الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1332 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لَعَبْدٍ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا، وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي صَلَاتِهِ، وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ "، يَعْنِي الْقُرْآنَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
1332 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا أَذِنَ اللَّهُ) : مِنْ أَذِنْتُ الشَّيْءَ أَصْغَيْتُ لَهُ، وَالْمُرَادُ هُنَا غَايَةُ الْإِصْغَاءِ، وَهِيَ الْإِقْبَالُ بِاللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّضَا، أَيْ: مَا قَبِلَ (لِعَبْدٍ فِي شَيْءٍ)، أَيْ: مِنَ الْعِبَادَاتِ (أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا) : يَعْنِي: أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةَ، كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، أَيْ: خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا وَضَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ لِيَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ:(أَذِنَ) الْمُفَسَّرُ (بِأَقْبَلَ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ فِي مُنَاجَاتِهِ مَعَ رَبِّهِ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ وَلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ. (وَإِنَّ الْبِرَّ لَيُذَرُّ) : بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: يُنْثَرُ وَيُفَرَّقُ مِنْ قَوْلِهِمْ: ذَرَرْتُ الْحَبَّ وَالْمِلْحَ، أَيْ: فَرَّقْتُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَيُدَرُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا، أَيْ: لَيُنَزَّلُ وَهُوَ مَشَاكِلٌ لِلصَّوَابِ، لَكِنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَالرِّوَايَةُ هُوَ الْأَوَّلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ هُوَ الرِّوَايَةَ أَنْسَبُ مِنَ الدَّرِّ بِالْمُهْمَلَةِ ; لِأَنَّهُ أَشْمَلُ مِنْهُ لِاخْتِصَاصِ الدَّرِّ، أَيِ: الصَّبُّ بِالْمَائِعِ وَعُمُومِ الذَّرِّ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الدَّرُّ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ تَصْحِيفٌ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُشَاكِلٌ إِلَّا أَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تُسَاعِدْهُ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ ; لِأَنَّ الْأَنْسَبَ بِالْمَقَامِ تَخْرِيجُهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِمَلِكٍ كَرِيمٍ أَرَادَ الْإِحْسَانَ إِلَى عَبْدٍ أَحْسَنَ خِدْمَتَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَاللَّائِقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ بِنَثْرِ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ عَلَى رَأْسِهِ إِعْظَامًا لَهُ، وَإِشْهَارًا لِمَرْتَبَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ ذِكْرُ الرَّأْسِ فِي قَوْلِهِ:(عَلَى رَأْسِ الْعَبْدِ)، أَيْ: يُنَزِّلُ الرَّحْمَةَ وَالثَّوَابَ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْبِرِّ عَلَى الْمُصَلِّي، (مَا دَامَ فِي صِلَاتِهِ، وَمَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ)، أَيْ: مَا طَلَبَ الْعِبَادُ شَيْئًا مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ (إِلَى اللَّهِ)، أَيْ: مِنَ الْأَذْكَارِ الَّتِي لَمْ تُخَصَّ وَحْدَهَا بِزَمَنٍ أَوْ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْ مُطْلَقِ الْقُرْبَانِ (بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ)، أَيْ: ظَهَرَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَرَائِعِهِ وَمِنْ أَحْكَامِهِ، وَقِيلَ: مَا خَرَجَ مِنْ كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: مِنْ عِلْمِهِ الْكَامِلِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَمَعْنَى خُرُوجِهِ مِنْهُ ظُهُورُهُ عَلَى لِسَانِهِ مِمَّا هُوَ مَحْفُوظٌ فِي صَدْرِهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: كَلَامُ اللَّهِ خَرَجَ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، أَيْ: بِهِ أَمَرَ وَنَهَى، ثُمَّ يُحَاسِبُ عَمَّا وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، أَوْ أَنْزَلَهُ حُجَّةً لِلْخَلْقِ، وَعَلَيْهِمْ لِيُكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، ثُمَّ مَآلُ تَبَيُّنِ حَقِيقَتِهِ وَظُهُورِ صِدْقِ مَا نَطَقَ بِهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يَقُولُ: يَا رَبَّ الْقُرْآنِ، قَالَ: مِهْ، أَمَا عَلِمَتْ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْهُ، أَيْ إِنَّهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالرُّبُوبِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُدُوثِهِ وَانْفِصَالِهِ عَنِ الذَّاتِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ. (يَعْنِي الْقُرْآنَ) : وَهَذَا تَفْسِيرُ بَعْضِ الرُّوَاةِ لَا الصَّحَابِيِّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ أَبُو النَّصْرِ، وَقِيلَ: مَا خَرَجَ مِنَ الْعَبْدِ وَهُوَ مَا هُوَ مَتْلُوٌّ عَلَى لِسَانِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ هَذَا التَّفْسِيرَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُفَسِّرَ مَنْ هُوَ، وَالْحَدِيثُ نَقَلَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ أَبُو نَصْرٍ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَسَامَحُ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ التَّفْسِيرَ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابِيِّ، فَيُجْعَلُ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .
[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]
[41]
بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ
الفصلُ الْأَوَّلُ
1333 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[41]
بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ
السَّفَرُ لُغَةً: قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ قَطْعٍ تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ جَوَازِ الْإِفْطَارِ وَقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ شَرْعًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ مَسَافَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ وَلَيَالِيهَا بِسَيْرٍ وَسَطٍ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: هُوَ مَسِيرَةُ مَرْحَلَتَيْنِ بِسَيْرِ الْأَثْقَالِ، وَذَلِكَ يَوْمَانِ أَوْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٍ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا أَرْبَعَ بُرَدٍ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُقَصِّرُ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ، وَقَالَ دَاوُدُ: يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1333 -
(عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا) ، أَيْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَرَادَ فِيهِ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، (وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ) : وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورُ الْآنَ بِبِئْرِ عَلِيٍّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذُو الْحُلَيْفَةِ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ لِلْمُهْمِلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيُسَمِّيهَا الْعَوَامُّ أَبْيَارِ عَلِيٍّ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ قَاتَلَ فِي بِئْرِهَا الْجَانَّ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ. (رَكْعَتَيْنِ) ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي السَّفَرِ. أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ بُنْيَانَ الْبَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقَصِّرُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمَصَرِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ مَنْزِلِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَوْ جَاوَزَنَا هَذَا الْخُصَّ لَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاحْتَجَّ بِهِ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُمْ ; لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ قَاصِدًا مَكَّةَ، لَا أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ غَايَةُ سَفَرِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، قَالَهُ مِيرَكُ.
1334 -
وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمِنًا، رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1334 -
(وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا) : بِالرَّفْعِ، وَقِيلَ: بِالنَّصْبِ، فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ نَحْنُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ ; لِأَنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ يَكُونُ جَمْعًا. (قَطُّ) : ظَرْفٌ بِمَعْنَى الدَّهْرِ، وَالزَّمَانُ مُتَعَلِّقٌ بَكُنَّا.
قَالَ الْأَشْرَفُ: قَطُّ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي الْمَنْفِيِّ، وَلَا مَنْفِيَّ هُنَا، فَتَقْدِيرُهُ مَا كُنَّا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا آمَنُهُ قَطُّ. (وَآمَنُهُ) : عَطْفٌ عَلَى (أَكْثَرُ) وَقَطُّ مُقَدَّرٌ هَاهُنَا، وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا كُنَّا، وَالْوَاوُ فِي " وَنَحْنُ " لِلْحَالِ الْمُعْتَرِضَةِ بَيْنَ صَلَّى وَمَعْمُولِهِ، وَهُوَ (بِمِنًا) : بِالِانْصِرَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ " بِمِنَى " غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ قَصَدَ إِلَى الْبُقْعَةِ لَا يَنْصَرِفُ، وَيُكْتَبُ بِالْيَاءِ وَإِنْ قَصَدَ بِالْمَوْضِعِ يَنْصَرِفُ وَيُكْتَبُ بِالْأَلْفِ وَالْأَغْلَبُ تَذْكِيرُهُ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يُمْنَى فِيهِ مِنَ الدِّمَاءِ، أَيْ: يُرَاقُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ تَعَالَى يَمُنُّ فِيهَا عَلَى عِبَادِهِ بِالْمَغْفِرَةِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْمِنَحِ، وَالْقِيلُ لَا يُلَائِمُ مَادَّةَ الِاشْتِقَاقِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ جِبْرِيلَ لِمَا أَرَادَ مُفَارَقَةَ آدَمَ قَالَ لَهُ: تَمَنَّ قَالَ: أَتَمَنَّى الْجَنَّةَ، أَوْ لِتَقْدِيرِ اللَّهِ فِيهِ الشَّعَائِرَ مِنْ مِنًى، أَيْ: قَدَّرَ، وَالْمَعْنَى صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ أَنَّا بِمَنًا. (رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْثَرُ أَكْوَانِنَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ عَدَدًا، وَأَكْثَرُ أَكْوَانِنَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ أَمْنًا، وَإِسْنَادُ الْأَمْنِ إِلَى الْأَوْقَاتِ مَجَازٌ كَذَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ شَارِحٌ: ضَمِيرُ آمَنُهُ عَائِدٌ إِلَى " مَا " إِنْ كَانَتْ مَوْصُوفَةً تَقْدِيرُهُ: وَنَحْنُ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ عَدَدٍ كُنَّا قَبْلَ إِيَّاهُ، وَآمَنُ عَدَدٍ كُنَّا قَبْلَ إِيَّاهُ، وَإِلَى الْمَصْدَرِ الْمُقَدَّرِ إِنْ كَانَ " مَا " مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: وَنَحْنُ أَكْثَرُ كوْنٍ، أَيْ وُجُودٍ، وَآمَنُ كَوْنٍ مَا كُنَّا قَبْلُ، وَجِيءَ بِ (قَطُّ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النَّفْيِ، أَيْ: مَا كُنَّا قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَدَدِ وَمِثْلَ ذَلِكَ الْأَمْنِ قَطُّ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ: وَرُوِيَ: أَمَنَةٌ جَمْعُ آمِنٍ كَطَلَبَةٍ وَطَالِبٍ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ بِمَعْنَى كَثِيرٍ، " وَمَا " نَافِيَةٌ، وَخَبَرُ كُنَّا مَحْذُوفٌ، أَيْ: وَنَحْنُ كَثِيرُونَ مَا كُنَّا مِثْلَ ذَلِكَ قَطُّ وَنَحْنُ أَمَنَةٌ.
