المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب القصد في العمل] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

- ‌[بَابُ الْمَوْقِفِ]

- ‌[بَابُ الْإِمَامَةِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ]

- ‌[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ]

- ‌[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[بَابُ الْوَتْرِ]

- ‌[بَابُ الْقُنُوتِ]

- ‌[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى]

- ‌[بَابُ التَّطَوُّعِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ وُجُوبِهَا]

- ‌[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

- ‌[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَتِيرَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

- ‌[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ]

- ‌[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [

- ‌بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

- ‌[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

- ‌[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

- ‌[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

الفصل: ‌[باب القصد في العمل]

1240 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ أَبَاهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ، يَقُولُ لَهُمْ: الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

1240 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : وَفِي نُسْخَةٍ ضَعِيفَةٍ: عَنْهُمَا، وَهُوَ مُوهِمٌ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ عُمَرُ وَابْنُهُ لَا عُمَرُ وَأَبُوهُ. (كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ) ، أَيْ مِنْ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، أَوْ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْأَوْقَاتِ (حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ) : لِيَنْتَفِعُوا بِمَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ (يَقُولُ لَهُمْ: الصَّلَاةَ) : مَنْصُوبَةٌ بِتَقْدِيرِ أَقِيمُوا أَوْ صَلُّوا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِمَعْنَى: حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132] : وَهِيَ بِعُمُومِهَا تَشْمَلُ صَلَاةَ اللَّيْلِ {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، أَيْ: بَالِغْ فِي الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِ مَشَقَّاتِهَا وَمَشَاقِّ أَمْرِ أَهْلِكَ بِهَا، فَأَقْبِلْ أَنْتَ مَعَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى غِنَى فَقْرِكُمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَلَا تَهْتَمَّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ، وَفَرِّغْ قَلْبَكَ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ ; لِأَنَّا لِعَظَمَتِنَا وَقُدْرَتِنَا عَلَى رِزْقِ الْعِبَادِ. {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه: 132] ، أَيْ: تَحْصِيلَ رِزْقٍ لَكَ وَلَا لِغَيْرِكَ {نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] : كَمَا نُرْزَقُ غَيْرَكَ (وَالْعَاقِبَةُ) ، أَيِ الْمَحْمُودَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى (لِلتَّقْوَى)، أَيْ: لِأَرْبَابِ التُّقَى مِنْ أُولِي النُّهَى الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصِ، الْوَاصِلِينَ إِلَى مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَصَابَتْهُ خَصَاصَةٌ قَالَ: قُومُوا فَصَلُّوا، بِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 932

[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1241 -

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى يُظَنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى يُظَنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

[34]

بَابُ الْقَصْدِ

أَيِ: الِاقْتِصَادُ وَالتَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (فِي الْعَمَلِ)، أَيْ: عَمَلُ النَّوَافِلِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1241 -

(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ أَيَّامًا كَثِيرَةً (حَتَّى نَظُنَّ)، أَيْ: نَحْنُ، وَفِي نُسْخَةٍ: يُظَنُّ بِالتَّحْتَانِيَّةِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ بِالْمُثَنَّاةِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ. (أَنْ لَا يَصُومَ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ، وَوَجْهُهُ أَنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الْمُثَقَّلَةِ (مِنْهُ)، أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ (شَيْئًا) : يَعْنِي يُفْطِرُ كَثِيرًا مِنَ الشَّهْرِ، حَتَّى نَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَصُومُ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ يَصُومُ بَاقِيَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، (وَيَصُومُ)، أَيْ: وَكَذَا يَصُومُ كَثِيرًا، أَيْ مِنْ ذَلِكَ الشَّهْرِ، أَوْ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ (حَتَّى نَظُنَّ) : بِالْوَجْهَيْنِ (أَنْ لَا يُفْطِرَ) : بِالْإِعْرَابَيْنِ (مِنْهُ)، أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ (شَيْئًا)، أَيْ: ثُمَّ يَصُومُ بَاقِيَهُ (وَكَانَ لَا تَشَاءُ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: " لَا " بِمَعْنَى " لَيْسَ " أَوْ بِمَعْنَى " لَمْ "، أَيْ لَسْتَ تَشَاءُ، أَوْ لَمْ تَكُنْ تَشَاءُ، أَوْ لَا زَمَانَ تَشَاءُ، أَوْ لَا مِنْ زَمَانٍ تَشَاءُ (أَنْ تَرَاهُ)، أَيْ: رُؤْيَتُهُ فِيهِ (مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ)، أَيْ: نَائِمًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ قَالَهُمَا ابْنُ الْمَلَكِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا، وَكَذَا قَدَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ)، أَيْ: نَائِمًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَلَكِ يُقَدَّرُ مُصَلِّيًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا التَّرْكِيبُ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْبَدَلِ، وَتَقْدِيرُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ تَشَأْ رُؤْيَتَهُ مُتَهَجِّدًا رَأَيْتَهُ مُتَهَجِّدًا، وَإِنْ تَشَأْ رُؤْيَتَهُ نَائِمًا رَأَيْتَهُ نَائِمًا، أَيْ: كَانَ أَمْرُهُ قَصْدًا لَا إِسْرَافَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ، يَنَامُ فِي وَقْتِ النَّوْمِ وَهُوَ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَيَتَهَجَّدُ فِي وَقْتِهِ وَهُوَ آخِرُهُ، وَعَلَى هَذَا حِكَايَةُ الصَّوْمِ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ عَلَى مَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَصُومُ النَّهَارَ أَبَدًا وَلَا أُفْطِرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

قُلْتُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ أَنَسٍ، «سُئِلَ عَنْ صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَانَ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَرَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ، وَيُفْطِرُ مِنْهُ حَتَّى نَرَى أَنْ لَا يُرِيدَ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكُنْتَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا، وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا» . اهـ. وَبِهَذَا اتَّضَحَ تَصْوِيبُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ سَابِقًا.

ص: 932

1242 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1242 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ ")، أَيِ: الْأَوْرَادُ (" إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا ") ; لِأَنَّ النَّفْسَ تَأْلَفُ لَهُ وَتُدَاوِمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: بِهَذَا الْحَدِيثِ يُنْكِرُ أَهْلُ التَّصَوُّفِ تَرْكَ الْأَوْرَادِ، كَمَا يُنْكِرُونَ تَرْكَ الْفَرَائِضِ. اهـ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو فِيمَا قَبْلَ الْبَابِ، وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي يَلِي هَذَا الْحَدِيثَ أَظْهَرُ، إِنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَقَدْ يُوَجَّهُ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الطَّاعَةَ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَكَأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ عِبَادَةِ الْمَوْلَى، فَيَسْتَحِقُّ الْمَقْتَ بِخِلَافِ الْمُدَاوِمِ عَلَى الْبَابِ حَيْثُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجْعَلَ مِنَ الْأَحْبَابِ، وَيُعَدَّ مِنْ أَرْبَابِ أُولِي الْأَلْبَابِ، (" وَإِنْ قَلَّ ")، أَيْ: وَلَوْ قَلَّ الْعَمَلُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ مَعَ الْمُدَاوَمَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ مَعَ تَرْكِ الْمُرَاعَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : فِي الْأَزْهَارِ: هَذَا مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: الدَّائِمُ. اهـ. فَتَكُونُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ نَحْوَ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي الْمَعْنَى.

ص: 933

1243 -

وَعَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1243 -

(" وَعَنْهَا ")، أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ ")، أَيِ: الْأَوْرَادِ مِنَ الْأَذْكَارِ وَسَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ (" مَا تُطِيقُونَ ")، أَيِ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَا تَحْمِلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْرَادًا كَثِيرَةً بِحَيْثُ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى مُدَاوَمَتِهَا فَتَتْرُكُونَهَا، (" فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ ") : قَالَ: ابْنُ الْمَلَكِ: مَعْنَى الْمَلَالِ مِنَ اللَّهِ تَرْكُ إِعْطَاءِ الثَّوَابِ، (" حَتَّى تَمَلُّوا ")، أَيْ: تَتْرُكُوا عِبَادَتَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْرِضُ عَنْكُمْ إِعْرَاضَ الْمَلُولِ عَنِ الشَّيْءِ، وَلَا يَقْطَعُ عَنْكُمُ الثَّوَابَ وَالرَّحْمَةَ مَا بَقِيَ لَكُمْ نَشَاطُ الطَّاعَةِ، وَقِيلَ: لَا يَتْرُكُ فَضْلَهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا سُؤَالَهُ، وَذُكِرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ لِلِازْدِوَاجِ مِثْلَ {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، وَإِلَّا فَالْمَلَالُ وَهُوَ فُتُورٌ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ مِنْ كَثْرَةِ مُزَاوَلَةِ شَيْءٍ فَيُوجِبُ الْكَلَالَ فِي الْفِعْلِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ مُسْتَحِيلٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

