المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب دفن الميت] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

- ‌[بَابُ الْمَوْقِفِ]

- ‌[بَابُ الْإِمَامَةِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ]

- ‌[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ]

- ‌[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[بَابُ الْوَتْرِ]

- ‌[بَابُ الْقُنُوتِ]

- ‌[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى]

- ‌[بَابُ التَّطَوُّعِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ وُجُوبِهَا]

- ‌[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

- ‌[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَتِيرَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

- ‌[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ]

- ‌[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [

- ‌بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

- ‌[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

- ‌[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

- ‌[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

الفصل: ‌[باب دفن الميت]

1690 -

وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا قَالَ: يَقْرَأُ الْحَسَنُ عَلَى الطِّفْلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا، وَفَرَطًا وَذُخْرًا وَأَجْرًا.

ــ

1690 -

(وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا) أَيْ: بِلَا إِسْنَادٍ فِي الطِّيبِيِّ قَالَ) : فِي الْإِرْشَادِ: وَالتَّعْلِيقُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا حُذِفَ مِنْ مُبْتَدَأٍ إِسْنَادُهُ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ، وَاسْتَعْمَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي حَذْفِ كُلِّ الْإِسْنَادِ، كَمَا هُنَا، مِثَالُهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَذَا. (قَالَ أَيِ: الْبُخَارِيُّ نَقْلًا عَنِ الْحَسَنِ. (يَقْرَأُ الْحَسَنُ) أَيْ: كَانَ يَقْرَأُ. (عَلَى الطِّفْلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ) أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى مَقَامَ الثَّنَاءِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَأْوِيلِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِلشَّافِعِيِّ ; فَإِنَّ الْحَسَنَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَغَايَتُهُ الْمُوَافَقَةُ. (وَيَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ. (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ) أَيِ: الطِّفْلَ. (لَنَا سَلَفًا) بِفَتْحَتَيْنِ فِي النِّهَايَةِ: قِيلَ: هُوَ مِنْ سَلَفِ الْمَالِ، كَأَنَّهُ قَدْ أَسْلَفَهُ وَجَعَلَهُ ثَمَنًا لِلْأَجْرِ، وَالثَّوَابِ الَّذِي يُجَازَى عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: سَلَفُ الْإِنْسَانِ مِنْ تَقَدُّمِهِ بِالْمَوْتِ مِنْ آبَائِهِ وَذَوِي قَرَابَتِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ التَّابِعِينَ السَّلَفَ الصَّالِحَ. (وَفَرَطًا) فِي النِّهَايَةِ أَجْرًا يَتَقَدَّمُنَا، وَفِي الصِّحَاحِ: الْفَرَطُ بِالتَّحْرِيكِ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ الْوَارِدَةَ فَيُهَيِّئُ الْأَرْسَاتِ وَالدِّلَاءَ، وَيَرِدُ الْحِيَاضَ وَيَسْتَقِي لَهُمْ. (وَذُخْرًا) بِضَمِّ الذَّالِ وَسُكُونِ الْخَاءِ أَيْ: ذَخِيرَةً. (وَأَجْرًا) أَيْ: ثَوَابًا جَزِيلًا. قَالَ مِيرَكُ: عِبَارَةُ الْبُخَارِيِّ هَكَذَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَقْرَأُ أَيِ: الْمُصَلِّي عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا اهـ. فَعَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ إِلَخْ، ثُمَّ يَقُولُ: فِي آخِرِهِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ تَعْلِيقًا، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخْرِجِينَ لَا مِنْ جُمْلَةِ الرُّوَاةِ الَّذِينَ الْتَزَمَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَهُمْ، وَأَيْضًا يُفْهَمُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ وَمِنْ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ يُفْهَمُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ، وَبَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ فَرْقٌ ظَاهِرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَةَ ذُخْرًا لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا أَيْضًا تَأَمَّلْ، وَلَعَلَّ فِي نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ مِنَ الْبُخَارِيِّ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ وَصُحِّفَ قَالَ بِكَانَ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ.

ص: 1214

1691 -

وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُوَرَّثُ، حَتَّى يَسْتَهِلَّ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ: وَلَا يُوَرَّثُ.

ــ

1691 -

(وَعَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ» ) فِي النِّهَايَةِ: اسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ تَصْوِيتُهُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، وَهَذَا مِثَالٌ، وَالْمَدَارُ عَلَى مَا يُعْلَمُ بِهِ حَيَاتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ مَا يَنْفَعُكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ: ابْنَ مَاجَهْ. (لَمْ يَذْكُرْ وَلَا يُوَرَّثُ) وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَفْظُهُ: إِذَا اسْتَهَلَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَوَرِثَ، لَكِنِ اعْتَرَضَ عَلَى تَصْحِيحِهِمَا لَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ.

ص: 1214

1692 -

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: " «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ، يَعْنِي أَسْفَلَ مِنْهُ» . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُجْتَبَى فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.

ــ

1692 -

(وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ) وَهُوَ عُقْبَةُ بْنُ بَدْرٍ الْبَصْرِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَهَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُومَ) أَيْ: مِنْ أَنْ يَقِفَ. (الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ) أَيْ: خَلْفَ ذَلِكَ الشَّيْءِ. (يَعْنِي أَسْفَلَ مِنْهُ) وَيُعْلَمُ النَّهْيُ مِنَ الْعَكْسِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُجْتَبَى) اسْمٌ لِكِتَابٍ لَهُ. (فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ أَنَّ الْأَنْسَبَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. قَالَ ابْنُ هَمَّامٍ: وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَالْمَيِّتُ عَلَى دَابَّةٍ، أَوْ أَيْدِي النَّاسِ، لِأَنَّهُ كَالْإِمَامِ، وَاخْتِلَافُ الْمَكَانِ مَانِعٌ مِنَ الِاقْتِدَاءِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَشَرْطُ صِحَّتِهَا إِسْلَامُ الْمَيِّتِ وَطَهَارَتُهُ، وَوَضْعُهُ أَمَامَ الْمُصَلِّي، فَلِهَذَا الْقَيْدِ لَا تَجُوزُ عَلَى غَائِبٍ وَلَا حَاضِرٍ عَلَى دَابَّةٍ وَغَيْرِهَا، وَلَا مَوْضُوعٍ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي، وَهُوَ كَالْإِمَامِ مِنْ وَجْهٍ.

ص: 1214

[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

ص: 1214

(بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ)

(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)

1693 -

«عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ: أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَى اللَّبِنِ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

بَابٌ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1693 -

(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ) أَيْ: مَاتَ. (أَلْحِدُوا) بِكَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَبِقَطْعِهَا وَكَسْرِ الْحَاءِ. (لِي) أَيْ: لِأَجْلِي. (لَحْدًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مِنْ بَابِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى تَجْرِيدٍ فِي الْفِعْلِ، أَيِ: اجْعَلُوا لِي لَحْدًا. فِي النِّهَايَةِ: اللَّحْدُ الشَّقُّ الَّذِي يُعْمَلُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ، لِوَضْعِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ قَدْ أُمِيلَ عَنْ وَسَطِ الْقَبْرِ إِلَى جَانِبِهِ، يُقَالُ: لَحَدْتُ وَأَلْحَدْتُ، وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ الْمَيْلُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدُوا هُوَ بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ، وَيَجُوزُ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ اللَّحْدِ، وَنَصْبُ اللَّبِنِ فَإِنَّهُ فُعِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ نَقَلُوا أَنَّ عَدَدَ لَبِنَاتِهِ تِسْعٌ اهـ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَوْعٌ مِنَ الْإِعْجَازِ لَهُ، أَوْ صِنْفٌ مِنَ الْكَرَامَةِ لِلصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِاللَّحْدِ لَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّ أَيَّ الْحَفَّارِينَ مِنْ صَاحِبِ اللَّحْدِ وَالشَّقِّ، فَالْعَمَلُ لَهُ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ اللَّحْدَ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّحْدُ لَنَا، ثُمَّ قَوْلُهُ: لَحْدًا بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَيِّنٌ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، وَأَمَّا الْمَعْنَى الِاسْمِيُّ فَمُشْتَرَكٌ فِيهِمَا، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ، حَيْثُ قَالَ: اللَّحْدُ وَيُضَمُّ: الشَّقُّ يَكُونُ فِي عُرْضِ الْقَبْرِ، وَلَحَدَ الْقَبْرَ كَمَنَعَ، وَأَلْحَدَهُ عَمِلَ لَهُ لَحْدًا، وَالْمَيِّتَ دَفَنَهُ. (وَانْصِبُوا) بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ: أَقِيمُوا. (عَلَيَّ أَيْ: فَوْقِي. (اللَّبِنَ بِكَسْرِ الْبَاءِ، فِي الْقَامُوسِ: اللَّبِنُ كَكَتِفٍ الْمَضْرُوبُ مِنَ الطِّينِ مُرَبَّعًا لِلْبِنَاءِ، وَيُقَالُ فِيهِ بِالْكَسْرِ وَبِكَسْرَتَيْنِ. (نَصْبًا) أَيْ: نَصْبًا مَرْصُوصًا عَلَى) وَجْهِ الْعَادَةِ. (كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: بِقَبْرِهِ. صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُلْحِدَ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ أُلْحِدَ وَنُصِبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ) نَصْبًا، وَرُفِعَ قَبْرُهُ مِنَ الْأَرْضِ نَحْوَ شِبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا اللَّحْدُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ ضَرُورَةً مِنْ رَخْوِ الْأَرْضِ فَيُخَافُ أَنْ يَنْهَارَ اللَّحْدُ فَيُصَارُ إِلَى الشَّقِّ، بَلْ ذُكِرَ لِي أَنَّ بَعْضَ الْأَرَضِينَ مِنَ الرِّمَالِ يَسْكُنُهَا بَعْضُ الْأَعْرَابِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الشَّقُّ أَيْضًا، بَلْ يُوضَعُ الْمَيِّتُ وَيُهَالُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ.

