المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب قيام شهر رمضان] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

- ‌[بَابُ الْمَوْقِفِ]

- ‌[بَابُ الْإِمَامَةِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ]

- ‌[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ]

- ‌[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[بَابُ الْوَتْرِ]

- ‌[بَابُ الْقُنُوتِ]

- ‌[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى]

- ‌[بَابُ التَّطَوُّعِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ وُجُوبِهَا]

- ‌[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

- ‌[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَتِيرَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

- ‌[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ]

- ‌[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [

- ‌بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

- ‌[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

- ‌[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

- ‌[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

الفصل: ‌[باب قيام شهر رمضان]

وَفِيمَا قَبْلَهُ يَحْتَمِلُ كَوْنُهُ طُولَ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ تَخْصِيصًا لِلنِّصْفِ الْأَخِيرِ بِزِيَادَةِ الِاجْتِهَادِ، فَهَذَا الْمَعْنَى يَمْنَعُ تَبَادُرَ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ يَعْنِي لِيَكُونَ دَلِيلًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَوْ مَعَ ضَعْفِهِ، وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَعْرُوفُ الْمُخَرَّجُ فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ:«عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوَتْرِ» ، الْحَدِيثَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْخِلَافِيَّةِ الْأُولَى مَا هُوَ أَنَصُّ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى قُنُوتِ الْوَتْرِ مِنْ هَذَا، فَارْجِعْ إِلَيْهِ تَسْتَغْنِ عَنْ هَذَا فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ، يَعْنِي فَإِنَّ هَذَا مُطْلَقٌ قَابِلٌ لِلتَّقْيِيدِ.

ص: 964

1294 -

وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ، فَقَالَ:«قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1294 -

(وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ الْقُنُوتِ)، أَيْ: عَنْ مَحَلِّهِ فِي الصُّبْحِ أَوِ الْوَتْرِ أَوْ فِيهِمَا؟ (فَقَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الرُّكُوعِ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَهْرًا فَقَطْ يَعْنِي فِي الصُّبْحِ بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، قُلْتُ: أَكَانَ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ فِي الْوَتْرِ؟ قَالَ: قَبْلَهُ. قُلْتُ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَهُ؟ قَالَ: كَذَبَ، «إِنَّمَا قَنَتَ عليه الصلاة والسلام بَعْدَ الرُّكُوعِ، أَيْ فِي الصُّبْحِ شَهْرًا» اهـ. وَعَاصِمٌ كَانَ ثِقَةً جِدًّا، وَلَا مُعَارَضَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ أَنَسٍ، بَلْ هَذِهِ تَصْلُحُ مُفَسِّرَةً لِلْمُرَادِ بِمَرْوِيِّهِمْ أَنَّهُ قَنَتَ بَعْدَهُ، وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرَهُمْ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَا، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْوَتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: قَبْلَ الرُّكُوعِ) ، أَيْ: فِي الْوَتْرِ (وَبَعْدَهُ)، أَيْ: فِي الصُّبْحِ، وَقْتَ قُنُوتِ النَّازِلَةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 964

[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1295 -

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: " مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ، حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[37]

بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ

أَيْ قِيَامِ لَيَالِيهِ وَإِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِمَا، وَفِي الْبَابِ قِيَامُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1295 -

(عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ)، أَيْ: فِي رَمَضَانَ (حُجْرَةً) : بِالرَّاءِ، وَذَكَرَ الْأَبْهَرِيُّ قَالَ الشَّيْخُ لِلْأَكْثَرِ بِالرَّاءِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالزَّايِ (فِي الْمَسْجِدِ)، أَيْ: فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ (مِنْ حَصِيرٍ)، أَيْ: لِصَلَاتِهِ تَطَوُّعًا وَانْفِرَادِهِ لِلذِّكْرِ وَالْفِكْرِ تَضَرُّعًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: حَجَرَ عَلَى مَحَلِّهِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ بِحَصِيرٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ لِمَا فِي الْخَلْوَةِ مِنَ الْأَسْرَارِ مَا لَا يُوجَدُ فِي الْجِلْوَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ بِالنَّاسِ أَفْضَلُ مِنِ اعْتِزَالِهِمْ مَحَلُّهُ فِي اعْتِزَالِهِمُ الدَّائِمِ، أَمَّا الِاعْتِزَالُ عَنْهُمْ فِي أَوْقَاتٍ فَاضِلَةٍ أَوْ مِنْ شَأْنِهَا الِاعْتِزَالُ فِيهَا، وَلَا ضَرُورَةَ بِهِمْ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي وَقْتِ اعْتِزَالِهِ، وَإِنِ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ أَمْكَنَهُمْ سُؤَالُهُ وَالْفَوْزُ بِمَآرِبِهِمْ مِنْهُ، أَوْ لِتَعْلِيمِهِمْ، إِيثَارَ الِاعْتِزَالِ فِي مِثْلِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، فَذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْرُقَهُ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْمُخَالَطَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا، وَجَعَلَ الْحَصِيرَ لِيَحْجِزَهُ عَنِ النَّاسِ حَالَ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَالسَّآمَةِ، وَلَيْسَ لَهُ دَخْلٌ أَبَدًا فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِزَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْحُجْرَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ أَوْ نَحْوِهِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنْ لَا يَحْجِزَ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا يَسَعُهُ وَإِلَّا حَرُمَ ; لِأَنَّ أَخْذَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنَّ مَحَلَّهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَحْتَاجُ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَوْ نَادِرًا، أَمَّا لَوْ عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّ النَّاسَ وَإِنْ كَثُرُوا فِي الْمَسْجِدِ لَا يَحْتَاجُونَ لَمَا أَخَذَهُ، فَلَا تَتَّجِهُ الْحُرْمَةُ حِينَئِذٍ اهـ. وَهُوَ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ مَنْ يُضَيِّقُ عَلَى الْأَنَامِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيَّامَ الْحَجِّ.

ص: 964

(فَصَلَّى فِيهَا)، أَيْ: فِي تِلْكَ الْحُجْرَةِ (لَيَالِيَ)، أَيْ: مِنْ رَمَضَانَ (حَتَّى اجْتَمَعَ)، أَيْ: فَكَانَ يَخْرُجُ عليه الصلاة والسلام مِنْهَا وَيُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ فِي الْفَرَائِضِ وَالتَّرَاوِيحِ، حَتَّى اجْتَمَعَ (عَلَيْهِ نَاسٌ)، أَيْ: وَكَثُرُوا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هَاهُنَا: فَأْتَمُّوا بِهِ، مُوهِمٌ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ وَقَعَ بِهِ، وَهُوَ فِي دَاخِلِ الْحُجْرَةِ، وَهُوَ مَحَلُّ بَحْثٍ وَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ. (ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ)، أَيْ: حِسَّهُ (لَيْلَةً) : بِأَنْ دَخَلَ الْحُجْرَةَ بَعْدَمَا صَلَّى بِهِمُ الْفَرِيضَةَ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ سَاعَةٍ لِلتَّرَاوِيحِ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ، (وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ) : فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا اعْتِيدَ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي مِنَ التَّنَحْنُحِ إِشَارَةً إِلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي دُخُولِهِ، أَوْ إِلَى الْإِعْلَامِ بِوُجُودِ الْمُتَنَحْنِحِ بِالْبَابِ، أَوْ بِطَلَبِهِ خُرُوجَ مَنْ قَصَدَهُ إِلَيْهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ، (لِيَخْرُجَ)، أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحُجْرَةِ (إِلَيْهِمْ) : لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهَا كَمَا فِي اللَّيَالِي الْمَاضِيَةِ. (فَقَالَ)، أَيْ: وَهُوَ فِيهَا أَوِ التَّقْدِيرُ فَخَرَجَ، فَقَالَ:(مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ) : بِكُمْ: خَبَرُ زَالَ قُدِّمَ عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ بِصِلَتِهِ، أَيْ أَبَدًا ثَبَتَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ (مِنْ صَنِيعِكُمْ) : مِنْ شِدَّةِ حِرْصِكُمْ فِي إِقَامَةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بِالْجَمَاعَةِ، وَ (مِنْ) بَيَانٌ لِلَّذِي (حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ)، أَيْ: يُفْرَضَ (عَلَيْكُمْ)، أَيْ: لَوْ وَاظَبْتُ عَلَى إِقَامَتِهَا بِالْجَمَاعَةِ لَفُرِضَتْ عَلَيْكُمْ، (وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ)، أَيْ: ذَلِكَ (مَا قُمْتُمْ بِهِ) : وَلَمْ تُطِيقُوهُ بِالْجَمَاعَةِ كُلُّكُمْ لِعَجْزِكُمْ، وَفِيهِ بَيَانُ رَأْفَتِهِ لِأُمَّتِهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ جَمَاعَةً وَانْفِرَادًا، وَالْأَفْضَلُ فِي عَهْدِنَا الْجَمَاعَةُ لِكَسَلِ النَّاسِ، قِيلَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَرِيضَةٌ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةَ وَاظَبُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ افْتِرَاضُهَا مُعَلَّقًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى دَوَامِ إِظْهَارِهَا جَمَاعَةً اهـ. وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ.

