَدٍّ. {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] . (تَصْرَعُهَا) : بَيَانٌ لِمَا قَبْلَهُ أَيْ: تُسْقِطُهَا. (مَرَّةً) : فِي النِّهَايَةِ أَيْ: تُمِيلُهَا وَتَرْمِيهَا مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. (وَتَعْدِلُهَا) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَبِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ: تُقِيمُهَا. (أُخْرَى) أَيْ: تَارَّةً أُخْرَى، يَعْنِي يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْمَرَضِ وَغَيْرِهَا. (حَتَّى يَأْتِيَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: حَتَّى يَأْتِيَ. (أَجَلُهُ) أَيْ: يَمُوتَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ ذِلَّةٍ، كَمَا رُوِيَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَةِ السَّعَادَةِ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ. يَعْنِي بِشَرْطِ الصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالشُّكْرِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا. " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخَامَةِ تَحْمَرُّ مَرَّةً وَتَصْفَرُّ أُخْرَى» . (وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ) أَيِ: الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْحُكْمِيِّ. (كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا زَايٌ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي ضَبْطِهَا وَالْمَنْقُولُ فِي رِوَايَتِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا فَتْحُ الرَّاءِ، وَهُوَ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ يُشْبِهُ الصَّنَوْبَرَ وَلَيْسَ بِهِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَأَكْثَرُ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ بِالسُّكُونِ، شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ، وَالصَّنَوْبَرُ ثَمَرَتُهُ، وَهُوَ شَجَرٌ صُلْبٌ شَدِيدٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الرَّاءِ الشَّجَرَةُ وَبِالسُّكُونِ الصَّنَوْبَرُ، وَقِيلَ: بِفَتْحِ الرَّاءِ شَجَرَةُ الْأَرْزَنِ، وَفِي النِّهَايَةِ الْأَرْزَةُ بِسُكُونٍ، وَقِيلَ فَتْحُهَا، وَقِيلَ بِوَزْنِ فَاعِلَةٍ، وَأَنْكَرَهَا أَبُو عُبَيْدَةَ شَجَرَةُ الْأَرْزَنِ وَهُوَ خَشَبٌ مَعْرُوفٌ، وَقِيلَ: هُوَ الصَّنَوْبَرُ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَسَوَّى بَعْضٌ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالسُّكُونِ، وَقَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الْأَرْزَنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا اهـ. فَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْزَنِ مِنَ الدُّخْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْأَرْزَنُ وَيُضَمُّ شَجَرُ الصَّنَوْبَرِ، كَالْأَرْزَةِ، أَوِ الْعَرْعَرِ وَبِالتَّحْرِيكِ شَجَرُ الْأَرْزَنِ وَهُوَ شَجَرٌ صُلْبٌ. (الْمُجْذِيَةُ) قَالَ مِيرَكُ: بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ مُخَفَّفَةٍ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ الْقَائِمَةُ. (الَّتِي لَا يُصِيبُهَا شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْمَيَلَانِ بِاخْتِلَافِ الرِّيَاحِ. (وَحَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا) قَالَ مِيرَكُ: بِالنُّونِ وَالْجِيمِ - الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيِ: انْقِطَاعُهَا وَانْقِلَاعُهَا، وَهُوَ مُطَاوِعٌ مِنْ جَعَفَ. (مَرَّةً وَاحِدَةً) : فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ يُقِلُّ لَهُمُ الْأَمْرَاضَ وَالْمَصَائِبَ لِئَلَّا يَحْصُلَ لَهُمْ كَفَارَّةٌ وَلَا ثَوَابٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.
1542 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزَةِ لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1542 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لَا تَزَالُ الرِّيحُ» ) : اللَّامُ لِلْجِنْسِ. (تُمِيلُهُ) : بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا وَرَدَ:«أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مَا مَرِضَتْ قَطُّ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " طَلِّقْهَا ; فَإِنَّهَا لَا خَيْرَ فِيهَا» ) : وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الدُّنْيَا أَنْ تَمَرَّرِي وَتَكَدَّرِي عَلَى أَوْلِيَائِي حَتَّى يُحِبُّوا لِقَائِي» ". وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: " «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» ". ( «وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ» ) الْجُمْلَتَانِ لِوَجْهِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّشْبِيهُ إِمَّا تَمْثِيلِيٌّ وَإِمَّا مُفَرِّقٌ فَيُقَدَّرُ لِلْمُشَبَّهِ مَعَانٍ بِإِزَاءِ مَا لِلْمُشَبَّهِ بِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَرَى نَفْسَهُ عَارِيَةً مَعْزُولَةً عَنِ اسْتِعْمَالِ اللَّذَّاتِ مَعْرُوضَةً لِلْحَوَادِثِ. ( «وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الْأَرْزَةِ» ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ وَتُفْتَحُ. (لَا تَهْتَزُّ) أَيْ: لَا تَتَحَرَّكُ. (حَتَّى تُسْتَحْصَدَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: يَدْخُلُ وَقْتُ حَصَادِهَا فَتُقْطَعُ اهـ. فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَقِلُّ بَلَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا يَخِفَّ عَذَابُهُ الْعُقْبَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ وَلِمُسْلِمٍ.
1543 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ السَّائِبِ فَقَالَ: مَا لَكِ تُزَفْزِفِينَ؟ ! " قَالَتِ: الْحُمَّى - لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا - قَالَ: " لَا تَسُبِّي الْحُمَّى ; فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1543 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّ السَّائِبِ فَقَالَ: " مَا لَكِ تُزَفْزِفِينَ» ؟ !)": بِالزَّايَيْنِ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ، فَإِنَّهُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالرَّاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَفْرَفَ الطَّائِرُ بِجَنَاحَيْهِ إِذَا بَسَطَهُمَا عِنْدَ السُّقُوطِ عَلَى شَيْءٍ، وَالْمَعْنَى مَا لَكِ تَرْتَعِدِينَ، وَيُرْوَى بِالزَّايِ: مِنَ الزَّفْزَفَةِ وَهِيَ الِارْتِعَادُ مِنَ الْبَرْدِ، وَالْمَعْنَى مَا سَبَبُ هَذَا الِارْتِعَادِ الشَّدِيدِ؟ . (قَالَتِ: الْحُمَّى) أَيِ: النَّوْعُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْبَلْغَمِ وَالصَّفْرَاءِ الْمُوجِبُ لِانْزِعَاجِ الْبَدَنِ وَشِدَّةِ تَحَرُّكِهِ. (لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ أَوْ تَقْدِيرُهُ تَأْخُذُنِي الْحُمَّى، أَوِ الْحُمَّى مَعِي، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ دُعَائِيَّةٌ. (فَقَالَ: " لَا تَسُبِّي الْحُمَّى) أَيْ: بِجَمِيعِ أَقْسَامِهَا. (فَإِنَّهَا تُذْهِبُ) أَيْ: تَمْحُو وَتُكَفِّرُ وَتُزِيلُ. (خَطَايَا بَنِي آدَمَ) أَيْ: مِمَّا يَقْبَلُ التَّكْفِيرَ. (كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ) : بِالْكَسْرِ. (خَبَثَ الْحَدِيدِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: وَسَخَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كِيرُ الْحَدَّادِ، وَهُوَ الْمَبْنِيُّ مِنَ الطِّينِ، وَقِيلَ: الزِّقُّ الَّذِي يَنْفُخُ بِهِ النَّارَ وَالْمَبْنِيُّ الْكُورُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي " كَشْفِ الْغُمَّى فِي أَخْبَارَ الْحُمَّى "، عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا قَالَ:" «إِنَّ اللَّهَ لَيُكَفِّرُ عَنِ الْمُؤْمِنِ خَطَايَاهُ كُلَّهَا بِحُمَّى لَيْلَةٍ» ". قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هَذَا مِنْ جَيِّدِ الْحَدِيثِ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: حُمَّى لَيْلَةٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ ". وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: «الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ، وَهِيَ نَصِيبُ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ» ". وَفِي حَدِيثٍ " «إِنَّ الْحُمَّى حُمَّى أُمَّتِي مِنْ جَهَنَّمَ» "، «وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا جَزَاءُ الْحُمَّى؟ قَالَ: تَجْرِي الْحَسَنَاتُ عَلَى صَاحِبِهَا مَا اخْتَلَجَ عَلَيْهِ قَدَمٌ أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهِ عِرْقٌ» " قَالَ أُبَيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُمَّى لَا تَمْنَعُنِي خُرُوجًا فِي سَبِيلِكَ، وَلَا خُرُوجًا إِلَى بَيْتِكَ، وَمَسْجِدِ نَبِيِّكَ. قَالَ الرَّاوِي: فَلَمْ يَمْشِ أُبَيٌّ قَطُّ إِلَّا وَبِهِ حُمَّى.
1544 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ بِمِثْلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1544 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ) وَفِي مَعْنَاهُ: إِذَا كَبُرَ وَقَدْ جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةٍ. (أَوْ سَافَرَ) أَيْ: وَفَاتَ مِنْهُ بِذَلِكَ نَفْلٌ. (كُتِبَ لَهُ بِمِثْلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ) أَيْ: مِنَ النَّوَافِلِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] . (مُقِيمًا صَحِيحًا) : شَابًّا قَوِيًّا، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَا يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُهَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَخْبَرَ عَنْ أَقْوَامٍ تَخَلَّفُوا عَنْهُ فِي الْمَدِينَةِ لِعَدَمِ مُؤْنَةِ السَّفَرِ، أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُمْ أَجْرُ الْغَزْوِ وَالسَّفَرِ مَعَهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَقَالَ مِيرَكُ: وَأَبُو دَاوُدَ.
1545 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1545 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» ) أَيْ: حُكْمًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: شَهَادَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ الْأُصُولَ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالطَّاعُونَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ مَعَ لَهِيبٍ فِي الْآبَاطِ، وَالْأَصَابِعِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ، يَسْوَدُّ مَا حَوْلَهَا، أَوْ يَخْضَرُّ، أَوْ يَحْمَرُّ، وَأَمَّا الْوَبَاءُ فَقِيلَ هُوَ الطَّاعُونُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَرَضٌ يَكْثُرُ فِي أَنَّهُ مَرَضٌ يَكْثُرُ فِي النَّاسِ وَيَكُونُ نَوْعًا وَاحِدًا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الطَّاعُونُ هُوَ الْمَرَضُ الْعَامُّ وَالْوَبَاءُ الَّذِي يَفْسَدُ بِهِ الْهَوَاءُ، فَتَفْسَدُ بِهِ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ، وَقِيلَ: الطَّاعُونُ هُوَ الْمَوْتُ بِالْوَبَاءِ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ، وَالْوَبَاءُ: الْمَوْتُ الْعَامُّ وَالْمَرَضُ الْعَامُّ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا: " «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ:" وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ، وَفِي كُلٍّ شَهَادَةٌ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1546 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1546 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الشُّهَدَاءُ) أَيْ: فِي الْجُمْلَةِ. (خَمْسَةٌ) : وَهُوَ جَمْعُ شَهِيدٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ; لِأَنَّهُ يَشْهَدُ مَقَامَهُ قَبْل مَوْتِهِ، أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَشْهَدُهُ أَيْ: تَحْضُرُهُ مُبَشِّرَةً لَهُ. (الْمَطْعُونُ) أَيِ: الَّذِي ضَرَبَهُ الطَّاعُونُ وَمَاتَ بِهِ. (وَالْمَبْطُونُ) أَيِ: الَّذِي يَمُوتُ بِمَرَضِ الْبَطْنِ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ، وَقِيلَ: مَنْ مَاتَ بِوَجَعِ الْبَطْنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ هَلِ الْمُرَادُ بِالْبَطْنِ الِاسْتِسْقَاءُ أَوِ الْإِسْهَالُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. (وَالْغَرِيقُ) أَيِ: الَّذِي يَمُوتُ مِنَ الْغَرَقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ. مِمَّنْ رَكِبَ الْبَحْرَ رُكُوبًا غَيْرَ مُحَرَّمٍ. (وَصَاحِبُ الْهَدَمِ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَتُسَكَّنُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَدَمُ مَا يُهْدَمُ بِهِ مِنْ جَوَانِبِ الْبِئْرِ فَيَسْقُطُ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: الَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدَمِ وَهُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ مَا يُهْدَمُ بِهِ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْهَدَمُ بِالتَّحْرِيكِ الْبِنَاءُ الْمَهْدُومُ فَعَلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَبِالسُّكُونِ الْفِعْلُ نَفْسُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بِسُكُونِ الدَّالِ وَيُفْتَحُ، لَكِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ اسْمًا لِلْمَهْدُومِ، وَيَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا إِلَّا أَنَّهُ مُوهِمٌ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْفَتْحَ أَكْثَرُ وَهْمًا، بَلْ فِي التَّحْقِيقِ لَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ ; وَلِذَا اخْتَارَ الشُّرَّاحُ الْفَتْحَ. (وَالشَّهِيدُ) أَيِ: الْمَقْتُولُ. (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) : قَالَ الرَّاغِبُ: سُمِّيَ شَهِيدًا لِحُضُورِ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَهُ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30] ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ هَذِهِ الْحَالَةَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ تَشْهَدُ أَرْوَاحُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا أَخَّرَهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي مِنَ الشَّهِيدِ الْحُكْمِيِّ إِلَى الْحَقِيقِيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّهَدَاءَ الْحُكْمِيَّةَ كَثِيرَةٌ، وَرَدَتْ فِي أَحَادِيثَ شَهِيرَةٍ، جَمَعَهَا السُّيُوطِيُّ فِي كُرَّاسَةٍ سَمَّاهَا:(أَبْوَابُ السَّعَادَةِ فِي أَسْبَابِ الشَّهَادَةِ) مِنْهَا: مَا ذُكِرَ، وَمِنْهَا: صَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ، وَالْحَرِيقُ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ أَيْ: فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ، وَقِيلَ: تَمُوتُ بِكْرًا، وَمِنْهَا: الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا إِلَى وَضْعِهَا إِلَى فِصَالِهَا، وَمِنْهَا: صَاحِبُ السُّلِّ أَيِ: الدَّقُّ، وَالْغَرِيبُ، وَالْمُسَافِرُ، وَالْمَصْرُوعُ عَنْ دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُرَابِطُ، وَالْمُتَرَدِّي، وَمَنْ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ وَأَهْلِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ دَمِهِ، أَوْ مَظْلَمَتِهِ. وَمِنْهَا: الْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَرْعُوبُ عَلَى فِرَاشِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَعَنْ عَلِيَّ رضي الله عنه: مَنْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ ظُلْمًا فَمَاتَ فِي السَّجْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ ضُرِبَ فَمَاتَ فِي الضِّرْسِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَعَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «الْحُمَّى شَهَادَةٌ» ".
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الشُّهَدَاءِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: " رَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ بِمَعْرُوفٍ وَنَهَاهُ عَنْ مُنْكَرٍ فَقَتَلَهُ» ". وَعَنْ أَبِي مُوسَى: مَنْ وَقَصَهُ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ، أَوْ لَدْغَتْهُ هَامَّةٌ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ، فَكَتَمَ فَمَاتَ، فَهُوَ شَهِيدٌ. وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام: «الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» ". وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: " «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْغَيْرَةَ عَلَى النِّسَاءِ، وَالْجِهَادَ عَلَى الرِّجَالِ، فَمَنْ صَبَرَ مِنْهُنَّ كَانَ لَهَا أَجْرُ شَهِيدٍ» ". وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي الْمَوْتِ وَفِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَجْرَ شَهِيدٍ» . " وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «مَنْ صَلَّى الضُّحَى، وَصَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْوَتْرَ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» " وَمِنْهَا: التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ فَسَادِ الْأُمَّةِ. وَمِنْهَا: مَنْ مَاتَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْمُؤَذِّنُ الْمُحْتَسِبُ، وَمَنْ عَاشَ مُدَارِيًّا وَمَنْ جَلَبَ طَعَامًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ سَعَى عَلَى امْرَأَتِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ، فَكُلُّ مَنْ كَثُرَ أَسْبَابُ شَهَادَتِهِ زِيدَ لَهُ فِي فَتْحِ أَبْوَابِ سَعَادَتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.
1547 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي: " أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ".