ص: 933

1244 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، وَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1244 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ")، أَيْ: وَقْتَ نَشَاطِهِ وَزَمَانَ انْبِسَاطِهِ أَوْ صَلَاتِهِ الَّتِي يَنْشَطُ فِيهَا، (" وَإِذَا فَتَرَ ")، أَيْ: ضَعُفَ أَوِ انْقَبَضَ وَزَالَ نَشَاطُهُ، وَأَحَسَّ بِكَلَالٍ أَوْ تَعَبٍ، (" فَلْيَقْعُدْ ")، أَيْ: عَنِ الْقِيَامِ بِالْعِبَادَةِ، وَفِي الْعُدُولِ عَنْ (لِيَتْرُكْ) نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: لِيُصَلِّ قَائِمًا، وَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ مُصَلِّيًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ سَالِكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعِبَادَةِ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَيَخْتَارَ سَبِيلَ الِاقْتِصَادِ فِي الطَّاعَةِ، وَيَحْتَرِزَ عَنِ السُّلُوكِ عَنْ وَجْهِ السَّآمَةِ وَالْمَلَالَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَاجَى عَنْ مَلَالَةٍ وَكَسَالَةٍ، وَإِذَا فَتَرَ وَضَعُفَ قَعَدَ عَنِ الْقِيَامِ، وَاشْتَغَلَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَنَامِ عَلَى قَصْدِ حُصُولِ النَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ طَاعَةً، وَإِنْ كَانَ مِنْ أُمُورِ الْعَادَةِ، وَلِذَا قِيلَ: نَوْمُ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِعَائِشَةَ:" «كَلِّمِينِي يَا حُمَيْرَاءُ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

ص: 933

1245 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ; فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1245 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا نَعَسَ ") : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُكْسَرُ (" أَحَدُكُمْ ") : وَالنُّعَاسُ أَوَّلُ النَّوْمِ وَمُقَدِّمَتُهُ (" وَهُوَ يُصَلِّي ") : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (" فَلْيَرْقُدْ ") : الْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ، (" حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ")، أَيْ: ثِقَلُهُ (" فَإِنَّ أَحَدَكُمْ ") : عِلَّةٌ لِلرُّقَادِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ (" إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي ") : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَعْلَمُ مَاذَا يَصْدُرُ عَنْهُ، وَمَا يَقُولُ مِنْ غَلَبَةِ النَّوْمِ. (" لَعَلَّهُ ") : اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِمَا قَبْلَهُ (" يَسْتَغْفِرُ ")، أَيْ: يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ (" فَيَسُبَّ ") : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (" نَفْسَهُ ")، أَيْ: مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، أَيْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اعْفِرْ، وَالْعَفْرُ هُوَ التُّرَابُ فَيَكُونُ دُعَاءً عَلَيْهِ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ. اهـ. وَهُوَ تَصْوِيرُ مِثَالٍ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ إِلَيْهِ التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَسْتَغْفِرُ، وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلتَّرَجِّي، وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّ أَصْلَ الْمِشْكَاةِ بِالْوَجْهَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى النَّصْبِ وَجُوِّزَ الرَّفْعُ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ، فَالرَّفْعُ لَيْسَ مِنَ الْأُصُولِ وَلَا رِوَايَةً مِنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي (فَيَسُبَّ) لِلسَّبَبِيَّةِ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ} [القصص: 8] قَالَ الْمَالِكِيُّ: يَجُوزُ فِي (فَيَسُبَّ) الرَّفْعُ بِاعْتِبَارِ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالنَّصْبُ بِاعْتِبَارِ جَعْلِ (فَيَسُبَّ) جَوَابًا لِلْفِعْلِ، فَإِنَّهَا مِثْلُ لَيْتَ فِي اقْتِضَائِهَا جَوَابًا مَنْصُوبًا. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَعَلَّهُ يَزَّكَّى - أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 3 - 4] نَصَبَهُ عَاصِمٌ وَرَفَعَهُ الْبَاقُونَ اهـ كَلَامُهُ. قِيلَ: بِالنَّصْبِ أَوْلَى لِمَا مَرَّ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى لَعَلَّهُ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ لِذَنْبِهِ الْغُفْرَانَ لِيَصِيرَ مُزَكًّى، فَيَتَكَلَّمُ بِمَا يَجْلِبُ الذَّنْبَ فَيَزِيدُ الْعِصْيَانُ فَكَأَنَّهُ سَبَّ نَفْسَهُ. اهـ.

وَلَا يَبَعُدُ أَنْ يَسُبَّ نَفْسَهُ حَقِيقَةً، مَعَ أَنَّ ارْتِكَابَ الْعِصْيَانِ وَلَوْ حَالَ نُعَاسِهِ أَعْظَمُ مِنْ سَبِّ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَأَسَاسِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 934

1246 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا [وَقَارِبُوا] ، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

