الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الآية لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى
…
والآيات الأربع التالية لها وما ينطوي فيها من صور ودلالات
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا توكيديا بأن أشدّ الناس عداوة للمسلمين هم اليهود والذين أشركوا. وأقربهم مودة هم النصارى. وتعليلا لهذه المودة وهو أنهم كانوا متواضعين لا يستكبرون عن الحق واتباعه. ومشهدا من مشاهد إيمان جماعة منهم فيهم القسيسون والرهبان كتعليل آخر. وقد تضمن المشهد صورة رائعة لإيمان هذه الجماعة. وأثر ما تلاه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن عليهم حيث فاضت أعينهم من الدمع حينما سمعوا ذلك ابتهاجا بالحق الذي انطوى فيه وعرفوه من قبل. وحيث أعلنوا إيمانهم ودعوة الله أن يكتبهم في سجل المؤمنين الشاهدين المصدقين وتساءلوا عما إذا كان يصح أن لا يصدقوا ويؤمنوا بالله والحق الذي سمعوه عن الله في حين أنهم يأملون من الله أن يجعلهم في جملة عباده الصالحين. واحتوت الآيات تقريرا بأن الله عز وجل قد أثابهم على ما وقع منهم بجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وهو جزاء المحسنين وبأن الذين كفروا هم أصحاب الجحيم.
وقد أورد ابن كثير حديثا رواه الطبراني عن ابن عباس جاء فيه «إن جماعة النصارى لما فاضت أعينهم وأعلنوا إيمانهم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلّكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم فقالوا لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ
…
إلخ الآيات. والحديث ليس من الصحاح.
ويقتضي أن تكون بعض الآيات نزل لحدته كما يفيد أن الآيات نزلت في حادث جديد. والآيات منسجمة مرتبط أولها بآخرها. والتمعن فيها وفي السياق السابق لها يسوغ الترجيح أنها لم تنزل في حادث جديد وأنها متصلة بالسياق السابق واستمرار له. فبعد أن استمرت الآيات تتوالى في وصف انحرافات الكتابيين الدينية
بصورة عامة. وفي وصف مواقف اليهود الكيدية للدعوة المحمدية والمسلمين ووصف أخلاقهم الخبيثة ومناقضتهم لمبادىء الإيمان بالله ووحدته جاءت هذه الآيات خاتمة، واحتوت موقف وحقيقة كل من اليهود والنصارى من المسلمين.
وأن المشهد الواقعي الرائع الذي احتوت حكايته الآيات بإيمان جماعة من النصارى فيهم القسيسون والرهبان كان حادثا سابقا وجاء هنا من قبيل التذكير والتدعيم والتعليل لما قررته من كون النصارى أقرب مودة إلى المسلمين والله تعالى أعلم.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في هوية أصحاب هذا المشهد. ومن الروايات ما يؤيد ما سوغناه من أن المشهد ليس جديدا. فهناك رواية تذكر أن الآيات عنت النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا حينما سمعوا القرآن من مهاجري المسلمين. ورواية تذكر أنها في صدد إيمان وفد حبشي أرسله النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع اختلاف في عدده بين 12 وبين 70. ورواية تذكر أن هذا الوفد جاء مع جعفر بن أبي طالب ورفاقه المهاجرين في الحبشة حينما عادوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ورواية تذكر أنهم جماعة من النصارى كانوا على شريعة عيسى الأصلية دون ذكر هويتهم. ورواية تذكر أنهم نصارى نجران اليمن أو وفدهم. ورواية تذكر أنهم وفد رومي قدم من الشام.
والوصف يلهم أن المشهد كان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. والروايات تذكر أن وفد نصارى نجران رجع بدون أن يؤمن على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة آل عمران [34- 64] وعلى هذا فإما أن يكون أصحاب هذا المشهد وفدا حبشيا جاء إلى المدينة مرسلا من النجاشي لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرف عنه ما عرف من المهاجرين، وربما جاء معهم حين رجعوا إلى المدينة بعد صلح الحديبية. أو وفدا من الشام وأطرافها حيث كانت النصرانية سائدة. وقد يستلهم من الوصف أن الوفد كان يفهم العربية أو كان منهم من يفهمها. فهذا التأثر الشديد يرجح أن يكون من أسلوب القرآن وفحواه وروحانيته معا مما قد يتأثر به العارف بالعربية أكثر. وهذا ما يجعلنا نرجح أن يكون من نصارى الشام أو أطرافها التي كانت مأهولة بنصارى العرب والمستعربين من الأقوام العربية الجنس.
ولقد قال ابن كثير إن هذا المشهد هو للذين ذكر إيمانهم بالنبي والقرآن في آيات آل عمران [199] والإسراء [107 و 108] والقصص [52- 55] وهذا القول يؤيد تسويغنا أيضا وإن كنا نرجح أنه مشهد آخر لوفد قادم إلى المدينة من الخارج في حين أن المشاهد المذكورة في آيات سور آل عمران والإسراء والقصص هي على الأرجح لأناس كانوا مقيمين بين ظهراني المسلمين في مكة والمدينة. وإنه ليصحّ أن يقال بناء على ذلك إن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم قد انتشرت إلى خارج الجزيرة فأثارت الأفكار ولفتت الأنظار وجعلت بعض رهبان النصارى وقسيسيهم وبتعبير آخر علماءهم الذين يستطيعون الحجاج والجدل ووزن الأقوال ويرغبون في معرفة وقائع الأمور وحقائقها والوقوف عليها بأنفسهم يفدون إلى المدينة ليروا هذا النبي ويسمعوا منه ويحاجوه ويجادلوه. وقد تأثر الوافدون بما رأوا وسمعوا ولمسوا من قوة الحق والروحانية والتطابق مع ما جاء به رسل الله السابقون فصدقوا وآمنوا.
