الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد أورد الحديث الثاني المفسر الشيعي الطبرسي عن الأصبغ بن نباته.
والطبرسي أقدم من ابن كثير حيث يمكن أن يكون في هذا قرينة على الصنع الشيعي.
وننبه على أن الطبري والبغوي والزمخشري وهم من المفسرين المتقدمين كثيرا عن ابن كثير لم يوردوا من الأحاديث التي أوردها ابن كثير في منزلة الوسيلة الأخروية. واكتفوا بتفسير الكلمة في الآية بمعنى القربة إلى الله تعالى بما يرضيه.
والطبري والبغوي بخاصة إمامان في الحديث ولا بدّ من أنهما يعرفان الأحاديث التي وردت في الكتب الخمسة حيث يبدو من هذا أنهما لم يريا صلة بين الآية والأحاديث.
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
. (1) نكالا: عقابا.
تعليق على الآية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما
…
والآيتين التاليتين لها وما ينطوي فيها من أحكام
عبارة الآيات واضحة. وتحتوي تشريعا في حدّ السرقة بالنسبة للسارق والسارقة على السواء مع إيذان رباني بقبول توبة من تاب منهما وأصلح.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة الآيات. وإنما روى الطبري أن امرأة سرقت حليا فجاء الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة فقال:
اقطعوا يدها اليمنى فقالت المرأة هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فأنزل الله فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ.
والذي يتبادر لنا أن للآيات صلة بالسياق السابق. فقد احتوت الآية [32] حكما تشريعيا في حقّ من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا. وكان ذلك في ظرف ارتداد بعض البدو ونهبهم لذود الإبل الذي منحهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلهم الرعاة فجاءت هذه الآيات لتستطرد إلى تشريع حدّ السرقة العادية ليكون الفرق واضحا بين عقوبة السرقة العادية التي تقع خفية وخلسة وبدون عنف ودم وبين تلك الجرائم التي تكون عادة مترافقة مع العنف والدم.
ونرجح أن الآيات الثلاث نزلت معا. وأن الإيذان بقبول توبة السارق قد جاء ليتساوق مع الإيذان بقبول توبة المحارب في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون المرأة السارقة سألت عن إمكان التوبة فتليت عليها الآية فالتبس ذلك على الرواة والله أعلم.
وحدّ السرقة من الحدود القليلة المعينة في القرآن لبعض الجرائم المهمة.
وجريمة السرقة اعتبرت دائما وفي جميع المجتمعات والظروف من الجرائم المهمة لأن فيها عدوانا على أموال الغير التي تشغل في المجتمع مقاما رئيسيا بعد مقام الحياة والأعراض والسلامة العامة. فلا غرو أن يرتّب القرآن عليها حدّا كما رتّب على القتل والزنا والفساد في الأرض. ولا غرو أن اشتد في عقوبتها لتكون متكافئة مع خطورتها.
ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث فيها دلالة على تشدده في موضوع السرقة وإقامة حدّها. منها حديث عن عائشة جاء فيه «أن قريشا أهمّهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا من يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا ومن يجترىء عليه إلّا أسامة بن زيد حبّ رسول الله فأتى بها رسول الله فكلّمه فيها أسامة، فتلوّن وجه رسول الله فقال أتشفع في حدّ من حدود الله
عز وجل، فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشيّ قام رسول الله فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ وإني والذي نفسي بيده لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها» «1» ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو قال «سرقت امرأة على عهد رسول الله فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا يا رسول الله إنّ هذه المرأة سرقتنا فقال قومها فنحن نفديها فقال رسول الله اقطعوا يدها فقالوا نحن نفديها بخمسمائة دينار. فقال: اقطعوا يدها فقطعت يدها اليمنى» «2» ومنها حديث عن أبي هريرة رواه الخمسة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق. يسرق البيضة فتقطع يده.
ويسرق الحبل فتقطع يده» «3» .
وفي كتب التفسير «4» بيانات متنوعة في صدد ما ينطوي في الآيات من أحكام نوجزها فيما يلي مع ما يعنّ للبال من تعليق:
1-
إن حدّ السرقة لا يقام إلّا على العاقل البالغ. وهذا طبيعي. لأن العقل والبلوغ هما اللذان يجعلان الإنسان محلا للتكليف» .
2-
وقال الخازن إن العلم بحرمة السرقة وحدها أيضا شرط لإقامة الحدّ.