ــ
1547 -
( «وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ» ) أَيْ: مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ (فَأَخْبَرَنِي " أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أَيْ: مِنْ عِبَادِهِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ. (وَأَنَّ اللَّهَ ": بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ عَلَى الْعَطْفِ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. (جَعَلَهُ رَحْمَةً) أَيْ: سَبَبَ زِيَادَةِ رَحْمَةٍ. (لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيِ: الصَّابِرِينَ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْكَافِرِينَ بِدَلِيلِ وَأَنَّ اللَّهَ إِلَخْ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ. (لَيْسَ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: جَعَلَهُ رَحْمَةً. (مِنْ أَحَدٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ، أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ. (يَقَعُ الطَّاعُونُ) : صِفَةَ أَحَدٍ، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَقَعُ فِي بَلَدِهِ. (فَيَمْكُثُ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدُ. (فِي بَلَدِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى يَقَعُ، وَكَذَا وَيَعْلَمُ اهـ. فَكَانَ فِي نُسْخَتِهِ وَيَعْلَمُ بِالْوَاوِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأُصُولُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَطْفٌ عَلَى يَمْكُثُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، فَهُوَ غَيْرُ مُرْضٍ. (صَابِرًا مُحْتَسِبًا) : حَالَانِ مِنْ فَاعِلِ يَمْكُثُ أَيْ: يَصْبِرُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ، طَالِبًا لِثَوَابِهِ لَا غَيْرَ، كَحِفْظِ مَالِهِ أَوْ غَرَضٍ آخَرَ. (يَعْلَمُ) : حَالٌ آخَرُ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ يَمْكُثُ. (أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ) أَيْ: مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ. (إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ) : خَبَرُ لَيْسَ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1548 -
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1548 -
(وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) أَيِ: ابْنِ حَارِثَةَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «الطَّاعُونُ رِجْزٌ» ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: عَذَابٌ. (أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: (ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا فَخَالَفُوا. قَالَ تَعَالَى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف: 162] . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الطَّاعُونَ، فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي سَاعَةٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ شُيُوخِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ، وَأَرَادَ بِالْبَابِ بَابَ الْقُبَّةِ الَّتِي يُصَلِّي إِلَيْهَا مُوسَى عليه السلام بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِسَمِعْتُمْ عَلَى تَضْمِينِ أُخْبِرْتُمْ، وَبِأَرْضٍ حَالٌ أَيْ: وَاقِعًا فِي أَرْضٍ. (فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ) : بِضَمِّ التَّاءِ مِنَ الْإِقْدَامِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْمَحْفُوظُ ضَمُّ التَّاءِ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: فَتَحَ التَّاءَ بَعْضُ الرُّوَاةِ وَضَمُّ الدَّالِ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدِمَ يَقْدُمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَ الدَّالَ مِنْ قَوْلِهِمْ: قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ يَقْدَمُ قُدُومًا، وَالْمَحْفُوظُ عِنْدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ ضَمُّ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقْدَمَ عَلَى الْأَمْرِ إِقْدَامًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا بَلَغَ الْحِجْرَ دِيَارَ ثَمُودَ الْمُعَذَّبِينَ فِيهَا مَنَعَ أَصْحَابَهُ الدُّخُولَ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" «إِذَا مَرَرْتُمْ بِأَرْضِ قَوْمٍ مُعَذَّبِينَ فَأَسْرِعُوا لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ» ". (وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّ الْعَذَابَ لَا يَدْفَعُهُ الْفِرَارُ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ: أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الطَّاعُونُ لَمَّا كَانَ عَذَابًا نَهَى عَنِ الْإِقْدَامِ ; فَإِنَّهُ تَهَوُّرٌ وَإِقْدَامٌ عَلَى الْخَطَرِ، وَالْعَقْلُ يَمْنَعُهُ، وَنَهَى عَنِ الْفِرَارِ أَيْضًا ; فَإِنَّ الثَّبَاتَ فِيهِ تَسْلِيمٌ لِمَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ اخْتِيَارٌ فِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَرْضَى وَالْمَوْتَى لَوْ تَحَوَّلَ الْأَصِحَّاءُ عَنْهُمْ. وَقَالَ الْقَاضِي: فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْبَلَاءِ، فَإِنَّهُ تَهَوُّرٌ، وَعَنِ الْفِرَارِ فَإِنَّهُ فِرَارٌ مِنَ الْقَدَرِ وَلَا يَنْفَعُهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ، وَالْآخَرُ تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
1549 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ ثُمَّ صَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» " يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1549 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ» ) أَيْ: بِفَقْدِ بَصَرِ عَيْنَيَهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا أَحَبَّ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فِي حَوَاسِّهِ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ السَّمْعُ
أَفْضَلَ مِنَ الْبَصَرِ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ فَوَائِدَ السَّمْعِ غَالِبُهَا أُخْرَوِيٌّ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ إِدْرَاكِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالْعُلُومِ، وَفَوَائِدُ الْبَصَرِ غَالِبُهَا دُنْيَوِيٌّ. (ثُمَّ صَبَرَ) : هِيَ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ. (عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا) أَيْ: بَدَلَهُمَا، أَوْ مِنْ أَجْلِ فَقْدِهِمَا. (الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولَهُ مَعَ النَّاجِينَ، أَوْ مَنَازِلَ مَخْصُوصَةً فِيهَا. (يُرِيدُ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحَبِيبَتَيْهِ. (عَيْنَيْهِ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنْ أَنَسٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ غَيْرِ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ فَقْدَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ فِيهِ الْجَنَّةُ، وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي لِمَنِ ابْتُلِيَ بِذَلِكَ أَنْ يَتَأَسَّى بِأَحْوَالِ الْأَكَابِرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ حَصَلَ لَهُمْ هَذَا الْبَلَاءُ، فَصَبَرُوا عَلَيْهِ وَرَضَوْا بِهِ، بَلْ عَدُّوهُ نِعْمَةً، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ حَبْرُ الْأُمَّةِ، وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنْشَدَ:
إِنْ يُذْهِبِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا
…
فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي لِلْهُدَى نُورُ
الْفَصْلُ الثَّانِي
1550 -
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
1550 -
(عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً» ) : الْغُدْوَةُ: بِضَمِّ الْغَيْنِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغُدْوَةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَوَّلُ النَّهَارِ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ. (إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ) أَيْ: دَعَا لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ. (سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ) أَيْ: يَغْرُبَ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيْ: حَتَّى يَنْتَهِيَ الْمَسَاءُ، وَانْتِهَاؤُهُ بِانْتِهَاءِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَنَسَبَ الْقَوْلَ إِلَى ثَعْلَبٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ اللُّغَوِيِّينَ. (وَإِنْ عَادَهُ) : نَافِيَةٌ بِدَلَالَةِ إِلَّا، وَلِمُقَابَلَتِهَا مَا. (عَشِيَّةً) أَيْ: مَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ أَوَّلَ اللَّيْلِ. (إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ) أَيْ: لِلْعَائِدِ فِي كِلَا الْوَقْتَيْنِ. (خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ) أَيْ: بُسْتَانٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الثَّمَرُ الْمُجْتَنَى، أَوْ مَخْرُوفٌ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. (وَأَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ.
1551 -
«وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
1551 -
(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: عَادَنِيَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُسَكَّنُ. (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجَعٍ) أَيْ: مِنْ رَمَدٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ قَالَهُ مِيرَكُ. (كَانَ بِعَيْنَيَّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِتَخْفِيفِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: فِيهِ بَيَانُ اسْتِحْبَابِ الْعِيَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ مَخُوفًا كَالصُّدَاعِ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَإِنَّ ذَلِكَ عِيَادَةٌ حَتَّى يَحُوزَ بِذَلِكَ أَجْرَ الْعِيَادَةِ، وَيَحْنَثُ بِهِ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ. أَقُولُ: وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْعِيَادَةَ فِي الرَّمَدِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّهُ، وَلَا أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَيَسَّرَ لَهُمُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ خِلَافُهُ! نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ فَقَالَ: بَابُ الْعِيَادَةِ مِنَ الرَّمَدِ، ثُمَّ أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَاللَّهُ الْهَادِي، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
أَقُولُ: يُحْمَلُ قَوْلُهُ خِلَافَ السُّنَّةِ عَلَى السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَلَا يُرَدُّ الْحَدِيثُ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ عِيَادَةٌ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةً، وَإِنَّمَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: عَلَى زَعْمِ أَنَّهُ عِيَادَةٌ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُشَابِهٌ بِالْعِيَادَةِ فَأَطْلَقَهُ مَجَازًا، مَعَ
أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ والطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا: " «ثَلَاثَةٌ لَيْسَ لَهُمْ عِيَادَةٌ: الْعَيْنُ، وَالرَّمَدُ، وَالضِّرْسُ» ". وَإِنْ صَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ مَبْنَى الْإِيمَانِ وَحِنْثِهِ عِنْدَنَا عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا عَلَى اللُّغَةِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، وَتَرْجَمَةُ أَبِي دَاوُدَ: لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ فِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ. وَمِنَ السُّنَّةِ أَيِ: الْمُؤَكَّدَةِ أَنْ يَعُودَ أَخَاهُ فِيمَا اعْتَرَاهُ أَيْ: أَصَابَهُ مِنَ الْمَرَضِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَمْرَاضٍ: صَاحِبِ الرَّمَدِ، وَالضِّرْسِ، وَالدُّمَّلِ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَبِتَقْيِيدِنَا السُّنَّةَ بِالْمُؤَكَّدَةِ يَنْدَفِعُ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ «أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: عَادَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنَيَّ» ; فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّنَنِ الْغَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَخُلَاصَةُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهَا الْعِيَادَةُ، لَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ بِعِلَّةٍ فَعِيَادَتُهُ سُّنَّةٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
1552 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، وَعَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مُحْتَسِبًا، بُوعِدَ مِنْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ سِتِّينَ خَرِيفًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1552 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ) أَيْ: أَتَى بِهِ كَامِلًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: أَتَى بِهِ صَحِيحًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ صَحِيحًا لَا يُقَالُ لَهُ فِي الشَّرْعِ: إِنَّهُ تَوَضَّأَ. (وَعَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ) : وَلَعَلَّ الْأَمْرَ بِالطَّهَارَةِ لِلْعِيَادَةِ ; لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بِنُقْطَةِ زِيَادَةٍ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى رِعَايَةِ صَاحِبِ الْعِيَادَةِ، فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ الْوُضُوءَ سُنَّةٌ فِي الْعِبَادَةِ ; لِأَنَّهُ إِذَا دَعَا عَلَى الطَّهَارَةِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ. وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي الْوُضُوءِ هُنَا أَنَّ الْعِيَادَةَ عِبَادَةٌ، وَأَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْأَكْمَلِ أَفْضَلُ، هَذَا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْوُضُوءُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، ثُمَّ قَالَ: وَالِاعْتِذَارُ عَمَّهُمْ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا هَذَا الْحَدِيثَ بَعِيدًا مَعَ كَوْنِ السُّنَّةِ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ. أَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَسْتَبْعِدُ أَنَّ فُقَهَاءَ الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يَرَوْا مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُجَوِّزُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصِّحَاحَ مَا بَلَغَتْ مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحَدِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَلَكِنْ كَمَا وَرَدَ:" حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ ". (مُحْتَسِبًا) أَيْ: طَالِبًا لِلثَّوَابِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ مِنَ الْأَسْبَابِ. (بُوعِدَ) : مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنَ الْمُبَاعَدَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ لِلْمُبَالَغَةِ. (مِنْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ سِتِّينَ خَرِيفًا) أَيْ: سَنَةً. كَمَا فِي رِوَايَةٍ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا لِلْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ: قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَتِ الْعَرَبُ يُؤَرِّخُونَ أَعْوَامَهُمْ بِالْخَرِيفِ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَانَ جِدَادِهِمْ وَقِطَافِهِمْ وَإِدْرَاكِ غَلَّاتِهِمْ إِلَى أَنْ أَرَّخَ عُمَرُ رضي الله عنه بِسَنَةِ الْهِجْرَةِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ اعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ بِمَا رَدَدْنَاهُ عَلَيْهِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخَرِيفَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ كَأَمِيرٍ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَيْنَ الْقَيْظِ وَالشِّتَاءِ تُخْتَرَفُ فِيهِ الثِّمَارُ، وَأَرَّخَ الْكُتَّابُ وَقْتَهُ فَقَوْلُهُ: كَانُوا يُؤَرِّخُونَ أَعْوَامَهُمْ بِالْخَرِيفِ، مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْخَرِيفَ آخِرَ سَنَتِهِمْ، أَوْ أَوَّلَهَا لِمَا عَلَّلَهُ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُطْلِقُونَ الْخَرِيفَ عَلَى الْعَامِ جَمِيعًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَمَا الدَّخْلُ فِيهِ لِتَارِيخِ عُمَرَ رضي الله عنه بِالْهِجْرَةِ، فَإِنَّ سَبَبَهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ لِمَعْرِفَةِ مُضِيِّ مُدَّةِ السِّنِينَ بِأَمْرٍ غَرِيبٍ كَانَ يَقَعُ فِي سَنَةٍ مِنَ السِّنِينِ كَعَامِ الْفِيلِ، فَغَيَّرَهُ رضي الله عنه وَجَعَلَ اعْتِبَارَ التَّارِيخِ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى تَارِيخِ يَوْمِنَا هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
1553 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ، رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ، إِلَّا شُفِيَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَضَرَ أَجَلُهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
1553 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ) : " مَا " لِلنَّفْيِ وَ " مِنْ " زَائِدَةٌ. (يَعُودُ مُسْلِمًا) أَيْ: يَزُورُهُ فِي مَرَضِهِ. (فَيَقُولُ) أَيِ: الْعَائِدُ. (سَبْعَ مَرَّاتٍ) : لَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى السَّبْعَةِ الْأَعْضَاءِ. (أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ) أَيْ: فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. (رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) : فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِهِ، وَمُحِيطٌ بِمُكَوِّنَاتِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الرَّبِّ. (أَنْ يَشْفِيَكَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مَفْعُولٌ ثَانٍ. (إِلَّا شُفِيَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: ذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْمَرِيضُ سَرِيعًا، وَالْحَصْرُ غَالِبِيٌّ، أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى شُرُوطٍ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَضَرَ أَجَلُهُ) أَيْ: فَيُهَوِّنُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَوْتَ، وَيَحْصُلُ لَهُ شِفَاءُ الْبَاطِنِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
1554 -
وَعَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ مِنَ الْحُمَّى وَمِنَ الْأَوْجَاعِ كُلِّهَا أَنْ يَقُولُوا: " بِسْمِ الْكَبِيرِ، أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ نَعَّارٍ، وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ.
ــ
1554 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَلِّمُهُمْ مِنَ الْحُمَّى) أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا. (وَمِنَ الْأَوْجَاعِ كُلِّهَا أَنْ يَقُولُوا) أَيِ: الْمَرْضَى أَوْ عُوَّادُهُمْ " بِسْمِ اللَّهِ الْكَبِيرِ) أَيْ: شَأْنُهُ وَالْعَلِيُّ بُرْهَانُهُ. (أَعُوذُ بِاللَّهِ) : هَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ، وَفِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ: نَعُوذُ بِاللَّهِ. (الْعَظِيمِ مِنْ شَرِّ كُلِّ عِرْقٍ) : بِالتَّنْوِينِ. (نَعَّارٍ) أَيْ: فَوَّارِ الدَّمِ، يُقَالُ: نَعَرَ الْعِرْقُ، يَنْعَرُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا إِذَا فَارَ مِنْهُ الدَّمُ، اسْتَعَاذَ لِأَنَّهُ إِذَا غَلَبَ لَمْ يُمْهِلْ، وَقِيلَ: سَائِلُ الدَّمِ، وَقِيلَ: مُضْطَرِبٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نَعَرَ الْعِرْقُ بِالدَّمِ إِذَا ارْتَفَعَ وَعَلَا وَجُرِحَ، نَعَّارٌ وَنَعُورٌ إِذَا صَوَّتَ دَمُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ اهـ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَيُرْوَى " عِرْقٌ نَعَّارٌ ". (وَمِنْ شَرِّ حَرِّ النَّارِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَهُوَ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ) : قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، والْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ، وَلِعَدَمِ اطِّلَاعِ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: يُسَنُّ ذِكْرُ ذَلِكَ لِلْعَائِدِ ; لِأَنَّ الضَّعِيفَ حُجَّةٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا.