(فَصَلُّوا، أَيُّهَا النَّاسُ) : أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (فِي بُيُوتِكُمْ) : فَإِنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلنَّوَافِلِ لِكَوْنِهَا أَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ، (فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ) : وَهَذَا عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ إِلَّا النَّوَافِلَ الَّتِي مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ، كَالْعِيدِ، وَالْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ. (فِي بَيْتِهِ) : خَبَرُ إِنَّ، أَيْ: صَلَاتُهُ فِي بَيْتِهِ. (إِلَّا الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ)، أَيِ: الْمَفْرُوضَةُ فَإِنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهِ أَخَذَ أَئِمَّتُنَا فَقَالُوا: يُسَنُّ فِعْلُ النَّوَافِلِ الَّتِي لَا تُسَنُّ فِيهَا الْجَمَاعَةُ فِي الْبَيْتِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوِ الْكَعْبَةَ وَالرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ ; لِأَنَّ فَضِيلَةُ الِاتِّبَاعِ تَرْبُو عَلَى فَضِيلَةِ الْمُضَاعَفَةِ، وَلِتَعُودَ بَرَكَتُهَا عَلَى الْبَيْتِ، وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ وَإِنْ خَلَا الْمَسْجِدُ اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَعْبَةَ وَالرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ تُسْتَثْنَيَانِ لِلْغُرَبَاءِ لِعَدَمِ حُصُولِهِمَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَتُغْتَنَمُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَهُ أَئِمَّتُنَا: إِنَّ الطَّوَافَ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَهُ مِيرَكُ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ " وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» ، وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ: فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ زَمَنَهُ عليه الصلاة والسلام وَزَمَنَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ جَمَعَ عُمَرُ الرِّجَالَ عَلَى أُبَيٍّ، وَالنِّسَاءَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ أَمَرَ أُبَيًّا وَتَمِيمًا أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ، فَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِائَتَيْنِ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ فِي جَمْعِهِ النَّاسَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هِيَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا، فَإِنَّ هَذَا الِاجْتِمَاعَ مُحْدَثٌ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَتْ بِدْعَةً ; لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِصَلَاتِهَا فِي بُيُوتِهِمْ لِعِلَّةٍ هِيَ خَشْيَةُ الِافْتِرَاضِ، وَقَدْ زَالَتْ بِمَوْتِهِ عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ; لِأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ أَوَائِلَ خِلَافَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهَا أَفْضَلُ، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ فِيهِ، أَيْ: إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَخَالَفَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهَا كُلُّهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ، وَقِيلَ: الِانْفِرَادُ فِيهَا أَفْضَلُ. قَالُوا: وَمَحَلُّهُ فِيمَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَخَافُ النَّوْمَ وَالْكَسَلَ وَلَا تَخْتَلُّ جَمَاعَةُ الْمَسْجِدِ بِفَقْدِهِ.

ص: 965

1296 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْغَبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1296 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْغَبُ) : مِنَ التَّرْغِيبِ (فِي قِيَامِ رَمَضَانَ)، أَيْ: فِي قِيَامِ إِحْيَاءِ لَيَالِيهِ بِالتَّرَاوِيحِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ)، أَيْ: بِعَزْمٍ وَبَتٍّ وَقَطْعٍ يَعْنِي بِفَرِيضَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَزِيمَةُ وَالْعَزْمُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، (فَيَقُولُ:" مَنْ قَامَ رَمَضَانَ) ، أَيْ: أَحْيَا لَيَالِيَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَأَوْ أَتَى بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَهُوَ التَّرَاوِيحُ، أَوْ قَامَ إِلَى صَلَاةِ رَمَضَانَ (إِيمَانًا) ، أَيْ: مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَمُصَدِّقًا بِأَنَّهُ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ (وَاحْتِسَابًا) ، أَيْ: مُحْتَسِبًا بِمَا فَعَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ غَيْرَهُ، يُقَالُ: احْتَسَبَ بِالشَّيْءِ، أَيِ اعْتَدَّ بِهِ فَنَصَبَهُمَا عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، أَيْ: تَصْدِيقًا بِاللَّهِ وَإِخْلَاصًا وَطَلَبًا لِلثَّوَابِ. (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) : زَادَ أَحْمَدُ: " وَمَا تَأَخَّرَ "، أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ، وَيُرْجَى غُفْرَانُ الْكَبَائِرِ. (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: قُبِضَ (وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ)، أَيِ: التَّفَرُّقِ وَعَدَمِ الْجَمَاعَةِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام يَعْنِي: كَانُوا يُصَلُّونَ التَّرَاوِيحَ مُنْفَرِدِينَ بَعْضُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، إِمَّا لِكَوْنِهِمْ مُعْتَكِفِينَ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْمُفْرِدِينَ، أَوْ لِأَنَّ لَهُمْ فِي الْبَيْتِ مَا يَشْغَلُهُمْ عَنِ الْعِبَادَةِ، فَيَكُونُونَ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْمُغْتَنِمِينَ، فَلَا مُخَالَفَةَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام إِيَّاهُمْ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي بُيُوتِهِمْ. (ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ)، أَيْ: عَلَى وَفْقِ زَمَانِهِ عليه الصلاة والسلام (فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ)، أَيْ: جَمِيعِ زَمَانِهَا (وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ)، أَيْ: فِي أَوَّلِ خِلَافَتِهِ، وَصَدْرُ الشَّيْءِ وَوَجْهُهُ أَوَّلُهُ (عَلَى ذَلِكَ)، أَيْ: عَلَى مَا ذُكِرَ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مَعَ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ، قَالَهُ مِيرَكُ.

ص: 966

1297 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا ; فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صِلَاتِهِ خَيْرًا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1297 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ)، أَيْ: أَدَّاهَا، وَالْ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، أَيِ: الْمَكْتُوبَةَ، كَذَا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ (فِي مَسْجِدِهِ) : وَانْصَرَفَ عَنْهَا وَلَهُ بَيْتٌ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ، (فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا)، أَيْ: حِصَّةً وَحَظًّا (مِنْ صِلَاتِهِ)، أَيْ: لِيَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَةِ صَلَاتِهِ بِأَنْ يُصَلِّيَ النَّوَافِلَ وَالسُّنَنَ فِيهِ، بَلِ الْقَضَاءُ أَيْضًا (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَاعِلٌ)، أَيْ: خَالِقٌ أَوْ مُصَيِّرٌ (فِي بَيْتِهِ مِنْ صِلَاتِهِ)، أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا (خَيْرًا) : يَعُودُ عَلَى أَهْلِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ وَنُزُولِ الْبَرَكَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ، وَلِذَا جَعَلَ النَّفْلَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ خَالِيًا بَعِيدًا عَنِ الرِّيَاءِ كَذَا، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَسْجِدٍ لَا تُضَاعَفُ فِيهِ الْحَسَنَةُ، أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَخُصُّ الْمُضَاعَفَةَ بِالْفَرِيضَةِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَخَافُ الرِّيَاءَ، أَوْ دَفْعًا لِوَهْمِ النِّفَاقِ، أَوْ حَثًّا عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ فِي الْجُمْلَةِ مِنَ النَّوَافِلِ، وَمَعَ هَذَا تُسْتَثْنَى التَّرَاوِيحُ بِالِاتِّفَاقِ لِمَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَلِمَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَإِيرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبَابِ مُوهَمٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 966

الْفَصْلُ الثَّانِي

1298 -

عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ:«صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ "، فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ، جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ. ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ ; إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ: ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1298 -