ولم يذكر سندا. ومثّل على ذلك بالمسلم الحديث العهد الذي لا يعرف أن السرقة
(1) النصّ من ابن كثير. والحديث الأول رواه الخمسة عن عائشة بفرق يسير انظر التاج ج 3 ص 33.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
التاج ج 3 ص 19 وقد فسّر شراح الحديث والمفسرون (البيضة) في الحديث ببيضة الحديد أي المغفر الذي يضعه المحارب على رأسه. وهو تفسير في محله لأن قيمة بيضة الدجاجة لا تصل إلى النصاب الذي تقطع به يد السارق والذي حددته السنّة على ما سوف يأتي بعد. [.....]
(4)
انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والقاسمي ورشيد رضا.
(5)
هناك حديث رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق» التاج ج 1 ص 133.
في الإسلام حرام تستوجب الحدّ. ولسنا نرى هذا وجيها. فالآية من جهة مطلقة، والسرقة من جهة ثانية من الجرائم العامة التي هي محرمة في كل شريعة ولا يمكن أن يجهل أحد أن فاعلها ينجو من عقاب.
3-
اختلف في النصاب الذي يقطع به بسبب اختلاف المأثور من السنّة النبوية. فهناك حديث رواه الخمسة عن عائشة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعدا» «1» وهناك حديث عن ابن عمر رواه البخاري ومسلم والترمذي «أن رسول الله قطع سارقا في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم» «2» وهناك حديث عن ابن عباس رواه أبو داود والنسائي «أنّ رسول الله قطع في مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم» «3» فذهب بعض أئمة الفقه إلى اعتبار النصاب الأدنى ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم- وقيمة الدراهم الثلاثة كانت تقارب قيمة ربع الدينار- وذهب آخرون إلى اعتبار النصاب الأدنى دينارا أو عشرة دراهم. وبناء على ذلك فمن سرق دون النصاب الأدنى لا يقطع. وهذا التشريع النبوي متمم للتشريع القرآني. حيث أوضح ما سكت عنه القرآن.
والمتبادر أن النصاب الأدنى سواء أكان ربع دينار أم دينارا إنما حدد حسب ظروف البيئة النبوية وهذا يورد على البال سؤالا عما إذا كان يصح أن يكون النصاب عرضة لتقدير ولي الأمر في حالة تغير الظروف والقيم وتطورها؟ ونميل إلى الإيجاب والله أعلم.
ولقد لاح لنا إلى هذا حكمة سامية في جعل النصاب الذي يقطع به ضئيلا.
فالذي يسرق القليل يسرق الكثير. والعقوبة إنما استهدفت زجر المجرم وردع غيره عن الجريمة. فإذا ما عرف أن اليد عرضة للقطع مقابل القليل ارتدع عن القليل والكثير معا. ولعلّ حديث أبي هريرة الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه أن
(1) التاج ج 3 ص 19.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» مما يدعم ذلك والله أعلم.
4-
والعلماء متفقون على أن القطع إنما يكون في سرقة مال محرز أي موضوع في مكان من العادة أن يعتبر حرزا، ومسوّر عليه ولو لم يكن عليه حارس.
ويدخل في ذلك الخيمة. ولا يوجبون القطع على من أخذ شيئا موضوعا في مكان غير محرز ولا حارس عليه أو بهيمة في برية لا راعي لها. ويظهر أنهم اعتبروا أن مثل ذلك لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلو هذا من وجاهة. لأن آخذه قد يكون أخذه على أنه مهمل متروك.
5-
وهناك من أسقط القطع عن جاحد المتاع المستعار أو جاحد الأمانة أو الذي يأخذ شيئا بطريقة الاختطاف والاختلاس العياني استنادا إلى حديث رواه أصحاب السنن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» «1» وعلّلوا حكمة ذلك بإمكان استرداد المأخوذ خطفا أو نهبا والأمانة والمعار بالبينة. ولأن مثل هذا العمل لا يتصف بوصف السرقة. ولا يخلو القول من وجاهة.
6-
ومما ذكره الخازن أن لا قطع على سرقة مال للسارق فيه شبهة حقّ كالولد يسرق من مال أبيه أو الوالد من مال ابنه أو العبد من مال سيده أو الشريك من مال شريكه. ولم يذكر المفسر سندا لقوله. ولم نر مفسرا آخر ذكر ذلك ويمكن أن تكون الأحاديث المروية في درء الحدود بالشبهات التي أوردناها في سياق تفسير الآية [24] في سورة النساء سندا لذلك.
7-
وأكثر العلماء على أنه لا قطع على آكل الثمر من البستان. وقد روي في صدد ذلك حديثان. واحد رواه أصحاب السنن عن رافع بن خديج قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر» «2» . وثانيهما رواه أبو داود وأحمد والنسائي عن
(1) التاج ج 3 ص 21.
(2)
المصدر نفسه ص 20 والكثر: هو جمار التمر.
