الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنهم لسمّاعون للكذب راضون به مشجعون عليه. وإنهم لأكّالون للمال الحرام.
(3)
وتخيير للنبي إذا جاءوا إليه ليحكم بينهم. فله أن يقضي بينهم أو يعرض عنهم وليس عليه من بأس إذا هو أعرض عنهم ولم يقبل أن يحكم بينهم. أما إذا رضي بالقضاء بينهم فعليه القضاء بالعدل والقسط. فإن الله يحب المقسطين الذين لا ينحرفون عن الحق في أي حال.
(4)
وسؤال إنكاري على سبيل التعقيب والتقريع والتعجب عن تحكيم اليهود للنبي والتقاضي عنده وعندهم التوراة فيها حكم الله فيما يريدون أن يتقاضوا فيه.
وعن إعراضهم عنها. وتقرير بأنهم- وهذا حالهم- لا يمكن أن يعتبروا مؤمنين بما أنزل إليهم الله.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
…
إلخ والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين وأحكام بالنسبة لقضايا أهل الكتاب في ظل السلطان الإسلامي
قد تبدو الآيات فصلا جديدا. ومع ذلك فإن بينها وبين الفصول السابقة تناسبا ما من حيث احتواء هذه وتلك صورا من مواقف اليهود وأخلاقهم. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الفصول السابقة فوضع في مكانه للتناسب الظرفي والموضوعي. وإلّا فيكون وضعه للتناسب الموضوعي والله أعلم.
وقد روى الطبري روايات عديدة في مناسبة نزول الآيات منها أنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي استشاره يهود بني قريظة في أمرهم حينما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إشارة فهموا منها أن النزول على حكم النبي معناه الذبح. ومنها أنها نزلت في مناسبة طلب رجل من اليهود من حليف مسلم له أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم في حكم قتيل قتله فإذا كان الحكم بالدية تقاضى عنده وإلّا فلا. ومنها أنها نزلت في عبد الله بن صوريا أحد أحبار اليهود حيث اجتمع اليهود حين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة وكان رجل محصن منهم قد زنى بامرأة محصنة فقالوا نسأل محمدا عن الحكم فإن حكم بالجلد والتحميم والتعزير يكون ملكا لا بأس علينا منه وإن حكم بالرجم يكون نبيا فنحذره من استلاب ما في أيدينا. فأتوه فطلب منهم أن يدلوه على أعلمهم في التوراة فذكروا له عبد الله بن صوريا، فخلا به وناشده عما إذا كان يعلم أن حكم الزنا في التوراة الرجم فقال بلى. وإنهم ليعلمون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك. فأمر النبي برجمهما ولكن ابن صوريا جحد بعد ذلك ما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أن النبي مرّ بيهودي محمم مجلود فدعا رجلا من علمائهم فقال أهكذا تجدون حدّ الزنا قال نعم قال فأنشدك بالذي أنزل التوراة أهكذا تجدونه فقال إن الحدّ كان الرجم ولكن الزنا كثر بين اليهود وصاروا يقيمون الحدّ على الضعيف دون القوي والشريف ثم اتفقوا على تبديل الرجم في التوراة بالجلد والتحميم «1» فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر بالزاني فرجم.
وإلى هذه الروايات فقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ إلى جملة الْمُقْسِطِينَ نزلت في قضية قتيل من بني قريظة قتله بنو النضير. وكان بنو النضير يرون لأنفسهم فضلا على بني قريظة فإذا قتلوا منهم لم يقيدوا من أنفسهم وإنما دفعوا الدية وإذا قتل بنو قريظة منهم لا يقبلون إلا القود فأراد بنو قريظة أن يرفعوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتحاكموا مع بني النضير عنده حتى يحكم لهم بالقود فقال رجل من المنافقين لبني النضير إن محمدا قد يحكم عليهم بالقود فاحذروا ولا تقبلوا المحاكمة عنده إلا إذا عرفتم أنه يقضي بالدية فأنزل الله الآية.
وقد أورد المفسرون ما أورده الطبري. وأورد ابن كثير بالإضافة إلى ذلك رواية رواها الإمام أحمد عن ابن عباس مشابهة للرواية الأخيرة ولكنها تعود إلى الجاهلية حيث ذكرت ما خلاصته كسبب لنزول الآية أن طائفتين من اليهود اقتتلتا في الجاهلية فقهرت إحداهما الأخرى فاتفقتا على أن القتيل من التي قهرت يودى بمائة وسق ومن المقهورة بخمسين. وبعد قدوم النبي قتلت الذليلة واحدا من
(1) فسّر الطبري التحميم بتسويد الوجه بالسخام.
العزيزة فطالبت هذه بالدية المضاعفة فأبت الأولى حتى كادت الحرب تقع بينهما ثم بدا لهما أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدست الذليلة ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأى النبي فإذا كان حكم كما شاؤوا تحاكموا عنده وإلا نكصوا فأنزل الله الآية فيهم.
وجمهور المفسرين بما فيهم الطبري يرجحون نزول الآيات في مناسبة قضية الزنا. ومنهم من قال إن قضية الزنا وقضية القتل بين بني النضير وبني قريظة اجتمعتا معا فأنزل الله الآيات فيهما. وقد روى البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية زنيا فانطلق إلى يهود فقال ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا نسوّد وجوههما ونحمّلهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فأتوا بها فقرؤوها حتى إذا جاءت آية الرجم سترها الذي يقرأ بيده وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله فرجما. قال ابن عمر كنت فيمن رجمهما. ورأيت الرجل يقي المرأة من الحجارة بنفسه» «1» وقد أورد ابن كثير هذا الحديث في سياق الآيات.