وَقَالَ الْأَبْهَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا " نَافِيَةٌ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، أَوْ أَكْثَرَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ كَانَ، وَيَجُوزُ إِعْمَالٌ مَا فِيمَا قَبْلَهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى لَيْسَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَنَحْنُ مَا كُنَّا قَطُّ فِي وَقْتٍ أَكْثَرَ مِنَّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلَا آمَنَ مِنَّا فِيهِ مِنَ الْأَمَانِ، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آمَنُهُ فِعْلًا مَاضِيًا، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَيِ: آمَنَ اللَّهُ نَبِيَّهَ حِينَئِذٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ (أَكْثَرَ) خَبَرَ كَانَ ; إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَعْطِفَ وَآمَنُهُ عَلَى أَكْثَرَ وَهُوَ تَعَسُّفٌ جَدًّا، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ. أَعْلَمُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ رُخْصَةٌ أَوْ عَزِيمَةٌ؟ فَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الثَّانِي، وَغَيْرُهُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُخْتَصُّ بِالْخَوْفِ، وَلَا تَجُوزُ الرُّخَصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُعَارِضُهُ تَقْيِيدُ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ بِالْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسَافِرِينَ حَالَ نُزُولِهَا فِي الْخَوْفِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وَفِي هَذَا غَايَةُ الْفَخَامَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم ; حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ قَيْدَ تَوْسِعَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ وَإِعْلَامًا بِأَنَّ فِعْلَهُ مَنْسُوبٌ إِلَى رَبِّهِ ; لِأَنَّهُ خَبَرُهُ فِي خَلْقِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سَفَرُ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ سَوَاءٌ فِي الرُّخَصِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَهُ مِيرَكُ.
1335 -
وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، قَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى، فَقَالَ:" «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1335 -
(وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ) : مُصَغَّرًا قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَالطَّائِفَ، وَتَبُوكَ. (قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَقْصُرُوا} [النساء: 101]، أَيْ:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101]، أَيْ سَافَرْتُمْ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النساء: 101] {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ) ، أَيْ: وَذَهَبَ الْخَوْفُ فَمَا وَجْهُ الْقَصْرِ؟ (قَالَ عُمَرُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ) : أَنْتَ (مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى، فَقَالَ: " صَدَقَةٌ)، أَيْ: قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ صَدَقَةٌ، قَالَ: ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ رُخْصَةٌ لَا وَاجِبٌ، وَإِلَّا لَمْ يُسَمَّ (صَدَقَةٌ)، قَلْتُ: الصَّدَقَةُ أَعَمُّ، قَالَ تَعَالَى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60](تَصَدَّقَ اللَّهُ)، أَيْ: تَفَضَّلَ (بِهَا عَلَيْكُمْ)، أَيْ: تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً (فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ)، أَيْ: سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَوْفُ أَمْ لَا. وَإِنَّمَا قَالَ فِي الْآيَةِ: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ; لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ، فَحِينَئِذٍ لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَصْرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ خَوَّفَ وَأَمَرَ، فَاقْبَلُوا ظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ، فَيُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ وَالْإِتْمَامُ إِسَاءَةٌ. وَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَكْثَرُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْقَصْرِ، وَرَدُّ ابْنِ حَجَرٍ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ.
1336 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، قِيلَ لَهُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قَالَ: " أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1336 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمَدِينَةِ)، أَيْ: مُتَوَجِّهِينَ (إِلَى مَكَّةَ)، أَيْ: لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (فَكَانَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: بِالْوَاوِ (يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) ، أَيْ فِي الرُّبَاعِيَّةِ (حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ)، أَيْ: حَتَّى قَصَّرَ فِي مَكَّةَ أَيْضًا (قِيلَ لَهُ: أَقَمْتُمْ) ، أَيْ تَوَقَّفْتُمْ (بِمَكَّةَ شَيْئًا؟)، أَيْ: مِنَ الْأَيَّامِ. (قَالَ: " أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا) : قَالَ الْمُظْهِرُ، أَيْ عَشْرَ لَيَالٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ مِنَ اللَّيَالِي، أَوْ مِنَ الْأَيَّامِ، وَحُذِفَتِ التَّاءُ ; لِأَنَّ الْمَعْدُودَ إِذَا حُذِفَ جَازَ حَذْفُهَا وَإِثْبَاتُهَا اهـ.
وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ إِذَا أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَجِبُ الْإِتْمَامُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَصِّرُ مَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمَا قَالَا: إِذَا قَدِمْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ، وَفِي نَفْسِكَ أَنْ تُقِيمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلِ الصَّلَاةَ بِهَا، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تُظْعِنُ فَاقْصُرْهَا، قَالَ: وَالْأَثَرُ فِي مَثَلِهِ كَالْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: ارْتَجَّ عَلَيْنَا الثَّلْجُ، وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي غَزَاةٍ، فَكُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ بِبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ سِنِينَ، فَكَانَ لَا يَجْمَعُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. وَأُخْرِجَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالشَّامِ شَهْرَيْنِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ قَوْلُهُ: بِهَا أَطْلَقَهُ عَلَى مَا يُنْسَبُ إِلَيْهَا إِذْ لَمْ يَقُمِ الْعَشْرَ الَّتِي أَقَامَهَا لِحِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُ دَخَلَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَرَجَ مِنْهَا صَبِيحَةَ الْخَمِيسِ، فَأَقَامَ بِمِنًى وَالْجُمُعَةُ بِنَمِرَةَ وَعَرَفَاتٍ، ثُمَّ عَادَ السَّبْتَ بِمِنًى لِقَضَاءِ نُسُكِهِ، ثُمَّ بِمَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، ثُمَّ بِمِنًى يَوْمُهُ فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّتَهُ، وَالْأَحَدُ وَالِاثْنَيْنُ وَالثُّلَاثَاءُ إِلَى الزَّوَالِ ثُمَّ نَفَرَ، فَنَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ وَطَافَ فِي لَيْلَتِهِ لِلْوَدَاعِ، ثُمَّ رَحَلَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلْتُفَرَّقْ إِقَامَتُهُ قَصْرٌ فِي الْكُلِّ، وَبِهَذَا أَخَذْنَا أَنَّ لِلْمُسَافِرِ إِذَا دَخَلَ مَحَلًّا أَنْ يُقَصِّرَ فِيهِ مَا لَمْ يَصِلْ وَطَنَهُ أَوْ يَنْوِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، أَوْ يُقِيمُهَا. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا، وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْإِقَامَةُ بِمَكَّةَ وَمُسَاكَنَةُ الْكُفَّارِ كَمَا رَوَيَاهُ أَيْضًا، فَالْإِذْنُ فِي الثَّلَاثَةِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ السَّفَرِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَرْبَعَةِ، وَمِنْ ثَمَّ صَحَّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ مَنَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْإِقَامَةَ بِالْحِجَازِ، ثُمَّ أَذِنَ لِتَاجِرِهِمْ أَنْ يُقِيمَ ثَلَاثًا، وَفِي مَعْنَاهَا مَا فَوْقَهَا وَدُونَ الْأَرْبَعَةِ هـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِي مَأْخَذِ الِاسْتِدْلَالِ مِنَ الْخَفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، قَالَهُ مِيرَكُ.