عبد الله بن عمرو قال «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلّق فقال من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجنّ فعليه القطع.
ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة» «1» .
8-
ولقد فسّر شراح الحديث كلمة (العقوبة) في هذا الحديث بالتعزير حتى يرتدع السارق. ويكون في تعزيره عبرة لغيره. وقد أوجب العلماء بناء على ذلك تعزير سارق ما هو أدنى من النصاب من المال المحرز. وهذا حقّ. فالجريمة مهما تفهت لا يجوز أن تذهب بدون عقوبة.
غير أن حديث عبد الله بن عمرو الذي يسمح لذي الحاجة بأكل الثمر من البستان بدون عقوبة بفتح الباب للسؤال عن حكم السارق الذي يسرق عن عوز شديد لسدّ جوعه أو جوع عياله إذا ما ثبت ذلك لدى الحاكم. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدم قطع سارق سرق في عام قحط ليسدّ جوعه. ولقد حرم الله أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به واستثنى المضطر في حالة الجوع وخطره وعفا عنه. فهلا يصح أن يقال بجواز إعفاء مثل هذه الحالات الاضطرارية إذا ثبتت لدى الحاكم ولم تعد عند صاحبها حرفة. ولم تعد نطاق الاضطرار. ونحن نميل إلى الإيجاب استئناسا بالتلقين القرآني والنبوي والراشدي.
ولا سيما إذا لاحظنا واقع أمر حكام المسلمين وأغنيائهم. فقد جعل القرآن للفقراء والمساكين والأرقاء والمعسرين أنصبة وحقا في كل مورد من موارد بيت المال من فيء وغنائم وصدقات- أي الزكاة- وأوجب على الحكام والأغنياء أداءها لهم بحيث لو فعلوا ذلك بحقّ لاكتفى كل ذي حاجة ولقضي على العوز والجوع، فلم يقوموا بما أوجبه الله عليهم وبقي الفقراء والمساكين مرتكسين في أشدّ حالات البؤس والعوز والشقاء. والله تعالى أعلم.
(1) التاج ج 3 ص 20. والخبنة أي أن يملأ طرف ثوبه أو إزاره أو وعاء ما والجرين محل تخزين أو تجميع التمر.
9-
والعلماء متفقون على أن القطع هو عمل قضائي ينفذ بأمر ولي الأمر.
وهم متفقون كذلك على أن السرقة تثبت بالاعتراف أو البينة. وهذا وذاك حقّ.
10-
وقطع اليد هو قطع الرسغ أي لا يصل إلى المرفق. وهناك حديث عن فضالة بن عبد الله رواه أصحاب السنن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلّقت في عنقه» «1» وهذا يؤيد ذاك كما هو المتبادر.
11-
وقد اختلف العلماء في تكرر القطع بتكرر الجرم. فهناك من قال بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في الثانية واليد اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ثم يعزر ويحبس. ورووا في تأييد ذلك حديثا نبويا عن أبي هريرة وعن أبي بكرة لم يرد في أي من الكتب الخمسة جاء فيه «إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله» «2» وقد قال المفسر البغوي الذي أورد هذا الحديث إن مالكا والشافعي أخذا به. وهناك من قال تقطع اليد اليمنى في المرة الأولى والرجل اليسرى في المرة الثانية فقط فإذا تكرر حبس وعزر. ولم يورد قائلو هذا القول سندا. وهناك من قال بالاكتفاء بقطع اليد اليمنى في المرة الأولى فإذا تكرر حبس وعزر ويبدو من هذا أن أصحاب القولين الأولين لم يثبت عندهم الحديث الذي رواه البغوي. وأن أصحاب القول الثالث أخذوا بالآية التي تأمر بقطع يد السارق.
ويلحظ أن قطع الأيدي والأرجل من خلاف إنما جعل عقوبة للمحاربين المفسدين. وأن تعيين عقوبة خاصة للسارق هو بسبيل إبراز الفرق بين عقوبته وعقوبة المحارب المفسد بحيث يمكن أن يقال إنه لا يصح أن يقاس السارق العادي بالمحارب المفسد. وإن القول الثالث هو الأوجه إلّا أن يقال إن تكرار إقدام السارق على السرقة يجعله في حكم المحارب المفسد ثم يؤخذ بحديث البغوي. والله أعلم.
(1) التاج ج 3 ص 20.
(2)
النصّ من تفسير البغوي.
12-
واختلف في ما إذا كان القطع يسقط الغرامة عن السارق. فقال بعضهم إنه يسقطها آخذا بظاهر الآية وإطلاقها. وقال بعضهم إنه لا يسقطها. وفي الفقرة (7) حديث نبوي يقرر الغرامة على من أخذ من ثمر البستان في إزار أو وعاء فوق ما أكله ويقررها على من سرق دون ثمن المجنّ. وقد يكون في هذا الحديث ما يدعم القول الثاني حيث يبدو أن قائليه اعتبروا القطع عقوبة على الجناية واعتبروا المسروق حقا لصاحبه يجب ردّه إليه عينا إذا وجد أو قيمة. وهناك من توسط بين القولين فقال إذا وجد عين المسروق أو شيء منه وجب أخذه ورده إلى صاحبه.
ونرى القول الثاني هو الأوجه إذا كان هناك إمكان لتنفيذه.
13-
واختلف في ما إذا كانت التوبة أو العفو قبل القدرة على السارق أو بعدها وقبل القطع يسقطان عنه القطع. فهناك من قال بالسقوط قبل رفع الأمر للحاكم والقدرة عليه قياسا على المحارب الذي آذنت الآية [34] بقبول توبته إذا تاب قبل القدرة عليه. وهناك من قال بعدمه لأن الحدّ جزاء على الجناية والتوبة نحو الله من العمل نفسه المحظور دينا. ولقد رجحنا أن الآية [34] هي في صدد الكافر من حيث الأصل. وأوردنا في سياقها ما هناك من خلاف بين الفقهاء في قبول توبة المحارب المسلم الذي طبق الفقهاء عليه الآية قبل القدرة عليه وعدمها.
ورجحنا قول من قال إن على الإمام تنفيذ الحدود عليه ولو تاب قبل القدرة عليه إذا ما طالب أصحاب الحق الشخصي بحقهم قبله وأقاموا البينة وإن توبته هي دينية لمخالفته أوامر الله تعالى. بحيث يكون هذا هو الأوجه في المسألة التي نحن في صددها أيضا. وهناك حديثان أوردهما ابن كثير فيهما تدعيم ما لهذا التوجيه منهما حديث رواه الدارقطني عن أبي هريرة جاء فيه «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال ما أخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول الله. قال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به فقطع فأتي به فقال تب إلى الله فقال تبت إلى الله فقال تاب الله عليك» وحديث رواه ابن ماجه عن أبي ثعلبة الأنصاري قال «إن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهّرني. فأرسل إليهم فقالوا إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده وهو
يقول الحمد لله الذي طهّرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار» والشخصان على ما تلهمه روح الحديثين قد تابا قبل أن يرفع أمرهما إلى النبي ويعتقلهما بالسرقة. ومع ذلك فقد طبق عليهما الحدّ واعتبرت توبتهما دينية لله تعالى.
ولا يفوتنا أن ننوّه بما في الحديثين من صورة رائعة لما كان من تأثير القرآن والوعظ النبوي في أصحاب رسول لله صلى الله عليه وسلم حتى الثانويين منهم
…
ومع ذلك فهناك حديث يرويه الإمام مالك جاء فيه «إن سارقا سرق رداء لصفوان بن أمية وهو متوسد في مسجد فلحق به فأمسكه وأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده. فقال صفوان إني لم أرد هذا يا رسول الله. هو عليه صدقة فقال رسول الله فهلّا قبل أن تأتيني به» «1» حيث ينطوي في الحديث صورة أخرى لأحكام رسول الله يستفاد منها سواغ سقوط الحدّ عن السارق إذا أسقط المسروق منه حقه قبل رفع الأمر للحاكم.
14-
ولقد نبه الذين يقولون بسقوط الحدّ بالتوبة أو العفو على أن ذلك ليس من شأنه إسقاط الغرامة عن السارق. وهذا وجيه. ولعل الجملة القرآنية فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ تنطوي على ذلك بالإضافة إلى معنى إصلاح النفس بالتوبة والندم.
هذا، ومن الناس من ينتقد عقوبة قطع يد السارق غير أن من المشاهد المجرب أن كثيرا من اللصوص يقدمون على السرقة كأسهل وسيلة إلى حيازة المال والاستمتاع أكثر من أن تدفعهم الحاجة الشديدة وقد أصبحوا بسبب ما يلقونه من خفة العقوبات الحديثة محترفين لا يمتنعون عن معاودة مهنتهم المرة بعد المرة مستهترين بأمن الناس وأموالهم وغير مفكرين في البحث عن الكسب الحلال وكثير منهم قادرون على ذلك. فقطع أيدي أمثال هؤلاء قد يكون أقوى رادع لهم. وفيه عبرة قوية لغيرهم من دون ريب مع التذكير بملاحظاتنا في الفقرة الثامنة.
(1) الموطأ ج 2 ص 236.