ونصّ الآيات صريح بأنها في صدد حادث ندّدت بسببه بفريق من المنافقين وفريق من اليهود وأنه كان هناك قضية يهودية أريد تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم فيها فكانت مشاورة في صدد ذلك بين الفريقين ثم مؤامرة على حكم النبي بقبوله إذا حكم كما يريدون وبرفضه إذا لم يحكم كذلك. وقد يتفق شيء من هذا مع الرواية التي تذكر أن يهوديا سأل حليفا له بالسؤال من النبي عن حكم قتيل قتله على أن يتحاكم عنده إذا كان حكمه بالدية دون القصاص كما يهوى. أو مع الروايات التي تذكر أن قسما من الآيات نزل في قتيل بني قريظة أو القتيل الذي قتلته القبيلة الذليلة من العزيزة من قبيلتي اليهود والآيات التالية لهذه الآيات تحتوي بيان ما كتبه الله تعالى على اليهود في التوراة من أحكام قتل النفس والدماء والجروح وليس فيها شيء عن حكم التوراة في الزنا بحيث يسوغ القول إن قضية الزنا ليس لها صلة بالآيات.
(1) التاج ج 3 ص 24.
ولعلها أقحمت عليها لأنها وردت في حديث صحيح مع أن الحديث لا يذكر بأن لها صلة بالآيات أيضا. ونظم الآيات منسجم مع بعضه بحيث يبعد أن تكون نزلت متفرقة وفي مناسبات مختلفة. ولسنا نرى في رواية أبي لبابة التي انفرد بها الطبري صلة مفهومة بالآيات.
ونصّ الآيات يفيد أن الفريق المنافق قد نقل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله أو أن الفريق اليهودي حرّف ما سمعه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وأن الفريقين اشتركا معا في التهويش والتشويش وأنه كان لذلك أثر شديد محزن في نفس النبي صلى الله عليه وسلم. ويلهم كذلك أن الحادث وقع في ظرف كان اليهود فيه ما يزالون في المدينة يدسّون ويتآمرون مع المنافقين. وإذا صحّ هذا فيكون هذا الفصل والفصول التي سبقته المحتوية على صور من مواقف اليهود وتاريخهم وواقعهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزلت قبل صلح الحديبية الذي للفصول الأولى من السورة صلة به كما نبهنا على ذلك من قبل. ويكون في هذا دليل على ما ذكرناه في مقدمة السورة من أن في فصول السورة ما هو متقدم في النزول متأخر في الترتيب، وما هو عكس ذلك، وأنها ألّفت مؤخرا بعد أن تمّ نزول ما شاءت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم بالقسط بين اليهود في القضايا التي يحكمونه فيها ويريد أن يحكم فيها متسق كما هو واضح مع المبادئ القرآنية المتكررة في إيجاب العدل والقسط بخاصة مع المبدأ الذي شدد عليه في الآية الثامنة من هذه السورة وهو عدم التأثر ببغض قوم وجعله مؤثرا في العدل معهم. والروعة والتساوق يبدوان بارزين خاصة لأن الآيات حكت مواقف تهويش وشغب مقصودة وقفها اليهود. وهذا التلقين مستمر المدى كما هو واضح.
وفي الآيات تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إذا جاءوا إليه أو الإعراض عنهم. ولقد روى الطبري عن الشعبي وعطاء وابن جريج أن حكم الآية محكم وأن للحاكم المسلم الخيار في الحكم بين من يأتي إليه من غير المسلمين وعدم الحكم. كما روى عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة أن حكمها منسوخ بآيات الجزء التاسع من التفسير الحديث 9
أخرى من هذه السورة تأتي بعد قليل فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم. وأن القضاء الإسلامي هو المختص بالنظر في قضايا أهل الذمة والمعاهدين من غير المسلمين الذين يعيشون في نطاق السلطان الإسلامي.
وقد قال الطبري إن أولى الأقوال بالصواب أن حكم الآية ثابت لم ينسخ، وأن للحكام الخيار في الحكم وترك الحكم والنظر، وأن جملة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في الآيات الآتية ليست للنسخ وإنما هي للأمر بالحكم بينهم بما أنزل الله إذا اختار أن يحكم بينهم. وقد روى البغوي عن ابن عباس قولا بالنسخ ومن الأئمة من أخذ بهذا. ومنهم من أخذ بذاك ولقد قال الخازن إن مذهب الشافعي على أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه ونحن نرى في هذا الصواب. والله أعلم.
ويتفرع على هذا مسألة أخرى وهي كيفية حلّ قضايا المعاهدين والذميين فيما بينهم إذا لم يرفعوها للقضاء الإسلامي. وقد روى الطبري قولا للزهري جاء فيه «مضت السنّة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم» وهذا القول متسق مع فحوى وروح الآية الأخيرة من الآيات كما هو المتبادر. حيث يفيد هذا أن للمعاهدين والذميين أن يرفعوا قضاياهم المدنية إلى رجال القضاء فيهم. وبكلمة أخرى يكون قضاؤهم هو المختص في قضاياهم إذا لم يرفعوها إلى حكام المسلمين. وهذا ما عليه الجمهور. وتظهر فيه روعة الشريعة الإسلامية في مراعاتها حرية العقيدة الدينية. فهي لا تكره أحدا على الإسلام. ولا تكره أحدا من الذين يخضعون للسلطان الإسلامي من غير المسلمين على التقاضي إلى قضائه.
وفي الآيات التالية توجيه بإيجاب أن يكون قضاؤهم مستمدا من التوراة والإنجيل على ما سوف نشرحه بعد.
وجملة وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ قد تكون تضمنت قرينة على ما ضمناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سياق الآية [157] من سورة الأعراف بأن سفر الشريعة الذي كتبه موسى واحتوى تبليغات الله ووصاياه والذي