1555 -
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنِ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا أَوِ اشْتَكَاهُ أَخٌ لَهُ، فَلْيَقُلْ: رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ، عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1555 -
(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنِ اشْتَكَى) أَيْ: شَكَا. (مِنْكُمْ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْوَجَعِ. (أَوِ اشْتَكَاهُ) : الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى. (شَيْئًا) . (أَخٌ لَهُ، فَلْيَقُلْ) أَيِ: الْمُشْتَكِي أَوْ أَخُوهُ الْعَائِدُ. (رَبُّنَا اللَّهُ) : قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: فِي النُّسَخِ بِالرَّفْعِ، وَفِي شَرْحٍ قَالَ: إِنَّهُ بِالنَّصْبِ، وَاللَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ. (الَّذِي) : صِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ. (فِي السَّمَاءِ) أَيْ: رَحْمَتُهُ، أَوْ أَمْرُهُ، أَوْ مُلْكُهُ الْعَظِيمُ، أَوِ الَّذِي مَعْبُودٌ فِي السَّمَاءِ كَمَا أَنَّهُ مَعْبُودٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُوهِمِ لِلْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. (تَقَدَّسَ اسْمُكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَسْمَاؤُكَ أَيْ: تَطَهَّرْتَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَبُّنَا: مُبْتَدَأٌ، اللَّهُ: خَبَرُهُ، الَّذِي: صِفَةٌ مَادِحَةٌ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ ; لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَمِنْ ثَمَّةَ نَزَّهَ اسْمَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَقْدِيسُ الْمُسَمَّى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (أَمْرُكَ) أَيْ: مُطَاعٌ. (فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] أَيْ: مَا أَمَرَ بِهِ فِيهَا وَدَبَّرَهَا مِنْ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّيِّرَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ) :" مَا " كَافَّةٌ مُهَيِّئَةٌ لِدُخُولِ الْكَافِ عَلَى الْجُمْلَةِ. فِي الْفَائِقِ: الْأَمْرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَكِنَّ الرَّحْمَةَ شَأْنُهَا أَنْ تَخُصَّ بِالسَّمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا مَكَانُ الطَّيِّبِينَ الْمَعْصُومِينَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلِذَلِكَ أَتَى بِالْفَاءِ الْجَزَائِيَّةِ، بِالتَّقْدِيرِ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ. (فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ: فِي أَهْلِهَا. (اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَتُفْتَحُ أَيْ: ذَنْبَنَا. (وَخَطَايَانَا) أَيْ: كَبَائِرَنَا وَصَغَائِرَنَا، وَعَمْدَنَا وَخَطَأَنَا. (أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ) أَيْ: مُحِبُّهُمْ وَمُتَوَلِّي أَمْرِهِمْ، وَالْإِضَافَةُ تَشْرِيفِيَّةٌ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الشِّرْكِ، أَوِ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ الْأَفْعَالَ الدَّنِيَّةَ، وَالْأَقْوَالَ الرِّدِيَّةَ. (أَنْزِلْ رَحْمَةً) أَيْ: عَظِيمَةً. (مِنْ رَحْمَتِكَ) أَيِ: الْوَاسِعَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِلَى آخِرِهِ تَقْرِيرٌ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ. (وَشِفَاءً) أَيْ: عَظِيمًا. (مِنْ شِفَائِكَ) أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ. (عَلَى هَذَا الْوَجَعِ) : بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ فِي الْوَجَعِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ
كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْوَجَعَ مَا هُوَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشَارَ بِهِ إِلَى. (شَيْئًا) ، فَالْجِيمُ مَفْتُوحٌ، وَإِلَى مَنْ فِي مَنِ اشْتَكَى، فَالْجِيمُ مَكْسُورٌ. وَقَالَ مِيرَكُ: ضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَهُوَ مَنْ بِهِ وَجَعٌ. أَيْ: بِفَتْحِ الْجِيمِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْفَتْحُ هُوَ الرِّوَايَةُ. (فَيَبْرَأُ) : بِالرَّفْعِ أَيْ: فَهُوَ يَتَعَافَى، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَيَبْرَأُ جَوَابٌ لِيَقُلْ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ اهـ. لَكِنَّ الْحَاكِمَ رَوَاهُ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ.
1556 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا، أَوْ يَمْشِي لَكَ إِلَى جِنَازَةٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1556 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ يَنْكَأْ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي أَوَّلِهِ، وَبِالْهَمْزَةِ فِي آخِرِهِ مَجْزُومًا، أَيْ: يَجْرَحْ. (لَكَ عَدُوًّا) أَيِ: الْكُفَّارَ، أَوْ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَيُكْثِرْ فِيهِمُ النِّكَايَةَ بِالْإِيلَامِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْإِلْزَامِ بِالْجَزْمِ، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ بِتَقْدِيرِ: فَهُوَ يَنْكَأُ مِنَ النَّكْءِ بِالْهَمْزَةِ مِنْ حَدِّ: مَنَعَ، وَمَعْنَاهُ الْخَدْشُ، وَيُمْكِنُ مِنَ النِّكَايَةِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيِ: التَّأْثِيرُ بِالْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، لَكِنَّ الرَّسْمَ لَا يُسَاعِدُ الْأَخِيرَ، وَفِي الصِّحَاحِ: نَكَأْتُ الْقُرْحَةَ أَنْكَأُهَا نَكْأً إِذَا قَشَرْتَهَا، وَفِي النِّهَايَةِ: نَكَيْتُ فِي الْعَدُوِّ أَنْكِي نِكَايَةٍ فَأَنَا نَاكٍ إِذَا أَكْثَرْتَ فِيهِمُ الْجِرَاحَ وَالْقَتْلَ فَوَهِمُوا لِذَلِكَ، وَقَدْ يُهْمَزُ. قَالَ الطِّيبِيُّ:(يَنْكَأْ) مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ أَيْ: فَإِنَّهُ يَنْكَأُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: بِالرَّفْعِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: يَغْزُو فِي سَبِيلِكَ. (أَوْ يَمْشِي) : بِالرَّفْعِ أَيْ: أَوْ هُوَ يَمْشِي. قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا وَرَدَ بِالْيَاءِ، وَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ يَنْكَأُ بِالرَّفْعِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْجَزْمِ فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى قِرَاءَةِ: مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرُ. (لَكَ) أَيْ: لِأَمْرِكَ وَابْتِغَاءِ وَجْهِكَ. (إِلَى جِنَازَةٍ) اتِّبَاعُهَا لِلصَّلَاةِ لِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى صَلَاةٍ، وَهَذَا تَوَسُّعٌ شَائِعٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَلَعَلَّهُ جَمَعَ بَيْنَ النِّكَايَةِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَدَحَ فِي إِنْزَالِ الْعِقَابِ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ، وَالثَّانِي سَعَى فِي إِيصَالِ الرَّحْمَةِ إِلَى وَلِيِّ اللَّهِ اهـ. أَوْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَرَضِ إِمَّا كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، أَوْ تَذْكِيرٌ بِالْمَوْتِ وَالْآخِرَةِ وَالْعِقَابِ، وَهُمَا حَاصِلَانِ لَهُ بِالْعَمَلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
1557 -
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، «عَنْ أُمَيَّةَ: أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، وَعَنْ قَوْلِهِ:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]"، فَقَالَتْ: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: " هَذِهِ مُعَاتَبَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ، حَتَّى الْبِضَاعَةِ يَضَعُهَا فِي يَدِ قَمِيصِهِ، فَيَفْقِدُهَا، فَيَفْزَعُ لَهَا، حَتَّى إِنَّ الْعَبْدَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ، كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنَ الْكِيرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
1557 -
(وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمَيَّةَ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ السَّيِّدُ: اسْمُ امْرَأَةِ وَالِدِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، وَلَيْسَ بِأُمِّهِ، قَالَهُ فِي التَّقْرِيبِ، فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أُمِّهِ خَطَأٌ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ أَوِ الْمَجَازِ. (أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: إِنْ تُبْدُوا: كَذَا بِلَا وَاوٍ قَبْلَ إِنْ أَيْ: إِنْ تُظْهِرُوا: {مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] أَيْ: فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ السُّوءِ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ. {أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] أَيْ: تُضْمِرُوهُ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهِ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِخُطُورِ الْخَوَاطِرِ. {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] أَيْ: يِجَازِيكُمْ بِسِرِّكُمْ وَعَلَنِكُمْ، أَوْ يُخْبِرُكُمْ بِمَا أَسْرَرْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ. (وَعَنْ قَوْلِهِ) أَيْ: تَعَالَى: (مَنْ يَعْمَلُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. (سُوءً) أَيْ: صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. (يُجْزَ بِهِ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا أَوِ الْعُقْبَى إِلَّا مَا شَاءَ مَنْ شَاءَ. (فَقَالَتْ) أَيْ: عَائِشَةُ. (مَا سَأَلَنِي عَنْهَا) أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -) صلى الله عليه وسلم أَيْ: عَنْهَا. (فَقَالَ: " هَذِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى مَفْهُومِ الْآيَتَيْنِ
الْمَسْئُولِ عَنْهُمَا أَيْ: مُحَاسَبَةِ الْعِبَادِ أَوْ مُجَازَاتِهِمْ بِمَا يُبْدُونَ وَمَا يَخَافُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ. (مُعَاتَبَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ) أَيْ: مُؤَاخَذَتُهُ الْعَبْدَ بِمَا اقْتَرَفَ مِنَ الذَّنْبِ. (بِمَا يُصِيبُهُ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ صِلَةُ مُعَاتَبَةٍ، وَيَصِحُّ كَوْنُ الْبَاءِ سَبَبِيَّةً. (مِنَ الْحُمَّى) : وَغَيْرُهَا مُؤَاخَذَةُ الْمُعَاتِبِ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْحُمَّى بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا مِنْ أَشَدِّ الْأَمْرَاضِ وَأَخْطَرِهَا. قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: الْعِتَابُ أَنْ يُظْهِرَ أَحَدُ الْخَلِيلَيْنِ مِنْ نَفْسِهِ الْغَضَبَ عَلَى خَلِيلِهِ لِسُوءِ أَدَبٍ ظَهَرَ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتَهُ، يَعْنِي: لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ مَعْنَاهَا أَنَّهُ يُلْحِقُهُمْ بِالْجُوعِ، وَالْعَطَشِ، وَالْمَرَضِ، وَالْحَزَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَكَارِهِ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا صَارُوا مُطَهَّرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهَا فُهِمَتْ أَنَّ هَذِهِ مُؤَاخَذَةُ عِقَابٍ أُخْرَوِيٍّ ; فَأَجَابَهَا بِأَنَّهَا مُؤَاخَذَةُ عِتَابٍ فِي الدُّنْيَا عِنَايَةً وَرَحْمَةً اهـ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا شَقَّتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الصَّحَابَةِ وَأَزْعَجَتْهُمْ نَزَلَ عَقِبَهَا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] كَمَا أَنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَيْهِمْ {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وَتَفْسِيرُهُ عليه الصلاة والسلام لَهَا «بِأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ» ; نَزَلَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وَوَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ: هَذِهِ مُعَاقَبَةُ اللَّهِ بِالْقَافِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: إِشَارَةٌ إِلَى مَفْهُومِ الْآيَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا. وَيُرْوَى: مُعَاتَبَةُ اللَّهِ مِنَ الْعِتَابِ أَيْ: يُؤَاخِذُ اللَّهُ مَعَهُ أَخْذَ الْعَاتِبِ. قَالَ شَارِحُ الرِّوَايَةِ: الْأُولَى فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَهِيَ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فِي الْحَدِيثِ وَلَا مَعْنَى لَهَا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرُوِيَ: مُتَابَعَةُ اللَّهِ، وَمَعْنَاهَا صَحِيحٌ خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ فِيهِ، وَأَطَالَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ وتَحْرِيفٌ لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ أَصْلًا، ثُمَّ جَعَلَهُ بِمَعْنَى تَبِعَهُ أَيْ: طَالَبَهُ تَبِعَتَهُ غَايَةً مِنَ الْبُعْدِ، وَأَعْرَبَ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ خَبَرٌ: اتَّبَعُوا الْقُرْآنَ، أَيِ: اقْتَدَوْا بِهِ. (وَالنَّكْبَةُ) : بِفَتْحِ النُّونِ أَيِ: الْمِحْنَةُ، وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ. (حَتَّى الْبِضَاعَةِ) : بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ بِالْكَسْرِ طَائِفَةٌ مِنْ مَالِ الرِّجَالِ. (يَضَعُهَا فِي يَدِ قَمِيصِهِ) أَيْ: كُمِّهِ، سُمِّيَ بِاسْمِ مَا يُحْمَلُ فِيهِ. (فَيَفْقِدُهَا) أَيْ: يَتَفَقَّدُهَا وَيَطْلُبُهَا، فَلَمْ يَجِدْهَا لِسُقُوطِهَا، أَوْ أَخْذِ سَارِقٍ لَهَا مِنْهُ. (فَيَفْزَعُ لَهَا) أَيْ: يَحْزَنُ لِضَيَاعِ الْبِضَاعَةِ فَيَكُونُ كَفَّارَةً كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي إِذَا وَضَعَ بِضَاعَةً فِي كُمِّهِ، وَوَهِمَ أَنَّهَا غَابَتْ فَطَلَبَهَا وَفَزِعَ كَفَّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبَهُ، وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَا يَخْفَى. (حَتَّى) أَيْ: وَلَا يَزَالُ يُكَرِّرُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحْوَالَ، حَتَّى " (إِنَّ الْعَبْدَ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَتْحِ، وَأَظْهَرَ الْعَبْدَ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِ إِظْهَارًا لِكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُقْتَضِي لِلصَّبْرِ وَالرِّضَا بِأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ. (كَمَا يَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ) : بِسَبَبِ الِابْتِلَاءِ بِالْبَلَاءِ. (كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ) بِالْكَسْرِ أَيِ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، فَإِذَا ضُرِبَا كَانَا عَيْنًا. (الْأَحْمَرُ) أَيِ: الذَّهَبُ يُشْوَى فِي النَّارِ تَشْوِيَةً بَالِغَةً. (مِنَ الْكِيرِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ مُتَعَلِّقٌ بِيَخْرُجُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
1558 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إِلَّا بِذَنَبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَقَرَأَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
98 -
1558 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا يُصِيبُ عَبْدًا) : التَّنْوِينُ لِلتَّنْكِيرِ. (نَكْبَةٌ) أَيْ: مِحْنَةٌ وَأَذًى، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّقْلِيلِ لَا لِلْجِنْسِ، لِيَصِحَّ تَرَتُّبُ مَا بَعْدَهَا عَلَيْهَا بِالْفَاءِ، وَهُوَ. (فَمَا فَوْقَهَا) أَيِ: فِي الْعِظَمِ. (أَوْ دُونَهَا) : فِي الْمِقْدَارِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَمَا فَوْقَهَا) فِي الْعِظَمِ أَوْ دُونَهَا فِي الْحَقَارَةِ، وَيَصِحُّ عَكْسُهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ خِلَافُ مَعْرُوفِ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ فَوْقَهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فَمَا فَوْقَهَا فِي الْكِبَرِ كَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ: فَمَا دُونَهَا، كَمَا يُقَالُ:
فُلَانٌ جَاهِلٌ، فَيُقَالُ: وَفَوْقَ ذَلِكَ، أَيْ: وَأَجْهَلُ. قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ، لَكِنَّ مُخْتَارَ الْكَشَّافِ وَالْبَيْضَاوِيِّ: أَنَّ مَعْنَاهُ مَا زَادَ عَلَيْهَا فِي الْجَنَّةِ كَالذُّبَابِ، أَوْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَتْ فِيهِ مَثَلًا، وَهُوَ الصِّغَرُ وَالْحَقَارَةُ كَجَنَاحِهَا. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَنَظِيرُهُ فِي الِاحْتِمَالَيْنِ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلًا بِمِنًى خَرَّ عَلَى طُنُبِ فُسْطَاطٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكَ بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» ". فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا تَجَاوَزَ الشَّوْكَةَ فِي الْأَلَمِ كَالْخُرُورِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فِي الْقِلَّةِ كَمَخَبَّةٍ ; لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «مَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ مِنْ مَكْرُوهٍ فَهُوَ لِخَطَايَاهُ حَتَّى نَخْبَةِ النَّمْلَةِ» " اهـ. وَهِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ: قَرْصَتُهَا، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ. (إِلَّا بِذَنْبٍ) أَيْ: يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ. (وَمَا يَعْفُو اللَّهُ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ أَيِ: الَّذِي يَغْفِرُهُ وَيَمْحُوهُ. (عَنْهُ أَكْثَرُ) : مِمَّا يُجَازِيهِ. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ: أَيْ: لَا تُصِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا مُصِيبَةٌ إِلَّا بِسَبَبِ ذَنْبٍ صَدَرَ مِنْهُ، تَكُونُ تِلْكَ الْمُصِيبَةُ الَّتِي لَحِقَتْهُ فِي الدُّنْيَا كَفَّارَةٌ لِذَنْبِهِ، وَالَّذِي يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُجَازِيَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَكْثَرُ وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ، فَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ. (وَقَرَأَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. {وَمَا أَصَابَكُمْ} [الشورى: 30] : مَا: شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ. {مِنْ مُصِيبَةٍ} [الشورى: 30] أَيْ: مِنْ مَرَضٍ، وَشِدَّةٍ، وَهَلَاكٍ، وَتَلَفٍ فِي أَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمُذْنِبِينَ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا تُصِيبُهُمْ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ. {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] : الرِّوَايَةُ بِالْفَاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِحَذْفِهَا فِي الْآيَةِ أَيْ: بِذُنُوبٍ كَسَبَتْهَا أَنْفُسُكُمْ، فَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ: بِكَسْبِكُمُ الْآثَامَ، وَانْتِسَابُ الِاكْتِسَابِ إِلَى الْأَيْدِي ; لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ تُزَاوَلُ بِهَا، وَالْمَعْنَى: مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. (وَيَعْفُو) أَيْ: فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى: (عَنْ كَثِيرٍ) أَيْ: كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ، أَوْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُذْنِبِينَ وَتُكْتَبُ الْأَلِفُ بَعْدِ وَاوِ يَعْفُ، مَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ عَلَى الرَّسْمِ الْقُرْآنِيِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
1559 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرِضَ، قِيلَ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ: اكْتُبْ لَهُ مِثْلَ عَمَلِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا حَتَّى أُطْلِقَهُ، أَوْ أَكْفِتَهُ إِلَيَّ» ".