وخطورة هذا الحادث عظيمة جدا كما هو المتبادر من حيث سير الدعوة النبوية والسيرة النبوية. ومن المحتمل جدا أن يكون لكتب النبي صلى الله عليه وسلم ورسله الذين أرسلهم أثر في هذه الوفادة.
وإذا ما أضفنا هذا المشهد إلى ما احتوته آيات آل عمران والإسراء والقصص المذكورة آنفا ثم آيات البقرة [121] وآل عمران [113- 115] والنساء [162] والرعد [36] والأحقاف [10] التي تذكر إيمان بعض أهل الكتاب وأهل العلم منهم من يهود ونصارى بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن يظهر أن هذه المشاهد قد تكررت في العهدين المكي والمدني في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا شهادة عيان قوية صادقة على ما كان لروحانية القرآن وروحانية النبي وروحانية الدعوة من تأثير في كل من كان يسمعها بعقله وقلبه ومنطقه وكان رائده الحقّ والهدى ولم يكن خبيث الطوية متعمدا للعناد والجحود من الكتابيين وعلمائهم ورؤساء دينهم في مقدمتهم. وهذا هو الذي قرره القرآن في صدد مستمعي آيات القرآن والدعوة النبوية إذا كانوا من الفئة الأولى كما جاء في آيات عديدة منها آية سورة يس [11] هذه إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ
اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
وآية سورة السجدة إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) وإذا كان جمهرة اليهود في الحجاز الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا ففي القرآن شواهد كثيرة على أن هذا كان لأسباب عديدة لا تمتّ إلى صدق دعوة النبي وروحانية رسالته.
وفي السلسلة التي نحن بصددها آيات تتضمن أسباب ذلك كما أن مثل هذه الأسباب واردة في السلاسل الواردة في حق اليهود في سور البقرة وآل عمران والنساء. والآيات القرآنية المكية والمدنية تلهم أن أكثر النصارى في الحجاز آمنوا بالرسالة النبوية لأنهم لم يكن لديهم من الأسباب ما كان لدى اليهود فضلا عما كانوا عليه من دماثة خلق وحسن طوية نوّه بها القرآن في الآيات التي نحن في صددها وفي آية سورة الحديد هذه ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [27] .
ولم يمض على فتح المسلمين بلاد الشام والعراق ومصر وشمال إفريقية إلّا ردح قصير حتى أخذ النصارى فيها يقبلون على اعتناق الإسلام إلى أن اعتنقه سوادهم الأعظم. وشاء بعضهم أن يحتفظوا بدينهم فكان لهم ذلك. اتساقا مع حرية التدين التي قررها القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) .
ونحن نعتقد أن موقف هؤلاء كان متأثرا بأسباب مادية ودنيوية أكثر من كل شيء. وقد يكون أكثرهم من الرهبان الذين كانوا يجنون ثمرات كثيرة من موارد الأديرة التي كانت تحت أيديهم. ولعل هذا ما قررت واقعه المشاهد آية سورة التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [34] .
ولقد ظلّ هذا الواقع بشكليه يتكرر في كل مكان وزمان. فمن استطاع أن يتغلب على أنانيته وهواه ويتفلّت من تأثير المنافع المادية والتعصّب الأعمى يؤمن بالقرآن ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن انساق بأنانيته وهواه فأعمياه عن الحقّ والحقيقة
وجعلاه يتعصّب تعصّبا أعمى ظل مكابرا مناوئا وظلّ يستجيب للتحريض والإغراء والتهويش والمكائد ضد الإسلام والمسلمين.
وما دام القرآن قد وصف النصارى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما وصفهم به من دماثة وخلق وحسن طوية ورحمة ورأفة وبأنهم أقرب الناس مودّة للمسلمين فيصحّ القول إن هذه الصفات المحببة هي نتيجة لتلقينات المسيحية السمحاء ولقد كان بعضهم لا يكتفون بعدم الاستجابة إلى الإسلام بل يقفون من الإسلام والمسلمين موقف المناوىء الباغي والمكابر المكائد المعادي ولا يزال هذا يظهر في كل ظرف فيكون أصحاب ذلك منحرفين عن تلك التلقينات.
ووصف اليهود بأنهم أعداء المسلمين قد ورد في مواضع عديدة في سورة البقرة وآل عمران والنساء «1» . غير أن في الوصف الذي جاء في الآيات معنى خاصا حيث يفيد أنهم من أشدّ أعدائهم. وليس من ريب في أن هذا قد كان قائما على مواقف ومشاهد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن المعجزات القرآنية أن هذا يتكرر اليوم بأشدّ صوره.
ومهما يكن من أمر ففي الآية الأولى تلقين مستمر المدى في كون النصارى يظلون على كل حال أقرب مودة إلى المسلمين وفي واجب المسلمين بالتعامل معهم على هذا الاعتبار. وفي كون اليهود يظلون أشد الناس عداوة للمسلمين وفي واجب المسلمين بالتعامل معهم على هذا الاعتبار أيضا.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الفقرة الأولى من الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن أبي هريرة بطرق عديدة جاء فيه «ما خلا يهوديّ بمسلم قط إلّا همّ بقتله أو إلّا حدثته نفسه بقتله» والحديث ولو لم يكن من الصحاح فإنه متساوق مع وصف الله تعالى لشدة عداوة اليهود للمسلمين في الآية في آيات السور المذكورة آنفا التي أشرنا إليها في الذيل.
(1) اقرأ بخاصة آيات سورة البقرة [109] وآل عمران [118- 120] والنساء [44- 46] .