الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1719 -
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: «سَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَعْدًا، وَرَشَّ عَلَى قَبْرِهِ مَاءً» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1719 -
(وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَعْدًا) هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الضَّرُورَةِ أَوِ الْجَوَازِ. (وَرَشَّ) أَيْ: أَمَرَ بِالرَّشِّ. (عَلَى قَبْرِهِ مَاءً، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
1720 -
«وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1720 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ أَيْ: رَمَى عَلَى قَبْرِهِ بِالتُّرَابِ. (مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا) أَيْ: ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِعَانَةِ الْخَيْرَاتِ وَلَوْ بِبَعْضِ الْفِعْلَاتِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
) .
1721 -
«وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: " لَا تُؤْذِ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ، أَوْ لَا تُؤْذِهِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
1721 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ: (قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: لَا تُؤْذِ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ) أَيْ: لَا تُهِنْهُ. (أَوْ لَا تُؤْذِهِ) أَيْ: بِالضَّمِيرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ، وَهُوَ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
1722 -
(بَابُ الْبُكَاءِ) بِالْمَدِّ عَلَى الْأَفْصَحِ أَيْ: جَوَازِهِ. (عَلَى الْمَيِّتِ) أَيْ: بِدُونِ نِيَاحَةٍ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1722 -
(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ) اسْمُهُ الْبَرَاءُ، وَاسْمُ أُمِّ سَيْفٍ زَوْجَتِهِ خَوْلَةُ بَنْتُ الْمُنْذِرِ، أَنْصَارِيَّةٌ، كَذَا فِي التَّخْرِيجِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّهَا رَيَّانُ مُرْضِعَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (الْقَيْنِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْيَاءِ أَيِ: الْحَدَّادِ. (وَكَانَ) أَيْ: أَبُو سَيْفٍ. (ظِئْرًا) بِكَسْرِ الظَّاءِ مَهْمُوزٍ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَهُوَ الْمُرْضِعَةُ (لِإِبْرَاهِيمَ) وَمَعْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ زَوْجَ مُرْضِعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَصَاحِبَ لَبَنِهَا، تُوُفِّي إِبْرَاهِيمُ وَلَهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا كَذَا فِي التَّخْرِيجِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ: الظِّئْرُ: الْمُرَبِّي وَالْمُرْضِعُ، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْعَطْفُ، وَسُمِّيَ زَوْجُ الْمُرْضِعَةِ ظِئْرًا ; لِأَنَّ اللَّبَنَ مِنْهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِي الْعَطْفِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الظِّئْرُ الْمُرْضِعَةُ غَيْرَ وَلَدِهَا، وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ أَيْضًا. (فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ) أَيْ: وَضَعَ أَنْفَهُ فِي وَجْهِهِ عَلَى وَجْهِهِ كَمَنْ يَشُمُّ رَائِحَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ الْأَطْفَالِ وَالتَّرَحُّمَ بِهِمْ نِسْبَةٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، رَوَى: أَنَّهُ «قَالَ رَجُلٌ لِي: عَشَرَةُ صِبْيَانٍ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (" لَا أَمْلِكُ لَكَ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ» ) أَيْ: بِأَيَّامٍ. (وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ) أَيْ: يَمُوتُ، وَقِيلَ: يَتَحَرَّكُ وَيَتَرَدَّدُ فِي الْفِرَاشِ لِكَوْنِهِ فِي النَّزْعِ. (فَجَعَلَتْ) أَيْ: صَارَتْ. (عَيْنَا رَسُولِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَ سُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: تُسِيلَانِ دَمْعًا، فِي النِّهَايَةِ: ذَرَفَتِ الْعَيْنُ
إِذَا جَرَى دَمْعُهَا. (فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: وَأَنْتَ) عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيِ: النَّاسُ يَبْكُونَ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَبْكِي كَمَا نَبْكِي! قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَنْتَ تَفْعَلُ كَذَا، وَتَنْفَجِعُ لِلْمَصَائِبِ كَالنَّاسِ، اسْتَغْرَبَ مِنْهُ ذَلِكَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْعَجْزِ عِنْدَ مُقَاوَمَةِ الْمُصِيبَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي تُشَاهِدُهَا رِقَّةٌ وَرَحْمَةٌ عَلَى الْمَقْبُوضِ، لَا مَا تَوَهَّمْتَ مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ. (فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا) أَيِ: الدَّمْعَةُ أَوِ الْحَالَةُ الَّتِي تُشَاهِدُهَا. (رَحْمَةٌ) أَيْ: أَثَرُ رَحْمَةٍ. (ثُمَّ أَتْبَعَهَا) أَيْ: تِلْكَ الْمَرَّةَ مِنَ الْبُكَاءِ. (بِأُخْرَى) أَيْ: بِمَرَّةٍ أُخْرَى وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَتْبَعَ الدَّمْعَةَ الْأُولَى بِدَمْعَةٍ أُخْرَى، أَوْ أَتْبَعَ الْكَلِمَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى. (فَقَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ) بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ. (يَحْزَنُ) بِفَتْحِ الزَّايِ:، وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ ضَمِّ الزَّايِ فَخَطَأٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّهُ بِالضَّمِّ مُتَعَدٍّ، وَبِالْفَتْحِ لَازِمٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِنْ شَأْنِهِمَا ذَلِكَ، وَلَا يُمْنَعَانِ مِمَّا خُلِقَا لَهُمَا، خُصُوصًا إِذَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمَثُوبَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّهَا رَحْمَةٌ كَلِمَةً مُجْمَلَةً، فَعَقَّبَهَا بِالتَّفْصِيلِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، أَيْ: هَذِهِ الدَّمْعَةُ الَّتِي تَرَاهَا فِي الْعَيْنِ أَثَرُ رَحْمَةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ. (وَلَا نَقُولُ) أَيْ: مَعَ ذَلِكَ. (إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ رَبِّنَا. (وَإِنَّا لِفِرَاقِكَ) أَيْ: بِسَبَبِ مُفَارَقَتِكَ إِيَّانَا. (يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) أَيْ: طَبْعًا وَشَرْعًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْزَنْ فَمِنْ قَسَاوَةِ قَلْبِهِ، وَمَنْ لَمْ يَدْمَعْ فَمِنْ قِلَّةِ رَحْمَتِهِ، فَهَذَا الْحَالُ أَكْمَلُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، مِنْ حَالِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ فَضَحِكَ، فَإِنَّ الْعَدْلَ أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَبْكِي أَوَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ ! فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي نَهَيْتُ عَنِ النَّوْحِ» .
1723 -
ــ
1723 -
(وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: زَيْنَبُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَوَّبَهُ غَيْرُهُ. (إِلَيْهِ) عليه الصلاة والسلام. (إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ) أَيْ: قَرُبَ قَبْضُهُ وَمَوْتُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: دَخَلَ فِي حَالَةِ الْقَبْضِ وَمُعَالَجَةِ النَّزْعِ، وَفِي النِّهَايَةِ قُبِضَ الْمَرِيضُ إِذَا تُوُفِّيَ، وَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ عَاشَ حَتَّى نَاهَزَ الْحُلُمَ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ لَهُ صَبِيٌّ عُرْفًا، بَلْ لُغَةً، وَيُجَابُ بِأَنَّ الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ يَكْفِي هُنَا، وَقِيلَ: الصَّوَابُ أَنَّهُ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، كَمَا ثَبَتَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ. (فَأْتِنَا) أَيْ: احْضَرْنَا. (فَأَرْسَلَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا. (يَقْرَأُ السَّلَامَ) عَلَيْهَا. (وَيَقُولُ) تَسْلِيَةً لَهَا. (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ) وَوَقَعَ فِي الْحِصْنِ: وَلِلَّهِ، وَهُوَ مَعَ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ خِلَافُ مَا فِي الْأُصُولِ. (مَا أَعْطَى) مَا: فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ التَّقْدِيرُ: لِلَّهِ الْأَخْذُ وَالْإِعْطَاءُ، وَعَلَى الثَّانِي لِلَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ، وَلَهُ مَا أَعْطَى مِنْهُمْ، أَوْ مَا هُوَ أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي تَقَدُّمِ الْمَجَازِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاخْتِصَاصِ بِالْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَقَدَّمَ الْأَخْذَ عَلَى الْإِعْطَاءِ مَعَ أَنَّ الْأَخْذَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْوَاقِعِ لِمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَهُ هُوَ الَّذِي كَانَ أَعْطَاهُ، فَإِنْ أَخَذَهُ أَخَذَ مَا هُوَ لَهُ، فَلَا يَنْبَغِي الْجَزَعُ ; لِأَنَّ مَنْ يُسْتَوْدَعُ الْأَمَانَةَ لَا يَنْبَغِي لَهُ الْجَزَعُ إِذَا اسْتُعِيدَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ إِعْطَاءَ الْحَيَاةِ لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَ الْمَيِّتِ، وَثَوَابَهُمْ عَلَى الْمُصِيبَةِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. (وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى) قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: كُلٌّ مِنَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ، أَوْ مِنَ الْأَنْفُسِ، أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كُلٌّ مِنَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ عِنْدَ اللَّهِ مُقَدَّرٌ مُؤَجَّلٌ. قَالَ مِيرَكُ: وَيَجُوزُ فِي كُلٍّ النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى أَنْ، فَيَنْسَحِبُ التَّأْكِيدُ عَلَيْهِ أَيْضًا، أَقُولُ: لَكِنْ لَا يُسَاعِدُهُ الرَّسْمُ، وَالرِّوَايَةُ. قَالَ: وَمَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ الْعِلْمُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْمُلَازَمَةِ، وَالْأَجَلُ يُطْلَقُ عَلَى الْحَدِّ الْأَخِيرِ عَلَى مَجْمُوعِ الْعُمُرِ. (فَلْتَصْبِرْ) أَيْ: هِيَ. (وَلْتَحْتَسِبْ) أَيْ: تَطْلُبِ الْأَجْرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِلْغَائِبِ الْمُؤَنَّثِ، أَوِ الْحَاضِرِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:(فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا) فَعَلَى هَذَا الْمُبَلِّغُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا تَلَفَّظَ بِهِ فِي الْغَيْبَةِ اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ يُورِثُ الثَّوَابَ، وَالْجَزَعَ يُفَوِّتُهُ عَنِ الْمُصَابِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي التَّعْزِيَةِ، وَلِذَا قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ: فَإِذَا عَزَّى أَحَدًا
يُسَلِّمُ وَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ إِلَخْ.
قَالَ: «وَكَتَبَ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُعَاذٍ يُعَزِّيهِ فِي ابْنٍ لَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ، وَأَلْهَمَكَ الصَّبْرَ، وَرَزَقَنَا وَإِيَّاكَ الشُّكْرَ، فَإِنَّ أَنْفُسَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَأَهْلِينَا وَأَوْلَادَنَا مِنْ مَوَاهِبِ اللَّهِ عز وجل، الْهَنِيئَةِ، وَعَوَارِيهِ الْمُسْتَوْدَعَةِ، مَتَّعَ بِهَا إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ، وَيَقْبِضُهَا لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ افْتَرَضَ عَلَيْنَا الشُّكْرَ إِذَا أَعْطَى، وَالصَّبْرَ إِذَا ابْتَلَى، فَكَانَ ابْنُكَ مِنْ مَوَاهِبِ اللَّهِ الْهَنِيئَةِ، وَعَوَارِيهِ الْمُسْتَوْدَعَةِ، مَتَّعَكَ بِهِ فِي غِبْطَةٍ وَسُرُورٍ، وَقَبَضَهُ مِنْكَ لِأَجْرٍ كَثِيرٍ، الصَّلَاةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهُدَى إِنِ احْتَسَبْتَ فَاصْبِرْ، وَلَا يُحْبِطْ جَزَعُكَ أَجْرَكَ؛ فَتَنْدَمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَلَا يَدْفَعُ حُزْنًا، وَمَا هُوَ نَازِلٌ فَكَانَ وَالسَّلَامُ» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ الْحَاكِمُ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَمِنَ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ وَالْقَضَايَا الْعَجِيبَةِ أَنَّهُ أَثْنَاءَ كِتَابَتِي هَذَا الْكِتَابَ وَقَعَ مِنْ قَضَاءِ رَبِّ الْأَرْبَابِ أَنْ مَاتَ لِي ابْنٌ اسْمُهُ حَسَنٌ، وَفِي الصُّورَةِ وَالسِّيرَةِ حَاوِي الْفَوَاضِلِ، وَجَامِعُ الْفَضَائِلِ، حَسَّنَ اللَّهُ مَثْوَاهُ، وَزَيَّنَ مَضْجَعَهُ وَمَأْوَاهُ، فَحَصَلَ لِي بِهَذَا الْحَدِيثِ تَعْزِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَتَسْلِيَةٌ شَامِلَةٌ، وَنَرْجُو مِنَ اللَّهِ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ مَعَ الْإِنَابَةِ التَّامَّةِ. (فَأَرْسَلَتْ) أَيِ: ابْنَتُهُ. (إِلَيْهِ) أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى. (تُقْسِمُ عَلَيْهِ) أَيْ: تَحْلِفُ عَلَيْهِ. (لَيَأْتِيَنَّهَا) بِالنُّونِ الْمُؤَكَّدَةِ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) كُبَرَاءُ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَاؤُهُمْ. (وَرِجَالٌ) أَيْ: آخَرُونَ مِمَّنْ هُمْ دُونَهُمْ. (فَرُفِعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيُّ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ رُفِعَ الصَّبِيُّ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ وَضَعَهُ أَحَدٌ فِي حِجْرِهِ صلى الله عليه وسلم. (وَنَفْسُهُ) أَيْ: رُوحُهُ. (تَتَقَعْقَعُ) أَيْ: تَضْطَرِبُ وَتَتَحَرَّكُ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (فَفَاضَتْ) سَالَتْ. (عَيْنَاهُ) وَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى نَزَلَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. (فَقَالَ سَعْدٌ) أَيِ: الْمَذْكُورُ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟) الْبُكَاءُ أَيْ: مِنْكَ. (فَقَالَ: هَذِهِ) أَيِ: الدَّمْعَةُ. (رَحْمَةٌ) أَيْ: أَثَرٌ مِنْ آثَارِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: التَّبْكِيَةُ مِنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ. (جَعَلَهَا) أَيْ: خَلَقَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ. (فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ) قَالَ مِيرَكُ: ظَنَّ سَعْدٌ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْبُكَاءِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نُسِّيَ، فَأَعْلَمَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مُجَرَّدَ الْبُكَاءِ وَدَمْعَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَا مَكْرُوهٍ، بَلْ هُوَ رَحْمَةٌ وَفَضِيلَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ النَّوْحُ وَالنَّدْبُ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ، وَضَرْبُ الْخُدُودِ. (فَإِنَّمَا) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ. (يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) جَمْعُ رَحِيمٍ بِمَعْنَى الرَّاحِمِ، أَيْ: وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ مَنِ اتَّصَفَ بِأَخْلَاقِهِ، وَيَرْحَمُ عِبَادَهُ، وَ (مِنْ) فِي: مِنْ عِبَادِهِ بَيَانِيَّةٌ حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الرُّحَمَاءُ قَدَّمَهَا إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا يَكُونُ أَوْقَعَ اهـ كَلَامُ الطِّيبِيِّ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ (مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ: إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ، فَمَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ اهـ. وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ:«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَأَرْبَابُ الْمَالِ مُتَخَلِّقُونَ بِأَخْلَاقِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، مُتَّصِفُونَ بِالرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ، وَالرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ الْفَاضِلَةِ.