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: فِي رَمَضَانَ (فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ)، أَيْ: لَمْ يُصَلِّ بِنَا غَيْرَ الْفَرِيضَةِ مِنْ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْفَرْضَ دَخَلَ حُجْرَتَهُ، (حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ)، أَيْ: مِنَ الشَّهْرِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَمَضَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ: سَبْعَ لَيَالٍ نَظَرًا إِلَى الْمُتَيَقَّنِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَيَكُونُ الْقِيَامُ فِي قَوْلِهِ:(فَقَامَ بِنَا) : لَيْلَةَ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ (حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ) : فَصَلَّى وَذَكَرَ اللَّهَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَتَكَلَّمَ بِالْمَعَارِفِ وَالْحَقَائِقِ وَدَقَائِقِ الْبَيَانِ، (فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ)، أَيْ: مِمَّا بَقِيَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ، أَيْ: فَلَمَّا كَانَتِ الْبَاقِيَةُ السَّادِسَةَ، أَيِ: اللَّيْلَةَ السَّادِسَةَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ (لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ) : وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ، قَالَ صَاحِبُ الْمَفَاتِيحِ: فَحَسَبَ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ وَهُوَ لَيْلَةُ الثَلَاثِينَ إِلَى آخِرِ سَبْعِ لَيَالٍ، وَهُوَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ (قَامَ بِنَا، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ)، أَيْ: نِصْفُهُ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ نَفَّلْتَنَا) : بِالتَّشْدِيدِ (قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟) : وَفِي رِوَايَةٍ: بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا، أَيْ: لَوْ جَعَلْتَ بَقِيَّةَ اللَّيْلِ زِيَادَةً لَنَا عَلَى قِيَامِ الشَّطْرِ، وَفِي النِّهَايَةِ: لَوْ زِدْتَنَا مِنَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ، سُمِّيَتْ بِهَا النَّوَافِلُ ; لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: تَقْدِيرُهُ لَوْ زِدْتَ قِيَامَ اللَّيْلِ عَلَى نِصْفِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَنَا، وَلَوْ لِلتَّمَنِّي. (فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ) ، أَيْ: جِنْسَهُ (إِذَا صَلَّى)، أَيِ: الْفَرْضَ (مَعَ الْإِمَامِ)، أَيْ: وَتَابَعَهُ (حَتَّى يَنْصَرِفَ)، أَيِ: الْإِمَامُ (حُسِبَ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: اعْتُبِرَ وَعْدٌ (لَهُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: كُتِبَ لَهُ (قِيَامُ لَيْلَةٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْلَتِهِ، أَيْ: وَإِنِ اقْتَصَرَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ السِّيَاقُ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ: حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ قِيَامِ لَيْلَةٍ تَامَّةٍ يَعْنِي الْأَجْرَ حَاصِلٌ بِالْفَرْضِ، وَزِيَادَةُ النَّوَافِلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَدْرِ النَّشَاطِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْضِ الْعَشَاءُ وَالصُّبْحُ، لِحَدِيثٍ وَرَدَ بِذَلِكَ كَذَلِكَ، (فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ)، أَيْ: مِنَ الْبَاقِيَةِ وَهِيَ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَعَلَّهُ سَهْوُ قَلَمٍ وَسَبْقُ قَدَمٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّهُ رَدَّ عَلَى الْحَلِيمِيِّ فِي قَوْلِهِ: يُسَنُّ اسْتِوَاءُ مِقْدَارِ الْقِيَامِ فِي جَمِيعِ لَيَالِي الشَّهْرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الْجِدِّ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَهُوَ تَطَوُّعٌ، وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ فَمُحْدَثٌ غَيْرُ سُنَّةٍ اهـ. بِأَنَّ الْحَدِيثَ يُفِيدُ تَفَاوُتَ الْقِيَامِ بِتَفَاوُتِ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ أَحْيَاهَا كُلَّهَا ; لِأَنَّهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَمِنْ ثَمَّ جَمَعَ لَهَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَغَيْرَهَا لَمْ يُحْيِهِ كُلَّهُ، بَلْ تَفَاوَتَ بَيْنَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ تَفَاوُتُ الْقِيَامِ مَعَ الِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ فِيمَا ذَكَرَهُ ثَبَتَ رَدُّ مَا قَالَهُ الْحَلِيمِيِّ. (لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ)، أَيْ: مِنَ الْبَاقِيَةِ، وَهِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ (جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ)، أَيِ: الْخَوَاصَّ مِنْهُمْ (فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قُلْتُ) : قَالَهُ الرَّاوِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ: (وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ) : أَبُو ذَرٍّ (السَّحُورُ) : بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ذُكِرَ السَّحُورُ مُكَرَّرًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ وَالْفِعْلُ نَفْسُهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُرْوَى بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ: الصَّوَابُ بِالضَّمِّ ; لِأَنَّهُ بِالْفَتْحِ الطَّعَامُ وَالْبَرَكَةُ وَالْأَجْرُ وَالثَّوَابُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الطَّعَامِ اهـ. وَبِهِ يَظْهَرُ خَشْيَتُهُمْ مِنْ فَوْتِهِ.

قَالَ الْقَاضِي: الْفَلَاحُ: الْفَوْزُ بِالْبُغْيَةِ، سُمِّيَ السَّحُورُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى إِتْمَامِ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْفَوْزُ بِمَا قَصَدَهُ وَنَوَاهُ وَالْمُوجِبُ لِلْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَصْلُ الْفَلَاحِ الْبَقَاءُ، وَسُمِّيَ السُّحُورُ فَلَاحًا إِذَا كَانَ سَبَبًا لِبَقَاءِ الصَّوْمِ

ص: 967

وَمُعِينًا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مُعِينٌ عَلَى إِتْمَامِ الصَّوْمِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَلَاحِ، وَهُوَ الْفَوْزُ بِالزُّلْفَى وَالْبَقَاءِ فِي الْعُقْبَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ يَعْنِي السَّحُورَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، لَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي مَتْنِ الْكِتَابِ اهـ.

وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: قِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ، وَقِيلَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَيَبْعُدُ مِنَ الْفَهْمِ أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ لَفْظُ النُّبُوَّةِ فَتَأَمَّلْ. فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْتُ، أَيْ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ اهـ. فَتَدَبَّرْ.

(ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ)، أَيِ: الثَّامِنَةَ وَالْعِشْرِينَ وَالتَّاسِعَةَ وَالْعِشْرِينَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ بِالْجَمَاعَةِ لَمْ يَعْلَمْ أَهْيَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ، أَمِ التَّهَجُّدُ الْوَاجِبُ أَمِ الْوَتْرُ، أَمْ صَلَاةُ الْقَدْرِ اهـ؟ وَلَا مَنَعَ مِنَ الْجَمْعِ مَعَ أَنَّ صَلَاةَ الْقَدْرِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ، وَالْوَتْرُ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ وَتَحَقَّقَ فِيمَا سَبَقَ، وَتَقْيِيدُ التَّهَجُّدِ بِالْوَاجِبِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ ; لِأَنَّ وُجُوبَهُ مَنْسُوخٌ حَتَّى فِي حَقِّهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْمَشْهُورِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لَهُ (وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ:«كَانَ بَعِيدَ الدَّارِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْمُرَهُ بِلَيْلَةٍ يَنْزِلُ فِيهَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ» وَلَمْ يَقُلْ لَهُ صَلَاتُكَ فِي بَيْتِكَ أَفْضَلُ، فَدَلَّ كُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ فِي قَصْدِ الْمَسْجِدِ فِي هَذِهِ اللَّيَالِي خُصُوصِيَّةً زَائِدَةً عَلَى الْبَيْتِ، وَحِينَئِذٍ فَيَقْضِي بِهِمَا عَلَى حَدِيثِ:" صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ " ; لِأَنَّهُمَا خَاصَّانِ فَيَقْضِي بِهِمَا عَلَى ذَلِكَ الْعُمُومِ. (وَالنَّسَائِيُّ)، أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ. (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ)، أَيْ: بِمَعْنَاهُ (إِلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ: ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ) .

ص: 968

1299 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ، فَقَالَ: " أَكُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَتَيْتَ بَعْضَ نِسَائِكَ. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَزَادَ رَزِينٌ: " مِمَّنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ "، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - يُضَعِّفُ هَذَا الْحَدِيثَ.

