الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1645 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، قَالَ: وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1645 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: جَاءَ. (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ) : رَئِيسَ الْمُنَافِقِينَ بِاسْتِدْعَاءِ وَلَدِهِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى وَصِيَّةِ وَالِدِهِ. (بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ) أَيْ: قَبَرَهُ. فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ) أَيْ: مِنْ قَبْرِهِ. (فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَنَفَثَ فِيهِ) أَيْ: فِي وَجْهِهِ أَوْ فِي فِيهِ. (مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ) : وَكُلُّ هَذَا مُدَارَاةٌ وَمُلَاطَفَةٌ، وَحُسْنُ مُعَاشَرَةٍ وَمُؤَالَفَةٍ، وَإِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْحِسِّيَّةَ لَا تَنْفَعُ مَنْفَعَةً كُلِّيَّةً مَعَ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، الْعَارِفِينَ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيَّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السَّامِيَ أَنْ يُعْطِيَهُ فَرْوَتَهُ لِيَجْعَلَهَا لِلْكَفَنِ كُسْوَتَهُ، فَقَالَ) لَهُ أَبُو يَزِيدَ: لَوْ دَخَلْتَ فِي جِلْدِي، وَأَحَاطَ بِكَ جَسَدِي، مَا نَفَعَكَ وَعَذَّبَكَ اللَّهُ إِنْ شَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا أَدْرِي، وَلَوْ دَرَيْتَ لَا أَمْلِكُ نَفْسِي فَضْلًا عَنْ غَيْرِي، وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الِاعْتِقَادُ وَالِاجْتِهَادُ، وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ. (قَالَ أَيْ: جَابِرٌ. (وَكَانَ) أَيْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. (كَسَا عَبَّاسًا) أَيْ: حِينَ أُسِرَ بِبَدْرٍ. (قَمِيصًا) : لِأَنَّهُ كَانَ عُرْيَانًا، وَفِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ لِلْبَغْوَيِّ قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ أَبُو هَارُونَ: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَلْبِسْ قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَأُتِيَ بِالْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ. وَرُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كُلِّمَ فِيمَا فَعَلَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" «وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي وَصَلَاتِي مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ» " رُوِيَ أَنَّهُ أَسْلَمَ أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ لَمَّا رَأَوْهُ يَتَبَرَّكُ بِقَمِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مُنَافِقٌ ظَاهِرُ النِّفَاقِ، وَأُنْزِلَ فِي كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ تُتْلَى، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [الفاتحة: 84 - 32360] ، وَأَنْ يَكُونَ تَأْلِيفًا لِابْنِهِ وَإِكْرَامًا لَهُ، وَكَانَ مُسْلِمًا بَرِيئًا مِنَ النِّفَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ مُجَازَاةً لَهُ ; لِأَنَّهُ كَانَ كَسَا الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصًا، فَأَرَادَ أَنْ يُكَافِئَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِمُنَافِقٍ عِنْدَهُ يَدٌ لَمْ يُجَازِهِ عَلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّكْفِينِ بِالْقَمِيصِ، وَإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنَ الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ لِعِلَّةٍ أَوْ سَبَبٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْعِلَّةِ السَّبَبَ الْمُتَقَدِّمَ وَبِالسَّبَبِ الْحَادِثِ. قَالَ الْبَغْوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: «بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَرِيضٌ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أَهْلَكَكَ حُبُّ الْيَهُودِ أَيْ: حُبُّ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي أَيْ: تُرْجِعَنِي وَتُعَيِّرَنِي، وَلَكِنْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ تَسْتَغْفِرُ لِي، وَسَأَلَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي قَمِيصِهِ، وَأَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ» ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَعْنِي: الْبُخَارِيَّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ:«لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؟ ! فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ أَخِّرْ: عَنِّي يَا عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهِ قَالَ: فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ " {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] " إِلَى قَوْلِهِ: " {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] " قَالَ: أَيْ: عُمَرُ فَعَجِبْتُ مِنْ جُرْءَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ» ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا قَالَ: " {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] " وَقَفَ لَهُ وَلَدُهُ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ مُسِلًّا سَيْفَهُ وَقَالَ: لَئِنْ لَمْ تَقُلْ إِنَّكَ الْأَذَلُّ وَرَسُولُ اللَّهِ الْأَعَزُّ ضَؤُبْتُ عُنُقَكَ بِهَذَا. فَقَالَ ذَلِكَ فَمَكَّنَهُ مِنْ دُخُولِهَا. فَسُبْحَانَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْعَزِيزَ مِنَ الذَّلِيلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْ: دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ الْجَلِيلِ.
[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]
(5)
الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1646 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ".
ــ
(5)
بَابُ الْمَشْيِ أَيْ: آدَابِهِ بِالْجَنَازَةِ
أَيْ: بِالسَّرِيرِ، أَوْ بِالْمَيِّتِ، فِي الْمَغْرِبِ: الْجَنَازَةُ بِالْكَسْرِ السَّرِيرُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ، وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: بِالْكَسْرِ الْمَيِّتُ، وَالسَّرِيرُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ، وَبِالْفَتْحِ هُوَ السَّرِيرُ لَا غَيْرُ. (وَالصَّلَاةُ) : عَطْفٌ عَلَى الْمَشْيِ. (عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْجَنَازَةِ، أَيِ: الْمَيِّتُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
1646 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ) ": وَضَابِطُ الْإِسْرَاعِ أَخْذًا مِنْ خَبَرٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِدَّةِ الْمَسِيرِ بِهَا فَقَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ بِأَنْ يَكُونَ مَشِينَ بِهَا فَوْقَ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ وَدُونَ الْخَبَبِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَيَمْشِي بِهَا عَلَى أَسْرَعِ سَجِيَّةِ مَشْيٍ لَا الْإِسْرَاعِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى مَنْ يُشَيِّعُهَا، إِلَّا أَنْ يُخَافَ تَغَيُّرُهَا أَوِ انْفِجَارُهَا فَيُجْعَلُ بِهَا مَا قَدَّرُوهُ. (فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً) أَيْ: فَإِنْ تَكُنِ الْجَنَازَةُ صَالِحَةً أَوْ مُؤْمِنَةً. قَالَ الْمُظْهِرُ: الْجَنَازَةُ بِالْكَسْرِ الْمَيِّتُ وَبِالْفَتْحِ السَّرِيرُ، فَعَلَى هَذَا أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الْجَنَازَةِ وَأُرِيدَ الْمَيِّتُ. (فَخَيْرٌ) أَيْ: فَحَالُهَا خَيْرٌ، أَوْ فِعْلُهَا خَيْرٌ. (تُقَدِّمُونَهَا) : بِالتَّشْدِيدِ. (إِلَيْهِ) أَيْ: فَإِنْ كَانَ حَالُ ذَلِكَ الْمَيِّتِ حَسَنًا طَيِّبًا، فَأَسْرِعُوا بِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الطَّيِّبَةِ عَنْ قَرِيبٍ. (وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) .
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَتِ الْجَنَازَةُ عَيْنَ الْمَيِّتِ، وَوُصِفَتْ بِأَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ عُبِّرَ عَنِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالْخَيْرِ، وَجُعِلَتِ الْجَنَازَةُ الَّتِي هِيَ مَكَانُ الْمَيِّتِ مُقَدِّمَةً عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، فَكَنَّى بِالْجَنَازَةِ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُبَالَغَةً فِي كَمَالِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمَّا لَاحَظَ فِي جَانِبِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ هَذَا قَابَلَ قَرِينَتَهُ بِوَضْعِ الشَّرِّ عَنِ الرِّقَابِ، وَكَانَ أَثَرُ عَمَلِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ رَاحَةً لَهُ، فَأُمِرَ بِإِسْرَاعِهِ إِلَى مَا يَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ، وَأَثَرُ عَمَلِ الرَّجُلِ الْغَيْرِ الصَّالِحِ مَشَقَّةً عَلَيْهِمْ، فَأُمِرَ بِوَضْعِ جِيفَتِهِ عَنْ رِقَابِهِمْ، فَالضَّمِيرُ فِي " إِلَيْهِ " رَاجِعٌ إِلَى الْخَيْرِ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ وَالْإِكْرَامِ، فَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِمَّا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ:" مُسْتَرِيحٌ أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ". وَقَالَ الْمَالِكِيُّ فِي التَّوْضِيحِ: " إِلَيْهَا " بِالتَّأْنِيثِ، وَقَالَ: أَنَّثَ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ إِلَى الْخَيْرِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ، فَكَادَ يَسْعَى أَنْ يَقُولَ: فَخَيْرٌ قَدَّمْتُمُوهَا إِلَيْهِ، لَكِنَّ الْمُذَكَّرَ مُجَوَّزٌ تَأْنِيثُهُ إِذَا أُوِّلَ بِمُؤَنَّثٍ كَتَأْوِيلِ الْخَيْرِ الَّذِي يُقَدِّمُ النَّفْسَ الصَّالِحَةَ لَا لِرَحْمَةٍ أَوْ بِالْحُسْنَى أَوْ بِالْيُسْرَى. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَهِيَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، أَوْ هُوَ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: فَثَمَّةَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَ الْجَنَازَةَ إِلَيْهِ، يَعْنِي حَالَهُ فِي الْقَبْرِ حَسَنٌ طَيِّبٌ، فَأَسْرِعُوا بِهَا حَتَّى يَصِلَ إِلَى تِلْكَ الْحَالَةِ قَرِيبًا، وَقَوْلُهُ: فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ. أَيْ: إِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ، فَلَا مَصْلَحَةَ لَكُمْ فِي مُصَاحَبَتِهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ سُنَّةُ تَرْكِ مُصَاحَبَةِ أَهْلِ الْبَطَالَةِ وَغَيْرِ الصَّالِحِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
1647 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَ الْإِنْسَانُ لَصُعِقَ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1647 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (" إِذَا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ)" أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ الرِّجَالِ، وَهُيِّئَتْ لِيَحْمِلُوهَا. (فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ) : " أَيْ: بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ. (قَدِّمُونِي) أَيْ: أَسْرِعُوا بِي إِلَى مَنْزِلِي لِمَا يَرَى فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْغَالِيَةِ. فِي الْأَزْهَارِ: الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الْمَيِّتِ عَلَى السَّرِيرِ أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ وَهُوَ كَإِحْيَائِهِ فِي الْقَبْرِ لِيُسْأَلَ، بَلْ قَدْ أَثْبَتَ صلى الله عليه وسلم السَّمْعَ لِلْمَيِّتِ قَبْلَ إِتْيَانِ الْمَلَكَيْنِ حَيْثُ قَالَ: إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ، أَوِ الْمَجَازُ بِاعْتِبَارِ مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِدْخَالِ وَالسُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ اهـ. وَالثَّانِي: لَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ، فَالْمُعَوَّلُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ مَنْ يُغَسِّلُهُ، وَمَنْ يَحْمِلُهُ، وَمَنْ يُكَفِّنُهُ، وَمَنْ يُدْلِيهِ فِي حُفْرَتِهِ» " اهـ. وَتَجْوِيزُنَا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَقَالُ بِلِسَانِ الْحَالِ لَا يُنَافِي مَعْرِفَتَهُ وَقُدْرَتَهُ عَلَى لِسَانِ الْمَقَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا) أَيْ: لِأَقَارِبِهَا أَوْ لِمَنْ يَحْمِلُهَا. (يَا وَيْلَهَا) أَيْ: وَيْلَ الْجَنَازَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَا وَيْلِي، وَهَلَاكِي احْضَرْ، فَهَذَا أَوَانُكَ، فَعَدَلَ عَنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الْجَنَازَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَائِبِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى كَرَاهِيَةَ إِضَافَةِ الْوَيْلِ إِلَى نَفْسِهِ. (أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا) : وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: يَسْتَمِعُ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، فَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى يَسْمَعُ. (كُلُّ شَيْءٍ) أَيْ: حَتَّى الْجَمَادَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقِيٌّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ السَّمَاعُ عَلَى الْفَهْمِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . (إِلَّا الْإِنْسَانَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. (وَلَوْ سَمِعَ الْإِنْسَانُ) أَيْ: حَقِيقَةَ السَّمَاعِ. (لَصُعِقَ) أَيْ: لَمَاتَ أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَفِيهِ بَيَانُ حِكْمَةِ عَدَمِ سَمَاعِ الْإِنْسَانِ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَلُّ نِظَامُ الْعَالَمِ، وَيَكُونُ الْإِيمَانُ شُهُودِيًّا لَا غَيْبِيًّا، وَلِذَا قِيلَ: لَوْلَا الْحَمْقَى لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا، وَقِيلَ: الْغَفْلَةُ مَانِعَةٌ مِنَ الرِّحْلَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1648 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1648 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا) قَالَ الْقَاضِي: الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ إِمَّا لِتَرْحِيبِ الْمَيِّتِ وَتَعْظِيمِهِ، وَإِمَّا لِتَهْوِيلِ الْمَوْتِ وَتَعْظِيمِهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ يَنْبَغِي أَنْ يَضْطَرِبَ، وَيَقْلَقَ مَنْ رَأَى مَيِّتًا اسْتِشْعَارًا مِنْهُ وَرُعْبًا، وَلَا يَثْبُتُ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، وَقِلَّةِ الِاحْتِفَالِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّمَا الْمَوْتُ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا» " اهـ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(فَمَنْ تَبِعَهَا) أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ. (فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ) أَيْ: عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ قَصْدًا لِلْمُسَاعَدَةِ، وَقِيَامًا بِحَقِّ الْأُخُوَّةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، أَوْ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ لِلِاحْتِيَاجِ فِي الدَّفْنِ إِلَى النَّاسِ، وَلِيَكْمُلَ أَجْرُهُ فِي الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَالَا: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ، وَيُعَضِّدُهُ رِوَايَةُ الثَّوْرِيِّ: حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ، وَلِأَنَّهَا مَا دَامَتْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ هُمْ وَاقِفُونَ، فَقُعُودُهُمْ مُخَالَفَةٌ لَهُمْ، وَيُشْعِرُ بِالتَّمَيُّزِ عَنْهُمْ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَيْهِم) . قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إِذَا لَمْ يُرِدِ الذَّهَابَ مَعَهَا، فَالْقِيَامُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَقَالَ جَمْعٌ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُعُودِ، وَقَالَ بَعْضٌ: هُمَا مَنْدُوبَانِ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ مِنْهُ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْأَحَادِيثُ مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْآتِي. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
1649 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَرَّتْ جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ. فَقَالَ: " إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1649 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: مَرَّتْ جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا) أَيِ: الْمَيِّتَةُ. (يَهُودِيَّةٌ) : أَوِ الْجَنَازَةُ جَنَازَةُ يَهُودِيَّةٍ. (فَقَالَ: " إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ) ": بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَوْ تَقْدِيرُهُ: ذُو فَزَعٍ. (فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا) : ظَاهِرُ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ الْحَقِيقِيِّ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْجَنَازَةِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ أَنَّ أَمْرَهُ بِالْقِيَامِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا لِإِظْهَارِ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ فَهُوَ عَلَامَةُ غِلَظِ قَلْبِهِ، وَعِظَمِ غَفْلَتِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ تَغَيُّرُ الْحَالِ فِي قَلْبِهِ، وَفِي ظَاهِرِهِ لَا حَقِيقَتِهِ فَلَا حَقِيقَةَ لَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحُدُهُمَا: أَنَّ جُمْلَةَ (إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ) مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ جَنَازَةَ الْيَهُودِيِّ زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا اهـ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَقُومُونَ لَهَا، إِنَّمَا تَقُومُونَ إِعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوسَ.