1724 -
ــ
1724 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: اشْتَكَى) أَيْ: مَرِضَ. (سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوًى) مَصْدَرٌ أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أَيْ: مَرَضًا. (لَهُ) أَيْ: حَاصِلًا لَهُ. (فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ) حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يَقْصِدُ عِيَادَتَهُ. (مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِهِ. (فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ) أَيْ: صَادَفَهُ. (فِي غَاشِيَةٍ) أَي) : شِدَّةٍ مِنَ الْمَرَضِ، أَوْ فِي غَشَيَانِ وَإِغْمَاءٍ مِنْ غَايَةِ الْمَرَضِ، حَتَّى ظُنَّ أَنَّهُ مَاتَ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْغَاشِيَةُ الدَّاهِيَةُ مِنْ شَرٍّ أَوْ مَكْرُوهٍ، أَوْ مَرَضٍ، الْمُرَادُ بِهَا هَهُنَا مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ مِنْ كَرْبِ الْوَجَعِ الَّذِي بِهِ لَا حَالُ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَعَاشَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ بِالْغَاشِيَةِ الْقَوْمُ الْحُضُورُ عِنْدَهُ الَّذِينَ هُمْ غَاشِيَتُهُ، أَيْ: يَغْشَوْنَهُ لِلْخِدْمَةِ، أَوِ الزِّيَارَةِ قَالَ مِيرَكُ: كَذَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغَاشِيَةِ الثَّوْبَ الَّذِي يُلْقَى عَلَى الْمَرِيضِ أَوِ الْمَيِّتِ، وَلِذَا سَأَلَ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَضَى. (قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: رَحْمَةٌ عَلَيْهِ، وَتَذَكَّرُوا لِمَا صَدَرَ لَهُ مِنَ الْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ. (فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا) وَفِي نِسْبَةِ الْبُكَاءِ إِلَى الرُّؤْيَةِ الْمِلْكُ: إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الدَّمْعَةُ. (فَقَالَ) تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ. (أَلَا تَسْمَعُونَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَوَمَا سَمِعْتُمْ أَوْ مَا عَلِمْتُمُ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا تَسْمَعُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ. (إِنَّ اللَّهَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ بَيَانٌ لِلْمَقُولِ الْمُقَدَّرِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. (لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ) بَلْ يُثَابُ بِهِمَا إِذَا كَانَا عَلَى جِهَةِ الرَّحْمَةِ. (وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا) أَيْ: إِذَا قَالَ: مَا لَا يُرْضِي الرَّبَّ، بِأَنْ قَالَ شَرًّا مِنَ الْجَزَعِ وَالنِّيَاحَةِ. (وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ) يَعْنِي الْمُرَادَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ هُنَا اللِّسَانُ الَّذِي يُضَرُّ بِهِ الْإِنْسَانُ. (أَوْ يُرْحَمُ) أَيْ: بِهَذَا إِنْ قَالَ خَيْرًا، بِأَنِ اسْتَرْجَعَ مَثَلًا، أَوِ اسْتَغْفَرَ أَوْ تَرَحَّمَ، وَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ مِنْ جَوَازِ الْبُكَاءِ وَلَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ، وَرَفْعِ صَوْتٍ، نَقَلَ جَمَاعَةٌ فِيهِ الْإِجْمَالَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: فَإِذَا وَجَبَتْ لَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، فِي الْأَذْكَارِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْبُكَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَكْرُوهٌ لِهَذَا الْخَبَرِ، بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ إِنَّهُ يُفِيدُ تَحْرِيمَهُ اهـ. وَيَرُدُّهُ مَا رَوَى مُسْلِمٌ: أَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم زَارَ قَبْرَ ابْنِهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ» ، وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّهُ بَكَى عَلَى قَبْرِ بِنْتٍ لَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ نَهْيُهُنَّ عَلَى بُكَاءٍ خَاصٍّ لَهُنَّ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ، وَلَعَلَّ فَائِدَةَ الْقَيْدِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبُكَاءَ بِالدَّمْعِ لَيْسَ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِالْأُمُورِ الْجِبِلِّيَّةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ الدِّينِيَّةِ. ( «وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» ) أَيْ: مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ. (عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ: بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِبُكَاءِ الْحَيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ مَا نِيحَ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ يُبْكَ عَلَيْهِ يُعَذَّبْ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَنَسَبَتْهُمَا إِلَى النِّسْيَانِ وَالِاشْتِبَاهِ عَلَيْهِمَا، وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قَالَتْ: وَإِنَّمَا «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي يَهُودِيَّةٍ: إِنَّهَا تُعَذَّبُ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهَا،» تَعْنِي تُعَذَّبُ بِكُفْرِهَا فِي حَالِ بُكَاءِ أَهْلِهَا، لَا بِسَبَبِ الْبُكَاءِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ، وَيُنَاحَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَنُفِّذَتْ وَصِيتُهُ، فَهَذَا يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ وَنَوْحِهِمْ ; لِأَنَّهُ تَسَبَّبَهُ، وَأَمَّا مَنْ بَكَوْا عَلَيْهِ وَنَاحُوا مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ فَلَا ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِذَا أَوْصَى بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمَيِّتِ الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ الْحَالُ بِبُكَائِهِمْ وَصُرَاخِهِمْ وَجَزَعِهِمْ عِنْدَهُ، وَقِيلَ: هَذَا فِي بَعْضِ الْأَمْوَاتِ: كَأَنْ يُعَذَّبُ فِي زَمَانِ بُكَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِمَا فِي رِوَايَةٍ:«يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» ، وَفِي أُخْرَى: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إِذَا قَالَتِ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهُ، وَا نَاصِرَاهُ، وَاكَاسِيَاهُ، جَبَذَا الْمَيِّتَ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْتَ عَضُدَاهَا؟ ! أَنْتَ نَاصِرُهَا؟ ! أَنْتَ كَاسِيهَا؟ ! اهـ. وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَذَّبُ إِذَا كَانَ أَوْصَى أَوْ كَانَ بِفِعْلِهِمْ يَرْضَى ; وَلِهَذَا أَوْجَبَ دَاوُدُ وَمَنْ تَبِعَهُ الْوَصِيَّةَ بِتَرْكِ الْبُكَاءِ، وَالنَّوْحِ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ وَجْهُ قُوَّةِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَوَجْهُ ضَعْفِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا قَالَتْهُ أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا كُلُّهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُكَاءِ هُنَا الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَنِيَاحَةٍ وَلَا بِمُجَرَّدِ الدَّمْعَةِ، وَسَيَأْتِي أَقْوَالٌ أُخَرُ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1725 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1725 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ مِنَّا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا، أَوْ لَيْسَ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا، وَالْمُرَادُ الْوَعِيدُ وَالتَّغْلِيظُ الشَّدِيدُ. (مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ) جَمَعَهُ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ فَإِنَّهُ مِنْ مُفْرَدِ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى. (وَشَقَّ الْجُيُوبَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِكَسْرٍ، وَفِي مَعْنَاهُ طَرْحُ الْعِمَامَةِ، وَضَرْبُ الرَّأْسِ عَلَى الْجِدَارِ، وَقَطْعُ الشَّعْرِ. (وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: بِدُعَائِهِمْ يَعْنِي: قَالَ عِنْدَ الْبُكَاءِ مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، مِمَّا يَقُولُ بِهِ الْجَاهِلِيَّةُ، كَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَكَوَاكَهْفَاهُ، وَاجَبَلَاهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
1726 -
وَعَنِ ابْنِ بُرْدَةَ قَالَ: «أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسِي الْأَشْعَرِيِّ ; فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ: أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ تَصِيحُ بِرَنَّةٍ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمِي وَكَانَ يُحَدِّثُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ، وَصَلَقَ، وَخَرَقَ» ؟ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
ــ
1726 -
(وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ) أَيْ: عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بْنِ قَيْسٍ: أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَحَدِ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمُكْثِرِينَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا، كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ شُرَيْحٍ، فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ; فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ أَيْ: شَرَعَتْ، وَجَعَلَتْ، وَصَارَتْ (تَصِيحُ بِرَنَّةٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ صَوْتٌ مَعَ الْبُكَاءِ فِيهِ تَرْجِيعٌ. (ثُمَّ أَفَاقَ) أَيْ: أَبُو مُوسَى. (فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمِي) أَيْ: مَا حَدَّثْتُكِ. (وَكَانَ يُحَدِّثُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ يُحَدِّثُهَا حَالٌ، وَالْعَامِلُ قَالَ، وَمَفْعُولُ أَلَمْ تَعْلَمِي مَقُولُ الْقَوْلِ، أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ فَتَنَازَعَا مِنْهُ. (مِمَّنْ حَلَقَ) أَيْ: شَعْرَهُ أَوْ رَأْسَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ. (وَصَلَقَ) وَفِي الْمَصَابِيحِ بِالسِّينِ، وَهُوَ لُغَةٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، أَيْ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ وَالْمَرَحِ، أَوْ قَالَ مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَقِيلَ: الصَّلْقُ: اللَّطْمُ وَالْخَدْشُ. (وَخَرَقَ) بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: قَطَعَ ثَوْبَهُ بِالْمُصِيبَةِ، وَكَانَ الْجَمِيعُ مِنْ صَنِيعِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مِنْ صَنِيعِ النِّسَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا مَاتَ لِأَحَدِهِمْ قَرِيبٌ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ، كَمَا أَنَّ عَادَةَ بَعْضِ الْعَجَمِ قَطْعُ بَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الَّتِي تَحْلِقُ وَجْهَهَا لِلزِّينَةِ، قُلْتُ: هَذَا الْأَخِيرُ بَعِيدٌ مِنَ الْمَقَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
1727 -
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ.
وَقَالَ: النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1727 -
(وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعٌ) أَيْ: خِصَالٌ أَرْبَعٌ كَائِنَةٌ. (فِي أُمَّتِي) حَالَ كَوْنِهِنَّ. (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: مِنْ أُمُورِهِمْ وَخِصَالِهِمُ الْمُعْتَادَةِ، طُبِعَ عَلَيْهِنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَّةِ. (لَا يَتْرُكُونَهُنَّ) أَيْ: غَالِبًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ تَدُومُ فِي الْأُمَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ بِأَسْرِهِمْ تَرْكَهَمْ لِغَيْرِهَا مِنْ سُنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ ; فَإِنَّهُنَّ إِنْ يَتْرُكْهُنَّ طَائِفَةٌ جَاءَهُنَّ آخَرُونَ. (الْفَخْرُ) أَيِ: الِافْتِخَارُ. (فِي الْأَحْسَابِ) أَيْ: فِي شَأْنِهَا وَسَبَبِهَا، وَالْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي تَكُونُ فِيهِ: كَالشَّجَاعَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْحَسَبُ وَالْكَرَمُ يَكُونَانِ فِي الرَّجُلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِآبَائِهِ شَرَفٌ، وَالشَّرَفُ وَالْمَجْدُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا الْآبَاءَ، فِي الْفَائِقِ الْفَخْرُ تَعْدَادُ الرَّجُلِ مِنْ مَآثِرِهِ، وَمَآثِرِ آبَائِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَنْ فَاتَ حَسَبُهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَسَبِ أَبِيهِ، أَيِ: التَّفَاخُرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّعْظِيمُ بِعَدِّ مَنَاقِبِهِ، وَمَآثِرِ آبَائِهِ، وَتَفْضِيلِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ لِيُحَقِّرَهُ لَا يَجُوزُ. (وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ) أَيْ: إِدْخَالُ الْعَيْبِ فِي أَنْسَابِ النَّاسِ، وَالْمَعْنَى تَحْقِيرُ الرَّجُلِ آبَاءَ غَيْرِهِ، وَتَفْضِيلُ آبَائِهِ عَلَى آبَاءِ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَظْهَرُ اللَّهُمَّ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ، وَالْكُفْرِ، قُلْتُ: إِلَّا إِذَا أَرَادَ أَذَى مُسْلِمٍ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُكَنَّى بِالطَّعْنِ فِي أَنْسَابِ الْغَيْرِ عَنِ الْفَخْرِ بِنَسَبِ نَفْسِهِ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ الْحَسَبُ وَالنَّسَبُ، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الطَّعْنِ فِي نَسَبِ نَفْسِهِ اهـ. فِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ ; وَمَحَلُّ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مُرَادُهُ أَذَى غَيْرِهِ بِالتَّصْرِيحِ أَوِ الْكِنَايَةِ، أَوْ يَكُونُ إِثْبَاتُهُ كَذَّابًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ رَبِّهِ، وَمَحَلُّ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ نَسِيبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَيَطْعَنُ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي وَعِيدِ: لَعَنَ اللَّهُ الْخَارِجَ عَنَّا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَالدَّاخِلَ فِينَا مِنْ غَيْرِ نَسَبٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُ قَوْمِهِ يَدَيِ الشَّرَفِ مَثَلًا بِالزُّورِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْعَنَ فِي نَسَبِ نَفْسِهِ حِينَئِذٍ، لِيُظْهِرَ الْحَقَّ وَيُذْهِبَ الْبَاطِلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَالِاسْتِسْقَاءُ) أَيْ: طَلَبُ السُّقْيَا. (بِالنُّجُومِ) أَيْ: بِسَبَبِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: طَلَبُ السُّقْيَا أَيْ: تَوَقُّعُ الْأَمْطَارِ عَنْ وُقُوعِ النُّجُومِ فِي الْأَنْوَاءِ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اعْتِقَادَ الرَّجُلِ نُزُولَ الْمَطَرِ بِظُهُورِ نَجْمِ كَذَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَالنِّيَاحَةُ)
بِالرَّفْعِ وَهِيَ الرَّابِعَةُ، وَهُوَ قَوْلُ: وَا وَيْلَاهُ، وَا حَسْرَتَاهُ، وَالنُّدْبَةُ عِنْدَ شَمَائِلِ الْمَيِّتِ، مِثْلَ وَا شُجَاعَاهُ، وَا أَسَدَاهُ، وَا جَبَلَاهُ. (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (النَّائِحَةُ) أَيِ: الَّتِي صَنْعَتُهَا النِّيَاحَةُ. (وَإِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا) أَيْ: قَبْلَ حُضُورِ مَوْتِهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ أَنْ يَتُوبَ وَهُوَ يَأْمُلُ الْبَقَاءَ، وَيَتَمَكَّنُ مَنْ تَأَتِّي الْعَمَلِ الَّذِي يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ.} [النساء: 18] الْآيَةَ اهـ. وَبِهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا: أَنَّ تَوْبَةَ الْيَأْسِ مِنَ الْكَافِرِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَمِنَ الْمُؤْمِنِ مَقْبُولَةٌ كَرَامَةً لِإِيمَانِهِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ إِطْلَاقُ قَوْلِ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. (تُقَامُ) مَجْهُولٌ مِنَ الْإِقَامَةِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْمَوْقِفِ لِلْفَضِيحَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: تُحْشَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُقَامُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بَيْنَ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْوَقْفِ، جَزَاءً عَلَى قِيَامِهَا فِي الْمَنَاحَةِ، وَهُوَ الْأَمْثَلُ. (وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ) أَيْ: قَمِيصٌ مَطْلِيٌّ. (مِنْ قَطِرَانٍ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، طِلَاءٌ يُطْلَى بِهِ، وَقِيلَ: دُهْنٌ يُدْهَنُ بِهِ الْجَمَلُ الْأَجْرَبُ، وَمَا ضَبَطْنَاهُ هُوَ الْمَحْفُوظُ فِي الْحَدِيثِ، وَعَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا إِلَّا مَا شَذَّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْقَطِرَانُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَظَرِبَانِ: عُصَارَةُ الْأَبْهَلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَسُكُونِهَا فَقَاصِرٌ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَطِرَانُ مَا يَنْحَلِبُ مِنْ شَجَرٍ يُسَمَّى الْأَبْهَلَ فَيُطْبَخُ، وَيُدْهَنُ بِهِ الْإِبِلُ الْجَرْبَاءُ، فَيَحْرِقُ الْجَرَبَ بِحَرَارَتِهِ وَحِدَّتِهِ الْجِلْدَ، وَقَدْ تَبْلُغُ حَرَارَتُهُ الْجَوْفَ. (وَدِرْعٌ) عَطْفٌ عَلَى سِرْبَالٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: دِرْعُ الْحَدِيدِ يُؤَنَّثُ، وَدِرْعُ الْمَرْأَةِ قَمِيصُهَا، السِّرْبَالُ الْقَمِيصُ مُطْلَقًا. (مِنْ جَرَبٍ) أَيْ: مِنْ أَجْلِ جَرَبٍ كَائِنٍ بِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يُسَلَّطُ عَلَى أَعْضَائِهَا الْجَرَبُ وَالْحِكَّةُ، بِحَيْثُ يُغَطِّي جِلْدَهَا تَغْطِيَةَ الدِّرْعِ، فَتُطْلَى مَوَاقِعُهُ بِالْقَطِرَانِ، لِتُدَاوَى فَيَكُونُ الدَّوَاءُ، أَدْوَى مِنَ الدَّاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى لَذْعِ الْقَطِرَانِ، وَإِسْرَاعِ النَّارِ فِي الْجُلُودِ، وَاللَّوْنِ الْوَحْشِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: خُصَّتْ بِدِرْعٍ مِنَ الْجَرَبِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَجْرَحُ بِكَلِمَاتِهَا الْمُحْرِقَةِ قُلُوبَ ذَوَاتِ الْمُصِيبَاتِ، وَتَحُكُّ بِهَا بَوَاطِنَهُنَّ ; فَعُوقِبَتْ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِمَا يُمَاثِلُهُ فِي الصُّورَةِ، وَخُصَّتْ أَيْضًا بِسَرَابِيلَ مِنْ قَطِرَانٍ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ الثِّيَابَ السُّودَ فِي الْمَآتِمِ، فَأَلْبَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى السَّرَابِيلَ لِتَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهَا، فَإِنْ قُلْتَ: ذَكَرَ الْخِلَالَ الْأَرْبَعَ وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهَا الْوَعِيدَ سِوَى النِّيَاحَةِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ؟ قُلْتُ: النِّيَاحَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالنِّسَاءِ، وَهُنَّ لَا يَنْزَجِرْنَ مِنْ هِجْرَانِهِنَّ انْزِجَارَ الرِّجَالِ، فَاحْتَجْنَ إِلَى مَزِيدِ الْوَعِيدِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ قَوْلِ: النَّائِحَةُ إِلَخْ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَخَذَ أَئِمَّتُنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمَ النَّوْحِ، وَتَعْدِيدَ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، بِنَحْوِ وَاكَهْفَاهُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْبُكَاءِ، وَتَحْرِيمِ ضَرْبِ الْخَدِّ، وَشَقِّ الْجَيْبِ، وَنَشْرِ الشَّعْرِ وَحَلْقِهِ وَنَتْفِهِ، وَتَسْوِيدِ الْوَجْهِ، وَإِلْقَاءِ التُّرَابِ عَلَى الرَّأْسِ، وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ: وَالضَّابِطُ أَنَّهُ يَحْرُمُ كُلُّ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ إِظْهَارَ جَزَعٍ يُنَافِي الِانْقِيَادَ وَالتَّسْلِيمَ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: وَمِنْ ذَلِكَ تَغْيِيرُ الزِّيِّ، وَلِبْسُ غَيْرِ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِلُبْسِهِ، أَيْ: وَإِنِ اعْتِيدَ لُبْسُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ.