ــ

1299 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ: طَلَبَتْهُ فَمَا وَجَدَتْهُ (لَيْلَةً) : مِنْ لَيَالِيَّ، تَعْنِي: فِي لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ فِيهَا عِنْدِي، فَتَتَبَّعْتُهُ، (فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ)، أَيْ: وَاقِفٌ أَوْ حَاضِرٌ فِيهِ، وَفِيهِ حَذْفٌ بَيِّنَتْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَيْ: فَشَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، وَخَرَجْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ بِالْبَقِيعِ فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ قُبِضَ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْتَفَتْ إِلَيَّ (فَقَالَ: " أَكُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ) ، أَيْ: يَجُورَ وَيَظْلِمَ (اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ) : ذَكَرَ اللَّهَ تَنْوِيهًا لِعِظَمِ شَأْنِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَلَى حَدِّ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ تَزْيِينًا لِلْكَلَامِ وَتَحْسِينًا، أَوْ حِكَايَةً لِمَا وَقَعَ فِي الْآيَةِ:{أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] ، وَإِشَارَةً إِلَى التِّلَاوَةِ بَيْنَهُمَا كَالْإِطَاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، قِيلَ: عَدَلَ عَنْ (أَحْيَفَ أَنَا) إِلَى: (يَحِيفَ رَسُولُهُ) ، إِيذَانًا بِأَنَّ الْحَيْفَ وَهُوَ الْجَوْرُ بِإِعْطَاءِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، أَوْ بِمَنْعِ مَنْ يَسْتَحِقُّ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ مَنِ اتَّصَفَ بِوَصْفِ الرِّسَالَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي: ظَنَنْتِ أَنِّي ظَلَمْتُكِ بِأَنْ جَعَلْتُ مِنْ نَوْبَتِكِ لِغَيْرِكِ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِمَنْ تَصَدَّى بِمَنْصِب الرِّسَالَةِ، وَهَذَا مَعْنَى الْعُدُولِ عَمَّا هُوَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ ظَنَنْتِ أَنِّي أَحْيَفُ عَلَيْكِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ قَوْلَهُ: أَكُنْتِ تَخَافِينَ بِقَوْلِهِ، أَيْ: أَدَمْتِ عَلَى أَنَّكِ تَظُنِّينَ فَلَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ الْكَوْنَ هُنَا لَيْسَ لِلِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ أَوْ لِوُقُوعِ الْخَوْفِ فِي الْمُضِيِّ، نَعَمْ كَانَ الظَّاهِرَ أَنْ يُقَالَ أَخِفْتِ أَوْ كُنْتِ خِفْتِ، لَكِنْ عَدَلَ عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ، اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَظْنَنْتِ ظَنًّا مُنْسَحِبًا إِلَى الْحَالِ.

(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي ظَنَنْتُ) : تَعْنِي: وَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (أَنَّكَ أَتَيْتَ بَعْضَ نِسَائِكَ)، أَيْ: زَوْجَاتِكَ لِبَعْضِ مُهِمَّاتِكَ، فَأَرَدْتُ تَحْقِيقَهَا، وَحَمَلَنِي عَلَى هَذَا الْغَيْرَةُ الْحَاصِلَةُ لِلنِّسَاءِ الَّتِي تُخْرِجُهُنَّ عَنْ دَائِرَةِ الْعَقْلِ وَحَائِزَةِ التَدَبُّرٍ لِلْعَاقِبَةِ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ أَوِ الْمُعَاقَبَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنِّي مَا ظَنَنْتُ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيَّ أَوْ عَلَى غَيْرِي، بَلْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ

ص: 968

بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ بِاجْتِهَادٍ مِنْكَ خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي لِبَعْضِ نِسَائِكَ ; لِأَنَّ عَادَتَكَ أَنْ تُصَلِّيَ النَّوَافِلَ فِي بَيْتِكَ، قِيلَ: عَدَلَتْ إِلَى هَذَا الْإِطْنَابِ عَنْ (نَعَمْ) مَزِيدًا لِلتَّصْدِيقِ وَاسْتِدْرَارًا لِتَعَطُّفِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَيْهَا، وَعَفْوِهِ عَنْ هَذَا الذَّنْبِ الْمُقْتَضِي لِخُرُوجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ الْحَامِلِ عَلَيْهِ عَظِيمُ الْغَيْرَةِ الَّتِي قَدْ يُؤَدِّي إِلَى خَرْمِ التَّكْلِيفِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّ يُعَاتِبْهَا عليه الصلاة والسلام عَلَى كَسْرِهَا لِقَصْعَةِ ضَرَّةٍ لَهَا أَرْسَلَتْ فِيهَا إِلَيْهِ عليه الصلاة والسلام طَعَامًا، وَإِنَّمَا قَالَ تَمْهِيدًا لِعُذْرِهَا غَارَتْ أُمُّكُمْ، ثُمَّ أَخَذَ قَصْعَتَهَا وَأَرْسَلَهَا لِتِلْكَ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا مَعَ أَنَّ الْكُلَّ مِلْكُهُ عليه الصلاة والسلام اهـ.

وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ: أَنَّهُ لَوْ قَالَتْ: " نَعَمْ " لَكَانَ كُفْرًا بَلْ عَدَلَتْ عَنْ " لَا " لِظُهُورِ عَدَمِ إِنْكَارِهَا وَبَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَذَكَرَتِ الْمَعْذِرَةَ فِي خُرُوجِهَا وَاعْتَرَفَتْ بِتَقْصِيرِهَا، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا عليه الصلاة والسلام وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ، وَذَكَرَ عُذْرَهُ فِي خُرُوجِهِ عَنْهَا تَسْلِيَةً لَهَا. (فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ) ، أَيْ: مِنَ الصِّفَاتِ الْجَلَالِيَّةِ إِلَى النُّعُوتِ الْجَمَالِيَّةِ زِيَادَةَ ظُهُورٍ فِي هَذَا التَّجَلِّي ; إِذْ قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: (سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي) وَفِي رِوَايَةٍ: غَلَبَتْ. (لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ) : وَهِيَ: لَيْلَةُ الْبَرَاءَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهَا ; لِأَنَّهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَيُدَبَّرُ كُلُّ خَطْبٍ عَظِيمٍ مِمَّا يَقَعُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى يَكْتُبَ الْحُجَّاجَ وَغَيْرَهُمْ. (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا)، أَيْ: قَاصِدًا إِلَى السَّمَاءِ الْقَرِيبَةِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا الْمُتَلَوِّنِينَ بِالْمَعْصِيَةِ، الْمُحْتَاجِينَ إِلَى إِنْزَالِ الرَّحْمَةِ عَلَيْهِمْ وَأَذْيَالِ الْمَغْفِرَةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا النُّزُولَ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ التَّجَلِّي الْأَعْظَمِ وَنُزُولِ الرَّحْمَةِ الْكُبْرَى وَالْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ لِلْعَالِمِينَ، لَا سِيَّمَا أَهْلَ الْبَقِيعِ يَعُمُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَتَمْتَازُ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ اللَّيَالِي ; إِذِ النُّزُولُ الْوَارِدُ فِيهَا خَاصٌّ بِثُلُثِ اللَّيْلِ، (فَلِيَغْفِرَ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعَرِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتُسَكَّنُ (غَنَمِ كَلْبٍ)، أَيْ: قَبِيلَةِ بَنِي كَلْبٍ، وَخَصَّهُمْ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ غَنَمًا مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، نَقَلَ الْأَبْهَرِيُّ عَنِ الْأَزْهَارِ أَنَّ الْمُرَادَ بِغُفْرَانِ أَكْثَرَ عَدَدُ الذُّنُوبِ الْمَغْفُورَةِ لَا عَدَدُ أَصْحَابِهَا، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ اهـ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآتِي: فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، فَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ زَمَانُ التَّجَلِّيَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ، وَالتَّنَزُّلَاتِ الصَّمَدَانِيَّةِ، وَالتَّقَرُّبَاتِ السُّبْحَانِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَى لِأَرْبَابِ الِاخْتِصَاصِ، فَالْمُنَاسِبُ الِاسْتِيقَاظُ مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ وَالتَّعَرُّضُ لِنَفَحَاتِ الرَّحْمَةِ، وَأَنَا رَئِيسُ الْمُسْتَغْفِرِينَ، وَأَنِيسُ الْمُسْتَرْحِمِينَ، وَشَفِيعُ الْمُذْنِبِينَ، بَلْ وَرَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ خُصُوصًا أَمْوَاتَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَلَا يَلِيقُ لِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُمْتَثِلًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي أَدْعُو بِالْمَغْفِرَةِ لِأُمَّتِي، وَأَطْلُبُ زِيَادَةَ الرَّحْمَةِ لِذَاتِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْ نِعْمَتِهِ، أَوْ يَسْتَنْكِفَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لِخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ، وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ بِالْقِيَامِ وَتَرْكِ الْمَنَامِ وَمُتَابَعَةِ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ بِبِرْكَتِهِ عليه الصلاة والسلام (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَزَادٌ رَزِينٌ: " مِمَّنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ) .

قُلْتُ: وَمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّارَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ؟ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ فِي رِوَايَاتٍ بَيَّنْتُهَا ثَمَّ بِغَيْرِ الْمُشَاحِنِ وَقَاطِعِ الرَّحِمِ وَمُدْمِنَ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِمْ.

(وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ -) : وَهُوَ تَفْسِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ (يُضَعِّفُ)، أَيِ: الْبُخَارِيُّ (هَذَا الْحَدِيثَ) : وَيَقُولُ: يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُرْوَةَ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، لَكِنْ يَعْمَلُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، قِيلَ: وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْبَابِ الْإِيذَانُ بِأَنْ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِمَا وَرَدَ فِي إِحْيَائِهَا مِنَ الثَّوَابِ مَا لَا يُحْصَى، كَانَتْ كَالْمُقَدِّمَةِ لِقِيَامِ رَمَضَانَ فَاسْتَدْعَى ذِكْرُهُ ذِكْرَهَا اهـ.

وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَوْ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا كَانَ فِي الْقِيَامِ، وَالْمُرَادُ الْأَعْظَمُ مِنْهُ إِدْرَاكُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَذَكَرَ لَيْلَةَ الْبَرَاءَةِ طَرْدًا لِلْبَابِ ; لِأَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ بَعْضِ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 969

1300 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا، إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1300 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَتْمِيمٌ وَمُبَالَغَةٌ لِإِرَادَةِ الْإِخْفَاءِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُعَادِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ، سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ إِلَى وَجْهِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَعِيدَةً عَنِ الرِّيَاءِ، وَالْفَرَائِضَ شُرِعَتْ لِإِشَادَةِ الدِّينِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُؤَدَّى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ. (هَذَا) : صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ، وَالْمُرَادُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مُطْلَقًا، لَا خُصُوصُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام كَمَا سَبَقَ. (إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُنْذِرِيُّ، (وَالتِّرْمِذِيُّ) : قَالَ: حَسَنٌ.

ص: 970

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1301 -

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ رضي الله عنهما، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْلَةً إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ. قَالَ عُمَرُ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي تَقُومُونَ - يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ - وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1301 -

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ) : بِالتَّنْوِينِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ (الْقَارِّيِّ) : بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ قَارَّةَ، وَهُمْ عَضَلٌ وَالدِّيشُ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ تَابِعِيٌّ مِنْ أَجِلَّةِ تَابِعِي الْمَدِينَةِ، يُقَالُ: وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ سَمَاعٌ وَلَا رُؤْيَةٌ، وَعَدَّهُ الْوَاقِدِيُّ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) : رضي الله عنه (لَيْلَةً) : أَيْ فِي رَمَضَانَ (إِلَى الْمَسْجِدِ)، أَيْ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، (فَإِذَا النَّاسُ)، أَيْ: بَعْدَ صَلَاتِهِمُ الْعِشَاءَ جَمَاعَةً وَاحِدَةً (أَوْزَاعٌ) : بِسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا زَايٌ فِرَقٌ مُتَفَرِّقُونَ، فَقَوْلُهُ:(مُتَفَرِّقُونَ) : تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَبْهَرِيُّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: كَعَطْفِ الْبَيَانِ وَهُوَ أَظْهَرُ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَفَّلُونَ فِيهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُتَفَرِّقِينَ. (يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ) : بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ أَوَّلًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا، وَبَعْضَهُمْ يُصَلِّي جَمَاعَةً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:(وَيُصَلِّي الرَّجُلُ)، أَيْ: مُؤْتَمًّا (فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَيْهَا رَمْزٌ ظَاهِرٌ: وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، أَيْ يَقْتَدِي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَكِنْ سَقَطَ مِنْ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الَّتِي رَأَيْتُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ النَّاسِخِ وَاللَّهُ الْعَاصِمُ اهـ. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الَّتِي رَأَيْتُهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ، أَيْ يَؤُمُّ الرَّجُلُ جَمَاعَةً دُونَ الْعَشَرَةِ. اهـ.

وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُطْلَقَ الْجَمَاعَةِ أَوْ قَوْمَهُ وَقَبِيلَتَهُ، فَفِي الْقَامُوسِ الرَّهْطُ - وَيُحَرَّكُ - قَوْمُ الرَّجُلِ وَقَبِيلَتُهُ، أَوْ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، أَوْ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، أَوْ مَا فِيهِمُ امْرَأَةٌ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ الرَّهْطُ: مِنَ الرِّجَالِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَالرَّهْطُ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ وَأَهْلُهُ. (فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَوْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ إِنِّي أَرَى لَوْ، وَأَخَذَ مِنْهَا ابْنُ مَلَكٍ أَنْ لَوْ قَدْ تَعَلَّقَ فِعْلُ الْقَلْبِ (جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ) : يَأْتَمُّونَ كُلُّهُمْ بِهِ، وَيَسْمَعُونَ قِرَاءَتَهُ (لَكَانَ أَمْثَلَ)، أَيْ: أَفْضَلَ وَالثَّوَابُ أَكْمَلَ ; لِأَنَّ فِيهِ اجْتِمَاعَ الْقُلُوبِ وَاتِّفَاقَ الْكَلِمَةِ وَإِغَاظَةَ الشَّيْطَانِ وَنُمُوَّ الْأَعْمَالِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ فَوَائِدِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تُنِيفُ عَلَى السَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ، (ثُمَّ عَزَمَ)، أَيْ: عَلَى ذَلِكَ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ عُمَرُ، (فَجَمَعَهُمْ)، أَيِ: الرِّجَالَ مِنْهُمْ (عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) : لِمَا قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ أَقْرَأُ الصَّحَابَةِ، وَأَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ فَقَرَأَ سُورَةَ:{لَمْ يَكُنِ} [البينة: 1] وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ جَمَعَهُمْ عَلَى تَمِيمٍ الدَّارِمِيِّ، وَلَا مَانِعَ أَنَّ هَذَا كَانَ يَؤُمُّ تَارَةً وَالْآخَرُ أُخْرَى، وَجَمَعَ النِّسَاءَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ (قَالَ)، أَيْ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ (ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ)، أَيْ: مَعَ عُمَرَ (لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ) : الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ.

ص: 970

(قَالَ عُمَرُ: نَعِمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ)، أَيِ: الْجَمَاعَةُ الْكُبْرَى لَا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ مِنْ أَصْلِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ، فَإِنَّهُ فِي حَيِّزِ الْمَدْحِ ; لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَتَحْرِيضٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَكُنْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَدْ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا قَطَعَهَا إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ تُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ عُمَرُ مِمَّنْ نَبَّهَ عَلَيْهَا وَسَنَّهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (وَالَّتِي)، أَيِ: الصَّلَاةُ الَّتِي (تَنَامُونَ عَنْهَا)، أَيْ: مُعْرِضِينَ (أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي تَقُومُونَ)، أَيْ: بِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَنْبِيهٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، وَقَدْ أَخَذَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَهَا بَعْدَ أَنْ يَنَامُوا، قُلْتُ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ كَذَا، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَجَمَاعَاتُهُمْ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَفِي كَلَامِهِ رضي الله عنه، إِيمَاءٌ إِلَى عُذْرِهِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُمْ. (يُرِيدُ)، أَيْ عُمَرُ (آخِرَ اللَّيْلِ) : وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:(وَكَانَ النَّاسُ)، أَيْ: أَكْثَرُهُمْ (يَقُومُونَ أَوَّلُهُ) : وَبِالضَّرُورَةِ يَنَامُونَ آخِرَهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

ص: 971

1302 -

وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه، قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَا مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، فَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ. رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

1302 -

(وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حَضَرَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ (قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ) : بِالتَّشْدِيدِ نِسْبَةً إِلَى الدَّارِ (أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِالنَّاسِ، أَيْ يَكُونُ هَذَا إِمَامًا تَارَةً وَالْآخَرُ أُخْرَى، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمُنَاوَبَةُ فِي الرَّكَعَاتِ أَوِ اللَّيَالِي، وَالنِّسَاءِ عَلَى سُلَيْمَانَ (فِي رَمَضَانَ) ، أَيْ لَيَالِيهِ (بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً)، أَيْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لَمَّا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهْمٌ، وَالَّذِي صَحَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ سَنَدَ تِلْكَ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُمْ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي قَصَدُوا التَّشْبِيهَ بِهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَالْوَتْرَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمُ الْعِشْرِينَ، وَرِوَايَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ حَسَبَ رَاوِيهَا الثَّلَاثَةُ الْوَتْرِ، فَإِنَّهُ جَاءَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ آخِرُ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ. (فَكَانَ الْقَارِئُ)، أَيِ: الْإِمَامُ (يَقْرَأُ)، أَيْ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ (بِالْمِئِينَ) : جَمْعُ مِائَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّقْرِيبُ لَا التَّحْدِيدُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمِائَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ بِالسُّوَرِ الَّتِي يَزِيدُ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ آيَةٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَا سِيَّمَا وَأُرِيدَ الْخَتْمُ بِالتَّرَاوِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ. (حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعَصَا) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَلَى الْعِصِيِّ بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ جَمْعُ الْعَصَا، فَالْأُولَى لِلْجِنْسِ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ. (مِنْ طُولِ الْقِيَامِ) : عِلَّةٌ لِلِاعْتِمَادِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ طُولِ قِيَامِ الْإِمَامِ النَّاشِئِ مِنْ قِرَاءَةِ الْمِائَتَيْنِ، (فَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ)، أَيْ: أَوَائِلِهِ وَأَعَالِيهِ وَفَرْعُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى بُزُوغِ الْفَجْرِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْبُزُوغُ الطُّلُوعُ، وَالْمُرَادُ أَوَائِلُ مُقَدِّمَاتِهِ فلا يُنَافِي مَا سَيَأْتِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَسَحَّرُونَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ، وَلَعَلَّ هَذَا التَّطْوِيلَ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ فِي عَدَدِ قِيَامِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ عُمَرُ أَمَرَ بِهَذَا الْعَدَدِ زَمَانًا، كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِهِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَكَانُوا يَقْرَءُوا بِالْمِئِينَ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عِصِيِّهِمْ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ. رَوَاهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ، وَرَوَيْنَا عَنْ شُبْرُمَةَ بْنِ شَكَلٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي رَمَضَانَ فَيُصَلِّي خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ عِشْرِينَ رَكْعَةً.

وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثَلَاثَةَ قُرَّاءٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ، فَأَمَرَ أَسْرَعَهُمْ قِرَاءَةً أَنْ يَقْرَأَ لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَأَمَرَ أَوْسَطَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَأَمَرَ أَبْطَأَهُمْ أَنْ يَقْرَأَ عِشْرِينَ كَذَا فِي الْعُجَالَةِ.

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، الرِّجَالَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَالنِّسَاءَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ نَحْوَهُ، وَزَادَ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه جَمَعَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ لِلتَّرَاوِيحِ.

ص: 971

1303 -

وَعَنِ الْأَعْرَجِ رضي الله عنه، قَالَ: مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ قَالَ: وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَإِذَا قَامَ بِهَا فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ. رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

1303 -

(وَعَنِ الْأَعْرَجِ) : مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ (قَالَ: مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ)، أَيْ: الصَّحَابَةَ وَكُبَرَاءَ التَّابِعِينَ، (إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ)، أَيْ: فِي وِتْرِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ فِي الْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَلِّمَاتِ، وَأَلَّفَ بَيْنِ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهُمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ، وَزَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا تَرُدُّهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَعَلَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَلَا يُنَافِي مَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ: السّنَّةُ إِذَا انْتَصَفَ رَمَضَانُ أَنْ تَلْعَنَ الْكَفَرَةَ فِي الْوِتْرِ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: أَنَّهُ لَمَّا جُمِعَ النَّاسُ عَلَى أُبَيٍّ لَمْ يَقْنُتْ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الثَّانِي، مَحْمُولٌ عَلَى الْقُنُوتِ الْمَخْصُوصِ الَّذِي فِيهِ لَعْنُ الْكَفَرَةِ عَلَى الْعُمُومِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِهَذَا الْحَدِيثِ اسْتَحْسَنَ أَصْحَابُنَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَذْكُرَ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ إِلَخْ. وَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنَسْتَهْدِيكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ إِلَخْ. وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَاللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُعَظِّمُوا مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الشَّهْرِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِمَا أُنْزِلَ فِيهِ مِنَ الْفُرْقَانِ، اسْتَوْجَبُوا بِأَنْ يُدْعَى عَلَيْهِمْ، وَيُطْرَدُوا عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ فِي تَخْصِيصِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ إِشَارَةً إِلَى زَوَالِهِمْ، وَتُزَلْزُلِهِمْ عَنْ مَحَالِلِهِمْ، وَانْتِقَالِهِمْ عَنْ حَالِهِمْ إِلَى سُوءِ مَآلِهِمْ.

(قَالَ)، أَيْ: الْأَعْرَجُ (وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بِحَذْفِ الْيَاءِ (فَإِذَا قَامَ بِهَا فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ) : فَاعِلٌ (أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ)، أَيْ: الْإِمَامُ فِي الْإِطَالَةِ، سَدَّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ رَأَى، وَقِيلَ: الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ تَخْفِيفُهُ وَاقِعًا. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

قَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ الْحَنْبَلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّرَاوِيحِ عَدَدًا مُعَيَّنًا، بَلْ لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، لَكِنْ كَانَ يُطِيلُ الرَّكَعَاتِ، فَلَمَّا جَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أُبَيٍّ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَكَانَ يُخَفِّفُ الْقِرَاءَةَ، بِقَدْرِ مَا زَادَ مِنَ الرَّكَعَاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَخْفُ عَلَى الْمَأْمُومِينَ مِنْ تَطْوِيلِ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ كَانَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ يَقُومُونَ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ، وَآخَرُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَأَوْتَرُوا بِثَلَاثٍ، وَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ سَائِغٌ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ مُوَقَّتٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَقَدْ أَخْطَأَ.

وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً تَشْبِيهًا بِأَهْلِ مَكَّةَ، حَيْثُ كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ طَوَافًا وَيُصَلُّونَ رَكْعَتَيْهِ، وَلَا يَطُوفُونَ بَعْدَ الْخَامِسَةِ، فَأَرَادَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مُسَاوَاتَهُمْ، فَجَعَلُوا مَكَانَ كُلِّ طَوَافٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ عَدَدُهَا بِالنَّصِّ لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالصَّدْرُ الْأَوَّلُ كَانُوا أَوْرَعَ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: قَدَّمْنَا فِي بَابِ النَّوَافِلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً الْحَدِيثَ، وَأَمَّا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً سِوَى الْوَتْرِ» ، فَضَعِيفٌ بِأَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ جَدِّ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلصَّحِيحِ، نَعَمْ ثَبَتَ الْعِشْرُونَ مِنْ زَمَنٍ عُمَرَ، فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

ص: 972

وَفِي الْمُوَطَّأِ رِوَايَةٌ بِإِحْدَى عَشْرَةَ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ وَقَعَ أَوَّلًا ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى الْعِشْرِينَ، فَإِنَّهُ الْمُتَوَارَثُ، فَتَحْصُلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سُنَّةً إِحْدَى عَشْرَةَ بِالْوِتْرِ فِي جَمَاعَةِ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ أَفَادَ أَنَّهُ لَوْلَا خَشْيَةُ ذَلِكَ لَوَاظَبْتُ بِكُمْ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ عليه الصلاة والسلام فَيَكُونُ سُنَّةً، وَكَوْنُهَا عِشْرِينَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» " نَدْبٌ إِلَى سُنَّتِهِمْ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُ ذَلِكَ سُنَّتِهِ ; إِذْ سُنَّتُهُ بِمُوَاظَبَتِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الْعُذْرِ إِنَّمَا اسْتَفَدْنَا أَنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، فَيَكُونُ الْعِشْرُونَ مُسْتَحَبًّا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهَا هُوَ السُّنَّةُ كَالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبَّةً، وَرَكْعَتَانِ مِنْهَا هِيَ السُّنَّةُ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَايِخِ أَنَّ السُّنَّةَ عِشْرُونَ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَا قُلْنَا، فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ مَا هُوَ عِبَارَةُ الْقَدُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: مُسْتَحَبٌّ لَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيهِ، أَيْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ: يُسَنُّ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْقَدُورِيِّ أَيْضًا يُوهِمُ أَنَّ الْكُلَّ مُسْتَحَبٌّ، كَمَا أَنَّ عِبَارَةَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ تُوهِمُ أَنَّ الْكُلَّ مَسَنُونٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِهِمَا عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَظْهَرُ إِمَّا بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الْأَكْثَرِ مَنْ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الْمَسْنُونَةِ عَلَى الْمُسْتَحَبَّةِ، أَوْ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنْ فِعْلِهِ عَلَى فِعْلِ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَلَى الْأَقْوَى مِنْ إِطْلَاقِ سُنَّتِهِ عَلَى سُنَّةِ خُلَفَائِهِ، فَقَوْلُ الْهِدَايَةِ أَوْلَى مَعَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ لِلْعَامَّةِ مِنْ زِيَادَةِ الْحَثِّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوْلَى وَالطَّرِيقِ الْأَعْلَى.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، لَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ كَانَ يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً سِوَى الْوِتْرِ» ، وَمِمَّا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ «أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ لَيْلَتَيْنِ، وَلَمْ يَخْرُجْ فِي الثَّالِثَةِ» ، لَكِنِ الرِّوَايَتَانِ ضَعِيفَتَانِ، وَفِي صَحِيحَيْ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ وَالْوِتْرِ، لَكِنْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً.