ص: 1215

1694 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1694 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جُعِلَ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطِيفَةٌ حَمْرَاءُ» ) فِي النِّهَايَةِ: الْقَطِيفَةُ هِيَ كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ وَهُوَ الْمُهَدَّبُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:«تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ» ، أَيِ: الَّذِي يَعْمَلُ لَهَا، وَيَهْتَمُّ بِتَحْصِيلِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذِهِ الْقَطِيفَةُ أَلْقَاهَا شُقْرَانُ مَوْلًى مِنْ مَوَالِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: كَرِهْتُ أَنْ يَلْبَسَهَا أَحَدٌ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ وَضْعِ الْقَطِيفَةِ وَالْمِخَدَّةِ وَنَحْوِهِمَا تَحْتَ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَحْسُنُ فِي غَيْرِهِ اهـ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ نَقْلًا عَنْ وَكِيعٍ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا فَارَقَ أَهْلَ الدُّنْيَا فِي بَعْضِ أَحْكَامِ حَيَاتِهِ فَارَقَهُمْ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ مَمَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ، وَحَقَّ لِجَسَدٍ عَصَمَهُ اللَّهُ عَنِ الْبِلَى وَالِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُفْرَشَ لَهُ فِي قَبْرِهِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْرَشُ لِلْحَيِّ لَهُ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم بِحُكْمِ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي غَيْرِهِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَنَازَعَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ فَقَصْدُ شُقْرَانَ بِوَضْعِهَا دَفَعَ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَقَالَ الشَّيْخُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ فِي السِّيرَةِ: وَفُرِشَتْ فِي قَبْرِهِ قَطِيفَةٌ وَقِيلَ أُخْرِجَتْ، وَهَذَا أَثْبَتُ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ: إِنَّهَا أُخْرِجَتْ قَبْلَ إِهَالَةِ التُّرَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1215

1695 -

وَعَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

1695 -

(وَعَنْ سُفْيَانَ) هُوَ ابْنُ دِينَارٍ، كُوفِيٌّ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. (التَّمَّارُ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الَّذِي يَبِيعُ التَّمْرَ. (أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا) بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَنْ يُجْعَلَ كَهَيْئَةِ السَّنَامِ، وَهُوَ خِلَافُ تَسْطِيحِهِ، وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْمُسَنَّمُ الْمُحَدَّبُ كَهَيْئَةِ السَّنَامِ، خِلَافَ الْمُسَطَّحِ، وَهُوَ الْمُرَبَّعُ، قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: احْتَجَّ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ التَّسْنِيمَ فِي شَكْلِ الْقُبُورِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْطِيحِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّسْطِيحُ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَبْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، أَيْ: مَبْسُوطَةً بِالرِّمَالِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُسَطَّحًا، وَرُوِيَ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَطَّحَ قَبْرَ ابْنِهِ، وَرَشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ» . قَالَ السَّيِّدُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُيِّرَ عَمَّا كَانَ فِي الْقَدِيمِ، وَجُعِلَ مُسَنَّمًا ; لِأَنَّ جِدَارَهُ سَقَطَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: وَقِيلَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ هَذَا الظَّنُّ، وَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ، وَتَجْصِيصِهَا، وَرَوَى ابْنُ الْحَسَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ نَاشِزَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَعَلَيْهَا فَلَقٌ مِنْ مُدَرٍ أَبْيَضَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَلَفْظُهُ عَنْ سُفْيَانَ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَبْرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُسَنَّمَةً، وَمَا عُورِضَ بِهِ مِمَّا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّتُ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ، مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ، لَيْسَ مُعَارِضًا لِهَذَا، حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى الْجَمْعُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَأَيْضًا ظَهَرَ أَنَّ الْقَاسِمَ أَرَادَ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ بِرَاوِيَةِ أَبِي حَفْصِ بْنِ شَاهِينَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ثَلَاثَةً كُلَّهُمْ لَهُ فِي قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبٌ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ: مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، وَسَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَسَأَلْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبِرُونِي عَنْ قُبُورِ آبَائِكُمْ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَكُلُّهُمْ قَالُوا: إِنَّهَا مُسَنَّمَةٌ اهـ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَنَّ التَّسْطِيحَ صَارَ شِعَارَ الرَّوَافِضِ، وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْ أَمْرِ عَلِيٍّ تَسْوِيَةَ الْمُشْرِفِ فِي الْخَبَرِ الْآتِي، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لَا عَلَى التَّسْطِيحِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا عَلَى التَّسْنِيمِ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ، بَلْ فِيهِ مُبَالَغَةٌ لِلزَّجْرِ عَلَى الْبِنَاءِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ تَسْوِيَتُهُ بِالْأَرْضِ حَقِيقَةً، إِذِ السُّنَّةُ أَنْ يُعْلَمَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُرْفَعَ شِبْرًا كَقَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.

ص: 1216

1696 -

وَعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: «قَالَ لِي عَلِيٌّ أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1696 -

(وَعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ. (الْأَسَدِيِّ) بِفَتْحِ السِّينِ وَيُسَكَّنُ. (قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: أَلَا أَبْعَثُكَ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ لِلتَّخْضِيضِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا لِلتَّنْبِيهِ. (عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ) أَيْ: أَرْسَلَنِي إِلَى تَغْيِيرِهِ، وَلِذَا عُدِّيَ بِعَلَى. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: أَلَا أُرْسِلُكَ لِلْأَمْرِ الَّذِي أَرْسَلَنِي لَهُ. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعْدِيَتَهُ بِحَرْفِ عَلَى لِمَا فِي الْبَعْثِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّأْمِيرِ، أَيْ: هَلَّا أَجْعَلُكَ أَمِيرًا عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَمَّرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَنْ لَا تَدَعَ) أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَا نَافِيَةٌ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ أَنْ لَا تَدَعَ وَقِيلَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ وَلَا نَاهِيَةٌ أَيْ: لَا تَتْرُكْ. (تِمْثَالًا) أَيْ: صُورَةً. (إِلَّا طَمَسْتَهُ) أَيْ: مَحَوْتَهُ وَأَبْطَلْتَهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، فِي الْأَزْهَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّصْوِيرُ حَرَامٌ، وَالْمَحْوُ وَاجِبٌ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْجُلُوسُ فِي مُشَاهَدَتِهِ. (وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا) هُوَ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ حَتَّى ارْتَفَعَ دُونَ الَّذِي أُعْلِمَ عَلَيْهِ بِالرَّمْلِ وَالْحَصْبَاءِ، أَوْ مَحْسُومَةٌ بِالْحِجَارَةِ لِيُعْرَفَ وَلَا يُوطَأَ. (إِلَّا سَوَّيْتَهُ) فِي الْأَزْهَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ قَدْرَ شِبْرٍ، وَيُكْرَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ الْهَدْمُ، فَفِي قَدْرِهِ خِلَافٌ، قِيلَ إِلَى الْأَرْضِ تَغْلِيظًا، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ، أَيْ: لَفْظِ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسْوِيَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَعْلِيَةِ الْقُبُورِ بِالْبِنَاءِ الْعَالِي، وَلَيْسَ مُرَادُنَا ذَلِكَ بِتَسْنِيمِ الْقَبْرِ بَلْ بِقَدْرِ مَا يَبْدُو مِنَ الْأَرْضِ، وَيَتَمَيَّزُ عَنْهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 1216

1697 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1697 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» ) قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: النَّهْيُ عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ لِلْكَرَاهَةِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ بِذَلِكَ وَتَجْصِيصَ وَجْهِهِ، وَالنَّهْيُ فِي الْبِنَاءِ لِلْكَرَاهَةِ إِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، وَلِلْحُرْمَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسْبَلَةِ، وَيَجِبُ الْهَدْمُ وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ بِالْحِجَارَةِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، وَالْآخَرُ: أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهَا خِبَاءٌ وَنَحْوُهُ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، قُلْتُ: فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْخَيْمَةُ لِفَائِدَةٍ مِثْلَ أَنْ يَقْعُدَ الْقُرَّاءُ تَحْتَهَا فَلَا تَكُونُ مَنْهِيَّةً. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاخْتُلِفَ فِي إِجْلَاسِ الْقَارِئِينَ لِيَقْرَءُوا عِنْدَ الْقَبْرِ، وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ اهـ. ثُمَّ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَلِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ: كَانُوا يُظَلِّلُونَ عَلَى الْمَيِّتِ إِلَى سَنَةٍ. قَالَ: وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: انْزَعْهُ يَا غُلَامُ، وَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَلِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ أَبَاحَ السَّلَفُ الْبِنَاءَ عَلَى قَبْرِ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشْهُورِينَ لِيَزُورَهُمُ النَّاسُ، وَيَسْتَرِيحُوا بِالْجُلُوسِ فِيهِ اهـ.

(وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ كَالْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، قِيلَ لِلتَّغَوُّطِ، وَالْحَدِيثِ قِيلَ لِلْإِحْدَادِ وَهُوَ أَنْ يُلَازِمَ الْقَبْرَ وَلَا يَرْجِعَ عَنْهُ، وَقِيلَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ فِيهِ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَحُرْمَتِهِ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ مِنَ الْقُعُودِ هُوَ الْجُلُوسُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِحَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ «عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ انْزِلْ مِنْ عَلَى الْقَبْرِ، لَا تُؤْذِي صَاحِبَ الْقَبْرِ، وَلَا يُؤْذِيكَ» ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْوَطْءِ عَلَى الْقَبْرِ قَالَ: كَمَا أَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ فِي حَيَاتِهِ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَذَاهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1217

1698 -

وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1698 -

(وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ. (الْغَنَوِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ» ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَكَرِهَ الْجُلُوسَ عَلَى الْقَبْرِ وَوَطْأَهُ وَحِينَئِذٍ فَمَا يَصْنَعُهُ النَّاسُ مِمَّنْ دُفِنَتْ أَقَارِبُهُ ثُمَّ دُفِنَتْ حَوَالَيْهِ مِنْ وَطْءِ تِلْكَ الْقُبُورِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ مَكْرُوهٌ، وَيُكْرَهَ النَّوْمُ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، بَلْ أَوْلَى، وَيُكْرَهُ كُلُّ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِنَ السُّنَّةِ، وَالْمَعْهُودُ مِنْهَا لَيْسَ إِلَّا زِيَارَتَهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا قَائِمًا، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْبَقِيعِ، وَيَقُولُ:«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَسَأَلُ اللَّهَ لِي وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» . (وَلَا تُصَلُّوا) أَيْ: مُسْتَقْبِلِينَ. (إِلَيْهَا) لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ الْبَالِغِ، لِأَنَّهُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْمَعْبُودِ فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِحْقَاقِ الْعَظِيمِ وَالتَّعْظِيمِ الْبَلِيغِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّعْظِيمُ حَقِيقَةً لِلْقَبْرِ أَوْ لِصَاحِبِهِ لَكَفَرَ الْمُعَظِّمُ، فَالتَّشَبُّهُ بِهِ مَكْرُوهٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَفِي مَعْنَاهُ، بَلْ أَوْلَى مِنْهُ الْجَنَازَةُ الْمَوْضُوعَةُ، وَهُوَ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ حَيْثُ يَضَعُونَ الْجَنَازَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُونَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مُسْتَقْبِلِينَ إِلَيْهَا وَعِنْدَهَا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ مُنَافٍ لِمَفْهُومِ. (إِلَيْهَا) فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ص: 1217

1699 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1699 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ» ) أَيْ: مِنَ النَّارِ. (فَتُحْرِقَ) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. (ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ) بِضَمِّ اللَّامِ أَيْ: تَصِلُ. (إِلَى جِلْدِهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ، وَسَرَايَةُ مَضَرَّتِهِ إِلَى قَلْبِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِمَنْزِلَةِ سَرَايَةِ النَّارِ مِنَ الثَّوْبِ إِلَى الْجِلْدِ. (خَيْرٌ لَهُ) أَيْ: أَحْسَنُ لَهُ وَأَهْوَنُ. (مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرِ) الظَّاهِرِ عُمُومُهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: لِمُسْلِمٍ، وَلَوْ جَوَّزَ أَنْ يُخْتَصَّ فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ مُخَصِّصٍ، مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِهِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ تُدْرِكُ رُوحُهُ مَا يُفْعَلُ بِهِ فَيُحِسُّ، وَيَتَأَذَّى كَمَا يَتَأَذَّى الْحَيُّ اهـ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّوحُ لَا يَبْلَى، لَا سِيَّمَا عَجَبُ الذَّنَبِ، كَمَا صَحَّ فِي الْأَحَادِيثِ فِي الْأَزْهَارِ، نَقْلًا