ــ

1246 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الدِّينَ ") : وَهُوَ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ (" يُسْرٌ ")، أَيْ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْيُسْرِ، وَقِيلَ:(يُسْرٌ) مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ مُبَالَغَةً ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ تَعَالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَالَ عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» ". وَأَمَّا حَدِيثُ: «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ» ، فَلَا أَصْلَ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ، (" وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ ")، أَيْ: وَلَنْ يُقَاوِمَهُ أَحَدٌ بِشِدَّةٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَعَمَّقَ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلَرُبَّمَا يَغْلِبُهُ مَا تَحَمَّلَهُ مِنَ الْكُلْفَةِ، فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ مَا كُلِّفَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:(" إِلَّا غَلَبَهُ ")، أَيْ: إِلَّا غَلَبَ الدِّينُ عَلَيْهِ. وَالْمُشَادَّةُ: التَّشَدُّدُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يُشَادُّهُ، أَيْ: لَنْ يُبَالِغَ فِي تَشْدِيدِ الدِّينِ الْمَيْسُورِ أَحَدٌ يَسْتَقِرُّ عَلَى وَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ إِلَّا عَلَى وَصْفِ كَوْنِهِ قَدْ غَلَبَهُ ذَلِكَ الدِّينُ حَيْثُ كُثْرِهِ مَعَ يُسْرِهِ، وَقَصَدَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ عَلَى مَا شُرِعَ لَهُ تَهَوُّرًا، وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعَهَا مَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ مَآلَ أَمْرِهِ إِلَى أَنْ يَفْتُرَ وَيَعْجِزَ عَنْهَا وَيَعُودَ مَلُومًا مُقَصِّرًا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ أَشَدُّ إِنْكَارِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى قَوْمٍ أَرَادُوا التَّشْدِيدَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا مَرَّ.

وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لَمَّا كَبِرَ وَضَعُفَ عَمَّا كَانَ أَوْصَاهُ بِهِ عليه السلام مِنْ أَعْمَالٍ ذَكَرَ لَهُ عليه الصلاة والسلام مُعْتَدِلَهَا، فَأَبَى إِلَّا مُشِقَّهَا: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. (" فَسَدِّدُوا ")، أَيِ: الْزَمُوا طَرِيقَ الِاقْتِصَارِ،

ص: 934

وَاطْلُبُوا سَبِيلَ السَّدَادِ مِنَ الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، (" وَقَارِبُوا ")، أَيِ: الْأَمْرَ بِالسُّهُولَةِ وَلَا تُبَاعِدُوهُ بِالْكُلْفَةِ وَالصُّعُوبَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، يَعْنِي: إِذَا بَيَّنْتُ لَكُمْ مَا فِي الْمُشَادَّةِ مِنَ الْوَهَنِ فَسَدِّدُوا، أَيِ: اطْلُبُوا السَّدَادَ وَهُوَ الْقَصْدُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا مَيْلَ فِيهِ، (وَقَارِبُوا) تَأْكِيدٌ لِلتَّسْدِيدِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، يُقَالُ: قَارَبَ فُلَانٌ فِي أُمُورِهِ: إِذَا اقْتَصَدَ (" وَأَبْشِرُوا ")، أَيْ: بِالْجَنَّةِ وَالسَّلَامَةِ وَبِكُلِّ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْجَزِيلَ عَلَى عَمَلِ الْقَلِيلِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ، وَجَاءَ فِي لُغَةٍ: ابْشُرُوا بِضَمِّ الشِّينِ مِنَ الْبِشْرِ بِمَعْنَى الْإِبْشَارِ. (" وَاسْتَعِينُوا ") : عَلَى أَمْرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ بَيْنِ الْأَوْقَاتِ (" بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ ") : بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ فِيهِمَا، وَبِضَمِّ الْكَلِمَةِ الْأُولَى، أَيْ: بِالسَّيْرِ فِي السُّلُوكِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، وَهُمَا زَمَانُ الرَّاحَاتِ وَالْغَفَلَاتِ، (" وَشَيْءٍ ") : وَبِشَيْءٍ وَلَوْ قَلِيلٍ (" مِنَ الدُّلْجَةِ ") : بِضَمِّ الدَّالِّ وَتُفْتَحُ مَعَ سُكُونِ اللَّامِ: آخِرُ اللَّيْلِ، وَهُوَ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ وَأَكْمَلُ الْحَالَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْغُدْوَةُ بِالضَّمِّ: مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدْوَةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ مِنَ الْغُدُوِّ، وَهُوَ سَيْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ نَقِيضُ الرَّوَاحِ، وَالدُّلْجَةُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ اسْمٌ مِنِ ادَّلَجَ بِالتَّشْدِيدِ: إِذَا سَارَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ اسْتُعِيرَتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ لِلصَّلَاةِ فِيهَا. اهـ.

وَقِيلَ: الدُّلْجَةُ مِنَ الْإِدْلَاجِ بِسُكُونِهِ، وَهُوَ سَيْرُ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَالْمُرَادُ بِهِ إِحْيَاءُ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، وَهُوَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ، أَوِ الْمَعْنَى: اسْتَعِينُوا بِالطَّاعَةِ عَلَى تَحْصِيلِ الْجَنَّةِ، وَالْمَثُوبَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ فِي غَيْرِهَا حَتَّى لَا تَكْسَلُوا وَلَا تَتْعَبُوا وَلَا تَمَلُّوا وَلَا تَخْلُوا، وَقِيلَ: اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ، وَاسْتِنْجَاحِ مَقَاصِدِكُمْ بِالصَّلَاةِ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ بِرِفْقٍ وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ، أَيِ: الْمُكَلِّفُ دَابَّتَهُ طَاقَتَهَا لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى. اهـ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْمُنْبَتُّ الَّذِي انْقَطَعَ بِهِ فِي سَفَرِهِ وَعَطَبَتْ رَاحِلَتُهُ، وَالْفِعْلُ انْبَتَّ مُطَاوِعُ بَتَّ مِنَ الْبَتِّ: الْقَطْعُ.