ص: 973

1304 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيًّا يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْقِيَامِ، فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ فَوْتِ السَّحُورِ. وَفِي أُخْرَى: مَخَافَةَ الْفَجْرِ. رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

1304 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ)، أَيْ: ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، أَحَدِ أَعْلَامِ الْمَدِينَةِ تَابِعِيٍّ، قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُهُ شِفَاءٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيًّا يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْقِيَامِ) ، أَيْ: مِنْ قِيَامِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ سُمِّيَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِيهِ، لَا لِمَا نُقِلَ عَنِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ لِكَوْنِهِمْ يَفْعَلُونَهَا عَقِبَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ ; لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا قَبْلَ النَّوْمِ. (فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ) : بِفُتْحَتَيْنِ، أَيِ الْخُدَّامَ (بِالطَّعَامِ)، أَيْ: بِتَهْيِئَتِهِ أَوْ بِإِحْضَارِهِ لِنَتَسَحَّرَ بِهِ، (مَخَافَةَ) : عِلَّةُ الِاسْتِعْجَالِ (فَوْتِ السُّحُورِ) : بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ (وَفِي أُخْرَى: مَخَافَةَ الْفَجْرِ)، أَيْ: اقْتِرَابِهِ فَيَفُوتُ السُّحُورُ، فَمَآلُ الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفَتَا فِي الْمَبْنَى. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

ص: 973

1305 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«هَلْ تَدْرِينَ مَا هَذِهِ اللَّيْلَةُ؟ " يَعْنِي لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَتْ: مَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " فِيهَا أَنْ يُكْتَبَ كلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِيهَا أَنْ يُكْتَبَ كُلُّ هَالِكٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِيهَا تُرْفَعُ أَعْمَالُهُمْ، وَفِيهَا تَنْزِلُ أَرْزَاقُهُمْ "، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثًا. قُلْتُ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ! فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى هَامَتِهِ، فَقَالَ: " وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ " يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ".

ــ

1305 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْعَفِيفِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " قَالَ هَلْ تَدْرِينَ) ، أَيْ: تَعْلَمِينَ (مَا) ، أَيْ: مَا يَقَعُ (فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ) ، أَيْ: مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَتَقْدِيرِ الْأَمْرِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: نَبَّهَ عليه الصلاة والسلام بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ عَلَى عِظَمِ خَطَرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَمَا يَقَعُ فِيهَا، لِيَحْمِلَ ذَلِكَ الْأُمَّةَ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، وَآكَدِهِ عَلَى إِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ وَالْفِكْرِ وَالذِّكْرِ، كَلَامٌ مُسْتَحْسَنٌ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى التَّقْرِيرِ لَمْ يَقَعْ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيرِ، وَلَعَلَّهُ لِمَا رَأَى فِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَخْ. الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ سَبَقَ قَلَمُهُ وَتَبِعَ قَدَمُهُ، فَلَمْ يُصِبِ الْمُحَرِّرُ فَمَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (يَعْنِي) ، أَيْ: يُرِيدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ (لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ) : وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ يَعْنِي عَائِشَةَ (قَالَتْ) : نَقَلَ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ قُلْتُ: (مَا فِيهَا) ، أَيْ: مَا يَقَعُ فِيهَا (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " فِيهَا أَنْ يُكْتَبَ) : يَعْنِي كِتَابَةً ثَانِيَةً بَعْدَ الْكِتَابَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ

ص: 973

(كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ) : وَتَخْصِيصُهُمْ تَشْرِيفٌ لَهُمْ (فِي هَذِهِ السَّنَةِ)، أَيْ: الْآتِيَةِ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ (وَفِيهَا أَنْ يُكْتَبَ كُلُّ هَالِكٍ)، أَيْ: مَيِّتٌ (مِنْ بَنِي آدَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَآجَالِهِمْ، وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ إِلَى الْأُخْرَى الْقَابِلَةِ (وَفِيهَا تُرْفَعُ أَعْمَالُهُمْ)، أَيْ: تُكْتَبُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تُرْفَعُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَلِهَذَا سَأَلَتْ عَائِشَةُ: مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَخْ، أَيْ كَمَا سَيَأْتِي، وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ، يَعْنِي إِذَا كَانَتِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْكَائِنَةُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تُكْتَبُ قَبْلَ وُجُودِهَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، فَقَرَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا أَجَابَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: حَذَفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ هَذَا وَمَا بَعْدَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبِلَهُ، وَالْمَعْنَى تُرَفْعُ أَعْمَالُهُمْ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَلَا يُنَافِيهِ رَفْعُهَا كُلَّ يَوْمٍ أَعْمَالَ اللَّيْلِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَعْمَالَ النَّهَارِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَكُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ رَفْعٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ، وَالثَّانِي رَفْعٌ خَاصٌّ لِكُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَالثَّالِثَ رَفْعٌ لِجَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي الْأُسْبُوعِ وَكَانَ حِكْمَةُ تَكْرِيرِ هَذَا الرَّفْعِ مَزِيدُ تَشْرِيفِ الطَّائِعِينَ وَتَقْبِيحِ الْعَاصِينَ، وَقَيْدُ شَارِحٌ الْأَعْمَالِ بِالصَّالِحَةِ: وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وَوَاضِحٌ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ لِذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّفْعِ فِيهَا الْقَبُولُ وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. (وَفِيهَا تَنْزِلُ) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَرُوِيَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا (أَرْزَاقُهُمْ)، أَيْ: أَسْبَابُ أَرْزَاقِهِمْ أَوْ تَقْدِيرِهَا، وَهُوَ يَشْمَلُ حِسِّيهَا وَمَعْنَوِيهَا.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ تَنْزِيلُ عِلْمِ مَقَادِيرِهَا لِلْمُوَكَّلِينَ بِهَا، أَوْ أَسْبَابِهَا كَالْمَطَرِ بِأَنْ يَنْزِلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، أَوْ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى السَّحَابِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ، وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ مَا يُوَضِّحُ الْمُرَادَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] قَدْ يَشْهَدُ لِلثَّانِي، وَاحْتِمَالُ إِرَادَةِ السَّحَابِ بِالسَّمَاءِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، قِيلَ: هَذَا كُلُّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] اهـ.

وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَهُوَ وَإِنْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بَلْ صَرِيحَهُ يَرُدُّهُ لِإِفَادَتِهِ فِي آيَةِ أَنَّهُ نَزَلَ فِي رَمَضَانَ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ نَزَلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَلَا تَخَالُفَ بَيْنِهِمَا ; لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ جُمْلَةِ رَمَضَانَ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا النُّزُولِ نُزُولُهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام مُتَفَرِّقًا بِحَسِبِ الْحُجَّةِ وَالْوَقَائِعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النُّزُولَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ثَبَتَ أَنَّ اللَّيْلَةَ الَّتِي يُفَرْقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فِي الْآيَةِ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنْ لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ يَقَعُ فِيهَا فَرْقٌ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهَا الْمُرَادَةُ مِنَ الْآيَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةٌ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ وُقُوعُ ذَلِكَ الْفَرْقِ فِي كُلٍّ مِنَ اللَّيْلَتَيْنِ إِعْلَامًا بِمَزِيدِ شَرَفِهِمَا اهـ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مَا يُصَدَّرُ إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ فِي إِحْدَاهِمَا إِجْمَالًا، وَفِي الْأُخْرَى تَفْصِيلًا، أَوْ تَخُصُّ إِحْدَاهُمَا بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالْأُخْرَى بِالْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ. (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مِنْ أَحَدٍ) : مِنْ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)، أَيْ: أَوَّلًا وَآخِرًا بِدَلَالَةِ الْإِطْلَاقِ، لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالِاسْتِحْقَاقِ (إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَ: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى) :

ص: 974

وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] لِأَنَّ الْعَمَلَ سَبَبٌ صُورِيٌّ، وَسَبَبُهُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ رَحْمَةُ اللَّهِ لَا غَيْرُ، عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ بِالْعَبْدِ، فَلَمْ يَدْخُلْ إِلَّا بِمَحْضِ الرَّحْمَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَقِيلَ دُخُولُهَا بِالرَّحْمَةِ، وَتَفَاوُتُ الدَّرَجَاتِ بِتَفَاوُتِ الطَّاعَاتِ وَالْخُلُودُ بِالنِّيَّاتِ. (ثَلَاثًا)، أَيْ: قَالَ هَذَا الْقَوْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ مِنَ الْأُولَى وَالْوُسْطَى وَالْأُخْرَى، وَفِي نُسْخَةِ الْعَفِيفِ لَفْظُ ثَلَاثًا غَيْرُ مَذْكُورٍ. (قُلْتُ) : هَذَا رُجُوعٌ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ لَا بِالْمَعْنَى، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الرَّاوِي عَنْهَا لَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنى. (وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)، أَيْ: مَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى مَعَ كَمَالِ مَرْتَبَتِكَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. (فَوَضَعَ يَدَهُ)، أَيْ: تَوَاضُعًا (عَلَى هَامَتِهِ)، أَيْ: رَأْسِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ التَّكَبُّرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِشَارَةٌ إِلَى افْتِقَارٍ كُلَّ الِافْتِقَارِ مِنْ شُمُولِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمِهِ، (فَقَالَ: " وَلَا أَنَا) ، أَيْ: وَلَا أَدْخُلُهَا أَنَا فِي زَمَانٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ، (إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ)، أَيْ: إِلَّا وَقْتَ أَنْ يَسْتُرَ ذَاتِي وَيُحِيطَ بِي مِنْ كُلِّ جِهَاتِي، مَأْخُوذٌ مِنَ الْغِمْدِ وَهُوَ غِلَافُ السَّيْفِ (مِنْهُ)، أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ وَفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ (بِرَحْمَتِهِ) : لَا بِعِلْمٍ وَعَمَلٍ مِنِّي، مَعَ أَنَّهُمَا لَا يُتَصَوَّرَانِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ عِنَايَتِهِ (يَقُولُهَا)، أَيْ: هَذِهِ الْجُمَلَ وَهِيَ: وَلَا أَنَا. إِلَخْ. (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : طِبْقَ الْأَوَّلِ فِي التَّأْكِيدِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