1728 -
ــ
1728 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي) أَيْ: بِرَفْعِ صَوْتٍ. (عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ) هَذَا تَوْطِئَةٌ لِمَا بَعْدَهُ، أَيْ: خَافِي عِقَابَهُ أَوْ مُخَالَفَتَهُ بِتَرْكِ النِّيَاحَةِ. (وَاصْبِرِي) حَتَّى تُؤْجَرِي. (قَالَتْ) أَيْ: جَاهِلَةً بِمَنْ يُخَاطِبُهَا، وَظَانَّةً أَنَّهُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ، وَغَافِلَةً عَمَّا قِيلَ: انْظُرْ إِلَى مَا قَالَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ قَالَ. (إِلَيْكَ) اسْمُ فِعْلٍ أَيِ: ابْعِدْ وَتَنَحَّ. (عَنِّي) وَلَا تَلُمْنِي، وَمَا أَبْعَدَ تَقْدِيرَ ابْنِ حَجَرٍ وَتَقْرِيرَهُ وَتَحْرِيرَهُ، حَيْثُ قَالَ: أَيْ تَبَاعَدْ عَنِّي لِأَمْرَيْنِ: كُونِي امْرَأَةً وَأَنْتَ ذَكَرٌ أَجْنَبِيٌّ، وَكَوْنُ حَالِكَ لَيْسَ كَحَالِي. (فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَمْ تُبْتَلَ. (بِمُصِيبَتِي) أَيْ: بِعَيْنِهَا أَوْ بِمِثْلِهَا عَلَى زَعْمِهَا. (وَلَمْ تَعْرِفْهُ) النَّبِيَّ أَوْ وَلَمْ تَعْرِفْهُ أَنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَقِيلَ لَهَا) : أَيْ: بَعْدَ مَا ذَهَبَ صلى الله عليه وسلم. (إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَدِمَتْ) عَلَى مَا جَاوَبَتْ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. (فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ بَابِهِ. (بَوَّابِينَ) كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُلُوكِ الْجَبَابِرَةِ. (فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ) أَيْ: فَلَا تَأْخُذْ عَلَيَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَهَّمَتْ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُلُوكِ، فَقَالَتِ اعْتَذَرًا: لَمْ أَعْرِفْكَ. (فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْرُ) أَيِ: الْكَامِلُ الْمَرْضِيُّ الْمُثَابُ عَلَيْهِ. (عِنْدَ الصَّدْمَةِ) أَيِ: الْحَمْلَةِ. (الْأُولَى) وَابْتِدَاءِ الْمُصِيبَةِ، وَأَوَّلِ لُحُوقِ الْمَشَقَّةِ، وَإِلَّا فَكُلُّ أَحَدٍ يَصْبِرُ بَعْدَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذْ هُنَاكَ سَوْرَةُ الْمُصِيبَةِ فَيُثَابُ عَلَى الصَّبْرِ، وَبَعْدَهَا تَنْكَسِرُ السَّوْرَةُ، وَيَتَسَلَّى الْمُصَابُ بَعْضَ التَّسَلِّي، فَيَصِيرُ الصَّبْرُ طَبْعًا، فَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا) اهـ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَصِرِ الصَّبْرُ طَبْعًا ثُمَّ تُذْكَرُ الْمُصِيبَةُ ثُمَّ صَبَرَ وَلَوْ طَالَ الْعَهْدُ فَيُثَابُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الدَّرَجَةَ الْأَعْلَى عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
1729 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجُ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1729 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. (فَيَلِجَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ. (النَّارَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لَا يَدْخُلُهَا، وَالْمَعْنَى هُنَا نَفْيُ الِاجْتِمَاعِ، لَا اعْتِبَارُ السَّبَبِيَّةِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: إِنَّمَا تَنْصِبُ الْفَاءُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ إِذَا كَانَ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا سَبَبِيَّةٌ، وَلَا سَبَبِيَّةَ هُنَا، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ الْأَوْلَادِ وَلَا عَدَمُهُ سَبَبًا لِوُلُوجِ أَبِيهِمُ النَّارَ فَيُحْمَلُ الْفَاءُ عَلَى مَعْنَى وَاوِ الْجَمَاعَةِ، أَيْ: لَا يَجْتَمِعُ هَذَانِ: مَوْتُ ثَلَاثَةِ أَوْلَادٍ وَوُلُوجُ النَّارِ. (إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَلِجُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ فَلَا مَحِيدَ عَنْ ذَلِكَ، وَالرَّفْعُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ وُلُوجٌ عَقِبَ مَوْتِ الْأَوْلَادِ، إِلَّا مِقْدَارًا يَسِيرًا، وَمَعْنَى فَاءِ التَّعْقِيبِ كَمَعْنَى الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] فِي أَنَّ مَا سَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْكَائِنِ، وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ كَالْوَاقِعِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: السَّبَبِيَّةُ لَيْسَتْ مُمْتَنِعَةً بَلْ صَحِيحَةٌ، وَزَعْمُ امْتِنَاعِهَا مَبْنِيٌّ عَلَى النَّظَرِ لِمُطْلَقِ الْوُلُوجِ، وَهُوَ غَفْلَةٌ مِنْ أَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ مُطْلَقَةً بَلِ الْوُلُوجُ الْمُقَيَّدُ بِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى تَحِلَّةِ الْقَسَمِ، وَذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَنْ مَوْتِهِمْ بِلَا شَكَّ، فَاتَّضَحَ الْإِتْيَانُ بِالْفَاءِ، وَعَجِيبٌ مِنَ الشَّارِحِ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ) ذَلِكَ؟ ! وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: إِنْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ فَلَا مَحِيدَ عَنْ ذَلِكَ أَعْجَبُ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ قَيْدًا، بَلِ اسْتِدْرَاكٌ لِئَلَّا يُنَافِيَ الْحُكْمُ الْحَدِيثِيُّ الْمَعْنَى الْقُرْآنِيَّ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ أَمْرًا مَقْضِيًّا وَمَعْلُومًا دِينًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، فَفِيهِ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ وَإِشَارَةٌ صَحِيحَةٌ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ قَيْدًا لِلْحَكَمِ أَصْلًا وَفَصْلًا، وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْعَجَمِ، وَالْمُعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَرَبِ نَسَبًا وَأَصْلًا فِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ التَّحِلَّةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الْآيَةَ. وَقَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ التَّخْرِيجِ: الْوُرُودُ هُوَ الْعُبُورُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَهُوَ جِسْرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى جَهَنَّمَ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْهَا اهـ. فِي النِّهَايَةِ: أَيْ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ لُحُوقِ ضَرَرٍ اهـ. فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا التَّحِلَّةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَصْدَرٌ كَالتَّحْلِيلِ، وَتَحْلِيلُ الْقَسَمِ جَعْلُهُ صِدْقًا، فَمَعْنَى: إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ قِيلَ: إِلَّا بِمِقْدَارِ مَا يُبِرُّ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمَهُ، فِيهِ بِقَوْلِهِ:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] يَعْنِي لَا يَدْخُلُ النَّارَ لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ لُحُوقِ ضَرَرٍ مِنْهَا بِهِ، وَقِيلَ: إِلَّا زَمَانًا يَسِيرًا يُمْكِنُ فِيهِ تَحِلَّةُ الْقَسَمِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ مَثَلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يَقِلُّ وَقْتُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فَعَلْتُهُ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ أَيْ: لَمْ أَفْعَلْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا حَلَلْتُ بِهِ يَمِينِي، وَلَمْ أُبَالِغْ اهـ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا قَسَمَ فِي الْآيَةِ ظَاهِرًا، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] أَيْ: حَتَّمَهُ وَقَضَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ وَعَدَ بِهِ وَعْدًا مُؤَكَّدًا لَا يُمْكِنُ خُلْفُهُ، وَقِيلَ: أَقْسَمَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الْقَسَمُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ مُضْمَرٌ، أَيْ: وَاللَّهِ، مَا مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعْلَّقُ بِهِ الْمَقَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ السَّابِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرُنَّهُمْ} [مريم: 68] الْآيَةَ، ثُمَّ رَأَيْتُ التُّورِبِشْتِيَّ قَالَ: قِيلَ: الْقَسَمُ مُضْمَرٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أَيْ: وَإِنْ مِنْكُمْ وَاللَّهِ، إِلَّا وَارِدُهَا، وَقِيلَ: مَوْضِعُ الْقَسَمِ مَرْدُودٌ إِلَى قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرُنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68] . قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْقَسَمِ مَا دَلَّ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ مِنَ الْكَلَامِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71] تَذْيِيلٌ، وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ لِمَجِيءِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَلَفْظُ كَانَ وَعَلَى تَأْكِيدِ الْحَتْمِ بِالْمُقْتَضَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1730 -
وَعَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنِسْوَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبُهُ إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَوِ اثْنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَوْ اثْنَانِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ.
ــ
1730 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنِسْوَةٍ) اسْمُ جَمْعٍ. (مِنَ الْأَنْصَارِ) أَيْ: مِنْ نِسَائِهِمْ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِهِ كَمَالُ اسْتِحْضَارِ الْقَضِيَّةِ لَا أَنَّ هُنَاكَ خُصُوصِيَّةً. (لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) بِفَتْحَتَيْنِ اسْمُ جِنْسٍ وَيُضَمُّ الْوَاوُ وَيُسَكَّنُ اللَّامُ. (فَتَحْتَسِبُهُ) بِالرَّفْعِ، لَا غَيْرَ أَيْ: تَطْلُبُ إِحْدَاكُنَّ بِمَوْتِهِ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَتَعْتَدُّهُ فِيمَا يُدَّخَرُ لَهَا فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَتَصْبِرُ رَاجِيَةً لِرَحْمَةِ اللَّهِ وَغُفْرَانِهِ، وَلَيْسَ هَذِهِ الْفَاءَ كَمَا فَيَلِجُ بَلْ هِيَ لِلتَّسَبُّبِ بِالْمَوْتِ، وَحَرْفُ النَّفْيِ مُنْصَبٌّ عَلَى السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مَعًا. (إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولَهُ أَوَّلِيًّا، وَهُوَ لَا
يُنَافِي الْوُلُوجَ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ. (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَوِ اثْنَانِ) عَطْفٌ تَلْقِينِيٌّ أَيْ: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَقُولَ أَوِ اثْنَانِ) . (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَوِ اثْنَانِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا عَلَى حَدِّ: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] قَالَ: وَمَنْ كَفَرَ اهـ. وَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَخَطَأٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، بَيَانُ الْأُولَى أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ كَفَرَ لَهَا عَطْفٌ عَلَى مَنْ آمَنَ أَيْ: وَأَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ تَضَمَّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَبَيَانُ الثَّانِيَةِ أَنَّ التَّلْقِينَ وَالْعَرْضَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ النَّازِلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَالِي دُونَ الْعَكْسِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَعَالِي. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) أَيْ: لِلشَّيْخَيْنِ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ، إِلَّا أَنَّهُ عُلِمَ بِقَرِينَةِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُمَا مُتَقَارِبَانِ غَالِبًا. (ثَلَاثَةٌ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) يَعْنِي فِي اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ ثَلَاثَةٌ مُطْلَقٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: ثَلَاثَةٌ مُقَيَّدُ الْوَصْفِ. قَالَ مِيرَكُ: حَقَّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا قَالَ: أَصْلُ الْحَدِيثِ مَرْوِيٌّ فِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا لَكِنْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكَيْفَ يَقُولُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ؟ ! أَيْ: لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ الرِّجَالِ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِمُ الْقَلَمُ، فَيُكْتَبَ عَلَيْهِمِ الْحِنْثُ وَالْإِثْمُ انْتَهَى، وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْحِنْثَ بِالْبُلُوغِ، وَبَعْضُهُمْ بِالذَّنْبِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: الْحَدَّ الَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِمِ الْحِنْثُ أَيِ: الذَّنْبُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ لَيْسَ احْتِرَازِيًّا، بَلْ أَكْمَلِيًّا ; فَإِنَّ شَفَاعَتَهُمْ أَرْجَى، وَالصَّبْرَ عَلَيْهِمْ أَقْوَى.
1731 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَقُولُ اللَّهُ: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1731 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ اللَّهُ: مَا لِعَبْدِي) أَيْ: لَيْسَ لِعَبْدِي. (الْمُؤْمِنُ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهَ» ) أَيْ: مُخْتَارَهُ وَمَحْبُوبَهُ مِنَ الْوَلَدِ أَوِ الْوَالِدِ أَوْ غَيْرِهِمَا. فِي النِّهَايَةِ: صَفِيُّ الرَّجُلِ: الَّذِي يُصَافِيهِ الْوُدَّ، وَيُخْلِصُهُ لَهُ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَلَدٌ لَا يَكُونُ لَهُ غَيْرُهُ، قُلْتُ: أَوْ مِثْلُهُ. (مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) ظَاهِرُهُ إِفَادَةُ الْعُمُومِ لَا تُفِيدُ خُصُوصَ الْوَلَدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِأَهْلِ الدُّنْيَا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الصَّفِيَّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ كَانَ جَزَاؤُهُ وَرَاءَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَرِضْوَانُ اللَّهِ أَكْبَرُ انْتَهَى، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَجَعَلَهُ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ. (ثُمَّ احْتَسَبَهُ) أَيْ: صَبَرَ عَلَيْهِ طَالِبًا لِلثَّوَابِ، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ لِلصُّنْعِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مَنْ قَبَضْتُ، أَيِ: احْتَسَبَ قَبْضَ صَفِيِّهِ، وَمَوْتِ حَبِيبِهِ، أَيْ: طَلَبَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ عَلَى مُفَارَقَةِ الْخَلِيلِ، وَبِالرِّضَا عَلَى قَضَاءِ الرَّبِّ الْجَلِيلِ. (إِلَّا الْجَنَّةَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ أَيْ: مَا لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الثَّوَابَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالِاثْنَيْنِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
1732 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
1732 -
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّائِحَةَ) يُقَالُ: نَاحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْمَيِّتِ إِذَا نَدَبَتْهُ أَيْ: بَكَتْ عَلَيْهِ وَعَدَّدَتْ مَحَاسِنَهُ، وَقِيلَ: النَّوْحُ بُكَاءٌ مَعَ صَوْتٍ، وَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي تَنُوحُ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الَّتِي تَنُوحُ عَلَى مَعْصِيَتِهَا فَذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَخَصَّ النَّائِحَةَ ; لِأَنَّ النَّوْحَ يَكُونُ مِنَ السَّنَاءِ غَالِبًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ: مَنْ يُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ أَحْيَانًا فَلَا يُخِلُّ بِعَدَالَتِهِ كَمَا فِي الْكَذِبِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَكُونُ مَحَلَّ اللَّعْنِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ. (وَالْمُسْتَمِعَةَ) أَيِ: الَّتِي تَقْصِدُ السَّمَاعَ وَيُعْجِبُهَا، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَمِعَ وَالْمُغْتَابَ شَرِيكَانِ فِي الْوِزْرِ، وَالْمُسْتَمِعُ وَالْقَارِئُ مُشْتَرِكَانِ فِي الْأَجْرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَالثَّلَاثَةُ ضُعَفَاءُ.
1733 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عَجَبٌ لِلْمُؤْمِنِ! إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ وَشَكَرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ اللَّهَ وَصَبَرَ، وَالْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ أَمْرِهِ حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِهِ» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
1733 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَجَبٌ) أَيْ: غَرِيبٌ، وَشَأْنٌ عَجِيبٌ. (لِلْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ طُوبَى لَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُهُ أَعْجَبُ عَجَبًا، فَعُدِلَ مِنَ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِلثَّبَاتِ كَقَوْلِكَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، قِيلَ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ سَلَامُ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] أَبْلَغُ مِنْ سَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعَجَبَ بِقَوْلِهِ:(إِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ حَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: أَثْنَى عَلَيْهِ بِأَوْصَافِ الْجَمَالِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ. (وَشَكَرَ) عَلَى نِعْمَةِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ. (وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ) أَيْ: بَلِيَّةٌ وَمِحْنَةٌ. (حَمِدَ اللَّهَ) بِأَوْصَافِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ. (وَصَبَرَ) عَلَى حُكْمِ رَبِّهِ الْمُتَعَالِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ نِصْفُهُ صَبْرٌ وَنِصْفُهُ شُكْرٌ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] وَفِي تَقْدِيمِ الشُّكْرِ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ عَلَى كَثْرَةِ النَّعِيمِ وَسَبْقَتِهَا، وَفِي تَقَدُّمِ الصَّبْرِ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى قُوَّةِ احْتِيَاجِ الْعَبْدِ إِلَى الصَّبْرِ ; فَإِنَّهُ عَلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ: صَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَصَبْرٌ فِي الْمُصِيبَةِ، وَفِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ نُكْتَةٌ خَفِيَّةٌ، رَمَزَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللَّهِ، يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، فَالتَّسْلِيمُ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَوْلُهُ: إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ اللَّهَ عِنْدَهَا لِعِلْمِهِ بِمَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَالثَّوَابُ نِعْمَةٌ، فَحَمْدُ اللَّهِ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْدَ مَحْمُودٌ عِنْدَ النِّعْمَةِ، وَعِنْدَ الْمُصِيبَةِ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: مَعْنَاهُ حَمِدَهُ عَلَى سَائِرِ نِعَمِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أَوْ حَمِدَ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَةَ لَيْسَتْ فِي دِينِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَا وَقَعَ أَكْبَرُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا: وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
قَالَ الْمُظْهِرُ: وَتَحَقُّقُ الْحَمْدِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِسَبَبِهَا ثَوَابٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ نِعْمَةٌ تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَوْضِيحُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: فَإِنْ مُسَّ بِالنَّعْمَاءِ عَمَّ سُرُورُهَا وَإِنْ مُسَّ بِالضَّرَّاءِ أَعْقَبَهُ الْأَجْرُ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَمْدِ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] اهـ. وَمَا أَبْعَدَ ابْنَ حَجَرٍ عَنِ التَّحْقِيقِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُرَادِفِ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّ الشُّكْرَ أَخَصُّ مِنَ الْحَمْدِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا. (فَالْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ فِيهَا أَيِ: الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ يُثَابُ. (فِي كُلِّ أَمْرِهِ) أَيْ: شَأْنِهِ مِنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى فِي أُمُورِ الْمُبَاحِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هُنَا الْخَيْرُ، فَالْمُبَاحُ يَنْقَلِبُ خَيْرًا بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ. ( «حَتَّى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِهِ» ) أَيْ: فَمِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، يَعْنِي إِذَا أَصَابَتْهُ نِعْمَةٌ فَحَمِدَ أُجِرَ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَصَبَرَ أُجِرَ، فَهُوَ مَأْجُورٌ فِي كُلِّ أُمُورِهِ، حَتَّى فِي الشَّهْوَانِيَّةِ بِبَرَكَةِ إِيمَانِهِ، وَإِذَا قَصَدَ بِالنَّوْمِ زَوَالَ التَّعَبِ لِلْقِيَامِ إِلَى الْعِبَادَةِ عَنْ نَشَاطٍ كَانَ النَّوْمُ طَاعَةً، وَعَلَى هَذَا الْأَكْلُ وَجَمِيعُ الْمُبَاحَاتِ، قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: نَوْمُ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ. وَقَوْلُهُ آخَرِينَ: نَوْمُ الظَّالِمِ عِبَادَةٌ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، يَرْفَعُهُ قَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِي عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ: كَيْفَ يَكُونُ مِنْ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ ثِقَةٌ؟ ! اهـ. أَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُخَرِّجُ حَدِيثَهُ فِي كُتُبِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِحَالَهِ، تَمَّ كَلَامُ مَيْرَكَ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلَهُ وَلَعَلَّ حُضُورَهُ مَعَ الْعَسْكَرِ كَانَ بِإِكْرَاهٍ، أَوْ رُبَّمَا حَسُنَ حَالُهُ وَطَابَ مَآلُهُ، وَمَنِ الَّذِي يَسْلَمُ مِنْ صُدُورِ مَعْصِيَةٍ عَنْهُ، وَمِنْ ظُهُورِ ذِلَّةٍ مِنْهُ؟ فَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ أَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ، لَا سِيَّمَا وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ صِحَّتُهُ، مَبْنًى وَمَعْنًى، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ دِينًا وَلَا دُنْيَا حَتَّى يُتَفَحَّصَ عَنِ الرُّوَاةِ، وَلَا يُقْبَلَ إِلَّا مِنَ الثِّقَاتِ، وَإِذَا أَغْمَضُوا عَنِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ إِذَا كَانَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ، مَعَ أَنَّ رِجَالَ الصَّحِيحَيْنِ قَدْ يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ خَارِجِيٌّ أَوْ رَافِضِيٌّ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَوْا فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ حَلَّ الْكَذِبِ لِنُصْرَةِ مَقَالَتِهِ.