ص: 1217

عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا فِيهِ التَّغْلِيظُ عَلَى الْجُلُوسِ لِلْحَدَثِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ، وَمَا لَا تَغْلِيظَ فِيهِ عَلَى الْجُلُوسِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا تَفْصِيلٌ حَسَنٌ، وَالِاتِّكَاءُ وَالِاسْتِنَادُ كَالْجُلُوسِ الْمُطْلَقِ نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُهُ حُرْمَةُ الْقُعُودِ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ الِاتِّكَاءُ وَالِاسْتِنَادُ وَدَوْسُهُ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَصْحَابِ، لَكِنْ مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ كَرَاهَةُ ذَلِكَ تَنْزِيهًا، وَغَلَطٌ مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَإِنِ انْتَصَرَ لَهُ بَعْضُهُمْ، بِأَنَّهُ الْأَصَحُّ الْمُخْتَارُ لِلْخَبَرِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَاوِيَ الْحَدِيثِ، وَتَفْسِيرُ رَاوِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَفْسِيرِ غَيْرِهِ، وَقَدْ فَسَّرَ فِي الْحَدِيثِ الْقُعُودَ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ رَوَاهُ فِي مُسْنَدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِ: مَنْ جَلَسَ عَلَى قَبْرٍ يَبُولُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَغَوَّطُ، وَهَذَا حَرَامٌ إِجْمَاعًا، فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، قَالَ: وَلَا يُكْرَهُ دَوْسُهُ لِحَاجَةٍ كَحَفْرٍ، أَوْ قِرَاءَةٍ عَلَيْهِ، أَوْ زِيَارَةٍ، وَلَوْ لِأَجْنَبِيٍّ لِلِاتِّبَاعِ، صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلِأَنَّهُ مَعَ الْحَاجَةِ لَيْسَ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، بِخِلَافِهِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ الْبِلَى، أَمَّا بَعْدَهُ فَلَا حُرْمَةَ، وَلَا كَرَاهَةَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ احْتِرَامِهِ أَيْضًا اهـ. وَفِي اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ لِغَيْرِ الْحَفْرِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا فِي تَقْيِيدِهِ بِمَا قَبْلَ الْبِلَى لِمُعَارَضَتِهِ ظَاهِرَ النُّصُوصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 1218

(الْفَصْلُ الثَّانِي)

1700 -

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ، وَالْآخَرُ لَا يَلْحَدُ، فَقَالُوا: أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلًا عَمِلَ عَمَلَهُ، فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1700 -

(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ) أَيْ: حَفَّارَانِ لِلْقُبُورِ. (أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ أَيْ: يَحْفُرُ اللَّحْدَ، وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ. (وَالْآخَرُ لَا يَلْحَدُ) بَلْ يَفْعَلُ الشَّقَّ، وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ، وَكَانَ يَفْعَلُ الضَّرِيحَ، وَهُوَ شَقٌّ فِي وَسَطِ الْقَبْرِ. (فَقَالُوا) أَيِ: اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. (أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلًا) بِالتَّنْوِينِ مَنْصُوبَةً، وَفِي نُسْخَةٍ: أَوَّلُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، قِيلَ الرِّوَايَةُ فِي أَوَّلُ بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ كَقَبْلُ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ وَالنَّصْبُ. (عَمِلَ عَمَلَهُ) أَيْ: مِنَ اللَّحْدِ أَوِ الشَّقِّ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. (فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ) أَيْ: قَبْلَ الْآخَرِ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ اخْتِيَارِهِ لِمُخْتَارِهِ صلى الله عليه وسلم. (فَلَحَدَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: لِقَبْرِهِ، أَوْ لَحَدَ قَبْرَهُ لِأَجْلِهِ. (رَوَاهُ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) قَالَ السَّيِّدُ: ظَاهِرُهُ الْإِرْسَالُ ; لِأَنَّ عُرْوَةَ تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ خَالَتِهِ، وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مُسْنَدًا إِلَى عَائِشَةَ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ فِي ابْنِ مَاجَهْ، وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ تَأَمَّلْ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ غَيْرَ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فَلِهَذَا لَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ.

ص: 1218

1701 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1701 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» ) قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلتُّورِبَشِتِيِّ: أَيِ: اللَّحْدُ آثَرُ وَأَوْلَى لَنَا، وَالشَّقُّ آثَرُ وَأَوْلَى لِغَيْرِنَا، أَيْ: هُوَ اخْتِيَارُ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ فَضِيلَةِ اللَّحْدِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنِ الشَّقِّ، لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ فِي الدِّينِ وَالْأَمَانَةِ كَانَ يَصْنَعُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْهِيًّا لَمَا قَالَتِ الصَّحَابَةُ أَيُّهُمَا جَاءَ أَوَّلًا عَمِلَ عَمَلَهُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يُضْطَرُّ إِلَيْهِ لِرَخَاوَةِ الْأَرْضِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُمْكِنُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَنَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ نَفْسَهُ، أَيْ: أُوثِرُ لِيَ اللَّحْدَ، وَهُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْكَائِنِ، فَيَكُونُ مُعْجِزَةً اهـ. قَالَ السَّيِّدُ: هَذَا التَّوْجِيهُ بَعِيدٌ جِدًّا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الشَّقُّ لِغَيْرِنَا، تَأَمَّلْ وَجْهَ التَّأَمُّلِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَالشَّقُّ اخْتِيرَ لِغَيْرِنَا، مِمَّنْ كَانَ قَبْلَنَا، وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ لِلْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ، وَالْمَعْنَى: اللَّحْدُ اخْتِيرَ لِي وَلِمَنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدِي وَقَبْلِي، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ قَبْلَنَا أَوْ مَنْ بَعْدَنَا، أَوِ اللَّحْدُ لَنَا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَالشَّقُّ جَائِزٌ لِغَيْرِنَا، وَهُوَ أَوْجَهُ مِنَ التَّوْجِيهِ السَّابِقِ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ كَرَاهَةَ الشَّقِّ، حَيْثُ قَالُوا: الشَّقُّ اخْتِيَارُ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ السَّيِّدُ: وَقَالَ غَرِيبٌ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

ص: 1218

1702 -

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.

ــ

1702 -

(وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبَجَلِيِّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ضَعِيفٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ابْنَ السَّكَنِ رَوَاهُ فِي صَحَاحِهِ.

ص: 1219

1703 -

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: احْفُرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَحْسِنُوا.

ــ

1703 -

(وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ) أَيِ: ابْنِ أُمَيَّةَ ابْنِ الْخَشْخَاشِ النَّجَّارِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ شِهَابًا، فَغَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْمَهُ فَسَمَّاهُ هِشَامًا، وَاسْتُشْهِدَ أَبُوهُ عَامِرٌ يَوْمَ أُحُدٍ) ، وَسَكَنَ هِشَامٌ الْبَصْرَةَ وَمَاتَ فِيهَا، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ أَيْ: وَقْتَ انْتِهَاءِ غَزْوَتِهِ عِنْدَ إِرَادَةِ دَفْنِ الشُّهَدَاءِ. (احْفُرُوا) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنَعُوا الدَّفْنَ فِي الْفَسَاقِيِّ، وَبَيَّنُوا أَنَّ فِيهِ مَفَاسِدَ فَلْيُجْتَنَبْ مَا أَمْكَنَ. (وَأَوْسِعُوا) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ. (وَأَعْمِقُوا) كَذَلِكَ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَعْمَقَ الْبِئْرَ جَعَلَهَا عَمِيقَةً. قَالَ الْمُظْهِرُ أَيِ: اجْعَلُوا عُمْقَهُ قَدْرَ قَامَةِ رَجُلٍ إِذَا مَدَّ يَدَهُ، إِلَى رُءُوسِ أَصَابِعِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْمِقُوا بِالْمُهْمَلَةِ، وَقِيلَ بِالْمُعْجَمَةِ مِنَ التَّغْمِيقِ، قُلْتُ: مَا قِيلَ لَا يَصِحُّ هُنَا لِمُخَالَفَتِهِ لِلرِّوَايَةِ، وَالدِّرَايَةِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا ضُبِطَ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلِوُجُودِ الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ ذَكَرَ أَنَّ الْغَمَقَ مُحَرِّكَةً رُكُوبُ النَّدَى الْأَرْضَ، غَمَقَتِ الْأَرْضُ مُثَلَّثَةً فَهِيَ غَمِقَةٌ، كَفَرِحَةٍ ذَاتُ نَدًى، أَوْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمِيَاهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَرْضٌ غَمِقَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمِيَاهِ وَالْبُرُوزِ. (وَأَحْسِنُوا) أَيْ: أَحْسِنُوا إِلَى الْمَيِّتِ فِي الدَّفْنِ قَالَهُ فِي الْأَزْهَارِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ تَبَعًا لِلْمُظْهِرِ: أَيِ: اجْعَلُوا الْقَبْرَ حَسَنًا بِتَسْوِيَةِ قَعْرِهِ ارْتِفَاعًا وَانْخِفَاضًا، وَتَنْقِيَتِهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْقَذَاةِ، وَغَيْرِهِمَا.

(وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ لَا بِالنَّقْلِ كَمَا يُتَوَهَّمُ، وَقَوْلُهُمْ: كُلُّ سِرٍّ جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ شَاعَ مَنْسُوبٌ إِلَى اللَّحْنِ. (وَالثَّلَاثَةَ) بِالنَّصْبِ أَيْ: مِنَ الْأَمْوَاتِ. (فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ) قَالَ السَّيِّدُ: الْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ ضَرُورَةً، وَلَا يَجُوزُ بِدُونِهَا اهـ. وَالْأَمْرُ فِي الْأَوَّلِ لِلْوُجُوبِ وَفِي الْبَاقِي لِلنَّدْبِ. (وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا) أَيْ: إِلَى جِدَارِ اللَّحْدِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فِي الْأَزْهَارِ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى تَعْظِيمِ الْمُعَظَّمِ عِلْمًا وَعَمَلًا، قُلْتُ: حَيًّا وَمَيِّتًا، فَيَكُونُ دَائِمًا إِمَامًا وَأَمَامًا،. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ كَمَا تَكُونُ عَلَى مَيِّتٍ وَاحِدٍ تَكُونُ عَلَى أَكْثَرَ، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجَنَائِزُ إِنْ شَاءَ اسْتَأْنَفَ لِكُلِّ مَيِّتٍ صَلَاةً، وَإِنْ شَاءَ وَضَعَ الْكُلَّ، وَصَلَّى عَلَيْهِمْ صَلَاةً وَاحِدَةً، وَهُوَ فِي كَيْفِيَّةِ وَضْعِهِمْ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ وَضَعَهُمْ بِالطُّولِ سَطْرًا وَاحِدًا وَيَقِفُ عِنْدَ أَفْضَلِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ وَضَعَهُمْ وَاحِدًا وَرَاءَ وَاحِدٍ، إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَتَرْتِيبُهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَلْفَهُ، حَالَ الْحَيَاةِ، فَيُقَرِّبُ مِنْهُ الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ، وَيُبْعِدُ عَنْهُ الْمَفْضُولَ فَالْمَفْضُولَ، وَكُلُّ مَنْ بَعُدَ مِنْهُ كَانَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَقْرَبَ. قَالَ: وَلَوِ اجْتَمَعُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَوَضَعَهُمْ عَلَى عَكْسِ هَذَا فَيُقَدَّمُ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ إِلَى الْقِبْلَةِ كَمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلَى أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَقْرَبِيَّةَ هُنَا عَلَى بَابِهَا وَأَمَّا قِيَاسُ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى حَدِيثِ الْإِمَامَةِ فَفَاسِدٌ، لِأَنَّ هُنَاكَ صَارِفَيْنِ عَنْ ظَاهِرِهِ، أَوَّلُهُمَا تَقْدِيمُ الصِّدِّيقِ فِي الْإِمَامَةِ مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَثَانِيهُمَا تَعْلِيلُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْأَفْقَهَ بِمَسَائِلِ الصَّلَاةِ أَوْلَى لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِ الْإِمَامِ بِهَا فِي شَرَائِطِهَا، وَالْقِرَاءَةُ رُكْنٌ وَاحِدٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ إِلَى آخِرِهِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَحْسِنُوا) .