ص: 935

1247 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1247 -

(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ ")، أَيْ: عَنْ وِرْدِهِ يَعْنِي عَنْ تَمَامِهِ (" أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ")، أَيْ: مِنْ حِزْبِهِ يَعْنِي عَنْ بَعْضِ وِرْدِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوِ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ، وَفِي مَعْنَاهُ الصَّلَاةُ. (" فَقَرَأَ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ ") : جَوَابُ الشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ:(" كَأَنَّمَا قَرَأَهُ ") : صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أُثْبِتَ أَجْرَهُ فِي صَحِيفَةِ عَمَلِهِ إِثْبَاتًا مِثْلَ إِثْبَاتِهِ حِينَ قَرَأَهُ (" مِنَ اللَّيْلِ ") : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا ; لِأَنَّ مَا قَبْلَ الظُّهْرِ كَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ اللَّيْلِ، وَلِذَا يَجُوزُ الصَّوْمُ بِنَيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ تَقْيِيدَ نِيَّةِ الصَّوْمِ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ اللَّيْلِ، بَلْ لِتَقَعَ النِّيَّةُ فِي أَكْثَرِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ، وَالْمُرَادُ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ هُوَ الضَّحْوَةُ الْكُبْرَى، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62] قَالَ الْقَاضِي، أَيْ ذَوِي خِلْفَةٍ يَخْلُفُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ فِي أَحَدِهِمَا تَدَارَكَهُ فِي الْآخَرِ. اهـ. وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَسَلْمَانَ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ.

وَأَخْرَجَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَجَزَ بِاللَّيْلِ كَانَ لَهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مُسْتَعْتَبٌ، وَمَنْ عَجَزَ بِالنَّهَارِ كَانَ لَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ مُسْتَعْتَبٌ. اهـ. فَتَخْصِيصُهُ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ مَعَ شُمُولِ الْآيَةِ النَّهَارَ بِالْكَمَالِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُبَادَرَةِ بِقَضَاءِ الْفَوْتِ قَبْلَ إِتْيَانِ الْمَوْتِ، فَإِنَّ فِي التَّأْخِيرِ آفَاتٍ خُصُوصًا فِي حَقِّ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، أَوْ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَضَاءِ أَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْقَضَاءِ، أَوْ لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ لِاجْتِمَاعِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ قَائِلَهُ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ.

ص: 935

1248 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

1248 -

(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : مُصَغَّرًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " صَلِّ ")، أَيِ: الْفَرْضَ (" قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ")، أَيِ: الْقِيَامَ (" فَقَاعِدًا ") : أَيْ: فَصَلِّ قَاعِدًا، (" فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ")، أَيِ: الْقُعُودَ (" فَعَلَى جَنْبٍ ")، أَيْ: فَصَلِّ مُضْطَجِعًا مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّحَوُّلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُسَاعِدٌ عَلَى التَّحْوِيلِ، فَيَجُوزُ فَإِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ:" صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ ". زَادَ النَّسَائِيُّ: " فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ". اهـ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِلْقَاءَ فِي مَذْهَبِنَا أَفْضَلُ مِنَ الِاضْطِجَاعِ، وَمَعْنَى الِاسْتِلْقَاءِ أَنْ يَرْتَمِيَ عَلَى وِسَادَةٍ تَحْتَ كَتِفَيْهِ مَادًّا رِجْلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْإِيمَاءِ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الِاسْتِلْقَاءِ تَمْنَعُ الصَّحِيحَ مِنْ إِيمَاءٍ، فَكَيْفَ الْمَرِيضُ؟ كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَنْتَهِضُ حَدِيثُ عِمْرَانَ حُجَّةً عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لَهُ، وَكَانَ مَرَضُهُ الْبَوَاسِيرَ وَهُوَ يَمْنَعُ الِاسْتِلْقَاءَ فَلَا يَكُونُ خِطَابُهُ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَلْقَى تَقَعُ إِشَارَتُهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَبِهِ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِخِلَافِ الْآخَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَقَّقَهُ مُسْتَلْقِيًا كَانَ سُجُودًا وَرُكُوعًا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلَوْ أَتَمَّهُ عَلَى جَنْبٍ كَانَ إِلَى غَيْرِ جِهَتِهَا، وَبِمَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام:«يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى مُسْتَلْقِيًا رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ» . وَلَمَّا كَانَتِ الْقُدْرَةُ شَرْطًا فِي الْفَرْضِ وَسَقَطَ بِالضَّرَرِ، فَفِي النَّفْلِ أَوْلَى، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَوْعِ مُنَاسَبَةٍ لِلْبَابِ.