ــ
1559 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) : بِالْوَاوِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ» ) أَيْ: عَلَى جِهَةِ الْمُتَابَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ " مِنَ الْعِبَادَةِ " أَيْ: نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا مِنَ النَّوَافِلِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِالْفَرَائِضِ. (ثُمَّ مَرِضَ) : وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ. (قِيلَ) أَيْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا مَرَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: حَتَّى أَطْلَقَهُ. (لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ) أَيْ: صَاحِبِ الْحَسَنَاتِ. ( «كُتِبَ لَهُ مِثْلُ عَمَلِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا» ) أَيْ: مُطْلَقًا مِنَ الْمَرَضِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ غَيْرَ مُقَيِّدٍ بِهِ مَنْ أَطْلَقَهُ إِذَا رَفَعَ عَنْهُ الْقَيْدَ، أَيْ: إِذَا كَانَ صَحِيحًا لَمْ يُقَيِّدْهُ الْمَرَضُ عَنِ الْعَمَلِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (حَتَّى أُطْلِقَهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ: أَكْتُبُ إِلَى حِينِ أَرْفَعُ عَنْهُ قَيْدَ الْمَرَضِ. (أَوْ أَكْفِتَهُ) : بِفَتْحِ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: أَقْبِضَهُ. (إِلَيَّ) : فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: أَضُمُّهُ إِلَى الْقَبْرِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَرْضِ: كِفَاتٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: أُمِيتُهُ. قِيلَ: الْكَفْتُ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَهُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمَوْتِ. قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا عَاصِمٌ الْقَارِّيُّ، رَوَى لَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَأَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ مُتَابَعَةً.
1560 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ، قِيلَ لِلْمَلَكِ: اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، فَإِنْ شَفَاهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ» . " رَوَاهُمَا فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
1560 -
(وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ قَالَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي نُسْخَةٍ: قِيلَ: (لِلْمَلَكِ) : الْمُوَكَّلِ أَيْ: صَاحِبِ يَمِينِهِ. (اكْتُبْ لَهُ صَالِحَ عَمَلِهِ) أَيْ: مِثْلَهُ. (الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ) : وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ نَفْسُ الْعَمَلِ، وَقِيلَ: ثَوَابُهُ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ ; فَإِنَّهُ يَشْمَلُ التَّضَاعُفَ. (فَإِنْ شَفَاهُ) أَيِ: اللَّهُ عز وجل. (غَسَّلَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: نَظَّفَهُ. (وَطَهَّرَهُ) : مِنَ الذُّنُوبِ ; لِأَنَّ الْمَرَضَ كَفَّرَهَا، وَالْوَاوُ تَفْسِيرِيَّةٌ، أَوْ تَأْكِيدِيَّةٌ، أَوْ تَنْوِيعِيَّةٌ. (وَإِنْ قَبَضَهُ) أَيْ: أَمَرَ بِقَبْضِهِ وَأَمَاتَهُ. (غَفَرَ لَهُ) : مِنَ السَّيِّئَاتِ. (وَرَحِمَهُ) : بِقَبُولِ الْحَسَنَاتِ، أَوْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ الْمَثُوبَاتِ. (رَوَاهُمَا) أَيْ: رَوَى صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ. (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) قَالَ مِيرَكُ: وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ كَمَا يُفْهَمُ مِنَ التَّخْرِيجِ وَالتَّصْحِيحِ.
1561 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الشَّهَادَةُ سَبْعٌ، سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ " وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ» " رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
1561 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ التَّاءِ، كُنْيَتُهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَجَمِيعَ الْمَشَاهِدِ بَعْدَهَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " الشَّهَادَةُ) أَيِ: الْحُكْمِيَّةُ. (سَبْعٌ) : بَلْ أَكْثَرُ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ. (سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: غَيْرِ الشَّهَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. ( «الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ إِلَى آخِرِهِ بَيَانٌ لِلسَّبْعِ بِحُسْنِ الْمَعْنَى. ( «وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ» ) : إِذَا كَانَ سَفَرُهُ طَاعَةً. ( «وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ» ) : وَهِيَ قُرْحَةٌ أَوْ قُرُوحٌ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ دَاخِلَ جَنْبِهِ، ثُمَّ تُفْتَحُ وَيَسْكُنُ الْوَجَعُ، وَذَلِكَ وَقْتُ الْهَلَاكِ، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا الْوَجَعُ تَحْتَ الْأَضْلَاعِ، وَضِيقُ النَّفَسِ مَعَ مُلَازَمَةِ الْحُمَّى وَالسُّعَالِ، وَهِيَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرُ. (وَالْمَبْطُونُ) : مِنْ إِسْهَالٍ، أَوِ اسْتِسْقَاءٍ، أَوْ وَجَعِ بَطْنٍ. (شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ " أَيِ: الْمُحْرَقُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُوتُ بِالْحَرْقِ. شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدَمِ) : بِفَتْحِ الدَّالِ وَيُسَكَّنُ. (شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ وَسُكُونِ الْمِيمِ. (شَهِيدٌ) : فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: تَمُوتُ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ، وَقِيلَ: تَمُوتُ بِكْرًا، وَالْجُمْعُ بِالضَّمِّ بِمَعْنَى الْمَجْمُوعِ، كَالذُّخْرِ بِمَعْنَى الْمَذْخُورِ، وَكَسَرَ الْكِسَائِيُّ الْجِيمَ أَيْ: مَاتَتْ مَعَ شَيْءٍ مَجْمُوعٍ فِيهَا غَيْرِ مُنْفَصِلٍ عَنْهَا مِنْ حَمْلٍ أَوْ بَكَارَةٍ أَوْ غَيْرِ مَطْمُوثَةٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْجُمْعُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِهِا، وَالرِّوَايَةُ بِالضَّمِّ أَيْ: تَمُوتُ وَوَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا، وَقِيلَ: هُوَ الطَّلْقُ، وَقِيلَ: بِأَنْ تَمُوتَ بِالْوِلَادَةِ، وَقِيلَ، بِسَبَبِ بَقَاءِ الْمَشِيمَةِ فِي جَوْفِهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْخَلَاصِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ مِنْ زَوْجِهَا أَيْ: مَاتَتْ بِكْرًا يَفْتَضُّهَا زَوْجُهَا. (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهُ الشَّيْخَانِ بِلَا خِلَافٍ.
1562 -
وَعَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ هُوِّنَ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ مَا لَهُ ذَنْبٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ــ
1562 -
(وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ) أَيْ: أَكْثَرُ أَوْ أَصْعَبُ بَلَاءً؟ أَيْ: مِحْنَةً وَمُصِيبَةً. (قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ) أَيْ: هُمْ أَشَدُّ فِي الِابْتِلَاءِ ; لِأَنَّهُمْ يَتَلَذَّذُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَتَلَذَّذُ غَيْرُهُمْ بِالنَّعْمَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُبْتَلَوْا لَتُوُهِّمَ فِيهِمُ الْأُلُوهِيَّةُ، وَلِيُتَوَهَّنَ عَلَى الْأُمَّةِ الصَّبْرُ عَلَى الْبَلِيَّةِ. (ثُمَّ الْأَمْثَلُ) أَيِ: الْأَشْبَهُ بِهِمْ، أَوِ الْأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. (فَالْأَمْثَلُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: الْأَشْرَفُ فَالْأَشْرَفُ، وَالْأَعْلَى فَالْأَعْلَى رُتْبَةً وَمَنْزِلَةً
يَعْنِي: مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ بَلَاؤُهُ أَشَدُّ لِيَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ فِيهِ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَالْفَاءُ لِلتَّعَاقُبِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَالِي تَنَزُّلًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ، وَاللَّامُ فِي الْأَنْبِيَاءِ لِلْجِنْسِ اهـ. كَوْنُهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، إِذْ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ عَظِيمِ مِحْنَةٍ، وَجَسِيمِ بَلِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ زَمَنِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:( «يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ» ) أَيْ: مِقْدَارِهِ ضَعْفًا وَقُوَّةً، وَنَقْصًا وَكَمَالًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَاللَّامُ فِي الرَّجُلِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُتَوَالِيَةِ اهـ. وَيَصِحُّ كَوْنُهَا لِلْجِنْسِ، بَلْ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ. (فَإِنْ كَانَ) : تَفْصِيلٌ لِلِابْتِلَاءِ وَقَدْرِهِ. (فِي دِينِهِ صُلْبًا) : خَبَرُ كَانَ أَيْ: شَدِيدًا، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى الرَّجُلِ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَبَرِ. (اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ أَيْ: كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً. (وَإِنْ كَانَ) أَيْ: هُوَ. (فِي دِينِهِ رِقَّةٌ) : الْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رِقَّةٌ اسْمَ كَانَ أَيْ: ضَعُفٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ الصَّلَاةَ صِفَةً لَهُ، وَالرِّقَّةَ صِفَةً لَهُ، وَالرِّقَّةُ صِفَةٌ لِدِينِهِ مُبَالَغَةٌ وَعَلَى الْأَصْلِ اهـ. وَكَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصُّلْبِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْجُثَثِ، وَفِي الرِّقَّةِ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْمَعَانِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ. (هُوِّنَ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ سُهِّلَ وَقُلِّلَ. (عَلَيْهِ) أَيِ: الْبَلَاءُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِيَكُونَ ثَوَابُهُ أَقَلَّ. أَقُولُ: بَلْ رَحْمَةً عَلَيْهِ وَلُطْفًا بِهِ، فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَوْلَا التَّخْفِيفُ فِي بَلَائِهِ لَخُشِيَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ مِنَ ابْتِلَائِهِ ; وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» ". (فَمَا زَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ الْمُبْتَلَى قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ كَانَ الْأَوَّلِ. (كَذَلِكَ) أَيْ: أَبَدًا يُصِيبُ الصَّالِحَ الْبَلَاءُ، وَيُغْفَرُ ذَنْبُهُ بِإِصَابَتِهِ إِيَّاهُ. (حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الْأَرْضِ) : كِنَايَةٌ عَنْ خَلَاصِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَكَأَنَّهُ كَانَ مَحْبُوسًا، ثُمَّ أُطْلِقَ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ. (مَا لَهُ) أَيْ: عَلَيْهِ. (ذَنْبٌ) : يَخْتَصُّ بِهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ شَفِيعًا لِغَيْرِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) .
1563 -
«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
1563 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا أَغْبِطُ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ. يُقَالُ: غَبَطْتُ الرَّجُلَ أَغْبِطُهُ إِذَا اشْتَهَيْتَ أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مَا لَهُ، وَأَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ أَيْ: مَا أَحْسُدُ. (أَحَدًا) : وَلَا أَتَمَنَّى وَلَا أَفْرَحُ لِأَحَدٍ. (بِهَوْنِ مَوْتٍ) : الْهَوْنُ: بِالْفَتْحِ: الرِّفْقُ وَاللِّينُ أَيْ: بِسَهُولَةِ مَوْتٍ. (بَعْدَ الَّذِي) أَيْ: بَعْدَ الْحَالِ الَّذِي. (رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -: وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) .
1564 -
وَعَنْهَا قَالَتْ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْمَوْتِ، وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ، أَوْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1564 -
(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْمَوْتِ» ) أَيْ: مَشْغُولٌ أَوْ مُلْتَبِسٌ بِهِ، وَالْأَحْوَالُ بَعْدَهَا مُتَدَاخِلَاتٌ. (وَعِنْدَهُ قَدَحٌ فِيهِ مَاءٌ، وَهُوَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ) أَيْ: بِالْمَاءِ تَبْرِيدًا لِحَرَارَةِ الْمَوْتِ، أَوْ دَفْعًا لِلْغَشَيَانِ وَكَرْبِهِ، أَوْ تَنْظِيفًا لِوَجْهِهِ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى رَبِّهِ، أَوْ إِظْهَارًا لِعَجْزِهِ وَتَبْرِئَتِهِ مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. (ثُمَّ يَقُولُ: " «اللَّهُمَّ أَعَنِّي عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ» ) أَيْ: عَلَى دَفْعِهَا عَنِّي. (أَوْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ) أَيْ: شَدَائِدِهِ، جَمْعُ سَكْرَةٍ بِسُكُونِ الْكَافِ، وَهِيَ شِدَّةُ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: السُّكْرُ حَالَةٌ تَعْرِضُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَعَقْلِهِ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الشَّرَابِ، وَقَدْ يَعْتَرِي مِنَ الْغَضَبِ وَالْعِشْقِ، وَلَوْ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْخَوْفِ. قَالَ تَعَالَى:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 2]، أَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُغْمَى عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، فَاللَّائِقُ بِمَقَامِهِ الْعَلِيِّ، وَحَالِهِ الْجَلِيِّ أَنْ يُحْمَلَ الْإِغْمَاءُ عَلَى مَعْنَى الْغَيْبَةِ بِالشُّهُودِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَعَلَى مَعْنَى الْغَمَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ، بِنَاءً عَلَى مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ الصَّفِيَّةُ، وَالطَّائِفَةُ الْبَهِيَّةُ السُّنِّيَّةُ. قِيلَ: أَوْ لِلشَّكِّ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ، وَيُرَادُ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْمَوْتِ مَا يَقَعُ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنَ الْمَرِيضِ، أَوْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ وَخَطَرَاتِهِ وَتَزْيِينِ خَطَرَاتِهِ، وَمِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ شَدَائِدُهُ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا الْمُحْتَضِرُ فَيَمُوتُ فَزَعًا جَزَعًا، وَالْمَطْلُوبُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَمُسْلِمٌ مُحْسِنٌ لِلظَّنِّ بِرَبِّهِ، وَفِي هَذَا تَعْلِيمٌ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام لِأُمَّتِهِ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا عَلَى مِلَّتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.