ص: 1219

1704 -

«وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأَبِي لِتَدْفِنَهُ فِي مَقَابِرِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رُدُّوا الْقَتْلَى إِلَى مَضَاجِعِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ.

ــ

1704 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ جَاءَتْ عَمَّتِي) فِي الْأَزْهَارِ نَقْلًا عَنِ الْغَوَامِضِ عَمَّةُ جَابِرٍ هَذِهِ فَاطِمَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيِّ ذَكَرَهُ السَّيِّدُ. (بِأَبِي) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ. (لِتَدْفِنَهُ فِي مَقَابِرِنَا) أَيْ: فِي الْمَدِينَةِ. (فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رُدُّوا الْقَتْلَى) جَمْعُ الْقَتِيلِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ أَيِ: الشُّهَدَاءُ. (إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أَيْ: مَقَاتِلهِمْ، وَالْمَعْنَى: لَا تَنْقُلُوا الشُّهَدَاءَ مِنْ مَقْتَلِهِمْ بَلِ ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ قُتِلُوا، وَكَذَا مَنْ مَاتَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُنْقَلُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، قَالَهُ فِي بَعْضِ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ فِي الْأَزْهَارِ: الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " رُدُّوا الْقَتْلَى لِلْوُجُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَقْلَ الْمَيِّتِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ يَغْلُبُ فِيهِ التَّغَيُّرُ حَرَامٌ، وَكَانَ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ دَلِيلٍ وَأَقْوَى حُجَّةٍ فِي تَحْرِيمِ النَّقْلِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَهْيَ النَّقْلِ مُخْتَصٌّ بِالشُّهَدَاءِ، لِأَنَّهُ نُقِلَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنْ قَصْرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى نَقْلِهِمْ، بَعْدَ دَفْنِهِمْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيُؤَيِّدُهُ لَفْظُ مَضَاجِعِهِمْ، وَلَعَلَّ وَجْهُ تَخَصُّصِ الشُّهَدَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] وَفِيهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى: وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ حَيَاةً وَمَوْتًا، وَبَعْثًا وَحَشْرًا، وَيُتَبَرَّكُ النَّاسُ بِالزِّيَارَةِ إِلَى مَشَاهِدِهِمْ وَيَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى زِيَارَةِ جَبَلِ أُحُدٍ، حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "«أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُنْقَلُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ، أَيِ ابْتِدَاءِ أُحُدٍ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا، لَمَّا رُوِيَ أَنَّ جَابِرًا جَاءَ بِأَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي قُتِلَ بِأُحُدٍ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى الْبَقِيعِ وَدَفَنَهُ بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إِنْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ إِلَى النَّقْلِ نُقِلَ، وَإِلَّا فَلَا، لِمَا رُوِّينَا عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَعْصَعَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا، وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمَّا يَلِي السَّيْلَ، وَكَانَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا مِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا، فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا، كَأَنَّمَا مَاتَا بِالْأَمْسِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ جُرِحَ وَيَدُهُ عَلَى جُرْحِهِ فَدُفِنَ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ ثُمَّ أُرْسِلَتْ فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ بَيْنَ أُحُدٍ وَبَيْنَ الْحَفْرِ عَنْهُمَا سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِجَابِرٍ أَنَّهُ يَنْقُلُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يُنْقَلَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا يُنْبَشُ بَعْدَ إِهَالَةِ التُّرَابِ لِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ، إِلَّا لِعُذْرٍ. قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: وَالْعُذْرُ أَنْ يَظْهَرَ أَنَّ الْأَرْضَ مَغْصُوبَةٌ، أَوْ يَأْخُذَهَا شَفِيعٌ، وَلِذَا لَمْ يُحَوَّلْ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ دُفِنُوا بِأَرْضِ الْحَرْبِ، إِذْ لَا عُذْرَ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ أَنْ يَسْقُطَ فِي اللَّحْدِ مَالٌ ثَوْبٌ، أَوْ دِرْهَمٌ لِأَحَدٍ، وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَشَايِخِ فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ فَأَرَادَتْ نَقْلَهُ أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا ذَلِكَ لِتَجْوِيزِ شَوَاذِّ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَمْ نَعْلَمْ خِلَافًا بَيْنَ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّهُ لَا يُنْبَشُ، وَقَدْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ، أَوْ بِلَا صَلَاةٍ فَلَمْ يُبِيحُوهُ لِتَدَارُكِ فَرْضٍ لَحِقَهُ يُتَمَكَّنُ بِهِ مِنْهُ، أَمَّا إِذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْ تَسْوِيَةِ اللَّبِنِ فَلَا بَأْسَ بِنَقْلِهِ نَحْوَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ. قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إِلَى الْمَقَابِرِ قَدْ تَبْلُغُ هَذَا الْمِقْدَارَ، وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَقْلَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ مَكْرُوهٌ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ كُلٌّ فِي مَقْبَرَةِ الْبَلْدَةِ الَّتِي مَاتَ بِهَا، وَنُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ مَاتَ بِالشَّامِ، وَحُمِلَ مِنْهَا: وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِيكَ إِلَيَّ مَا نَقَلْتُكَ، وَلَدَفَنْتُكَ حَيْثُ مُتَّ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّجْنِيسِ: فِي النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ لَا إِثْمَ، لِمَا نُقِلَ أَنَّ يَعْقُوبَ صلى الله عليه وسلم مَاتَ بِمِصْرَ، وَنُقِلَ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ، وَمُوسَى صلى الله عليه وسلم نَقَلَ تَابُوتَ يُوسُفَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا أَتَى عَلَيْهِ زَمَانٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ لِيَكُونَ مَعَ آبَائِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ تَتَوَفَّرْ فِي شُرُوطِ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا إِلَّا انْهُ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ضَيْعَةٍ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إِلَيْهَا اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ

ص: 1220

نُقِلَ حِينَ مَوْتِهِ لَا بَعْدَ دَفْنِهِ فَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ نَقْلُ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ عَنْ عُذْرٍ أَيْضًا، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْإِثْمِ وَالْكَرَاهَةِ، إِذِ الْكَرَاهَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى إِلَّا لِعَارِضٍ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَذُكِرَ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي بَلَدِهِ يُكْرَهُ نَقْلُهُ إِلَى أُخْرَى، لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، بِمَا فِيهِ تَأْخِيرُ دَفْنِهِ، وَكَفَى بِذَلِكَ كَرَاهَةً، قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ مِنْ نَقْلِهُ إِلَى أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ أَوْ إِلَى قُرْبِ قَبْرِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الْأَوْلِيَاءِ، أَوْ لِيَزُورَهُ أَقَارِبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا كَرَاهَةَ إِلَّا مَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ، أَوْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ، مِنْ مُطْلَقِ الشُّهَدَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَلَفْظُهُ) : أَيْ: لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ هَذَا اللَّفْظُ. (التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ صَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَكَانُوا نُقِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يُرَدُّ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَمْرُهُ بِرَدِّهِمْ كَانَ أَوَّلًا، وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ جَابِرًا جَاءَ بِأَبِيهِ إِلَى الْبَقِيعِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهَرٍ اهـ. وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مَقْبُولٌ بَلْ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ.

ص: 1221

1705 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «سُلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.

ــ

1705 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُلٌّ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي النِّهَايَةِ هُوَ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ بِتَأَنٍّ وَتَدْرِيجٍ، أَيْ: جُرَّ بِلُطْفٍ. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: فِي الْقَبْرِ. (مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ، وَجَانِبِهِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ إِلَى الْمَيِّتِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) أَيْ: عَنِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى شَائِبَةٍ مِنَ الضَّعْفِ، لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحٍ، لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَسَنٌ فَكَيْفَ يَكُونُ صَحِيحًا؟ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَلُّ سَلًّا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ بِأَنْ يُوضَعَ فِي السَّرِيرِ فِي مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الْمَيِّتِ بِإِزَاءِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ مِنَ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُدْخَلُ رَأْسُ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ، وَيُسَلُّ كَذَلِكَ، أَوْ تُكَوَّرُ رِجْلَاهُ مَوْضِعَ رَأْسِهِ وَيُسَلُّ كَذَلِكَ، وَقَدْ قِيلَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَالْمَرْوِيُّ لِلشَّافِعِيِّ الْأَوَّلُ قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، وَقَالَ: أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَرَبِيعَةَ، وَأَبِي النَّضْرِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَإِسْنَادُ أَبِي دَاوُدَ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَا أُخْرِجَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: أَوْصَانِي الْحَارِثُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ الْخَطْمِيُّ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْقَبْرِ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ، وَرُوِيَ خِلَافُهُ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُدْخِلَ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يُسَلَّ سَلًّا، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أُخِذَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَاسْتُقْبِلَ اسْتِقْبَالًا، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إِلَى مَا دُفِعَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ مِنْ أَنَّ سَلَّهُ لِلضَّرُورَةِ وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: تَعَارَضَ مَا رَوَيْنَاهُ فَتَسَاقَطَ، وَلَوْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ كَانَ لِلضَّرُورَةِ كَمَا قُلْنَا، وَغَايَةُ فِعْلِ غَيْرِهِ أَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ، ظَنَّ السُّنَّةَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَجَدْنَا التَّشْرِيعَ الْمَنْقُولَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ خِلَافَهُ، وَكَذَا بَعْدَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَنَّ عَلِيًّا كَبَّرَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُكَفَّفِ أَرْبَعًا، وَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَلِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَأَدْخَلَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، فَالْأَوْلَى الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ.