1337 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَفَرًا، فَأَقَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ نُصَلِّي فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَكَّةَ، تِسْعَةَ عَشَرَ، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا أَقَمْنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1337 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَافَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَفرًا، فَأَقَامَ)، أَيْ: لَبِثَ النَّبِيُّ
(تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا) : لِشُغْلٍ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ (يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ) : وَبِهَذَا جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ الْقَصْرَ إِلَى تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا اهـ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُنَافِي قَوْلَهُمُ الْمُعْتَمَدَ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ أَنَّهُ إِذَا زَادَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ.
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) : اسْتِنْبَاطًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ (فَنَحْنُ نُصَلِّي فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَكَّةَ، تِسْعَةَ عَشَرَ) ، أَيْ يَوْمًا (رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا أَقَمْنَا)، أَيْ: مَكَثْنَا (أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَدِ السَّابِقِ الْإِقَامَةُ فِيهِ لَا السَّيْرُ، يَعْنِي: نَحْنُ إِذَا أَقَمْنَا فِي مَنْزِلٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا أَقَمْنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ نُصَلِّي أَرْبَعًا، وَلَعَلَّ يَوْمَ النُّزُولِ وَالرَّحِيلِ دَاخِلٌ فِيهَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالُوا: هَذَا مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالَّذِي قَالَهُ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ أَقَامَ التِّسْعَةَ عَشَرَ لِكَوْنِهِ كَانَ مُحَاصِرًا لِلطَّائِفِ، أَوْ حَرْبِ هَوَازِنَ يَنْتَظِرُ الْفَتْحَ كُلَّ سَاعَةٍ، ثُمَّ يَرْحَلُ، فَلَمْ يَكُنْ مُقِيمًا حَقِيقَةً لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تَوَقُّفِهِ الْخُرُوجَ مَتَى انْقَضَتْ حَاجَتُهُ، وَهِيَ الْفَتْحُ، وَمِنْهُ وَمِنْ خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ تُجْبِرُ مَا فِي سَنَدِهِ مِنَ الضَّعْفِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَقَامَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِمَكَّةَ.
1338 -
ــ
1338 -
(وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، رضي الله عنه قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ)، أَيْ: رَافَقْتُهُ (فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ رَحْلَهُ)، أَيْ: مَسْكَنَهُ، وَمَا يَسْتَصْحِبُهُ مِنَ الْأَثَاثِ (وَجَلَسَ فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا) : جَمْعُ قَائِمٍ، أَيْ: قَائِمِينَ لِلصَّلَاةِ، (فَقَالَ) : إِنْكَارًا (مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ)، أَيْ: يَتَنَفَّلُونَ، وَقِيلَ: يُصَلُّونَ السُّبْحَةَ وَهِيَ صَلَاةُ الضُّحَى (قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا) ، أَيْ مُصَلَّيًا النَّافِلَةَ فِي السَّفَرِ (أَتْمَمْتُ صَلَاتِي)، أَيِ: الْمَكْتُوبَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا يُتَنَفَّلَ فِي السَّفَرِ. (صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ)، أَيْ: وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ (وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، رضي الله عنهم، كَذَلِكَ)، أَيْ: كَانُوا لَا يَزِيدُونَ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَهَذِهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْقَصْرِ تُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنِ اخْتَارَ أَنْ لَا يُتَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ لَا لِلرُّخْصَةِ، كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضٌ، يَعْنِي: لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ النَّفْلِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الرَّوَاتِبِ فِي حَدِيثِهِ الْآتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
1339 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْن [صَلَاةِ] الظُّهْرِ وَالْعَصْر إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1339 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ» )، أَيْ: جَمْعَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ (إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ)، أَيْ: جَنَاحِ سَفَرٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقْحَمَ (ظَهْرِ) تَأْكِيدًا، وَقِيلَ جَعَلَ لِلسَّيْرِ ظَهْرًا ; لِأَنَّ السَّائِرَ مَا دَامَ عَلَى سَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ رَاكِبٌ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى تَارَةً يَنْوِي تَأْخِيرَ الظُّهْرِ لِيُصَلِّيَهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَتَارَةً يُقَدِّمُ الْعَصْرُ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيُؤَدِّيهَا بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ، وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهِ وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ. (وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ)، أَيْ: كَذَلِكَ، وَبُسِطَ هَذَا الْمَبْحَثُ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ.