1565 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
1565 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ) أَيْ: قَضَى وَقَدَّرَ. (بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ) أَيْ: كُلَّهُ، وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَا تَخْفَى. (عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ أَيِ: الِابْتِلَاءَ بِالْمَكَارِهِ. (فِي الدُّنْيَا) لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى. (وَإِذَا أَرَادَ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ) أَيْ: أَخَّرَ. (عَنْهُ) مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ. (بِذَنْبِهِ) أَيْ: بِسَبَبِهِ. (حَتَّى يُوَافِيَهُ) أَيْ: يُجَازِيَهُ جَزَاءً وَافِيًا. (بِهِ) أَيْ: بِذَنْبِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَنْصُوصُ إِلَى الْعَبْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْكَسَ اهـ. وَلَعَلَّ الْمُوَافَاةَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْمُلَاقَاةِ. قَالَ: وَالْمَعْنَى لَا يُجَازِيهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يَجِيءَ فِي الْآخِرَةِ مُتَوَافِرَ الذُّنُوبِ وَافِيهَا ; فَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنَ الْعِقَابِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: إِنْ لَمْ يَعْفُ عَنْهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْهُ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
1566 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ، مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1566 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ عُظْمَ الْجَزَاءِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الظَّاءِ، وَقِيلَ بِكَسْرٍ ثُمَّ فَتْحٍ أَيْ: عَظَمَةُ الْأَجْرِ وَكَثْرَةُ الثَّوَابِ مَقْرُونٌ. (مَعَ عُظْمِ الْبَلَاءِ) : كَيْفِيَّةً وَكَمِّيَّةً، جَزَاءً وِفَاقًا، وَأَجْرًا طِبَاقًا. (وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل إِذَا أَحَبَّ) أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ. (قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ) : فَإِنَّ الْبَلَاءَ لِلْوُلَاةِ، وَالِابْتِلَاءَ لِلْأَوْلِيَاءِ. (فَمَنْ رَضِيَ) أَيْ: بِالْبَلَاءِ. (فَلَهُ الرِّضَا) أَيْ: فَلْيَعْلَمْ أَنَّ لَهُ الرِّضَا مِنَ الْمَوْلَى، أَوْ فَيَحْصُلُ لَهُ الرِّضَا فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، قِيلَ: رِضَا الْعَبْدِ مَحْفُوفٌ بِرِضَاءَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى سَابِقًا وَلَاحِقًا، وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّمَا اللَّاحِقُ أَثَرُ السَّابِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ. (وَمَنْ سَخِطَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ: كَرِهَ بَلَاءَ اللَّهِ، وَفَزِعَ وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ. (فَلَهُ السَّخَطُ) : مِنَ اللَّهِ أَوَّلًا وَالْغَضَبُ عَلَيْهِ آخِرًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرِّضَا وَالسَّخَطَ حَالَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْقَلْبِ، فَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ أَنِينٌ مِنْ وَجَعٍ وَشِدَّةِ مَرَضٍ وَقَلْبُهُ مَشْحُونٌ مِنَ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ. هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ جَمِيعًا، وَحَذَفَ ذِكْرَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لِدَلَالَةِ التَّفْصِيلِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْفَاءَ فِي فَمَنْ تَفْصِيلِيَّةٌ، وَالتَّفْصِيلُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمُفَصَّلِ ; لِأَنَّ الْمُفَصَّلَ يَشْتَمِلُ عَلَى فَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ، وَالتَّفْصِيلُ عَلَى فَرِيقَيْنِ: أَهْلِ الرِّضَا، وَأَهْلِ السَّخَطِ. قَالَ مِيرَكُ: أَقُولُ: وَلِلْحَدِيثِ مَحْمَلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ نُزُولَ الْبَلَاءِ عَلَامَةُ الْمَحَبَّةِ فَمَنْ رَضِيَ بِالْبَلَاءِ صَارَ مَحْبُوبًا حَقِيقِيًّا لَهُ تَعَالَى، وَمَنْ سَخِطَ صَارَ مَسْخُوطًا عَلَيْهِ، تَأَمَّلْ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَهُمْ مِنْهُ أَنَّ رِضَا اللَّهِ مَسْبُوقٌ بِرِضَاءِ الْعَبْدِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَرْضَى الْعَبْدُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بَعْدَ رِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] وَمُحَالٌ أَنْ يَحْصُلَ رِضَاءُ اللَّهِ، وَلَا يَحْصُلُ رِضَا الْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] . فَعَنِ اللَّهِ الرِّضَا أَزَلًا وَأَبَدًا، سَابِقًا وَلَاحِقًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: بِسَنَدِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .
1567 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى مَالِكٌ نَحْوَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ــ
1567 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ» ) أَيْ: يَنْزِلُ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ. (أَوِ الْمُؤْمِنَةِ) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ بِالْوَاوِ فَقَالَ: الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " بِدَلِيلِ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ " فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ": بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: أَوْلَادِهِ " حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ " أَيْ: يَمُوتَ. (وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) : بِالْهَمْزِ وَالْإِدْغَامِ أَيْ: وَلَيْسَ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ ; لِأَنَّهَا قَدْ زَالَتْ بِسَبَبِ الْبَلَاءِ؟ . (رَوَاهُ، التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى مَالِكٌ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .
1568 -
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ يُبَلِّغُهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
1568 -
(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَدْ سمَّاهُ ابْنُ مَنْدَهْ اللَّجْلَاجَ بْنَ حَكِيمٍ، وَفِي التَّقْرِيبِ وَالِدُ مُحَمَّدٍ مَجْهُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ. أَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَلَمْ يُسَمِّ أَبَاهُ، لَكِنْ سَمَّاهُ ابْنُ مَنْدَهْ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ " أَيْ: فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. (مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ) أَيْ: مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ فِي الْجَنَّةِ. (لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ) : لِعَجْزِهِ عَنِ الْعَمَلِ الْمُوصِلِ إِلَيْهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ سَبَبٌ لِلدَّرَجَاتِ. قِيلَ: وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِيمَانِ الْعَبْدِ، وَالْخُلُودُ بِالنِّيَّةِ، (ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ) أَوْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّنْوِيعِ بِاعْتِبَارِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ. (ثُمَّ صَبَّرَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: رَزَقَهُ الصَّبْرَ. (عَلَى ذَلِكَ) مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] . (حَتَّى يُبَلِّغَهُ) : اللَّهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى هَذَا إِمَّا لِلْغَايَةِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى " كَيْ "، وَالْمَعْنَى حَتَّى يُوَصِّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (الْمَنْزِلَةَ) أَيِ: الْمَرْتَبَةَ الْعُلْيَا. (الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ) أَيْ: إِرَادَتُهَا. (مِنَ اللَّهِ) تَعَالَى شَأْنُهُ، وَتَوَالَى إِحْسَانُهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
1569 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مُثِّلَ ابْنُ آدَمَ وَإِلَى جَنْبِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ مَنِيَّةً، إِنْ أَخْطَأَتْهُ الْمَنَايَا وَقَعَ فِي الْهَرَمِ حَتَّى يَمُوتَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1569 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِخِّيرٍ) : بِكَسْرِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُثِّلَ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ: صُوِّرَ وَخُلِقَ. (ابْنُ آدَمَ) : وَقِيلَ: مَثَلُ ابْنِ آدَمَ بِفَتْحَتَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ، وَيُرِيدُ بِهِ صِفَتَهُ وَحَالَهُ الْعَجِيبَةَ الشَّأْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ، أَيِ: الظَّرْفُ، وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مُرْتَفِعٌ بِهِ أَيْ: حَالُ ابْنِ آدَمَ أَنَّ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مَنِيَّةً مُتَوَجِّهَةً إِلَى نَحْوِهِ، مُنْتَهِيَةً إِلَى جَانِبِهِ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: مَثَلُ ابْنِ آدَمَ مَثَلُ الَّذِي يَكُونُ إِلَى جَنْبِهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مَنِيَّةً، وَلَعَلَّ الْحَذْفَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. (وَإِلَى جَنْبِهِ) : الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: بِقُرْبِهِ. (تِسْعٌ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: تِسْعَةٌ. (وَتِسْعُونَ) أَرَادَ بِهِ الْكَثْرَةَ دُونَ الْحَصْرِ. (مَنِيَّةً) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ: بَلِيَّةً مُهْلِكَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ: سَبَبُ مَوْتٍ. (إِنْ أَخْطَأَتْهُ الْمَنَايَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَنَايَا جَمْعُ مَنِيَّةٍ وَهِيَ الْمَوْتُ ; لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْمُنَى، وَهُوَ التَّقْدِيرُ سَمَّى كُلَّ بَلِيَّةٍ مِنَ الْبَلَايَا مَنِيَّةً ; لِأَنَّهَا طَلَائِعُهَا وَمُقَدِّمَاتُهَا اهـ. أَيْ: إِنْ جَاوَزَتْهُ فَرْضًا أَسْبَابُ الْمَنِيَّةِ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَالْجُوعِ، وَالْغَرَقِ، وَالْحَرْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (وَقَعَ فِي الْهَرَمِ) أَيْ: فِي مَجْمَعِ الْمَنَايَا وَمَنْبَعِ الْبَلَايَا. (حَتَّى يَمُوتَ) : مِنْ جُمْلَةِ الْبَرَايَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: يُرِيدُ أَنَّ أَصْلَ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا تُفَارِقَهُ الْمَصَائِبُ وَالْبَلَايَا وَالْأَمْرَاضُ وَالْأَدْوَاءُ، كَمَا قِيلَ: الْبَرَايَا أَهْدَافُ الْبَلَايَا، وَكَمَا قَالَ صَاحِبُ الْحِكَمِ ابْنُ عَطَاءٍ: مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الْأَكْدَارِ، فَإِنْ أَخْطَأَتْهُ تِلْكَ النَّوَائِبُ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ أَدْرَكَهُ مِنَ الْأَدْوَاءِ الدَّاءُ الَّذِي لَا دَوَاءَ لَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، رَاضِيًا بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَضَاهُ، فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ. ( «مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، فَلْيَلْتَمِسْ رَبًّا سِوَائِي» ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَزَادَ مِيرَكُ: حَسَنٌ.
1570 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1570 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -: (يَوَدُّ) أَيْ: يَتَمَنَّى. (أَهْلُ الْعَافِيَةِ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : ظَرْفُ يَوَدُّ. (حِينَ يُعْطَى) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. (أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ) : مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ: كَثِيرًا، أَوْ بِلَا حِسَابٍ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . (لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ) : بِالتَّخْفِيفِ، وَيُحْتَمَلُ التَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ أَيْ: قُطِّعَتْ. (فِي الدُّنْيَا) : قِطْعَةً قِطْعَةً. (بِالْمَقَارِيضِ) : جَمْعُ الْمِقْرَاضِ ; لِيَجِدُوا ثَوَابًا كَمَا وَجَدَ أَهْلُ الْبَلَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوُدُّ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ، وَتَمَنِّي كَوْنِهِ لَهُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّمَنِّي، وَفِي الْحَدِيثِ هُوَ مِنَ الْمَوَدَّةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى التَّمَنِّي، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَّ إِلَخْ، نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَفْعُولِ يَوَدُّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ مَا يُلَازِمُ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ مُقْرَضَةً فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الثَّوَابُ الْمُعْطَى.
قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَفْعُولَ يَوَدُّ الثَّوَابُ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ، وَقَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ: حَالٌ أَيْ: مُتَمَنِّينَ أَنَّ جُلُودَهُمْ إِلَخْ، أَوْ قَائِلِينَ: لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ، عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ تَكَلُّفٌ، بَلْ تَعَسُّفٌ، وَالظَّاهِرُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي جَوَابِ الْإِشْكَالِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] ، وَهُوَ أَنَّ لَوْ إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: تَوَدُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ بَيْنَهَا. وَأُجِيبُ: أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ بِمُرَادِفِهِ نَحْوِ: (فِجَاجًا) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ.
1571 -
وَعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ رضي الله عنه قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَسْقَامَ، فَقَالَ:" «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ، ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ، كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ، كَانَ كَالْبَعِيرِ إِذَا عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ، وَلِمَ أَرْسَلُوهُ " فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْأَسْقَامُ؟ وَاللَّهِ مَا مَرِضْتُ قَطُّ. فَقَالَ:" قُمْ عَنَّا فَلَسْتَ مِنَّا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1571 -
(وَعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ) : بِحَذْفِ الْيَاءِ تَخْفِيفًا كَمَا فِي الْمُتَعَالِ ; لِأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الرَّمْيِ، قَوِيَّ السَّاعِدِ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُقَالُ الزَّامِّيُّ، صَحَابِيٌّ، رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَحْدَهُ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: عَامِرٌ الرَّاوِي صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثٌ يُرْوَى بِإِسْنَادٍ مَجْهُولٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّامِ بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى الرَّامِي، وَيُقَالُ عَامِرُ بْنُ الرَّامِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيُذْكَرُ فِيمَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ وَرِوَايَةٌ. (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْأَسْقَامَ) أَيِ: الْأَمْرَاضَ، أَوْ ثَوَابَهَا. (فَقَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ. (ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ عز وجل مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ السَّقَمِ. (كَانَ) أَيِ: السَّقَمُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الصَّبْرُ عَلَيْهِ. (كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ) أَيْ: تَنْبِيهًا لِلْمُؤْمِنِ فَيَتُوبَ وَيَتَّقِيَ. (فِيمَا يَسْتَقْبِلُ) : مِنَ الزَّمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: إِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ، ثُمَّ عُوفِيَ تَنَبَّهَ وَعَلِمَ أَنَّ مَرَضَهُ كَانَ مُسَبَّبًا عَنِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ فَيَنْدَمُ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى مَا مَضَى فَيَكُونُ كَفَّارَةً لَهَا.
(وَإِنَّ الْمُنَافِقَ) : وَفِي مَعْنَاهُ الْفَاسِقُ الْمُصِرُّ. (إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ) : بِمَعْنَى عُوفِيَ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْعَافِيَةُ. (كَانَ) أَيِ: الْمُنَافِقُ فِي غَفْلَتِهِ. (كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ) أَيْ: شَدُّوهُ وَقَيَّدُوهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَرَضِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ. (ثُمَّ أَرْسَلُوهُ) أَيْ: أَطْلَقُوهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعَافِيَةِ. (فَلَمْ يَدْرِ) أَيْ: لَمْ) يَعْلَمْ. (لِمَ أَيْ: لِأَيِّ سَبَبٍ. (عَقَلُوهُ، وَلِمَ أَرْسَلُوهُ؟) يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَتَّعِظُ وَلَا يَتُوبُ، فَلَا يُفِيدُ مَرَضُهُ لَا فِيمَا مَضَى، وَلَا فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، فَأُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْأَسْقَامُ؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ: عَرِّفْنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَسْقَامِ، وَمَا الْأَسْقَامُ؟ . (وَاللَّهِ مَا مَرِضْتُ قَطُّ. فَقَالَ " قُمْ) أَيْ: تَنَحَّ وَابْعُدْ. (عَنَّا فَلَسْتَ مِنَّا) أَيْ: لَسْتَ مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا، حَيْثُ لَمْ تُبْتَلْ بِبَلِيَّتِنَا، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ; لَوْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ بِهِ خَيْرًا لَطَهَّرَ بِهِ جَسَدَهُ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْعِفْرِيتَ النِّفْرِيتَ، الَّذِي لَا يُرْزَأُ فِي وَلَدِهِ، وَلَا يُصَابُ فِي مَالِهِ» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ.