1734 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ بَابَانِ بَابٌ يَصْعَدُ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَبَابٌ يَنْزِلُ مِنْهُ رِزْقُهُ، فَإِذَا مَاتَ بَكَيَا عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
1734 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ) مُخْتَصٌّ بِهِ. (بَابَانِ) أَيْ: مِنَ السَّمَاءِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ. (بَابٌ يَصْعَدُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُضَمُّ أَيْ: يَطْلُعُ وَيُرْفَعُ. (مِنْهُ عَمَلُهُ) أَيِ: الصَّالِحُ أَيْ: إِلَى مُسْتَقَرِّ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مَحَلُّ كِتَابَتِهَا فِي السَّمَاءِ بَعْدَ كِتَابَتِهَا فِي الْأَرْضِ، وَفِي إِطْلَاقِهِ الْعَمَلَ إِشْعَارٌ بِأَنَّ عَمَلَهُ كُلَّهُ صَالِحٌ. (وَبَابٌ يَنْزِلُ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ. (مِنْهُ رِزْقُهُ) أَيِ: الْحِسِّيُّ أَوِ الْمَعْنَوِيُّ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْأَرْزَاقِ مِنَ الْأَرْضِ. (فَإِذَا مَاتَ بَكَيَا) أَيِ: الْبَابَانِ. (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى فِرَاقِهِ ; لِأَنَّهُ انْقَطَعَ خَيْرُهُ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُمَا يَتَأَذَّيَانِ بِشَرِّهِ، فَلَا يَبْكِيَانِ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ، أَنَّ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا عِلْمًا بِاللَّهِ، وَلَهَا تَسْبِيحٌ، وَلَهَا خَشْيَةٌ، وَغَيْرُهَا، وَقِيلَ: أَيْ: بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَشَّافُ هَذَا تَمْثِيلٌ، وَتَخَيُّلُ مُبَالَغَةٍ فِي فُقْدَانِ مَنْ دَرَجَ وَانْقَطَعَ خَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ بُكَاءِ مُصَلَّى الْمُؤْمِنِ وَآثَارِهِ فِي الْأَرْضِ، وَمَصَاعِدِ عَمَلِهِ، وَمَهَابِطِ رِزْقِهِ فِي السَّمَاءِ، تَمْثِيلٌ وَنَفْيُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] تَهَكُّمٌ بِهِمْ وَبِحَالِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِحَالِ مَنْ يَعْظُمُ فَقْدُهُ، فَيُقَالُ فِيهِ: بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْعُقُولِ. (فَذَلِكَ) أَيْ: مَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَوْ مِصْدَاقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ) أَيْ: عَلَى الْكُفَّارِ. (السَّمَاءُ) أَيْ: بَابُهَا. (وَالْأَرْضُ) أَيْ: مَكَانُهَا الْمُخْتَصُّ بِهِ لِعَدَمِ طُلُوعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى السَّمَاءِ وَالظَّهْرِ، وَالْعَمَلِ السَّيِّئِ فِي مَكَانِهِ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ عَلَى خِلَافِهِمْ بِبُكَائِهِمَا عَلَيْهِمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
) .
1735 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا الْجَنَّةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مَنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ يَا مُوَفَّقَةُ، فَقَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي، لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1735 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: وَلَدَانِ لَمْ يَبْلُغَا أَوَانَ الْحُلُمِ بَلْ مَاتَا قَبْلَهُ. (مِنْ أُمَّتِي) بَيَانٌ لِمَنْ يُقَالُ: فَرَطٌ إِذَا تَقَدَّمَ، وَسِيقَ فَهُوَ فَارِطٌ وَفَرَطٌ وَالْفَرَطُ هُنَا الْوَلَدُ الَّذِي مَاتَ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ وَيَتَهَيَّأُ لِوَالِدَيْهِ نُزُلًا وَمَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ) كَمَا يَتَقَدَّمُ فُرَّاطُ الْقَافِلَةِ إِلَى الْمَنَازِلِ فَيُعِدُّونَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى وَغَيْرِهِمَا. (أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهِمَا الْجَنَّةَ أَيْ: مَعَ النَّاجِينَ أَوَّلًا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِمَا، أَوْ بِالشَّفَاعَةِ مِنْهُمَا، لِمَا وَرَدَ لَا يَزَالُ السِّقْطُ مُحْبَنْطِئًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَقُولَ اللَّهُ: خُذْ بِيَدَيْ أَبَوَيْكَ وَأَدْخِلْهُمَا الْجَنَّةَ، وَالْمُحْبَنْطِئُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ: الْمُتَغَضِّبُ الْمُسْتَبْطِئُ لِلشَّيْءِ، وَقِيلَ: الْمُمْتَنِعُ امْتِنَاعَ طَلَبٍ لَا امْتِنَاعَ إِبَاءٍ. ( «فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ» ؟) أَيْ: فَمَا حُكْمُهُ؟ أَوْ فَهَلْ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ؟ ( «قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ» ) أَيْ: فَكَذَلِكَ. (يَا مُوَفَّقَةُ) أَيْ: فِي الْخَيِّرَاتِ، وَلِلْأَسْئِلَةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَهَا شَفَقَةً عَلَى الْأُمَّةِ. ( «فَقَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟» ) أَيْ: فَمَا حَالُهُ؟ ( «قَالَ: فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي» ) أَيْ: سَابِقُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ بِالشَّفَاعَةِ سَائِقُهُمْ بَلْ أَنَا أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ فَرَطٍ، فَإِنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ. (لَنْ يُصَابُوا) أَيْ: أُمَّتِي. (بِمِثْلِي) أَيْ: بِمِثْلِ مُصِيبَتِي لَهُمْ، فَإِنَّ مُصِيبَتِي أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمَصَائِبِ، فَأَكُونُ أَنَا فَرَطَهُمْ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ رَآهُ فَالْمُصِيبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَقَدْ أَنْشَدَتِ الزَّهْرَاءُ رضي الله عنها:
مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ
…
أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا
…
صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا
وَأَمَّا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ فَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى وَالْمِحْنَةُ الْكُبْرَى حَيْثُ مَا كَانَ لَهُمْ إِلَّا مَرَارَةُ الْفَقْدِ مِنْ غَيْرِ حَلَاوَةِ الْوَجْدِ، وَلِهَذَا بِمَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم يُتَسَلَّى عَنْ مَوْتِ كُلِّ مَحْبُوبٍ، وَفَقْدِ كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَنِعْمَ مَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ:
وَلَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا بَقَاءٌ لِسَاكِنٍ
…
لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهَا مُخَلَّدًا
وَمَا أَحَدٌ يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ سَالِمًا
…
وَسَهْمُ الْمَنَايَا قَدْ أَصَابَ
مُحَمَّدَا
وَقَدْ عَزَّانَا اللَّهُ قَبْلَ ارْتِحَالِهِ، وَمَغِيبِ شَمْسِ جَمَالِهِ، بِقَوْلِهِ:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] تَلْوِيحًا، وَبِقَوْلِهِ:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] تَصْرِيحًا، وَهَذَا مِنْ قَضَائِهِ الْمَحْتُومِ، وَقَدَرِهِ الْمَقْسُومِ، فَمَوْتُهُ صلى الله عليه وسلم مُصِيبَةٌ عَامَّةٌ، وَمِحْنَةٌ تَامَّةٌ، أَفْزَعَتِ الْفُؤَادَ، وَقَطَعَتِ الْأَكْبَادَ، وَأَوْحَشَتِ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، سَوَاءً الْحَاضِرُ وَالْبَادِ، فَنَحْنُ بِقَضَائِهِ رَاضُونَ وَقَائِلُونَ:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ
) .
1736 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ. فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
1736 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ» ) أَيِ: الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ. ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ» ) أَيْ: مَلَكِ الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ. (قَبَضْتُمْ) عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ نَظِيرَ تَجَاهُلِ الْعَارِفِ بِالْمَرَامِ. (وَلَدَ عَبْدِي) أَيْ: رُوحَهُ. (فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ) ثَانِيًا إِظْهَارًا لِكَمَالِ الرَّحْمَةِ، كَمَا أَنَّ الْوَالِدَ الْعَطُوفَ يَسْأَلُ الْفَصَّادَ هَلْ قَصَدْتَ وَلَدِي؟ مَعَ أَنَّهُ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ. ( «قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ» ) ؟ قِيلَ: سُمِّيَ الْوَلَدُ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الْأَبِ، كَالثَّمَرَةِ لِلشَّجَرَةِ. ( «فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي» ) ؟ أَيْ: مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَزَعِهِ وَصَبْرِهِ، وَكُفْرِهِ وَشُكْرِهِ. (فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ) أَيْ: حَتَّى عَلَى الْبَلِيَّةِ الَّتِي مِنْ عِنْدِكَ. (وَاسْتَرْجَعَ) أَيْ: أَظْهَرَ رُجُوعَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إِلَى أَمْرِكَ بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ، وَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ بَعْضَنَا سَابِقُونَ وَالْبَاقُونَ لَاحِقُونَ. (فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي) أَيْ: هَذَا. (بَيْتًا) أَيْ: عَظِيمًا. (فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْبَيْتَ. (بَيْتَ الْحَمْدِ) أَضَافَ الْبَيْتَ إِلَى الْحَمْدِ الَّذِي قَالَهُ عِنْدَ الْمُصْبِيَةِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ ذَلِكَ الْحَمْدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَجَعَ السُّؤَالُ إِلَى تَنْبِيهِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى عَبْدِهِ الْحَاضِرِ لِأَجْلِ تَصَبُّرِهِ عَلَى الْمَصَائِبِ، أَوْ عِنْدَ تَشَكِّيهِ، بَلْ إِعْدَادُهُ إِيَّاهَا مِنْ جُمْلَةِ النَّعْمَاءِ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اسْتِرْجَاعُهُ، وَأَنَّ نَفْسَهُ مِلْكُ اللَّهِ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فِي الْعَاقِبَةِ. قَالَ: أَوَّلًا وَلَدُ عَبْدِي أَيْ: فَرْعُ شَجَرَتِهِ، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى ثَمَرَةِ فُؤَادِهِ، أَيْ: نَقَاوَةِ خُلَاصَتِهِ، فَإِنَّ خُلَاصَةَ الْإِنْسَانِ الْفُؤَادُ، وَالْفُؤَادُ إِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِ لِمَا هُوَ مَكَانُ اللَّطِيفَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَبِهَا شَرَفُهُ وَكَرَامَتُهُ، فَحَقِيقٌ لِمَنْ فَقَدَ مِثْلَ النِّعْمَةِ الْخَطِيرَةِ، وَتَلَقَّاهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ الْحَمْدِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا حَتَّى الْمَكَانَ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ ; فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بَيْتَ الْحَمْدِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ.
1737 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ الرَّاوِي، وَقَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْقُوفًا.
ــ
1737 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَزَّى مُصَابًا) أَيْ: وَلَوْ بِغَيْرِ مَوْتٍ بِالْمَأْتِيِّ لَدَيْهِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ بِمَا يُهَوِّنُ الْمُصِيبَةَ عَلَيْهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ، أَوْ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِنَحْوِ: أَعْظَمَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ، وَأَلْهَمَكَ الصَّبْرَ، وَرَزَقَكَ الشُّكْرَ. (فَلَهُ) أَيْ: لِلْمُعَزِّي. (مِثْلُ أَجْرِهِ) أَيْ: نَحْوُ الْمُصَابِ عَلَى صَبْرِهِ ; لِأَنَّ «الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعَزَاءِ بِالْمَدِّ وَهُوَ الصَّبْرُ فَلَهُ لِأَجْلِ هَذِهِ التَّعْزِيَةِ ثَوَابٌ مِثْلُ ثَوَابِ الْمُصَابِ، لِأَجْلِ صَبْرِهِ فِي الْمُصِيبَةِ، وَقِيلَ: التَّعْزِيَةُ التَّأَسِّي وَالتَّصَبُّرُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، بِأَنْ يَقُولَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَيَقُولُ الْمُعَزِّي: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ بِالْمَدِّ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ الرَّاوِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ. (وَقَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ. (وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ) بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُونِ الْوَاوِ. (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مَوْقُوفًا) أَيْ: عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، لَكِنْ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَيُعَضِّدُهُ خَبَرُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مَرْفُوعًا:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ مَنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَقَوْلُهُ: قُومُوا إِلَى أَخِينَا نُعَزِّيهِ.
1738 -
وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرُدًا مِنَ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1738 -
(وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَزَّى ثَكْلَى) الثَّكْلُ فُقْدَانُ الْوَلَدِ، وَالرَّجُلُ ثَكْلَانُ أَيْ: مَنْ عَزَّى الْمَرْأَةَ الَّتِي مَاتَ وَلَدُهَا، أَيِ: الَّتِي لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ. (كُسِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (بُرُدًا) أَيْ: أُلْبِسَ ثَوْبًا عَظِيمًا. (فِي الْجَنَّةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ كَذَا فِي مَبْدَأِ التِّرْمِذِيِّ.
1739 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1739 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي طَالِبٍ. (قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعِيُّ جَعْفَرٍ) بِف) تْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ: خَبَرُ مَوْتِهِ بِمُؤْتَةَ، وَهِيَ مَوْقِعٌ عِنْدَ تَبُوكَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، قِيلَ: النَّعْيُ وَالنَّعِيُّ الْإِخْبَارُ بِالْمَوْتِ، وَالنَّعْيُ أَيْضًا النَّاعِي، وَفِي الْقَامُوسِ: نَعَاهُ لَهُ نَعْوًا وَنَعْيًا أَخْبَرَهُ بِمَوْتِهِ، وَالنَّعِيُّ كَغَنِيٍّ النَّاعِي وَالْمَنْعِيُّ. (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيْ: لِأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ. (اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا) أَيْ: يَتَقَوَّتُونَ بِهِ يُسَمَّى الْآنَ بِمَكَّةَ، رَفَعَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَلَا يَفْعَلُونَهُ إِلَّا بَعْدَ الدَّفْنِ عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ. (فَقَدْ أَتَاهُمْ) أَيْ: مِنْ مَوْتِ جَعْفَرٍ. (مَا يَشْغَلُهُمْ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْغَيْنِ وَقِيلَ: بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّالِثِ) ، الْقَامُوسُ: شَغَلَهُ كَمَنَعَهُ شَغْلًا وَيُضَمُّ، وَأَشْغَلَهُ لُغَةٌ جَيِّدَةٌ أَوْ قَلِيلَةٌ، أَوْ رَدِيئَةٌ، وَالْمَعْنَى جَاءَهُمْ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْحُزْنِ عَنْ تَهْيِئَةِ الطَّعَامِ لِأَنْفُسِهِمْ، فَيَحْصُلُ لَهُمُ الضَّرَرُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ اهـ. وَالْمُرَادُ طَعَامٌ يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْحُزْنَ الشَّاغِلَ عَنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ لَا يَسْتَمِرُّ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، وَقِيلَ: يُحْمَلُ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُدَّةَ التَّعْزِيَةِ، ثُمَّ إِذَا صُنِعَ لَهُمْ مَا ذَكَرَ مِنْ أَنْ يُلِحَّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَكْلِ لِئَلَّا يَضْعُفُوا بِتَرْكِهِ اسْتِحْيَاءً، أَوْ لِفَرْطِ جَزَعٍ، وَاصْطِنَاعُهُ مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ لِلنَّائِحَاتِ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ ; لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَاصْطِنَاعُ أَهْلِ الْبَيْتِ لَهُ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، بَلْ صَحَّ عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه: كُنَّا نَعُدُّهُ مِنَ النِّيَاحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ، قُلْتُ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ أَوِ الْغَائِبِ، وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
1740 -
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1740 -
(عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ) مَجْهُولُ نَاحَ. (فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ النِّيَاحَةِ، أَوْ مَوْصُولَةٌ فَالْبَاءُ لِلْآلَةِ أَيْ: بِمَا نِيحَ بِهِ عَلَيْهِ مِثْلُ: وَاجَبَلَاهُ كَمَا سَيَأْتِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
) .