ص: 1221

1706 -

وَعَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأُسْرِجَ لَهُ بِسِرَاجٍ فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ وَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ إِنْ كُنْتَ لَأَوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

ــ

1706 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ قَبْرًا) أَيْ: قَبْرَ مَيِّتٍ لِيَدْفِنَهُ. (لَيْلًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَفْنَ الْمَيِّتِ لَيْلًا لَا يُكْرَهُ. (فَأُسْرِجَ) مَاضٍ مَجْهُولٌ. (لَهُ) أَيْ: لِلْمَيِّتِ، أَوْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. (بِسِرَاجٍ) أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، أَيْ: أُسْرِجَ عَلَى طَرَفِ الْقَبْرِ لِيُضِيءَ. (فَأَخَذَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَيِّتَ. (مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ) فِي الْأَزْهَارِ: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُوضَعُ فِي عُرْضِ الْقَبْرِ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ مُؤَخَّرُ الْجَنَازَةِ إِلَى مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ، وَرَأْسُهُ إِلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُدْخَلُ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالْأَكْثَرُونَ: يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ الرَّأْسِ بِأَنْ يُوضَعَ رَأْسُ الْجَنَازَةِ عَلَى مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ لِلْإِجْمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ حَفَّارِي بَلَدِهِ أَوْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ. (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّ الْمَيِّتِ. (رَحِمَكَ اللَّهُ) دُعَاءٌ أَوْ إِخْبَارٌ. (إِنْ كُنْتَ) إِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ عَلَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْمُبْتَدَأِ، وَلَزِمَهَا اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّافِيَةِ، أَيْ: إِنَّكَ كُنْتَ. (لَأَوَّاهًا) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ: كَثِيرَ التَّأَوُّهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَوْ كَثِيرَ التَّضَرُّعِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، أَوْ كَثِيرَ الْبُكَاءِ مِنْ خَوْفٍ، أَوْ كَثِيرَ الدُّعَاءِ لِطَلَبِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فِي النِّهَايَةِ الْأَوَّاهُ الْمُتَأَوِّهُ الْمُتَضَرِّعُ، وَقِيلَ هُوَ كَثِيرُ الْبُكَاءِ، أَوِ الْكَثِيرُ الدُّعَاءِ. (تَلَّاءً) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: كَثِيرَ التِّلَاوَةِ أَوْ كَثِيرَ الْمُتَابَعَةِ. (لِلْقُرْآنِ) وَالْمَعْنَى يَسْتَحِقُّ بِهِمَا الرَّحْمَةَ الْكَامِلَةَ، وَالْمَغْفِرَةَ الشَّامِلَةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى كَوْنِ الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ فِي إِسْنَادِهِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ اهـ. مَعَ أَنَّ فِيهِ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَأَةَ، وَمِنْهَالَ بْنَ خَلِيفَةَ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِمَا، وَذَلِكَ يَحُطُّ الْحَدِيثَ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيحِ، لَا الْحَسَنِ اهـ.

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ: إِنَّ الرَّجُلَ الْمَقْبُورَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ ذَا الْبِجَادَيْنِ، نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَفِي الْقَامُوسِ الْبِجَادُ، كَكِتَابٍ: كِسَاءٌ مُخَطَّطٌ، وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ دَلِيلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ حَدِيثَ ذِي الْبِجَادَيْنِ بِطُرُقٍ، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحَدِيثِ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى تَحْسِينِ التِّرْمِذِيِّ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِدْخَالُهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ ; لِأَنَّ شَقَّ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ كَانَ لَاصِقًا بِالْجِدَارِ الْقِبْلِيِّ، وَلَحْدَهُ تَحْتَ الْجِدَارِ، فَلَا مَوْضِعَ هُنَاكَ يُوضَعُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ تَعَلُّقُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، قُلْتُ: مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَلَّهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ، فَتَأَمَّلْ، وَأَنْصِفْ، وَلَا تَتَّبِعِ الْمُتَعَسِّفَ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَغَالِبُ طُرُقِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَاللَّهِ فَكَأَنِّي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قَبْرِ عَبْدِ اللَّهِ ذِي الْبِجَادَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، يَقُولُ: أَدْنِيَا مِنِّي أَخَاكُمَا، وَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، حَتَّى أَسْنَدَهُ فِي لَحْدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم وَوَلَّاهُمَا الْعَمَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَمْسَيْتُ عَنْهُ رَاضِيًا فَارْضَ عَنْهُ» ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، فَوَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ وَدِدْتُ أَنِّي مَكَانَهُ.

ص: 1222

1707 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَدْخَلَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الثَّانِيَةَ.

ــ

1707 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أُدْخِلَ) رُوِيَ مَجْهُولًا وَمَعْلُومًا. (الْمَيِّتُ) بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ. (الْقَبْرَ) مَفْعُولٌ ثَانٍ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَمَلًا أَوْ تَعْلِيمًا. (بِسْمِ اللَّهِ) أَيْ: وَضَعْتُهُ أَوْ وُضِعَ أَوْ أُدْخِلُهُ. (وَبِاللَّهِ) أَيْ: بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ، أَوْ بِعَوْنِهِ وَقُدْرَتِهِ. (وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِهِ الْجَامِعَةِ الشَّامِلَةِ، وَدِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ الْكَامِلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: أَدْخُلُ رُوِيَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَى نَاسٌ نَارًا فِي الْمَقْبَرَةِ فَأَتَوْهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَبْرِ وَهُوَ يَقُولُ: نَاوِلُونِي صَاحِبَكُمْ، فَإِذَا هُوَ بِالرَّجُلِ الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَعْلُومِ يَحْتَمِلُ الدَّوَامَ أَيْضًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْمَجْهُولِ يَحْتَمِلُ عَدَمَهُ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى. أَقُولُ: وَفِيهِ أَنَّ إِدْخَالَهُ صلى الله عليه وسلم الْمَيِّتَ بِنَفْسِهِ الْأَشْرَفِ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا بَلْ كَانَ نَادِرًا، لَكِنَّ قَوْلَهُ: بِسْمِ اللَّهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا مَعَ إِدْخَالِهِ وَإِدْخَالِ غَيْرِهِ تَأَمَّلْ. (وَفِي رِوَايَةٍ: وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: شَرِيعَتِهِ وَطَرِيقَتِهِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْأَوْلَى مِنْهُ صلى الله عليه وسلم. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. (وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: كُلُّهُمُ الرِّوَايَتَيْنِ. (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الثَّانِيَةَ) أَيِ: الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، زَادَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ بِسْمِ اللَّهِ: وَبِاللَّهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَلَفْظُهُ:«إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي قُبُورِهِمْ فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ، وَصَحَّحَهُ، وَفِيهِ طُرُقٌ عَدِيدَةٌ.

ص: 1222

1708 -

وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا ":«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَى عَلَى الْمَيِّتِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ» " رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: رَشَّ.

ــ

1708 -

(وَعَنْ جَعْفَرٍ) أَيِ: الصَّادِقِ. (بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِيهِ) أَيْ: مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ. (مُرْسَلًا) لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَحُذِفَ الصَّحَابِيُّ، وَالْغَالِبُ رِوَايَتُهُ عَنْ جَابِرٍ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَى) كَرَمَى، أَيْ: قَبَضَ التُّرَابَ وَرَمَاهُ. (عَلَى الْمَيِّتِ) الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. (ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ) أَيْ: حَفَنَاتٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهُ يَقُولُ: مَعَ الْأُولَى. (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) وَمَعَ الثَّانِيَةِ. (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) وَمَعَ الثَّالِثَةِ. (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) . (بِيَدَيْهِ جَمِيعًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالسُّنَّةُ لِمَنْ حَضَرَ الْمَيِّتَ عَلَى رَأْسِ الْقَبْرِ أَنْ يَحْثِيَ التُّرَابَ، وَيَرْمِيَهُ فِي الْقَبْرِ بَعْدَ نَصْبِ اللَّبِنِ، وَفِي التَّحْبِيرِ لِلْقُشَيْرِيِّ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ فِي الْمَنَامِ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: وُزِنَتْ حَسَنَاتِي فَرَجَحَتِ السَّيِّئَاتُ عَلَى الْحَسَنَاتِ فَسَقَطْتُ عَلَى صُرَّةٍ فِي كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ فَرَجَحَتْ، فَحُلَّتِ الصُّرَّةُ، فَإِذَا فِيهَا كَفُّ تُرَابٍ أَلْقَيْتُهُ فِي قَبْرِ مُسْلِمٍ، ذَكَرَهُ فِي الْمَوَاهِبِ. (وَأَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. (رَشَّ) أَيِ: الْمَاءَ. (عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُسَنُّ حَيْثُ لَا مَطَرَ رَشُّ الْقَبْرِ بِمَاءٍ بَارِدٍ، وَطَاهِرٍ طَهُورٍ تَفَاؤُلًا، بِأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّدُ مَضْجَعَهُ. (وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ) وَهِيَ بِالْمَدِّ الْحَصَى الصِّغَارُ قَالَ: فَفِي الْقَامُوسِ الْحَصْبَاءُ الْحَصَى، وَالْحَصَى صِغَارُ الْحِجَارَةِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْحَصْبَاءُ الصِّغَارُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْحَصَا عَلَيْهِ سُنَّةٌ، لِئَلَّا يَنْبِشَهُ سَبُعٌ، وَلِيَكُونَ عَلَامَةً لَهُ اهـ.

وَفِي الْعِلَّةِ الْأُولَى بَحْثٌ. (رَوَاهُ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) وَرَوَى الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ. (رَشَّ) قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، عَنْ أَبِيهِ الْبَاقِرِ مُرْسَلًا فِي حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا إِلَى جَمِيعًا، وَالْآخَرُ: أَنَّهُ رَشَّ، وَقَدَّمَ حَدِيثَ الرَّشِّ عَلَى حَدِيثِ حَثَى، وَذَكَرَ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَحَثَى بِيَدَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ» ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ مِيرَكُ: كَذَا فِي التَّصْحِيحِ، وَهُوَ خِلَالَ مَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فَتَأَمَّلْ اهـ.

وَرَوَى الْبَزَّارُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالرَّشِّ فِي قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ فِي قَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَدَلِيلُ الْحَثْيِ جَيِّدٌ، وَدَلِيلُ وَضْعِ الْحَصَى ضَعِيفٌ، وَمَعَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِهِ فَيُسَنُّ وَضْعُهَا عَلَى الْقَبْرِ اهـ. وَفِيهِ إِشْكَالَانِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ حَدِيثَ الْحَثْيِ وَالرَّشِّ وَاحِدٌ، وَحَدِيثَ الرَّشِّ بِانْفِرَادِهِ ضَعِيفٌ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرَّرَةَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ لَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ.

ص: 1223

1709 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

1709 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ) بِالتَّذَكِيرِ وَتُؤَنَّثُ. (الْقُبُورُ) قِيلَ: لَعَلَّ وُرُودَ النَّهْيِ لِأَنَّهُ نَوْعُ زِينَةٍ، وَلِذَلِكَ رَخَّصَ بَعْضُهُمُ التَّطْيِينَ، مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيِّنَ الْقَبْرُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا) قَالَ الْمُظْهِرُ: يُكْرَهُ كِتَابَةُ اسْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ، لِئَلَّا يُهَانَ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ، وَيُدَاسَ بِالِانْهِدَامِ، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَكَذَا يُكْرَهُ كِتَابَةُ اسْمِ اللَّهِ وَالْقُرْآنِ عَلَى جِدَارِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَخَذَ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكِتَابَةُ عَلَى الْقَبْرِ سَوَاءٌ اسْمُ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرُهُ فِي لَوْحٍ عِنْدَ رَأْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ، قِيلَ: وَيُسَنُّ كِتَابَةُ اسْمِ الْمَيِّتِ لَا سِيَّمَا الصَّالِحُ لِيُعْرَفَ عِنْدَ تَقَادُمِ الزَّمَانِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكِتَابَةِ مَنْسُوخٌ كَمَا قَالَهُ الْحَاكِمُ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّائِدِ عَلَى مَا يُعْرَفُ بِهِ حَالُ الْمَيِّتِ اهـ. وَفِي قَوْلِهِ: يُسَنُّ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ. (وَأَنْ تُوطَأَ) أَيْ: بِالْأَرْجُلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ، قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: النَّهْيُ عَنِ التَّجْصِيصِ وَالْكِتَابَةِ وَالْوَطْءِ الْكَرَاهِيَةُ، وَالْوَطْءُ لِحَاجَةٍ كَزِيَارَةٍ، وَدَفْنِ مَيِّتٍ لَا يُكْرَهُ نَقَلَهُ السَّيِّدُ، وَفِي وَطْئِهِ لِلزِّيَارَةِ مَحَلُّ بَحْثٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَابِرٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.