ص: 936

1249 -

وَعَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا، قَالَ:" إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

1249 -

(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنْ عِمْرَانَ (أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ)، أَيْ: نَفْلُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ (قَاعِدًا، قَالَ: " إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ ") : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا صَلَاةُ الْفَرْضِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ فَبَاطِلَةٌ إِجْمَاعًا، بَلْ مِنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْقِيَامِ كَفَرَ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، (" وَمَنْ صَلَّى ")، أَيِ: النَّافِلَةَ (" قَاعِدًا ")، أَيْ: بِغَيْرِ عُذْرٍ كَمَا قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، (" فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ ; لِأَنَّ الْمُتَنَفِّلَ قَاعِدًا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ يَكُونُ ثَوَابُهُ كَثَوَابِهِ قَائِمًا. اهـ. وَمَحَلُّهُ أَنَّ نِيَّتَهُ لَوْلَا الْعُذْرُ لَفَعَلَ لِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: إِنَّ الْعُذْرَ يُلْحِقُ صَاحِبَهُ التَّارِكَ لِأَجْلِهِ بِالْفَاعِلِ فِي الثَّوَابِ، (" وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا ")، أَيْ: مُسْتَلْقِيًا أَوْ عَلَى جَنْبٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: مُضْطَجِعًا، أَيْ: لِغَيْرِ عُذْرٍ (" فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ ") .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، أَمَّا هُوَ فَمِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّ تَطَوُّعَهُ غَيْرَ قَائِمٍ كَهُوَ قَائِمًا ; لِأَنَّ الْكَسَلَ مَأْمُونٌ فِي حَقِّهِ. قُلْتُ: كَوْنُهُ مِنَ الْخَصَائِصِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الْبَشَرِيَّةِ أَنَّهُ يُشَارِكُ نَوْعَهُ، نَعَمْ هُوَ مَأْمُونٌ مِنَ الْكَسَلِ الْمَانِعِ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَمْنُهُ مِنْ مُطْلَقِ الْكَسَلِ فَمَحَلُّ بَحْثٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْكَسَلِ عَدَمُ الضَّعْفِ وَالْعُذْرُ أَعَمُّ مِنْهُمَا ; إِذْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنَ الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ:{طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2]، أَيْ: لِتَتْعَبَ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ، أَيِ النَّافِلَةِ وَهُوَ جَالِسٌ» ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْمُ، أَوْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] فَلَا بُدَّ لِلتَّخْصِيصِ مِنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ مُشَارَكَتُهُ عليه الصلاة والسلام مَعَ أُمَّتِهِ فِي الْأَحْكَامِ، نَعَمِ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِأَنَّ ثَوَابَهُ لَا يَنْقُصُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ قَاعِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ أَبَدًا، فَلَا يَكُونُ مِثْلَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُصَلِّي قَاعِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 936

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّطَوُّعَ نَائِمًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ؟ فَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى جَوَازِهِ وَأَجْرُهُ نِصْفُ الْقَاعِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْأَوْلَى لِثُبُوتِهِ فِي السُّنَّةِ. اهـ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ فِي حَقِّ الْمُفْتَرِضِ الْمَرِيضِ الَّذِي أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ، أَوِ الْقُعُودُ مَعَ شِدَّةٍ وَزِيَادَةٍ فِي الْمَرَضِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجْرِ: فِيهِ أَبْلَغَ حُجَّةً عَلَى مَنْ حَرَّمَ الِاضْطِجَاعَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقُعُودِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 937

الْفَصْلُ الثَّانِي

1250 -

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ طَاهِرًا، وَذَكَرَ اللَّهِ حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعَاسُ، لَمْ يَتَقَلَّبْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» ". ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي " كِتَابِ الْأَذْكَارِ " بِرِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1250 -

(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ أَوَى ") : بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ (" إِلَى فِرَاشِهِ ")، أَيْ: أَتَاهُ. فِي النِّهَايَةِ: أَوَى وَآوَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: أَوَيْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ وَآوَيْتُ إِلَيْهِ، وَأَوَيْتُ غَيْرِي، وَآوَيْتُهُ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْمَقْصُورَ الْمُتَعَدِّيَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَمَقْصُورٌ، وَأَمَّا آوَانَا فَمَمْدُودٌ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْفَصِيحُ، وَحُكِيَ الْقَصْرَ فِيهِمَا، وَحُكِيَ الْمَدُّ فِيهِمَا. (" طَاهِرًا ")، أَيْ: مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ، أَوْ مِنَ الْآثَامِ وَالْأَوْزَارِ، (" وَذَكَرَ اللَّهَ ") : بِلِسَانِهِ أَوْ قَلْبِهِ، أَيَّ: نَوْعٍ مِنَ الْأَذْكَارِ (" حَتَّى يُدْرِكَهُ النُّعَاسُ ")، أَيْ: يَغْلِبُهُ (" لَمْ يَتَقَلَّبْ ")، أَيْ: لَمْ يَتَرَدَّدْ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى فِرَاشِهِ (" سَاعَةً ") : بِالنَّصْبِ، أَيْ: فِي سَاعَةٍ (" مِنَ اللَّيْلِ ") : وَرُوِيَتْ بِالرَّفْعِ وَبِالتَّأْنِيثِ فِي لَمْ يَتَقَلَّبْ، أَيْ: لَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ (" يَسْأَلُ اللَّهَ ") : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَتَقَلَّبُ (" فِيهَا ")، أَيْ: فِي تِلْكَ السَّاعَةِ (" خَيْرًا ") : الْخَيْرُ هُنَا ضِدُّ الشَّرِّ (" مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ") : الْمُرَادُ مِنَ الْخَيْرِ الثَّانِي الْجِنْسُ، وَالتَّنْوِينُ فِي الْأَوَّلِ لِلتَّنْكِيرِ (" إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ") : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَيْضًا حَالٌ مِنْ (يَسْأَلُ)، وَجَازَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعْنِي: لَا يَكُونُ لِلسَّائِلِ حَالٌ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا كَوْنَهُ مُعْطًى إِيَّاهُ، أَيْ: مَا طَلَبَ فَلَا يَخِيبُ. (ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ) : وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ بِالْأَلِفِ (فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِرِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ)، أَيْ: فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَنَقَلَهُ مِيرَكُ.

ص: 937

1251 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ. رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي، وَرَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَانْهَزَمَ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الِانْهِزَامِ وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ.

ــ

1251 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " عَجِبَ رَبُّنَا ")، أَيْ: رَضِيَ وَاسْتَحْسَنَ (" مِنْ رَجُلَيْنِ ")، أَيْ: فِعْلُهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: عَظُمَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْهُمَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَسَمَّاهُ عَجَبًا مَجَازًا ; لِأَنَّ التَّعَجُّبَ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّا خَفِيَ سَبَبُهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. (" رَجُلٍ ") : بِالْجَرِّ بَدَلٌ، وَجُوِّزَ الرَّفْعُ، فَالتَّقْدِيرُ أَحَدُهُمَا أَوْ مِنْهُمَا أَوْ هُمَا رَجُلٌ (" ثَارَ ")، أَيْ: قَامَ بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ وَرَغْبَةٍ (" عَنْ وِطَائِهِ ") : بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ: فِرَاشِهِ اللَّيِّنِ (" وَلِحَافِهِ ") : بِكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ: ثَوْبِهِ الَّذِي فَوْقَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ " «لَيَذْكُرَنَّ اللَّهَ أَقْوَامٌ عَلَى الْفُرُشِ الْمُمَهَّدَةِ يُدْخِلُهُمُ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى» " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. (" مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ ") : بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ: مَحْبُوبِهِ (" وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ ")، أَيْ: مَائِلًا عَنِ الَّذِينَ هُمْ زُبْدَةُ الْخَلَائِقِ عِنْدَهُ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ، عِلْمًا بِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَهُ لَا فِي قَبْرِهِ وَلَا يَوْمَ حَشْرِهِ، وَإِنَّمَا تَنْفَعُهُ طَاعَتُهُ فِي أَيَّامِ عُمُرِهِ، وَلِذَا قَالَ الْجُنَيْدُ لَمَّا رُؤِيَ فِي النَّوْمِ، وَسُئِلَ عَنْ مَرَاتِبِ الْقَوْمِ: طَاشَتِ الْعِبَارَاتُ، وَتَلَاشَتِ الْإِشَارَاتُ، وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا رُكَيْعَاتٌ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنَ الْأَوْقَاتِ. (" فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ ")، أَيْ: مُبَاهَاةً لِعَبْدِهِ الَّذِي غَلَبَتْ صِفَاتُ مَلَكِيَّتِهِ عَلَى أَحْوَالِ بَشَرِيَّتِهِ، مَعَ وُجُودِ الشَّيْطَانِ وَالْوَسَاوِسِ وَالنَّفْسِ وَطَلَبِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَاجِسِ، (" انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ")، أَيْ: نَظَرَ الرَّحْمَةِ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالشَّفَاعَةُ. وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَأَيُّ تَشْرِيفٍ، أَوْ