1741 -
ــ
1741 -
(وَعَنْ عَمْرَةَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ. (بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَذُكِرَ لَهَا) : أَيْ: لِعَائِشَةَ. (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ تَقُولُ) حَالٌ مِنْ عَائِشَةَ، قِيلَ: مَفْعُولٌ ثَانٍ لَسَمِعْتُ، وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَجَوَّزَ الطِّيبِيُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ. (يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنَ الْآدَابِ الْحَسَنَةِ الْمَأْخ) وذَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فَمَنِ اسْتَغْرَبَ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا
يَنْبَغِي أَنْ يُوَطِّئَ وَيُمَهِّدَ لَهُ بِالدُّعَاءِ إِقَامَةً لِعُذْرِهِ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ، وَمِنْ ثَمَّ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيَانًا وَاعْتِذَارًا بِقَوْلِهَا. (مَا بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ أَوْ لِلِافْتِتَاحِ، يُؤْتَى بِهَا لِمُجَرَّدِ مَوْرِدِهِ الْخَاصِّ. (أَوْ أَخْطَأَ) فِي إِرَادَتِهِ الْعَامَّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَكِنَّهُ نَسِيَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَتَى بِغَيْرِهِ وَأَخْطَأَ مِنْهُ، إِلَى غَيْرِهِ اهـ. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ بِقَوْلِهَا:(إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّهُمْ) أَيِ: الْيَهُودُ (لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا وَإِنَّهَا) أَيِ: الْيَهُودِيَّةَ. (لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا) أَيْ: لِكُفْرِهَا أَوْ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهَا) ، وَفِي مَعْنَاهَا كُلُّ كَافِرٍ وَفَاجِرٍ يُعَذَّبُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَارِدٌ لَوْ لَمْ يُسْمَعِ الْحَدِيثُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْرِدِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَبِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْهُ، وَعَنْ غَيْرِهِ غَيْرِ مُقَيَّدَةٍ بَلْ مُطْلَقَةٌ، دَخَلَ هَذَا الْخُصُوصُ تَحْتَ ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَلَا مُنَافَاةَ وَلَا مُعَارَضَةَ، فَيَكُونُ اعْتِرَاضُهَا بِحَسَبِ اجْتِهَادِهَا. قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: اخْتَلَفُوا فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ: فَقِيلَ: إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ بِذَلِكَ فَيُعَذَّبُ بِسَبَبِهِ بِقَدْرِ وَصِيَّتِهِ، وَقِيلَ: هَذَا الْقَوْلُ فِي حَقِّ مَيِّتٍ خَاصٍّ كَانَ يَهُودِيًّا، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ فِي بُكَائِهِمْ وَنَوْحِهِمْ مِنْ أَخْبَارِهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يَكُونُ مَذْمُومًا شَرْعًا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُعَذَّبُ بِمَا يَقَعُ فِي الْبُكَاءِ مِنَ الْأَلْفَاظِ. قَالَ: وَعِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُوَ الْأَلَمَ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ إِذَا سَمِعَهُمْ يَبْكُونَ، أَوْ بَلَغَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ تَأَلُّمٌ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِّينَا: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَاتَ لَهَا وَلَدٌ فَوَجَدَتْ عَلَيْهِ وَجْدًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَحَلَتْ فِي بَعْضِ مَقَاصِدِهَا إِلَى الْمَغْرِبِ، فَحَضَرَ يَوْمُ الْعِيدِ وَعَادَتُهَا فِي بَلَدِهَا أَنْ تَخْرُجَ كُلَّ يَوْمِ عِيدٍ إِلَى الْمَقَابِرِ تَبْكِي عَلَى وَلَدِهَا، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ فِي بَلَدِهَا خَرَجَتْ إِلَى مَقَابِرِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَفَعَلَتْ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ، وَأَكْثَرَتِ الْبُكَاءَ وَالْوَيْلَ ثُمَّ نَامَتْ، فَرَأَتْ أَهْلَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ هَاجُوا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، هَلْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا وَلَدٌ؟ ! فَقَالُوا: لَا. فَقَالُوا: كَيْفَ جَاءَتْ عِنْدَنَا تُؤْذِينَا بِبُكَائِهَا؟ ! ثُمَّ ذَهَبُوا وَضَرَبُوهَا ضَرْبًا وَجِيعًا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَتْ وَجَدَتْ أَلَمَ ذَلِكَ الضَّرْبِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ تَأْلَمُ مِنَ الْمُؤْذِيَاتِ، وَتَفْرَحُ مِنَ اللَّذَّاتِ فِي الْبَرْزَخِ، كَمَا كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَوْتَى يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ، وَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةٍ وَرَخَاءٍ، وَوَرَدَ أَنَّهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِالزِّيَارَاتِ، وَيَأْلَمُونَ بِانْقِطَاعِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْبُكَاءُ، وَالْعَوِيلُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ تَتَأَذَّى بِهِ الْأَرْوَاحُ وَتَنْقَبِضُ، كَانَ كَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّعْذِيبِ الْمَنْفِيِّ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ مُسْتَدِلَّةً بِالْآيَةِ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَأَقُولُ: لَا شَكَّ فِي تَأَذِّي الْأَرْوَاحِ بِمَا تَتَأَذَّى بِهِ الْأَشْبَاحُ، وَهُوَ مَحْمَلٌ حَسَنٌ، وَتَأْوِيلٌ مُسْتَحْسَنٌ، لَوْلَا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ تَقْيِيدِ الْعِقَابِ بِقَوْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الرِّوَايَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1742 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تُوُفِّيَتْ بِنْتٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ، فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ مُوَاجِهُهُ، أَلَا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ ثُمَّ حَدَّثَ، فَقَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ. قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا أَنْ أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي، يَقُولُ: وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " إِنَّ «الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ؟ ! " فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ، لَا وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ» ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ "{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهُ أَضْحَكَ وَأَبْكَى قَالَ ابْنُ مُلَيْكَةَ: فَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1742 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ: تُوُفِّيَتْ بِنْتٌ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ) قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ مُنْصَرَفٍ. (بِمَكَّةَ فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا) أَيْ: لِنَحْضُرَ صَلَاتَهَا وَدَفْنَهَا. (وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ: وَقَدْ حَضَرَاهَا أَيْضًا. (فَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنِّي لَجَالِسٍ لِيَكُونَ حَالًا، وَالْعَامِلُ حَضَرَ، وَالْفَاءُ تَسْتَدْعِي الِاتِّصَالَ بِقَوْلِهِ: فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، نَقَلَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ بِالْوَاوِ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ: قَوْلُهُ فَإِنَّى جَالِسٌ عَطْفٌ عَلَى فَجِئْنَا اهـ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِ اتِّصَالِهِ بِقَوْلِهِ: فَجِئْنَا
لِنَشْهَدَهَا أَيْضًا، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَمْرُ سَهْلًا بِأَنْ يُقَالَ: جُمْلَةُ وَحَضَرَهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَهُمَا، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ دَخَلَتْ عَلَى مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: فَبَعْدَ حُضُورِهَا إِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا إِشْعَارًا بِكَمَالِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمَا. (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ. (مُوَاجِهُهُ) أَيْ: مُقَابِلَ ابْنِ عُثْمَانَ. (أَلَا تَنْهَى) أَيْ: أَهْلَكَ. (عَنِ الْبُكَاءِ) أَيْ: بِالصِّيَاحِ وَالنِّيَاحِ. (فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ: مُعْتَرِضًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّ عَائِشَةَ خَالَفَتْهُ كَأَبِيهِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا وَهُوَ لَا يُكَلِّفُ بِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الثَّانِيَ خَارِجٌ عَنِ الْمَبْحَثِ إِجْمَاعًا، وَخِلَافُ عَائِشَةَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا، وَأَبُوهُ مُوَافِقٌ لَهُ إِمَّا فِي الْكُلِّ أَوْ فِي الْبَعْضِ لِقَوْلِهِ:(قَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ) أَيِ: الْعُمُومَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِصَوْتٍ أَوْ نُدْبَةٍ عِنْدَ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ، أَوْ يَرْوِي أَيْ: بَعْضَ ذَلِكَ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ بِبَعْضَ بُكَاءِ أَهْلِهِ كَمَا سَيَأْتِي. (ثُمَّ حَدَّثَ) أَيْ: رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَا سَمِعَهُ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه. (فَقَالَ: صَدَرْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ مَعَ عُمَرَ مِنْ مَكَّةَ سَائِرًا. (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ. (فَإِذَا هُوَ) أَيْ: عُمَرُ. (بِرَكْبٍ) أَيْ: جَمَاعَةٍ مِنَ الرُّكْبَانِ. (تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ) بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْمِيمِ: نَوْعُ شَجَرٍ. (فَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ لِي. (اذْهَبْ فَانْظُرْ) أَيْ: تَحَقَّقْ. (مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟) أَيْ: كَبِيرُهُمْ أَوْ أَمِيرُهُمْ. (فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ صُهَيْبٌ) أَيْ: وَمَنْ مَعَهُ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ. (فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ: عُمَرَ بِهِ أَوْ بِالْخَبَرِ. (فَقَالَ: ادْعُهُ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَيَجُوزُ إِسْكَانُهَا أَيِ: اطْلُبْ صُهَيْبًا. (فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ) : أَيْ: لِصُهَيْبٍ. (ارْتَحِلْ) أَيْ: مِنْ مَكَانِكَ. (فَالْحَقْ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيِ: اتْبَعْ. (أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ: أَمْرَهُ أَوِ الِاجْتِمَاعَ بِهِ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِلْمُصَاحِبَةِ الْخُصُوصِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَالْمُؤَاخَاةِ السَّالِفَةِ بَيْنَ عُمَرَ وَصُهَيْبٍ ; فَإِنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا قَالَ:(فَلَمَّا أَنْ) زَائِدَةٌ. (أُصِيبَ عُمَرُ) أَيْ: جُرِحَ فِي الْمِحْرَابِ، وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِهِ مَعَ الْأَصْحَابِ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْمَدِينَةَ بِقَلِيلٍ بِضَرْبِ ذَلِكَ الْمَجُوسِيِّ لَهُ بِخِنْجَرِهِ، ضَرَبَاتٍ مُتَعَدِّدَةً، وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الصُّبُحَ، فَسَقَطَ وَحُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ، وَضَرَبَ بِهِ كَثِيرِينَ وَهُوَ يَشُقُّ الصُّفُوفَ حَتَّى أُلْقِيَ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ خَشْيَةً مِنْ خِنْجَرِهِ الْمَسْلُولِ بِيَدِهِ، لِكُلِّ مَنْ وَالَاهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ اللَّعِينُ بِذَلِكَ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَكَمَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الصَّلَاةَ لِلنَّاسِ وَدَخَلَ النَّاسُ عَلَى عُمَرَ يَتَعَرَّفُونَ الْخَبَرَ. (دَخَلَ) أَيْ: عَلَيْهِ. (صُهَيْبٌ يَبْكِي) حَالٌ. (يَقُولُ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ يَبْكِي. (وَا أَخَاهُ وَا صَاحِبَاهُ) لَيْسَ فِي هَذَا نَوْحٌ نَظِيرَ مَا صَدَرَ عَنْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها مِنْ قَوْلِهَا وَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ النَّوْحِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِرَفْعِ صَوْتٍ. (فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، أَتُبْكِي عَلَيَّ) أَيْ: بِالصَّوْتِ وَالنُّدْبَةِ. (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمَيِّتَ) أَيْ: مُطْلَقًا أَوِ الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْتِ (لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) أَقُولُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنْوَاعِ رِوَايَاتِهِ ; لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ إِيرَادِ عُمَرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَعْضِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ النُّدْبَةِ، وَطَرِيقَةُ النَّوْحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ حُكْمًا أَوْ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ قَابِلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ مَا يَكُونُ عَنْ وَصِيَّتِهِ، أَوْ مِنْ نَحْوِ يَهُودِيَّةٍ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَهُمُ الَّذِينَ أَوْصَاهُمْ دُونَ مَا لَمْ يُوصِيهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَوْصَاهُمْ كُلَّهُمْ، فَمَآلُ الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَحِينَئِذٍ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ مَقَالُ اللَّفْظِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْحَمْلَ الْمَفْهُومَ مُخَالِفٌ لِمَا فَهِمَ عُمَرُ رضي الله عنه مِنَ الْعُمُومِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْمَيِّتِ أَعَمُّ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى فَهْمِ عُمَرَ رضي الله عنه فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَيِّتِ الْمُحْتَضِرُ، وَبِالْعَذَابِ تَشْوِيشُ خَاطِرِهِ مِمَّنْ حَوْلَهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، مِنَ الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ فِي مُرَاقَبَةِ
الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ: لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسَ إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، إِذِ الْمُنَاسِبُ حِينَئِذٍ الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ تَهْوِينًا أَوْ تَلْقِينًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ) أَيِ: الْكَلَامَ أَوِ الْحَدِيثَ (لِعَائِشَةَ) رضي الله عنها. (فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ سَهْوٌ يَحْتَاجُ إِلَى عَفْوٍ، وَفِيهِ مِنَ الْآدَابِ الْحَسَنَةِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ تَعَالَى. (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتَغْرَبْتُ مِنْ عُمَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ، فَجَعَلَتْ قَوْلَهَا: يَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ تَمْهِيدًا وَدَفْعًا لِمَا يُوجِبُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى الْخَطَأِ. (لَا) أَيْ: لَيْسَ كَذَلِكَ. (وَاللَّهِ، مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمَيِّتَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَتُفْتَحُ. (لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) أَيْ: مُطْلَقًا، وَلَا مُقَيَّدًا بِالْبَعْضِ، وَهَذَا النَّفْيُ الْمُؤَكَّدُ بِالْقَسَمِ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى ظَنِّهَا أَوْ زَعْمِهَا، أَوْ مُقَيَّدٌ بِسَمَاعِهَا، وَإِلَّا فَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي، وَكَيْفَ وَالْحَدِيثُ رُوِيَ مَنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ بِأَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ؟ ! مَعَ أَنَّهُ بِعُمُومِهِ لَا يُنَافِي مَا قَالَتْ بِخُصُوصِهِ. (وَلَكِنْ) أَيِ: الَّذِي حَدَّثَ بِهِ جُمْلَةَ " إِنَّ اللَّهَ. . . " إِلَخْ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَكِنْ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» ) فِيهِ أَنَّ النَّفْيَ مِنْهَا رضي الله عنها هُنَا مُنَاقِضٌ لِمَا قَالَتْ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهَا أَوَّلًا. (حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ) بِسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: كَافِيكُمُ الْقُرْآنُ فِي تَأْيِيدِ مَا ذَهَبْتُ مِنَ الْخَبَرِ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] الْجُمْلَةُ بَدَلُ كُلٍّ أَوْ بَعْضٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوِزْرُ وَالْوَقْرُ أَخَوَانِ، وَزَرَ الشَّيْءَ إِذَا حَمَلَهُ، وَالْوَازِرَةُ صِفَةُ النَّفْسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تَحْمِلُ إِلَّا وِزْرَهَا، لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ نَفْسٍ كَمَا تَأْخُذُ جَبَّارَةُ الدُّنْيَا الْوَلِيَّ بِالْوَلِيِّ، وَالْجَارَّ بِالْجَرِّ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْآيَةَ بِظَاهِرِهَا يُنَافِي مَا ذَكَرَتْ مِنْ: أَنَّ الْكَافِرَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ ذَلِكَ) أَيْ: عِنْدَ قَوْلِ عَائِشَةَ، أَوْ عِنْدَ نَقْلِهِ عَنْهَا مُؤَيِّدًا لَهَا، وَمِصْدَاقًا لِكَلَامِهَا. (وَاللَّهُ) بِالرَّفْعِ مَعَ الْوَاوِ، وَهُوَ حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ بِلَفْظِ {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: أَنَّ الْعَبْرَةَ لَا يَمْلِكُهَا ابْنُ آدَمَ، وَلَا تَسَبُّبَ لَهُ فِيهَا، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا؟ ! فَضْلًا عَنِ الْمَيِّتِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَحَاصِلُهُ جَوَازُ عُمُومِ الْبُكَاءِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، مَعَ مُنَاقَضَتِهِ لِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ:{لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] مِنْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةَ الْقَهْقَهَةُ، عَلَى مَا نَقَلَ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: قَدَّرَ الدَّاوُدِيُّ مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي الْجَمِيلِ مِنَ الْبُكَاءِ، فَلَا يُعَذِّبُ بِمَا أَذِنَ فِيهِ اهـ. وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْبَحْثِ كَمَا لَا يَخْفَى، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ: غَرَضُهُ تَقْرِيرٌ لِنَفْيِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ: مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْأَهْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ بُكَاءَ الْإِنْسَانِ وَضَحِكَهُ، وَحُزْنَهُ وَسُرُورَهُ مِنَ اللَّهِ يُظْهِرُهَا فِيهِ، فَلَا أَثَرَ لَهَا فِي ذَلِكَ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَلْقًا، وَمِنَ الْعَبْدِ كَسْبًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَالشَّرْعُ قَدِ اعْتَبَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَثَرِ كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْبَشَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّحِكَ وَالتَّبَسُّمَ فِي وَجْهِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَكَذَلِكَ الْحُزْنُ وَالسُّرُورُ تَارَةً يَكُونَانِ مِنَ الْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ يُثَابُ الشَّخْصُ بِهِمَا، وَتَارَةً مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّنِيَّةِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِمَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّصَوُّفِ، وَزُبْدَتُهُ فِي الْإِحْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ لَمْ يُؤْثَرْ ذَلِكَ قِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ وَقَدْ أُثِرَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ؟ ! قُلْتُ: لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ لَا يَرْضَى بِالْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الصِّدِّيقَةُ رضي الله عنها: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ، أَيْ: كَافِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْقُرْآنِ هَذَا الْآيَةُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] إِنَّهَا فِي شَأْنِكُمْ، وَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ اللَّهَ يَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ، أَقُولُ: لَا دَلَالَةَ لِقَوْلِهَا عَلَى هَذَا الْمُدَّعِي، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ أَلْفَاظِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي الْمَعْنَى لَا لِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ فِي الْمَبْنَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجَعَلَ الْخِلَافَ بَيْنَ عَائِشَةَ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لَفْظِيًّا، مَعَ أَنَّ لَهُمْ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةَ الْمَبَانِي وَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ جَمْعُهَا فِي وَاحِدٍ مِنَ الْمَعَانِي، ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ الْفَارُوقَ رضي الله عنه كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفَ، فَقَالَ ذَلِكَ لِسُوءِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَالصِّدِّيقَةُ رضي الله عنها كَانَتْ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَتْ ذَلِكَ، وَلِكُلٍّ وَجْهٌ هُوَ مُوَلِّيهَا اهـ.
وَهَذَا بِإِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا صَدَرَ عَنْ مِشْكَاةِ صَدْرِ النُّبُوَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ شَيْئًا) أَيْ: شَيْءٌ مِنَ
الْقَوْلِ أَوْ شَيْئًا آخَرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَعِنْدَ ذَلِكَ سَكَتَ ابْنُ عُمَرَ وَأَذْعَنَ، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي السُّكُوتِ عَلَى الْإِذْعَانِ بَلْ تَرْكُ الْمُجَادَلَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَرْبَابِ الْعِرْفَانِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَسِيرُ الدَّلِيلِ وَأَنَّ لَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يُخَطِّئَ غَيْرَهُ، وَأَنْ يَحْلِفَ عَلَى خَطَئِهِ وَإِنْ كَانَ أَجَلَّ مِنْهُ وَأَوْسَعَ عِلْمًا، إِذْ عُمَرُ كَذَلِكَ مَعَ عَائِشَةَ رضي الله عنها اهـ. وَفِيهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ وَنَقْلٌ صَحِيحٌ يَصْلُحُ لِلرَّدِّ عَلَى بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى فِقْهِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا الْمُعْتَرِضِينَ عَلَيْنَا مِمَّنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَضِيضِ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ قَيْدِ التَّقْيِيدِ، وَلَمْ يَبْرُزْ فِي مَيْدَانِ التَّحْقِيقِ، وَالتَّأْيِيدِ عِنْدَ اعْتِرَاضِنَا عَلَى ابْنِ حَجَرٍ: إِذَا وَقَعَ لَهُ كَلَامٌ غَيْرُ سَدِيدٍ ; لِأَنَّ مِثْلَكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ، مُفْتِي الْأَنَامِ ابْنِ حَجَرٍ: الَّذِي هُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ.