ص: 1223

1710 -

وَعَنْهُ قَالَ: " «رُشَّ قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ الَّذِي رَشَّ الْمَاءَ عَلَى قَبْرِهِ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، بِقِرْبَةٍ بَدَأَ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رِجْلَيْهِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.

ــ

1710 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ. (قَالَ: رُشَّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (قَبْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِنْزَالِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعَوَاطِفِ الرَّبَّانِيَّةِ، كَمَا وَرَدَ بِالطَّرَاوَةِ وَعَدَمِ الدُّرُوسِ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنَّ الْقَبْرَ إِذَا رُشَّ بِالْمَاءِ كَانَ أَكْثَرَ بَقَاءً وَأَبْعَدَ عَنِ التَّنَاثُرِ وَالِانْدِرَاسِ، قُلْتُ: هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ حِسِّيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِبَارَةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنَ الْإِشَارَةِ فَهُوَ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ الشَّرَافَةِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُرِيدِينَ بَنَى بَيْتًا ثُمَّ ضَيَّفَ شَيْخَهُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: لِأَيِّ شَيْءٍ فَتَحْتَ الطَّاقَةَ؟ قَالَ: لِدُخُولِ الْهَوَاءِ، وَشُمُولِ الضِّيَاءِ، فَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَقْصِدَ بِالْأَصَالَةِ سَمَاعَ الْأَذَانِ، وَيَكُونُ الْبَاقِي تَبَعًا لَهُ. (وَكَانَ الَّذِي رَشَّ الْمَاءَ عَلَى قَبْرِهِ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ) بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ. (بِقِرْبَةٍ بَدَأَ) أَيِ: ابْتَدَأَ فِي الرَّشِّ. (مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) لِشَرَفِهِ وَاسْتَمَرَّ. (حَتَّى انْتَهَى إِلَى رِجْلَيْهِ) وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَرَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ مِرَارًا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ) وَفِي وَجْهِ رِوَايَتِهِ فِي الدَّلَائِلِ خَطَأٌ.

ص: 1224

1711 -

وَعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: «لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ، فَدُفِنَ، أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا أَنْ يَأْتِهِ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهَا فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ. قَالَ الْمُطَّلِبُ: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا، ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1711 -

(وَعَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ قُرَشِيٌّ، أَسْلَمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، لَمْ يَنْسُبِ الْمُطَّلِبُ رَاوِيَهُ، وَكَذَا فِي الْمَصَابِيحِ وَقَعَ غَيْرَ مَنْسُوبٍ، وَالْمُصَنِّفُ جَعَلَهُ مَنْسُوبًا إِلَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: وَالسُّلَمِيُّ فِي تَخْرِيجِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيِّ، وَهُوَ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَفِي الْحَدِيثِ إِرْسَالٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ، حَيْثُ قَالَ الْمُطَّلِبُ: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. إِلَى آخِرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى خَطَأِ الْمُصَنِّفِ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا كَثِيرٌ عَنْ يَزِيدَ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ قَالَ:«لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ فَوُضِعَ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: هَذَا عَلَامَةُ قَبْرِهِ، يُدْفَنُ إِلَيْهِ يَعْنِي مَنْ مَاتَ بَعْدَهُ» اهـ.

(قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ. (أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ) كَأَنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْعَاطِفِ أَيْ: وَأَخْرَجَ جَنَازَتَهُ. (فَدُفِنَ) وَقَوْلُهُ: (أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَوَابُ لَمَّا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جَوَابَ لَمَّا هُوَ أُخْرِجَ، لِوُقُوعِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَرَ حُذِفَ عَاطِفُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَاشِيَةِ السَّابِقَةِ لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. (رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ) أَيْ: كَبِيرٍ لِوَضْعِ الْعَلَامَةِ وَفِي رِوَايَةٍ: بِصَخْرَةٍ. (فَلَمْ يَسْتَطِعْ) أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ. (حَمْلَهَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ عَلَى تَأْوِيلِ الصَّخْرَةِ. (فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَسَرَ) أَيْ: كَشَفَ وَأَبْعَدَ كُمَّهُ. (عَنْ ذِرَاعَيْهِ) أَيْ: سَاعِدَيْهِ، وَفِي النِّهَايَةِ أَخْرَجَهَا عَنْ كُمَّيْهِ اهـ. وَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى.

وَفِي الْأَزْهَارِ فِيهِ أَنَّ حَسْرَ الذِّرَاعِ لِحَاجَةٍ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَلَا تَرْكُ أَدَبٍ بِمَرْأَى النَّاسِ، إِذْ فِيهِ صِيَانَةُ الثَّوْبِ عَنِ الْأَدْنَاسِ. (قَالَ الْمُطَّلِبُ: قَالَ الَّذِي يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَسَرَ» ) أَيْ: كَشَفَ الثَّوْبَ عَنْهُمَا. (ثُمَّ حَمَلَهَا أَيْ: وَحْدَهُ. (فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ) أَيْ: رَأَسِ قَبْرِ عُثْمَانَ. (وَقَالَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. (أُعَلِّمُ) مُضَارِعُ مُتَكَلِّمٍ مِنَ الْإِعْلَامِ. (بِهَا) أَيْ: أُعَلِّمُ النَّاسَ بِهَذِهِ الْحِجَارَةِ. (قَبْرَ أَخِي) وَأَجْعَلُ الصَّخْرَةَ عَلَامَةً لِقَبْرِ أَخِي، وَسَمَّاهُ أَخًا تَشْرِيفًا لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ قُرَشِيًّا، أَوْ لِأَنَّهُ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، قِيلَ: إِنَّهُ أَسْلَمُ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ مَرَّتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَوَّلُ

ص: 1224

مَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. (وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى قُرْبِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أُضَمُّ إِلَيْهِ فِي الدَّفْنِ. (مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي) فِي الْأَزْهَارِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ عَلَّامَةٌ يُعْرَفُ بِهَا، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أُعَلِّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي» ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْمَعَ الْأَقَارِبُ فِي مَوْضِعٍ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» ، وَكَانَ عُثْمَانُ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ دُفِنَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ ابْنُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: سَمَّاهُ أَخَاهُ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ كَانَ قُرَشِيًّا، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ: لَا أَشْرَبُ مَا يُضْحِكُ بِيَ مَنْ هُوَ دُونِي، وَقَالَ السُّلَمِيُّ: وَكَانَ عُثْمَانُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ دَفْنٍ بِالْبَقِيعِ، وَمَنْ هَاجَرَ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمُ بْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِزَيْنَبَ بِنْتِهِ بَعْدَ أَنْ مَاتَتِ الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ: عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ» ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ «قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي إِبْرَاهِيمَ وَأُخْتِهِ زَيْنَبَ لَمَّا تُوُفِّيَا: الْحَقَا بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ: عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ» فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ بِالنِّسْبَةِ لِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ بَعْضُ مُتَقَدِّمِي أَئِمَّتِنَا: وَيُسَنُّ وَضْعُ أُخْرَى عِنْدَ رِجْلِهِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ حَجَرَيْنِ عَلَى قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَرَدَ بِأَنَّ الْمَحْفُوظَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ حَجَرٌ وَاحِدٌ كَمَا تَقَرَّرَ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ الْحَجَرَ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ التَّعَدُّدَ، مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرِّرَةَ التَّعَارُضَ عَلَى تَسْلِيمِ ثُبُوتِ الْوَاحِدِ أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَأَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّينَ، تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ اهـ. فَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ أَنَّ سَنَدَهُ جَيِّدٌ مُحْتَاجٌ إِلَى الِانْتِقَادِ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ النُّقَّادُ.

ص: 1225

1712 -

وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ، اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةٍ وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1712 -

(وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهْ) بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَهِيَ عَمَّتُهُ، لَكِنْ قَالَ يَا أُمَّاهْ ; لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ، أَوْ لِكَوْنِهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. (اكْشِفِي لِي) أَيْ: أَظْهِرِي وَارْفَعِي السِّتَارَةَ. (عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ: رَسُولِ اللَّهِ. صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ) أَيْ: ضَجِيعَيْهِ، وَهُمَا الْعُمَرَانِ الْقَمَرَانِ الْمُنَوِّرَانِ، بِجَنْبِ الْبَدْرِ الْمُنِيرِ، أَوْ شَمْسِ الظَّهِيرِ. (فَكَشَفَتْ لِي) لِأَجْلِي أَوْ لِرُؤْيَتِهِ. (عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ) أَيْ: مُرْتَفِعَةٍ غَايَةَ الِارْتِفَاعِ، وَقِيلَ: أَيْ: عَالِيَةٍ أَكْثَرَ مِنْ شِبْرٍ (وَلَا لَاطِئَةٍ) بِالْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ أَيْ: مُسْتَوِيَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، يُقَالُ: لَطَأَ بِالْأَرْضِ أَيْ: لَصِقَ بِهَا. (مَبْطُوحَةٍ) صِفَةٌ لِقُبُورٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: مُسَوَّاةٍ مَبْسُوطَةٍ عَلَى الْأَرْضِ اهـ.