ص: 937

تَفَكَّرُوا فِي قِيَامِهِ مِنْ مَقَامِ الرَّاحَةِ، (" ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ ")، أَيْ: تَبَاعَدَ عَنْهُمَا (" مِنْ بَيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ ")، أَيْ: مُنْفَرِدًا مِنْهُمْ وَمِنِ اتِّفَاقِهِمْ، وَمُعْتَزِلًا عَنِ اقْتِرَابِهِمْ وَاعْتِنَاقِهِمْ، (" إِلَى صَلَاتِهِ ")، أَيِ: الَّتِي تَنْفَعُهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ (" رَغْبَةً ")، أَيْ: لَا رِيَاءً وَسُمْعَةً بَلْ مَيْلًا (" فِيمَا عِنْدِي ")، أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، أَوْ مِنَ الرِّضَا وَاللِّقَاءِ يَوْمَ الْمَآبِ. (" وَشَفَقًا ")، أَيْ: خَوْفًا (" مِمَّا عِنْدِي ") : مِنَ الْجَحِيمِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، أَوْ مِنَ السُّخْطِ وَالْحِجَابِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْعِقَابِ، وَهَذَا غَايَةُ الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّهُ قَامَ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتِ رَاحَةِ النَّاسِ فِي الْعَادَةِ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ الْإِلَهِيِّ، فَيَكُونُ مِنْ عَلَامَةِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَلِذَا قَدَّمَهُ وَعَطَفَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(" وَرَجُلٍ ") : بِالْوَجْهَيْنِ (" غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ")، أَيْ: حَارَبَ أَعْدَاءَ اللَّهِ (" فَانْهَزَمَ ")، أَيْ: غُلِبَ وَهَرَبَ (" مَعَ أَصْحَابِهِ فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ ")، أَيْ: مِنَ الْإِثْمِ أَوْ مِنَ الْعَذَابِ (" فِي الِانْهِزَامِ ") : إِذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَهُ فِي الْمَقَامِ (" وَمَا لَهُ ")، أَيْ: وَعَلِمَ مَا لَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ (" فِي الرُّجُوعِ ")، أَيْ: فِي الْإِقْبَالِ عَلَى مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ، وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْعَدَدِ وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الْعُدَدِ، (" فَرَجَعَ ")، أَيْ: حِسْبَةً لِلَّهِ وَجَاهَدَ (" حَتَّى هُرِيقَ ")، أَيْ: صُبَّ (" دَمُهُ ") : يَعْنِي: قُتِلَ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ذَاكِرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَبِهِ يَظْهَرُ كَمَالُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، (" فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ ")، أَيِ: الْمُقَرَّبِينَ (" انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ")، أَيْ: نَظَرَ تَعَجُّبٍ (" رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدِي ")، أَيْ: مِنَ الْعِقَابِ (" حَتَّى هُرِيقَ دَمُهُ ")، أَيْ: عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ. (رَوَاهُ) : صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ)، أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِيهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَرَوَى لَهُ الْأَرْبَعَةُ وَالْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ. اهـ.

وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي التَّرْغِيبِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلَفْظُهُ:«إِنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ. رَجُلٌ قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ عَنْ فِرَاشِهِ وَلِحَافِهِ وَدِثَارِهِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا جَاءَ لِمَا عِنْدَكَ وَشَفَقًا مِمَّا عِنْدَكَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا، وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا يَخَافُ» ، وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ.

وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ لِلَّهِ مَعَ رَجَاءِ الثَّوَابِ الَّذِي رَتَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَطَلَبُ حُصُولِهِ لَا يُنَافِي الْإِخْلَاصَ وَالْكَمَالَ، وَإِنْ نَافَى الْأَكْمَلَ، وَهُوَ الْعَمَلُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِغَرَضٍ وَلَا لِعِوَضٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ عَنِ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ مَنْ عَبَدَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ أَوْ لِخَوْفِ الْعِقَابِ لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ مَحْضُ عَمَلِهِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَوْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ لَانْتَفَتْ عِبَادَتُهُ، وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ يَكْفُرُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 938

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1252 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ:«حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ "، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ. فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو؟ ". قُلْتُ: حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ قُلْتَ: " صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ ". وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا، قَالَ: " أَجَلْ، وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1252 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: حُدِّثْتُ)، أَيْ: حَدَّثَنِي نَاسٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (" صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا ")، أَيْ: بِغَيْرِ عُذْرٍ (" نِصْفُ الصَّلَاةِ ")، أَيْ: قَائِمًا، وَالْمَعْنَى نِصْفُ أَجْرِ صَلَاةِ الْقَائِمِ كَمَا مَرَّ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ:" عَلَى نِصْفِ الصَّلَاةِ ". (قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي جَالِسًا، فَوَضَعْتُ يَدِي) : لَعَلَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ جَزَمَ بِهِ، وَقَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ إِذْ لَا يُظَنُّ بِهِ الْوَضْعُ قَبْلَهُ، (عَلَى رَأْسِهِ)، أَيْ: لِيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى خِلَافَ الْأَدَبِ عِنْدَ طَائِفَةِ الْعَرَبِ

ص: 938