المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب غسل الميت وتكفينه] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

- ‌[بَابُ الْمَوْقِفِ]

- ‌[بَابُ الْإِمَامَةِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ]

- ‌[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ]

- ‌[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[بَابُ الْوَتْرِ]

- ‌[بَابُ الْقُنُوتِ]

- ‌[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى]

- ‌[بَابُ التَّطَوُّعِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ وُجُوبِهَا]

- ‌[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

- ‌[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَتِيرَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

- ‌[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ]

- ‌[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [

- ‌بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

- ‌[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

- ‌[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

- ‌[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

الفصل: ‌[باب غسل الميت وتكفينه]

غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ نَسَمَةِ الْمُؤْمِنِ أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ ; لِأَنَّ هَذَا صِفَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغُدُوِّ وَالْعَشِيِّ، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَذَابٍ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ. (تَعْلُقُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: تَعْلُقُ بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: تَأْكُلُ الْعُلْقَةَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ مَا يُتَبَلَّغُ مِنَ الْعَيْشِ أَيْ تَسْرَحُ. (فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ) أَيْ: يَرُدَّهُ إِلَيْهِ رَدًّا كَامِلًا فِي بَدَنِهِ. (يَوْمَ يَبْعَثُهُ، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ) قَالَ السُّيُوطِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ «إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ» ، أَوْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي حَدِيثِ كَعْبٍ نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْسَهَا يَكُونُ طَائِرًا أَيْ: عَلَى صُورَتِهِ لَا أَنَّهَا تَكُونُ فِيهِ، وَيَكُونُ الطَّائِرُ ظَرْفًا لَهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ:«أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ كَطَيْرٍ خُضْرٍ» ، وَفِي لَفْظٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَجُولُ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ، وَلَفْظِ ابْنِ عَمْرٍو: فِي صُوَرِ طَيْرٍ بِيضٍ. وَفِي لَفْظٍ عَنْ كَعْبٍ: «أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ طَيْرٌ خُضْرٌ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا كُلُّهُ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ: جَوْفِ طَيْرٍ. وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: أَنْكَرَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَةَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ ; لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مَحْصُورَةً مُضَيَّقًا عَلَيْهَا، وَرُدَّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ ثَابِتَةٌ، وَالتَّأْوِيلَ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَجْوَافِ حَقِيقَةً وَيُوَسِّعُهَا اللَّهُ لَهَا حَتَّى تَكُونَ أَوْسَعَ مِنَ الْفَضَاءِ كَذَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْإِيرَادَ مِنْ أَصْلِهِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ التَّضْيِيقُ وَالِانْحِصَارُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرُّوحِ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَسَدِ وَالرُّوحِ إِذَا كَانَتْ لَطِيفَةً يَتْبَعُهَا الْجَسَدُ فِي اللَّطَافَةِ فَتَسِيرُ بِجَسَدِهَا حَيْثُ شَاءَتْ وَتَتَمَتَّعُ بِمَا شَاءَتْ وَتَأْوِي إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ لَهَا كَمَا وَقَعَ لِنَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام فِي الْمِعْرَاجِ وَلَا تَبَاعُدَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ حَيْثُ طُوِيَتْ لَهُمُ الْأَرْضُ، وَحَصَلَ لَهُمْ أَبْدَانٌ مُكْتَسَبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَجَدُوهَا فِي أَمَاكِنَ مُخْتَلِفَةٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهَذَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَمْرِ الْعَادِيِّ غَالِبًا، فَكَيْفَ وَأَمْرُ الرُّوحِ وَأَحْوَالُ الْآخِرَةِ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَإِنَّمَا رُكِّبَ لِلْأَرْوَاحِ أَبْدَانٌ لَطِيفَةٌ عَارِيَةٌ بَدَلًا عَنْ أَجْسَادِهِمُ الْكَثِيفَةِ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ وَسِيلَةً لِتَمَتُّعِ الْأَرْوَاحِ بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهَا، لِيَقَعَ النَّعِيمُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَعَلَى طِبْقِ الْحَالِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ أَحْيَاءً بِأَرْوَاحٍ أُخَرَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَحْذُورٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ كَوْنُ الرُّوحَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي التَّنْوِيرِ: قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: هَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ. وَقَالُوا: لَا يَكُونُ رُوحَانِ فِي جَسَدٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَقَوْلُهُمْ جَهْلٌ بِالْحَقَائِقِ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ بَيِّنٌ، فَإِنَّ رُوحَ الشَّهِيدِ الَّذِي كَانَ فِي جَوْفِ جَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا يُجْعَلُ فِي جَوْفِ جَسَدٍ آخَرَ كَأَنَّهُ صُورَةُ طَائِرٍ فَيَكُونُ فِي هَذَا الْجَسَدِ الْآخَرِ كَمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ إِلَى أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا خَلَقَهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ قِيَامُ حَيَاتَيْنِ بِجَوْهَرٍ وَاحِدٍ، فَيَحْيَا الْجَوْهَرُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا رُوحَانِ فِي جَسَدٍ فَلَيْسَ بِمُحَالٍ ; إِذْ لَمْ تَتَدَاخَلِ الْأَجْسَامُ فَهَذَا الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَرُوحُهُ غَيْرُ رُوحِهَا وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا أَنْ لَوْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّ الطَّائِرَ لَهُ رُوحٌ غَيْرُ رُوحِ الشَّهِيدِ، وَهُمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا قِيلَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ أَيْ: فِي صُورَةِ طَيْرٍ كَمَا تَقُولُ: رَأَيْتُ مَلَكًا فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

ص: 1183

1633 -

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَمُوتُ فَقُلْتُ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلَامَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1633 -

(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ. (وَهُوَ يَمُوتُ) أَيْ: سِيَاقَ الْمَوْتِ وَنَزْعَهُ. (فَقُلْتُ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلَامَ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ خَالِدَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَتْ: جَاءَتْ) أُمُّ أُنَيْسٍ بِنْتُ أَبِي قَتَادَةَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ وَهُوَ مَرِيضٌ فَقَالَتْ: يَا عَمُّ أَقْرِئْ أَبِي السَّلَامَ. كَذَا فِي شَرْحِ الصُّدُورِ.