وَفِيهِ أَنْ تَكُونَ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى لَاطِئَةٍ، وَتَقَدَّمَ نَفْيُهَا، وَالصَّوَابُ مَعْنَاهَا مُلْقَاةٌ فِيهَا الْبَطْحَاءُ، فَفِي الْقَامُوسِ: تَبْطِيحُ الْمَسْجِدِ إِلْقَاءُ الْحَصَى فِيهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: بَطْحُ الْمَكَانِ تَسْوِيَتُهُ، وَبَطَحَ " الْمَسْجِدَ أَلْقَى فِيهِ الْبَطْحَاءَ، وَهُوَ الْحَصَى الصِّغَارُ، اهـ. وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِلشَّافِعِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى التَّسْطِيحِ، وَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقُبُورَ الثَّلَاثَةَ مُسَطَّحَةٌ لَا مُسَنَّمَةٌ، وَأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ صَحَّحَ أَنَّ قَبْرَهُ صلى الله عليه وسلم مُرْتَفِعٌ شِبْرًا، قُلْتُ: كَوْنُهُ مُرْتَفِعًا شِبْرًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُسَنَّمًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَصْرِيحُ سُفْيَانَ: أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا. (بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ) أَيْ: بِرَمْلِ الْعَرْصَةِ، وَهِيَ مَوْضِعٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرْصَةُ جَمْعُهَا عَرَصَاتٌ، وَهِيَ كُلُّ مَوْضِعٍ

ص: 1225

وَاسِعٍ لَا بِنَاءَ فِيهِ، وَالْبَطْحَاءُ مَسِيلٌ وَاسِعٌ فِيهِ دِقَاقُ الْحَصَى، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْحَصَى لِإِضَافَتِهَا إِلَى الْعَرْصَةِ، وَقَوْلُهُ. (الْحَمْرَاءِ) صِفَةٌ لِلْبَطْحَاءِ أَوِ الْعَرْصَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُرْتَفِعَةٍ، وَلَا مُنْخَفِضَةٍ، لَاصِقَةٍ بِالْأَرْضِ مَبْسُوطَةٍ مُسَوَّاةٍ، وَالْبَطْحُ أَنْ يُجْعَلَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ مُسَطَّحًا، حَتَّى يُسَوَّى وَيَذْهَبَ التَّفَاوُتُ. قَالَ السَّيِّدُ: وَفِيهِ بَحْثٌ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ مَا قُلْنَا، أَوَّلًا أَوْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْقُبُورِ صُورَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَنِ الْأَرْضِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ الْخِلَافَ لِي أَنَّهَا مُسَنَّمَاتٌ أَوْ مُرَبَّعَاتٌ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مِنَ ابْنِ الْهُمَامِ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَقَامِ، ثُمَّ قَالَ السَّيِّدُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَلْقَى فِيهَا بَطْحَاءَ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ السَّيِّدُ: قِيلَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقِيلَ: حَسَنٌ.

ص: 1226

1713 -

«وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمْ يُلْحَدْ بَعْدُ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَجَلَسْنَا مَعَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ.

ــ

1713 -

(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ) أَيْ: فَوَصَلْنَا. (وَلَمَّا) أَيْ: لَمْ. (يَلْحَدْ بَعْدُ) أَيْ: لَمْ يَفْرَغْ مِنْ حَفْرِ اللَّحْدِ بَعْدَ مَجِيئِنَا. (فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (وَجَلَسْنَا مَعَهُ) أَيْ: حَوْلَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، حَتَّى يُلْحَدَ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: وَأَمَّا عِنْدَ زِيَارَةِ الْمَيِّتِ فَيَجْلِسُ أَوْ يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ، هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ. (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ) إِشَارَةً إِلَى الْإِطْرَاقِ قَالَ السَّيِّدُ: قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ مُطَوَّلًا فِي بَابِ: مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْهُ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذُهِلَ عَنْ إِيرَادِ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَأَوْرَدَهُ هُنَاكَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَا أَوْرَدَهُ مُطَوَّلًا فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَأَيْضًا أَوْرَدَهُ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ يَحْصُلُ بِهَا الْمُغَايَرَةُ بِلَا تَكْرَارٍ حَقِيقَةً.

ص: 1226

1714 -

وَعَنْ عَائِشَةَ: " «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» " رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1714 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم: قَالَ " «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» " يَعْنِي فِي الْإِثْمِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُهَانُ مَيِّتًا، كَمَا لَا يُهَانُ حَيًّا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَأَلَّمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ لَازَمِهِ أَنَّهُ يَسْتَلِذُّ بِمَا يَسْتَلِذُّ بِهِ الْحَيُّ اهـ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَذَى الْمُؤْمِنِ فِي مَوْتِهِ كَأَذَاهُ فِي حَيَاتِهِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ. (وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: سَنَدُهُ حَسَنٌ.

ص: 1226

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)

1715 -

«عَنْ أَنَسٍ قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُدْفَنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا. قَالَ: فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1715 -

(عَنْ أَنَسٍ: قَالَ: شَهِدْنَا) أَيْ: حَضَرْنَا. (بِنْتَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: أُمَّ كُلْثُومٍ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (تُدْفَنُ) فِي حَالِ دَفْنِهَا. (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. (عَلَى الْقَبْرِ) أَيْ: شَفِيرِهِ. (فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ) تَسِيلَانِ دَمْعًا. (فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟) مِنْ زَائِدَةٌ. (لَمْ يُقَارِفْ) فِي النِّهَايَةِ: قَارَفَ الذَّنْبَ إِذَا أَتَاهُ، وَلَاصَقَهُ، وَقَارَفَ امْرَأَتَهُ إِذَا جَامَعَهَا، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: لَمْ يُقَارِفْ أَيْ: لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْجِمَاعُ فَكُنِّيَ عَنْهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ:

ص: 1226

(اللَّيْلَةَ) أَيِ: الْبَارِحَةَ بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ، نَقَلَ مِيرَكُ: قَالَ الرَّاوِي: يَعْنِي لَمْ يُقَارِفِ الذَّنْبَ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: قَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ ذُنُوبًا كَسَبَهَا، وَقَارَفَ فُلَانٌ الشَّيْءَ إِذَا دَنَاهُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ قِرَافٍ أَيْ: خِلَاطٍ وَجِمَاعٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَارَبْتَهُ، فَقَدْ قَارَفْتَهُ. قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عُثْمَانَ وَكَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي تُوُفِّيَتْ، هَلْ خَالَطَ امْرَأَتَهُ أَيِ: الْأُخْرَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ؟ فَلَمْ يَقُلْ عُثْمَانُ لَمْ أُقَارِفْ أَنَا) ، كَذَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْحَافِظِ إِسْمَاعِيلَ الْأَصْفَهَانِيِّ، وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ. (فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَارَفَةِ الْجِمَاعُ، وَإِنْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ مَجْهُولَةً عِنْدَنَا فَإِنَّ الْجَزْمَ بِعَدَمِ مُقَارَفَةِ الذَّنْبِ مُسْتَبْعَدٌ مِنَ الْأَكَابِرِ. (قَالَ: فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا) فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا الظَّاهِرِ لِأَنْ يَدْفِنَهَا فِيهِ فَيَكُونَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، أَوْ إِشَارَةً إِلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ الْمُسَاعَدَةَ، وَالْمُحَرَّمُ دَفْنَهَا. قَالَ أَبُو الْهُمَامِ: لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنَ النِّسَاءِ الْقَبْرَ، وَلَا يُخْرِجُهُنَّ إِلَّا الرِّجَالُ ; لِأَنَّ مَسَّ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا بِحَائِلٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ فِي حَيَاتِهَا فَكَذَا بَعْدَ مَوْتِهَا، فَإِذَا مَاتَتْ وَلَا مَحْرَمَ دَفَنَهَا أَهْلُ الصَّلَاحِ مِنْ مَشَايِخِ جِيرَانِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَالشَّبَابُ الصُّلَحَاءُ، أَمَّا إِنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ وَلَوْ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ نَزَلَ، وَأَلْحَدَهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يُشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَحَارِمَ وَالزَّوْجَ أَوْلَى مِنْ صَالِحِ الْأَجَانِبِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَعُثْمَانَ كَانَ لَهُمَا عُذْرٌ مَنَعَهُمَا نُزُولَ الْقَبْرِ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنَ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّةَ صُلَحَاءُ وَأَحَدُهُمْ بَعِيدُ الْعَهْدِ بِالْجِمَاعِ قُدِّمَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ: أَنَّ رُقْيَةَ لَمَّا مَاتَتْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَدْخُلُ الْقَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَدْخُلْ عُثْمَانُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَظَاهِرُهُ مَعَ مَا مَرَّ أَنَّ عُثْمَانَ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي كُلٍّ مِنْ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي حَدِيثِ الْأَصْلِ أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ فَيُحْمَلُ الْمُجْمَلُ عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى جِمَاعِ عُثْمَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَكَنَّى عَنْ مَنْعِهِ بِقَوْلِهِ: أَيُّكُمْ لَمْ يُقَارِفْ؟ فَسَكَتَ فَصَدَقَ صلى الله عليه وسلم مَا بَلَغَهُ فَأَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يَتَوَلَّى إِدْخَالَهَا، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْقَبْرِ لِأَنَّهُ لِفَرْطِ شَهْوَتِهِ قَارَفَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَخَشِيَ صلى الله عليه وسلم إِنْ نَزَلَ أَنْ يَتَذَكَّرَ شَيْئًا فَيَذْهَلَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِكَمَالِ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ بِالْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مُنَافٍ ; لِأَنْ يَقَعَ مُتَعَدِّدًا مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 1227

1716 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَعْلَمَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1716 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ لِابْنِهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ. (وَهُوَ) أَيْ: عَمْرٌو. (فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ) أَيْ: صَدَدِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: السِّيَاقُ النَّزْعُ وَأَصْلُهُ السِّوَاقُ. (إِذَا أَنَا مُتُّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا. (فَلَا تَصْحَبْنِي) أَيْ: لَا تَتْرُكْ أَنْ يَكُونَ مَعَ جَنَازَتِي. (نَائِحَةٌ) أَيْ: صَائِحَةٌ بِالْبُكَاءِ، وَنَادِبَةٌ بِالنِّدَاءِ ; فَإِنَّهُ يُؤْذِي الْمَيِّتَ وَالْحَيَّ، وَشَغَلَ الْمُشَيِّعَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَفَنَاءِ الدُّنْيَا، وَفَكَّرَ مُقَصِّرَهُمْ فِي أَمْرِ الْعُقْبَى. (وَلَا نَارٌ) أَيْ: لِلْمُبَاهَاةِ وَالرِّيَاءِ، كَمَا كَانَ عَادَةُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَبَقِيَتْ إِلَى الْآنَ فِي مَكَّةَ مِنْهَا بَقِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِأَنَّهَا مِنَ التَّفَاؤُلِ الْقَبِيحِ، وَفِيهِ أَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّفَاؤُلِ الْقَبِيحِ، لَا أَنَّهَا بَعْضُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. (فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي) أَيْ: أَرَدْتُمْ دَفْنِي. (فَشُنُّوا) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: صُبُّوا وَكُبُّوا. (عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا) فِي النِّهَايَةِ: الشَّنُّ الصَّبُّ، بِسُهُولَةٍ (ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي) لَعَلَّهُ دُعَاءٌ بِالتَّثْبِيتِ وَغَيْرِهِ. (قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ) أَيْ: بَعِيرٌ وَهُوَ مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُذَكَّرُ، فَيَجُوزُ تَذْكِيرُ يُنْحَرُ وَتَأْنِيثُهُ. (وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ أَيْ: بِدُعَائِكُمْ وَأَذْكَارِكُمْ وَقِرَاءَتِكُمْ، وَاسْتِغْفَارِكُمْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّهُ «كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُلِ يَقِفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لِأَخِيكُمْ، وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، وَفِي رِوَايَةٍ التَّثَبُّتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: وَبِهَذَا الْخَبَرِ وَقَوْلِ عُمَرَ اعْتَضَدَ حَدِيثُ التَّلْقِينِ الْمَشْهُورِ، فَمِنْ ثَمَّ عَمِلُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَيَقُولُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إِنَّ التَّلْقِينَ بِدْعَةٌ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، اهـ. وَهُوَ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْمُعْتَضِدَ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمُعْتَضِدِ وَلَيْسَ هُنَا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَضِدْ إِجْمَاعًا كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّهُ الْفَضَائِلُ الثَّابِتَةُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ لَقِّنُوا فَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. (وَأَعْلَمَ) مِنْ غَيْرِ وَحْشَةٍ. (مَاذَا أُرَاجِعُ) أَيْ: أُجَاوِبُ بِهِ. (رُسُلَ رَبِّي) أَيْ: سُؤَالَ الْمَلَكَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ

) .