1340 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1340 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ)، أَيْ: ظَهْرِ دَابَّتِهِ (حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ) : قِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى حَيْثُ، أَوْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْعَائِدُ إِلَى حَيْثُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: إِلَيْهِ (يُومِئُ) : بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ مَنْ أَوْمَأَ، وَيُبْدَلُ، أَيْ يُشِيرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يُصَلِّي، وَكَذَا عَلَى رَاحِلَتِهِ (إِيمَاءً)، أَيْ: بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (صَلَاةَ اللَّيْلِ) : مَفْعُولُ يُصَلِّي (إِلَّا الْفَرَائِضَ) : مُسْتَثْنَى مِنْ (صَلَاةَ اللَّيْلِ) قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَيَعْنِي أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْأَتَمُّ أَنْ يُجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، فَإِنَّ الْفَرَائِضَ كُلَّهَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا عَلَى الدَّابَّةِ إِلَّا لِعُذْرٍ. (وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوِتْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّمَا يَتَمَشَّى إِذَا اتَّحَدَ مَعْنَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَالْوَجْهُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُحَكَّمَ الْوِتْرُ، وَيُؤَكَّدَ، ثُمَّ أُكِّدَ مِنْ بَعْدُ وَلَمْ يُرَخَّصْ فِي تَرْكِهِ وَقَالَ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَيُوتِرُ بِالْأَرْضِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
1341 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كُلَّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَتَمَّ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
1341 -
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُلَّ) : بِالنَّصْبِ وَيُرْفَعُ (ذَلِكَ) : إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ سَائِلٍ عَنْهُمَا، وَكُلَّ مَفْعُولُ قَوْلِهِ:(قَدْ فَعَلَ) : أَوْ مُبْتَدَأٌ عَلَى حَذْفِ الْعَائِدِ، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ فَعَلَهُ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَمْرٍ مُبْهَمٍ لَهُ شَأْنٌ لَا يُدَرَى إِلَّا بِتَفْسِيرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهَا: (قَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَتَمَّ)، أَيْ: قَصَرَ الرُّبَاعِيَّةَ فِي السَّفَرِ وَأَتَمَّهَا، وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْإِتْمَامِ عَلَى مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فِي السَّفَرِ، أَوْ مَعْنَى الْإِتْمَامِ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُنْقِصْهُ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَبَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا فِي السَّفَرِ، وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، فَيَكُونُ عَطْفَ تَفْسِيرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الْإِتْمَامُ بَلْ يَأْثَمُ. (رَوَاهُ)، أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِي سَنَدِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى اهـ. فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا يَتِمُّ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ حَدِيثُ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ، وَالْبَيْهَقِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ، فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ، وَقَصَّرَ وَأَتْمَمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَصَّرْتَ وَأَتْمَمْتُ وَأَفْطَرْتَ وَصُمْتُ، قَالَ: " أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ " وَمَا عَابَ عَلَيَّ» ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عُمْرَةُ رَمَضَانَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ عُمْرَةَ رَمَضَانَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَّا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كُلُّهُنَّ فِي الْقِعْدَةِ، نَعَمْ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ الَّتِي مَعَ حِجَّتِهِ كَانَتْ فِي الْحِجَّةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْ خَبَرِهَا أَيْضًا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَهَا " أَحْسَنْتِ "، أَيْ: فَعَلْتِ فِعْلًا جَائِزًا إِذْ لَا يَحْسُنُ حَمْلُهُ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُخَالِفِ لِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الْقَصْرُ الْأَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهَا، كَانَ عليه الصلاة والسلام يُقَصِّرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ الدَّرَاقُطْنِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ الْإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ، أَوْ فِعْلُهُ أَحْيَانًا بِالْبَيَانِ الْجَوَازُ، أَوْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِقَصْرِهِ عليه الصلاة والسلام فِي سَفَرِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ اتِّفَاقًا، كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
1342 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ:«غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، يَقُولُ: " يَا أَهْلَ الْبَلَدِ! صَلُّوا أَرْبَعًا، فَإِنَّا سَفْرٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1342 -
(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ)، أَيْ: مَكَثَ (بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً)، أَيْ: لِبَعْضِ أَشْغَالِهِ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ (لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ) : فِي الرُّبَاعِيَّةِ (يَقُولُ)، أَيْ: بَعْدَ تَسْلِيمِهِ خِطَابًا لِلْمُقْتَدِينَ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ:(يَا أَهْلَ الْبَلَدِ: صَلُّوا أَرْبَعًا)، أَيْ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، (فَإِنَّا)، أَيْ: فَإِنِّي وَأَصْحَابِي (سَفْرٌ) : بِسُكُونِ الْفَاءِ جَمْعُ سَافِرٍ كَرَكْبٍ وَصَحْبٍ، أَيْ: مُسَافِرُونَ، وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ صَلَّى بِمَكَّةَ إِمَامًا وَقَالَ بَعْدَ السَّلَامِ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنِّي مُسَافِرٌ، فَقَالَ بَعْضُ السُّفَهَاءِ: نَحْنُ نَعْرِفُ هَذِهِ الْمُسَألَةَ أَحْسَنَ مِنْكُمْ، فَضَحِكَ الْإِمَامُ وَقَالَ: لَوْ عَرَفْتَ لَمَا تَكَلَّمْتَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَحْذُوفٍ هُوَ سَبَبٌ لِمَا بَعْدَ الْفَاءِ، أَيْ: صَلُّوا أَرْبَعًا وَلَا تَقْتَدُوا بِنَا فَإِنَّا سَفْرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(فَانْفَجَرَتْ)، أَيْ: فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ مِيرَكُ: وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
1343 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ فِي الْحَضَرِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا شَيْئًا، وَالْمَغْرِبُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ سَوَاءٌ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ، وَلَا يَنْقُصُ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، وَهِيَ وِتْرُ النَّهَارِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
