الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبارة الآية واضحة. وقد تضمنت سؤالا استنكاريا ينطوي على معنى التنديد عما إذا كان لم يحن الوقت الذي تخشع فيه قلوب المؤمنين لذكر الله ويخضعون للحقّ الذي أنزله الله على رسوله. وأن يحذروا من أن يكونوا كمن سبقهم من أهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن فانحرف كثير منهم عن جادة الحق وتمردوا على أوامر الله تعالى وكانوا فاسقين.
تعليق على الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ
…
إلخ. وما فيها من تلقين وعظة
لم يرو الطبري روايات خاصة في سبب نزول هذه الآية. ولكن البغوي روى ثلاث روايات «1» . واحدة عن الكلبي تذكر أن الآية الأولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي أن يحدثهم عمّا في التوراة من عجائب فأنزل الله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] فكفوا ما شاء الله ثم عادوا فسألوه فأنزل الله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] . وثانية معزوة إلى ابن مسعود تذكر أنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين «2» . وثالثة معزوة إلى ابن عباس تذكر أنه قال إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
والروايات الثلاث غريبة. فالأولى تذكر أن الآية في حق المنافقين في المدينة ثم تذكر نزول آيتين في مناسبة نزولها ونزولهما قبلها في المدينة أيضا. الآيتان من
(1) أورد الخازن وابن كثير والطبرسي هذه الروايات أيضا. وهم متأخرون عن البغوي بمدة طويلة.
(2)
هذا الحديث من مرويات مسلم في فصل التفسير انظر التاج ج 4 ص 227.
سورتين مكيّتين وأولاهما الآية [3] من سورة يوسف وثانيهما الآية [23] من سورة الزمر «1» . والرواية الثانية تقتضي أن تكون الآية مكيّة لأن عبد الله بن مسعود أسلم في بدء الدعوة في مكة. والعهد المكي استمر ثلاث عشرة سنة. والآية مدنيّة في سياق مدني الطابع والمدى. وهذا فضلا عما كان عليه الرعيل الأول في مكة الذين منهم ابن مسعود من استغراق في ذكر الله تعالى وعبادته وإيمان شديد بما أنزل الله.
كما وصفتهم آيات مكيّة عديدة مثل آيات سورة الذاريات [17- 19] وسورة المعارج [22- 35] وسورة الزمر [23] وسورة الفرقان [63- 64] وسورة المؤمنون [1- 10] وسورة الرعد [20- 24] . والرواية الثالثة تقتضي أن تكون نزلت في السنة الأولى بعد الهجرة. وباستثناء المنافقين فقد كان المؤمنون مخلصين كل الإخلاص ومستغرقين كل الاستغراق. ولم يكن مضى على المنافقين مدة تتحمل مخاطبتهم بالأسلوب الذي جاءت به الآية الأولى.
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها.
فالآيات السابقة مباشرة انطوت على مقايسة بين حالة المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة، وتنديد ضمني بالمنافقين المرتابين المتربصين المغترين بالأماني وإنذار لهم. والآيات التي قبل هذه الآيات انطوت على عتاب لبعض المسلمين على عدم قوة إخلاصهم ويقينهم وعدم إنفاقهم في سبيل الله. وتساؤل عمن يقرض الله فيضاعف له الأجر فجاءت هذه الآيات تهتف بالفريق المقصر المرتاب المتباخل عما إذا لم يحن وقت إخلاصه وخشوع قلبه لذكر الله وما أنزل من الحق حتى لا يكون كأهل الكتاب الذين قست قلوبهم بمرور الزمن مع توكيد التنويه بالفريق المخلص المتفاني.
وترتيب السورة وذكرها الفتح يعنيان أنها نزلت في السنة الهجرية الثامنة أو التاسعة وأن معظم القرآن كان قد نزل. وهذا وقت يتحمل ذلك الهتاف بالنسبة
(1) روى المصحف الذي اعتمدناه أن آية سورة يوسف مدنيّة. وقد فندنا الرواية في سياق تفسير سورة يوسف. وليس هناك خلاف في مكيّة آية الزمر.
للمقصرين المرتابين الواقفين مواقف غير مستحبة من الذين عاهدوا الله ورسوله على الإسلام مما حكته الآيات الكثيرة التي نزلت قبلها والتي أوردنا أرقامها وسورها قبل قليل. ولقد ذكرنا في ذيل الصفحة السابقة أن الرواية الثانية من مرويات مسلم عن ابن مسعود. وأحاديث مسلم من الصحاح. ولكن هذا ليس من شأنه أن يمنع الاستبعاد والاستغراب بل والشك أيضا. هذا، وتحذير المؤمنين في الآية الأولى من أن يكونوا كأهل الكتاب مستمد على ما هو المتبادر من واقع أهل الكتاب بانحرافهم ونزاعهم وتحريفهم لكتب الله وبعدهم وتمردهم عن أوامر الله وشرائعه ونسيانهم كثيرا مما أنزل الله على أنبيائهم مما حكته آيات كثيرة في سور المائدة والنساء وآل عمران والبقرة.
وهو تحذير مستحكم لأن هذا الواقع كان تحت نظر المسلمين ومشاهداتهم ومسموعاتهم وكان موضع انتقادهم بل موضع انتقاد العرب قبل الإسلام على ما انطوى فى بعض الآيات منها آية فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ [42] . وآية الأنعام أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [157] .
ومع ما لمحناه من خصوصية الظرف الذي نزلت فيه الآية وصلتها بأحوال بعض فئات المسلمين في العهد النبوي المدني فإن الهتاف الذي فيها يظل واردا داويا مستمر المدى موجها إلى جميع المسلمين في كل ظرف ومكان كلّما انحرفوا أو انحرفت منهم فئة عن كتاب الله وسنّة رسوله. مذكرا إياهم بما فيهما من المثال الذي يشاهدونه من أهل الكتاب الذين ظلوا منحرفين عن رسالات رسلهم وكتب الله المنزلة عليهم. مهيبا بهم ألا يكونوا مثلهم لئلا تفسد قلوبهم وأن يخشعوا لذكر الله وما أنزل الله على رسوله من الحق وما صدر عن رسول الله من الحكمة ليكون في ذلك هدى لهم إلى سبيل الخير والسعادة والنجاح في الدنيا والآخرة.