ص: 975

1306 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:" «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1306 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَطَّلِعُ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ يَتَجَلَّى عَلَى خَلْقِهِ بِمَظْهَرِ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ وَالْإِكْرَامِ الْوَاسِعِ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: بِمَعْنَى يَنْزِلُ، وَقَدْ مَرَّ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ، أَيْ يَنْظُرُ نَظَرَ الرَّحْمَةِ السَّابِقَةِ وَالْمَغْفِرَةِ الْبَالِغَةِ (فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ) : الْمُتَّصِفِ بِذَنْبِهِ الْمُعْتَرِفِ بِتَقْصِيرِهِ وَعَيْبِهِ (إِلَّا لِمُشْرِكٍ)، أَيْ: كَافِرٍ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (أَوْ) : لِلتَّنْوِيعِ (مُشَاحِنٍ)، أَيْ: مُبَاغِضٍ وَمُعَادٍ لِأَحَدٍ، لَا لِأَجْلِ الدِّينِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى يُسَامِحُ عِبَادَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَنْ حُقُوقِهِ إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ عَبِيدِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّحْنَاءُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ إِلَّا لِلدِّينِ، وَلَا يَأْمَنُ أَحَدُهُمْ أَذَى صَاحِبِهِ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْقَتْلِ، وَرُبَّمَا يَنْتَهِي إِلَى الْكُفْرِ إِذْ كَثِيرًا مَا يُحْمَلُ عَلَى اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْعَدُوِّ وَمَالِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قُرِنَ الْمُشَاحِنُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِقَاتِلِ النَّفْسِ، وَكِلَاهُمَا تَهْدِيدٌ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، أَيْ: عَنْ أَبِي مُوسَى.

ص: 975

1307 -

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَفِي رِوَايَةٍ:" إِلَّا اثْنَيْنِ: مُشَاحِنٌ وَقَاتِلُ نَفْسٍ ".

ــ

1307 -

(وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَفِي رِوَايَتِهِ)، أَيْ: رِوَايَةِ أَحْمَدَ (إِلَّا اثْنَيْنِ: مُشَاحِنٌ) : بِالرَّفْعِ، أَيْ هُمَا مُشَاحِنٌ (وَقَاتِلُ نَفْسٍ)، أَيْ: تَعَمُّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَجُوزُ جَرُّهُمَا عَلَى الْبَدَلِيةِ.

ص: 975

1308 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا، وَصُومُوا يَوْمَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلَا كَذَا أَلَا كَذَا؟ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1308 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ فَقُومُوا فِيهَا، وَإِذَا ذَهَبَ إِلَى وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَنْ يُقَالَ لَيْلَةُ النِّصْفِ، فَأَنَّثَ الضَّمِيرَ اعْتِبَارًا لِلنِّصْفِ ; لِأَنَّهَا عَيْنُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنْ يَقَعَ الْقِيَامُ فِي جَمِيعِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّيْلِ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْقِيَامِ فِيهَا، وَحَسَنَةٌ أَيْضًا مُقَابَلَةُ قَوْلِهِ:(وَصُومُوا يَوْمَهَا)، أَيْ: فِي نَهَارِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِكَمَالِهِ، وَيُعَاضِدُ قَوْلَهُ:(فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْزِلُ)، أَيْ: يَتَجَلَّى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ تَجَلِّيًا عَامًّا لَا يَخْتَصُّ بِأَرْبَابِ الْخُصُوصِ، وَلَا بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ (فِيهِ)، أَيْ: فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ (لِغُرُوبِ الشَّمْسِ)، أَيْ: أَوَّلِ وَقْتِ غُرُوبِهَا (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) : مُتَعَلِّقٌ بِيَنْزِلُ بِتَضْمِينِ نَاظِرٍ، انْظُرِ الْعِنَايَةَ إِلَى جِهَةِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَبْوَابِ فُتُوحَاتِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا، وَقِبْلَةِ دُعَائِهِمْ، وَمَصْعَدِ أَعْمَالِهِمْ، وَمُرْتَقَى أَرْوَاحِهِمْ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ لَيْلَهَا يَعْنِي بَعْضَهَا إِذْ بَعْضُ اللَّيْلِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَيْلٌ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ السَّابِقُ: كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، قُلْتُ: الْبَعْضِيَّةُ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ التَّنْكِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] لَا أَنَّ اللَّيْلَ يُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهِ الْبَعْضُ خُصُوصًا مَعَ الْإِضَافَةِ ثُمَّ قَالَ: أَوْ جَوْفَهَا، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَيْلُ اللَّيْلِ، وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُمْ أُرِيدَ بِهِ التَّأْكِيدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57] ، وَالْجَوْفِيَّةُ غَيْرُ مُسْتَفَادَةٍ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَبِهَذَا يُسْتَغْنَى عَنْ قَوْلِ الشَّارِحِ اهـ.

وَأَنْتَ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ (فَيَقُولُ)، أَيْ: تَعَالَى رَبُّنَا أَوْ مُنَادِيهِ حِكَايَةً عَنْهُ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ وَالْعَرْضِ (مِنْ) : زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ وَحُذِفَتْ مِمَّا بَعْدَهُ لِلِاكْتِفَاءِ (مِنْ مُسْتَغْفِرٍ) : يَسْتَغْفِرُ (فَأَغْفِرَ لَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ الْعَرْضِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ:(أَلَا مُسْتَرْزِقٌ) : بِالرَّفْعِ (فَأَرْزُقَهُ) : بِالنَّصْبِ (أَلَا مُبْتَلًى)، أَيْ: مُسْتَعِفٌّ يَطْلُبُ الْعَافِيَةَ وَهُوَ مُقَدَّرٌ لِظُهُورِهِ، (فَأُعَافِيَهُ؟) : وَلَا يُشْكِلُ وُجُودُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُبْتَلِينَ يَسْأَلُونَ الْعَافِيَةَ وَلَا يُجَابُونَ، لِعَدَمِ اسْتِجْمَاعِهِمْ لِشُرُوطِ الدُّعَاءِ (أَلَا كَذَا) : مِنْ طَالِبٍ عَطَاءً فَأُعْطِيَهُ (أَلَا كَذَا؟) : مِنْ دَافِعِ بَلَاءٍ فَأَدْفَعَهُ (حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

وَعَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ فَامْحُهُ وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ قَدْ نُقِلَ فِي الْحَدِيثِ قِرَاءَتُهُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِقَوِيٍّ كَذَا فِي تَفْسِيرِ السَّيِّدِ مُعِينِ الدِّينِ الصَّفَوِيِّ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابَةِ الْأُولَى الْكِتَابَةُ الْمُعَلَّقَةُ ; إِذِ الْحِكْمَةُ لَا تَتَبَدَّلُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الَّلَآلِي: إِنَّ مِائَةَ رَكْعَةٍ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ بِالْإِخْلَاصِ عَشْرَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَعَ طُولِ فَضْلِهِ لِلدَّيْلَمِيِّ وَغَيْرِهِ مَوْضُوعٌ.

وَفِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَمِمَّا أُحْدِثَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الصَّلَاةُ الْأَلْفِيَّةُ مِائَةَ رَكْعَةٍ بِالْإِخْلَاصِ عَشْرًا عَشْرًا بِالْجَمَاعَةِ، وَاهْتَمُّوا بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، لَمْ يَأْتِ بِهَا خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ إِلَّا ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ، وَلَا تَغْتَرَّ بِذِكْرِ صَاحِبِ الْقُوتِ وَالْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ لِلْعَوَامِّ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ افْتِتَانٌ عَظِيمٌ، حَتَّى الْتُزِمَ بِسَبَبِهَا كَثْرَةُ الْوَقِيدِ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْفُسُوقِ وَانْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ مَا يُغْنِي عَنْ وَصْفِهِ حَتَّى خَشِيَ الْأَوْلِيَاءُ مِنَ الْخَسْفِ،

ص: 976