الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ
…
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين وما روي في صددها من روايات وموجز خبر غزوة تبوك وأسبابها وأحداثها
والمفسرون «1» متفقون على أن هذه الآيات وما بعدها هي في صدد استنفار المسلمين إلى غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث وصور وبعض مواقف المسلمين والمنافقين في أثنائها وقبلها في سياق ذلك. وفي الآيات التالية لها بعض القرائن على ذلك.
ولقد ذكرنا قبل أن منطقة تبوك وما وراءها كانت مأهولة بقبائل نصرانية وكان سلطان الروم ممتدا عليها. وأن الآية [29] وما بعدها هي بسبيل غزوة تبوك.
وهكذا تكون الآيات استمرارا للسياق.
والعتاب والتنديد في الآيات عام التوجيه إلى المسلمين. غير أن الآيات التالية احتوت دلائل صريحة على أن الذين وقفوا الموقف الموصوف في الآيات في مناسبة غزوة تبوك هم المسلمون المستجدون والمنافقون وذوو القلوب المريضة وفريق من الأعراب.
ومثل هذا العتاب والتنديد جاء في فصول قرآنية عديدة في سور عديدة أيضا.
واحتوت دلائل صريحة وضمنية على أن المقصود بهما هذه الفئات أيضا. ولما كانت غزوة تبوك هي آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا يعني أن هذه الفئات التي كانت تقف المواقف المستوجبة للعتاب والتنديد ظلت تقف نفس المواقف إلى أواخر العهد المدني. وظلت من أجل ذلك عرضة للعتاب والتنديد بل للمقت الرباني الذي انطوى في آيات سورة الصف هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
(1) انظر الطبري والبغوي والنسفي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)«1» . أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فقد كانوا يسارعون إلى تلبية كل دعوة إلى الجهاد والتضحية وتنفيذ أوامر النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف الأوقات وظلوا كذلك إلى النهاية على ما احتوت الإشارة إليه والتنويه بهم من أجله آيات كثيرة في سور سابقة وآيات أخرى في هذه السورة.
والعتاب والتنديد والإنذار وتهوين أمر الدنيا في الآيات قد جاء بأسلوب قوي قارع حيث يدل هذا على أن موقف المتثاقلين المتباطئين والمنافقين ومرضى القلوب كان شديد الوقع والأثر. وفي آيات أخرى من السورة استمرار في ذلك وفضح لمواقف سابقة ولاحقة لهم حيث يوثق ذلك تلك الدلالة. ومع خصوصية الآيات الزمنية يظل ما فيها من نداء وتنديد قارعا مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل يتثاقل فيه بعض الجماعات الإسلامية عن النفرة إلى الجهاد في سبيل الله.
إذا ما دعت الحاجة إليه والتضامن في الدفاع عن الإسلام ومصالح المسلمين.
وغزوة تبوك التي قلنا إن المتفق عليه أن معظم هذه السورة نزلت فيها كانت كما قلنا آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها حشدا وأبعدها شقة. وكانت في السنة الهجرية التاسعة أي بعد فتح مكة بنحو سنة. وآيات السورة لا تذكر وقائع وإنما هي بسبيل التنويه والتعليم والعظة والتنديد بسبب ما كان في سياقها وأثنائها من مشاهد ومواقف وصور متنوعة جريا على الأسلوب القرآني.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة والمؤرخون القدماء روايات عديدة فيها بيانات كثيرة عن هذه الغزوة. خلاصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن الروم جمعت جموعا كثيرة بالشام وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان من العرب النصارى وقدموا طلائعهم يريدون غزو الحجاز، ولعلهم كانوا يقصدون الرد على غزوة المسلمين
(1) هناك آيات أخرى من هذا الباب أو قريبة منها في سور مرّ تفسيرها مثل آيات آل عمران [156 و 166- 168] والنساء [71 و 73 و 88 و 89 و 137- 143] والمائدة [52] والأحزاب [12- 20] وسيأتي في هذه السورة آيات عديدة أخرى من هذا الباب.
لمؤتة في السنة الثامنة. وهي الغزوة التي كانت تحت قيادة زيد بن حارثة. والتي أشرنا إليها في مناسبة قريبة من هذه السورة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أكبر عدد ممكن من المسلمين ويخرج بهم إلى مشارف الشام إرهابا للأعداء. فاستنفر الناس بدوا وحضرا واستعانهم بالمال ولم يزل بهم محرضا مرغبا ومنذرا حتى تمكن من جمع جيش عظيم بلغ على ما ذكرته الروايات ثلاثين ألفا فيه عشرة آلاف فرس.
وقد سمّي الجيش بجيش العسرة بسبب كون الوقت كان صيفا قائظا وحالة المسلمين الاقتصادية سيئة والشقة بعيدة. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم اعتاد أن يكني ولا يفصح عن المكان الذي يغزوه إلّا هذه الغزوة حيث صرّح لهم بقصده ليكونوا على بينة واستعداد. وكان من مشاهد هذه الحركة أن تبرّع بعض أغنياء الصحابة المخلصين كعثمان بن عفان بمبالغ طائلة سددت ثغرات واسعة من الحاجة كما كان من مشاهدها تسابق فقراء الصحابة المخلصين إلى التبرع بجهدهم والانضمام إلى الجيش. وبكاء وحزن بعض المسلمين الذين لم يتسن لهم الاشتراك في الحملة بسبب فقرهم وعدم إمكان مساعدتهم على تحقيق رغبتهم «1» .