1743 -
ــ
1743 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ) أَيْ: زَيْدٍ. (وَجَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنِ أَبِي طَالِبٍ. (وَابْنِ رَوَاحَةَ) أَيْ: جَاءَ خَبَرُ شَهَادَتِهِمْ. (جَلَسَ) أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ. (يُعْرَفُ فِيهِ) أَيْ: فِي وَجْهِهِ الْوَجِيهِ. (الْحُزْنُ) أَيْ: أَثَرُهُ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِفَتْحِهِمَا: هُمْ قُوتُ الْمُحِبِّينَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْ: حَزِينًا بِمُقْتَضَى الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ جُلُوسَهُ كَانَ لِلْعَزَاءِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَجُوزُ الْجُلُوسُ لِلْمُصِيبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَيُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ اهـ. فَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ كَانَ جُلُوسُهُ فِي الْمَسْجِدِ اتِّفَاقِيًّا. (وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ) أَيْ: مِنْ ذِي صَيْرٍ أَيْ: شَقٍّ لَهُ كَلَابِنٍ وَتَامِرٍ، وَلِذَا قِيلَ:(تَعْنِي) أَيْ: تُرِيدُ عَائِشَةُ بِصَائِرِ الْبَابِ) . (شَقُّ الْبَابِ بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ: خَرْقُهُ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلرَّاوِي عَنْهَا. (فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ) أَيِ: الرَّجُلُ. (إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ) أَيْ: أَهْلَ جَعْفَرٍ. (وَذَكَرَ) أَيِ: الرَّجُلُ. (بُكَاءَهُنَّ) الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ، سَادَّةٌ مَسَدَّ الْخَبَرِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي: فَقَالَ، وَحَذَفَتْ رضي الله عنها خَبَرَ إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ عَنْ نِسَاءِ جَعْفَرٍ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ فَعَلْنَ كَذَا وَكَذَا بِمَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ مِنَ الْبُكَاءِ الشَّنِيعِ، وَالنَّوْحِ الْفَظِيعِ. (فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ) أَيِ: الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ. (لَمْ يُطِعْنَهُ) أَيْ: فِي تَرْكِ الْبُكَاءِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: حِكَايَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِ الرَّجُلِ أَيْ: فَذَهَبَ وَنَهَاهُنَّ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَهَيْتُهُنَّ فَلَمْ يُطِعْنَنِي، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: وَاللَّهِ، غَلَبْنَنَا. (فَقَالَ: انْهَهُنَّ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ، وَفَتْحِ الْهَاءِ أَمْرٌ مِنَ النَّهْيِ، أَيِ: امْنَعْهُنَّ مِنَ الْبُكَاءِ. (فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ) أَيْ: فَذَهَبَ إِلَيْهِنَّ وَنَهَاهُنَّ وَلَمْ يُطِعْنَهُ أَيْضًا، فَأَتَاهُ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ. (قَالَ: وَاللَّهِ) ، غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ هُنَّ أَغْلَبُ. (فَزَعَمَتْ) بِالْغِيبَةِ أَيْ: قَالَتْ عَمْرَةُ: فَزَعَمَتْ عَائِشَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنِّي ظَنَّتْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَخْبَرَتْ قَالَ النَّوَوِيُّ الزَّعْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُحَقَّقِ وَعَلَى الْكَذِبِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَيُنَزَّلُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ اهـ. وَظَنِّي أَنَّهُ مِنْهَا بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِالتَّكَلُّمِ أَيْ: قَالَتْ عَائِشَةُ فَزَعَمْتُ أَيْ: ظَنَنْتُ. (أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَاحْثُ) بِضَمِّ الثَّاءِ أَمْرٌ مِنَ الْحَثْيِ وَهُوَ الرَّمْيُ. (فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) فِي النِّهَايَةِ احْثُوا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ، كِنَايَةً عَنِ الْخَيْبَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْحَقِيقَةُ اهـ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ إِذَا كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِهِنَّ عَلَى حَالِهِنَّ لِعَدَمِ نَفْعِ النَّصِيحَةِ بِهِنَّ مِنْ حَالِ ضَجَرِهِنَّ فِي جَزَعِهِنَّ. (فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ) فِي النِّهَايَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: قَالَتْ عَائِشَةُ لِلرِّجُلِ: أَذَلَّكَ اللَّهُ فَإِنَّكَ آذَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا كَفَفْتَهُنَّ عَنِ الْبُكَاءِ اهـ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا رضي الله عنها:(لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فِي الزَّجْرِ، وَإِلَّا فَقَدَ قَامَ بِالْأَمْرِ حَيْثُ نَهَاهُنَّ عَنِ الضَّجَرِ، وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ: حَيْثُ صَرَفَ الْأَمْرَ إِلَى الْحَثْيِ فِي أَفْوَاهِهِنَّ. (وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: تَعَبِ الْخَاطِرِ مِنْ سَمَاعِ ارْتِكَابِهِنَّ الْكَبَائِرَ أَوِ الصَّغَائِرَ، وَعَدَمِ انْزِجَارِهِنِّ بِالزَّوَاجِرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1744 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: غَرِيبٌ وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ، لَأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ، فَكُنْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخُلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ، وَكَفَفْتُ عَنِ الْبُكَاءِ، فَلَمْ أَبْكِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1744 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. (قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ) أَيْ: زَوْجُهَا الْأَوَّلُ. (قُلْتُ: غَرِيبٌ) أَيْ: هُوَ مَيِّتٌ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ) ، لِأَنَّهُ كَانَ مَكِّيًّا مِنْ أَصْحَابِ الْهِجْرَةِ. (وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ تَأْكِيدٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهَا غَرِيبًا أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ إِمَّا مَجَازٌ أَوْ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. (لَأَبْكِيَنَّهُ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ: وَاللَّهِ، لَأَبْكِيَنَّ عَلَيْهِ. (بُكَاءً) أَيْ: شَدِيدًا. (يُتَحَدَّثُ عَنْهُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ لِكَمَالِ شِدَّتِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا مِنْهَا كَانَ قَبْلَ عِلْمِهَا بِتَحْرِيمِ النِّيَاحَةِ. (فَكُنْتُ تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ) أَيْ: بِالْقَصْدِ وَالْعَزِيمَةِ، وَتَهْيِئَةِ أَسْبَابِ الْحُزْنِ مِنَ الثِّيَابِ السُّودِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: قُلْتُ: أَيْ: قُلْتُ عَقِيبَ مَا تَهَيَّأْتُ لِلْبُكَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْقَوْلِ إِلَّا مَعَ الْوَاوِ لِيَكُونَ حَالًا اهـ. وَغَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ ذَلِكَ التَّحْقِيقِ فَقَالَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَى قُلْتُ، أَيْ: عَقِبَ قَوْلِي ذَلِكَ وَقَعَ مِنْ تَمَامِ التَّهَيُّؤِ. (إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ) ظَرْفٌ لِتَهَيَّأْتُ وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ: حَيْثُ قَالَ: ظَرْفٌ لَقُلْتُ أَيْ: جَاءَتْنِي مِنْ قُبَالَتِي امْرَأَةٌ. (تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي) أَيْ: تُسَاعِدَنِي فِي الْبُكَاءِ وَمُعَاوَنَتِي فِي النِّدَاءِ. (فَاسْتَقْبَلَهَا) أَيْ: تِلْكَ الْمَرْأَةَ. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: بَعْدَ عِلْمِهِ مِمَّا هِيَ قَاصِدَةٌ لَهُ. (فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ) أَيْ: أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ بِإِعَانَتِكِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. (أَنْ تُدْخِلِي الشَّيطَّانَ) أَيْ: أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِدُخُولِ الشَّيْطَانِ. (بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ) أَيِ: الشَّيْطَانَ. (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَأَبْعَدَهُ مِنْ إِغْوَاءِ أَهْلِهِ. (مَرَّتَيْنِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى يَوْمُ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَوْمَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا مُسْلِمًا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ التَّكْرِيرُ أَيْ: أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِخْرَاجًا بَعْدَ إِخْرَاجٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَجْدِهِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيْ: مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَقُولُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى يَوْمُ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَبِالْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَوْمُ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنَّهُ مِنْ ذَوِي الْهِجْرَتَيْنِ أَقُولُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرَّتَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بَقَالَ، أَيْ: أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ لِكَمَالِ الِاهْتِمَامِ مَرَّتَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَكَفَفْتُ) عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: فَانْزَجَرْتُ وَمَنَعْتُ نَفْسِي. (عَنِ الْبُكَاءِ فَلَمْ أَبْكِ) أَيِ: الْبُكَاءَ الْمَذْمُومَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ
) .
1745 -
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَا جَبَلَاهُ، وَا كَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي أَنْتَ كَذَلِكَ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1745 -
(وَعَنِ النُّعْمَانِ) بِضَمِّ النُّونِ. (بْنِ بَشِيرٍ) صَحَابِيَّانِ. (قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحةَ) هُوَ مِنَ النُّقَبَاءِ، وَالصَّحَابَةِ الْأَجِلَّاءِ. (فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي وَا جَبَلَاهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ، وَالْقَوْلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: قَائِلَةً: وَا جَبَلَاهُ، تَوْطِئَةً لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(لِسَانًا عَرَبِيًّا) . (وَا كَذَا وَا كَذَا) كِنَايَتَانِ عَنْ نَحْوِ سَيِّدَاهُ وَسَنَدَاهُ. (تُعَدِّدُ عَلَيْهِ) أَيْ: بِأَوْصَافِهِ الْجَمِيلَةِ بَدَلٌ مِنْ تَبْكِي، أَوْ بَيَانٌ لَهُ. (فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ مَا قُلْتِ: شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ. (كَذَلِكَ) أَيْ: أَنْتَ، وَفِي نُسْخَةٍ: كَذَاكَ بِلَا لَامٍ، أَيْ: لَمَّا قُلْتِ: وَا جَبَلَاهُ قِيلَ: أَنْتَ جَبَلٌ أَيْ: كَهْفٌ، يَلْجَئُونَ إِلَيْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ يَنْصُرُ مَذْهَبَ عُمَرَ رضي الله عنه فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ: بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَخَذَ بِظَاهِرِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُؤَوَّلٌ بِمَا قَدَّمْتُهُ، وَتِلْكَ التَّأْوِيلَاتُ لَا يَأْتِي مِنْهَا شَيْءٌ هُنَا، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْتُهُ، قُلْتُ: سَيَأْتِي فِي كَلَامِ السُّيُوطِيِّ مَا يَقُولُ الطِّيبِيُّ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ تَوْبِيخِهِ بِهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَلَا أَمَرَ؟ قُلْتُ: إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَنْزَجِرَ النِّسَاءُ عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ اهـ. وَلَا يَخْفَى عَدَمُ صَلَاحِيَتِهِ لِلْجَوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ أَيْ: أُخْتُهُ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبُكَاءِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1746 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ: وَا جَبَلَاهُ، وَا سَيِّدَاهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَلْهَزَانِهِ، وَيَقُولَانِ: أَهَكَذَا كُنْتَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ.
ــ
1746 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ مَيِّتٍ) أَيْ: حَقِيقِيٍّ أَوْ مُشْرِفٍ عَلَى الْمَوْتِ (يَمُوتُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ أَوْ تَضِلُّ الضَّالَّةُ فِي الْمَشَارِفِ، لِلْمَوْتِ وَالْمَرِيضِ، وَالضَّلَالِ مَيِّتًا، وَمَرِيضًا وَضَالَّةً، وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحةَ اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ: بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. (فَيَقُومُ) أَيْ: فَيَشْرَعُ. (بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ: وَا جَبَلَاهُ، وَا سَيِّدَاهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ) نَحْوَ سَنَدَاهُ وَمُعْتَمِدًا. (إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَلْهَزَانِهِ) بِفَتْحِ الْهَاءِ أَيْ: يَضْرِبَانِهِ وَيَدْفَعَانِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: اللَّهْزُ الضَّرْبُ بِجَمْعِ الْيَدِ فِي الصَّدْرِ، يُقَالُ: لَهَزَهُ بِالرُّمْحِ أَيْ: طَعَنَهُ فِي الصَّدْرِ. (وَيَقُولَانِ: أَهَكَذَا كُنْتَ) ؟ أَيْ: تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَحَادِيثَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ عَلَيْهِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ، الثَّانِي: لَا مُطْلَقًا، الثَّالِثُ: أَنَّ الْبَاءَ لِلْحَالِ أَيْ: أَنَّهُ يُعَذَّبُ حَالَ بُكَائِهِمْ عَلَيْهِ وَالتَّعْذِيبُ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ لَا بِسَبَبِ الْبُكَاءِ، الرَّابِعُ: أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْكَافِرِ، وَالْقَوْلَانِ عَنْ عَائِشَةَ، الْخَامِسُ: أَنَّهُ خَاصٌّ. مِمَّنْ كَانَ النَّوْحُ سُنَّتَهُ وَطَرِيقَتَهُ، وَعَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، السَّادِسُ: أَنَّهُ فِيمَنْ أَوْصَى بِهِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: إِذَا مُتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَتَ مَعْبَدِ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ فِيمَنْ لَمْ يُوصِ بِتَرْكِهِ فَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ وَاجِبَةً، إِذَا عَلِمَ أَنَّ مِنْ شَأْنِ أَهْلِهِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، الثَّامِنُ: أَنَّ التَّعْذِيبَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَبْكُونَ بِهَا عَلَيْهِ وَهِيَ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: يَا مُرَمِّلَ النِّسْوَانِ، يَا مُيَتِّمَ الْأَوْلَادِ، يَا مُخَرِّبَ الدُّورِ، التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ بِمَا يَنْدُبُ بِهِ أَهْلُهُ، الْعَاشِرُ: مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ وَلَفْظُهُ أَنَّ " «الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِالنِّيَاحَةِ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ» " اهـ. وَتَقَدَّمَ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ تَأَلُّمُ الْمَيِّتِ بِسَبَبِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ مَذْمُومٍ، كَمَا يَتَأَلَّمُ بِسَائِرِ الْمَعَاصِي الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ، وَيَفْرَحُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْكَائِنَةِ مِنْهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ لَهُ تَسَبُّبٌ فِي هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ بِتَقْصِيرٍ فِي الْوَصِيَّةِ، أَوْ رَضِيَ بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَالْعَذَابُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِلَّا فَمَحْمُولٌ عَلَى تَأَلُّمِهِ سَواءً عِنْدَ نَزْعِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي هَذِهِ الْبَلِيَّةِ الْكُبْرَى.
1747 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَاتَ مَيِّتٌ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ يَنْهَاهُنَّ وَيَطْرُدُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ ; فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ وَالْقَلْبَ مُصَابٌ، وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ» .
ــ
1747 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَاتَ مَيِّتٌ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي. (فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ يَبْكِينَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْمَيِّتِ فَقَامَ عُمَرُ يَنْهَاهُنَّ) أَيِ: الْأَقَارِبَ. (وَيَطْرُدُهُنَّ) أَيِ: الْأَجَانِبَ بِضَرْبِهِنَّ كَمَا سَيَأْتِي. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُنَّ) أَيِ: اتْرُكْهُنَّ. (يَا عُمَرُ، فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ) أَيْ: بِالطَّبْعِ، وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّرْعُ. (وَالْقَلْبَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ. (مُصَابٌ) أَيْ: أَصَابَهُ الْمُصِيبَةُ، فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَقَلَّبَ إِلَى الْحُزْنِ، كَمَا أَنَّهُ يَنْقَلِبُ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ إِلَى الْفَرَحِ، فَهُوَ السَّبَبُ فِي بُكَاءِ الْعَيْنِ وَضَحِكِهَا. (وَالْعَهْدَ) أَيْ: زَمَانَ الْمُصِيبَةِ (قَرِيبٌ) أَيْ: مِنْهُنَّ فَالصَّبْرُ صَعْبٌ عَلَيْهِنَّ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: الصَّبْرُ أَيِ: الْكَامِلُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَعَكَسَ فِيهِ التَّرْتِيبَ الطَّبِيعِيَّ ; لِأَنَّ قُرْبَ الْعَهْدِ يُورِثُ شِدَّةَ الْحُزْنِ لِلْقَلْبِ، وَهِيَ تُورِثُ دَمْعَ الْعَيْنِ، إِيثَارًا لِذِكْرِ مَا يَظْهَرُ، وَيُعْلَمُ عَلَى مَا يَخْفَى، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ بُكَاءَهُنَّ كَانَ بِصَوْتٍ، لَكِنْ لَا يَرْفَعُهُ، فَنَهَاهُنَّ عُمَرُ سَدًّا لِبَابِ الذَّرِيعَةِ، حَتَّى لَا يَنْجَرَّ إِلَى النِّيَاحَةِ الْمَذْمُومَةِ، لَا سِيَّمَا فِي الْحَضْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَأَمَرَهُ بِتَرْكِهِنَّ، وَأَظْهَرَ عُذْرًا لَهُنَّ فِي أَفْعَالِهِنَّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَنْعُ عُمَرَ لِضُرِّهِنَّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، فَمَنْعُهُ ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُنَّ إِلَّا مُجَرَّدُ الْبُكَاءِ، فَمَنَعَهُنَّ مِنْهُ عُمَرُ كَأَنَّهُ لِلتَّمَسُّكِ فِيهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِذَا وَجَبَتْ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُنَّ، وَذَكَرَ لَهُ عُذْرَهُنَّ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَا غَلَبَةَ، أَمَّا مَعَ غَلَبَةِ الْحُزْنِ فَلَا كَرَاهَةَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْبُكَاءِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ إِجْمَاعًا، وَقَدْ صَدَرَ الْبُكَاءُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، حَيْثُ قَالَ:" «الْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبُ يَحْزَنُ» " فَالنَّهْيُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبُكَاءِ الْمَذْمُومِ، وَلَا اعْتِبَارَ لَا بِالْمَفْهُومِ مِنَ الظَّرْفِ الَّذِي وَقَعَ قَيْدًا اتِّفَاقِيًّا، أَوْ غَالِبِيًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرٍ وَمَزِيَّةُ تَحْرِيرِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ مِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَيُقَوِّيهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) كَذَا فِي نُسْخَةٍ. (وَالنَّسَائِيُّ
) .