ص: 1183

[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

ص: 1183

بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1634 -

عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: " اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي ". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ، فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: " «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا: ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا " وَقَالَتْ: فَضَفَّرْنَا شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، فَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ أَيْ: آدَابِهِمَا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1634 -

(عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ) : اسْمُهَا نُسَيْبَةُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، بِنْتِ كَعْبٍ، وَقِيلَ: بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيَّةُ، بَايَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَتُمَرِّضُ الْمَرْضَى، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا) أَيْ: مَعْشَرَ النِّسَاءِ. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ) قِيلَ: هِيَ زَوْجَةُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ عليه الصلاة والسلام، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: أُمُّ كُلْثُومٍ زَوْجَةُ عُثْمَانَ، تُوُفِّيَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ. (فَقَالَ:" «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا» ) ": وَفِي رِوَايَةٍ كَمَا سَيَأْتِي: " أَوْ سَبْعًا "، " أَوْ فِيهِ " لِلتَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ، إِذْ لَوْ حَصَلَ النَّقَاءُ بِالْأَوَّلُ اسْتُحِبَّ التَّثْلِيثُ، وَكُرِهَ التَّجَاوُزُ عَنْهُ، وَإِنْ حَصَلَ بِالثَّانِيَةِ أَوْ بِالثَّالِثَةِ اسْتُحِبَّ التَّخْمِيسُ، وَإِلَّا فَالتَّسْبِيعُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ " أَوْ " هُنَا تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَحَدِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مُسْتَفَادٌ مِنْ خَارِجٍ عَنِ الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ) لَا يَنْفِي التَّخْيِيرَ. (" أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ) " بِكَسْرِ الْكَافِ خِطَابٌ لِمَنْ يَتَلَقَّى الْكَلَامَ عَنْهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ خِطَابُ الْعَامِّ، أَوْ نَزَلَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ مَنْزِلَةَ الرَّجُلِ فِي قِيَامِهَا بِهَذَا الْأَمْرِ. (إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ أَيِ: الْأَكْثَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: خِطَابٌ لِأُمِّ عَطِيَّةَ، وَرَأَيْتُ مِنَ الرَّأْيِ أَيْ: إِنِ احْتَجْتُنَّ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ أَوْ خَمْسٍ لِلْإِنْقَاءِ لَا لِلتَّشَهِّي فَافْعَلْنَهُ اهـ. وَقَوْلُهُ: خِطَابٌ لِأُمِّ عَطِيَّةَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْخِطَابَ فِي ذَلِكِ ; لِأَنَّ رَأَيْتُنَّ خِطَابٌ لِلنِّسَاءِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ:{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة: 232] ، فَإِنَّهَا كَانَتْ رَئِيسَتَهُمْ، فَخُصَّتْ بِالْخِطَابِ أَوَّلًا، ثُمَّ عُمِّمْنَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي رَأَيْتُنَّ أَيْضًا لَهَا إِمَّا عَلَى التَّعْظِيمِ أَوْ تَنْزِيلًا مَنْزِلَةَ الْجَمَاعَةِ، حَيْثُ مَدَارُ رَأْيِهِنَّ عَلَى رَأْيِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(بِمَاءٍ وَسِدْرٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِاغْسِلْنَهَا. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَا يَقْتَضِي اسْتِعْمَالَ السِّدْرِ فِي جَمِيعِ الْغَسَلَاتِ، وَالْمُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى لِيُزِيلَ الْأَقْذَارَ، وَيَمْنَعَ عَنْهُ تَسَارُعَ الْفَسَادِ، وَيَدْفَعَ الْهَوَامَّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّنْظِيفِ لَا أَصْلُ التَّطْهِيرِ، وَإِلَّا فَالْمَاءُ كَافٍ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَسْخِينَ الْمَاءِ كَذَلِكَ بِمَا يُرِيدُ فِي تَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ، فَكَانَ مَطْلُوبًا شَرْعِيًّا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، لَا يُغْلَى، قِيلَ: يَبْدَأُ بِالْقَرَاحِ أَوَّلًا لِيَبْتَلَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ بِالْمَاءِ أَوَّلًا، فَيَتِمَّ قَلْعُهُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، ثُمَّ يَحْصُلُ تَطَيُّبُ الْبَدَنِ بَعْدَ النَّظَافَةِ بِمَاءِ الْكَافُورِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُغْسَلَ بِالسِّدْرِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كِتَابِ الْهِدَايَةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ «كَانَ يَأْخُذُ الْغُسْلَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، يَغْسِلُ بِالسِّدْرِ مَرَّتَيْنِ، وَالثَّالِثَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ» ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

(وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ) أَيِ: الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ. (كَافُورًا أَوْ شَيْئًا) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. (مِنْ كَافُورٍ) : وَهُوَ لِدَفْعِ الْهَوَامِّ. (فَإِذَا فَرَغْتُنَّ) أَيْ: مِنْ غَسْلِهَا. (فَآذِنَّنِي) : بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْأُولَى، أَمْرٌ لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ مِنَ الْإِيذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ، وَالنُّونُ الْأُولَى أَصْلِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ فَاعِلٍ، وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ، وَالثَّالِثَةُ لِلْوِقَايَةِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، وَيَجُوزُ فِيهِ إِسْكَانُ الْهَمْزِ وَفَتْحُ الذَّالِ، لَكِنْ لَمْ نَجِدْهُ فِي نُسْخَةٍ. (فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ) : بِالْمَدِّ أَيْ: أَعْلَمْنَاهُ بِالْفَرَاغِ. (فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ) : فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: إِزَارَهُ الْمَشْدُودَ بِهِ خَصْرُهُ، وَالْحَقْوُ: فِي الْأَصْلِ مَعْقِدُ الْإِزَارِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْإِزَارُ لِمُجَاوَرَتِهِ. (فَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا) أَيِ: الْمَيِّتَةَ. (إِيَّاهُ) أَيِ: الْحَقْوَ، وَالْخِطَابُ لِلْغَاسِلَاتِ. فِي النِّهَايَةِ: أَيِ: اجْعَلْنَهُ شِعَارَهَا، وَالشِّعَارُ الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجَسَدَ لِأَنَّهُ يَلِي شَعَرَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ: اجْعَلْنَ هَذَا الْحَقْوَ تَحْتَ الْأَكْفَانِ بِحَيْثُ يُلَاصِقُ بَشَرَتَهَا، وَالْمُرَادُ إِيصَالُ الْبَرَكَةِ إِلَيْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ:" «اغْسِلْنَهَا وِتْرًا: ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ سَبْعًا» " وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى السَّبْعِ لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا وَرَدَ فِي عَدَدِ التَّطْهِيرِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ تِسْعًا وَهَكَذَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى السَّبْعِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ النَّقَاءُ بِهَا بَلْ بِدُونِهَا فَمَحَلُّ بَحْثٍ. (وَابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا) أَيْ: مِنَ الْيَدِ وَالْجَنْبِ وَالرِّجْلِ. (وَمَوَاضِعَ الْوُضُوءِ مِنْهَا) وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَيُقَدَّمُ مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ الْمَفْرُوضَةِ فَلَا مَضْمَضَةَ وَلَا اسْتِنْشَاقَ عِنْدِنَا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَلُفَّ الْغَاسِلُ عَلَى أُصْبُعِهِ خِرْقَةً يَمْسَحُ بِهَا أَسْنَانَهُ، وَلَهَاتَهُ، وَشَفَتَيْهِ، وَمَنْخَرَيْهِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَمْسَحَ رَأْسَهُ وَلَا يُؤَخِّرَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ مِنَ الْغُسْلِ، وَلَا يُقَدِّمَ غَسْلَ يَدَيْهِ، بَلْ يَبْدَأُ بِوَجْهِهِ بِخِلَافِ الْجُنُبِ ; لِأَنَّهُ يَتَطَهَّرُ بِهِمَا، وَالْمَيِّتُ يُغَسَّلُ بِيَدِ غَيْرِهِ. (وَقَالَتْ) : أُمُّ عَطِيَّةَ فِي جُمْلَةِ حَدِيثِهَا. (فَضَفَرْنَا) : بِالتَّخْفِيفِ. (شَعَرَهَا) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ، وَالضَّفْرُ: فَتْلُ الشَّعَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنَ الضَّفِيرَةِ، وَهِيَ النَّسْجُ، وَمِنْهُ ضَفْرُ الشَّعَرِ وَإِدْخَالُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ. (ثَلَاثَةَ قُرُونٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: أَقْسَامٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِفَتْلِ شَعَرِهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ مُرَاعَاةُ عَادَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ مُرَاعَاةُ سُنَّةِ عَدَدِ الْوَتْرِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ. (فَأَلْقَيْنَاهَا) أَيِ: الضَّفَائِرَ. (خَلْفَهَا) أَيْ: وَرَاءَ ظَهْرِهَا اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَضَفَّرْنَا نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَفِي أُخْرَى: فَمَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، وَهُوَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا، ذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: تُتْرَكُ عَلَى حَالِهَا مِنْ غَيْرِ تَضْفِيرٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) إِلَّا قَوْلَهَا: فَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا، فَإِنَّهُ لِلْبُخَارِيِّ فَقَطْ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا، قَالَهُ مِيرَكُ.

ص: 1184

1635 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَّةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1635 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ» ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ. (بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ) : بِفَتْحِ السِّينِ وَيُضَمُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَتْحُ السِّينِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَنِ الْأَزْهَرِيِّ الضَّمُّ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْفَتْحُ أَشْهَرُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ. فِي الْفَائِقِ: يُرْوَى بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا، بِالْفَتْحِ مَنْسُوبٌ إِلَى سَحُولٍ وَهُوَ الْقَصَّارُ ; لِأَنَّهُ يَسْحَلُهَا أَيْ: يَغْسِلُهَا، أَوْ إِلَى سُحُولَ وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ وَهُوَ جَمْعُ سَحْلٍ، فَهُوَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ قُطْنٍ، وَفِيهِ شُذُوذٌ لِأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى الْجَمْعِ، وَقِيلَ: اسْمُ قَرْيَةٍ بِالضَّمِّ أَيْضًا. (مِنْ كُرْسُفٍ) : بِضَمِّ الْكَافِ وَالسِّينِ أَيْ: مِنْ قُطْنٍ. (لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ) .

قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ: الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي الْكَفَنِ قَمِيصٌ أَصْلًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ خَارِجٍ عَنِ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، وَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَفَنِ قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ لَفَائِفَ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. وَقَالَ الْحَنَفِيَّةٌ: الْأَثْوَابُ الثَّلَاثَةُ: إِزْارٌ، وَقَمِيصٌ، وَلِفَافَةٌ اهـ.

وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمُ الْعِمَامَةَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْقَمِيصُ وَالْعِمَامَةُ مِنْ جُمْلَةِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّهُمَا زَائِدَانِ، فَلَيْسَ بِمَعْنَى سِوَى، وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ. قُلْتُ: وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مَا كُفِّنَ فِيهِمَا أَيْضًا، فَالْمَسْأَلَةُ مُتَنَازَعٌ فِيهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُحْتَمَلٌ، مَعَ أَنَّ نِسْبَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ الْعِمَامَةَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا. قَالَ أَيِ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَمِيصَ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نُزِعَ عَنْهُ عِنْدَ تَكْفِينِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْزَعْ لَأَفْسَدَ الْأَكْفَانَ لِرُطُوبَتِهِ. أَقُولُ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ، بَلِ الدَّلِيلُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ خَارِجٌ عَنِ الْحَدِيثِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَيْسَ الْقَمِيصُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، بَلْ خَارِجٌ عَنْهَا كَمَا قَالَ مَالِكٌ، لَزِمَ كَوْنُ السُّنَّةِ أَرْبَعَةَ أَثْوَابٍ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ «عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لِعَائِشَةَ: فِي كَمْ ثَوْبٍ كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ» ، وَإِنْ عُورِضَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:«كُفِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصٍ، وَإِزْارٍ، وَلِفَافَةٍ» ، فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي حُلَّةٍ يَمَانِيَةٍ وَقَمِيصٍ» . مُرْسَلٌ، وَالْمُرْسَلُ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً عِنْدَنَا لَكِنْ مَا وَجْهُ تَقْدِيمِهِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعَادِلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِحَدِيثِ الْقَمِيصِ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ طُرُقِهِ، مِنْهَا: الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا. وَمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوَهُ مُرْسَلًا، وَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي عَبَّاسٍ قَالَ:«كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَحُلَّةٍ نَجْرَانِيَّةٍ» ، وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِيَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، ثُمَّ يُرَجَّحُ بَعْدَ الْمُعَادَلَةِ بِأَنَّ الْحَالَ فِي تَكْفِينِهِ أَكْشَفُ لِلرِّجَالِ ثُمَّ الْبَحْثُ، وَإِلَّا فَفِيهِ تَأَمُّلٌ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَكَيْفَ يُلْبِسُونَهُ الْأَكْفَانَ فَوْقَهُ وَفِيهِ بَلَلُهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِتَعَدُّدِ قَمِيصِهِ عليه الصلاة والسلام فَفُسِخَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ الْغُسْلِ، وَغُسِّلَ بِالْآخَرِ، ثُمَّ كُفِّنَ فِي الْيَابِسِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي:«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَعَلَ قَمِيصَهُ كَفَنًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ» . قَالَ: وَالْحُلَّةُ فِي عُرْفِهِمْ مَجْمُوعُ ثَوْبَيْنِ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَلَيْسَ فِي الْكَفَنِ عِمَامَةٌ عِنْدَنَا، وَاسْتَحْسَنَهَا بَعْضُهُمْ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُعَمِّمُهُ وَيَجْعَلُ الْعَذْبَةَ عَلَى وَجْهِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.

ص: 1185

1636 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1636 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ» ) ": بِالتَّشْدِيدِ وَيُخَفَّفُ. (كَفَنَهُ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَيْ: فَلْيَخْتَرْ مِنَ الثِّيَابِ أَنْظَفَهَا وَأَتَمَّهَا وَأَبْيَضَهَا عَلَى مَا رَوَتْهُ السِّتَّةُ، وَلَمْ يُرَدْ بِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْمُبَذِّرُونَ أَشَرًا، وَرِيَاءً، وَسُمْعَةً، لِمَا سَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَمَا يُؤْثِرُهُ الْمُبَذِّرُونَ مِنَ الثِّيَابِ الرَّفِيعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِأَصْلِ الشَّرْعِ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ: «أَحْسِنُوا أَكْفَانَ مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ» .

ص: 1185

1637 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ; فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ خَبَّابٍ: قَتْلُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فِي " بَابِ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ــ

1637 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ» ) : الْوَقْصُ: كَسْرُ الْعُنُقِ أَيِ: أَسْقَطَتْهُ فَانْدَقَّ عُنُقُهُ. (وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ) : قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ، وَكَانَ وُقُوعُ الْمُحْرِمِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ مِنْ عَرَفَةَ، ذَكَرَهُ فِي الْمَوَاهِبِ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ» ) ": وَفِي لَفْظٍ: فِي ثَوْبَيْنِ، وَكَذَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ: إِزَارِهِ وَرِدَائِهِ اللَّذَيْنِ لَبِسَهُمَا فِي الْإِحْرَامِ، اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ كَفَنَ الْكِفَايَةِ ثَوْبَانِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: كَفَنُ الْكِفَايَةِ أَقَلُّ مَا يَجُوزُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، وَفِي حَالِ الضَّرُورَةِ بِحَسَبِ مَا يُوجَدُ اهـ.

وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَإِنِ اقْتُصِرَ عَلَى ثَوْبَيْنِ جَازَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِمَا: اغْسِلُوهُمَا وَكَفَّنُونِي فِيهِمَا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَا نَشْتَرِي لَكَ جَدِيدًا؟ قَالَ: لَا. الْحَيُّ أَحْوَجُ إِلَى الْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ وَهِيَ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ صَدِيدُ الْمَيِّتِ، وَفِي الْفُرُوعِ الْغَسِيلُ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ فِي الْكَفَنِ، ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عِنْدَ قَوْلِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ، وَالْإِزَارُ مِنَ الْقَرْنِ إِلَى الْقَدَمِ، وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ: لَا إِشْكَالَ أَنَّ اللِّفَافَةَ مِنَ الْقَرْنِ إِلَى الْقَدَمِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْإِزَارِ كَذَلِكَ، فَلَا أَعْلَمُ وَجْهَ مُخَالَفَةِ إِزَارِ الْمَيِّتِ إِزَارَ الْحَيِّ مِنَ السُّنَّةِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْمُحْرِمِ:«كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ» ". وَهُمَا ثَوْبَا إِحْرَامِهِ: إِزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِزَارَهُ مِنَ الْحَقْوِ، وَكَذَا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ لَيْلَى بِنْتُ قَائِفٍ، قَالَتْ: «كُنْتُ فِيمَنْ يُغَسِّلُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ أَوَّلُ مَا أَعْطَانَا الْحِقَاءَ، ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدُ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرُوِيَ حَقْوَهُ فِي حَدِيثِ غُسْلِ زَيْنَبَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ إِزَارَ الْمَيِّتِ كَإِزَارِ الْحَيِّ مِنَ الْحَقْوِ، فَيَجِبُ كَوْنُهُ فِي الْمُذَكِّرِ كَذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَرْقِ فِي هَذَا، وَقَدْ حَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَإِنْ أَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ لِجَهَالَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ حُضُورِ أُمِّ عَطِيَّةَ غُسْلَ أُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ زَيْنَبَ، وَقَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ: أُمُّ كُلْثُومٍ تُوُفِّيَتْ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم غَائِبٌ، مُعَارَضٌ بِقَوْلِ ابْنِ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهَا مَاتَتْ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ زَيْنَبَ بِسَنَةٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عليه الصلاة والسلام، وَيَشُدُّهُ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ «عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ فَقَالَ: " اغْسِلْنَهَا» الْحَدِيثَ كَمَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ، وَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ: مِثْلَ ذَلِكَ فِي زَيْنَبَ لَا يُنَافِيهِ لِمَا قُلْنَا آنِفًا. (وَلَا تَمَسُّوهُ) : مِنَ الْمَسِّ، وَرُوِيَ مِنَ الْإِمْسَاسِ. (بِطِيبٍ) قَالَ مِيرَكُ: كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، وَفِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَبِفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ أَمَسَّ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: مِسْتُهُ بِالْكَسْرِ أَمِسْهُ وَمَسَسْتُهُ كَنَصْرَتُهُ. (وَلَا تُخَمِّرُوا) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: لَا تُغَطُّوا وَلَا تَسْتُرُوا. (رَأْسَهُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: ذَهَبُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: أَنَّ الْمُحْرِمَ يُكَفَّنُ بِلِبَاسِ إِحْرَامِهِ، وَلَا يُسْتَرُ رَأْسُهُ، وَلَا يُمَسُّ طِيبًا. (فَإِنَّهُ يُبْعَثُ) أَيْ: يُحْشَرُ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا) أَيْ: قَائِلًا: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ; لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ مَاتَ مُحْرِمًا. قَالَ: وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ: أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمَوْتَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

(وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ خَبَّابٍ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ. (قَتْلُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجْهُولُ حِكَايَةِ مَا فِي الْحَدِيثِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ حَدِيثَ خَبَّابٍ، أَيْ: سَنَذْكُرُ هَذَا اللَّفْظَ: وَهُوَ قَتْلُ. (مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ) أَيْ: إِلَى آخِرِهِ (فِي: " بَابِ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : هَذَا اعْتِذَارٌ قَوْلِيٌّ، وَاعْتِرَاضٌ فِعْلِيٌّ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، زَعْمًا مِنَ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ حَدِيثَ خَبَّابٍ أَلْيَقُ بِذَلِكَ الْبَابِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ تَغْيِيرَ التَّصْنِيفِ خِلَافُ الصَّوَابِ، وَهَا أَنَا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ. «قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا نُكَفِّنُهُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةً» ، وَهِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ: شَمْلَةٌ مُخَطَّطَةٌ بِخُطُوطٍ بِيضٍ فِي سُودٍ، «كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا أَيْ: سَتَرْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:" ضَعُوهَا بِمَا يَلِي» أَيْ: يَقْرُبُ رَأْسَهُ، «وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرِ» " اهـ. وَهَذَا كَحَدِيثِهِ عَنْ حَمْزَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُمَا دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّ كَفَنَ الضَّرُورَةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى أَنَّ سَتْرَ جَمِيعِ الْمَيِّتِ وَاجِبٌ.

ص: 1186

الْفَصْلُ الثَّانِي

1638 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ ; فَإِنَّهَا مَنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ، وَمِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ ; فَإِنَّهُ يُنْبِتُ الشَّعَرَ، وَيَجْلُو الْبَصَرَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى " مَوْتَاكُمْ ".

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1638 -

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْبَسُوا) بِفَتْحِ الْبَاءِ، أَمْرُ نَدْبٍ. (مِنْ ثِيَابِكُمْ) : مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَوْ بَيَانِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ. (الْبَيَاضَ) أَيْ: ذَاتَ الْبَيَاضِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الْبِيضَ، فَلَا تَجُوزُ. (فَإِنَّهَا) أَيِ: الثِّيَابَ الْبِيضَ. (مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ) : الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ زَائِدَةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ اللَّوْنَ الْأَبْيَضَ أَفْضَلُ الْأَلْوَانِ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَبْيَضَ لَا يُسَمَّى مُلَوَّنًا، هَذَا وَقَدْ لَبِسَ عليه الصلاة والسلام غَيْرَ الْأَبْيَضِ كَثِيرًا لِبَيَانِ جَوَازِهِ أَوْ لِعَدَمِ تَيَسُّرِهِ. ( «وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» ) : الْأَمْرُ فِيهِ لِلِاسْتِحْبَابِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَحَبُّهَا الْبَيَاضُ، وَلَا بَأْسَ بِالْبُرْدِ وَالْكَتَّانِ لِلرِّجَالِ، وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ الْحَرِيرُ، وَالْمُزَعْفَرُ وَالْمُعَصْفَرُ اعْتِبَارًا لِلْكَفَنِ بِاللِّبَاسِ فِي الْحَيَاةِ. ( «وَمِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدُ» ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ، حَجَرٌ لِلْكُحْلِ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْأَصْفَهَانِيُّ. (فَإِنَّهُ يُنْبِتُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ. (الشَّعَرَ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا أَيْ: شَعَرَ الْهُدْبِ. (وَيَجْلُو الْبَصَرَ) أَيْ: يَزِيدُ نُورَهُ، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ النَّوْمِ اتِّبَاعًا لَهُ عليه الصلاة والسلام، وَلِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا، وَأَقْوَى سَرَيَانًا حِينَئِذٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَبْرَزَ الْأَوَّلَ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَأَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، وَأَخْبَرَ عَنِ الثَّانِي لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ مِنْ خَيْرِ دَأْبِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِمُنَاسَبَةِ الزِّينَةِ، يَتَزَيَّنُ بِهِمَا الْمُتَمَيِّزُونَ مِنَ الصُّلَحَاءِ اهـ.

وَفِيهِ إِشْعَارٌ مِنْهُ أَنَّ الِاكْتِحَالَ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ، وَتَبِعَهُ عِصَامُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَاظَبَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثًا، وَأَمَرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: بِاكْتَحِلُوا، وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ: بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ; فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ، الْبَسُوا، وَغَايَرَ مَعَ أَنَّ كُلًّا مَأْمُورٌ بِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمَأْمُورِ. بِخِلَافِ الْأَخِيرِ فَمَحَلُّ نَظَرٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَرُوِيَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَرَوَاهُ (ابْنُ مَاجَهْ إِلَى: " مَوْتَاكُمْ) ".

ص: 1187

1639 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَغَالَوْا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1639 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَغَالَوْا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ، أَيْ: لَا تُبَالِغُوا وَلَا تَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ. (فِي الْكَفَنِ) أَيْ: فِي كَثْرَةِ ثَمَنِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَصْلُ الْغَلَاءِ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: غَالَيْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، وَغَلَوْتُ فِيهِ أَغْلُو إِذَا جَاوَزْتُ فِيهِ الْحَدَّ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَدَّ الْوَسَطُ فِي الْكَفَنِ، وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ الْمُسْتَحْسَنُ. (فَإِنَّهُ يُسْلَبُ) أَيْ: يَبْلَى. (سَلْبًا سَرِيعًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتُعِيرَ السَّلْبُ لِبِلَى الثَّوْبِ مُبَالَغَةً فِي السُّرْعَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَقَالٌ، وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ، وَالْمُنْذِرِيُّ قَالَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ.

ص: 1187

1640 -

«وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الْمَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1640 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ. دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ جَدِيدٍ. (فَلَبِسَهَا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الْمَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا» )": فِي النِّهَايَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَمَّا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ فِي ظَاهِرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْكَفَنِ أَحَادِيثُ. قَالَ: وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمَعْنَى، وَأَرَادَ بِهِ الْحَالَةَ الَّتِي يَمُوتُ عَلَيْهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَمَلَهُ الَّذِي يَخْتِمُ. يُقَالُ: فُلَانٌ ظَاهِرُ الثِّيَابِ إِذَا وَصَفُوهُ بِطَهَارَةِ النَّفْسِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أَيْ: عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ دَنِسُ الثِّيَابِ إِذَا كَانَ خَبِيثَ النَّفْسِ وَالْمَذْهَبِ، وَهُوَ كَالْحَدِيثِ الْآخَرِ «يُبْعَثُ الْعَبْدُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» . قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْأَكْفَانِ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يُكَفَّنُ بَعْدَ الْمَوْتِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَنْ يَقْصُرُ فَهْمُهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَنِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، فَلَا يُعَدُّ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ سَمِعَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: "{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] فَعَمَدَ إِلَى عِقَالَيْنِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ، فَوَضَعَهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِهِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَقَالَ: الْبَعْثُ غَيْرُ الْحَشْرِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ مَعَ الثِّيَابِ وَالْحَشْرُ عَلَى الْعُرْيِ وَالْحِفَاءِ. قَالَ الشَّيْخُ: وَلَمْ يَصْنَعْ هَذَا الْقَائِلُ شَيْئًا، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ نَصَرَ السُّنَّةَ، وَقَدْ ضَيَّعَ أَكْثَرَ مِمَا حَفِظَ فَإِنَّهُ سَعَى فِي تَحْرِيفِ سُنَنٍ كَثِيرَةٍ لِيُسَوِّيَ كَلَامَ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَفْضَلِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ. وَقَالَ: إِنَّمَا هُمَا لِلْمُهْلِ وَالتُّرَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " «الْمَيِّتُ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا» " لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهَا عَلَى الْأَكْفَانِ ; لِأَنَّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ اهـ. وَفِيهِ: أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْمُهْلِ ابْتِدَاءً، وَكَلَامِ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى خَلْقِهِ انْتِهَاءً فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْقَاضِي: الْعَقْلُ لَا يَأْبَى حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَسَبَ مَا فَهِمَ مِنْهُ الرَّاوِي، إِذْ لَا يَبْعُدُ إِعَادَةُ ثِيَابِهِ الْبَالِيَةِ، كَمَا لَا يَبْعُدُ إِعَادَةُ عِظَامِهِ النَّاخِرَةِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى جَوَازِ إِعَادَةِ الْمَعْدُومِ لَا تَخْصِيصَ لَهُ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ:«يُحْشَرُ النَّاسُ عُرَاةً» حَمَلَ جُمْهُورَ أَهْلِ الْمَعَانِي، وَبَعَثَهُمْ عَلَى أَنْ أَوَّلُوا الثِّيَابَ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَمُوتُ عَلَيْهَا مِنَ الصَّالِحَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُلَابِسُهَا كَمَا يُلَابِسُ الْمَلَابِسَ، فَاسْتُعِيرَ لَهَا الثِّيَابُ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْحَشْرَ غَيْرُ الْبَعْثِ، فَجَازَ كَوْنُ هَذَا بِالثِّيَابِ، وَذَلِكَ بِالْعُرْيِ، أَوِ الْمُرَادُ اكْتِسَاؤُهُ بِهِ حِينَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحِسَابِ اهـ.

وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: يُحْشَرُونَ عُرَاةً أَوَّلًا، ثُمَّ يَلْبَسُونَ كَمَا وَرَدَ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا الْعُذْرَةُ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابِيِّ، فَأَنْ يُقَالَ عَرَفَ مَغْزَى الْكَلَامِ، لَكِنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِبْهَامِ، وَحَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِ مَا يَتَرَقَّبُ، وَنَحْوُهُ فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] حَيْثُ قَالَ: أَزِيدُ عَلَى السَبْعِينَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ اهـ.

وَيُمْكِنُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ أَيْضًا حَمَلَ الْمَحَلَّ عَلَى الْمَعْنَى، وَجَعَلَ تَبْدِيلَ ثِيَابِهِ الْوَسِخَةِ وَالْعَتِيقَةِ، بِثِيَابِهِ النَّظِيفَةِ أَوِ الْجَدِيدَةِ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ، فَإِنَّهُ اسْتِقْبَالٌ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُكَرَّمَةِ، وَتَهَيُّؤٌ لِلْقُدُومِ عَلَى أَرْوَاحِ الْحَضَرَاتِ الْمُعَظَّمَةِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الطَّهَارَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ أُعْطِيَ الشَّهَادَةَ» " فَالنَّظَافَةُ الظَّاهِرَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ بَلِيغٌ فِي اسْتِجْلَابِ الطَّهَارَةِ الْبَاطِنَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ يُبْعَثُ عَلَى عَمَلِهِ الَّذِي يَخْتِمُ بِهِ إِلَّا هَذَا بِأَنْ يَكُونَ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَةِ، وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَالتَّسْلِيمِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ الْكَرِيمِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِفَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمَا مَا وَصَّى أَنْ تُجْعَلَ تِلْكَ الثِّيَابُ أَكْفَانًا لَهُ، مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّ الْمَلْبُوسَ أَوْلَى.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنْ مَذْهَبِنَا ; لِأَنَّ مَآلَهُ لِلْبِلَى، وَيُؤَيِّدُهُ مَا صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ اخْتَارَ الْخَلِقَ. وَقَالَ: الْحَيُّ أَوْلَى بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكَفَنَ إِنَّمَا هُوَ لِدَمِ الْمَيِّتِ وَصَدِيدِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَوَاضُعٌ مِنْهُ، وَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى جَوَازِ كَفَنِ الْخَلِقِ أَيْضًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرَوَى الْمَرْفُوعَ مِنْهُ فَقَطِ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

ص: 1188

1641 -

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «خَيْرُ الْكَفَنِ الْحُلَّةُ، وَخَيْرُ الْأُضْحِيَةِ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1641 -

(وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «خَيْرُ الْكَفَنِ الْحُلَّةُ» )" أَيِ: الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ فَوْقَ الْقَمِيصِ، وَهُوَ كَفَنُ السُّنَّةِ أَوْ بِدُونِهِ، وَهُوَ كَفَنُ الْكِفَايَةِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْحُلَّةُ وَاحِدُ الْحُلَلِ، وَهِيَ بُرُودُ الْيَمَنِ، وَلَا يُسَمَّى حُلَّةً حَتَّى يَكُونَ ثَوْبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ اهـ. وَهِيَ نَوْعٌ مُخَطَّطٌ مِنْ ثِيَابِ الْقُطْنِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ. قَالَ الْمُظْهِرُ: اخْتَارَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَبْيَضَ أَفْضَلُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «كُفِّنَ فِي السَّحُولِيَّةِ» . وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمُ» اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحُلَّةَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى اخْتِيَارِ الْبِيضِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي الْحُلَّةِ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ يَوْمَئِذٍ أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ. ("«وَخَيْرُ الْأُضْحِيَةِ الْكَبْشُ الْأَقْرَنُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ فَضِيلَةَ الْكَبْشِ الْأَقْرَنِ عَلَى غَيْرِهِ لِعِظَمِ جُثَّتِهِ، وَسِمَنِهِ فِي الْغَالِبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ.

ص: 1189

1642 -

وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ.

ــ

1642 -

(وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ: وَقَالَ غَرِيبٌ. (وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: كِلَاهُمَا. (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) : رضي الله عنه.

ص: 1189

1643 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1643 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ) : جَمْعُ قَتِيلٍ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى " فِي " أَيْ: أَمَرَنِي فِي حَقِّهِمْ. (أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ) أَيِ: السِّلَاحُ وَالدُّرُوعُ. (وَالْجُلُودُ) : مِثْلُ الْفَرْوِ وَالْكِسَاءِ غَيْرِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ. (وَأَنْ يُدْفَنُوا بِثِيَابِهِمْ وَدِمَائِهِمْ) أَيِ: الْمُتَلَطِّخَةِ بِالدَّمِ، ثُمَّ لَا يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِكَرَمِهِ، فَإِنَّهُ مَغْفُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُغَسَّلُ، وَلَكِنْ يُصَلَّى ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ تَعْلِيلِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ أَبُو عَاصِمٍ الْوَاسِطِيُّ ضَعَّفُوهُ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ تَغَيَّرَ بِآخِرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي تَرْكِ غُسْلِ الشَّهِيدِ أَحَادِيثُ. مِنْهَا: مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ وَيَقُولُ: " أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ " فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ» . زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ. قَالَ النَّسَائِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ اللَّيْثَ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَفَرُّدُ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.

ثُمَّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ مَا فِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ جَابِرٍ:«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» ، وَهَذَا مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ عِنْدَنَا، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ مُثْبِتٌ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ نَافٍ، وَنَمْنَعُ أَصْلَ الْمُخَالِفِ فِي تَضْعِيفِ الْمُرْسَلِ، وَلَوْ سَلِمَ فَعِنْدَهُ إِذَا اعْتَضَدَ بِرَفْعِ مَعْنَاهُ قُبِلَ.

وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «فَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ حِينَ فَاءَ النَّاسُ مِنَ الْقِتَالِ فَقَالَ رَجُلٌ: رَأَيْتُهُ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، فَلَمَّا رَآهُ وَرَأَى مَا مُثِّلَ بِهِ شَهِقَ» أَيْ: تَرَدَّدَ الْبُكَاءُ فِي صَدْرِهِ كَمَنَعَ وَضَرَبَ وَسَمِعَ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ. وَبَكَى، «فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَمَى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، ثُمَّ جِيءَ بِحَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ بِالشُّهَدَاءِ فَيُوضَعُونَ إِلَى جَانِبِ حَمْزَةَ، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُرْفَعُونَ وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ حَتَّى صَلَّى عَلَى الشُّهَدَاءِ كُلِّهِمْ» .

ص: 1189

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: " «حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " مُخْتَصَرٌ. وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَفِي سَنَدِهِ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، فَلَا يَقْصُرُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَهُوَ حُجَّةٌ اسْتِقْلَالًا، فَلَا أَقَلَّ مِنْ صَلَاحِيَتِهِ عَاضِدًا لِغَيْرِهِ.

وَأَسْنَدَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ النِّسَاءُ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ يُجْهِزْنَ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ، وَجِيءَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَوُضِعَ فِي جَنْبِهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَرُفِعَ الْأَنْصَارِيُّ وَتُرِكَ حَمْزَةُ ثُمَّ جِيءَ بِآخَرَ، فَوُضِعَ إِلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ فَصَلَّى عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ صَلَاةً» ، وَهَذَا لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ.

وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ قَتْلَى أُحُدٍ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمْزَةَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَكَانَتِ الْقَتْلَى يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ» ، وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْزِلُ عَنِ الْحَسَنِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْكُلُّ ضَعِيفًا ارْتَقَى الْحَاصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ.

ص: 1190

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1644 -

عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، وَأَرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا، وَلَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1644 -

(عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: إِبْرَاهِيمَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ أَيْ: جِيءَ. (بِطَعَامٍ) أَيْ: لِلْإِفْطَارِ. (وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي) : قَالَهُ تَوَاضُعًا وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثِيَّةِ اخْتِيَارِ الْفَقْرِ وَالصَّبْرِ، وَإِلَّا فَقَدَ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّ الْعَشَرَةَ الْمُبَشَّرَةَ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ. (كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ. (إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ) أَيْ: سُتِرَ بِهَا. (بَدَتْ) أَيْ: ظَهَرَتْ. (رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ) : وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِهِ جَامِعِ الْمَنَاقِبِ: أَنَّهُ غُطِّيَ بِهَا رَأْسُهُ، وَجُعِلَ عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرُ. (أُرَاهُ) أَيْ: أَظُنُّهُ. (قَالَ) أَيْ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ. (وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي) : مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ فِي رِكَابِهِ عليه الصلاة والسلام، أَوِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ الْفَقْرَ، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِيَ مِنْهُمَا قَوْلُهُ:(ثُمَّ بُسِطَ) أَيْ: وُسِّعَ وَكُثِّرَ. (لَنَا) : أَرَادَ نَفْسَهُ، وَبَقِيَّةَ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ اتَّسَعَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا بِوَاسِطَةِ الْغَنَائِمِ أَوِ التِّجَارَةِ. (مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا) مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا: وَفِي نُسْخَةٍ: مَا أُعْطِينَاهُ أَيْ: مِنَ الْمَالِ الْكَثِيرِ. (وَلَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ) : بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ. (حَسَنَاتُنَا) أَيْ: ثَوَابُهَا. (عُجِّلَتْ) أَيْ: أُعْطِيَتْ عَاجِلًا. (لَنَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: خِفْنَا أَنْ نَدْخُلَ فِي زُمْرَةِ مَنْ قِيلِ فِيهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] اهـ. أَوْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] . كَمَا صَدَرَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ، وَهَذَا لَمَّا كَانَ الْخَوْفُ غَالِبًا عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَمَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى: مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْعَاجِلَةَ وَلَمْ يُرِدْ غَيْرَهَا تَفَضَّلْنَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مَا نَشَاءُ لَا مَا يَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ لَا لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ، وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ: أَذْهَبْتُمْ مَا كُتِبَ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَيْ: أَذْهَبْتُمُوهُ فِي دُنْيَاكُمْ، فَلَمْ يَبْقَ لَكُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَظِّكُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ بِالْحَظِّ الِاسْتِمْتَاعُ بِاللَّهْوِ وَالتَّنَعُّمِ الَّذِي يَشْغَلُ الرَّجُلَ الِالْتِذَاذُ بِهِ عَنِ الدِّينِ وَتَكَالِيفِهِ، حَتَّى يَعْكُفَ مِنْهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، وَلَمْ يَعِشْ إِلَّا لِيَأْكُلَ الطَّيِّبَ، وَيَلْبَسَ اللَّيِّنَ، وَيَقْطَعَ أَوْقَاتَهُ بِاللَّهْوِ وَالطَّرَبِ، وَلَا يَعْبَأُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَا يَحْمِلُ عَلَى النَّفْسِ مَشَاقَّهَا، وَأَمَّا التَّمَتُّعُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَأَرْزَاقِهِ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْهَا إِلَّا لِعِبَادِهِ، وَيَقْوَى بِهَا عَلَى دِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَالْقِيَامِ بِالْعَمَلِ، وَكَانَ نَاهِضًا بِالشُّكْرِ، فَهُوَ عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ. وَقَدْ رُوِيَ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ أَيْ: تَمْرًا، وَشَرِبُوا عَلَيْهِ مَاءً، فَقَالَ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» . (ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي) أَيْ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ. (حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ) أَيْ: مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْخَوْفَ إِذَا غَلَبَ مَنَعَ الْمَيْلَ إِلَى اللَّذَّةِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُ الشَّهْوَةُ بِالْمَرَّةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 1190