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه العظيم في شهر رجب فوصل تبوك بعد عشرين يوما وعسكر فيها ولم يتعدها. ولم يجد فيها ما بلغه من جموع حيث كانوا تفرقوا حينما بلغهم مسيره. ولم يشتبك مع أحد بحرب. وقد أقام نحو شهر ثم قفل راجعا. ولم تخل الغزوة من مكاسب مادية وسياسية ومعنوية.
(1) روى الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحثّ على جيش العسرة فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ مائتي بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش فقام عثمان فقال يا رسول الله عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. فنزل رسول الله وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذه. وروى عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمّه حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجرة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم. (التاج ج 3 ص 293) . أما المشاهد الأخرى فقد أشير إليها في آيات من هذه السورة.
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه ورسله في أنحاء المنطقة. فوافاه نتيجة لذلك إلى تبوك يوحنه بن رؤبة وأهل جربا وأذرح فصالحوه على الجزية وكتب لهم كتب أمان. وسعى إليه يهود مقنا بنو جبنة وبنو العريض وبنو عاديا فوجدوه قد رجع إلى المدينة فلحقوا به وصالحوه على الجزية وأخذوا منه كتاب أمان. وقد كان من السرايا التي سيرها سرية بقيادة خالد بن الوليد إلى أكيدر صاحب دومة الجندل.
وقد استطاع خالد أن ينتصر عليه ويأسره واضطره إلى الصلح على 2000 بعير و 800 رأس رقيق و 400 درع و 400 رمح وحمله معه إلى المدينة حيث أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم فكتب له كتاب عهد..
وعلى كل حال فقد كانت هذه الغزوة في الجملة موطدة لهيبة النبي والمسلمين في هذه الأنحاء وقرعة قوية للأسماع والأذهان بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته فيها وفيما وراءها وتدشينا للخطوات التاريخية الخالدة التي خطاها خلفاؤه الراشدون من بعده. ولقد كان من بين الوفود التي تدفقت على المدينة في السنتين التاسعة والعاشرة وفود عديدة من هذه الأنحاء فبايعت النبي على الإسلام.
والمستفاد من الروايات أن من المنافقين من اشترك في الحملة ومنهم من اعتذر وتخلف. وكان هذا شأن الأعراب أيضا. أما المخلصون فلم يتخلف منهم قادر بدون عذر إلّا ثلاثة. وهذا وذاك مستفاد من بعض آيات السورة أيضا على ما سوف يأتي بعد. وهذا يؤيد صحة ما روي من العدد العظيم الذي اشترك في الحملة. ولقد روى ابن هشام أن عبد الله بن أبي كبير المنافقين ضرب عسكره مع من ينضوي إليه منفردا وكان فيما يزعمون- والتعبير لابن إسحاق الذي يروي عنه ابن هشام- ليس أقل العسكرين. ثم اعتذر وتخلف مع قسم كبير من رفاقه. وقد روت بعض الروايات أن عدد المتخلفين من المنافقين وذوي القلوب المريضة بعد اعتذارهم بأعذار كاذبة وإذن النبي لهم كان نحو ثمانين «1» . والرواية السابقة التي
(1) ذكر هذا في حديث طويل رواه الشيخان والترمذي عن كعب بن مالك سنورده في سياق تفسير الآية [118] من هذه السورة.
شكّ فيها ابن إسحاق بحقّ لا يمكن أن تصح لأن آيات عديدة في هذه السورة وقبلها مما نزل بعد التنكيل الحاسم باليهود ذكرت ما كان يعتري المنافقين من خوف وما كان من أيمانهم المغلظة على إخلاصهم مما لا يعقل أن يكون ذلك منهم لو كانت لهم مثل هذه القوة. وكانوا قبل ذلك معتدّين بأنفسهم حتى بلغ من أمرهم أن قالوا لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ على ما شرحناه في سياق سورة المنافقون.
ورواية كون عدد المتخلفين من المنافقين نحو ثمانين مما يؤيد ما نقول.
وكانوا أكثرية المنافقين على ما يستفاد من آيات السورة. والرواية معقولة لأن المستفاد من الآيات أن المستأذنين المتخلفين هم ذوو الطول أي الأغنياء. وهؤلاء محدود والعدد دائما.
ونكتفي بهذه الخلاصة على أن نشرح الصور والمواقف الأخرى في مناسبات الآيات التي أشير إليها فيها.
ولقد روى الطبرسي عن السدي أن الآية الأخيرة قد نسخت بآية التوبة هذه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [91] لما علم الله من أن أصحاب هذه الأعذار عاجزون عن النفرة. وروى ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة أنها نسخت بآية التوبة هذه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [122] . ومع أن الآية في مقامها هي في معرض التثريب على المتثاقلين والتحريض على النفرة فإن في الآيتين المذكورتين تعديلا أو استدراكا لحكم الآية من الناحية الموضوعية كما هو المتبادر.
هذا، ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية [40] حديثا عزاه إلى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال:«سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله. فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» حيث يحتوي الحديث تنبيها على وجوب إخلاص القتال في سبيل الله.