1748 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَكَتِ النِّسَاءُ، وَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَقَالَ: مَهْلًا، ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَمِنَ الْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عز وجل وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَمِنَ اللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
1748 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَكَتِ النِّسَاءُ، وَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ) أَيْ: عَنْهُنَّ. (بِيَدِهِ) وَفِيهِ إِشْعَارٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الضَّرْبُ عَلَى النِّيَاحَةِ، بَلْ يَنْبَغِي النَّصِيحَةُ ; وَلِذَا أَخَّرَهُ. (وَقَالَ: مَهْلًا) بِسُكُونِ الْهَاءِ، أَيْ: أَمْهِلْهُنَّ مَهْلًا، أَوْ أَعْطِهِنَّ مَهْلًا. قَالَ السَّيِّدُ: مَهْلًا مَصْدَرٌ عَامِلُهُ مَحْذُوفٌ كَذَا فِي الطِّيبِيِّ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِذَا سِرْتُمْ إِلَى الْعَدُوِّ فَمَهْلًا مَهْلًا، فَإِذَا وَقَعَتِ الْعَيْنُ عَلَى الْعَيْنِ فَمَهْلًا مَهْلًا، السَّاكِنُ الرِّفْقَ، وَالْمُتَحَرِّكُ التَّقَدُّمَ، أَيْ: إِذَا سِرْتُمْ فَتَأَنَّوْا، وَإِذَا لَقِيتُمْ فَاحْمِلُوا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمَهَلُ بِالتَّحْرِيكِ التُّؤَدَةُ وَالتَّبَاطُؤُ، يُقَالُ: مَهَّلْتُهُ وَأَمْهَلْتُهُ، أَيْ: سَكَّنْتُهُ وَأَخَّرْتُهُ، وَمَهْلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ، وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَهْلُ وَيُحَرَّكُ، وَالْمُهْلَةُ بِالضَّمِّ: السَّكِينَةُ وَالرِّفْقُ اهـ. وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُهْلَ فِيهِ لُغَتَانِ، السُّكُونُ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَامُوسِ بِقَوْلِهِ: وَيُحَرَّكُ، وَكَانَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ اقْتَصَرَ عَلَى السُّكُونِ نَظَرًا إِلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، فَاقْتِصَارُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى التَّحْرِيكِ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. (يَا عُمَرُ) وَالْمَعْنَى: لَا تُبَادِرْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُنَّ الْحُكْمُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125](ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ) أَيْ: صِيَاحَهُ بِالنِّيَاحَةِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ لِحَمْلِهِ مِنْ نَعَقَ الرَّاعِي بِغَنَمِهِ دَعَاهَا لِتَعُودَ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] . (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنًا لَهُ أَتَمَّ الْبَيَانَ. (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ. (مَهْمَا كَانَ) فِي الْقَامُوسِ: مَهْمَا بَسِيطٌ لَا مُرَكَّبٌ مِنْ (مَهْ) وَ (مَا) لَا مِنْ (مَا مَا) خِلَافًا لِزَاعِمِيهِمَا اهـ. وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهَا اسْمُ شَرْطٍ، أَوْ حَرْفُ شَرْطٍ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ ظَرْفٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ، أَيْ: مَهْمَا كَانَ الْبُكَاءُ. (مِنَ الْعَيْنِ) أَيْ: مِنَ الدَّمْعِ. (وَمِنَ الْقَلْبِ) أَيْ: مِنَ الْحُزْنِ مِنَ اللَّهِ عز وجل أَيْ: مَحْمُودٌ مَرْضِيٌّ مِنْ جِهَتِهِ، وَصَادِرٌ مِنْ خِلْقَتِهِ. (وَمِنَ الرَّحْمَةِ) أَيْ: وَنَاشِئٌ مِنْ رَحْمَةِ صَاحِبِهِ. (وَمَا كَانَ) مَا شَرْطِيَّةٌ أَيْضًا. (مِنَ الْيَدِ) كَالضَّرْبِ عَلَى الْخَدِّ، وَقَطْعِ الثَّوْبِ، وَنَتْفِ الشَّعْرِ. (وَمِنَ اللِّسَانِ) أَيْ: بِطَرِيقِ الصِّيَاحِ، وَعَلَى وَجْهِ النِّيَاحِ، أَوْ يَقُولُ مِمَّا لَا يَرْضَى بِهِ الرَّبُّ. (فَمِنَ الشَّيْطَانِ) أَيْ: مِنْ إِغْوَائِهِ أَوْ بِرِضَائِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَهْمَا) حَرْفُ الشَّرْطِ تَقُولُ: مَهْمَا تَفْعَلْ أَفْعَلْ، قِيلَ: إِنَّ أَصْلَهَا. (مَا مَا فَقُلِبَتِ الْأَلِفُ الْأُولَى هَاءً، وَمَحَلُّهُ رَفْعٌ بِمَعْنَى أَيُّمَا شَيْءٍ كَانَ مِنَ الْعَيْنِ فَمِنَ اللَّهِ، فَإِنْ قُلْتَ: نِسْبَةُ الدَّمْعِ إِلَى الْعَيْنِ، وَالْقَوْلِ إِلَى اللِّسَانِ، وَالضَّرْبِ بِالْيَدِ، إِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَسْبِ فَالْكُلُّ يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ التَّقْدِيرِ فَمِنَ اللَّهِ، فَمَا وَجْهُ اخْتِصَاصِ الْبُكَاءِ بِاللَّهِ؟ قُلْتُ: الْغَالِبُ فِي الْبُكَاءِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا، فَالْأَدَبُ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ قَوْلِ الْخَنَا، وَالضَّرْبِ بِالْيَدِ عَنِ الْمُصِيبَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ اهـ.
وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ. قَالَ مِيرَكُ: وَلَعَلَّ إِسْنَادَ الْبُكَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ رَاضٍ بِهِ، وَلَا يُؤَاخِذُ بِهِ بِخِلَافِ مَا صَدَرَ مِنَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رَاضٍ بِهِمَا، وَالرَّحْمَنَ يُؤَاخِذُ بِهِمَا، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادُ مَا صَدَرَ مِنْهُمَا لِلْعَبْدِ حَتَّى يُقَالَ: إِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَسْبِ فَالْكُلُّ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّقْدِيرِ فَالْكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَأَمَّلْ اهـ. وَهِيَ مُنَاقَشَةٌ لَطِيفَةٌ، وَمُجَادَلَةٌ شَرِيفَةٌ، وَبَيَانُهَا أَنَّ تَرْدِيدَ الطِّيبِيِّ لَيْسَ عَلَى الطَّرِيقِ الْعُرْفِيِّ، فَإِنَّهُ لَا مِرْيَةَ أَنَّ الْكُلَّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا، وَبِكَسْبِ الْعَبْدِ ثَانِيًا، فَمَحَلُّ السُّؤَالِ، وَمَوْرِدُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ كَيْفَ نُسِبَ بَعْضُهَا إِلَى الرَّحْمَنِ، وَبَعْضُهَا إِلَى الشَّيْطَانِ، فَيُجَابُ أَنَّ بَعْضَهَا مُبَاحٌ أَوْ مَحْمُودٌ، فَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ لِإِبَاحَتِهِ بِهِ، أَوْ لِرِضَاهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، وَبَعْضُهَا مَعْصِيَةٌ فَيُنْسَبُ إِلَى الشَّيْطَانِ، حَيْثُ تَسَبَّبَ بِالْإِغْوَاءِ، وَحَصَلَ لَهُ بِهِ الرِّضَا، فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْعَذَابَ، هَذَا وَقَدْ يُقَالُ: دَمْعُ الْعَيْنِ، وَحُزْنُ الْقَلْبِ، لَيْسَا مِنَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي نِسْبَتِهِمَا إِلَى الصِّفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ الْحَدِيثِيَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ
) .
1749 -
وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهم ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رَفَعَتْ، فَسَمِعَتْ صَائِحًا يَقُولُ: أَلَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ آخَرُ: بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا.
ــ
1749 -
(وَعَنِ الْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا) أَيْ: بِلَا إِسْنَادٍ. (قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهم ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ) أَيِ: الْخَيْمَةَ. (عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً) الظَّاهِرُ أَنَّهُ لِاجْتِمَاعِ الْأَحْبَابِ لِلذِّكْرِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَحُضُورِ الْأَصْحَابِ لِلدُّعَاءِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَمَّا جَعْلُ فِعْلِهَا عَلَى الْعَبَثِ الْمَكْرُوهِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَغَيْرُ لَائِقٍ بِصَنِيعِ أَهْلِ الْبَيْتِ. (ثُمَّ رَفَعَتْ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ: أَمَرَتِ الْمَرْأَةُ بِرَفْعِهَا، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ لِلْمَفْعُولِ أَيْ: رُفِعَتِ الْخَيْمَةُ. (فَسَمِعَتْ) أَيِ: الْمَرْأَةُ. (صَائِحًا) أَيْ: هَاتِفًا غَيْبِيًّا. (يَقُولُ: أَلَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ. (هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ آخَرُ: بَلْ يَئِسُوا) وَالظَّاهِرُ سَئِمُوا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي صُورَةِ الْيَأْسِ قَالَ: يَئِسُوا. (فَانْقَلَبُوا) أَيْ: رَجَعُوا، قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ سَوَادِ بْنِ مُصْعَبٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَخَوَيْنِ كَانَا جَارَيْنِ لَهُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَجِدُ بِصِحَابِهِ وَجْدًا، لَا يُرَى مِثْلُهُ فَخَرَجَ الْأَكْبَرُ إِلَى أَصْفَهَانَ فَمَاتَ الْأَصْغَرُ، فَاخْتَلَفَ إِلَى قَبْرِهِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ مِنْ خَلْفِهِ يَوْمًا:
يَا أَيُّهَا الْبَاكِي عَلَى غَيْرِهِ
…
نَفْسَكَ أَصْلِحْهَا وَلَا تَبْكِهِ
إِنَّ الَّذِي تَبْكِي عَلَى أَثَرِهِ
…
تُوشِكُ أَنْ تَسْلُكَ فِي سِلْكِهِ
قَالَ: فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ خَلْفَهُ أَحَدًا، فَاقْشَعَرَّ وَحُمَّ فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا ثَلَاثًا حَتَّى مَاتَ، فَدُفِنَ إِلَى جَنْبِهِ اهـ. وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ أَوَّلًا، وَيَنْسُبَ الْحَدِيثَ إِلَيْهِ مُعَنْعَنًا، ثُمَّ يَقُولَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَدِيثِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.
1750 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، قَالَا:«خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ فَرَأَى قَوْمًا قَدْ طَرَحُوا أَرْدَيْتَهُمْ يَمْشُونَ فِي قُمُصٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَبِفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ تَأْخُذُونَ، أَوْ بِصَنِيعِ الْجَاهِلِيَّةِ تَشَبَّهُونَ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَدْعُوَ عَلَيْكُمْ دَعْوَةً تَرْجِعُونَ فِي غَيْرِ صُوَرِكُمْ، قَالَ: فَأَخَذُوا أَرْدِيَتِهِمْ، وَلَمْ يَعُودَا لِذَلِكَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1750 -
(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ قَالَا: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ، فَرَأَى قَوْمًا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ. (قَدْ طَرَحُوا أَرْدِيَتَهُمْ) أَيْ: وَضَعُوهَا مِنْ أَكْتَافِهِمْ. (يَمْشُونَ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ طَرَحُوا، أَوْ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِقَوْمًا (فِي قُمُصٍ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَمِيصٍ، يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشِّعَارَ الْمَعْرُوفَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ هُوَ الرِّدَاءُ فَوْقَ الْقَمِيصِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مُتَدَاخِلَةٌ لِأَنَّ يَمْشُونَ حَالٌ مِنَ الْوَاوِ فِي طَرَحُوا، أَوْ هُوَ مِنَ الْوَاوِ فِي يَمْشُونَ. وَقَالَ السَّيِّدُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَحْوَالًا مُتَرَادِفَةً مِنْ مَفْعُولِ رَأَى، فَإِنَّ قَوْلَهُ: قَدْ طَرَحُوا حَالٌ مِنْهُ، وَيَمْشُونَ حَالٌ أُخْرَى اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ قَوْمًا نَكِرَةٌ، وَشَرْطُ ذِي الْحَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، أَوْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً فَلَا يَبْقَى مُسَوِّغٌ هُنَا حِينَئِذٍ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَبِفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ: مِنْ تَغْيِيرِ الزِّيِّ الْمَأْلُوفِ عِنْدَ الْمَوْتِ (تَأْخُذُونَ) الْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ، وَمَحَلُّهُ الْفِعْلُ، وَقَدَّمَ الْجَارَّ لِبَيَانِ مَحَطِّ الْإِنْكَارِ. (أَوْ بِصَنِيعِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلشَّكِّ. (تَشَبَّهُونَ) أَيْ: تَتَشَبَّهُونَ فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (لَقَدْ هَمَمْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ: قَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَيْ: قَصَدْتُ. (أَنْ أَدْعُوَ عَلَيْكُمْ) أَيْ: بِالْمَضَرَّةِ. (دَعْوَةً) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ. (تَرْجِعُونَ) عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ أَيْ: تَصِيرُونَ أَوْ تُرَدُّونَ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ (فِي غَيْرِ صُوَرِكُمْ) أَيْ: بِالْمَسْخِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَضْمِينِ الرُّجُوعِ مَعْنَى صَارَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الصَّيْرُورَةَ هِيَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فَلَا تَضْمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: ضُمِّنَ الرُّجُوعُ مَعْنَى الْعَوْدِ فَعُدِّيَ بِفِي، ثُمَّ ضُمِّنَ الْعَوْدُ مَعْنَى التَّصْيِيرِ كَمَا فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ الْعَوْدَ حَقِيقَةٌ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَتَأَمَّلْ فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ الْأَقْدَامِ، وَمَعْثَرَةُ الْأَقْدَامِ. قَالَ: أَوْ تُحْمَلُ الصُّورَةُ عَلَى الصِّفَةِ وَالْحَالَةِ أَيْ: تَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ، كَمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ اهـ.
وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّقَابُلِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّ فِي بِمَعْنَى إِلَى، لَكِنْ لَا دَخْلَ لِلصُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ أَوَّلًا بِهَذَا الْقَوْلِ، بَلْ هُوَ قَوْلٌ مُقَابَلٌ فِيمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَسْخَ هَلْ هُوَ صُورِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ؟ قَالَ مِيرَكُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَرْجِعُونَ إِلَى بُيُوتِكُمْ فِي غَيْرِ
صُوَرِكُمْ، وَفِي غَيْرِ صُوَرِكُمْ حَالٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْوَجْهَيْنِ اهـ. وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ، وَتَقْدِيرٌ مُسْتَحْسَنٌ. (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي وَفِيهِ إِيهَامٌ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ اثْنَانِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَيُحْتَمَلُ قَالَ الرَّاوِي الشَّامِلُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا. (فَأَخَذُوا أَرْدِيَتَهُمْ وَلَمْ يَعُودُوا) أَيْ: لَمْ يَرْجِعُوا بَعْدَ ذَلِكَ. (لِذَلِكَ) أَيْ: إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، أَوْ لَمْ يَرْجِعُوا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الصَّادِرِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِذَا وَرَدَ فِي مِثْلِ أَدْنَى تَغْيِيرٍ مِنْ مَوْضِعِ الرِّدَاءِ عَنِ الْمَنْكِبِ هَذَا الْوَعِيدُ الْبَلِيغُ، فَكَيْفَ مَا يُشَاهَدُ مِنَ الْأُمُورِ الشَّنِيعَةِ؟ ! قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَرَسِّمُونَ بِرُسُومِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ تَرَكُوا الْمَنَادِيلَ الَّتِي عَلَى أَكْتَافِهِمُ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْأَصْلِ مَنْزِلَةَ الْأَرْدِيَةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَكَمَا أَنَّ أُولَئِكَ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى تَرْكِ مَنَادِيلِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ الْأَرْدِيَةِ اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: لُبْسُ الرِّدَاءِ سُنَّةٌ بِخِلَافِ الْمِنْدِيلِ عَلَى الْكَتِفِ، فَإِنَّهُ إِمَّا مُبَاحٌ أَوْ بِدْعَةٌ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَوَضْعُهُ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، مَعَ أَنَّ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَحْمَلًا آخَرَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّوَابِ: وَهُوَ جَعْلُهُمْ هَذَا عَلَامَةً تُبَيِّنُ الْمُصَابَ، وَأَيْضًا عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى تَعْزِيَتِهِمْ إِيَّاهُ، لَا يُمْكِنُ بَقَاءُ الْمِنْدِيلِ عَلَى كَتِفِهِ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ يَنْطَرِحُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الزِّحَامِ، وَقَدْ وَقَعَ لِي بِالْخُصُوصِ فِي تَعْزِيَةِ وَلَدِي وَثَمَرَةِ كَبِدِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَخَذْتُهُ مِنْ كَتِفِي، وَنَاوَلْتُهُ لِبَعْضِ الْخُدَّامِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
1751 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُتْبَعَ جَنَازَةٌ مَعَهَا رَانَّةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1751 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُتْبَعَ) بِالتَّخْفِيفِ وَتَشْدِيدٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُشَيَّعُ. (جَنَازَةٌ مَعَهَا رَانَّةٌ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ نَائِحَةٌ صَائِحَةٌ، وَفِي مَعْنَاهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا أَمْرٌ آخَرُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَهَذَا أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي عَدَمِ الْحُضُورِ عِنْدَ مَجْلِسٍ فِيهِ الْمَحْظُورُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .
1752 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: مَاتَ ابْنٌ لِي فَوَجَدْتُ عَلَيْهِ هَلْ سَمِعْتَ مِنْ خَلِيلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ شَيْئًا يَطَيِّبُ بِأَنْفُسِنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: نَعَمْ. سَمِعْتُهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ، يَلْقَى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ فَيَأْخُذُهُ بِنَاحِيَةِ ثَوْبِهِ، فَلَا يُفَارِقُهُ " حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ.