1343 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ)، أَيْ: صَلَاتَهُ (فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: فَرْضًا (وَبَعْدَهَا)، أَيْ: بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ (رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: سُنَّةَ الظُّهْرِ. (وَفِي رِوَايَةٍ)، أَيْ: عَنْهُ (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ فِي الْحَضَرِ الظُّهْرَ)، أَيْ: فَرْضَهُ (أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: فَرْضَهُ (وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: فَرْضًا (وَلَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا شَيْئًا) : لِلْكَرَاهَةِ بَعْدَهَا (وَالْمَغْرِبُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ سَوَاءٌ) : حَالٌ، أَيْ: مُسْتَوَيَا عَدَدِهَا فِيهِمَا وَقَوْلُهُ: (ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ) : بَيَانٌ لَهَا، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، (وَلَا يَنْقُصُ) : عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ: شَيْئًا مِنْهَا، وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ ; لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لَازِمٌ، أَيْ: الْمَغْرِبُ. (فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ) ; لِأَنَّ الْقَصْرَ مُنْحَصِرٌ فِي الرُّبَاعِيَّةِ. (وَهِيَ وِتْرُ النَّهَارِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، كَالتَّعْلِيلِ لِعَدَمِ جَوَازِ النُّقْصَانِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ وِتْرَ اللَّيْلِ ثَلَاثٌ بِتَسْلِيمٍ لَا يَنْقُصُ، وَفِي جَعْلِ الْمَغْرِبِ وِتْرِ النَّهَارِ تَوَسُّعٌ لِقُرْبِهِ إِلَيْهِ. (وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ إِتْيَانُهَا فِي الْحَضَرِ اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهَا فِي الْمَنْزِلِ، وَيَتْرُكُهَا إِذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ: مَا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَدِيثًا أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْ هَذَا.
1344 -
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ ; جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ. حتّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ، وَفِي الْمَغْرِبِ مِثْلَ ذَلِكَ، إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
1344 -
(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّامِ. (إِذَا زَاغَتْ)، أَيْ: مَالَتْ (الشَّمْسُ)، أَيْ: عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ أَرَادَ بِهِ الزَّوَالَ، (قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ) : ظَرْفٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ (جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ)، أَيْ: فِي الْمَنْزِلِ بِأَنْ أَخَّرَ الظَّهْرَ إِلَى آخَرِ وَقَتِهِ، وَعَجَّلَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ، (وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ)، أَيْ: تَزُولَ (أَخَرَّ الظُّهْرَ)، أَيْ: إِلَى
آخَرِ وَقْتِهِ (حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ) ، أَيْ لِقُرْبِهِ، وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، (وَفِي الْمَغْرِبِ مِثْلَ ذَلِكَ)، أَيْ: يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ)، أَيْ: فِي الْمَنْزِلِ كَمَا سَبَقَ، (وَإِنِ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ) : وَفِي تُفِيدُ النُّزُولَ لِلْعِشَاءِ إِشَارَةً إِلَى مَا قُلْنَا: (ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الْوَقْتِ حَدِيثٌ قَائِمٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، فَهَذَا شَهَادَةٌ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ، وَعَدَمِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا فِي جَوَازِ جَمْعَيِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَنَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ فِعْلِهَا فِيهِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام وَكَأَنَّهُ تَرَكَ جَمْعَ عَرَفَةَ لِشُهْرَتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ فِي ثُبُوتِ الْمُعَارِضِ يَتَرَجَّحُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِزِيَادَةِ الرَّاوِي، وَبِأَنَّهُ أَحْفَظُ.
1345 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ وَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِنَاقَتِهِ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1345 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ)، أَيْ: خَرَجَ مِنَ الْمِصْرِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا فِي الْكِفَايَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ السَّفَرُ الشَّرْعِيُّ، وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ وَكَرِهَهُ مُحَمَّدٌ. (وَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ)، أَيْ: يَتَنَفَّلَ رَاكِبًا وَالدَّابَّةُ تَسِيرُ بِنَفْسِهَا،، أَوْ يَسُوقُهَا بِرِجْلٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا فِي الْخُلَاصَةِ. (اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِنَاقَتِهِ، فَكَبَّرَ)، أَيْ: لِلِاسْتِفْتَاحِ عَقِبَ الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنَّهُمَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، فِي الْمُحِيطِ: مِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ التَّوَجُّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ، يَعْنِي بِشَرْطِ كَوْنِهَا سَهْلَةً وَزِمَامَهَا بِيَدِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُنَا لَمْ يَأْخُذُوا بِهِ، هَذَا فِي النَّفْلِ، وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَقَدِ اشْتَرَطَ التَّوَجُّهَ إِلَيْهَا عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ. وَفِي الْخُلَاصَةِ: أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى الدَّابَّةِ يَجُوزُ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْمَطَرُ وَالْخَوْفُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ، وَالْعَجُزُ عَنِ الرُّكُوبِ لِلضَّعْفِ، أَوْ جُمُوحُ الدَّابَّةِ وَلَا مُعَيَّنَ، كَذَا فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ لِمَوْلَانَا أَبِي الْمَكَارِمِ. (ثُمَّ صَلَّى) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ شَرْطٌ لَا رُكْنٌ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايِرَةُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، أَيْ ثُمَّ اسْتَمَرَّ فِي صَلَاتِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ هَاهُنَا لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، وَلِمَا كَانَ الِاهْتِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ أَشَدَّ لِكَوْنِهِ مُقَارِنًا لِلنِّيَّةِ خُصَّ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ. (حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ)، أَيْ: ذَهَبَ بِهِ مَرْكُوبُهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَحْمَدُ، قَالَهُ مِيرَكُ.