1572 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَيُطَيِّبُ بِنَفْسِهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1572 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ» ) أَيْ: أَذْهِبُوا حُزْنَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَجَلِهِ، بِأَنْ تَقُولُوا: لَا بَأْسَ طَهُورٌ، أَوْ يُطَوِّلُ اللَّهُ عُمْرَكَ وَيَشْفِيكَ وَيُعَافِيكَ، أَوْ وَسِّعُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ فَيُنَفَّسُ عَنْهُ الْكَرْبُ، وَالتَّنَفُّسُ: التَّفْرِيجُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: طَمِّعُوهُ فِي طُولِ عُمْرِهِ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ. (فَإِنَّ ذَلِكَ) أَيْ: تَنْفِيسَكُمْ لَهُ (لَا يَرُدُّ شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ بِتَنْفِيسِكُمْ. (وَيُطِيبُ) : بِالتَّخْفِيفِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ. (بِنَفْسِهِ) أَيْ: فَيُخَفِّفُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْكَرْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُجْعَلَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَفَاعِلُ يُطِيبُ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى اسْمِ إِنَّ، وَيُسَاعِدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ الْمَصَابِيحِ، وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ. قِيلَ لِهَارُونِ الرَّشِيدِ وَهُوَ عَلِيلٌ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، وَطَيِّبْ نَفْسَكَ ; فَإِنَّ الصِّحَّةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْفَنَاءِ، وَالْعِلَّةُ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْبَقَاءِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ طَيَّبَ نَفْسِي، وَرَوَّحَتْ قَلْبِي. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قِيلَ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَرِيضِ الِاسْتِيَاكُ إِذَا قَرُبَ نَزْعُهُ، وَحَدِيثُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عِنْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: إِنَّهُ يُسَهِّلُ نَزْعَ الرُّوحِ، وَكَذَا التَّطَيُّبِ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَجَاءَ فِعْلُهُ عَنْ سَلْمَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَا لُبْسُ الثِّيَابِ النَّظِيفَةِ، وَجَاءَ عَنْ فَاطِمَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَكَذَا الصَّلَاةُ لِقِصَّةِ خُبَيْبٍ، وَكَذَا الِاغْتِسَالُ. وَجَاءَ عَنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -.
1573 -
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَمَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1573 -
(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ) : بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ) : إِسْنَادُهُ مَجَازِيٌّ، أَيْ: مَنْ مَاتَ مِنْ وَجِعِ بَطْنِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْإِسْهَالَ، وَالِاسْتِسْقَاءَ، وَالنِّفَاسَ، وَقِيلَ: مَنْ حَفِظَ بَطْنَهُ مِنَ الْحَرَامِ وَالشُّبَهِ، فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ بَطْنُهُ. (لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ) : لِأَنَّهُ لِشِدَّتِهِ كَانَ كَفَّارَةً لِسَيِّئَتِهِ، وَصَحَّ فِي مُسْلِمٍ:«إِنَّ الشَّهِيدَ يُغْفَرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ» ، أَيْ: إِلَّا حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَيَقُولُ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1574 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ ". فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ; فَأَسْلَمَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1574 -
(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ غُلَامٌ) أَيْ: وَلَدٌ. (يَهُودِيٌّ) : قِيلَ: اسْمُهُ عَبْدُ الْقُدُّوسِ. (يَخْدُمُ النَّبِيَّ -) صلى الله عليه وسلم: بِضَمِّ الدَّالِ وَيُكْسَرُ. (فَمَرِضَ، فَآتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ عِيَادَةِ الذِّمِّيِّ. فِي الْخِزَانَةِ: لَا بَأْسَ بِعِيَادَةِ الْيَهُودِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ الْمَجُوسِيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، (فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ) : وَهُوَ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْعِيَادَةِ. (فَقَالَ لَهُ: " أَسْلِمْ " فَنَظَرَ) أَيِ: الْوَلَدُ. (إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ) أَيْ: أَبُوهُ. (عِنْدَهُ) قَالَ مِيرَكُ: عَنِ الشَّيْخِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالْإِسْمَاعِيلِيِّ: وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ. (فَقَالَ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ; فَأَسْلَمَ) : فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ. (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ. (يَقُولُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ) أَيْ: خَلَّصَهُ وَنَجَّاهُ. (مِنَ النَّارِ) أَيْ: لَوْ مَاتَ كَافِرًا، قَالَ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: أَنْقَذَنِي مِنَ النَّارِ اهـ. فَيَكُونُ ضَمِيرُ هُوَ يَقُولُ رَاجِعًا إِلَى
الْغُلَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ أَنْقَذَ بِي بِالْبَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنْقَذَهُ اللَّهُ بِسَبَبِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ بِصِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: هُوَ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ الْبَالِغِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْبَالِغُ، فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ لِصِحَّةِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا صَحَّ إِسْلَامُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَهُوَ صَبِيٌّ لِمَا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ: أَنَّ الْإِسْلَامَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ كَانَ مَنُوطًا بِالتَّمْيِيزِ. أَقُولُ: فَمَا دَلِيلُ النَّسْخِ بَعْدَهَا مِنَ الْحَدِيثِ، أَوِ الْكَلَامِ، أَوْ إِجْمَاعِ الْأَعْلَامِ؟ ثُمَّ قَالَ عَلَى: إِنَّ قَوْلَهُ: أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ، صَرِيحٌ فِي بُلُوغِهِ إِذِ الْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: وَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ أَخْبَرَ بِهِ اهـ.
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ صَرِيحٍ فِي الْمُدَّعَى، فَإِنَّ مَسْأَلَةَ الْأَطْفَالِ خِلَافِيَّةٌ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَأَيْضًا لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَعَ بَعْدَ تَقَرُّرِ أَنَّ الْأَطْفَالَ فِي الْجَنَّةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ، فَالْمُرَادُ أَنْقَذَهُ اللَّهُ بِي وَبِسَبَبِي لَا بِسَبَبٍ آخَرَ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ زِيَادَةُ رِفْعَةِ دَرَجَتِهِ عليه الصلاة والسلام فِي تَكْثِيرِ أُمَّتِهِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:" مِنَ النَّارِ " الْكُفْرُ الْمُسَمَّى نَارًا ; لِأَنَّهُ سَبَبُهَا، أَوْ يَؤُولُ إِلَيْهَا، وَأَيْضًا بَوْنٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا مُسْتَقِلًّا فِي الْجَنَّةِ فِي الْمَرْتَبَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ مَخْدُومًا مُعَظَّمًا، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهَا تَابِعًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ خَادِمًا لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ» " مَا يَمْنَعُ سَبْقَ عَذَابِهِمْ فِي النَّارِ. وَالْمَسْأَلَةُ غَيْرُ صَافِيَةٍ، وَالْأَدِلَّةُ غَيْرُ شَافِيَةٍ، وَلِذَا تَحَيَّرَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَتَوَقَّفَ فِيهَا إِمَامُ الْفُقَهَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْأَشْيَاءِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
1575 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَى مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1575 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ عَادَ مَرِيضًا) أَيْ: مُحْتَسِبًا. (نَادَى مُنَادٍ) أَيْ: مَلَكٌ. (مِنَ السَّمَاءِ: طِبْتَ) : دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ عَيْشِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. (وَطَابَ مَمْشَاكَ) : مَصْدَرٌ أَوْ مَكَانٌ أَوْ زَمَانٌ مُبَالَغَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنْ سَيْرِهِ وَسُلُوكِهِ طَرِيقَ الْآخِرَةِ بِالتَّعَرِّي عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّحَلِّي بِمَكَارِمِهَا. (وَتَبَوَّأْتَ) أَيْ: تَهَيَّأْتَ. (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ مَنَازِلِهَا الْعَالِيَةِ. (مَنْزِلًا) أَيْ: مَنْزِلَةً عَظِيمَةً وَمَرْتَبَةً جَسِيمَةً بِمَا فَعَلْتَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الْأُخْرَى، كَمَا أَنَّ طِبْتَ دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا أُخْرِجَتِ الْأَدْعِيَةُ فِي صُورَةِ الْأَخْبَارِ، إِظْهَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى عِيَادَةِ الْأَخْيَارِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لَهُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
1576 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «إِنَّ عَلِيًّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
ــ
1576 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ عَلِيًّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ) أَيْ: فِي زَمَنِ مَرَضِهِ. (الَّذِي تُوُفِّيَ) أَيْ: قُبِضَ رُوحُهُ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ) ؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ أَيْ: مَقْرُونًا بِحَمْدِهِ، أَوْ مُلْتَبِسًا بِمُوجَبِ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ. (بَارِئًا) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْبُرْءِ، خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَصْبَحَ، وَالْمَعْنَى قَرِيبًا مِنَ الْبُرْءِ بِحَسَبِ ظَنِّهِ، أَوْ لِلتَّفَاؤُلِ، أَوْ بَارِئًا مِنْ كُلِّ مَا يَعْتَرِي الْمَرِيضَ مِنَ الْقَلَقِ وَالْغَفْلَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1577 -
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ. فَادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكَ ". فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1577 -
(وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. (قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. (امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّ اسْمَهَا شُعَيْرَةُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا، وَفِي بَعْضِهَا بِالْقَافِ بَدَلُ الْعَيْنِ، وَفِي أُخْرَى بِالْكَافِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا مَاشِطَةُ خَدِيجَةَ. (أَتَتِ النَّبِيَّ -) صلى الله عليه وسلم اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِكَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي أُصْرَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: الصَّرَعُ عِلَّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ الرَّئِيسَةَ عَنِ انْفِعَالِهَا مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ، وَسَبَبُهُ رِيحٌ غَلِيظٌ يَحْتَبِسُ فِي مَنَافِذِ الدِّمَاغِ، أَوْ بُخَارٌ رَدِيءٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَقَدْ يَتْبَعُهُ تَشَنُّجٌ فِي الْأَعْضَاءِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ الشَّخْصُ مُنْتَصِبًا، بَلْ يَسْقُطُ وَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ لِغِلَظِ الرُّطُوبَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الصَّرَعُ مِنَ الْجِنِّ، وَلَا يَقَعُ إِلَّا مِنَ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ مِنْهُمْ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَطِبَّاءِ. (وَإِنَّى أَتَكَشَّفُ) : بِمُثَنَّاةٍ وَتَشْدِيدِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ التَّكَشُّفِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَبِالنُّونِ السَّاكِنَةِ مُخَفَّفًا مِنَ الِانْكِشَافِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا خَشِيَتْ أَنْ تَظْهَرَ عَوْرَتُهَا وَهِيَ لَا تَشْعُرُ. (فَادْعُ اللَّهَ لِي) أَيْ: بِالْعَافِيَةِ التَّامَّةِ. (فَقَالَ: " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى جَوَازِ تَرْكِ الدَّوَاءِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، بَلْ ظَاهِرُهُ أَنَّ إِدَامَةَ الصَّبْرِ مَعَ الْمَرَضِ أَفْضَلُ مِنَ الْعَافِيَةِ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِمَّنْ لَا يُعَطِّلُهُ الْمَرَضُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ عَنْ نَفْعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ تَرْكَ التَّدَاوِي أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ يُسَنُّ التَّدَاوِي لِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ «قَالُوا: أَنَتَدَاوَى؟ فَقَالَ: " تَدَاوَوْا ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ الْهَرَمِ» " وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ إِذْ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ مَعَ شُهُودِ خَالِقِهَا ; وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ، وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَ التَّدَاوِي تَوَكُّلًا كَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَضِيلَةً. (وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكَ " فَقَالَتْ: أَصْبِرُ) أَيْ: عَلَى الصَّرَعِ. (فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا اللَّهَ لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1578 -
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا جَاءَهُ الْمَوْتُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: هَنِيئًا لَهُ، مَاتَ وَلَمْ يُبْتَلَ بِمَرَضٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَيْحَكَ، وَمَا يُدْرِيكَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُ بِمَرَضٍ فَكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» " رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا.
ــ
1578 -
(وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا جَاءَهُ الْمَوْتُ) أَيْ: فَجْأَةً. (فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ) صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ: هَنِيئًا لَهُ: مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ. (مَاتَ وَلَمْ يُبْتَلَ بِمَرَضٍ) : اسْتِئْنَافٌ مُمْتَدٌّ لِمُوجِبِ التَّهْنِئَةِ، وَالْوَاوُ حَالِيَّةٌ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" وَيْحَكَ) فِي النِّهَايَةِ: وَيْحَ كَلِمَةُ تَرَحُّمٍ وَتَوَجُّعٍ، أَيْ: لَا تَمْدَحْ عَدَمَ الْمَرَضِ، وَإِنَّمَا تَرَحَّمْ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ فِي ظَنِّهِ أَنَّ عَدَمَ الْمَرَضِ مَكْرُمَةٌ. (مَا يُدْرِيكَ) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يُعْلِمُكَ أَنَّ فَقْدَ الْمَرَضِ مَكْرُمَةٌ؟ (لَوْ أَنَّ اللَّهَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: " لَوْ " لِلتَّمَنِّي ; لَأَنَّ الِامْتِنَاعِيَّةَ لَا تُجَابُ بِالْفَاءِ أَيْ: لَا تَقُلْ هَنِيئًا لَهُ، لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ. (ابْتَلَاهُ بِمَرَضٍ) وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ لَوِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ. (فَكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) : وَعَلَى الْأَوَّلِ مَا يُدْرِيكَ مُعْتَرِضَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي مُتَّصِلَةٌ بِمَا بَعْدَهَا. (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) : لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ تَابِعِيٌّ، وَكَانَ إِمَامًا مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، عَالِمًا وَرِعًا، صَالِحًا زَاهِدًا، مَشْهُورًا بِالْفِقْهِ وَالدِّينِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ.
1579 -
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ) ، وَالصُّنَابِحِيِّ) رضي الله عنهما: أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى رَجُلٍ مَرِيضٍ يَعُودَانِهِ، فَقَالَا لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟) قَالَ: أَصْبَحْتُ بِنِعْمَةٍ) . قَالَ شَدَّادٌ: أَبْشِرْ بِكَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ) ، وَحَطِّ الْخَطَايَا) ; فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: إِذَا أَنَا ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا، فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا، وَيَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى: أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي وَابْتَلَيْتُهُ، فَأَجْرُوا لَهُ مَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
1579 -
(وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: هُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ عِبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ: كَانَ شَدَّادٌ مِمَّنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْحُكْمَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ. (وَالصُّنَابِحِيِّ: بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، مَنْسُوبٌ إِلَى صُنَابِحِ بْنِ زَاهِرٍ، بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّ الصُّنَابِحِيَّ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ التَّابِعِيُّ، لَا عَبْدَ اللَّهِ الصَّحَابِيَّ قَالَ: وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيُّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الصَّحَابَةِ، والصُّنَابِحِيُّ قَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. (أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى رَجُلٍ مَرِيضٍ يَعُودَانِهِ، فَقَالَا لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ : فِيهِ أَنَّ الْعِيَادَةَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَفْضَلُ (قَالَ: أَصْبَحْتُ بِنِعْمَةٍ أَيْ: مَصْحُوبًا بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ نِعْمَةُ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ. (قَالَ شَدَّادٌ: أَبْشِرْ بِكَفَّارَاتِ السَّيِّئَاتِ أَيِ: الْمَعَاصِي. (وَحَطِّ الْخَطَايَا أَيْ: وَضْعِ التَّقْصِيرَاتِ فِي الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ. (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: إِذَا أَنَا) : فَائِدَتُهُ تَقَدُّمُ الْحُكْمِ، وَبَيَانُ مَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْضَى بِهِ لِعِظَمِ فَائِدَتِهِ. (ابْتَلَيْتُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنًا) : نَعْتٌ أَوْ حَالٌ. (فَحَمِدَنِي عَلَى مَا ابْتَلَيْتُهُ) أَيْ: مَا بِهِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ وَجَعٍ. (فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ مَضْجَعِهِ) أَيْ: مَرْقَدِهِ. (ذَلِكَ) أَيِ: الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مِنْ مَرَضِهِ سُمِّيَ بِاسْمِ مُلَازِمِهِ غَالِبًا، وَهُوَ مُتَجَرِّدٌ بَاطِنًا عَنْ ذُنُوبِهِ. (كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَفِي نُسَخٍ بِالْجَرِّ أَيْ: كَتَجَرُّدِهِ ظَاهِرًا فِي وَقْتِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. (مِنَ الْخَطَايَا) : قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَرَضَ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِذَا حَمِدَ الْمَرِيضُ عَلَى ابْتِلَائِهِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ رَخَّصَ ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَفَّارَاتٌ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ فَحَمَلُوا الْمُطْلَقَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّكْفِيرِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. (وَيَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى: أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي) أَيْ: حَبَسْتُهُ بِالْمَرَضِ. (وَابْتَلَيْتُهُ) أَيِ: امْتَحَنْتُهُ لِيَظْهَرَ مِنْهُ الشُّكْرُ أَوِ الْكُفْرُ. (فَأَجْرُوا لَهُ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِجْرَاءِ. (مَا كُنْتُمْ تُجْرُونَ لَهُ) أَيْ: مِنْ كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ. (وَهُوَ صَحِيحٌ) : حَالٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: عَنِ الْمُنْذِرِيِّ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ.