ص: 1227

1717 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ فَاتِحَةُ الْبَقَرَةِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْبَقَرَةِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ.

ــ

1717 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ» ) أَيْ: لَا تُؤَخِّرُوا دَفْنَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُسْتَحْسَنُ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهِ كُلِّهِ مِنْ حِينِ يَمُوتُ. (وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ) وَهُوَ تَأْكِيدٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى سُنَّةِ الْإِسْرَاعِ فِي الْجَنَازَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: دُونَ الْخَبَبِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْعَدْوِ دُونَ الْعَنَقِ، وَالْعَنَقُ: خَطْوٌ فَسِيحٌ، فَيَمْشُونَ بِهِ مَا دُونَ الْعَنَقِ، وَلَوْ مَشَوْا بِهِ الْخَبَبَ كُرِهَ، لِأَنَّهُ ازْدِرَاءٌ بِالْمَيِّتِ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمَشْيِ مَعَ الْجَنَازَةِ فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ،» وَهُوَ مُضَعَّفٌ. وَأَخْرَجَ السِّتَّةُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ غَيْرَ صَالِحَةٍ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» . (وَلْيُقْرَأْ) بِالتَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ، وَبِسُكُونِ اللَّامِ وَيُكْسَرُ. (عِنْدَ رَأْسِهِ فَاتِحَةَ الْبَقَرَةِ) أَيْ: إِلَى الْمُفْلِحُونَ. (وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ) وَفِي نُسْخَةٍ خَاتِمَةِ. (الْبَقَرَةِ) أَيْ: مِنْ. (آمَنَ الرَّسُولُ) إِلَخْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ تَخْصِيصَ فَاتِحَتِهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَدْحِ كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ هَدًى لِلْمُتَّقِينَ، الْمَوْصُوفِينَ بِالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَخَاتِمَتِهَا لِاحْتِوَائِهَا عَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَإِظْهَارِ الِاسْتِكَانَةِ، وَطَلَبِ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّوَلِّي إِلَى كَنَفِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِمَايَتِهِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ابْنِ عُمَرَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرُوزِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إِذَا دَخَلْتُمُ الْمَقَابِرَ فَاقْرَءُوا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَاجْعَلُوا ثَوَابَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلزَّائِرِ الِاعْتِبَارُ، وَلِلْمَزُورِ الِانْتِفَاعُ بِدُعَائِهِ اهـ. وَفِي الْإِحْيَاءِ لِلْغَزَالِيِّ: وَالْعَاقِبَةِ لِعَبْدِ الْحَقِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَحْوُهُ، وَأَخْرَجَ الْخَلَّالُ فِي الْجَامِعِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا مَاتَ لَهُمُ الْمَيِّتُ اخْتَلَفُوا إِلَى قَبْرِهِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَأَخْرَجَ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي فَضَائِلِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهُ لِلْأَمْوَاتِ، أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ: سَعْدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ فِي مَوَائِدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ ثُمَّ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَأَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ ثَوَابَ مَا قَرَأْتُ مِنْ كَلَامِكَ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، كَانُوا شُفَعَاءَ لَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى» ، وَأَخْرَجَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْأَنْصَارِيُّ فِي مَشْيَخَتِهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: قَالَ حَمَّادٌ الْمَكِّيُّ: خَرَجْتُ لَيْلَةً إِلَى مَقَابِرِ مَكَّةَ فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى قَبْرٍ فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ أَهْلَ الْمَقَابِرِ حَلَقَةً حَلَقَةً، فَقُلْتُ: قَامَتِ الْقِيَامَةُ قَالُوا: لَا، وَلَكِنْ رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِنَا قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لَنَا فَنَحْنُ نَقْتَسِمُهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الْعَزِيزِ صَاحِبُ الْخِلَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ فَقَرَأَ سُورَةَ يس خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ» ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: حَدِيثُ اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْمَيِّتِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ، ثُمَّ قَالَ: اخْتُلِفَ فِي وُصُولِ ثَوَابِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ، فَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوُصُولِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إِمَامُنَا الشَّافِعِيُّ مُسْتَدِلًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنِ الْآيَةِ بِأَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] الْآيَةَ أَدْخَلَ الْأَبْنَاءَ الْجَنَّةَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ، الثَّانِي: أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ لَهَا مَا سَعَتْ، وَمَا سُعِيَ لَهَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْكَافِرُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ مَا سَعَى وَسُعِيَ لَهُ قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. الرَّابِعُ: لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى مِنْ طَرِيقِ الْعَدْلِ، فَأَمَّا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فَجَائِزٌ أَنْ يَزِيدَهُ اللَّهُ مَا شَاءَ قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّامَ فِي الْإِنْسَانِ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ: لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْوُصُولِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي نَقْلِ الثَّوَابِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَنْ

ص: 1228

حَجٍّ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ وَقْفٍ أَوْ دُعَاءٍ، أَوْ قِرَاءَةٍ، وَبِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً فَمَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا فِي كُلِّ مِصْرٍ وَعَصْرٍ يَجْتَمِعُونَ وَيَقْرَءُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي جُزْءٍ أَلَّفَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الْقَبْرِ فَجَازَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: اسْتُحِبَّ لِزَائِرِ الْقُبُورِ أَنْ يَقْرَأَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَدْعُوَ لَهُمْ عَقِبَهَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِنْ خَتَمُوا الْقُرْآنَ عَلَى الْقَبْرِ كَانَ أَفْضَلَ.

ص: 1229

1718 -

وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحُبْشِيِّ وَهُوَ مَوْضِعٌ فَحُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ بِهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ أَتَتْ قَبْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ، لَوْ حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إِلَّا حَيْثُ مُتَّ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

1718 -

(وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) أَيِ: الصِّدِّيقُ. (بِالْحُبْشِيِّ) فِي النِّهَايَةِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَكَسْرِ الشِّينِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، مَوْضِعٌ) قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَبَلٌ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ. (وَهُوَ مَوْضِعُ تَفْسِيرٍ مِنَ الرَّاوِي يَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ. (فَحُمِلَ) أَيْ: نُقِلَ. (إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ بِهَا، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ) أَيْ: مَكَّةَ. (أَتَتْ قَبْرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أَيْ: أَخِيهَا. (فَقَالَتْ) أَيْ: مُنْشِدَةً مُشِيرَةً إِلَى أَنَّ طُولَ الِاجْتِمَاعِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ زَوَالِهِ يَكُونُ كَأَقْصَرِ زَمَنٍ وَأَسْرَعِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْفَانِي جَمِيعُهُ، قَالَ تَعَالَى:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] وَلِذَا قِيلَ: الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلْهَا طَاعَةً. (وَكُنَّا) أَيْ: إِنَّا وَإِيَّاكَ حَالَ حَيَاتِكَ مُتَقَارِبَيْنِ، وَمُتَصَاحِبَيْنِ وَمُتَحَابَّيْنِ. (كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجَذِيمَةُ هَذَا كَانَ مَلِكًا بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ الْعَرَبَ، وَهُوَ صَاحِبُ الزَّبَّاءِ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الزَّبَّاءُ مَلِكَةُ الْجَزِيرَةِ، وَتُعَدُّ مِنْ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ أَيْ: كَنَدِيمِيْهِ وَجَلِيسَيْهِ وَأَنِيسَيْهِ، قِيلَ: نَدْمَانَاهُ الْفَرْقَدَانِ. (حِقْبَةً) بِكَسْرٍ أَيْ: مُدَّةً لَا وَقْتَ لَهَا. (مِنَ الدَّهْرِ) أَيِ: الزَّمَانِ. (حَتَّى قِيلَ) : أَيْ: إِلَى أَنْ قَالَ النَّاسُ: إِنَّهُمَا (لَنْ يَتَصَدَّعَا) أَيْ: لَنْ يَتَفَرَّقَا) أَبَدًا، تَوَهَّمَا أَنَّ طُولَ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ يَدُومُ. (فَلَمَّا تَفَرَّقَا أَيْ: بِالْمَوْتِ. (كَأَنِّي وَمَالِكٌ) هُوَ أَخُو الشَّاعِرِ الْمَيِّتِ (لِطُولِ اجْتِمَاعٍ) أَيْ: عِنْدَهُ. (لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً) أَيْ: سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ. (مَعًا) أَيْ: مُجْتَمَعَيْنِ لِمَا تَقَرَّرُ أَنَّ الْفَانِيَ إِذَا انْقَطَعَ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، قَالَ تَعَالَى:{كَأَنَّ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] وَقِيلَ: اللَّامُ فِي طُولٍ بِمَعْنَى مَعَ أَوْ بَعْدَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكَ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَمِنْهُ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، أَيْ: بَعْدَهَا، قَالَ الشَّمَنِيُّ فِي شَرْحِ الْمُغْنِي: وَهَذَا الْبَيْتُ لِتَمِيمِ بْنِ نُوَيْرَةَ، يَرْثِي أَخَاهُ مَالِكًا، الَّذِي قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. (ثُمَّ قَالَتْ) أَيْ: عَائِشَةُ. (وَاللَّهِ لَوْ حَضَرْتُكَ) أَيْ: وَقْتَ الدَّفْنِ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَيْ: حَضَرْتُ وَفَاتَكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَدَفْنَكَ. (مَا دُفِنْتَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (إِلَّا حَيْثُ مُتَّ) أَيْ: مَنَعْتُكَ أَنْ تُنْقَلَ، وَقَدْ نُقِلَ بَحْثُ النَّقْلِ فِيمَا سَبَقَ، وَكَأَنَّهَا رضي الله عنها ذَهَبَتْ إِلَى مَنْعِ النَّقْلِ مُطْلَقًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا أَنَّ كُلَّ مَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ لَا يُمِيتُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي مَكَّةَ اهـ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ غَرِيبٌ. (وَلَوْ شَهِدْتُكَ) أَيْ: حَضَرْتُ وَفَاتَكَ. (مَا زُرْتُكَ) أَيْ: ثَانِيًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ زَوَّارَتِ الْقُبُورِ» . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا قِيلَ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ بِنَسْخِ ذَلِكَ، قُلْتُ: النَّاسِخُ قَوْلُهُ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» "، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرُّخْصَةُ إِنَّمَا هِيَ الرِّجَالُ، فَلَعَلَّهَا ذَهَبَتْ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا مَا جَوَّزَتْ خُرُوجَ نِسَاءٍ إِلَى الْمَسَاجِدِ مَعَ تَجْوِيزِهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلِّلَةً بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَوْ عَلِمَ فَسَادَ نِسَاءِ الزَّمَانِ لَمَنَعَهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ ; لِأَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كُنَّ مُعْتَدَّاتٍ أَبَدًا، فَلَا يَجُوزُ خُرُوجُهُنَّ مِنَ الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَالْحَجِّ أَوْ مُجَرَّدِ الزِّيَارَةِ، لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1229