1650 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا، يَعْنِي فِي الْجَنَازَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَأَبِي دَاوُدَ: قَامَ فِي الْجَنَازَةِ ثُمَّ قَعَدَ بَعْدُ.
ــ
1650 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ) أَيْ: لِرُؤْيَةِ الْجَنَازَةِ. (فَقُمْنَا) تَبَعًا لَهُ أَيْ: أَوَّلًا. (وَقَعَدَ) أَيْ: ثَبَتَ قَاعِدًا. (فَقَعَدْنَا) أَيْ: تَبَعًا لَهُ آخِرًا، يَعْنِي أَيْ: يُرِيدُ عَلِيٌّ بِالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ (فِي الْجَنَازَةِ) أَيْ: فِي رُؤْيَتِهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا. (وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَأَبِي دَاوُدَ: قَامَ فِي الْجَنَازَةِ) أَيْ: لَهَا. (ثُمَّ قَعَدَ بَعْدُ) قَالَ مِيرَكُ: وَكَأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ، حَيْثُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي الصِّحَاحِ بِلَفْظِ مَالِكٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، دُونَ لَفْظِ مُسْلِمٍ. وَالْجَوَابُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اخْتَارَ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ لِأَنَّهُ أَصْرَحُ فِي النُّسَخِ مِنْ عِبَارَةِ مُسْلِمٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ لِلْجَنَازَةِ الْمَفْهُومَ مِنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مَنْسُوخٌ، لَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَابِ تَأَمَّلْ اهـ.
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَنِ الشَّافِعِيِّ حَدِيثُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إِنْ شَاءَ قَامَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقُمْ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَدَّمُونَ الْجَنَازَةَ فَيَقْعُدُونَ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَيْهِمِ الْجَنَازَةُ. قَالَ الْقَاضِي: الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ لِلْجَنَازَةِ ثُمَّ يَقْعُدُ بَعْدَ قِيَامِهِ إِذَا تَجَاوَزَتْ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اتِّبَاعَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ يُسْتَحَبُّ، الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ أَيَّامًا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ يَقُومُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُ الْأَخِيرِ قَرِينَةً وَأَمَارَةً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ فِي ذَيْنِكَ الْخَبَرَيْنِ لِلنَّدْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِلْوُجُوبِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَجَازِ أَقْرَبُ مِنَ النَّسْخِ اهـ.
وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْقِيَامِ لِلنَّدْبِ، وَقُعُودُهُ صلى الله عليه وسلم لِبَيَانِ الْجَوَازِ لِعَدَمِ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ اهـ. وَقَدْ صَرَّحَ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَتَى بِأَدِلَّتِهِ، قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَمَّا الْقَاعِدُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا مَرَّتْ بِهِ أَوْ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا جِيءَ بِهِ فَلَا يَقُومُ لَهَا، وَقِيلَ: يَقُومُ، وَاخْتِيرَ الْأَوَّلُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِالْقِيَامِ فِي الْجَنَازَةِ ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ» ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ لِأَحْمَدَ تَمَّ كَلَامُهُ، وَالْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ سَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الِاحْتِمَالِ. الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنَ النَّسْخِ وَقَوْلِهِ: أَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّسْخِ مَنْدُوبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَالَ أَئِمَّتُنَا: هُمَا مَنْدُوبَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْقُعُودِ شَيْءٌ إِلَّا حَدِيثَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي النَّسْخِ ; لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْقُعُودَ فِيهِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الْمُدَّعَى وَالدَّلِيلِ، قَالَ: وَاعْتُرِضَ عَلَى النَّوَوِيِّ بِأَنَّ الَّذِي فَهِمَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ التَّرْكَ مُطْلَقًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ فَهْمَ الصَّحَابِيِّ لَا سِيَّمَا مِثْلُ عَلِيٍّ بَابِ مَدِينَةِ الْعِلْمِ مُقَدَّمٌ عَلَى فَهْمِ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ يُسَاعِدُهُ مِنَ الْقَرَائِنِ الْخَارِجِيَّةِ مَا لَا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ، وَلِهَذَا أَمَرَ بِالْقُعُودِ مَنْ رَآهُ قَائِمًا، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ كَمَا فِي مُسْلِمٍ:«قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْجَنَازَةِ حَتَّى تُوضَعَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَعَدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ «رَأَى نَاسًا قِيَامًا يَنْتَظِرُونَ الْجَنَازَةَ أَنْ تُوضَعَ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِدِرَّةٍ مَعَهُ أَوْ سَوْطٍ أَنِ اجْلِسُوا، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ مَا كَانَ يَقُومُ» ، وَبِهَذَا اتَّضَحَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ نَسْخِهِمَا اهـ.
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يُفِيدُ مَنْعَ الْقِيَامِ حَتَّى تُوضَعَ اهـ. وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْجَنَازَةِ ابْتِدَاءً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا قَضِيَّةٌ أُخْرَى، وَنَسْخٌ لِحُكْمٍ آخَرَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي: مِنْ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إِذَا تَبِعَ جَنَازَةً لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ فَعَرَضَ لَهُ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا هَكَذَا نَصْنَعُ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَجَلَسَ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: خَالِفُوهُمْ» .
1651 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1651 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنِ اتَّبَعَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ. (مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا) أَيْ: بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ تَصْدِيقًا بِثَوَابِهِ، وَجَعَلَ لَفْظَ بِاللَّهِ مَتْنًا، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ تَفْسِيرِهِ بِقَوْلِهِ:(وَاحْتِسَابًا) أَيْ: طَلَبًا لِلثَّوَابِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَا لِلرِّيَاءِ، وَتَطْيِيبِ قَلْبِ أَحَدٍ اهـ. وَفِيهِ نَطَرٌ ; لِأَنَّ إِدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الثَّقَلَيْنِ، وَوَرَدَ: أَنَّ مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْعِلَّةِ، وَقِيلَ إِنَّهُمَا حَالَانِ أَيْ: مُؤْمِنًا وَمُحْتَسِبًا. (وَكَانَ مَعَهُ) أَيْ:
اسْتَمَرَّ مَعَ جَنَازَتِهِ. (حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْجَنَازَةِ. (وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا) وَرُوِيَ الْفِعْلَانِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. (فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الْأَجْرِ) حَالٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَائِنًا مِنَ الثَّوَابِ، فَمِنْ بَيَانِيَّةٌ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْمُبَيَّنِ. (بِقِيرَاطَيْنِ) أَيْ: بِقِسْطَيْنِ وَنَصِيبَيْنِ عَظِيمَيْنِ. فِي النِّهَايَةِ: الْقِيرَاطُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الدِّينَارِ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِهِ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ، وَأَهْلُ الشَّامِ يَجْعَلُونَهُ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالْيَاءُ فِيهِ بَدَلٌ مِنَ الرَّاءِ ; فَإِنَّ أَصْلَهُ قِرَّاطٌ، قِيلَ: لِأَنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى قَرَارِيطَ، وَهُوَ شَائِعٌ مُسْتَمِرٌّ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ بَعْضُ الشَّيْءِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فُسِّرَ بِقَوْلِهِ. (كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ) وَذَلِكَ تَفْسِيرٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ لَا لِلَفْظِ الْقِيرَاطِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِحِصَّتَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْأَجْرِ، فَبَيَّنَ الْمَعْنَى بِالْقِيرَاطِ الَّذِي هُوَ حِصَّةٌ مِنْ جُمْلَةِ الدِّينَارِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: وَلَوْ صُوِّرَ جِسْمًا يَكُونُ مِثْلَ جَبَلِ أُحُدٍ اهـ. وَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ: أَنَّ أَصْغَرَهُمَا كَأُحُدٍ. لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَّبِعِينَ. (وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ) أَيِ: الْجَنَازَةُ. (فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ اهـ.
وَفِي رِوَايَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا أَيْضًا: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ. قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: أَصْغَرُهُمَا كَأُحُدٍ. وَفِي أُخْرَى لَهُ أَيْضًا: حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ. وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ تَقْيِيدُهُ بِقُيُودٍ أُخْرَى وَهِيَ: الْحَمْلُ، وَالْجُثُوُّ فِي الْقَبْرِ، وَإِذْنُ الْوَلِيِّ فِي الِانْصِرَافِ، وَجَرَى عَلَى الْأَخِيرِ قَوْمٌ، وَالْجُمْهُورُ مَا اعْتَبَرُوا هَذِهِ التَّقْيِيدَاتِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ أَوْ لَهُ عِلَّةُ شُذُوذٍ أَوْ نَحْوُهُ عِنْدَهُمْ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا:«مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً حَتَّى يُقْضَى دَفْنُهَا كُتِبَ لَهُ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ» . أَيْ: وَاحِدٌ لِلصَّلَاةِ وَاثْنَانِ لِلتَّشْيِيعِ.
1652 -
وَعَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ الْيَوْمَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، خَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1652 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى لِلنَّاسِ النَّجَاشِيَّ) أَيْ: أَخْبَرَهُمْ بِمَوْتِهِ. فِي الْقَامُوسِ: نَعَاهُ لَهُ نَعْوًا وَنَعْيًا: أَخْبَرَهُ بِمَوْتِهِ، وَالنَّجَاشِيُّ بِالتَّشْدِيدِ، فَيَاؤُهُ لِلنِّسْبَةِ، وَتَخْفِيفُهَا فَيَاؤُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَبِكَسْرِ نُونِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا، وَهُوَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْجِيمِ فَخَطَأٌ، وَالسِّينُ تَصْحِيفٌ، وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ بِوَزْنِ أَرْبَعَةٍ، وَحَاؤُهُ مُهْمَلَةٌ وَقِيلَ مُعْجَمَةٌ، وَهُوَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرَهُ، وَكَانَ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ بَالِغًا فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. (الْيَوْمَ) ظَرْفُ نَعَى أَيْ: فِي الْيَوْمِ. (الَّذِي مَاتَ فِيهِ) وَهُوَ كَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ: قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: كَانَ النَّجَاشِيُّ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ قَوْمِهِ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ مُعْجِزَةٌ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام ; لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ شَهْرٍ. (وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى) فِي الْهِدَايَةِ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ; لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ» . وَرُوِيَ فَلَا شَيْءَ لَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي الْخُلَاصَةِ: مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ كَانَ الْقَوْمُ وَالْمَيِّتُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ اهـ. وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِي الْكَرَاهَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إِنَّمَا بُنِيَ لِصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَتَوَابِعِهَا مِنَ النَّوَافِلِ، وَالذِّكْرِ وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِاحْتِمَالِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوَتَنْزِيهٍ رِوَايَتَانِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأُولَى كَوْنُهَا تَنْزِيهِيَّةً إِذِ الْحَدِيثُ لَيْسَ هُوَ نَهْيًا غَيْرَ مَصْرُوفٍ، وَلَا قُرِنَ الْفِعْلُ بِوَعِيدٍ ظَنِّيٍّ، بَلْ سَلْبُ الْأَجْرِ، وَسَلْبُ الْأَجْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ لِجَوَازِ الْإِبَاحَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعَارِضُ الْمَشْهُورَ. قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا سَبَبٌ مَوْضُوعٌ فَسَلْبُ الثَّوَابِ مَعَ فِعْلِهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ إِثْمٍ يُقَاوِمُ ذَلِكَ الثَّوَابَ. قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ النَّفْيُ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ: «وَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ» . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ثَبَتَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ صُلِّيَ عَلَيْهِمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ شَهِدُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا، وَفِي تَرْكِهِمُ الْإِنْكَارَ دَلِيلُ الْجَوَازِ اهـ. وَهُوَ لَا يُنَافِي كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ. (فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ) ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْضِرَهُ وَخُصُوصِيَّتُهُ بِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ اهـ.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا بَيَانُ ذَلِكَ النَّعْيِ، وَهِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قَدْ مَاتَ الْيَوْمَ عَبْدٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ: أَصْحَمَةُ فَقُومُوا عَلَيْهِ» . وَفِي أُخْرَى عِنْدَ ابْنِ شَاهِينَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: «قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمُ النَّجَّاشِيِّ» . فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى عِلْجٍ مِنَ الْحَبَشَةِ ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يَؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران: 199] " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَفِي أُخْرَى لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «أَصْبَحْنَا ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَخَاكُمْ أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيَّ قَدْ تُوُفِّيَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ قَالَ: فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَثَبْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ الْمُصَلَّى فَقَامَ فَصَفَفْنَا فَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَوْضَحُ حُجَّةٍ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ وَمَقْبَرَتِهَا، وَدَعْوَى أَنَّ الْأَرْضَ انْطَوَتْ حَتَّى صَارَتِ الْجَنَازَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ عليه الصلاة والسلام لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَعَلَى التَّسْلِيمِ فَبِالنِّسْبَةِ لِلصَّحَابَةِ فَهِيَ صَلَاةُ غَائِبٍ قَطْعًا. قُلْتُ: هَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَرَى الْمُقْتَدِي جَنَازَةَ الْمَيِّتِ الْمَوْضُوعَةِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الثَّانِي، وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ فَمُؤَيَّدٌ بِمَا رُوِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ نَاقِلًا عَنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«كُشِفَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَرِيرِ النَّجَاشِيِّ حَتَّى رَآهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ» . وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَّاشِيَّ تُوُفِّيَ فَقُومُوا وَصَلُّوا عَلَيْهِ. فَقَامَ عَلَيْهِ وَصَلُّوا خَلْفَهُ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَهُمْ لَا يَظُنُّونَ أَنَّ جَنَازَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ» . فَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ ظَنِّهِمْ ; لِأَنَّهُ هُوَ فَائِدَتُهُ الْمُعْتَدُّ بِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام، أَوْ كُوشِفَ لَهُ، وَإِمَّا أَنَّ ذَلِكَ خُصَّ بِهِ النَّجَاشِيُّ فَلَا يُحَلِّقُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ مَعَ شَهَادَةِ الصِّدِّيقِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَلَّى عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْغَيْبِ وَهُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيُّ، وَيُقَالُ: اللَّيْثِيُّ الْمُزَنِيُّ، وَيُقَالُ:«اللَّيْثِيُّ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام بِتَبُوكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُزَنِيِّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ أَتُحِبُّ أَنْ أَطْوِيَ لَكَ الْأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَرَفَعَ لَهُ سَرِيرَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَخَلْفَهُ صَفَّانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي كُلِّ صَفٍّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: بِمَ أَدْرَكَ هَذَا؟ بِحُبِّهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهَا جَائِيًا وَذَاهِبًا، وَقَائِمًا وَقَاعِدًا» ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَصَلَّى عَلَى زَيْدٍ وَجَعْفَرٍ لَمَّا اسْتُشْهِدَا بِمُؤْتَةَ عَلَى مَا فِي مَغَازِي الْوَاقِدِيِّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ:«لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ بِمُؤْتَةَ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكُشِفَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مَعْرَكَتِهِمْ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَمَضَى حَتَّى اسْتُشْهِدَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَسْعَى، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَمَضَى حَتَّى اسْتُشْهِدَ وَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَا لَهُ، اسْتَغْفِرُوا لَهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ يَطِيرُ مِنْهَا بِجَنَاحَيْنِ حَيْثُ شَاءَ» . قُلْنَا: إِنَّمَا ادَّعَيْنَا الْخُصُوصِيَّةَ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ رُفِعَ لَهُ سَرِيرٌ، وَلَا هُوَ مَرْئِيٌّ لَهُ، وَمَا ذُكِرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ هَذَا مَعَ ضَعْفِ الطُّرُقِ فَمَا فِي الْمُغَازِي مُرْسَلٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَمَا فِي الطَّبَقَاتِ ضَعِيفٌ بِالْعَلَاءِ وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ وَيُقَالُ: ابْنُ يَزِيدَ، اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَدْ عَنْعَنَهُ ثُمَّ دَلِيلُ الْخُصُوصِيَّةِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى غَائِبٍ إِلَّا عَلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ سِوَى النَّجَاشِيِّ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ رُفِعَ لَهُ، وَكَانَ بِمَرْأًى مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ خَلْقٌ مِنْهُمْ رضي الله عنهم غَيْبًا فِي الْأَسْفَارِ كَأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَالْغَزَوَاتِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الصَّلَاةَ عَلَى كُلِّ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَرِيصًا حَتَّى قَالَ:«لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ ; فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ» .
1653 -
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1653 -
(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ: يُكَنَّى أَبَا عُمَرَ الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، يُعَدُّ فِي الْكُوفِيِّينَ، سَكَنَهَا وَمَاتَ بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ. (يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَأَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْنَاهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: أَحْيَانًا أَوْ أَوَّلًا. (يُكَبِّرُ خَمْسًا) قَالَ النَّوَوِيُّ: دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرَهُ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَبَّرُ الْيَوْمَ إِلَّا أَرْبَعًا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا بَعْدَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَصِحُّ مِنَ الْخِلَافِ اهـ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَهَا فَكَبَّرَ خَمْسًا ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ خَمْسًا ; إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ابْنَ أَرْقَمَ لَيْسَ قَائِلًا بِالنَّسْخِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ حُذَيْفَةُ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ لَكِنْ لَوْ كَبَّرَ خَمْسًا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ اهـ. وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: إِجْمَاعَ الْأَكْثَرِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
1654 -
«وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ. فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1654 -
(وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ) أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى. (فَقَالَ) أَيْ: إِنَّمَا قَرَأَتُ الْفَاتِحَةَ، أَوْ رَفَعْتُ صَوْتِيَ بِهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ. (لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا) أَيْ: قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ. (سُنَّةٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لَيْسَ بِدْعَةً. قَالَ الْأَشْرَفُ: الضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بَلْ مَا يُقَابِلُ الْبِدْعَةَ، أَيْ: أَنَّهَا طَرِيقَةٌ مَرْوِيَّةٌ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ اهـ. يَعْنِي أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَوْ قُرِأَتْ مَكَانَ الثَّنَاءِ لَقَامَتْ مَقَامَ السُّنَّةِ.
وَفِي شَرْحِ ابْنِ الْهُمَامِ قَالُوا: لَا يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ إِلَّا أَنْ يَقْرَأَهَا بِنِيَّةِ الثَّنَاءِ، وَلَمْ تَثْبُتِ الْقِرَاءَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْرَؤُهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ اهـ. وَهَذَا يُعْلِمُ ضَعْفَ قَوْلِهِ أَيْ: أَنَّهَا طَرِيقَةٌ مَرْوِيَّةٌ، وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي أُمَامَةَ وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآنِ مُخَافَتَةً. فَتَأْوِيلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ.
1655 -
وَفِي رِوَايَةٍ: «وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ. قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1655 -
(وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ) : أَيْ: بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُ حَفِظَ مِنْ دُعَائِهِ بِسَمَاعِهِ لَهُ مِنْهُ لَا عَنْهُ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا تَقَرَّرَ فِي الْفِقْهِ مِنْ نَدْبِ الْإِسْرَارِ ; لِأَنَّ الْجَهْرَ هُنَا لِلتَّعْلِيمِ لَا غَيْرُ. (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ) بِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ. (وَارْحَمْهُ) بِقَبُولِ الطَّاعَاتِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: تَأْكِيدٌ أَوْ أَعَمُّ. (وَعَافِهِ) أَمْرٌ مِنَ الْمُعَافَاةِ وَالْهَاءُ ضَمِيرٌ، وَقِيلَ لِلسَّكْتِ، وَالْمَعْنَى خَلِّصْهُ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: سَلِّمْهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَايَا. (وَاعْفُ عَنْهُ) أَيْ: عَمَّا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ التَّقْصِيرَاتِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: عَافِهِ أَيْ: سَلِّمْهُ مِنْ كُلِّ مُؤْذٍ، وَاعْفُ عَنْهُ تَأْكِيدٌ أَوْ أَخَصُّ أَيْ: سَلِّمْهُ مِنْ خَطَرِ الذُّنُوبِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَفْوُ وَالْعَافِيَةُ وَالْمُعَافَاةُ مُتَقَارِبَةٌ: فَالْعَفْوُ: مَحْوُ الذُّنُوبِ، وَالْعَافِيَةُ: أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْبَلَايَا، وَالْمُعَافَاةُ: وَهِيَ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُعَافِيَهُمْ مِنْكَ، وَيَصْرِفَ أَذَاهُمْ عَنْكَ، وَأَذَاكَ عَنْهُمْ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْعَافِيَةِ وَالْمُعَافَاةِ مِنَ الْمَعْنَى غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَيِّتِ، بَلْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْعَافِيَةِ لَا يُنَاسِبُ الْحَيَّ أَيْضًا ; فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَتْبَاعَهُ دَعَوْا بِالْعَافِيَةِ وَلَمْ يَسْلَمُوا مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْبَلِيَّةِ بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، بَلِ السَّلَامَةُ مِنَ الْأَسْقَامِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُيُوبِ الْعِظَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ الْأَسْقَامُ عَلَى سَيِّئِ الْأَسْقَامِ: كَالْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْعَافِيَةِ، أَنْ لَا يَجْزَعَ فِي الْآلَامِ، وَيَصْبِرَ وَيَشْكُرَ، وَيَرْضَى بِقَضَاءِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، وَيَقُومَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ تَكَالِيفِ الْأَحْكَامِ. (وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ) بِضَمِّ الزَّايِ: وَيُسَكَّنُ أَيْ: رِزْقَهُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَا يُقَدَّمُ مِنَ الطَّعَامِ إِلَى الضَّيْفِ أَيْ: أَحْسِنْ نَصِيبَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. (وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا أَيْ: قَبْرَهُ. قَالَ مِيرَكُ: بِفَتْحِ الْمِيمِ كَذَا فِي الْمَسْمُوعِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، وَالْمَضْبُوطِ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا وَضَبَطَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ فِي مِفْتَاحِ الْحِصْنِ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى اهـ. لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَكَانُ الدُّخُولِ أَوِ الْإِدْخَالُ وَإِنَّمَا اخْتَارَ الشَّيْخُ الضَّمَّ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ الْقُرَّاءِ قَرَءُوا بِالضَّمِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنُدْخِلُكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] وَانْفَرَدَ الْإِمَامُ نَافِعٌ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ أَيْضًا بِحَسَبِ الْمَعْنَى أَنْسَبُ ; لِأَنَّ دُخُولَهُ لَيْسَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِإِدْخَالِ غَيْرِهِ. (وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: طَهِّرْ مِنَ الذُّنُوبِ بِأَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَنْوَاعُ الْمُطَهِّرَاتِ مِنَ الدَّنَسِ. (وَنَقِّهِ) بَهَاءِ الضَّمِيرِ أَوِ السَّكْتِ. (مِنَ الْخَطَايَا) تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. (كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ: الْوَسَخِ، تَشْبِيهٌ لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا الصَّغَائِرُ، وَبِالْآخَرِ الْكَبَائِرُ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَحَدِهِمَا حَقُّ اللَّهِ، وَبِالْآخَرِ حَقُّ الْعِبَادِ. (وَأَبْدِلْهُ) أَيْ: عَوِّضْهُ. (دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا) أَيْ: خَدَمًا. (خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ)
أَيْ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَنِسَاءِ الدُّنْيَا أَيْضًا، فَلَا يُشْكِلُ أَنَّ نِسَاءَ الدُّنْيَا يَكُنَّ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُورِ ; لِصَلَاتِهِنَّ وَصِيَامِهِنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَخَيْرٌ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ إِذْ لَا خَيْرِيَّةَ فِي الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ، فَلَيْسَ عَلَى بَابِهِ إِذِ الْكَلَامُ فِي النِّسْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا فِي النِّسْبَةِ الْإِضَافِيَّةِ ; قَالَ تَعَالَى:{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]، وَقَالَ عز وجل:{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء: 77] . (وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ) أَيِ: ابْتِدَاءً. (وَأَعِذْهُ) أَيْ: أَجِرْهُ. (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ. (وَفِي رِوَايَةِ وَقِهِ) بَهَاءِ الضَّمِيرِ أَوِ السَّكْتِ أَيِ: احْفَظْهُ. (فِتْنَةَ الْقَبْرِ) أَيِ: التَّحَيُّرَ فِي جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ الْمُؤَدِّيَ إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ. (وَعَذَابِ النَّارِ، قَالَ) أَيْ: عَوْفٌ. (حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا) تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ. (ذَلِكَ الْمَيِّتَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ،. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا الدُّعَاءُ أَصَحُّ شَيْءٍ وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ.
1656 -
وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا تُوَفِّي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَتْ: ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: وَاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ وَأَخِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1656 -
(وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) أَيْ: فِي قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَحُمِلَ إِلَيْهَا عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ لِيُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ، وَذَلِكَ فِي إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ. (قَالَتِ: ادْخُلُوا بِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ) أَيْ: سَأَلَتْ عَائِشَةُ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ لِتُصَلِّيَ هِيَ عَلَيْهِ أَيْضًا. (فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا) أَيْ: فَأَبَوْا عَلَيْهَا، وَقَالُوا: لَا يُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ. (فَقَالَتْ: وَاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ) اسْمٌ لِلْأُمِّ. (فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ سَهْلٌ. (وَأَخِيهِ) وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اسْمُهُ سَهْلٌ، مَاتَا سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَيْضَاءُ أُمُّهُمَا، وَاسْمُهَا: دَعْدُ بِنْتُ الْجَحْدَمِ، وَاسْمُ أَبِيهِمَا عَمْرُو بْنُ وَهْبٍ. قَالَ مِيرَكُ: غَلِطَ الطِّيبِيُّ فِي اسْمِ أَبِيهِمَا وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ كَمَا فِي الِاسْتِيعَابِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَكَانَ سَهْلٌ قَدِيمَ الْإِسْلَامِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى قَوْلِ عَائِشَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَلَوْ لَمْ يَعْلَمُوا بِالنَّسْخِ لَمَا خَالَفُوا حَدِيثَ عَائِشَةَ اهـ. كَلَامُ الطِّيبِيِّ، أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى عُذْرٍ كَمَطَرٍ، أَوْ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، أَوْ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَمِلُوا بِالْأَفْضَلِ فِي حَقِّ سَعْدٍ سِيَّمَا وَكَانَ مَظِنَّةَ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ لِإِتْيَانِهِ مِنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، وَتَحْرِيكِهِ عَلَى الْأَعْنَاقِ السَّعِيدَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فِيهِ أَوْضَحُ حُجَّةٍ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْأَفْضَلُ إِدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَمَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ لَكَانَ صَلَاتُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمَا امْتَنَعَ جُلُّ الصَّحَابَةِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ الْجَوَازَ فِي الْجُمْلَةِ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: بِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ مَعَ خِلَافِ الْإِمَامِ الْأَكْمَلِ، وَقَدْ نَازَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الشَّافِعِيَّ فِي الِاسْتِحْبَابِ بِأَنَّهُ كَانَ لِلْجَنَائِزِ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَالْغَالِبُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام الصَّلَاةُ عَلَيْهَا ثَمَّةَ، وَدَفَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يَصْلُحُ نَقْلًا، وَلَا يَصِحُّ عَقْلًا، ثُمَّ نَاقَضَ كَلَامَهُ وَعَارَضَ مَرَامَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ» . فَضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَالَّذِي فِي جَمِيعِ أُصُولِ أَبِي دَاوُدَ الْمُعْتَمَدَةِ. فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ فَلَا أَجْرَ لَهُ كَامِلٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
1657 -
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا فَقَامَ وَسَطَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1657 -
(وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) بِضَمِّ الدَّالِّ وَفَتْحِهَا. (قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا) أَيْ: حِينَ وِلَادَتِهَا. (فَقَامَ) أَيْ: وَقَفَ لِلصَّلَاةِ. (وَسْطَهَا أَيْ: حِذَاءَ وَسَطِهَا بِسُكُونِ السِّينِ، وَيُفْتَحُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَسْطُ بِالسُّكُونِ يُقَالُ فِيمَا كَانَ مُتَفَرِّقَ الْأَجْزَاءِ كَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ مُتَّصِلَ الْأَجْزَاءِ كَالدَّارِ وَالرَّأْسِ فَهُوَ بِالْفَتْحِ، وَقَبْلَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْآخَرِ، وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ
الْوَسَطُ بِالْفَتْحِ كَالْمَرْكَزِ لِلدَّائِرَةِ، وَبِالسُّكُونِ دَاخِلَ الدَّائِرَةِ، وَقِيلَ: كُلُّ مَا يَصْلُحُ فِيهِ بَيْنَ فَبِالْفَتْحِ وَمَا لَا فَبِالسُّكُونِ اهـ. ثُمَّ الْأَمَامُ يَقَعُ بِحِذَاءِ صَدْرِ الْمَيِّتِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجُزِ الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي سِكَّةِ الْمِرْبَدِ فَمَرَّتْ جَنَازَةٌ مَعَهَا نَاسٌ كَثِيرَةٌ قَالُوا: جَنَازَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَتَبِعْتُهَا، فَإِذَا أَنَا بَرْجَلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ رَقِيقٌ، عَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةٌ تَقِيهِ مِنَ الشَّمْسِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا الدِّهْقَانُ؟ وَهُوَ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ رَئِيسُ الْإِقْلِيمِ مُعَرَّبٌ، قَالُوا: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ: فَلَمَّا وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ قَامَ أَنَسٌ فَصَلَّى عَلَيْهَا وَأَنَا خَلْفَهُ لَا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَقَامَ عِنْدَ رَأْسِهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَمْ يُطِلْ وَلَمْ يُسْرِعْ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقْعُدُ فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ، الْمَرْأَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ فَقَرَّبُوهَا وَعَلَيْهَا نَعْشٌ أَخْضَرُ، فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا نَحْوَ صَلَاتِهِ عَلَى الرَّجُلِ، ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ كَصَلَاتِكَ، يُكَبِّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعًا، وَيَقُومُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ. قَالَ: نَعَمْ. إِلَى أَنْ قَالَ غَالِبٌ: فَسَأَلْتُ عَنْ صَنِيعِ أَنَسٍ فِي قِيَامِهِ فِي الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَجِيزَتِهَا، فَحَدَّثُونِي أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنِ النُّعُوشُ فَكَانِ يَقُومُ حِيَالَ عَجِيزَتِهَا يَسْتُرُهَا مِنَ الْقَوْمِ، مُخْتَصَرٌ مِنْ لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قُلْنَا: يُعَارَضُ هَذَا بِمَا رَوَى أَحْمَدُ: أَنَّ أَبَا غَالِبٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ أَنَسٍ عَلَى جَنَازَةٍ فَقَامَ حِيَالَ صَدْرِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسَطَهَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الصَّدْرِ وَسَطًا) بَلِ الصَّدْرُ وَسَطٌ بِاعْتِبَارِ تَوَسُّطِ الْأَعْضَاءِ، إِذْ فَوْقَهُ يَدَاهُ وَرَأْسُهُ، وَتَحْتَهُ بَطْنُهُ وَفَخِذَاهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَفَ كَمَا قُلْنَا ; لِأَنَّهُ مَالَ إِلَى الْعَوْرَةِ فِي حَقِّهَا، فَظَنَّ الرَّاوِي ذَلِكَ لِتَقَارُبِ الْمَحَلَّيْنِ، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
1658 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ دُفِنَ لَيْلًا فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ. قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1658 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ دُفِنَ لَيْلًا) أَيْ: فِي لَيْلٍ مِنَ اللَّيَالِي. (فَقَالَ: مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ قَالُوا: الْبَارِحَةَ) . أَيِ: اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ. (قَالَ: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟ !) بِالْمَدِّ أَيْ: أَدَفَنْتُمُوهُ فَلَا أَعْلَمْتُمُونِي؟ (قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا) وَفِي نُسْخَةٍ: وَكَرِهْنَا. (أَنْ نُوقِظَكَ) أَيْ: نُنَبِّهَكَ مِنَ النَّوْمِ. (فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ مَسَائِلُ جَوَازِ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ، أَيْ: بِتَقْرِيرِهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ، وَاسْتِحْبَابُ صَلَاةِ الْمَيِّتِ بِالْجَمَاعَةِ اهـ.
وَلَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَطَرِّفَتَيْنِ إِلَّا مَا شَذَّ بِهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا صَحَّ أَيْضًا:«أَنَّ نَاسًا رَأَوْا فِي الْمَقْبَرَةِ نَارًا، فَأَتَوْهَا فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَبْرِ، وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: نَاوِلُونِي صَاحِبَكُمْ، فَإِذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ» ، وَأَمَّا خَبَرُ مُسْلِمٍ: زَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ، فَالنَّهْيُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ دَفْنِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَكْرَارِ الصَّلَاةِ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ الصَّفِّ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ وَصَفَّهُمْ، فَكَبَّرَ أَرْبَعًا» . قَالَ الشَّيْبَانِيُّ: مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَلِيَّ، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِنَا، وَلَا مُخَلِّصَ إِلَّا بِادِّعَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَصْلًا، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ مِنَ الصَّحَابَةِ اهـ.
وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَعَتْ صَلَاةُ غَيْرِهِ تَبَعًا لَهُ، أَوْ مِمَّنْ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ، ثُمَّ رَأَيْتُ السُّيُوطِيَّ ذَكَرَ فِي أُنْمُوذَجِ اللَّبِيبِ: أَنَّهُ ذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ فِي عَهْدِهِ عليه السلام لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْجَنَازَةِ إِلَّا بِصَلَاتِهِ، فَيُؤَوَّلُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجَنَازَةِ فِي حَقِّهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْهِدَايَةِ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ مَا فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى قَبْرِ مِسْكِينَةٍ غَيْرَ لَيْلَةِ دَفْنِهَا» ، وَفِي مُرْسَلٍ صَحِيحٍ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُرْسَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَوْصُولِ حَتَّى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا:«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى أُمِّ سَعْدٍ بَعْدَ شَهْرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا حِينَ مَوْتِهَا» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَاسْمُ صَاحِبِ الْقَبْرِ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعُلْوِيُّ، حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، رَوَى حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا، وَالطَّبَرَانِيُّ مُطَوَّلًا، وَفِي رِوَايَتِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ:«فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ فَصَفَّ النَّاسَ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إِلَيْكَ وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ» ، وَالضَّحِكُ كِنَايَةٌ عَنِ الرِّضَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1659 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَوْ شَابٌّ فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ. فَقَالُوا: مَاتَ. قَالَ: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟ قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا أَوْ أَمْرَهُ. فَقَالَ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ. فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ، وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
ــ
1659 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً) بِفَتْحِ أَنَّ وَقِيلَ: بِكَسْرِهَا. (سَوْدَاءَ، كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: تَكْنِسُهُ وَتُطَهِّرُهُ مِنَ الْقُمَامَةِ. (أَوْ شَابٌّ) أَيْ: كَانَ يَقُمُّ وَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ أَنَّ إِنْ كَانَ أَنَّ مَرْوِيًّا وَإِلَّا فَعَلَى الْمَجْمُوعِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: أَنَّ أَسْوَدَ كَانَ يَقُمُّ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِهِ الْوَاحِدَ مِنْ سُودَانِ الْعَرَبِ، وَقِيلَ: اسْمُ رَجُلٍ. (فَفَقَدَهَا) وَفِي نُسْخَةٍ: فَفَقَدَهُ. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَنْهَا)، أَوْ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى الشَّكِّ فِي الْأَوَّلِ. (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ قَالَ مِيرَكُ: فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ الَّذِي بَاشَرَ جَوَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه. (مَاتَ) أَيْ: أَوْ مَاتَتْ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي) ؟ أَيْ: أَخْبَرْتُمُونِي بِمَوْتِهِ لِأُصَلِّيَ عَلَيْهِ. (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ حِكَايَةً عَمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: أَفَلَا إِلَخْ. (فَكَأَنَّهُمْ) أَيِ: الْمُخَاطَبِينَ. (صَغَّرُوا) أَيْ: حَقَّرُوا. (أَمْرَهَا) أَوْ أَمْرَهُ أَيْ: وَعَظَّمُوا أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَكْلِيفِهِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ. (فَقَالَ: دُلُّونِي) أَمْرٌ مِنَ الدَّلَالَةِ. (عَلَى قَبْرِهِ) أَوْ قَبْرِهَا. (فَدَلُّوهُ) بِضَمِّ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ. (فَصَلَّى عَلَيْهَا) أَوْ عَلَيْهِ. (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُشَارُ إِلَيْهَا الْقُبُورُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ. (عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ كَأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ: لَيْسَ النَّظَرُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلَى حَقَارَتِهِ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ، بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الشَّفَاعَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى جَوَازِ تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، قُلْنَا: صَلَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) وَسَلَّمَ كَانَتْ لِتَنْوِيرِ الْقَبْرِ، وَإِذَا لَا يُوجَدُ فِي صَلَاةِ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ التَّكْرَارُ مَشْرُوعًا فِيهَا ; لِأَنَّ الْفَرْضَ مِنْهَا يُؤَدَّى مَرَّةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ. (وَلَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ) قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْقُبُورِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ.
1660 -
وَعَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَاتَ لَهُ ابْنٌ بِقُدَيْدٍ أَوْ بِعُسْفَانَ فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ، انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: تَقُولُ: هُمْ أَرْبَعُونَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَخْرِجُوهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1660 -
(وَعَنْ كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ. (مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَاتَ لَهُ) أَيْ: لِعَبْدِ اللَّهِ. (ابْنٌ بِقُدَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ، مَوْضِعٌ قَرِيبٌ بِعُسْفَانَ. (أَوْ بِعُسْفَانَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ) ابْنِ حَجَرٍ: شَكٌّ مَنْ كُرَيْبٍ، وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ. (فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ، انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مَا مَوْصُولَةٌ بَيَّنَهَا. (مِنَ النَّاسِ) وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا بِمَعْنَى مَنْ. (قَالَ) أَيْ: كُرَيْبٌ. (فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ: بِهِمْ أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمْ. (فَقَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ. (تَقُولُ) بِالْخِطَابِ، أَيْ: تَظُنُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَقَالَ) كُرَيْبٌ: يَقُولُ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ. فَمُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. (هُمْ أَرْبَعُونَ. قَالَ أَيْ: كُرَيْبٌ. (نَعَمْ) وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: قُلْتُ: فَفِيهِ تَجْرِيدٌ. (قَالَ) أَيِ: ابْنُ عَبَّاسٍ. (فَأَخْرِجُوهُ) أَيِ: الْمَيِّتُ. (فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ. (عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا) قِيلَ: وَحِكْمَةُ خُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ أَنَّهُ مَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ قَطُّ إِلَّا كَانَ فِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ. (إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ) أَيْ: قَبْلَ شَفَاعَتِهِمْ. (فِيهِ) أَيْ: فِي حَقِّ ذَلِكَ الْمَيِّتِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
1661 -
وَعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1661 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ. صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ مَيِّتٍ) أَيْ: مُسْلِمٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. (تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ) أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. (يَبْلُغُونَ) أَيْ: فِي الْعَدَدِ. (مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ) أَيْ: يَدْعُونَ لَهُ. (إِلَّا شُفِّعُوا) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: قُبِلَتْ شَفَاعَتُهُمْ. (فِيهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا تَضَادَّ بَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَكُرَيْبٍ ; لِأَنَّ السَّبِيلَ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ مِنَ الْعَدَدَيْنِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا وَعَدَ الْمَغْفِرَةَ لِمَعْنًى لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ النُّقْصَانُ مِنَ الْفَضْلِ الْمَوْعُودِ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يَزِيدُ تَفَضُّلًا، فَيَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْكَثْرَةَ، إِذِ الْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ اهـ.
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَبَ» أَيْ: غَفَرَ لَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ لِلرِّجَالِ فِعْلُ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ، وَإِنَّمَا صَلَّوْا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَفْرَادًا الرِّجَالُ حَتَّى فَرَغُوا ثُمَّ الصِّبْيَانُ كَذَلِكَ، ثُمَّ النِّسَاءُ كَذَلِكَ، ثُمَّ الْعَبِيدُ كَذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِجْمَاعَ أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى صَلَاتِهِمْ عَلَيْهِ أَفْرَادًا، وَبِهِ يَرُدُّ إِنْكَارَ ابْنِ دِحْيَةَ لِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِعَظِيمِ أَمْرِهِ، وَتَنَافُسِهِمْ فِي أَنْ لَا يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَعَيَّنَ إِمَامٌ لِيَؤُمَّ الْقَوْمَ، فَلَوْ تَقَدَّمَ وَاحِدٌ فِي الصَّلَاةِ لَصَارَ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَعَيَّنَ لِلْخِلَافَةِ، وَقِيلَ: صَلَّوْا عَلَيْهِ جَمَاعَةً وَأَمَّهُمْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَقِيلَ: جَمَاعَاتٌ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَيْهِ أَفْذَاذًا) بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: جَمَاعَاتٍ بَعْدَ جَمَاعَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُرَدُّ بِأَنَّ رِوَايَةَ غَيْرِ مُسْلِمٍ أَفْرَادًا بِالرَّاءِ أَوْ أَرْسَالًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ. (أَفْذَاذًا لِتَسْلِيمِ صِحَّتِهِ بِمَعْنَى جَمَاعَاتٍ اهـ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَفْرَادِ وَالْأَرْسَالِ هُوَ مَعْنَى الْأَفْذَاذِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةً مُنْفَرِدَةً، بَلْ كَانَتْ جَمَاعَاتٍ مُنْفَرِدَاتٍ، فَإِنَّ الرَّسَلَ مُحَرَّكَةً الْقَطِيعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَوْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَجَمْعُهُ أَرْسَالٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَرْسَالًا أَيْ: أَفْوَاجًا وَفِرَقًا مُقَطَّعَةً يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
1662 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ. ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا. فَقَالَ: وَجَبَتْ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا وَجَبَتْ. فَقَالَ: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ. أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» .
ــ
1662 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرُّوا) أَيِ: الصَّحَابَةُ. (بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا) أَيْ: ذَكَرُوهَا بِأَوْصَافٍ حَمِيدَةٍ وَأَخْلَاقٍ سَدِيدَةٍ فَقَوْلُهُ: (خَيْرًا) تَأْكِيدٌ أَوْ دَفْعٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ عَلَى. (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ) أَيْ: ثَبَتَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا أَثْنَوْا عَلَيْهِ أَوْ إِنْ كَانَ مَاتَ عَلَيْهِ. (ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا) قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِعْمَالُ الثَّنَاءِ فِي الشَّرِّ مُشَاكَلَةٌ أَوْ تَهَكُّمٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَثْنَوْا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى وَصَفُوا فَيَحْتَاجُ إِلَى الْقَيْدِ فَفِي الْقَامُوسِ: الثَّنَاءُ وَصْفٌ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ أَوْ خَاصٌّ بِالْمَدْحِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ مُكِّنُوا مِنَ الثَّنَاءِ بِالشَّرِّ مَعَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْبُخَارِيِّ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ. قُلْتُ: النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ وَغَيْرِ الْمُتَظَاهِرِ فِسْقُهُ وَبِدْعَتُهُ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يَحْرُمُ سَبُّهُمْ تَحْذِيرًا مِنْ طَرِيقَتِهِمُ اهـ.
وَفِي الْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ الْمَيِّتَيْنِ وَلَوْ كَانَا مُتَظَاهِرَيْنِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ جَوَازَ ذَمِّهِمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا لِكَيْ يَنْزَجِرَا أَوْ يَحْتَرِزَ النَّاسُ عَنْهُمَا، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُمَا مَاتَا عَلَى التَّوْبَةِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ لَعْنِ نَحْوِ يَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ، وَخُصُوصِ الْمُبْتَدِعَةِ بِأَعْيَانِهِمْ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى سَبِّهِمْ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُعَارَضَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَا تَذْكُرُوا هَلْكَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ» ، وَيُدْفَعُ بِحَمْلِ الْمَذْمُومِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ. (فَقَالَ: وَجَبَتْ) أَيْ: حَقَّتْ لَهُ النَّارُ، يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ وَالْمَوْتِ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ عَامًّا فِي كُلٍّ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، بَلْ تُرْجَى الْجَنَّةُ لِلْأَوَّلِ وَيُخَافُ لِلثَّانِي مِنَ النَّارِ، وَأَمَّا جَزْمُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَبِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ. (فَقَالَ عُمَرُ: مَا وَجَبَتْ؟) أَيْ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِكَ: وَجَبَتْ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ؟ وَأَرَادَ التَّصْرِيحَ بِمَا يُعْلَمُ مِنْ قِيَامِ الْقَرِينَةِ. (فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: قَالَ. (هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا) أَيِ: الْآخَرُ
(أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الثَّنَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ غَيْرُ مُوجِبٍ لِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، بَلْ ذَلِكَ عَلَامَةُ كَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا ارْتِيَابَ أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ بَعْدَ ثَنَاءِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم حُكْمٌ عَقَّبَ وَصْفًا مُنَاسِبًا، وَهُوَ يُشْعِرُ بِالْعِلْيَةِ، وَكَذَا الْوَصْفُ بِقَوْلِهِ: (أَنْتُمْ أَيْ: أَيُّهَا الصَّحَابَةُ، أَوْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ. (شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّشْرِيفِ، وَأَنَّهُمْ بِمَكَانٍ وَمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ أَيْضًا كَالتَّزْكِيَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ، وَإِظْهَارِ عَدَالَتِهِمْ بَعْدَ أَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ لِصَاحِبِ الْجَنَازَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ وَنَفْعٌ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ وَيُصَدِّقُ ظُنُونَهُمْ فِي حَقِّ الْمَثْنِيِّ عَلَيْهِ كَرَامَةً لَهُمْ، وَتَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ كَالدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ، فَيُوجِبُ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ، فَهُوَ كَالْوَاجِبِ إِذَ لَا أَثَرَ لِلْعَمَلِ وَلَا الشَّهَادَةِ فِي الْوُجُوبِ، وَإِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ يَرْمُزُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أَيْ: جَعَلْنَاكُمْ عُدُولًا خِيَارَ الشُّهُودِ لِتَشْهَدُوا عَلَى غَيْرِكُمْ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ رَقِيبًا عَلَيْكُمْ، وَمُزَكِّيًا لَكُمْ، وَيُبَيِّنَ عَدَالَتَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ لِشَهَادَتِهِمْ مَدْخَلًا فِي نَفْعِهِمْ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلثَّنَاءِ فَائِدَةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: «حِينَ أَثْنَوْا عَلَى جَنَازَةٍ جَاءَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ كَانَ يُعْلِنُ كَذَا وَيُسِرُّ كَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَدَّقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ: وَغَفَرَ لَهُ مَا لَا يَعْلَمُونَ» . قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا نَتِيجَةَ سِتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِسَتْرِ الْمَعَاصِي، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غَالِبِيٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْطِقُ الْأَلْسِنَةَ فِي حَقِّ كُلِّ إِنْسَانٍ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ سَرِيرَتِهِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَلِذَا قِيلَ أَلْسِنَةُ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ خُلِقَ لِلْجَنَّةِ يَصِيرُ لِلنَّارِ بِقَوْلِهِمْ وَلَا عَكْسُهُ، إِذْ قَدْ يَقَعُ عَلَيْهِ الثَّنَاءُ بِالْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ وَفِي بَاطِنِ الْأَمْرِ خِلَافُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَامَةٌ مُطَابِقَةٌ لِلْوَاقِعِ غَالِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ» . أَنَّ مَا يَقُولُ الصَّحَابَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي حَقِّ شَخْصٍ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ يَكُونُ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ لَا يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِمْ. بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا رَأَوْا مِنْهُ الصَّلَاحَ وَالْخَيْرَاتِ فِي حَيَاتِهِ، وَالْخَيْرَاتُ وَالصَّلَاحُ عَلَامَةُ كَوْنِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالَّذِي أَثْنَوْا عَلَيْهِ شَرًّا رَأَوْا مِنْهُ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، وَالشَّرُّ وَالْفَسَادُ مِنْ عَلَامَةِ النَّارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ بِكَوْنِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، بَلْ يُرْجَى لِمَنْ شُهِدَ لَهُ بِالْخَيْرِ، وَيُخَافُ النَّارُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ بِالشَّرِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ نَحْوَهُ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(وَفِي رِوَايَةٍ الْمُؤْمِنُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الصَّحَابَةُ فَيُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ وَالْخِطَابُ فِي أَنْتُمْ لِلْأُمَّةِ الْمَوْجُودِينَ أَوَّلًا، وَاللَّاحِقِينَ آخِرًا. (شُهَدَاءُ اللَّهِ الْإِضَافَةُ تَشْرِيفِيَّةٌ وَمُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ. (فِي الْأَرْضِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ فِي السَّمَاءِ.
1663 -
وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. قُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ؟ قَالَ. وَثَلَاثَةٌ؟ قُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ " ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1663 -
(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَيْ: أَثْنَوْا عَلَيْهِ بِجَمِيلٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِشَهَادَتِهِمْ صَلَاتَهُمْ عَلَيْهِ، وَدُعَاءَهُمْ وَشَفَاعَتَهُمْ لَهُ، فَيَقْبَلُ اللَّهُ ذَلِكَ. (أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَيْ: بِفَضْلِهِ، وَسَبَبِ خَيْرِهِ وَصَلَاحِهِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ ذَنْبٌ فَيَغْفِرُ اللَّهُ ذَنْبَهُ، وَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ بِتَصْدِيقِ ظَنِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَوْنِهِ صَالِحًا ; وَلِذَا قِيلَ أَلْسِنَةُ الْخَلْقِ أَقْلَامُ الْحَقِّ فَيَتَضَمَّنُ الْحَدِيثُ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا. (قُلْنَا: وَثَلَاثَةٌ) ؟ أَيْ: وَمَا حُكْمُ ثَلَاثَةٍ؟ . (قَالَ: وَثَلَاثَةٌ) أَيْ: وَكَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: هُوَ وَمَا قَبْلَهُ عَطْفُ تَلْقِينٍ. (قُلْنَا: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ) . ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ غَالِبًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى رَدِّ مَا قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْوَاحِدِ كِفَايَةٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1664 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ ; فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1664 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ) أَيْ: بِاللَّعْنِ وَالشَّتْمِ وَإِنْ كَانُوا فُجَّارًا أَوْ كُفَّارًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَوْتُهُ بِالْكُفْرِ قَطْعِيًّا، كَفِرْعَوْنَ وَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ. (فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا) أَيْ: وَصَلُوا. (إِلَى مَا قَدَّمُوا) وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى مَا قَدَّمُوهُ أَيْ: مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ، أَوْ مُجَازَاةِ مَا عَمِلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُجَازِي، فَإِذْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ بِأَنْ كَانُوا كَافِرِينَ أَوْ فَاجِرِينَ، فَمَا لَكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ ذَمَّ بَعْضِ الْأَحْيَاءِ لِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ فَائِدَةٍ مَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَقَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسَائِيُّ.
1665 -
ــ
1665 -
(وَعَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ) جَمْعُ قَتِيلٍ. (فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) أَيْ: مِنَ الْكَفَنِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَلَاقِي بَشْرَتِهِمَا، إِنْ يُمْكِنْ حَيْلُولَتُهُمَا بِنَحْوِ إِذْخِرٍ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الثَّوْبَ كَانَ طَوِيلًا فَأُدْرِجَا فِيهِ، وَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فِي وَاحِدٍ لَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَا يَجُوزُ تَجْرِيدُهُمَا بِحَيْثُ تَتَلَاقَى بَشْرَتُهُمَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِيَابُهُ الْمُتَلَطِّخَةُ بِالدَّمِ وَغَيْرِ الْمُتَلَطِّخَةِ، وَلَكِنْ يُضْجَعُ أَحَدُهُمَا بِجَنْبِ الْآخَرِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَجُوزُ دَفْنُ مَيِّتَيْنِ فَصَاعِدًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، كَفِي قَبْرٍ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ: حَالٌ، أَيْ: كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَالَ كَوْنِهِمَا أَيْ: كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ثَوْبُهُ الَّذِي لَابِسُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَأَمَّا جَمْعُهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ:(ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا) أَيْ: حِفْظًا أَوْ قِرَاءَةً (لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْأَحَدَ. (فِي اللَّحْدِ) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَبِضَمِّ وَسُكُونِ الْحَاءِ أَيِ: الشَّقِّ فِي عُرْضِ الْقَبْرِ جَانِبَ الْقِبْلَةِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ إِمَامٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَيَكُونُ كَذَلِكَ قَارِئُهُ مُسْتَحَقَّ التَّقَدُّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَالْمَرَاتِبِ الْعُلْيَا فِي جَنَّةِ الْمَأْوَى. (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا شَهِيدٌ) أَيْ: شَاهِدٌ وَمُثْنٍ. (عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: أَنَا شَفِيعٌ لَهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُمْ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اهـ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى تَدْفَعُ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالتَّضْمِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] . {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]، فَالْمُرَادُ: أَنَا حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، أُرَاقِبُ أَحْوَالَهُمْ وَأَصُونُهُمْ عَنِ الْمَكَارِهِ اهـ. كَذَا ذَكَرَ الطِّيبِيُّ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحِ الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَتْلَى كَمَا لَا يَخْفَى. (وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمُ) الْبَاءُ الثَّانِيَةُ لِلْمُصَاحَبَةِ. (وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ) فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى أَمَرَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا بِفَتْحِ اللَّامِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعُلِمَ أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ. قُلْتُ: هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَرَجَّحَ الصَّلَاةَ إِمَّا لِإِثْبَاتِهَا، أَوْ لِلِاحْتِيَاطِ فِيهَا، أَوْ لِلرُّجُوعِ إِلَى الْأَصْلِ عَنِ التَّسَاقُطِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَأَمَّا صَلَاتُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى حَمْزَةَ فَلِمَزِيدِ رَأْفَتِهِ. قُلْتُ: إِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ لَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُنْحَصِرَةً فِي حَمْزَةَ، وَإِنَّمَا صَلَّى عَلَى جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ كَمَا سَبَقَ، وَمَزِيَّةُ حَمْزَةَ لِمَزِيدِ الرَّحْمَةِ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ صَلَّى عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ تَوْدِيعًا لَهُمْ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ الصَّلَاةِ بِالدُّعَاءِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ; لِقَوْلِهِ: صَلَاتُهُ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لِدَفْعِ إِرَادَةِ الْمَجَازِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ كَدُعَائِهِ لِلْمَيِّتِ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا، وَهُوَ وَاضِحٌ مِنَ الْمُخَالِفِ إِذْ لَا يُصَلَّى عِنْدَ الْقَبْرِ عِنْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اهـ. فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى خُصُوصِيَّاتِهِ صلى الله عليه وسلم. (وَلَمْ يُغَسَّلُوا) هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَيُوَافِقُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَغْسِيلِهِمْ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كَلْمٍ أَوْ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَصَحَّ أَنَّ حَنْظَلَةَ قُتِلَ وَهُوَ جُنُبٌ فَلَمْ يُغَسِّلْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ» " فَلَوْ وَجَبَ غُسْلُهُ لَمَا سَقَطَ إِلَّا بِفِعْلِنَا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1666 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفَرَسٍ مَعْرُورٍ فَرَكِبَهُ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحِ، وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1666 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: أُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفَرَسٍ مَعْرُورٍ) أَيْ: عَارٍ مِنَ السَّرْجِ وَنَحْوِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اعْرَوْرَى الْفَرَسُ أَيْ: رَكِبَهُ عُرْيَانًا، فَالْفَارِسُ مَعْرُورٌ وَالْفَرَسُ مُعْرَوْرَى، هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ صَحَّتْ بِالْكَسْرِ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ فَرَسٌ مُعْرَوْرِيٌّ عَلَى الْمَفْعُولِ لَا سَرْجَ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرَهُ، اعْرَوْرَى الْفَرَسُ وَاعْرَوْرَيْتُهُ رَكِبْتُهُ عُرْيَانًا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَهُوَ أَيِ: الْآتِي بِالْفَرَسِ مَعْرُورٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ مُنَوَّنًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِهِ يُرَدُّ قَوْلُ بَعْضِهِمُ الرِّوَايَةَ بِالْكَسْرِ وَالْقِيَاسُ الْفَتْحُ، فَمَرْدُودٌ، وَوَجْهُهُ لَا يَخْفَى عَلَى طَبْعٍ مَعْقُولٍ، وَذَوْقٍ مَقْبُولٍ. (فَرَكِبَهُ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. (حِينَ انْصَرَفَ مِنْ جَنَازَةِ ابْنِ الدَّحْدَاحِ) بِفَتْحِ الدَّالِ، وَكَوْنُهُ ابْنَ الدَّحْدَاحِ كَذَا هُوَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَعَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَأَحْمَدَ: أَنَّ الدَّحْدَاحَ، وَفِي أُخْرَى: أُمُّ الدَّحْدَاحِ، وَأَبُو الدَّحْدَاحِ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ اسْمٌ وَلَا نَسَبٌ، غَيْرَ أَنَّهُ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، وَيُشْكِلُ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ: أَنَّهُ عَاشَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، نَعَمْ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ مَاتَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُكَنَّى أَبَا الدَّحْدَاحِ، لَكِنْ قَالَ فِي الْإِصَابَةِ: الْحَقُّ أَنَّهُ غَيْرُ هَذَا.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّكُوبِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الْجَنَازَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ رُكُوبُهُ عليه الصلاة والسلام لِعُذْرٍ لَكِنْ سَيَأْتِي دَلِيلٌ قَوْلِيٌّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا يُكْرَهُ الرُّكُوبُ فِي الرُّجُوعِ مِنَ الْجَنَازَةِ اتِّفَاقًا لِانْقِضَاءِ الْعِبَادَةِ. (وَنَحْنُ نَمْشِي حَوْلَهُ) أَيْ: بَعْضُنَا قُدَّامَهُ، وَبَعْضُنَا وَرَاءَهُ، وَبَعْضُنَا يَمِينَهُ وَبَعْضُنَا شِمَالَهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
1667 -
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا، وَعَنْ يَسَارِهَا وَعَنْ يَمِينِهَا، وَالسَّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: قَالَ: "«الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» ". وَفِي الْمَصَابِيحِ: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
1667 -
(عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيِّ، أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ وَقَدِمَ مُهَاجِرًا، نَزَلَ الْكُوفَةَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ خَمْسِينَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً وَهُوَ أَمِيرُهَا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُغِيرَةَ غَيْرَهَ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ) إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الْعُذْرِ، أَوْ مُقَيَّدٌ بِحَالِ الرُّجُوعِ، لِمَا سَيَأْتِي. (وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا) وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَنَا. (وَأَمَامَهَا) وَهُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. (وَعَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا) وَهُمَا جَائِزَانِ. (قَرِيبًا مِنْهَا) أَيْ: كُلَّمَا يَكُونُ أَقْرَبَ مِنْهَا فِي الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ لِلْمُسَاعَدَةِ فِي الْحَمْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، لِزِيَادَةِ التَّذَكُّرِ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ. (وَالسِّقْطُ) بِتَثْلِيثِ السِّينِ، وَالْكَسْرُ أَشْهَرُ مَا بَدَا بَعْضُ خَلْقِهِ، فِي الْقَامُوسِ: السِّقْطُ مُثَلَّثَةٌ: الْوَلَدُ لِغَيْرِ تَمَامٍ اهـ. وَهُوَ أَتَمُّ بِالْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ:(يُصَلَّى عَلَيْهِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّمَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا ثُمَّ مَاتَ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِي الْبَطْنِ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الِاسْتِهْلَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ حَرَكَةِ عُضْوٍ أَوْ رَفْعِ صَوْتٍ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ خُرُوجُ أَكْثَرِهِ حَيًّا، حَتَّى لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُهُ وَهُوَ يَتَحَرَّكُ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَفِي الْأَقَلِّ لَا، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: إِذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَوَرِثَ. قَالَ النَّسَائِيُّ وَلِلْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ غَيْرُ حَدِيثٍ مُنْكَرٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ رَفْعُهُ: الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُورَّثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَكَأَنَّ الْمَوْقُوفَ أَصَحُّ. وَأَنْتَ سَمِعْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي تَعَارُضِ الْوَقْفِ وَالرَّفْعِ تَقَدُّمُ الرَّفْعِ لَا التَّرْجِيحِ بِالْأَحْفَظِ، وَالْأَكْثَرُ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ، وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَصَحَّحَهُ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: " «السِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ» . إِلَخْ " فَسَاقِطَةٌ ; إِذِ الْحَصْرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.
(وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ) أَيْ: إِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ. (بِالْمَغْفِرَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ: بِالْعَافِيَةِ. (وَالرَّحْمَةِ) نَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْأَزْهَارِ: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ لَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُمَا، بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ شَفِيعًا لِأَبَوَيْهِ، وَسَلَفًا وَذُخْرًا، وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ اهـ. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى أَنْ يَقْرَأَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. إِلَى آخِرِهِ، وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي التَّشَهُّدِ، وَبَعْدَ الثَّالِثَةِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا إِلَى آخِرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا ذُخْرًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ: أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ: قَالَ: " الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ) " أَيْ: يَسِيرُ، وَلِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ حَكَى الرَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْنَدِ كَالْخَطَّابِيِّ: الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَسِيرَ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَمِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ عَنْ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْأَفْضَلَ أَمَامَهَا، وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ ; لِمَا صَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَمْشِي أَمَامَ الْجَنَازَةِ اهـ. وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَقَدَّمَ عَلَى الْجَنَازَةِ رَاكِبًا، وَلَوْ وَرَدَ وَصَحَّ كَانَ مُعَارَضًا يَحْتَاجُ إِلَى مُرَجِّحٍ. (وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا) أَيْ: يَمْشِي حَيْثُ أَرَادَ مِنَ الْجِهَاتِ أَيْ: فِي حَوَالِهَا. (وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ) فِي الْقَامُوسِ: الطِّفْلُ بِالْكَسْرِ: الصَّغِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمَوْلُودُ. (وَفِي الْمَصَابِيحِ: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ) أَيْ: بَدَلٌ مِنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ وَالْقَاضِي: قَوْلُهُ: عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ سَهْوٌ، وَلَعَلَّهُ مِنْ خَطَأِ النَّاسِخِ ; إِذْ لَيْسَ فِي عَدَدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَحَدٌ بِهَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ. وَقَالَ مِيرَكُ: وَالْحَدِيثُ رُوِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، فَمَا فِي الْمَصَابِيحِ خَبْطٌ مِنَ الْكُتَّابِ.
1668 -
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُرْسَلًا.
ــ
1668 -
(وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: بِهَذَا الْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْحَدِيثِ الْآتِي، وَعِلَّةُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجَنَازَةِ انْتِبَاهُ النَّاسِ، وَاعْتِبَارُهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا وَقُدَّامَهَا، كَأَنَّهُمْ شُفَعَاءُ الْمَيِّتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفِيعُ يَمْشِي قُدَّامَ الْمَشْفُوعِ لَهُ. قُلْتُ: وَيُزَادُ فِي الْأَوَّلِ لِيَكُونَ مُسْتَعِدًّا لِلْمُسَاعَدَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ فِي حَمْلِ الْجَنَازَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهُمْ كَالْمُوَدِّعِينَ، وَإِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مِنَ السَّابِقِينَ، وَأَنَّهُمْ مِنَ اللَّاحِقِينَ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْأَفْضَلُ لِلْمُشَيِّعِ لِلْجَنَازَةِ الْمَشْيُ خَلْفَهَا، وَيَجُوزُ أَمَامَهَا إِلَّا أَنْ يَتَبَاعَدَ عَنْهَا أَوْ، يَتَقَدَّمَ الْكُلُّ فَيُكْرَهُ وَلَا يَمْشِي عَنْ يَمِينِهَا وَلَا عَنْ شِمَالِهَا. أَقُولُ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ، وَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّهْيِ التَّنْزِيهِيِّ ; لِإِدْرَاكِ الْعَمَلِ بِالْأَفْضَلِ. قَالَ: وَيُكْرَهُ لِمُشَيِّعِهَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ، وَيَذْكُرُ فِي نَفْسِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: الْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ، وَقَدْ نُقِلَ فِعْلُ السَّلَفِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَالتَّرْجِيحِ بِالْمَعْنَى هُوَ يَقُولُ: هُمْ شُفَعَاءُ، وَالشَّفِيعُ يَتَقَدَّمُ لِيُمَهِّدَ الْمَقْصُودَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: هُمْ مُشَيِّعُونَ فَيَتَأَخَّرُونَ وَالشَّفِيعُ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الذِّكْرُ لَا يَسْتَصْحِبُ الْمُشَوَّعَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ شَرْعًا إِلْزَامُ تَقْدِيمِهِ حَالَةَ الشَّفَاعَةِ لَهُ أَعْنِي حَالَةَ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ شَرْعًا عَدَمُ اعْتِبَارِ مَا اعْتَبَرَهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَقَالَ. (التِّرْمِذِيُّ: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ مُرْسَلًا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِقَوِيٍّ اهـ. هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ قَالَ مِيرَكُ: عِبَارَةُ التِّرْمِذِيِّ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ: كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ فِي ذَلِكَ أَصَحُّ ; وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ بَعِيدٌ،
وَأَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ الطَّرِيقَ الْمُتَّصِلَ فِي كِتَابِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالطَّرِيقُ الْمُرْسَلُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ اهـ. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ: مُرْسَلٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا مُرْسَلٌ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّذِي رَفَعَهُ. وَقَالَ غَيْرُ هَؤُلَاءِ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ، وَقَدْ أَتَى بِزِيَادَةٍ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ فَوَجَبَ قَبُولُهَا، وَقَدْ تَابَعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى وَصْلِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَزِيَادُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَمِمَّنْ وَصَلَهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَى وَصْلِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَهُوَ حُجَّةٌ ثِقَةٌ كَذَا فِي التَّصْحِيحِ.
1669 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْجَنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، وَلَا تَتْبَعُ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَبُو مَاجِدٍ الرَّاوِي: رَجُلٌ مَجْهُولٌ.
ــ
1669 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْجَنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ) أَيْ: حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَيَمْشِي وَلَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا. (وَلَا تَتْبَعُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ وَبِرَفْعِ الْعَيْنِ عَلَى النَّفْيِ، وَبِسُكُونِهَا عَلَى النَّهْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِتَشْدِيدِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ أَيْ: لَا تَتَّبِعُ هِيَ النَّاسَ، فَلَا تَكُونُ عَقِيبَهُمْ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: امْشُوا خَلْفَ الْجَنَازَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَغَيْرُ تَابِعَةٍ. وَقَوْلُهُ: (لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا) تَقْرِيرٌ بَعْدَ تَقْرِيرٍ، وَالْمَعْنَى لَا يَثْبُتُ لَهُ الْأَجْرُ اهـ. أَيِ: الْأَجْرُ الْأَكْمَلُ فَيُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ أَنَّ الْمَشْيَ وَرَاءَهَا أَفْضَلُ، وَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنَ الْمَشْيِ أَمَامَ الْجَنَازَةِ وَاقِعَةُ حَالٍ فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ فَعَلُوهُ لِلْأَفْضَلِيَّةِ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِعَارِضٍ اقْتَضَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْأَزْمَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَاجِدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَأَبُو مَاجِدٍ الرَّاوِي رَجُلٌ مَجْهُولٌ) قُلْتُ جَهْلُ الرَّاوِي الْمُتَأَخِّرِ لَا يَضُرُّ لِلْمُجْتَهِدِ حَيْثُ ثَبَتَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ، وَقَالَ بِهِ.
1670 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً وَحَمَلَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
1670 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً وَحَمَلَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ)" قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي يُعَاوِنُ الْحَامِلِينَ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ يَتْرُكُهَا لِيَسْتَرِيحَ، ثُمَّ يَحْمِلُهَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ يَفْعَلُ كَذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (" فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهَا) " بَيَانٌ لِمَا قَالَ مِيرَكُ: أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْمُعَاوَنَةِ لَا مِنْ دَيْنٍ وَغَيْبَةٍ وَنَحْوِهِمَا. هُوَ قَدْ عَدَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا مَرَّ أَوَّلَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُشَيِّعَ جَنَازَتَهُ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ مُبْتَدِعٍ وَفَاسِقٍ مُعْلِنٍ، كَظَالِمٍ وَمَكَّاسٍ تَنْفِيرًا عَنْ حَالَتِهِ الْقَبِيحَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
1671 -
وَقَدْ رَوَى فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ جَنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ» .
ــ
1671 -
(وَقَدْ رَوَى) أَيِ: الْمُصَنِّفُ وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ. (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ جَنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: عَمُودَيِ الْجَنَازَةِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ. قَالَ مِيرَكُ: نَقْلًا عَنِ الْأَزْهَارِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ يَحْمِلَهَا ثَلَاثَةٌ: يَقِفُ أَحَدُهُمْ قُدَّامَهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ، وَاثْنَانِ خَلْفَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَضَعُ عَمُودًا عَلَى عَاتِقِهِ، هَذَا عِنْدَ حَمْلِ الْجَنَازَةِ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعَاوِنَهُمْ مَنْ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ التَّرْبِيعُ: بِأَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةٌ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ عَمُودًا عَلَى عَاتِقِهِ اهـ. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَمَلَ جَنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ مِنْ بَيْتِهِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ خَرَجَ بِهِ مِنَ الدَّارِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَالدَّارُ يَكُونُ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ اهـ. إِلَّا أَنَّ الْآثَارَ فِي الْبَابِ ثَابِتَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: بَعْدَ مَا سَرَدَ تِلْكَ الْآثَارَ قُلْنَا: هَذِهِ مَوْقُوفَاتٌ. وَالْمَرْفُوعُ مِنْهَا ضَعِيفٌ، ثُمَّ هِيَ وَقَائِعُ حَالٍ فَاحْتَمَلَ كَوْنَ ذَلِكَ فَعَلُوهُ ; لِأَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ لِعَارِضٍ اقْتَضَى فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنِ اتَّبَعَ الْجَنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَنِيفَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْمُعْتَمِرِ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ حَمْلُ الْجَنَازَةِ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ الْأَرْبَعَةِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ: مَنِ اتَّبَعَ الْجَنَازَةَ فَلْيَأْخُذْ بِجَوَانِبِ السَّرِيرِ كُلِّهَا ; فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّ هَذَا هُوَ السُّنَّةُ، وَأَنَّ خِلَافَهَا إِنْ تَحَقَّقَ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ فَلِعَارِضٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُنَاظِرِ تَعْيِينُهُ.
1672 -
وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ فَرَأَى نَاسًا رُكْبَانًا. فَقَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ؟ إِنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ نَحْوَهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْقُوفًا.
ــ
1672 -
(وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ: مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةٍ فَرَأَى نَاسًا رُكْبَانًا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قُدَّامَ الْجَنَازَةِ أَوْ طَرَفَهَا لِئَلَّا يُنَافِيَ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: يَسِيرُ الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ أَيْ: حَالَةَ الْمُرَاجَعَةِ. (فَقَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ؟ إِنَّ) بِالْكَسْرِ. (مَلَائِكَةَ اللَّهِ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ) فِي الْأَزْهَارِ كَرِهَ الرُّكُوبَ خَلْفَ الْجَنَازَةِ ; لِأَنَّهُ تَنَعُّمٌ وَتَلَذُّذٌ، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. قُلْتُ: حَمْلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ هَذَا لَاسِيَّمَا فِي حَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَاشٍ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا. قَالَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: يَسِيرُ الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ. أَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ بِمَرَضٍ أَوْ شَلَلٍ أَوْ عَرَجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ اهـ. وَجَمْعُنَا السَّابِقُ أَجْمَعُ مِنْ جَمْعِهِ اللَّاحِقِ، ثُمَّ قَالَ: حَدِيثُ ثَوْبَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ الْجَنَازَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّحْمَةِ وَمَعَ الْكُفَّارِ بِاللَّعْنَةِ. قَالَ: أَنَسٌ «مَرَّتْ جَنَازَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ فَقِيلَ: إِنَّهُ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ: إِنَّا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ اهـ.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى نَدْبِ الْقِيَامِ لِتَعْظِيمِ الْفُضَلَاءِ وَالْكُبَرَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: هَذَا اللَّفْظُ. (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ: وَهُوَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُتِيَ بِدَابَّةٍ وَهُوَ مَعَ جَنَازَةٍ فَأَبَى أَنْ يَرْكَبَ فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِيُ بِدَابَّةٍ فَرَكِبَ. فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَمْشِي فَلَمْ أَكُنْ لِأَرْكَبَ وَهُمْ يَمْشُونَ، فَلَمَّا ذَهَبُوا رَكِبْتُ. (قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ثَوْبَانَ مَوْقُوفًا) لَكِنْ يُرَجَّحُ الْمَرْفُوعُ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَوْقُوفَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ.
1673 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى الْجَنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1673 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى الْجَنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، قُلْتُ: مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ كَانَتْ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ أَيِّ تَكْبِيرَةٍ مِنْ تَكْبِيرَاتِهِ. الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ اهـ. قَالَ مِيرَكُ: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ فِي سَنَدِهِ أَبَا شَيْبَةَ: إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُثْمَانَ الْوَاسِطِيَّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. (وَأَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُهُ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ عَلَى الْجَنَازَةِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. فَقَالَ: إِنَّهَا مِنَ السُّنَّةِ اهـ. فَنِسْبَةُ الْحَدِيثِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ غَيْرُ صَحِيحٍ. (وَابْنِ مَاجَهْ) .
1674 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1674 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ: ادْعُوَا لَهُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْإِخْلَاصِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا جَعَلُوا الدُّعَاءَ خَاصًّا لَهُ فِي الْقَلْبِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي اللَّفْظِ، وَأَغْرَبَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَخْصِيصِ الْمَيِّتِ بِالدُّعَاءِ، وَلَا يَكْفِي التَّعْمِيمُ وَهُوَ الْأَصَحُّ اهـ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِخُصُوصِيَّةٍ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ رُكْنٌ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْعُمُومِ مَعَ أَنَّ وُجُوبَ الدُّعَاءِ مُطْلَقًا غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَنَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ. (وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
1675 -
وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1675 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا) أَيْ: حَاضِرِنَا. (وَغَائِبِنَا) قَالَ مِيرَكُ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ تَعْمِيمِ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَخْصِيصِ مَا مَرَّ، الْجَمْعُ بَيْنَ الدُّعَاءَيْنِ لِلْمَيِّتِ خَاصَّةً، وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً اهـ. لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْوُرُودِ، وَإِذَا وَرَدَ فَفِي الْوُجُوبِ. (وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الدُّعَاءُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ اهـ. وَيَدْفَعُهُ مَا وَرَدَ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى طِفْلٍ لَا يَعْمَلُ خَطِيئَةً قَطُّ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ قِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ وَضِيقَهُ» ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الشَّابَّ، وَالشَّيْخَ فَلَا إِشْكَالَ، وَتَكَلَّفَ ابْنُ الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَ التُّورِبِشْتِيُّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ لِلصِّبْيَانِ مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُمْ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ السُّؤَالُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنَ الذُّنُوبِ حَتَّى إِذَا كَانَ فَعَلَهُ كَانَ مَغْفُورًا، وَإِلَّا فَالصَّغِيرُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ اهـ. وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا الْبَحْثِ فِي أَوَاخِرِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَرَائِنِ الْأَرْبَعِ الشُّمُولُ وَالِاسْتِيعَابُ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى التَّخْصِيصِ نَظَرًا إِلَى مُفْرَدَاتِ التَّرْكِيبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسَلَّمَاتِ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ، فَهِيَ مِنَ الْكِنَايَةِ الزُّبْدِيَّةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَمْعُهُ فِي قَوْلِهِ. (اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ) أَيِ: الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ لِلْأَوَامِرِ. (وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ) أَيِ: التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ إِذْ لَا نَافِعَ حِينَئِذٍ غَيْرُهُ. (اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ أَقُولُ: الْفَتْحُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الضَّمُّ لُغَةً. (أَجْرَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: أَجْرَ الْإِيمَانِ. أَقُولُ الصَّوَابُ: أَجْرُ الْمَيِّتِ، أَوْ أَجْرُ الْمُؤْمِنِ. (وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ) أَيْ: لَا تَجْعَلْنَا مَفْتُونِينَ بَعْدَ الْمَيِّتِ بَلِ اجْعَلْنَا مُعْتَبِرِينَ بِمَوْتِهِ عَنْ مَوْتِنَا، وَمُسْتَعِدِّينَ لِرِحْلَتِنَا، وَفِي الْمَصَابِيحِ: وَلَا تُضِلَّنَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَلَا تَفْتِنَّا أَيْ: لَا تُلْقِي عَلَيْنَا الْفِتْنَةَ بَعْدَ الْإِيمَانِ، الْمُرَادُ بِهَا هَهُنَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .
1676 -
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْأَشْهَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأُنْثَانَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَفِي آخِرِهِ: وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ.
ــ
1676 -
(وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْأَشْهَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَانْتَهَتْ رِوَايَتُهُ) أَيْ: رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ. (عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأُنْثَانَا وَفِي. رَاوِيَةِ أَبِي دَاوُدَ فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَفِي آخِرِهِ) اسْتَرْوَحَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَمَعْنَاهُمَا صَحِيحٌ أَيْضًا فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا مَفْهُومًا اتَّحَدَا قَصْدًا اهـ. وَكَأَنَّهُ مَا فَهِمَ تَحْقِيقَ الطِّيبِيِّ وَتَدْقِيقَهُ الْآتِيَ. (وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ الْإِيمَانِ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي الرَّاوِيَةِ الْأُولَى، وَتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فِي الثَّانِيَةِ؟ قُلْتُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُمَا يُعَبِّرَانِ عَنِ الدَّيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَرَدَ الْإِسْلَامُ بِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِانْقِيَادُ وَإِظْهَارُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ دُونَ الْإِيمَانِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أُشِيرَ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَعْمَالِ فِي الْحَيَاةِ، وَالْإِيمَانِ عِنْدَ الْمَمَاتِ، قُلْتُ: فِي الْعِبَارَةِ مُنَاقَشَةٌ لَا تَخْفَى قَالَ: وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْعَوَامِّ. وَالثَّانِي: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ وَالِاسْتِسْلَامُ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْخَوَاصِّ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مُشِيرَةٌ إِلَى هَذَا اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الْإِسْلَامُ ثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ فَيُنَاسِبُ حَالُ الْحَيَاةِ الْقِيَامَ بِتَكَالِيفِ الْأَثْقَالِ، وَالْإِيمَانُ حَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ، وَالِاعْتِقَادِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ فَيُلَائِمُهُ حَالُ الْمَمَاتِ، فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ. فَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ هِيَ الْعُمْدَةُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى إِمَّا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الرُّوَاةِ نِسْيَانًا أَوْ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَجَوَازِ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى. أَوْ يُقَالُ: فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ أَيْ: وَتَوَابِعِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَيْ: عَلَى الِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ مُقَدِّمَةُ يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
1677 -
وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1677 -
(وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ» ) أَيْ: أَمَانِكَ ; لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِكَ. (" وَحَبْلِ جِوَارِكَ)" بِكَسْرِ الْجِيمِ قِيلَ: عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَقِيلَ: الْحَبْلُ الْعَهْدُ أَيْ: فِي كَنَفِ حِفْظِكَ، وَعَهْدِ طَاعَتِكَ. وَقِيلَ: أَيْ: فِي سَبِيلِ قُرْبِكَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ وَمُتَمَسِّكٌ بِالْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: "{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103]" وَفَسَّرَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِالْجِوَارِ الْأَمَانُ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ يَعْنِي الْحَبْلَ الَّذِي يُورِثُ الِاعْتِصَامُ بِهِ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَالْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ، وَالْمَعْرِفَةَ وَالْإِيقَانَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِحْسَانِ، وَمَنَازِلِ الْجِنَانِ، قَالَ تَعَالَى: "{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] " وَفِي النِّهَايَةِ كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَحِيفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ أَخَذَ عَهْدًا مِنْ سَيِّدِ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَيَأْمَنُ بِهِ مَا دَامَ مُجَاوِرًا أَرْضَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى آخَرَ، فَيَأْخُذُ مِثْلَ ذَلِكَ فَهَذَا حَبْلُ الْجِوَارِ، أَوْ هُوَ مِنَ الْإِيجَارَةِ وَالْأَمَانِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْحَبْلُ: الْأَمَانُ وَالْعَهْدُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الثَّانِي أَظْهَرُ، وَقَوْلُهُ: وَحَبْلِ جِوَارِكَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: فِي ذِمَّتِكَ، نَحْوَ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ، وَالْأَصْلُ أَنَّ فُلَانًا فِي عَهْدِكَ، فَنُسِبَ إِلَى الْجِوَارِ مَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَجُعِلَ لِلْجِوَارِ عَهْدًا مُبَالَغَةً فِي كَمَالِ حِمَايَتِهِ، فَالْحَبْلُ مُسْتَعَارٌ لِلْعَهْدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّوْثِقَةِ، وَعَقْدِ الْقَوْلِ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ. (فَقِهِ) بِالضَّمِيرِ أَوْ بِهَاءِ السَّكْتِ. (مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ) أَيِ: امْتِحَانِ السُّؤَالِ فِيهِ، أَوْ مِنْ أَنْوَاعِ عَذَابِهِ: مِنَ الضَّغْطَةِ وَالظُّلْمَةِ وَغَيْرِهِمَا. (وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ) أَيْ: بِالْوَعْدِ، فَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَجْرِيدٌ لِاسْتِعَارَةِ الْحَبْلِ لِلْعَهْدِ ; لِأَنَّ الْوَفَاءَ يُنَاسِبُ الْعَهْدَ. (وَالْحَقِّ) أَيْ: أَنْتَ أَهْلٌ بِأَنْ تُحِقَّ بِالْحَقِّ، وَأَهْلِهِ، وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَنْتَ أَهْلُ الْحَقِّ، أَوْ أَنْتَ أَهْلُ الثُّبُوتِ بِمَا ثَبَتَ عَنْكَ، إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] أَيْ: هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى شِرْكُهُ، وَيُرْجَى مَغْفِرَتُهُ. (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ) لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ بِالْخُصُوصِ، سَوَاءً حَصَلَ فِي ضِمْنِ الْعُمُومِ أَوْ غَيْرِهِ. (إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ) أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِلسَّيِّئَاتِ. (الرَّحِيمُ) كَثِيرُ الْمَرْحَمَةِ بِقَبُولِ الطَّاعَاتِ، وَالتَّفَضُّلِ بِتَضَاعُفِ الْحَسَنَاتِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ. (وَابْنُ مَاجَهْ) .
1678 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مُسَاوِيهِمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
1678 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اذْكُرُوا) قَالَ مِيرَكُ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ. (مَحَاسِنَ) جَمْعُ حُسْنٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. (مَوْتَاكُمْ) جَمْعُ مَيِّتٍ، فَعِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ. (وَكُفُّوا) أَمْرٌ لِلْوُجُوبِ أَيِ: امْتَنِعُوا. (عَنْ مُسَاوِيهِمْ) جَمْعُ سُوءٍ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَيْضًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ ذِكْرَ الصَّالِحِينَ مَحَاسِنُ الْمَوْتَى وَمَسَاوِيهِمْ مُؤَثِّرٌ فِي حَالِ الْمَوْتَى، فَأُمِرُوا بِنَفْعِ الْغَيْرِ، وَنُهُوا عَنْ ضَرَرِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الصَّالِحِينَ فَأَثَرُ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْعَوْا فِي نَفْعِ أَنْفُسِهِمْ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمُ اهـ. وَقَوْلُهُ: وَنُهُوا عَنْ ضَرَرِهِ مُنَاقِضٌ بِتَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم سَابِقًا إِلَّا أَنْ يُحْفَظَ التَّارِيخُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَ قُرْبِ الْمَوْتِ وَالثَّانِيَ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ، أَوِ الْأَوَّلَ مَحْمُولٌ عَلَى اجْتِمَاعِ الصَّالِحِينَ عَلَى ذَمِّهِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الِانْفِرَادِ وَنَظِيرُهُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ وَالْأَقَلِّ بِالْقَذْفِ،، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: غَيْبَةُ الْمَيِّتِ أَشَدُّ مِنَ الْحَيِّ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ عَفْوَ الْحَيِّ وَاسْتِحْلَالَهُ مُمْكِنٌ وَمُتَوَقَّعٌ فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ. وَفِي الْأَزْهَارِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِذَا رَأَى الْغَاسِلُ مِنَ الْمَيِّتِ مَا يُعْجِبُهُ كَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ، وَطِيبِ رِيحِهِ، وَسُرْعَةِ انْقِلَابِهِ عَلَى الْمُغْتَسَلِ اسْتُحِبَّ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ كَنَتْنِهِ، وَسَوَادِ وَجْهِهِ، أَوْ بَدَنِهِ، أَوِ انْقِلَابِ صُورَتِهِ، حَرُمَ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
1679 -
وَعَنْ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ فَقَامَ حِيَالَ رَأْسِهِ ثُمَّ جَاءُوا بِجَنَازَةِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: يَا أَبَا حَمْزَةَ، صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَامَ حِيَالَ وَسَطِ السَّرِيرِ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْجَنَازَةِ مَقَامَكُمْ مِنْهَا وَمِنَ الرَّجُلِ مَقَامَكُمْ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ مَعَ زِيَادَةٍ وَفِيهِ: فَقَامَ عِنْدَ عَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ.
ــ
1679 -
(وَعَنْ نَافِعٍ) تَابِعِيٌّ. (أَبِي غَالِبٍ) عَطْفُ بَيَانٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّ الْكُنْيَةَ كَانَتْ أَعْرَفَ، وَأَشْهَرَ فَجِيءَ بِهَا بَيَانًا لِنَافِعٍ. (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى جَنَازَةِ رَجُلٍ) أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى مَا سَبَقَ. (فَقَامَ حِيَالَ رَأْسِهِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ: حِذَاءَهُ وَمُقَابِلَهُ. (ثُمَّ جَاءُوا بِجَنَازَةِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ) وَفِيمَا تَقَدَّمَ امْرَأَةٌ أَنْصَارِيَّةٌ، فَالْقَضِيَّةُ إِمَّا مُتَعَدِّدَةٌ، وَإِمَّا مُتَّحِدَةٌ، فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ قُرَيْشِيَّةً أَنْصَارِيَّةً. (فَقَالُوا) : أَيْ: أَوْلِيَاؤُهَا. (يَا أَبَا حَمْزَةَ) كُنْيَةُ أَنَسٍ. (صَلِّ عَلَيْهَا. فَقَامَ حِيَالَ وَسَطِ السَّرِيرِ) بِسُكُونِ الْوَسَطِ وَفَتْحِهِ. (فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ: هَكَذَا) بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ. (رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْجَنَازَةِ؟) . أَيْ: مِنَ الْمَرْأَةِ. (مَقَامَكَ مِنْهَا، وَمِنَ الرَّجُلِ مَقَامَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ) . فِي الْأَزْهَارِ: أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الْمَيِّتِ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَقَالَ مَالِكِيٌّ: يَقِفُ عِنْدَ وَسَطِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ مَنْكِبَيِ الْمَرْأَةِ، بِعَكْسِ الْحَدِيثِ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَسَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ مِنِ ابْنِ الْهُمَامِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ نَقْلِ الْأَزْهَارِ هَذَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَالِكًا فِي طَرَفَيِ التَّنَاقُضِ وَالتَّدَافُعِ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى حَدِّ الْوَسَطِ وَالتَّمَانُعِ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْقَصْدَ هُوَ الصَّدْرُ الَّذِي هُوَ الْوَسَطُ، وَلَكِنْ عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ، لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، فَتَارَةً وَقَعَ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ وُقُوفُهُمْ إِلَى مَا يَلِي الرَّأْسَ، وَأُخْرَى إِلَى مَا يَلِي الرِّجْلَ، فَحَصَلَ الْخِلَافُ بِمُقْتَضَى الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَزَعَمَ أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ صَدْرِهِ غَلَطٌ صَرِيحٌ، فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ أَحْمَدَ رَوَاهُ صَرِيحًا وَسَنَدُهُ حَسَنٌ إِذْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ. (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَهُ) أَيْ: بِمَعْنَاهُ. (مَعَ زِيَادَةٍ) وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي نَقْلِ ابْنِ الْهُمَامِ. (وَفِيهِ) أَيْ: فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ. (فَقَامَ) أَيْ: أَنَسٌ. (عِنْدَ عَجِيزَةِ الْمَرْأَةِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ جِيمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَجِيزَةُ الْعَجُزُ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ خَاصَّةً، وَالْعَجُزُ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
1680 -
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمُرَّ عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، أَيْ: مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَقَالَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ: " أَلَيْسَتْ نَفْسًا» "؟ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1680 -
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ تَابِعِي الْكُوفِيِّينَ. (قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ) بِالتَّصْغِيرِ. (وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ) صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ أَنْصَارِيَّانِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا. (فَمُرَّ عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ ; فَقَامَا فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا) أَيِ: الْجَنَازَةَ. (مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْأَرْضُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الرَّذَالَةِ وَالسَّفَالَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف: 176] أَيْ: مَالَ إِلَى السَّفَالَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَحَدُ الرُّوَاةِ تَفْسِيرًا. (أَيْ: مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ) وَقِيلَ: أَيْ مْنَ لَا تَصْعَدُ رُوحُهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَتُرَدُّ إِلَى الْأَرْضِ. (فَقَالَا:«إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ» ) يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ، فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ أَنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، أَوْ أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَوْ يَهُودِيَّةٌ، وَفِي بَعْضِهَا يَهُودِيَّةٌ. (فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ فَزَعٌ كَمَا مَرَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ اهـ. أَوِ التَّعْظِيمُ لِخَالِقِ النَّفْسِ، أَوْ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَصْحَبُونَهَا، وَقَدْ ثَبَتَ نَسْخُ الْقِيَامِ بِرَاوِيَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَلَعَلَّ الْعُذْرَ عَدَمُ عِلْمِهِمَا بِالنَّسْخِ. أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ عَمَلًا بِالْجَوَازِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1681 -
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَبِعَ جَنَازَةً لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ فَعَرَضَ لَهُ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا هَكَذَا نَصْنَعُ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: " خَالِفُوهُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَبِشْرُ بْنُ رَافِعٍ الرَّاوِي لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
ــ
1681 -
(وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَبِعَ جَنَازَةً لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ» ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَتُضَمُّ، وَسُكُونِ الْحَاءِ: الشَّقُّ، وَفِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنَ الْقَبْرِ. (فَعَرَضَ لَهُ أَيْ: ظَهَرَ. (حَبْرٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ: عَالِمٌ. (مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ) أَيِ: الْحَبْرُ. (لَهُ) صلى الله عليه وسلم. (إِنَّا) أَيْ: مَعْشَرَ الْيَهُودِ. (هَكَذَا نَصْنَعُ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ) أَيْ: عُبَادَةُ. (فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: بَعْدَ مَا كَانَ وَاقِفًا أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ.
(وَقَالَ) جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلِ الْفِعْلِيِّ وَالْقَوْلِيِّ. (خَالِفُوهُمْ) فَبَقِيَ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّابِعَ لَمْ يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ سُنَّةٍ تَكُونُ شِعَارَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ تَرْكُهَا أَوْلَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَبِشْرُ بْنُ الرَّافِعِ الرَّاوِي بِسُكُونِ الْبَاءِ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ. (لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) .
1682 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِالْقِيَامِ فِي الْجَنَازَةِ ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
1682 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا) أَمْرَ نَدْبٍ أَوْ وُجُوبٍ. (بِالْقِيَامِ فِي الْجَنَازَةِ) أَيْ: فِي حَالِ رُؤْيَتِهَا وَقَبْلَ دَفْنِهَا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي النَّسْخِ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا. (ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَنَا) تَأْيِيدًا لِلْفِعْلِ بِالْقَوْلِ. (بِالْجُلُوسِ) وَظَاهِرُهُ كَرَاهَةُ الْقِيَامِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقِيلَ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
1683 -
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: «إِنَّ جَنَازَةً مَرَّتْ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَامَ الْحَسَنُ وَلَمْ يَقُمِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ الْحَسَنُ: أَلَيْسَ قَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ؟ ! قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ جَلَسَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
1683 -
(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) بِعَدَمِ الِانْصِرَافِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ الْمَزِيدَتَيْنِ مُطْلَقًا. (قَالَ: إِنَّ جَنَازَةً مَرَّتْ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم فَقَامَ الْحَسَنُ) لِعَدَمِ بُلُوغِهِ النَّسْخَ، أَوْ حَمْلِ النَّسْخِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَجَوَّزَ الِاسْتِحْبَابَ. (وَلَمْ يَقُمِ ابْنُ عَبَّاسٍ) عَمَلًا بِالنَّسْخِ، وَحَمْلًا لِلْأَمْرِ بِالْجُلُوسِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى النَّدْبِ أَوْ عَلَى الْإِبَاحَةِ. « (فَقَالَ الْحَسَنُ: أَلَيْسَ قَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ؟ !) أَيْ: فَكَيْفَ وَهَذَا جَنَازَةُ مُسْلِمٍ؟ ! . (قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ جَلَسَ) أَيْ: قَالَ: نَعَمْ. قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلًا ثُمَّ جَلَسَ) » أَيْ: ثَانِيًا يَعْنِي الْفِعْلَ الثَّانِيَ نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، سِيَّمَا وَقَدْ أَكَّدَهُ بِالْأَمْرِ بِالْجُلُوسِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَيِّنٌ لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ الطِّيبِيِّ: الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ (ثُمَّ جَلَسَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ: فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلًّا مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ كَانَ جُلُوسُهُ مُتَأَخِّرًا فَيَكُونُ كَمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ اهـ. إِذْ مُقْتَضَى مُقَابَلَةِ الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ جَلَسَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ، وَالضَّمِيرُ لِلْحَسَنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ لِعَدَمِ حُصُولِ الْجَوَابِ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلْ يَكُونُ مُصَادَفَةً وَمُوَافَقَةً، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ جَلَسَ فَائِدَةٌ، وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ فِيهِ: جَلَسَ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ لَكَانَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا قَالَ الْحَسَنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، وَلِذَا أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ تَرْكَهُ لِلْقِيَامِ، لَكِنْ لَمَّا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ تَرَكَ الْإِنْكَارَ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْكُمَّلِ، أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُمْ إِلَّا مَحْضَ ظُهُورِ الْحَقِّ، أَوْ تَذَّكَّرَ كَلَامَ وَالِدِهِ رضي الله عنه (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .
1684 -
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ:«أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ جَالِسًا فَمُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَامَ النَّاسُ حَتَّى جَاوَزَتِ الْجَنَازَةُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا مُرَّ بِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِهَا جَالِسًا وَكَرِهَ أَنْ تَعْلُوَ رَأْسَهُ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَامَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
1684 -
(وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ) أَيِ: الْبَاقِرِ. (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ. (أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ جَالِسًا فَمُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَامَ النَّاسُ) أَيْ: بَعْضُهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّسْخُ، أَوْ كَانُوا قَائِلِينَ بِالِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْجَوَازِ. (حَتَّى جَاوَزَتْ) أَيْ: تَعَدَّتِ. (الْجَنَازَةُ) مِنْ مُقَابَلَتِهِمْ. ( «فَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا مُرَّ بِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِهَا جَالِسًا وَكَرِهَ أَنْ تَعْلُوَ رَأْسَهُ جَنَازَةُ الْيَهُودِيِّ» ) إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ. (فَقَامَ) أَيْ: عَنِ الطَّرِيقِ لِهَذَا، وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُ رضي الله عنه عَلَى قِيَامِ النَّاسِ لِلْجَنَازَةِ، عَكْسَ مَا سَبَقَ مِنْهُ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عَدَمِ الْقِيَامِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُتَأَخِّرٌ فَيَكُونُ بَعْدَ تَفَحُّصِهِ الْمَسْأَلَةَ وَتَقَرُّرِهَا عِنْدَهُ أَنَّ قِيَامَهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ; لِأَنَّهُ اخْتَلَفَتْ عِلَلُ الْقِيَامِ فَجُعِلَتْ تَارَةً لِلْفَزَعِ، وَأُخْرَى كَرَامَةً لِلْمَلَائِكَةِ، وَأُخْرَى كَرَاهِيَةَ رِفْعَةِ جَنَازَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى رَأْسِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْأُخْرَى لَمْ تَعْتَبِرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامَاتِ، وَيُمْكِنُ جَمْعُ الْعِلَلِ بِمَعْلُولٍ وَاحِدٍ، إِذِ الْعَمَلُ بِالنِّيَّاتِ، أَوْ كَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ، وَإِنْكَارُهُ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الطَّرِيقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .
1685 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا مَرَّتْ بِكَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ فَقُومُوا لَهَا، فَلَسْتُمْ لَهَا تَقُومُونَ، إِنَّمَا تَقُومُونَ لِمَنْ مَعَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
1685 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا مَرَّتْ بِكَ) أَيُّهَا الصَّالِحُ لِلْخِطَابِ. (جَنَازَةُ يَهُودِيِّ) قُدِّمَ لِتَقَدُّمِ مِلَّتِهِمْ، أَوْ لِلتَّرَقِّي وَهُوَ الْأَظْهَرُ. (أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ) . (أَوْ) فِيهِمَا لِلتَّنْوِيعِ. (فَقُومُوا لَهَا) إِفْرَادُ الْخِطَابِ أَوَّلًا وَالْجَمْعُ ثَانِيًا إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ أَبِي مُوسَى، وَعُمُومِ الْحُكْمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلَّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ أَوِ الْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ كَافُ الْخِطَابِ لِإِرَادَةِ عُمُومِ الْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة: 232] . (فَلَسْتُمْ لَهَا تَقُومُونَ) أَيْ: فِي الْحَقِيقَةِ. (إِنَّمَا تَقُومُونَ لِمَنْ مَعَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ) أَيْ: مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ، أَوْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، قَدْ يُقَالُ: هَذَا مُشْكِلٌ ; لِأَنَّهُ أَثَبَتَ الْقِيَامَ لَهَا ثُمَّ نَفَاهُ عَنْهَا، وَقَدْ يُجَابُ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ لَهَا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ، وَنَفَاهُ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَالْحَقِيقَةُ وَإِنْكَارُ الْبَلِيغِ عَلَى رِعَايَةِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالْحَيْثِيَّاتِ سَائِغٌ، شَائِعٌ، وَمِنْهُ قَضِيَّةُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ، وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، مَعَ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَضَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] هَذَا وَلَا يُنَافِيهِ مَا مَرَّ مِنْ تَعْلِيلِ الْقِيَامِ ; لِأَنَّهُ لِكَوْنِ الْمَوْتِ فَزَعًا تَارَةً، وَأُخْرَى بِكَرَاهَةِ رَفْعِ جَنَازَةِ يَهُودِيَّةٍ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُخْرَى لَمْ تَعْتَبِرْ شَيْئًا مِنَ الْعِلَلِ، لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ عِلَلٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَيُذْكَرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
1686 -
وَعَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ جَنَازَةً مَرَّتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فَقِيلَ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ: " إِنَّمَا قُمْتُ لِلْمَلَائِكَةِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
1687 -
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَبَ» " فَكَانَ مَالِكٌ إِذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجَنَازَةِ جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَتَقَالَّ النَّاسَ عَلَيْهَا جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ أَوْجَبَ» . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ.
ــ
1687 -
(وَعَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ) بِالتَّصْغِيرِ. (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَبَ» ) أَيْ: ذَلِكَ الْفِعْلُ عَلَى اللَّهِ) تَعَالَى مَغْفِرَتَهُ، وَعْدًا مِنْهُ وَفَضْلًا، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَالتَّعَجُّبُ بِالْإِيجَابِ نَظَرًا لِكَوْنِ وَعْدِ اللَّهِ لَا يُخْلَفُ، فَهُوَ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، صَحِيحُ زِيَادَةٍ لِلتَّطْمِيعِ فِي
حُسْنِ الرَّجَاءِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] ثُمَّ هُوَ خَبَرُ مَا، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَعَمُّ عَامِّ الْأَحْوَالِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَعْنَى تَأْثِيرِ الثَّنَا بِالْمَغْفِرَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ بَحْثٌ إِذِ الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ وَاضِحٌ. (فَكَانَ مَالِكٌ) أَيِ: ابْنُ هُبَيْرَةَ. (إِذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الْجَنَازَةِ) أَيْ: عَدَّهُمْ قَلِيلًا. (جَزَّأَهُمْ) بِالشَّدِيدِ أَيْ فَرَّقَهُمْ، وَجَعَلَ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا صَفًّا وَاحِدًا. (ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ) وَفِي جَعْلِهِ صُفُوفًا إِشَارَةٌ إِلَى كَرَاهَةِ الِانْفِرَادِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّ أَفْضَلَ الصُّفُوفِ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ آخِرُهَا، وَفِي غَيْرِهَا أَوَّلُهَا، إِظْهَارًا لِلتَّوَاضُعِ، وَلِتَكُونَ شَفَاعَتُهُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ، وَلَا يَدْعُو لِلْمَيِّتِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجَنَازَةِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الزِّيَادَةَ فِي صَلَاةِ الْجَنَازَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ) بِالْإِضَافَةِ. (قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ إِذَا صَلَّى) أَيْ: أَرَادَ الصَّلَاةَ. (عَلَى جَنَازَةٍ فَتَقَالَّ النَّاسَ عَلَيْهَا) أَيِ: الْمُنْتَظَرِينَ، تَفَاعَلَ مِنَ الْقِلَّةِ، أَيْ: رَآهُمْ قَلِيلًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِ النَّاسِ أَيْ: صَارَ النَّاسُ قَلِيلًا. (جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ) أَيْ: قَسَّمَهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، أَيْ: شُيُوخًا، وَكُهُولًا، وَشَبَابًا، أَوْ فُضَلَاءَ، وَطَلَبَةَ الْعِلْمِ، وَالْعَامَّةَ. (ثُمَّ قَالَ) أَيِ: اسْتِدْلَالًا لِفِعْلِهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ) وَأَقَلُّ الصَّفِّ أَنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ. (أَوْجَبَ) أَيِ: اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَاتِهِ بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ مَغْفِرَةَ ذَنْبِ عَبْدِهِ. (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ) أَيْ: مَعْنَاهُ.
1688 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ: " اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْتَ قَبَضْتَ رُوحَهَا، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا، جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1688 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا) أَيْ: سَيِّدُهَا وَمَالِكُهَا، وَمُرَبِّيهَا وَمُصْلِحُهَا. (وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا) ابْتِدَاءً. (وَأَنْتَ هَدَيْتَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ) الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْإِيمَانِ انْتِهَاءً. (وَأَنْتَ قَبَضْتَ رُوحَهَا) أَيْ: أَمَرْتَ بِقَبْضِ رُوحِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: نِسْبَةُ الْقَبْضِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقِيَّةً، حَيْثُ قَالَ:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] أَوِ النِّسْبَةُ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ مَجَازِيَّةٌ، حَيْثُ قَالَ عز وجل:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] . (وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ أَيْ: بَاطِنِهَا وَظَاهِرِهَا حَتَّى مِنْهَا. (جِئْنَا) أَيْ: حَضَرْنَا. (شُفَعَاءَ) أَيْ: بَيْنَ يَدَيْكَ دَاعِينَ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ. (فَاغْفِرْ لَهُ) فَإِنَّكَ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَقَاضِي الْحَاجَاتِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، إِلَّا أَنَّ لَفْظَهُ: فَاغْفِرْ لَهَا.
1689 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، رَوَاهُ مَالِكٌ.
ــ
1689 -
(وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَيُكْسَرُ، وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ. (قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ) أَيْ: أَبَدًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صِفَةٌ كَاشِفَةٌ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ بَالِغٍ عَمَلٌ بِغَيْرِ ذَنْبٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ الْخَطِيئَةِ عَنْهُ وَلَوْ صُورَةً. (فَسَمِعْتُهُ) أَيْ: أَبَا هُرَيْرَةَ. (يَقُولُ) أَيْ: فِي صِلَاتِهِ. (اللَّهُمَّ أَعِذْهُ) أَيْ: أَجِرْهُ. (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) قَالَ الْقَاضِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو هُرَيْرَةَ اعْتَقَدَ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ أَمْرٌ عَامٌّ لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَأَنَّ الْفِتْنَةَ تَسْقُطُ مِنَ الصَّغِيرِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَذَابُ الْقَبْرِ غَيْرُ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَلَوْ عَذَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ كَانَ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، يَعْنِي لَا يُطْلَبُ لَهُ دَلِيلٌ مِنَ الْعَمَلِ ; لِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ هُنَا الْعُقُوبَةَ، وَلَا السُّؤَالَ بَلْ مُجَرَّدُ أَلْأَلَمِ بِالْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ، وَالْوَحْشَةِ وَالضَّغْطَةِ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأَطْفَالَ وَغَيْرَهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّأِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ) .