1580 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا مِنَ الْعَمَلِ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْحَزَنِ لِيُكَفِّرَهَا عَنْهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
1580 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا مِنَ الْعَمَلِ، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْحُزْنِ» ) أَيْ: بِأَسْبَابِهِ، وَهُوَ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِفَتْحَتَيْنِ. (لِيُكَفِّرَهَا) أَيِ: الذُّنُوبَ. (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ الْعَبْدِ بِسَبَبِ الْحَزَنِ، وَقَدْ رُوِيَ:«أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا لَيْثَ بْنَ سُلَيْمٍ.
1581 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ الرَّحْمَةَ) حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسْ فِيهَا» ". رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ.
ــ
1581 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا، لَمْ يَزَلْ. يَخُوضُ الرَّحْمَةَ» أَيْ: يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ. (حَتَّى يَجْلِسَ) : أَيْ: عِنْدَهُ. (فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسْ) أَيْ: غَاصَ، وَفِي رِوَايَةٍ:" اسْتَغْرَقَ فِيهَا " قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ الرَّحْمَةَ بِالْمَاءِ إِمَّا فِي الطَّهَارَةِ، أَوْ فِي الشُّيُوعِ وَالشُّمُولِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) أَيْ: بَلَاغًا. (وَأَحْمَدُ) أَيْ: مُسْنَدًا وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ، فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ اسْتَنْقَعَ فِيهَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، والطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَرَوَاهُ فِيهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَزَادَ:" وَإِذَا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا يَزَالُ يَخُوضُ فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ " وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْحَسَنِ أَقْرَبُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ يَعُودُ مَرِيضًا فَإِنَّمَا يَخُوضُ الرَّحْمَةَ، فَإِذَا قَعَدَ عِنْدَ الْمَرِيضِ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ ". قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا لِلصَّحِيحِ الَّذِي يَعُودُ الْمَرِيضَ، فَمَا لِلْمَرِيضِ؟ قَالَ: " تَحُطُّ عَنْ ذُنُوبِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، والطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَزَادَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "«إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» " كَذَا حَرَّرَهُ مِيرَكُ.
1582 -
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمُ الْحُمَّى، فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ، فَلْيَسْتَنْقِعْ فِي نَهْرٍ جَارٍ وَلْيَسْتَقْبِلْ جِرْيَتَهُ، فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، وَصَدِّقْ رَسُولَكَ. بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلْيَنْغَمِسْ فِيهِ ثَلَاثَ غَمْسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي ثَلَاثٍ فَخَمْسٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ فَتِسْعٍ، فَإِنَّهَا لَا تَكَادَ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ عز وجل» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1582 -
وَعَنْ ثَوْبَانَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمُ الْحُمَّى " أَيْ: أَخَذَتْهُ. ( «فَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ» ) أَيْ: لِشِدَّةِ مَا يَلْقَى الْمَرِيضُ فِيهَا مِنَ الْحَرَارَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ إِذَا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا كَذَلِكَ. (فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ) أَيِ: الْبَارِدُ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فَلْيُطْفِئْهَا، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ الْحُمَّى. مُعْتَرِضَةٌ. (فَلْيَسْتَنْقِعْ فِي نَهْرٍ جَارٍ) : بَيَانٌ لِلْإِطْفَاءِ. (وَلْيَسْتَقْبِلْ جِرْيَتَهُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ: قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: مَا أَشَدَّ جِرْيَةَ هَذَا الْمَاءِ بِالْكَسْرِ، وَلَعَلَّ هَذَا خَاصٌّ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيِّ الَّتِي يَأْلَفُهَا أَهْلُ الْحِجَازِ، فَإِنَّ مِنَ الْحُمَّى مَا يَكَادُ مَعَهَا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَاتِلًا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمَرِيضِ إِطْفَاؤُهَا بِالْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ ثِقَةٍ. (فَيَقُولُ) أَيْ: حَالَ الِاسْتِقْبَالِ. (بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ، وَصَدِّقْ رَسُولَكَ) أَيِ: اجْعَلْ قَوْلَهُ هَذَا صَادِقًا بِأَنْ تَشْفِيَنِي، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ) : ظَرْفٌ لِ (لْيَسْتَنْقِعْ)، وَكَذَا قَوْلُهُ:(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَلْيَنْغَمِسْ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَلْيَغْمِسْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ. (فِيهِ) أَيْ: فِي النَّهْرِ أَوْ فِي مَائِهِ. (ثَلَاثَ غَمَسَاتٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ. (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: (وَلْيَنْغَمِسْ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: (فَلْيَسْتَنْقِعْ) جِيءَ بِهِ لِتَعَلُّقِ الْمَرَّاتِ. (فَإِذَا لَمْ يَبْرَأْ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ. (فِي ثَلَاثٍ) أَيْ: ثَلَاثِ غَمَسَاتٍ، أَوْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (فَخَمْسٌ) : بِالرَّفْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَالْأَيَّامُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْغَمِسَ فِيهَا خَمْسٌ أَوْ فَالْمَرَّاتُ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ فَفِي خَمْسٍ (فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٍ) : بِالْوَجْهَيْنِ (فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ فَتِسْعٍ) : كَذَلِكَ (فَإِنَّهَا) أَيِ: الْحُمَّى (لَا تَكَادُ) أَيْ: تَقْرُبُ. (تُجَاوِزُ تِسْعًا) أَيْ: بَعْدَ هَذَا الْعَمَلِ. (بِإِذْنِ اللَّهِ -) عز وجل أَيْ: بِإِرَادَتِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ لَهَا بِالذَّهَابِ وَعَدَمِ الْعَوْدِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ ثُمَّ قَالَ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: كُنْتُ أَدْفَعُ النَّاسَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَاحْتَبَسْتُ عَنْهُ أَيَّامًا فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: الْحُمَّى. فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ، أَوْ بِمَاءِ زَمْزَمَ» ". الْمَشْهُورُ ضَبْطُ (ابْرُدُوهَا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَالرَّاءُ مَضْمُومَةٌ أَيْ: أَسْكِنُوا حَرَارَتَهَا، وَحُكِيَ كَسْرُ الرَّاءِ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ أَبْرَدَ الشَّيْءَ إِذَا عَالَجَهُ فَصَيَّرَهُ بَارِدًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: إِنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ: فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ كِيرِ جَهَنَّمَ فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ» ". وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ «عَنْ فَاطِمَةَ قَالَتْ، أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِسَاءٍ - نَعُودُهُ، فَإِذَا نَعُودُهُ، فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقَةٌ يَقْطُرُ مَاؤُهَا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْحُمَّى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْكَ. فَقَالَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمُ» اهـ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَرَاتِبَ فِي كُلِّ مَقَامٍ ثَلَاثَةٌ: الْأَعْلَى، وَالْوَسَطُ، وَالْأَدْنَى، وَعَلَيْهِ مَدَارُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاغْتِسَالُ لِلْمَحْمُومِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْخَوَاصِّ الَّتِي اطَّلَعَ عَلَيْهَا صلى الله عليه وسلم، وَيَضْمَحِلُّ عِنْدَ ذَلِكَ جَمِيعُ كَلَامِ أَهْلِ الطِّبِّ حَيْثُ يَقُولُونَ: إِنَّ اغْتِسَالَ الْمَحْمُومِ بِالْمَاءِ خَطَرٌ يُقَرِّبُهُ مِنَ الْهَلَاكِ ; لِأَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَسَامَّ، وَيُحْقَنُ بِالْبَخَارِ الْمُتَخَلِّلِ، وَيَعْكِسُ الْحَرَارَةَ إِلَى دَاخِلِ الْجِسْمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّلَفِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْحُمَّيَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِبَعْضِ الْأَمَاكِنِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا أَوْجَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْقُوَى قَوِيَّةً، وَالْحُمَّى حَارَةً، وَالنُّضْجُ بَيِّنَ وَلَا وَرَمَ فِي الْجَوْفِ وَلَا فَتْقَ، فَإِنَّ الْمَاءَ الْبَارِدَ يَنْفَعُ شُرْبُهُ، فَإِنْ كَانَ الْعَلِيلُ خَصْبَ الْبَدَنِ وَالزَّمَانِ حَارًّا، وَكَانَ مُعْتَادًا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ اغْتِسَالًا، فَلْيُؤْذَنْ لَهُ، وَقَدْ نَزَّلَ ابْنُ الْقَيِّمِ حَدِيثَ ثَوْبَانَ عَلَى هَذِهِ الْقُيُودِ فَقَالَ: هَذِهِ الصِّفَةُ تَنْفَعُ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ فِي الْحُمَّى الْعَرَضِيَّةِ، أَوِ الْغِبِّ الْخَالِصَةِ الَّتِي لَا وَرَمَ مَعَهَا، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الرَّدِيئَةِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ، فَيُطْفِئُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ لِبُعْدِهِ عَنْ مُلَاقَاةِ الشَّمْسِ، وَوُفُورِ الْقُوَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِكَوْنِهِ عَقِبَ النَّوْمِ وَالسُّكُونِ وَبَرْدِ الْهَوَاءِ. قَالَ: وَالْأَيَّامُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هِيَ الَّتِي تَقَعُ بِحَرَّانِ الْأَمْرَاضِ الْحَارَّةِ غَالِبًا، لَا سِيَّمَا الْبِلَادُ الْحَارَّةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: غَلِطَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْعِلْمِ، فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، فَاحْتَقَنَتِ الْحَرَارَةُ فِي بَاطِنِ بَدَنِهِ، فَأَصَابَتْهُ عِلَّةٌ صَعْبَةٌ كَادَتْ تُهْلِكُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِلَّتِهِ قَالَ قَوْلًا سَيِّئًا لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهُ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ جَهْلُهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ.
1583 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «ذُكِرَتِ الْحُمَّى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَبَّهَا رَجُلٌ ; فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَسُبَّهَا فَإِنَّهَا تَنْفِي الذُّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1583 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ذُكِرَتِ الْحُمَّى) : عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: وُصِفَتْ شِدَّتُهَا. (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَبَّهَا رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَسُبَّهَا) : بِفَتْحِ الْبَاءِ وَبِضَمِّهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْفَتْحُ فِي نَحْوِ رُدَّهَا بِلَا خِلَافٍ. قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي شَرْحِ الشَّافِيَةِ: لِأَنَّ الْهَاءَ لِخَفَائِهَا كَالْعَدَمِ، فَكَأَنَّ الْأَلِفَ وَاقِعَةٌ بَعْدَ الدَّالِ اهـ. فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الضَّمِّ أَنَّ " لَا " نَافِيَةٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ. (فَإِنَّهَا تَنْفِي الذُّنُوبَ) : وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَمْحُو. (كَمَا تَنْفِي النَّارُ) أَيْ: تُخْرِجُ. (خَبَثَ الْحَدِيدِ) كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَمْحِيصِهَا مِنَ الذُّنُوبِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
1584 -
وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ مَرِيضًا فَقَالَ: " أَبْشِرْ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا لِتَكَوُنَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ــ
1584 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ مَرِيضًا فَقَالَ: " أَبْشِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: هِيَ» ) أَيِ: الْحُمَّى كَمَا يُفِيدُهُ السِّيَاقُ. (نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي إِضَافَةِ النَّارِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لُطْفٌ وَرَحْمَةٌ، وَلِذَلِكَ صَرَّحَ بِقَوْلِهِ: عَبْدِي، وَوَصَفَهُ بِالْمُؤْمِنِ، وَقَوْلُهُ: أُسَلِّطُهَا خَبَرٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ. (فِي الدُّنْيَا) : خَبَرٌ آخَرُ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِأُسَلِّطُهَا. (لِتَكُونَ) أَيِ: الْحُمَّى. (حَظَّهُ) أَيْ: نَصِيبَهُ بَدَلًا. (مِنَ النَّارِ) : مِمَّا اقْتَرَفَ مِنَ الذُّنُوبِ الْمَجْعُولَةِ لَهُ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا نَصِيبُهُ مِنَ الْحَتْمِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَعِنْدِي أَنَّ الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ، والْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] قَالَ: الْحُمَّى فِي الدُّنْيَا حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْوُرُودِ فِي الْآخِرَةِ. وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا: «إِنَّ لِكُلِّ آدَمِيٍّ حَظًّا مِنَ النَّارِ، وَحَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْهَا الْحُمَّى تُحْرِقُ جِلْدَهُ، وَلَا تُحْرِقُ جَوْفَهُ وَهِيَ حَظُّهُ مِنْهَا» اهـ. نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ الْمُؤْمِنُ بِالْكَامِلِ، لِئَلَّا يَشْكُلَ بِأَنَّ بَعْضَ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَرَوَاهُ هَنَّادُ بنُ السَّرِيِّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ.
1585 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ الرَّبَّ سبحانه وتعالى يَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَا أُخْرِجُ أَحَدًا مِنَ الدُّنْيَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى أَسْتَوْفِيَ كُلَّ خَطِيئَةٍ فِي عُنُقِهِ بِسَقَمٍ فِي بَدَنِهِ، وَإِقْتَارٍ فِي رِزْقِهِ» . رَوَاهُ رَزِينٌ.
ــ
1585 -
(وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ الرَّبَّ سبحانه وتعالى يَقُولُ: وَعِزَّتِي) أَيْ: غَلَبَتِي وَقُوَّتِي. (وَجَلَالِي) أَيْ: عَظَمَتِي وَقُدْرَتِي. (لَا أُخْرِجُ أَحَدًا مِنَ الدُّنْيَا أُرِيدُ أَغْفِرُ لَهُ) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ، فَحَذَفَ أَنْ، وَالْجُمْلَةُ إِمَّا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ أُخْرِجُ أَوْ صِفَةٌ لِلْمَفْعُولِ. (حَتَّى أَسْتَوْفِيَ كُلَّ خَطِيئَةٍ) أَيْ: جَزَاءَ كُلِّ سَيِّئَةٍ اقْتَرَفَهَا، وَكَنَّى عَنْهُ بِقَوْلِهِ:(فِي عُنُقِهِ) : بِضَمَّتَيْنِ: فِي ذِمَّتِهِ، حَيْثُ لَمْ يَتُبْ عَنْهَا أَيْ: كُلِّ خَطِيئَةٍ بَاقِيَةٍ. (بِسَقَمٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَضَمٍّ وَسُكُونٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَوفِيَ، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَضْمِينِ مَعْنَى اسْتِبْدَالٍ، كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (فِي بَدَنِهِ) إِشَارَةً إِلَى سَلَامَةِ دِينِهِ. (وَإِقْتَارٍ) أَيْ: تَضْيِيقٍ (فِي رِزْقِهِ) أَيْ: نَفَقَتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي كَوْنِ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسمِائَةِ عَامٍ. قَالَ مِيرَكُ: الْإِقْتَارُ التَّضْيِيقُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الرِّزْقِ يُقَالُ: أَقْتَرَ اللَّهُ رِزْقَهُ أَيْ: ضَيَّقَهُ وَقَلَّلَهُ، وَقَدْ أَقْتَرَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُقْتِرٍ، وَقَتَّرَ فَهُوَ مَقْتُورٌ. كَذَا فِي الطِّيبِيُّ، فَعَلَى هَذَا الْإِقْتَارُ مُسْتَعْمَلٌ فِي جُزْءِ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ اهـ. وَالنُّكْتَةُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ التَّضْيِيقُ فِي صَدْرِهِ ; لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَشْرُوحُ الصَّدْرِ، وَبِهِ يَحْصُلُ لَهُ غِنَى الْقَلْبِ الْمُقْتَضِي لِاخْتِيَارِ الْفَقْرِ عَلَى الْغِنَى، وَلِلشُّكْرِ عَلَى الْمِحْنَةِ مَا لَمْ يَشْكُرْ غَيْرَهُ عَلَى الْمِنْحَةِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَمْ أَرَهُ فِي الْأُصُولِ.