ــ
1752 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ) أَيْ: لِأَبِي هُرَيْرَةَ. (مَاتَ ابْنٌ لِي) أَيْ: صَغِيرٌ. (فَوَجَدْتُ) أَيْ: حَزِنْتُ. (عَلَيْهِ) حُزْنًا شَدِيدًا. (هَلْ سَمِعْتَ مِنْ خَلِيلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَسَلَامُهُ. (شَيْئًا يَطِيبُ بِأَنْفُسِنَا؟) بِالتَّخْفِيفِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ، فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَبِالتَّشْدِيدِ فَالْبَاءُ لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ أَعْنِي زِيَادَةَ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ أَمْرٌ مُطَّرِدٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُغْنِي وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ عِنْدَ مَنْ يَرَى زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ كَالْأَخْفَشِ فَوَهْمٌ مِنْهُ، لِانْتِقَالِهِ مِنَ الْبَاءِ إِلَى مِنْ أَيْ: يُسَلِّيهَا. (عَنْ مَوْتَانَا) أَيْ: مِنَ الصِّغَارِ. (قَالَ: نَعَمْ. سَمِعْتُهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صِغَارُهُمْ) أَيْ: صِغَارُ الْمُسْلِمِينَ. (دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ) فِي النِّهَايَةِ: جَمْعُ دُعْمُوصٍ، وَهِيَ دُوَيْبَّةٌ تَغُوصُ فِي الْمَاءِ، وَتَكُونُ فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ، وَالدُّعْمُوصُ أَيْضًا الدَّخَّالُ فِي الْأُمُورِ الدَّخُولُ عَلَى الْحُرَمِ، وَلَا يُحْتَجَبُ مِنْهُمْ. (يَلْقَى أَحَدُهُمْ) أَيْ: أَحَدُ الصِّغَارِ. (أَبَاهُ) أَيْ: فَكَيْفَ أُمُّهُ؟ ! وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمُقْتَضَى الْمَقَامِ، أَوْ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم اكْتِفَاءً بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ عَلَى الْمُرَامِ. (فَيَأْخُذُ بِنَاحِيَةِ ثَوْبِهِ) أَيْ: بِطَرَفِهِ. (فَلَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ) الْجَنَّةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ أَيْ: لِأَحْمَدَ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ لِهَذَا ذَكَرَ أَحْمَدَ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ بَعْدَ الشَّيْخَيْنِ أَحَدًا مِنَ الْمُخَرِّجِينَ لِظُهُورِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ إِذَا كَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
1753 -
ــ
1753 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ) أَيْ: فَازُوا وَظَفِرُوا بِهِ، وَنَحْنُ مَحْرُومَاتٌ مِنَ اغْتِنَامِهِ وَاكْتِسَابِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَخَذُوا نَصِيبًا، وَفَازُوا مِنْ مَوَاعِظِكَ. (فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ) بِسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ: مِنْ أَجْلِ انْتِفَاعِ ذَاتِكَ، وَبَرَكَاتِ كَلِمَاتِكَ يَوْمًا، وَلَوْ كَانَتِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْفَاءِ لَكَانَ وَجْهًا وَجِيهًا، وَعَلَى الْمَقْصُودِ تَنْبِيهًا نَبِيهًا، وَالْمَعْنَى: اجْعَلْ لَنَا مِنْ أَجْلِ سَمَاعِ أَحَادِيثِكَ النَّفْسِيَّةِ، وَأَقَاوِيلِكَ الْأَنِيسَةِ. (يَوْمًا) أَيْ: وَقْتًا مِنَ الْأَوْقَاتِ، أَوْ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً، أَوْ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: يَوْمًا أَيْ: نَصِيبًا، إِطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ، وَمِنْ نَفْسِكَ حَالٌ مِنْ يَوْمًا، وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيِ: اجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ مَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ. (نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ) أَقُولُ: يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهُ بِمَا قَبْلَهُ، أَوْ بِمَا بَعْدَهُ، أَوْ يَتَنَازَعَانِ فِيهِ. قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: نَأْتِيكَ فِيهِ آبَ مِنْ حَمْلِ الْيَوْمِ عَلَى النَّصِيبِ، قُلْتُ: أَبِي الْإِبَاءِ حَيْثُ قُدِّرَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَانْدَفَعَ بِهِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الِاسْتِخْدَامِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ مَا مَرَّ، وَهَهُنَا حَقِيقَةُ الزَّمَنِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: وَلَا أَدْرِي مَا الْبَاعِثُ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي: نِصْفُ الْعِلْمِ، وَنِصْفُهُ الْآخَرُ: أَنْ تَدْرِيَ أَنْ لَا مَعْنَى بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لِقَوْلِهِ: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ، فَأَوَّلَهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ كَمَا أَوَّلَهُ غَيْرُهُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ عَيِّنْ لَنَا مِنْ عِنْدِكَ يَوْمًا فِي الْأُسْبُوعِ، نَأْتِيكَ فِيهِ لِاسْتِمَاعِ حَدِيثِكَ، قُلْتُ: وُرُودُ النَّفْسِ بِمَعْنَى عِنْدَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لُغَةً وَعُرْفًا، فَالتَّخْطِئَةُ غَيْرُ صَوَابٍ، نَعَمْ هَذَا حَاصِلُ الْمَعْنَى، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَبْنَى ; وَلِذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكِرْمَانِيُّ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْهُ: الْجَعْلُ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، بِمَعْنَى فَعَلَ، وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ بِمَعْنَى صَيَّرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا لَازِمَةٌ وَهُوَ التَّعْيِينُ، وَيَوْمًا مَفْعُولٌ بِهِ لَا مَفْعُولٌ فِيهِ، وَ (مِنْ) فِي. (مِنْ نَفْسِكَ) ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِاجْعَلْ، يَعْنِي هَذَا الْجَعْلُ مَنْشَؤُهُ اخْتِيَارُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا اخْتِيَارُنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ وَقْتِ نَفْسِكَ بِإِضْمَارِ الْوَقْتِ، وَالظَّرْفُ صِفَةُ يَوْمًا، وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ اهـ. يَعْنِي وَمِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيِ: اجْعَلْ لَنَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَقْتًا مَا مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِذَاتِكَ الْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ جَزَّءَ أَوْقَاتَهُ فَجَعَلَ جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، وَجُزْءًا لِلنَّاسِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ. (فِي يَوْمِ كَذَا) أَيْ: فِي نَهَارِ كَذَا. (وَ) فِي وَقْتِ. (كَذَا) أَوْ فِي وَقْتِ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا. (فِي مَكَانِ كَذَا) أَيْ: مِنَ الْمَسْجِدِ أَوِ الْبَيْتِ. (وَكَذَا) أَيْ: مِنْ وَصْفِهِ بِمُقَدَّمِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ. (فَاجْتَمَعْنَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ. (فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ) صلى الله عليه وسلم فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ وَلَعَلَّ مَا أَتَاهُنَّ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَعَذَّرًا فَعَيَّنَ لَهُنَّ زَمَانًا مُعَيَّنًا، وَمَكَانًا مُبَيَّنًا، فَأَتَاهُنَّ فَلَا يُنَافِي مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ: مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ يُؤْتَى وَلَا يَأْتِي، أَوْ نَزَلَ تَعْيِينُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَهُنَّ، وَإِتْيَانُهُنَّ فِيهِمَا مَنْزِلَةَ إِتْيَانِهِنَّ الْعِلْمَ. (ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا) بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمِّ الْأَوَّلِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي أَيْ: مِنْ أَوْلَادِهَا مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. (ثَلَاثَةٌ إِلَّا كَانَ) أَيْ: تَقَدُّمُهُمْ وَمَوْتُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِلَّا كَانَ الْوَلَدُ بِمَعْنَى الثَّلَاثَةِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ مَبْنًى وَمَعْنًى. (لَهَا) أَيْ: لِلْمَرْأَةِ. (حِجَابًا) أَيْ: سَاتِرًا. (مِنَ النَّارِ. فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَيْنِ) عَطْفٌ تَلْقِينِيٌّ. (وَأَعَادَتْهَا) أَيِ: الْمَرْأَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ. (مَرَّتَيْنِ) أَوْ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ: أَوِ اثْنَيْنِ، أَوْ قُلْ: وَاثْنَيْنِ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ، وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ، أَوِ الْإِلْهَامِ، أَوْ نَظَرًا فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1754 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يُتَوَفَّى لَهُمَا ثَلَاثَةٌ إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَانِ؟ قَالَ: أَوِ اثْنَانِ. قَالُوا: أَوْ وَاحِدٌ؟ قَالَ: أَوْ وَاحِدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ السِّقْطَ لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسَرَرِهِ. إِلَى الْجَنَّةِ إِذَا احْتَسَبَتْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ.
ــ
1754 -
(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ) أَيْ: مِنَ الْوَالِدَيْنِ. (يُتَوَفَّى لَهُمَا ثَلَاثَةٌ) أَيْ: مِنَ الْوَلَدِ. (إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمَا) وَهُوَ لَا يُنَافِي سَبَبِيَّةَ أَوْلَادِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِيَّاهُمَا تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَدْخَلَهُمَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْمَصْدَرِ. (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوِ اثْنَانِ؟) عَطْفُ الْتِمَاسٍ. (قَالَ: أَوِ اثْنَانِ. قَالُوا: أَوْ وَاحِدٌ؟ قَالَ: أَوْ وَاحِدٌ) . وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي التَّقْيِيدِ بِالثَّلَاثَةِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ، وَلِيُلْجِئَهُمْ فِي إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ إِلَى السُّؤَالِ. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: تَتْمِيمًا وَمُبَالَغَةً فِي ثَوَابِ الْوَلَدِ مُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ. (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَيْ: رُوحِي أَوْ حَيَاتِي بِتَصَرُّفِ إِرَادَتِهِ، وَقَبْضِ قُدْرَتِهِ. (إِنَّ السِّقْطَ) بِالْكَسْرِ أَشْهَرُ مِنْ أُخْتَيْهِ، وَهُوَ مَوْلُودٌ غَيْرُ تَامٍّ. (لَيَجُرُّ أُمَّهُ) أَيْ: لَيَسْحَبُهَا. (بِسَرَرِهِ) بِفَتْحَتَيْنِ وَكَسْرِهَا لُغَةٌ فِي السِّينِ، وَهُوَ مَا تَقْطَعُهُ الْقَابِلَةُ مِنَ السُّرَّةِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ: مَا يَبْقَى بَعْدَ الْقَطْعِ اهـ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِيدُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ كَالْأَظَافِرِ الْمَقْلُوعَةِ، وَالْأَشْعَارِ الْمَقْطُوعَةِ وَالْقُلْفَةِ، وَغَيْرِهَا. (إِلَى الْجَنَّةِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ بَالِغَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الطِّفْلَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بِالْقَلْبِ كَبِيرُ تَعَلُّقٍ إِذَا كَانَ هَذَا ثَوَابُهُ فَكَيْفَ بِثَوَابِ مَنْ تَعَلَّقَ الْقَلْبُ بِهِ تَعَلُّقًا كُلِّيًّا، حَتَّى صَارَ أَعَزَّ مِنَ النَّفْسِ عِنْدَهَا؟ ! وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ: السَّرَرُ بِالْمُصْرَانِ الْمُتَّصِلِ بِسُرَّتِهِ وَبَطْنِ أُمِّهِ، فَغَرِيبٌ مُخَالِفٌ لِلْعِلَّةِ. (إِذَا احْتَسَبَتْهُ) أَيْ: إِذَا عَدَّتْ أَمُّهُ مَوْتَهُ ثَوَابًا، وَصَبَرَتْ عَلَى فِرَاقِهِ احْتِسَابًا. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ: مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ. (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) .
1755 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا مِنَ النَّارِ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ. قَالَ: وَاثْنَيْنِ. قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَبُو الْمُنْذِرِ سَيِّدُ الْقُرَّاءِ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا. قَالَ: وَوَاحِدًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1755 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مَنْ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنِسْبَةُ التَّقَدُّمِ إِلَيْهِ مَجَازٌ ; لِأَنَّهُ سَبَبُهُ اهـ. وَفِي أَنَّ الْأَبَ وَالْأُمَّ سَبَبَانِ لِوُجُودِهِ لَا لِتَقْدِيمِهِ بِالْمَوْتِ عَلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ قَدَّمَ صَبْرَ ثَلَاثَةٍ مِنَ الْوَلَدِ عِنْدَ فَقْدِهِمْ، وَاحْتَسَبَ ثَوَابَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، أَوِ الْمُرَادُ بِالتَّقْدِيمِ لَازِمُهُ، وَهُوَ التَّأَخُّرُ أَيْ: مَنْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ مَوْتِ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ الْمُقَدَّمِينَ عَلَيْهِمْ. (لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ) أَيِ: الذَّنْبَ أَوِ الْبُلُوغَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَيْدٌ لِلْكَمَالِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ عَلَيْهِمْ أَرَقَّ، وَالصَّبْرُ عَنْهُمْ أَشَقَّ، وَشَفَاعَتُهُمْ أَرْجَى وَأَسْبَقَ. (كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا) أَيْ: حِصَارًا مُحْكَمًا وَحَاجِزًا مَانِعًا. (مِنَ النَّارِ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ) أَيْ: فَمَا حُكْمُهُ؟ (قَالَ: وَاثْنَيْنِ) أَيْ: وَكَذَا مَنْ قَدَّمَ اثْنَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: زِدْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْبِشَارَةِ فَإِنِّي قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ، أَيْ: وَمَنْ قَدَّمَ اثْنَيْنِ؟ وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْدِيرِ حَيْثُ قَالَ: فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ قَدَّمَ اثْنَيْنِ؟ فَإِنِّي قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ. قَالَ: يَحْصُلُ لَكَ ذَلِكَ وَإِنْ قَدَّمْتَ اثْنَيْنِ اهـ. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مُطَابِقٍ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِحَسَبِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. (قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: أَبُو الْمُنْذِرِ) بَدَلٌ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ مَدْحٌ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. (سَيِّدُ الْقُرَّاءِ) بِشَهَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ. (قَدَّمْتُ وَاحِدًا. قَالَ: وَوَاحِدًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ، هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
1756 -
ــ
1756 -
(وَعَنْ قُرَّةَ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَتُحِبُّهُ؟) أَيْ: حُبًّا بَالِغًا حَيْثُ يَصْحَبُكَ دَائِمًا. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ) وَفِيهِ غَايَةٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ مَحَبَّتِهِ لِوَلَدِهِ، حَيْثُ جَعَلَهَا مُشَبَّهَةً بِحُبِّهِ اللَّهَ، وَأَوْرَدَهَا بِصِيغَةِ الدُّعَاءِ. (فَفَقَدَهُ) أَيِ: ابْنَهُ مَعَهُ. (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ فَقَدَهُ أَيْضًا. (فَقَالَ: مَا فَعَلَ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ. (ابْنُ فُلَانٍ؟ أَيْ: مَا جَرَى لَهُ مِنَ الْفِعْلِ؟ (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَ) . أَيِ: ابْنُهُ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: عِنْدَ حُضُورِ أَبِيهِ. (أَمَا تُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ) أَيِ: ابْنَكَ. (يَنْتَظِرُكَ) ؟ لِيَشْفَعَكَ وَلِيُدْخِلَهَا مَعَكَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خَرْقِ الْعَادَةِ مِنْ تَعَدُّدِ الْأَجْسَادِ الْمُكْتَسَبَةِ، حَيْثُ إِنَّ الْوَلَدَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَنْتَظِرُكَ أَيْ: مُفَتِّحًا لَكَ مُهَيِّئًا لِدُخُولِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] فَاسْتُعِيرَ لِلْفَتْحِ الِانْتِظَارُ مُبَالَغَةً اهـ. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى. (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُ خَاصَّةً) أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ. (أَمْ لِكُلِّنَا؟) أَيْ: أَمْ هُوَ عَامَّةٌ لِجَمِيعِنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ. (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَالَ. (بَلْ لِكُلِّكُمْ) أَيْ: كَافَّةً. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
1757 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ السِّقْطَ لَيُرَاغِمُ رَبَّهُ إِذَا أَدْخَلَ أَبَوَيْهِ النَّارَ، فَقَالَ: أَيُّهَا السِّقْطُ الْمُرَاغِمُ رَبَّهُ أَدْخِلْ أَبَوَيْكَ الْجَنَّةَ، فَيَجُرُّهُمَا بِسَرَرِهِ حَتَّى يُدْخِلَهُمَا الْجَنَّةَ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1757 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ السِّقْطَ) بِالْكَسْرِ أَيِ: الْوَلَدَ السَّاقِطَ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. (لَيُرَاغِمُ) أَيْ: يُجَادِلُ وَيُخَاصِمُ. (رَبَّهُ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: هُنَا تَخْيِيلٌ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحِقْوِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: مَهْ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكُمْ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ. أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ فَقَالَتْ: بَلَى» . الْحَدِيثَ اهـ. وَفِيهِ أَنْ لَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّخْيِيلِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى التَّحْقِيقِ، بِلَا مَانِعٍ وَصَارِفٍ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ، وَأَمَّا حَدِيثُ الرَّحِمِ فَمِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَالرَّحِمُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، فَإِمَّا أَنْ يُتْرَكَ عَلَى حَالِهِ وَلَا يَنْصَرِفَ فِي مِنْوَالِهِ كَمَا هُوَ طَرِيقُ السَّلَفِ، أَوْ يُؤَوَّلُ عَلَى دَأْبِ الْخَلَفِ، مَعَ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمَعَانِيَ لَهَا حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ يَجْعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى صُوَرًا وَأَجْسَامًا، وَيَجْعَلَهَا نَاطِقَةً وَسَائِلَةً وَمُجِيبَةً، وَأَمْثَالَ ذَلِكَ. (إِذَا أَدْخَلَ) أَيْ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِقَوْلِهِ الْآتِي: أَدْخِلْ أَبَوَيْكَ. (أَبَوَيْهِ النَّارَ، فَيُقَالُ: أَيُّهَا السِّقْطُ الْمُرَاغِمُ رَبَّهُ أَدْخِلْ أَبَوَيْكَ أَيْ: كُنْ سَبَبًا لِدُخُولِ أَبَوَيْكَ. (الْجَنَّةَ ; فَيَجُرُّهُمَا بِسَرَرِهِ حَتَّى يُدْخِلَهُمَا الْجَنَّةَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
1758 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: " ابْنَ آدَمَ، إِنْ صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى لَمْ أَرْضَ لَكَ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1758 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،) عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: ابْنَ آدَمَ، بِالنَّصْبِ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ: يَا ابْنَ آدَمَ. (إِنْ صَبَرْتَ) أَيْ: عَلَى الْبَلَاءِ. (وَاحْتَسَبْتَ) أَيْ: طَلَبْتَ الثَّوَابَ مِنَ الْمَوْلَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الصَّبْرِ الْمَحْمُودِ احْتِسَابُ الثَّوَابِ، وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ. (عِنْدَ الصَّدْمَةِ) أَيِ: الْجُمْلَةُ. (الْأُولَى لَمْ أَرْضَ لَكَ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ) أَيْ: غَيْرَ نَعِيمِهَا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .