المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب صلاة الخسوف] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا]

- ‌[بَابُ تَسْوِيَةِ الصَّفِّ]

- ‌[بَابُ الْمَوْقِفِ]

- ‌[بَابُ الْإِمَامَةِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْإِمَامِ]

- ‌[بَابُ مَا عَلَى الْمَأْمُومِ مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَحُكْمِ الْمَسْبُوقِ]

- ‌[بَابُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مَرَّتَيْنِ]

- ‌[بَابُ السُّنَنِ وَفَضَائِلِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ]

- ‌[بَابُ الْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ]

- ‌[بَابُ الْوَتْرِ]

- ‌[بَابُ الْقُنُوتِ]

- ‌[بَابُ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى]

- ‌[بَابُ التَّطَوُّعِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ التَّسْبِيحِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ السَّفَرِ]

- ‌[بَابُ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ وُجُوبِهَا]

- ‌[بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّبْكِيرِ]

- ‌[بَابُ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْعَتِيرَةِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

- ‌[بَابٌ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ]

- ‌[بَابٌ فِي الرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ]

- ‌[كِتَابُ الْجَنَائِزِ] [

- ‌بَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَثَوَابِ الْمَرَضِ]

- ‌[بَابُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَذِكْرِهِ]

- ‌[بَابُ مَا يُقَالُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ]

- ‌[بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ]

- ‌[الْمَشْيُ بِالْجَنَازَةِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا]

- ‌[بَابُ دَفْنِ الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ]

- ‌[بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ]

الفصل: ‌[باب صلاة الخسوف]

يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ أَيْ: بِأَنْ أَجْعَلَهُ عِيدًا، وَقَوْلُهُ: جَعَلَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ حُكْمٌ، ذُكِرَ بَعْدَ مَا يُشْعِرُ بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يَوْمَ الْأَضْحَى ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّضْحِيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: حَكَمَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالتَّضْحِيَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: أَرَأَيْتَ. إِلَخْ اهـ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّضْحِيَةِ الْمُوَافِقِ لِمَذْهَبِنَا، فَإِنَّ الشَّيْءَ يُذْكَرُ، فَلَمَّا ذَكَرَ عليه الصلاة والسلام: أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِجَعْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عِيدًا، وَكَانَ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ الْيَوْمِ حُكْمُ التَّضْحِيَةِ وَالْأَضَاحِيِّ. (قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي. (إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا مَنِيحَةً) فِي النِّهَايَةِ: الْمَنِيحَةُ: أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ نَاقَةً أَوْ شَاةً يَنْتَفِعُ بِلَبَنِهَا وَيُعِيدُهَا، وَكَذَا إِذَا أَعْطَى لِيَنْتَفِعَ بِصُوفِهَا وَوَبَرِهَا زَمَانًا ثُمَّ يَرُدُّهَا. (أُنْثَى) : قِيلَ: وَصْفُ مَنِيحَةٍ بِأُنْثَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنِيحَةَ قَدْ تَكُونُ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا عَلَامةُ التَّأْنِيثِ، كَمَا يُقَالُ: حَمَامَةٌ أُنْثَى، وَحَمَامَةٌ ذَكَرٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل: 18] فَإِنَّ تَأْنِيثَ الْفِعْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ أُنْثَى عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: مَنْ مَنَحَ مَنْحَةَ وَرِقٍ، أَوْ مَنَحَ لَبَنًا، كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ. (أَفَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: لَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَنِيحَةِ هَهُنَا مَا يُمْنَحُ بِهَا، وَبِمَا مَنَعَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ سِوَاهَا يُنْتَفَعُ بِهِ. (وَلَكِنْ خُذْ مِنْ شَعْرِكَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ أَيْ: أَشْعَارِكَ. (وَأَظْفَارِكَ، وَقُصَّ مِنْ شَارِبِكَ) : خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِيَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ:(وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، فَذَلِكَ) أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَفْعَالِ. (تَمَامُ أُضْحِيَّتِكَ عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ: أُضْحِيَّتُكَ تَامَّةٌ بِنِيَّتِكَ الْخَالِصَةِ، وَلَكَ بِذَلِكَ مِثْلُ ثَوَابِ الْأُضْحِيَّةِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ إِلَّا عَلَى الْعَاجِزِ، وَلِذَا قَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ: تَجِبُ حَتَّى عَلَى الْمُعْسِرِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْتَدِينُ وَأُضَحِّي؟ قَالَ: نَعَمْ ; فَإِنَّهُ دَيْنٌ مَقْضِيٌّ» . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ضَعِيفٌ مُرْسَلٌ. قُلْتُ: أَمَّا الْمُرْسَلُ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ ضَعِيفًا لَوْ صَحَّ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا مَعَ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِالضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِطَرِيقٍ أَبْلَغَ، وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ: سُنَّةُ كِفَايَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 1091

[بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1480 -

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «إِنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ مُنَادِيًا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ، وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[50]

- بَابُ صَلَاةِ الْخُسُوفِ

أَيْ: لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: خُسُوفُ الْعَيْنِ ذَهَابُهَا فِي الرَّأْسِ، وَخُسُوفُ الْقَمَرِ كُسُوفُهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، هَذَا أَجْوَدُ الْكَلَامِ. وَفِي الصَّحَّاحِ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ تَكْسِفُ كُسُوفًا، وَكَذَا الْقَمَرُ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى، وَقُرِئَ: وَخُسِفَ الْقَمَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَزَادَ فِي الْقَامُوسِ: أَوِ الْخُسُوفُ إِذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمَا، وَالْكُسُوفُ كُلُّهُمَا، وَلَاشَكَّ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الِاسْتِعْمَالِ كُسُوفُ الشَّمْسِ وَخُسُوفُ الْقَمَرِ، فَالْأَوْلَى لِلْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: الْكُسُوفُ بَدَلَ الْخُسُوفِ، فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ كُلَّهَا وَرَدَتْ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، أَوْ يَقُولَ: الْكُسُوفُ وَالْخُسُوفُ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَاحِدٌ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ مِيْرَكُ: الْكُسُوفُ لُغَةً التَّغَيُّرُ إِلَى سَوَادٍ، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ لَا؟ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُقَالُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، وَانْكَسَفَا وَخَسَفَا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا، وَانْخَسَفَا كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: الْكُسُوفُ تَغَيُّرُ اللَّوْنِ وَالْخُسُوفُ ذَهَابُهُ، وَالْمَشْهُورُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكُسُوفَ لِلشَّمْسِ، وَالْخُسُوفَ لِلْقَمَرِ، وَاخْتَارَهُ ثَعْلَبٌ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ: أَنَّهُ أَفْصَحُ، وَقِيلَ: يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ عَكْسَ ذَلِكَ، وَغَلَّطَهُ لِثُبُوتِ الْخَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: يُقَالُ بِهِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِهِ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَدْلُولَ الْكُسُوفِ لُغَةً غَيْرُ مَدْلُولِ الْخُسُوفِ ; لِأَنَّ الْكُسُوفَ التَّغَيُّرُ إِلَى سَوَادٍ، وَالْخُسُوفَ النُّقْصَانُ. فَإِذَا قِيلَ فِي الشَّمْسِ: كَسَفَتْ أَوْ خَسَفَتْ ; لِأَنَّهَا تَتَغَيَّرُ، وَيَلْحَقُهَا النَّقْصُ سَاغَ، وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ. وَقِيلَ: بِالْكَافِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَبِالْخَاءِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام لِكُسُوفِ الشَّمْسِ، وَكَذَا لِلْقَمَرِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ كَمَا صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ: فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صَلَاةُ الْعِيدِ آكَدُ ; لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ وَاجِبَةٌ عَلَى قُوَيْلَةٍ.

ص: 1091

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1480 -

(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ. (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: فِي زَمَانِهِ. (صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ مُنَادِيًا: بِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ) أَيْ: يُنَادِي بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِيَجْتَمِعُوا إِنْ لَمْ يَكُونُوا اجْتَمَعُوا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّلَاةُ مُبْتَدَأٌ، وَجَامِعَةٌ خَبَرُهُ، أَيِ: الصَّلَاةُ تَجْمَعُ النَّاسَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الصَّلَاةُ ذَاتُ جَمَاعَةٍ أَيْ: تُصَلَّى جَمَاعَةً لَا مُنْفَرِدًا كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ كَ طَرِيقٌ سَائِرٌ اهـ. وَجُوِّزَ نَصْبُ الْأَوَّلِ بِتَقْدِيرِ احْضُرُوا مَعَ نَصْبِ الثَّانِي عَلَى الْحَالِ، وَرَفْعُهُ بِتَقْدِيرِ هِيَ جَامِعَةٌ، وَرَفْعُ الْأَوَّلِ بِالْخَبَرِيَّةِ أَيْ: هَذِهِ الصَّلَاةُ مَعَ نَصْبِ الثَّانِي عَلَى الْحَالِيَّةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُسِنُّ فِعْلَهَا جَمَاعَةٌ كَالْعِيدِ، وَمِنْ ثَمَّ سُنَّ النِّدَاءُ لَهَا بِمَا ذُكِرَ لَا انْفِرَادًا كَسَائِرِ الرَّوَاتِبِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَوَافَقَهُ مَالِكٌ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمَا بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسَوِّيَةِ بَيْنَ الْكُسُوفَيْنِ اهـ.

وَمَا نُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الِانْفِرَادِ فِي الْكُسُوفِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ ابْنَ الْهُمَامِ قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، أَوْ مُصَلَّى الْعِيدِ، وَلَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. وَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَيْسَ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: فِيهِ سَعِيدُ بْنُ حَفْصٍ، وَلَا أَعْرِفُ حَالَهُ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا حَتَّى يَثْبُتَ التَّصْرِيحُ لَهُ. (فَتَقَدَّمَ) أَيْ: هُوَ صلى الله عليه وسلم. (فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) أَيْ: رُكُوعَاتٍ. (فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ) : فَائِدَةُ ذِكْرِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الرُّكُوعِ دُونَ السُّجُودِ. (قَالَتْ عَائِشَةُ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهَا مَعَهُ عليه الصلاة والسلام. (مَا رَكَعْتُ رُكُوعًا قَطُّ، وَلَا سَجَدْتُ سُجُودًا قَطُّ، كَانَ أَطْوَلَ مِنْهُ) أَيْ: كَانَ ذَلِكَ الرُّكُوعُ أَوِ السُّجُودُ أَطْوَلَ مِنْ رُكُوعِ الْخُسُوفِ وَسُجُودِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: مِنْ كُلِّهِ مِنَ الرُّكُوعَاتِ وَالسُّجُودَاتِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ رَكْعَتَانِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسُجُودَانِ، وَيُصَلَّى الْخُسُوفُ وَالْكُسُوفُ بِالْجَمَاعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَفُرَادَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ: إِنْ لَمْ يُوجَدْ إِمَامُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْكُسُوفِ، وَأَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَيُصَلَّى كُسُوفُ الشَّمْسِ جَمَاعَةً، وَخُسُوفُ الْقَمَرِ فُرَادَى، وَرُكُوعُهُمَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِتَكْرِيرِ الرُّكُوعِ مَعَ صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِهِ. قُلْتُ: سَيَجِيءُ تَحْقِيقُهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْهُمَامِ. قَالَ: وَعِنْدَنَا أَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ كَسُنَّةِ الصُّبْحِ، وَدَلِيلُ هَذِهِ خَبَرُ الْحَاكِمِ الَّذِي قَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ الذَّهَبِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَلَاتِكُمْ هَذِهِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَصَحَّ أَيْضًا «أَنَّ الشَّمْسَ كَسَفَتْ فَخَرَجَ عليه الصلاة والسلام فَزِعًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَانْجَلَتْ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَاتُ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنَ الْمَكْتُوبَةِ» اهـ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَحَيْثُ اجْتَمَعَ الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ تَقَدَّمَ عَلَى الْفِعْلِ فَقَطْ، مَعَ أَنَّهُ اضْطَرَبَ فِي الزِّيَادَةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ مَا ثَبَتَ تَعَدُّدُ الْقَضِيَّةِ، بَلْ تَعَدُّدُ الْكُسُوفِ فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْحَالَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 1092

1481 -

وَعَنْهَا قَالَتْ: «جَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1481 -

(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: جَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ) : قِيلَ: الْمُرَادُ خُسُوفُ الْقَمَرِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ بِاللَّيْلِ، فَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ إِطْلَاقِ الْخُسُوفِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ صَلَّى فِي كُسُوفٍ لَا تَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، وَاعْتَرَضَ بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ جَهَرَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ، وَأَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. قُلْتُ: يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ثُبُوتِ تَعَدُّدِ الْقَضِيَّةِ، فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا يُرَجَّحُ الْجَهْرُ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ ; لِأَنَّهَا لَيْلِيَّةٌ، وَيُسَرُّ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ ; لِأَنَّهَا نَهَارِيَّةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1092

1482 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ. قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ: قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ ! قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1482 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ) كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ: انْكَسَفَتْ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: خَسَفَتْ. (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ; فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ) أَيْ: وَقَفَ. (قِيَامًا طَوِيلًا) صِفَةٌ لِقِيَامًا، أَوْ لَزِمَانًا مُقَدَّرًا. (نَحْوًا) أَيْ: تَقْرِيبًا، وَبَيَانُهُ قَوْلُهُ:(مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) أَيْ: مِنْ مُقَدَّرِ قِرَاءَتِهَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مَا قَرَأَ، إِذْ لَوْ سَمِعَهُ لَمْ يُقَدِّرْهُ بِغَيْرِهِ. (ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ) أَيْ: رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ. (فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ) ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ يَعْنِي كُلَّ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ تَقَدَّمَ، فَهُوَ أَطْوَلُ مِمَّا بَعْدَهُ. (ثُمَّ رَفَعَ) أَيْ: رَأْسَهُ لِلْقَوْمَةِ. (ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ) وَفِي نُسْخَةٍ: فَقَامَ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: ثُمَّ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَامَ. (قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَوَّلُ) الْإِضَافِيُّ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ:(ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ: فَيَكُونُ التَّنَزُّلُ تَدْرِيجِيًّا. (ثُمَّ رَفَعَ) فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ أَيْ: رَأْسَهُ لِلْقَوْمَةِ. (ثُمَّ سَجَدَ) أَيْ: سَجْدَتَيْنِ كَذَلِكَ. (ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ) أَيْ: أَضَاءَتْ، وَأَصْلُهُ تَجَلَّيَتْ. (فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ حُكْمَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَاحِدٌ فِي الْجُمْلَةِ. (آيَتَانِ) أَيْ: عَلَامَتَانِ. (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أَيِ: الْآفَاقِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لَيْسَ لَهُمَا سُلْطَانٌ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَا قُدْرَةٌ لَهُمَا عَلَى الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَهُمَا بَعْضُ النَّاسِ مَعْبُودَيْنِ. (لَا يَخْسِفَانِ) : بِالتَّذْكِيرِ تَغْلِيبًا لِلْقَمَرِ طَبَّقَ الْقَمَرَيْنِ. (لِمَوْتِ أَحَدٍ) أَيْ: خَيِّرٍ. (وَلَا لِحَيَاتِهِ) أَيْ: وَلَا لِوِلَادَةِ شِرِّيرٍ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: زَعَمَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ كُسُوفَ الشَّمْسِ وَكُسُوفَ الْقَمَرِ يُوجِبُ حُدُوثَ تَغَيُّرٍ فِي الْعَالَمِ مِنْ مَوْتٍ، وَوِلَادَةٍ، وَضَرَرٍ، وَقَحْطٍ، وَنَقْصٍ وَنَحْوِهَا، فَأُعْلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَقَالَ: (فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيْ: بِالصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَبِالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَفِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ: فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَرَ بِالْفَزَعِ عِنْدَ كُسُوفِهِمَا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِلَى الصَّلَاةِ إِبْطَالًا لِقَوْلِ الْجُهَّالِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالْفَزَعِ إِلَى الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُمَا آيَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى قُرْبِ السَّاعَةِ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 7] ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ مَا كَانَ يُوجَدُ فِيهِمَا الْخَسْفُ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُمَا آيَتَانِ شَبِيهَتَانِ بِمَا سِيقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: آيَتَانِ يُخَوِّفَانِ عِبَادَ اللَّهِ لِيَفْزَعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] اهـ. يَعْنِي: لَنَا أَنْ نُعْطِيَ النُّورَ وَالْكَمَالَ، وَبِيَدِ قُدْرَتِنَا الْفَنَاءُ وَالزَّوَالُ، فَاخْشَوْا مِنْ زَوَالِ نُورِ الْإِيمَانِ، وَافْزَعُوا إِلَى اللَّهِ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ ; فَإِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ لِلْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ، وَشَامِلَةٌ لِلْأَفْعَالِ وَالْحَالَاتِ، وَتُرِيحُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ، وَتُفَرِّجُ مِنْ كُلِّ غَمٍّ، وَلِذَا قَالَ: أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ. ثُمَّ إِنَّهُمْ رضي الله عنهم لَمَّا رَأَوْهُ عليه الصلاة والسلام تَقَدَّمَ مِنْ مَكَانِهِ وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ رَأَوْهُ تَأَخَّرَ، وَأَرَادُوا فَهْمَ سَبَبِهِ

ص: 1093

(قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا) أَيْ: قَصَدْتَ تَنَاوُلَ شَيْءٍ وَأَخْذَهُ. (فِي مَقَامِكَ هَذَا) أَيْ: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّيْتَ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: فِي مَقَامِكَ هَذَا الَّذِي وَعَظْتَنَا فِيهِ. (ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ) أَيْ: تَأَخَّرْتَ. (فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مُشَاهَدَةً أَوْ مُكَاشَفَةً. (فَتَنَاوَلْتُ) أَيْ: قَصَدْتُ التَّنَاوُلَ. (مِنْهَا عُنْقُودًا) أَيْ: قِطْعَةً مِنَ الْعِنَبِ، يَعْنِي: حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ عَنْ مَكَانِي. (وَلَوْ أَخَذْتُهُ) أَيِ: الْعُنْقُودَ. (لَأَكَلْتُمْ) : مَعْشَرَ الْأُمَّةِ. (مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا) أَيْ: مُدَّةَ بَقَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِطَابُ عَامٌّ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ السَّمَاعُ وَالْأَكْلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. قَالَ الْقَاضِي: وَوَجْهُ ذَلِكَ إِمَّا بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَانَ كُلِّ حَبَّةٍ تُقْتَطَفُ حَبَّةً أُخْرَى، كَمَا وَرَدَ فِي خَوَاصِّ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، أَوْ بِأَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْ حَبِّهِ إِذَا غَاصَ فِي الْأَرْضِ مِثْلُهُ فِي الزَّرْعِ، فَيَبْقَى نَوْعُهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا فَيُؤْكَلُ مِنْهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: سَبَبُ تَرْكِهِ عليه الصلاة والسلام تَنَاوُلَ الْعُنْقُودِ أَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَهُ وَرَآهُ لَكَانَ إِيمَانُهُمْ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالْغَيْبِ فَيَرْتَفِعُ التَّكْلِيفُ. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْبَعْضِ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا.

(وَرَأَيْتُ النَّارَ) أَيْ: حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارَ ; فَتَأَخَّرْتُ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ حَرَارَتِهَا. (فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ) أَيْ: مِثْلَ الْيَوْمِ. (مَنْظَرًا قَطُّ) أَيْ: لَمْ أَرَ مَنْظَرًا مِثْلَ مَنْظَرِ الْيَوْمِ فَهُوَ مَنْظَرًا، فَلَمَّا قُدِّمَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. (أَفْظَعَ) أَيْ: أَشَدَّ، وَأَكْرَهَ، وَأَخْوَفَ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَمْ أَرَ مَنْظَرًا مِثْلَ الْمَنْظَرِ الَّذِي رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ أَيْ: رَأَيْتُ مَنْظَرًا مَهُولًا فَظِيعًا، وَالْفَظِيعُ: الشَّنِيعُ. (وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا) أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُطْلَقًا. (النِّسَاءَ) : قَدْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ: أَنَّ «أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يُمْسِي عَلَى زَوْجَتَيْنِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا» ، فَكَيْفَ يَكُنَّ مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، وَهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِهَا ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَخْرُجْنَ وَيَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ فَيُصَيَّرْنَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا انْتِهَاءً، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِالْقُوَّةِ ثُمَّ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُنَّ، هَذَا وَلَا بِدْعَ أَنَّهُنَّ يَكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهِمَا لِكَثْرَتِهِنَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَالُوا) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَقَالُوا. (بِمَ) أَيْ: بِسَبَبِ أَيِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) أَيِ: الزَّوْجَ الْمُعَاشِرَ. (وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ عَلَى طَرِيقِ أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ اهـ. وَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا ضِدُّ الشُّكْرِ، وَهُوَ الْكُفْرَانُ، وَبَيَانُهُ قَوْلُهُ:(لَوْ أَحْسَنْتَ) : الْخِطَابُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْإِحْسَانُ. (إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ) أَيْ: جَمِيعَ الزَّمَانِ أَوِ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ. (ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا) أَيْ: يَسِيرًا مِنَ الْمَكَارِهِ، وَأَمْرًا حَقِيرًا مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالشَّرِّ. (قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا مَضَى مِنَ الْعُمُرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 1094

1483 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَتْ: ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1483 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ، نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : بِرَفْعِ نَحْوَ أَيْ: مِثْلُ حَدِيثِهِ فِي الْمَعْنَى. (وَقَالَتْ: ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ) أَيِ: انْكَشَفَتْ. (فَخَطَبَ النَّاسَ) أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ النَّاسَ. (فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: شَكَرَهُ. (وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

ص: 1094

آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ» ) أَيِ: اعْبُدُوهُ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ، وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاخْتَارَ فِي الْأَسْرَارِ وُجُوبَهَا لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «إِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ» . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا أَمَرَ بِالدُّعَاءِ ; لِأَنَّ النُّفُوسَ عِنْدَ مُشَاهَدَةٍ مَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ تَكُونُ مُعْرِضَةً عَنِ الدُّنْيَا وَمُتَوَجِّهَةً إِلَى الْحَضْرَةِ الْعُلْيَا، فَتَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ. (وَكَبِّرُوا) أَيْ: عَظِّمُوا الرَّبَّ أَوْ قُولُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ ; فَإِنَّهُ يُطْفِئُ نَارَ الرَّبِّ. (وَصَلُّوا) أَيْ: صَلَاةَ الْكُسُوفِ أَوِ الْخُسُوفِ. (وَتَصَدَّقُوا) : بِالتَّرَحُّمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ وَالْمُتَنَعِّمِينَ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ بَيْنِ الْعَالَمِينَ لِكَوْنِهِمْ غَالِبًا لِلْمَعَاصِي مُرْتَكِبِينَ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ. (ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ) : فِيهِ ذِكْرُ الْبَاعِثِ لَهُمْ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَهُوَ نِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم. (وَاللَّهِ، مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ) : بِالْفَتْحِ، وَقِيلَ بِالرَّفْعِ. أَيِ: أَشَدُّ غَيْرَةً. (مِنَ اللَّهِ) : وَالْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ كَرَاهَةُ شَرِكَةِ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى كَرَاهَةُ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. (أَنْ يَزْنِيَ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَغْيَرَ أَيْ: عَلَى أَنْ يَزْنِيَ. (عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ) أَيْ: عَلَى زِنَا عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ، فَإِنَّ غَيْرَتَهُ تَعَالَى وَكَرَاهِيَتَهُ ذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ غَيْرَتِكُمْ وَكَرَاهِيَتِكُمْ عَلَى زِنَا عَبْدِكُمْ وَأَمَتِكُمْ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ يَزْنِيَ مُتَعَلِّقٌ بِأَغْيَرَ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مِنْ (أَنْ) مُسْتَمِرٌّ، وَنِسْبَةُ الْغَيْرَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَجَازٌ مَحْمُولٌ عَلَى غَايَةِ إِظْهَارِ غَضَبِهِ عَلَى الزَّانِي، وَإِنْزَالِ نَكَالِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لِوَجْهِ اتِّصَالِهِ بِمَا قَبْلَهُ لَمَّا خَوَّفَ أُمَّتَهُ مِنَ الْخُسُوفَيْنِ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ، وَالصَّلَاةِ وَالتَّصَدُّقِ، أَرَادَ أَنْ يَرْدَعَهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي كُلِّهَا، فَخَصَّ مِنْهَا الزِّنَا، وَفَخَّمَ شَأْنَهُ، وَنَدَبَ أُمَّتَهُ بِقَوْلِهِ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَنَسَبَ الْغَيْرَةَ إِلَى اللَّهِ.

وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ رِعَايَةٌ لِحُسْنِ الْأَدَبِ ; لِأَنَّ الْغَيْرَةَ أَصْلُهَا أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْأَهْلِ وَالزَّوْجِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نِسْبَةُ الْغَيْرَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ الْمُصَرِّحَةِ لِتَبَعِيَّةِ شِبْهِ حَالِ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ مَعَ عَبْدِهِ الزَّانِي مِنَ الِانْتِقَامِ، وَحُلُولِ الْعِقَابِ بِحَالِ مَا يَفْعَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ الزَّانِي مِنَ الزَّجْرِ وَالتَّعْزِيرِ، ثُمَّ كَرَّرَ النُّدْبَةَ لِيُعَلِّقَ بِهِ مَا يُنَبَّهُ بِهِ عَلَى سَبَبِ النُّدْبَةِ، وَالْفَزَعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِلْمٍ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِغَضَبِهِ فَقَالَ:(يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ) : مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى وَغُفْرَانِهِ، أَوْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْآخِرَةِ وَعَجَائِبِ شَأْنِهِ. (لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا) أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا، أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَقِيلَ: الْقِلَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَدَمِ. (وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 1095

1484 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ، لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1484 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. (فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعًا) أَيْ: خَائِفًا، كَانَ فَزَعُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ شَفَقًا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ، أَوْ تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ لِيَفْزَعُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ، أَوْ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ بِاللَّهِ وَأَخْوَفَهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] . (يَخْشَى) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَقِيلَ: لِلْمَفْعُولِ. وَفِي نُسْخَةٍ: نَخْشَى بِالنُّونِ أَيْ: نَخَافُ. (أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ) : بِالنَّصْبِ، وَيُرْفَعُ نِيَابَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالُوا: هَذَا تَخْيِيلٌ مِنَ الرَّاوِي، وَتَمْثِيلٌ كَأَنَّهُ قَالَ: فَزِعَ فَزَعًا كَفَزَعِ مَنْ يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، وَإِلَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَالِمًا بِأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ، وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَقَدْ وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى النَّصْرَ، وَإِعْلَاءَ دِينِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ

ص: 1095

فَزَعُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ: كَالْخُسُوفِ، وَالزَّلَازِلِ، وَالرِّيحِ، وَالصَّوَاعِقِ ; شَفَقًا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ، كَمَا أَتَى مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ.

قَالَ الْمُظْهِرُ: أَخْطَأَ الرَّاوِي حَيْثُ قَالَ هَذَا ; لِأَنَّ أَبَا مُوسَى لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا فِي قَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا الظَّنُّ غَيْرُ صَوَابٍ، فَإِنْ قِيلَ: مُحْتَمَلٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَقَّعُ السَّاعَةَ كُلَّ لَحْظَةٍ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ إِيمَانَ أَبِي مُوسَى كَانَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ فَتْحِ خَيْبَرَ، قِيلَ: يَجُوزُ ذُهُولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْأَخْبَارِ بِوَاسِطَةِ مَا كُوشِفَ لَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ الذُّهُولُ إِلَى الرَّاوِي بِوَاسِطَةِ مَا رَأَى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ انْكِسَافَ الشَّمْسِ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ. إِلَخِ اهـ.

قَالَ مِيْرَكُ: هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ فِي يَخْشَى بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ الْغَائِبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ يُخْشَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَوْ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنْ سَاعَدَتِ الرِّوَايَةُ فَلَا إِشْكَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. (فَأَتَى الْمَسْجِدَ) أَيْ: مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ رَدٌّ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُصَلَّى فُرَادَى فِي الْبُيُوتِ اهـ. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ تُصَلَّى بِجَمَاعَةٍ فِي الْجَامِعِ. (فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ، وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ) : ظَاهِرُهُ عَدَمُ تَعَدُّدِهِمَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. (مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ) أَيْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ مِثْلَهُ. (وَقَالَ) أَيْ: بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ. (هَذِهِ الْآيَاتُ) أَيْ: كَالْكُسُوفَيْنِ، وَالزَّلَازِلِ، وَالصَّوَاعِقِ. (الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ) أَيْ: يُظْهِرُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُ يُرْسِلُهَا إِلَيْهِمْ. (لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ) أَيْ: لِوِلَادَةِ أَحَدٍ. (وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا) أَيْ: بِالْآيَاتِ. (عِبَادَهُ) : وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى رَدِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْهَيْئَةِ مِنَ السَّبَبِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَالسَّيْفُ الْآمِدِيُّ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا لَا يُنَافِي ذِكْرَ الْحُسَّابِ أَسْبَابًا عَادِيَّةً لِلْكُسُوفَيْنِ ; لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْعَالًا تَجْرِي عَلَى الْعَادَاتِ، وَأَفْعَالًا خَارِجَةً عَنْهَا، وَعِنْدَ هَذِهِ يَزْدَادُ خَوْفُ أَهْلِ الْمُرَاقَبَةِ لِقُوَّةِ اعْتِقَادِهِمْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلِهِ لِمَا شَاءَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ عليه الصلاة والسلام عِنْدَ اشْتِدَادِ هُبُوبِ الرِّيَاحِ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ كَرِيحِ عَادٍ، وَإِنْ كَانَ هَبُوبُهَا مَوْجُودًا. (فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ. (فَافْزَعُوا) أَيِ: الْتَجِئُوا مِنْ عَذَابِهِ. (إِلَى ذِكْرِهِ) : وَمِنْهُ الصَّلَاةُ. (وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، ذَكَرَهُ مِيْرَكُ.

ص: 1096

1485 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1485 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ» ) : فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشِرِ الشَّهْرِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَفِيهِ رَدٌّ لِقَوْلِ أَهْلِ الْهَيْئَةِ: لَا يُمْكِنُ كُسُوفُهَا فِي غَيْرِ يَوْمِ السَّابِعِ أَوِ الثَّامِنِ أَوِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا أَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، وَهَذَا خَارِقٌ لَهَا. (ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -) صلى الله عليه وسلم: بِإِثْبَاتِ هَمْزَةِ الِابْنِ خَطَأٌ. قَالَ الْمُظْهِرُ: ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ انْكِسَافَ الشَّمْسِ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَوْتِهِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. (فَصَلَّى بِالنَّاسِ سِتَّ رَكَعَاتٍ) أَيْ: رُكُوعَاتٍ إِطْلَاقًا لِلْكُلِّ وَإِرَادَةً لِلْجُزْءِ. (بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِثَلَاثِ رُكُوعَاتٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: وَأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْخُسُوفَ إِذَا تَمَادَى جَازَ أَنْ يُرْكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثُ رُكُوعَاتٍ، وَخَمْسُ رُكُوعَاتٍ، وَأَرْبَعُ رُكُوعَاتٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي.

قَالَ مِيْرَكُ: وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كُتُبِهِمْ: مِنَ الْمِنْهَاجِ، وَالْمُحَرَّرِ، وَالْعُجَالَةِ، وَالْقُونَوِيِّ. أَقُولُ: لَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ النَّوَوِيِّ وَأَتْبَاعِهِ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَعْرِفُ التَّمَادِيَ فِي الْخُسُوفِ أَوَّلَ وَهْلَةٍ حَتَّى يَبْتَدِئَ بِثَلَاثِ رُكُوعَاتٍ أَوْ بِثَمَانٍ أَوْ بِنَحْوِهَا، مَعَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ كُلَّهَا فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَدُّدُهُ عَادَةً فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1096

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَسْأَلُ عَنْهَا حَتَّى انْجَلَتْ - مُنَافَاةً لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: لَوْ تَمَادَى الْكُسُوفُ لَمْ يُكَرِّرْ صَلَاتَهُ، وَلَمْ يَزِدْ فِيهَا عَلَى رُكُوعَيْنِ مُطْلَقًا، كَمَا لَا يَنْفَصُّ عَنْهُمَا إِنْ نَوَاهُمَا، وَإِنْ وَقَعَ الِانْجِلَاءُ. وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ: بِأَنَّهُ لَا مَسَاغَ لِحَمْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ إِذَا تَعَدَّدَتِ الْوَاقِعَةُ، وَهِيَ لَمْ تَتَعَدَّدْ ; لِأَنَّ مَرْجِعَهَا كُلَّهَا إِلَى صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَرْجِيحُ أَخْبَارِ الرُّكُوعَيْنِ فَقَطْ ; لِأَنَّهَا أَصَحُّ وَأَشْهَرُ.

قُلْتُ: بَلْ يَجِبُ تَرْجِيحُ أَخْبَارِ الرُّكُوعِ فَقَطْ ; لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ قَوْلًا وَفِعْلًا كَمَا سَبَقَ، وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفُ الْآثَارِ، ثُمَّ قَالَ: وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ كَابْنِ الْمُنْذِرِ، فَذَهَبُوا إِلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَحَمَلُوا الرِّوَايَاتِ فِي الزِّيَادَةِ وَالتَّكْرِيرِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ اهـ. وَفِيهِ: أَنَّ تَعَدُّدَ الْوَاقِعَةِ لَا يَثْبُتُ بِالتَّجَوُّزِ الْعَقْلِيِّ مِنْ دُونِ التَّثَبُّتِ النَّقْلِيِّ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

ص: 1097

1486 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كُسِفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» .

ــ

1486 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ) أَيْ: رُكُوعَاتٍ. (فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ) .

ص: 1097

1487 -

وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1487 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ ذَلِكَ) أَيْ: وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ عَلِيٍّ كَرِوَايَتِهِ مَعْنًى، فَكَانَ حَقُّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ، وَإِنْ كَانَتْ رِوَايَتُهُ كَرِوَايَتِهِ لَفْظًا، فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَنْسُبَ الْحَدِيثَ إِلَى عَلِيٍّ، ثُمَّ يَقُولَ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1097

1488 -

«وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ أَرْتَمِي بَأَسْهُمٍ لِي بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ كُسِفَتِ الشَّمْسُ، فَنَبَذْتُهَا فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا حَدَثَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ رَافِعٌ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ، وَيَدْعُو حَتَّى حَسَرَ عَنْهَا، فَلَمَّا حَسَرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْهُ. وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.

ــ

1488 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَرْتَمِي) أَيِ: أَطْرَحُ مِنَ الْقَوْسِ. (بَأَسْهُمٍ) جَمْعِ سِهَامٍ (لِي بِالْمَدِينَةِ) : وَهُوَ إِمَّا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ بِالْمَدِينَةِ. (فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -) صلى الله عليه وسلم: يَعْنِي: امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، فَإِنَّهُ صَحَّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَهَا بِالرَّمْيِ، وَقَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ فَتَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا. (إِذْ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَنَبَذْتُهَا) : وَضَعْتُ السِّهَامَ وَأَلْقَيْتُهَا. (فَقُلْتُ) : فِي نَفْسِي أَوْ لِأَصْحَابِي. (وَاللَّهِ لِأَنْظُرَنَّ) أَيْ: لَأَبْصَرَنَّ. (إِلَى مَا حَدَثَ) أَيْ: تَجَدَّدَ مِنَ السُّنَّةِ. (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ رَافِعٌ يَدَيْهِ) أَيْ: وَاقِفٌ فِي هَيْئَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْقِيَامِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ خَلْفَهُ صُفُوفًا، أَوِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، إِذْ لَمْ يُعْرَفْ مَذْهَبُ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي أَوْقَاتِ الْأَذْكَارِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لِلْكُسُوفِ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ رَافِعٌ يَدَيْهِ لِإِرَادَةِ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، فَجَعَلَ فِي ذَلِكَ الرُّكُوعِ يُسَبِّحُ إِلَخْ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمُنَاسِبِ لِمَذْهَبِهِ فَقَطْ، مَعَ أَنَّهُ يَأْبَاهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا حَسَرَ عَنْهَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

ص: 1097

(فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ وَيُحَمِّدُ، وَيَدْعُو حَتَّى حَسَرَ) أَيْ: أُزِيلَ الْكُسُوفُ وَكُشِفَ. (عَنْهَا) أَيْ: عَنِ الشَّمْسِ. (فَلَمَّا حَسَرَ عَنْهَا) قَرَأَ سُورَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَرَأَ فِيهِمَا سُورَتَيْنِ ; لِأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بَعْدَ إِذْهَابِ الْكُسُوفِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَوَقَفَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، وَطَوَّلَ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ، وَالتَّكْبِيرَ وَالتَّحْمِيدَ، حَتَّى ذَهَبَ الْخُسُوفُ، ثُمَّ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَرَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَقَرَأَ فِيهَا الْقُرْآنَ، وَرَكَعَ وَسَجَدَ، وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ اهـ.

وَهُوَ يُنَافِي مَا قَدْ سَبَقَ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ: أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي عَدَدِ الرُّكُوعَاتِ إِذَا تَمَادَى الْكُسُوفُ، وَلِمَا سَيَأْتِي: أَنَّهُ صَلَّى حَتَّى انْجَلَتْ. وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ: وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ.

(رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ) قَالَ مِيْرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا. (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: لِلْبَغَوِيِّ. (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. (وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) أَيْ: بَدَلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَحَدَّثَ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَكِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَالْجَامِعِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِرِوَايَتِهِ، وَلَمْ أَجِدْ لَفْظَ الْمَصَابِيحِ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ بِرِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ذَكَرَهُ الطِّيبِىُّ.

قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: لَهُ أَيْ: لِلشَّافِعِيِّ رِوَايَةُ عَائِشَةَ رضي الله عنها. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ السِّتَّةُ عَنْهَا قَالَتْ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَامَ فَكَبَّرَ فَصَفَّ النَّاسَ وَرَاءَهُ، فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ قَامَ فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا هُوَ أَدْنَى مِنَ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى اللَّهِ» ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ.

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:«انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ عليه الصلاة والسلام فَلَمْ يَكَدْ يَرْكَعُ، ثُمَّ رَكَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَسْجُدُ، ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ، ثُمَّ رَفَعَ. وَفَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ» . وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ «عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَغُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ نَرْمِي غَرَضَيْنِ لَنَا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ مِنَ الْأُفُقِ اسْوَدَّتْ حَتَّى آضَتْ أَيْ: صَارَتْ كَأَنَّهَا تَنُّومَةٌ بِتَشْدِيدِ النُّونِ شَجَرٌ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَاللَّهِ، لِيُحْدِثَنَّ شَأْنُ هَذِهِ الشَّمْسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُمَّتِهِ حَدَثًا. قَالَ: فَدَفَعَنَا فَإِذَا هُوَ بَارِزٌ، فَاسْتَقْدَمَ فَصَلَّى، فَقَامَ كَأَطْوَلِ مَا قَامَ بِنَا فِي صَلَاةٍ قَطُّ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا، ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَوَافَقَ تَجَلِّي الشَّمْسِ جُلُوسَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» ، وَفِي أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي أَصْلِ الْمِشْكَاةِ،

ص: 1098

ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَبِيصَةَ الْهِلَالِيِّ قَالَ: كَسَفَتْ. وَفِيهِ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدِ انْجَلَتْ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَاتُ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوهَا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا مِنَ الْمَكْتُوبَةِ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ وَثَابَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ فَانْجَلَتْ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ بِهِمَا عِبَادَهُ، فَإِذَا كَانَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ» . قَالَ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْهَا الصَّحِيحُ، وَمِنْهَا الْحَسَنُ، وَقَدْ دَارَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مِنْهَا: مَا فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِأَنْ يَجْعَلُوهُ كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ وَهِيَ الصُّبْحُ، فَإِنَّ كُسُوفَ الشَّمْسِ كَانَ عِنْدَ ارْتِفَاعِهَا قَيْدَ رُمْحَيْنِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ. فَأَفَادَ أَنَّ السُّنَّةَ رَكْعَتَانِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْأَحْدَثِ عَلَى الْأَقَلِّ اسْتِعَارَةً مِنْ حَدَاثَةِ السِّنِّ، فَإِنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ صِغَرِهِ بِمَعْنَى قِلَّةِ عُمْرِهِ. قَالَ: وَمِنْهَا مَا فُصِّلَ فَأَفَادَ تَفْصِيلُهُ أَنَّهَا بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ، وَحَمْلُ الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِمْكَانُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ إِذَا أَوْجَبَهُ دَلِيلٌ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ كَوْنُ أَحَادِيثِ الرُّكُوعَيْنِ أَقْوَى. قُلْنَا: هَذِهِ أَيْضًا فِي رُتْبَتِهَا، أَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ آخِرًا فَلَا شَكَّ، وَكَذَا مَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّسَائِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْبَاقِي لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، وَقَدْ تَعَدَّدَتْ فِرَقُهُ فَيَرْتَقِي إِلَى الصَّحِيحِ، فَهَذِهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ حِينَئِذٍ، فَكَافَأَتْ أَحَادِيثَ الرُّكُوعَيْنِ، وَكَوْنِ بَعْضُ تِلْكَ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْكُلُّ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، غَايَةُ مَا فِيهِ كَثْرَةُ الرُّوَاةِ، وَلَا تَرْجِيحَ عِنْدَنَا بِذَلِكَ، ثُمَّ الْمَعْنَى الَّذِي رَوَيْنَاهُ أَيْضًا فِي الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ وَالْمُغْنِي، وَهُوَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَفَرَّقَ فِي آحَادِ الْكُتُبِ وَأَثْنَائِهَا خُصُوصِيَّاتُ الْمُتُونِ.

وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا أَقْوَى سَنَدًا فَالضَّعِيفُ قَدْ يَثْبُتُ مَعَ صِحَّةِ الطَّرِيقِ بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ كَذَلِكَ فِيهَا، فَإِنَّ أَحَادِيثَ تَعَدُّدِ الرُّكُوعِ اضْطَرَبَتْ وَاضْطَرَبَ فِيهَا الرُّوَاةُ أَيْضًا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى رُكُوعَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى ثَلَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى أَرْبَعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى خَمْسًا، وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ، فَوَجَبَ تَرْكُ رِوَايَاتِ التَّعَدُّدِ كُلِّهَا إِلَى رِوَايَاتٍ غَيْرِهَا. وَلَوْ قُلْنَا: الِاضْطِرَابُ يَشْمَلُ رِوَايَاتِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، فَوَجَبَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ صَحَّ، وَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا تَرَجُّحَ رِوَايَاتِ الِاتِّحَادِ ضِمْنًا لَا قَصْدًا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِرِوَايَاتِ الْإِطْلَاقِ أَعْنِي نَحْوَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ. وَعَنْ هَذَا الِاضْطِرَابِ الْكَثِيرِ وُفِّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِحَمْلِ رِوَايَاتِ التَّعَدُّدِ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا أَطَالَ فِي الرُّكُوعِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَعْهُودِ جِدًّا، وَلَا يَسْمَعُونَ لَهُ صَوْتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ رَفْعِ مَنْ خَلْفَهُ مُتَوَقِّعِينَ رَفْعَهُ، وَعَدَمِ سَمَاعِهِمُ الِانْتِقَالَ، فَرَفَعَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِي مَنْ رَفَعَ، فَلَمَّا رَأَى مَنْ خَلْفَهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَرْفَعْ، فَلَعَلَّهُمُ انْتَظَرُوهُ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّهُ يُدْرِكُهُمْ فِيهِ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ رَجَعُوا إِلَى الرُّكُوعِ، فَظَنَّ مَنْ خَلْفَهُمْ أَنَّهُ رُكُوعٌ بَعْدَ رُكُوعٍ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام فَرَوَوْا كَذَلِكَ، ثُمَّ لَعَلَّ رِوَايَاتِ الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ بِنَاءً عَلَى اتِّفَاقِ تَكَرُّرِ الرَّفْعِ مِنَ الَّذِي خَلْفَ الْأَوَّلِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْكُسُوفُ الْوَاقِعُ فِي زَمَنِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ تَكَرَّرَ مِرَارًا مَعَ بُعْدِ أَنْ يَقَعَ نَحْوَ سِتِّ مَرَّاتٍ فِي عَشْرِ سِنِينَ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ كَانَ رَأْيُنَا أَوْلَى أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ تَارِيخُ فِعْلِهِ الْمُتَأَخِّرِ فِي الْكُسُوفِ الْمُتَأَخِّرِ، فَقَدْ وَقَعَ التَّعَارُضُ، وَوَجَبَ الْإِحْجَامُ عَنِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ كَانَ الْمُتَعَدِّدُ عَلَى وَجْهِ التَّثْنِيَةِ أَوِ الْجَمْعِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ كَانَ الْمُتَجَدِّدُ، فَبَقِيَ الْمَجْزُومُ بِهِ اسْتِنَانُ الصَّلَاةِ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي كَيْفِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمَرْوِيَّاتِ فَيُتْرَكُ، وَيُصَارُ إِلَى الْمَعْهُودِ، ثُمَّ يَتَضَمَّنُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّرَجُّحِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ مُلَخَّصًا.

ص: 1099

1489 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: «لَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

1489 -

(وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: لَقَدْ أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَتَاقَةِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: فَكِّ الرِّقَابِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. (فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ) : لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وَسَائِرَ الْخَيْرَاتِ يَدْفَعُ الْعَذَابَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 1100

الْفَصْلُ الثَّانِي

1490 -

عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفٍ لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1490 -

(عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) : بِفَتْحِ الدَّالِ وَضَمِّهَا مَعَ ضَمِّ الْجِيمِ. (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُسُوفٍ) أَيْ: لِلشَّمْسِ (لَا نَسْمَعُ لَهُ صَوْتًا) : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَتَبِعَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ. رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِمَا عَنْهُ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ أَسْمَعْ حَرْفًا مِنَ الْقِرَاءَةِ» ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهُ قِرَاءَةً» . قَالَ: وَلَهُمَا رِوَايَةٌ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَتْ: جَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، وَالْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ:«جَهَرَ عليه الصلاة والسلام فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ» ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ:«صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» ، ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا حَصَلَ التَّعَارُضُ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ الْإِخْفَاءُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) :. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، أَقُولُ: وَلَعَلَّهُ قُدِّمَ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَفْظُهُ، أَوْ لِكَوْنِ إِسْنَادِهِ صَحِيحًا. (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 1100

1491 -

وَعَنْ عِكْرِمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَاتَتْ فُلَانَةُ، بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَّ سَاجِدًا، فَقِيلَ لَهُ: تَسْجُدُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟ ! فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا» ، وَأَيُّ آيَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ ! رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

1491 -

(وَعَنْ عِكْرِمَةَ) : مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. (قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَاتَتْ فُلَانَةُ) أَيْ: صَفِيَّةُ وَقِيلَ: حَفْصَةُ. (بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : بِالرَّفْعِ بَدَلٌ، أَوْ بَيَانٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالنَّصْبُ بِتَقْدِيرِ يَعْنُونَ. (فَخَرَّ) أَيْ: سَقَطَ وَوَقَعَ. (سَاجِدًا) : آتِيًا بِالسُّجُودِ أَوْ مُصَلِّيًا. (فَقِيلَ لَهُ: تَسْجُدُ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ. (فِي هَذِهِ السَّاعَةِ؟) أَيْ: سَاعَةِ الْإِمَاتَةِ، مَعَ أَنَّ السُّجُودَ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ مَمْنُوعٌ. (فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا رَأَيْتُمْ آيَةً) أَيْ: عَلَامَةً مُخَوِّفَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالُوا: الْمُرَادُ بِهَا الْعَلَامَاتُ الْمُنْذِرَةُ بِنُزُولِ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ الَّتِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، وَوَفَاةُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ ; لِأَنَّهُنَّ ضَمَمْنَ إِلَى شَرَفِ الزَّوْجِيَّةِ شَرَفَ الصُّحْبَةِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَنَا أَمَنَةُ أَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ» . الْحَدِيثَ. فَهُنَّ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِنَّ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُنَّ سَالِبَةً لِلْأَمَنَةِ. وَزَوَالُ الْأَمَنَةِ مُوجِبُ الْخَوْفِ. (فَاسْجُدُوا) أَيْ: صَلُّوا، وَقِيلَ: أَرَادَ السُّجُودَ فَحَسْبُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا مُطْلَقٌ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْآيَةِ خُسُوفُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَالْمُرَادُ بِالسُّجُودِ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرُهَا كَمَجِيءِ الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَغَيْرِهِمَا، فَالسُّجُودُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَيَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْضًا لِمَا وَرَدَ:«كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ» اهـ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَالَ: فِي ظُلْمَةٍ أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ الصَّلَاةُ حَسَنَةٌ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ. (وَأَيُّ آيَةٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟) : لِأَنَّهُنَّ ذَوَاتُ الْبَرَكَةِ، فَبِحَيَاتِهِنَّ يُدْفَعُ الْعَذَابُ عَنِ النَّاسِ، وَيُخَافُ الْعَذَابُ بِذَهَابِهِنَّ، فَيَنْبَغِي الِالْتِجَاءُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَالسُّجُودُ عِنْدَ انْقِطَاعِ بَرَكَتِهِنَّ ; لِيَنْدَفِعَ الْعَذَابُ بِبَرَكَةِ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ، إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، نَقَلَهُ مِيْرَكُ.

ص: 1100

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1492 -

عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهِمْ، فَقَرَأَ بِسُورَةٍ مِنَ الطُّوَلِ، وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ فَقَرَأَ بِسُورَةٍ مِنَ الطُّوَلِ، ثُمَّ رَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ كَمَا هُوَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو حَتَّى انْجَلَى كُسُوفُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1492 -

(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِهِمْ) أَيْ: صَلَاةَ الْكُسُوفِ. (فَقَرَأَ سُورَةً) : وَفِي نُسْخَةٍ: بِسُورَةٍ. (مِنَ الطُّوَلِ) : بِضَمِّ الطَّاءِ وَتُكْسَرُ، وَبِفَتْحِ الْوَاوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَمْعُ الطُّوْلَى، كَالْكُبْرَى وَالْكُبَرِ. ( «وَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ» ) أَيْ: رُكُوعَاتٍ. (وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى الثَّانِيَةِ. (فَقَرَأَ بِسُورَةِ) : بِالْبَاءِ لَا غَيْرَ. ( «مِنَ الطُّوَلِ، ثُمَّ رَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ كَمَا هُوَ» ) أَيْ: كَائِنًا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا. (مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: جَلَسَ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَجُلُوسِهِ فِيهَا يَعْنِي مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. (يَدْعُو حَتَّى انْجَلَى كُسُوفُهَا) أَيِ: انْكَشَفَ وَارْتَفَعَ، وَالْإِشْكَالُ الْمُتَقَدِّمُ قَوِيَ هُنَا حَيْثُ صَلَّى بِخَمْسِ رُكُوعَاتٍ، ثُمَّ دَعَا حَتَّى انْجَلَى. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ دَعَا مُسْتَقْبِلًا جَالِسًا أَوْ قَائِمًا، أَوْ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَدَعَا وَيُؤَمِّنُونَ. قَالَ الْحُلْوَانِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ وَلَوْ قَامَ وَدَعَا مُعْتَمِدًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ كَانَ أَيْضًا حَسَنًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 1101

1493 -

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَيَسْأَلُ عَنْهَا، حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «صَلَّى حِينَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ مِثْلَ صَلَاتِنَا: يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ» .

وَلَهُ فِي أُخْرَى: أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا مُسْتَعْجِلًا إِلَى الْمَسْجِدِ وَقَدِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى حَتَّى انْجَلَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْخَسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا خَلِيقَتَانِ مِنْ خَلْقِهِ، يُحْدِثُ اللَّهُ فِي خَلْقِهِ مَا شَاءَ، فَأَيُّهُمَا انْخَسَفَ فَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ، أَوْ يُحْدِثَ اللَّهُ أَمْرًا» .

ــ

1493 -

(وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) رَكْعَتَيْنِ قَالَ الْمُظْهِرُ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَّاهَا مَرَّاتٍ، وَكَانَ إِذَا طَالَتْ مُدَّةُ الْكُسُوفِ مَدَّ فِي صَلَاتِهِ، وَزَادَ فِي عَدَدِ الرُّكُوعِ، وَإِذَا قَصَرَتْ نَقَصَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ الْحَالِ وَمِقْدَارِ الْحَاجَةِ. قَالَ: وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا، وَأَنَّهُ إِذَا طَالَ الْخُسُوفُ يَزِيدُ فِي عَدَدِ الرُّكُوعِ، أَوْ فِي إِطَالَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ، وَيُطَوِّلُ السُّجُودَ كَالْقِيَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأَنْوَارِ مِنْ أَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ وَرُكُوعَانِ، وَلَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَلَوْ زِيدَ أَوْ نَقَصَ عَامِدًا بَطَلَتْ، وَنَاسِيًا يَتَدَارَكُ، وَكَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ، وَإِذَا شَرَعَ فِيهَا بِنِيَّةٍ لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَلَا النَّقْصُ عَنْهَا، لِأَنَّ جَوَازَهُمَا خَاصٌّ بِالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ اهـ.

ثُمَّ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ضَعْفِ الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْكُسُوفِ مَعَ الْإِشْكَالِ السَّابِقِ الَّذِي يَزِيدُهُ الْكَلَامُ اللَّاحِقُ. (وَيَسْأَلُ عَنْهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: يَسْأَلُ اللَّهَ بِالدُّعَاءِ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهَا، أَوْ يَسْأَلُ النَّاسَ عَنِ انْجِلَائِهَا أَيْ: كُلَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَسْأَلُ هَلِ انْجَلَتْ؟ . (حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: ظَهَرَتْ، أَوِ انْجَلَى كُسُوفُهَا، فَالْمُرَادُ بِتَكْرِيرِ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَرَّاتُ اهـ. وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يُنَافِي الْأَحَادِيثَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَيُقَرِّبُ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى حِينَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ مِثْلَ صَلَاتِنَا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ تَعَدُّدِ الرُّكُوعِ.

(وَلَهُ) أَيْ: لِلنَّسَائِيِّ. (فِي أُخْرَى) أَيْ: فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى،. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ:( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا مُسْتَعْجِلًا إِلَى الْمَسْجِدِ» ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: فَخَرَجَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ فَزِعًا حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ،

ص: 1101