1586 -
وَعَنْ شَقِيقٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَعُدْنَاهُ فَجَعَلَ يَبْكِي، فَعُوتِبَ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَبْكِي لِأَجْلِ الْمَرَضِ ; لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الْمَرَضُ كَفَّارَةٌ» " وَإِنَّمَا أَبْكِي لِأَنَّهُ أَصَابَنِي. عَلَى حَالِ فَتْرَةٍ، وَلَمْ يُصِبْنِي فِي حَالِ اجْتِهَادٍ لِأَنَّهُ يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا مَرِضَ مَا كَانَ يُكْتَبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ ; فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْمَرَضُ. رَوَاهُ رَزِينٌ.
ــ
1586 -
(وَعَنْ شَقِيقٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. (قَالَ: مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ. (فَعُدْنَاهُ فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ. (يَبْكِي، فَعُوتِبَ) أَيْ: فِي الْبُكَاءِ ; فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْجَزَعِ مِنَ الْمَرَضِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَكَابِرِ. (فَقَالَ: إِنِّي لَا أَبْكِي لِأَجْلِ الْمَرَضِ ; لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الْمَرَضُ كَفَّارَةٌ» ". وَإِنَّمَا أَبْكِي لِأَنَّهُ) أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّهُ. (أَصَابَنِي) أَيِ: الْمَرَضُ. وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ كَسْرُ أَنَّ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. (عَلَى حَالِ فَتْرَةٍ) أَيْ: ضَعْفٍ فِي الْعِبَادَةِ. (وَلَمْ يُصِبْنِي فِي حَالِ اجْتِهَادٍ) أَيْ: فِي الطَّاعَةِ الْبَدَنِيَّةِ
فَلَوْ وَقَعَتِ الْإِصَابَةُ حَالَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ لَكَانَتْ سَبَبًا لِلزِّيَادَةِ. (لِأَنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. (يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا مَرِضَ مَا كَانَ) أَيْ: مِثْلُ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ. (يُكْتَبُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْمَرَضُ) أَيْ: لَا مَانِعَ آخَرَ مِنَ الشُّغْلِ وَالْكِبَرِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .
1587 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَعُودُ مَرِيضًا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ــ
1587 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَعُودُ مَرِيضًا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثِ» ) أَيْ: مُضِيِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَعَلَيْهِ الْبَغَوِيُّ، وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْعِيَادَةُ لَا تَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ ; لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: ( «عُودُوا الْمَرِيضَ» ) . وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ - فَضَعِيفٌ جِدًّا، تَفَرَّدَ بِهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ، وَوَجَدْتُ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِيهِ أَيْضًا رَاوٍ مَتْرُوكٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْضُوعٌ كَمَا قَالَهُ الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، أَوْ مُخْتَصٌّ بِسَنَدٍ خَاصٍّ لَهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الطُّرُقِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَهُ أَصْلٌ. وَقَدْ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّغِيرِ.
وَفِي الْمَقَاصِدِ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لَهُ طُرُقٌ ضِعَافٌ يَتَقَوَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَلِهَذَا أَخَذَ بِمَضْمُونِهَا جَمَاعَةٌ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يَسْأَلُ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ يَغِيبُ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَبَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا كَانَ يَعُودُهُ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَمْ يُظْهِرُوا الْمَرَضَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ ذُكِرَ فِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " «إِذَا اشْتَكَى عَبْدِي، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَدْ شَكَانِي» ) فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَرِيضٍ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَرَضِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِحَيْثُ لَا يُظْهِرُهُ قَبْلَهَا اهـ.
أَوْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى زَمَانِ الِاسْتِحْبَابِ، أَوْ جَوَازِ التَّأْخِيرِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، رَجَاءَ أَنْ يَتَعَافَى، وَأَمَّا الْمَخْصُوصُونَ وَالْمُتَمَرِّضُونَ، فَلَهُمْ) حُكْمٌ آخَرُ، وَلِذَا تُسْتَحَبُّ الْعِيَادَةُ غِبًّا إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْعَقْلِ، فَإِذَا غُلِبَ وَخِيفَ عَلَيْهِ يَتَعَهَّدُهُ كُلَّ يَوْمٍ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ: وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْمَرَضِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَفِي سَنَدِهِ مَتْرُوكٌ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعِيفٌ.
1588 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا دَخَلْنَا عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ يَدْعُو لَكَ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1588 -
(وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ فَمُرْهُ يَدْعُو لَكَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مُرْهُ يَدْعُو لَكَ ; لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الذُّنُوبِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ جَزْمُهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ لَا يَحْذِفُ حَرْفَ الْعِلَّةِ لِلْجَازِمِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى حَدِّ: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] عَلَى أَحَدِ الْأَعَارِيبِ فِيهِ فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِعَدَمِ ظُهُورِ السَّبَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ لَهَا لِصَرَاحَةِ الْجَزْمِ، وَأَمَّا أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ الْجَزْمَ لِيَتَكَلَّفَ السَّبَبَ النَّاشِئَ عَنْ تَكَلُّفِهِ السَّبَبَ الْعَادِيَّ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ. (فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ) : لِأَنَّهُ أَشْبَهَهُمْ فِي التَّنَقِّي مِنَ الذُّنُوبِ، أَوْ فِي دَوَامِ الذِّكْرِ.
1589 -
«وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ تَخْفِيفُ الْجُلُوسِ، وَقِلَّةُ الصَّخَبِ فِي الْعِيَادَةِ عِنْدَ الْمَرِيضِ.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ، قُومُوا عَنِّي» . رَوَاهُ رَزِينٌ.
ــ
1589 -
( «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ تَخْفِيفُ الْجُلُوسِ، وَقِلَّةُ الصَّخَبِ» )، بِفَتْحَتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: رَفْعُ الصَّوْتِ. (فِي الْعِيَادَةِ عِنْدَ الْمَرِيضِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: اضْطِرَابُ الْأَصْوَاتِ لِلْخِصَامِ مَنْهِيٌّ مِنْ أَصْلِهِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ
الْمَرِيضِ فَالْقِلَّةُ بِمَعْنَى الْعَدَمِ. (قَالَ أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ كَذَا فِي أَصْلِ الْعَفِيفِ، وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي النِّهَايَةِ: اللَّغَطُ صَوْتٌ وَضَجَّةٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ. (قُومُوا عَنِّي قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ وَفَاتِهِ، رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ:«أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ ". فَقَالَ عُمَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَسُولُ اللَّهِ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُكُمْ كِتَابُ اللَّهِ. فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالِاخْتِلَافَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُومُوا عَنِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَرَادَ الْكِتَابَةَ فَوَقَعَ الْخِلَافُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي عَدَمِهَا فَتَرَكَهَا اخْتِيَارًا مِنْهُ، كَيْفَ وَهُوَ عليه الصلاة والسلام لَوْ صَمَّمَ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يَنْطِقَ بِبِنْتِ شَفَةٍ، وَلَقَدْ بَقِيَ حَيًّا بَعْدَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ عِنْدَهُ عُمَرُ لَا غَيْرُهُ، بَلْ أَهْلُ الْبَيْتِ: كَعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ، فَلَوْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْكِتَابَةِ بِالْخِلَافَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَفَعَلَ، عَلَى أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْخِلَافَةِ بِمَا كَانَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا جَلِيًّا، وَهُوَ تَقْدِيمُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لِلْإِمَامَةِ بِالنَّاسِ أَيَّامَ مَرَضِهِ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - لَمَّا خَطَبَ لِمُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ - رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ صَلِّ بِالنَّاسِ، وَأَنَا جَالِسٌ عِنْدَهُ يَنْظُرُنِي وَيُبْصِرُ مَكَانِي، وَنِسْبَةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَارِسِ الْإِسْلَامِ إِلَى التَّقِيَّةِ جَهْلٌ بِعِظَمِ مَكَانَتِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: إِنْ شِئْتُ لَمَلَأْتُهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ خَيْلًا وَرِجَالًا ; فَأَغْلَظَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ سَبًّا وَزَجْرًا ; إِعْلَامًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الْخَلِيفَةُ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِي حَقِيَّةِ خِلَافَتِهِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ.
1590 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْعِيَادَةُ فَوَاقُ نَاقَةٍ» " وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا: «أَفْضَلُ الْعِيَادَةِ سُرْعَةُ الْقِيَامِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ اهـ.
ــ
1590 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «الْعِيَادَةُ فَوَاقُ نَاقَةٍ» " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا، وَبِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: أَفْضَلُ زَمَانِ الْعِيَادَةِ مِقْدَارُ فَوَاقِهَا، وَهُوَ قَدْرُ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ ; لِأَنَّهَا تُحْلَبُ ثُمَّ تُتْرَكُ سُوَيْعَةً يَرْضَعُهَا الْفَصِيلُ لِتَدِرَّ، ثُمَّ تُحْلَبُ، يُقَالُ: مَا أَقَامَ عِنْدَهُ إِلَّا فَوَاقًا. (وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ، وَإِسْنَادِ الْحَدِيثِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( «أَفْضَلُ الْعِيَادَةِ سُرْعَةُ الْقِيَامِ» قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَفْضَلُ مَا يَفْعَلُهُ الْعَائِدُ فِي الْعِيَادَةِ أَنْ يَقُومَ سَرِيعًا. قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: أَفْضَلُ الْعِيَادَةِ عِيَادَةٌ فِيهَا سُرْعَةُ الْقِيَامِ. وَفِي شَرْحِ الشَّرْعِ قِيلَ: نِعْمَ الْعَادَةُ التَّخْفِيفُ فِي الْعِيَادَةِ، وَقِيلَ: الْعِيَادَةُ لَحْظَةٌ وَلَفْظَةٌ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: عُدْنَا السَّرِيَّ السَّقَطِيَّ مَرَضَ مَوْتِهِ فَأَطَلْنَا الْجُلُوسَ عِنْدَهُ، وَكَانَ لَهُ وَجَعُ بَطْنٍ، ثُمَّ قُلْنَا لَهُ: ادْعُ لَنَا حَتَّى نَخْرُجَ مِنْ عِنْدِكَ. قَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُمْ كَيْفَ يَعُودُونَ الْمَرْضَى. وَرُوِيَ: أَنَّهُ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى مَرِيضٍ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ، فَقَالَ الْمَرِيضُ: لَقَدْ تَأَذَّيْنَا مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَقُومُ وَأُغْلِقُ الْبَابَ. قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ مِنْ خَارِجٍ؛ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَكْتَفِ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ، بَلْ سَلَكَ طَرِيقَ التَّصْرِيحِ حَيْثُ رُوِيَ: أَنَّهُ دَخَلَ ثَقِيلٌ عَلَى مَرِيضٍ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَشْتَكِي. قَالَ: قُعُودُكَ عِنْدِي. وَرُوِيَ: أَنَّهُ دَخَلَ قَوْمٌ عَلَى مَرِيضٍ فَأَطَالُوا الْقُعُودَ، وَقَالُوا: أَوْصِنَا. فَقَالَ: أُوصِيكُمْ أَنْ لَا تُطِيلُوا الْجُلُوسَ إِذَا عُدْتُمْ مَرِيضًا، هَذَا وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا ظُنَّ أَنَّ الْمَرِيضَ يُؤْثِرُ التَّطْوِيلَ لِنَحْوِ صَدَاقَةٍ، أَوْ تَبَرُّكٍ، أَوْ قِيَامٍ بِمَا يُصْلِحُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
1591 -
1592 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَهِي قَالَ أشْتَهِي خُبْزَ بُرٍّ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرٍّ فَلْيَبْعَثْ إِلَى أَخِيهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1591 -
1592 - (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: أَشْتَهِي خُبْزَ بُرٍّ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرٍّ فَلْيَبْعَثْ» ) . أَيْ: بِهِ. (إِلَى أَخِيهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى ضِيقِ عَيْشِهِ عليه الصلاة والسلام وَفَقْرِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم فَفِي الشَّمَائِلِ «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «مَا كَانَ يَفْضَلُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزُ
الشَّعِيرِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبِيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِيًا هُوَ وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ» . ( «ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ: إِذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ» ) أَيْ: فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ شِفَاءً كَمَا شُوهِدَ فِي كَثِيرٍ، حَيْثُ صَدَقَتْ شَهْوَةُ الْمَرِيضِ لَهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ مَأْلُوفِهِ الَّذِي انْقَطَعَ عَنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِمَّا بِنَاءً عَلَى التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ هُوَ الشَّافِي، أَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ قَدْ شَارَفَ الْمَوْتَ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
1593 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا ; فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ. قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1593 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ. (قَالَ: تُوُفِّيَ) أَيْ: مَاتَ. (رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مِنْ أَهْلِهَا، وَفِيهِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ عُمُومِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْمَوْتَ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْمُجَاوَرَةِ فِيهِمَا. ( «فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ. قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: إِلَى مَوْضِعِ قَطْعِ أَجَلِهِ، وَسُمِّيَ الْأَثَرُ أَجَلًا ; لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْعُمْرَ، قَالَ زُهَيْرٌ:
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَجَلٌ
…
لَا يَنْتَهِي الْعُمْرُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ
وَأَصْلُهُ مِنْ أَثَرِ مِشْيَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَبْقَى لِأَقْدَامِهِ أَثَرٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمُنْقَطَعِ أَثَرِهِ مَحَلَّ قَطْعِ خُطُوَاتِهِ، انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُنْقَطَعُ أَثَرِهِ هُوَ قَبْرُهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ. (فِي الْجَنَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِقِيسَ، يَعْنِي مَنْ مَاتَ فِي الْغُرْبَةِ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ، وَيُفْتَحُ لَهُ مَا بَيْنَ قَبْرِهِ وَمَوْلِدِهِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .
1594 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَوْتُ الْغُرْبَةِ شَهَادَةٌ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1594 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَوْتُ غُرْبَةٍ شَهَادَةٌ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، والْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ «مَوْتِ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ مَاتَ غَرِيبًا، مَاتَ شَهِيدًا» ، وَفِي حَدِيثٍ:«الْغَرِيبُ شَهِيدٌ» .
1595 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ مَاتَ مَرِيضًا مَاتَ شَهِيدًا، أَوْ وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَغُدِيَ، وَرِيحَ عَلَيْهِ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
1595 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَاتَ مَرِيضًا مَاتَ شَهِيدًا، أَوْ وُقِيَ» ) أَيْ: حُفِظَ. (فِتْنَةَ الْقَبْرِ) أَيْ: عَذَابَهُ، هَكَذَا وَقَعَ مَرِيضًا فِي النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُغَيَّرَةِ غَرِيبًا بَدَلَ مَرِيضًا، لَكِنْ وَقَعَ فِي صَحِيحِ ابْنِ مَاجَهْ: مُرَابِطًا مَاتَ شَهِيدًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَنِزَاعُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِيهِ وَقَوْلُهُ صَوَابُهُ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا مَرْدُودٌ، وَكَذَا قَوْلُ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ الْمَرِيضُ بِوَجَعِ الْبَطْنِ لِيُوَافِقَ الْأَحَادِيثَ الْمَارَّةَ فِي الْمَبْطُونِ، وَوَجْهُ رَدِّ هَذَا أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا بِالْوَهْمِ ; إِذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ حَتَّى يُدَّعَى تَعَارُضٌ أَوْ تَخْصِيصٌ، وَإِنَّمَا حَدِيثُ الْمَبْطُونِ خَاصٌّ، وَحَدِيثُ «مَنْ مَاتَ مَرِيضًا مَاتَ شَهِيدًا» عَامٌّ، ثُمَّ ذَكَرَ: أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ قَالَ: هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَمْرَاضِ، لَكِنْ يُقَيَّدُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ «مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِي قَبْرِهِ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ، وَقِيلَ: الْإِسْهَالُ وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَمُوتُ حَاضِرَ الْعَقْلِ، عَارِفًا بِاللَّهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِعَادَةِ السُّؤَالِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ يَمُوتُ بِسَائِرِ الْأَمْرَاضِ، فَإِنَّهُمْ تَغِيبُ عُقُولُهُمْ. قُلْتُ: لَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا التَّقْيِيدِ ; فَإِنَّ الْحَدِيثَ غَلَطَ فِيهِ الرَّاوِي بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا، لَا مَنْ مَاتَ مَرِيضًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ لِأَجْلِ ذَلِكَ اهـ.