1346 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ:«بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، فَجِئْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1346 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ، فَجِئْتُ)، أَيْ: إِلَيْهِ (وَهُوَ يُصَلِّي) : حَالٌ (عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ) : ظَرْفٌ، أَيْ: يُصَلِّي إِلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ، أَوْ حَالٌ، أَيْ: مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْمَشْرِقِ، أَوْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً إِلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ، (وَيَجْعَلُ السُّجُودَ) ، أَيْ إِيمَاءَهُ إِلَيْهِ (أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ)، أَيْ: أَسْفَلَ مِنْ إِيمَائِهِ إِلَى الرُّكُوعِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَبَاقِي الْأَرْبَعَةِ، وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1347 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ:«صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنًا رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَعُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ صَدَرًا مِنْ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بَعْدُ أَرْبَعًا، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا صَلَّاهَا وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1347 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًا)، أَيْ: فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ (رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: فِي الْفَرَائِضِ الرُّبَاعِيَّةِ (وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ)، أَيْ: كَذَلِكَ (وَعُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ) : كَذَلِكَ (وَعُثْمَانُ) : كَذَلِكَ (صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ)، أَيْ: زَمَانًا أَوَّلًا مِنْهَا نَحْوَ سِتِّ سِنِينَ (ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بَعْدُ)، أَيْ: بَعْدَ مُضِيِّ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مِنْ خِلَافَتِهِ (أَرْبَعًا) ; لِأَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ» ". ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَفِي إِنْكَارِ النَّاسِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ جَائِزٌ، فَمَدْفُوعٌ فَإِنَّ الْمُبَيِّنَ لِلْجَوَازِ لَيْسَ إِلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي وُقُوعِ هَذَا مِنْ عُثْمَانَ مُتَكَرِّرًا مَعَ عَدَمِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ أَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَمُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ نَشَأَ مِنْ قِلَّةِ إِطْلَاعِهِ. (فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ عُثْمَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إِمَامًا يُتِمُّ (صَلَّى أَرْبَعًا) ; لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ الْمُقْتَدِي أَنْ يَتْبَعَ إِمَامَهُ قَصَرَ أَوْ أَتَمَّ. (وَإِذَا صَلَّاهَا وَحْدَهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ) ; لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، وَالْقَصْرُ أَفْضَلُ وَأَحْوَطُ بِلَا خِلَافٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1348 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى، قَالَ الزُّهْرِيُّ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تُتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1348 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: أَوَّلًا بِمَكَّةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، (ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا)، أَيْ: فِي الْحَضَرِ، (وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى) : فَلَوْ أَتَمَّهَا يَكُونُ مُسِيئًا عِنْدَنَا، وَتَكُونُ الرَّكْعَتَانِ نَفْلًا، وَلَوْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الْقَعْدَةِ الْأَوْلَى الَّتِي هِيَ الْأَخِيرَةُ حُكْمًا بَطَلَ فَرْضُهُ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ قَوْلَهَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ، تَعْنِي: وِتْرَ النَّهَارِ عَلَى حَالِهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعْنَاهُ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا، فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ تَحَتُّمًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى جَوَازِ الْإِتْمَامِ تَمَّ كَلَامُهُ.
وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ النُّقْصَانِ إِذْ لَمْ يُعْهَدُ فِي الشَّرْعِ فَرْضٌ مَحْدُودٌ لِمَنْ أَرَادَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ احْتِيَاجِهِ إِلَى دَلِيلٍ مُثْبِتٍ، وَلِظُهُورِ بُطْلَانِهِ مَا الْتَفَّتْ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ الْآتِيَةِ. (قَالَ الزُّهْرِيُّ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: مَا بَالُ عَائِشَةَ تتِمُّ؟ قَالَ: تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِمَا، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْقَصْرَ جَائِزًا وَالْإِتْمَامَ جَائِزًا، فَأَخَذَا بِأَحَدِ الْجَائِزَيْنِ وَهُوَ الْإِتْمَامُ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَيْفَ تَرَى هَذَا مَعَ تَيَقُّنِهَا بِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأَوَّلُ عُثْمَانِ بِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِتْمَامَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ، فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، وَقِيلَ: لِأَنَّ عُثْمَانَ نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْحَجِّ فَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ حَرَامٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: لِعُثْمَانَ أَرْضٌ بِمِنًى فَأَبْطَلُوهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْإِقَامَةَ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْلِيلُ الصَّرِيحُ فَمَا عَدَاهُ مِن الِاحْتِمَالِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا كَانَا يَرَيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَصَرَ ; لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ عَلَى الْأُمَّةِ، فَأَخَذَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالشِّدَّةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: سَبَبُ إِتْمَامِ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْرَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ شَاخِصًا سَائِرًا، وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ بِمَكَانٍ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ فَلَهُ حُكْمُ الْمُقِيمِ فَيُتِمُّ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدَثَ لَهَا تَرَدُّدٌ أَوْ ظَنٌّ فِي جَعْلِهَا رَكْعَتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ مُقَيَّدٌ بِحَرَجِهِ بِالْإِتْمَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُرْوَةَ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا، فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ صَلَّيْتِ رَكْعَتَيْنِ؟ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيَّ، وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ: أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ، أَيْ: تَأَوَّلَتْ أَنَّ الْإِسْقَاطَ مَعَ الْحَرَجِ، لَا أَنَّ الرُّخْصَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّرْكِ مَعَ بَقَاءِ الِافْتِرَاضِ فِي الْمُخَيَّرِ فِي أَدَائِهِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ اهـ. فَالْكَافُ لِلتَّنْظِيرِ لَا لِلتَّمْثِيلِ فَتَأَمَّلْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1349 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1349 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ)، أَيِ: الرُّبَاعِيَّةُ (عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] (فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ) : هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ لِمَذْهَبِنَا، وَالْأَجْوِبَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ حَجَرٍ مَرْدُودَةً، وَمَا نُقِلَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى فِي السَّفَرِ، وَأَنَّ عَائِشَةَ أَتَمَّتْ بِحَضْرَتِهِ، وَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِلَّا كَانَ ارْتَفِعَ الْخِلَافُ. (وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً)، أَيْ: مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ كَمَا فِي آيَةِ الْخَوْفِ فِي الثُّنَائِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْحِكَمِيَّةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَخَذَ بِظَاهِرِهِ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْجُمْهُورُ: إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَصَلَاةِ الْأَمْنِ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ، وَرَكْعَةٌ أُخْرَى يَأْتِي بِهَا مُنْفَرِدًا كَمَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَصْحَابُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ اهـ. وَأَمَّا فِي الرُّبَاعِيَّةِ الْحَضَرِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ مُطْلَقًا، فَيُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي الْبَاقِي وَحْدَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، أَيْ: عَنْهُ مَوْقُوفًا، وَهُوَ مَرْفُوعٌ حُكْمًا.
1350 -
وَعَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَا:«سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَالْوِتْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1350 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : رضي الله عنهم (قَالَا: سَنَّ)، أَيْ: شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ)، أَيْ: ثَبَتَ عَلَى لِسَانِهِ، وَإِلَّا فَالْقَصْرُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ بَيَّنَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا فِي الْكِتَابِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ: بَيَّنَ أَنَّهَا كَذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْقَصْرَ فَمَرْدُودٌ، لِعَدَمِ دَلِيلٍ مُخَصَّصٍ وَلِقَوْلِهِ:(وَهُمَا)، أَيْ: الرَّكْعَتَانِ (تَمَامٌ)، أَيْ: تَمَامُ الْمَفْرُوضِ (غَيْرُ قَصْرٍ)، أَيْ: غَيْرُ نُقْصَانٍ عَنْ أَصْلِ الْفَرْضِ، فَإِطْلَاقُ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ أَوْ إِضَافِيٌّ، وَأَمَّا بَعْدُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ تَمَامٌ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّوَابِ، فَثَوَابُ الْقَصْرِ يُقَارِبُ ثَوَابَ الْإِتْمَامِ اهـ. وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِمْ: الْقَصْرُ أَفْضَلُ فِي السَّفَرِ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ لَا فِي تَفَاوُتِ الْمُثَوَّبَاتِ. (وَالْوِتْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ)، أَيْ: مَشْرُوعٌ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا، أَوْ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيَّيْنِ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، فَتَرْدِيدُ ابْنِ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَّهُ مَرْفُوعٌ مَدْفُوعٌ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
1351 -
وَعَنْ مَالِكٍ رضي الله عنه، بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ فِي الصَّلَاةِ فِي مِثْلِ مَا يَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَفَى مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ، وَفَى مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ، قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ. رَوَاهُ فِي الْمُوَطَّأِ ".
ــ
1351 -
(وَعَنْ مَالِكٍ بَلَغَهُ)، أَيْ: مَالِكًا مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، فِي مِثْلِ مَا يَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ) : وَهُوَ مِنْ أَحَدِ طَرِيقَيْهِ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ. (وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَعُسْفَانَ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَهُمَا مَرْحَلَتَانِ. (وَفِي مِثْلِ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ، وَهُوَ بَلَدٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ شَاقَّتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. (قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ) ، أَيْ: أَقَلُّ مَا بَيْنَ مَا ذُكِرَ (أَرْبَعَةُ بُرُدٍ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ بَرِيدٍ، وَهُوَ فَرْسَخَانِ، أَوْ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي النِّهَايَةِ: هِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالِ، وَالْمِيلُ أَرْبَعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ) ، أَيْ مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ)، أَيْ: عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ وَهَذَا كَمَا تَرَى غَيْرُ مُلَائِمٍ، فَكَانَ عَلَى الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. . . . . . إِلَخْ. ثُمَّ يَقُولُ: رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بَلَاغًا. ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ وَذَلِكَ. . . . إِلَخْ. عَلَى طِبْقِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ حَيْثُ يَبْدَأُ بِالصَّحَابِيِّ وَيَخْتِمُ بِالْمُخَرِّجِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُوَافِقُهُ مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ أَتُقْصَرُ الصَّلَاةُ إِلَى عَرَفَةَ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ إِلَى عُسْفَانَ وَإِلَى جُدَّةَ وَإِلَى الطَّائِفِ، وَمَا صَحَّ عَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَانَا يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ.